6- الرؤية الإسلامية للعلم
إن الإسلام يقوم على أساس القرآن وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم أي على أساس الوحي والرسالة، وإذا كنا نعتبر أن الوحي هو الافتراض السابق الضروري للرسالة، حينئذ نستطيع القول أن الإسلام يقوم على أساس رسالة محمد: أن لكل شخص
الحق في تقييم محمد والتقرير إذا ما كان سوف يقبل صفته كرسول حقيقي من عند الله أو يرفض دعواه في الرسالة. لقد كانت أجرأ دعوى لمحمد هي إعلانه أن القرآن هو كلمة الله التي نقلها إليه شفهياً عن طريق الملك جبريل.
ويؤكد القرآن ما يلي:
“وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين” (الشعراء 26: 192- 195)
“قل نزله روح القدس من ربك بالحق” (النحل 16: 102)
وهو يقدم تحدياً لجميع البشر:
“وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين”.
ونستطيع أن نذكر أن بعض سور القرآن تتكون من ثلاث آيات، ولذلك فإن أسهل الطرق لدحض دعوى محمد هو تكوين بعض العبارات التي تماثل القرآن في مضمونه وأسلوبه، ونستطيع أن نذكر أن محمداً ذاته كان أمياً، في حين أنه قد كان هناك رجال من بين معاصريه يعرفون بعبقريتهم الفذة وبراعتهم في اللغة والأدب العربي، ومع ذلك لم يستطع أي منهم قبول ذلك التحدي.
وعلى أية حال، فإن الإنسان يستطيع أن يتدبر القرآن لو لم يجد دليلاً كافياً في حياة محمد لقبول دعواه في الرسالة، ويستطيع أن يتدبر الحقائق المتضمنة به ويستخدم ملكاته العقلية ليتحقق إذا ما كان من الممكن للبشر معرفة جميع الحقائق التي جاءت في القرآن، وخاصة إذا كان ذلك من الممكن بالنسبة لمحمد الذي كان هو ذاته أمياً يعيش في مجتمع أمي وبدائي للغاية.
ومما ليس موضع جدل أن الافتراض هو أن الله أنزل القرآن كما ادعى محمد أو أن يكون محمد نفسه هو واضع القرآن، ولو أننا درسنا القرآن دراسة عادلة، فإننا سوف نجد البديل الأخير غير محتمل إن لم يكن مستحيلاً، وإذن فإنه ليس لدينا اختيار سوى الإيمان بالبديل الأول.
وفي بداية سورة البقرة، وهي السورة الثانية، يشير القرآن إلى الغيب، أي الأشياء التي لا تلاحظ ولا تقبل الملاحظة، ويذكر أن هذا الكتاب –أي القرآن- هو هداية للذين يؤمنون بالغيب وفي مقابل الغيب، توجد الشهادة، أي الأشياء المرئية أو القابلة للملاحظة. وهكذا يقول القرآن: “وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون” (التوبة 9: 106)
والنقطة المثيرة التي ورد ذكرها هنا هي أنه من غير الممكن بالنسبة للآخرين أن يروا أفعال الشخص التي يأتيها في خلوة، ولكن ذلك يكون ممكناً بالنسبة لله. إن الغيب يشمل تلك الحقائق (الكائنات، والأشياء، والأماكن، والأحداث، والعمليات) الغير مرئية بواسطة شخص ما، بالرغم من أنها قد يمكن رؤيتها بواسطة أشخاص آخرين وهكذا، فإنك لا تستطيع أن ترى أفكاري ومشاعري، أو أفعالي التي أقوم بها في خلوة، أي أنه ليست هناك أية طريقة، سواء أكانت هي الادراك الحسي أو الطريقة العلمية، تستطيع استخدامها لمعرفة أفكاري. أن الطريقة الوحيدة التي تمكنك من معرفة أفكاري هي أن أقوم أنا بنقل تلك الأفكار إليك بأسلوب مفهوم. ومع ذلك، فإن هذا النوع من الغيب ليس هو ما يشير إليه القرآن عندما يقول: “ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب” (البقرة 2: 2).
إن الحقائق الغير مرئية (الكائنات، والأشياء، والأماكن، والأحداث والعمليات) التي ورد ذكرها هنا هي تلك التي تكون غير مرئية بالنسبة للإنسان بصفة عامة، مثل الله ذاته، وصفاته المميزة، وملائكته، والفردوس والجحيم، ويوم الحساب، والغرض من الحياة الإنسانية، والحقائق الأخرى التي لا يعرفها إلا الله. ولو لم ينقل الله إلينا بعضاً من تلك المعرفة بطريقة نفهمها لما كانت هناك طريقة أخرى تمكننا من معرفتها.
لقد ذكرنا من قبل أن الهدف الرئيسي للعلم هو اكتشاف الحقائق التي تكمن وراء الظواهر الطبيعية التي تمت ملاحظتها والعلل التي لم تتم ملاحظتها وغير القابلة للملاحظة والتي ينتج عنها المعلول الخاضع لملاحظتنا، وربما اكتشاف الحقيقة النهائية التي تكمن وراء مجموعة الظواهر موضوع الملاحظة والتي نسميها بطريقة مسبقة بالكون universe وليس الأكوان.
إن العلماء يفكرون ويحدسون ويقدمون الفرضيات، ويضعون الصفات المثالية، ويضعون النظريات بالنسبة للحقائق الخافية.. ليس بنفس الطريقة كما يفعل الفلاسفة ولكن بايحاء من الحقائق التي تمت ملاحظتها. ويتم “اثبات” أو “دحض” تلك الفرضيات أو النظريات على أساس الملاحظات التي تجري فيما بعد. ومع ذلك، فإن كل نظرية تشرح فقط عدداً محدوداً من الحقائق في مجال معين من الدراسة. فنظريات علم الفيزياء عديمة الجدوى في شرح تفتح الزهرة، أو غناء طائر الوقواق، أو ابتسامة الطفل، أو معاناة مريض السرطان، أو سعر الأسهم. وفي الحقيقة، فإنه لا توجد على الاطلاق أية نظريات تستطيع أن تشرح وتتنبأ، مثلاً بسعر الأسهم. ولننظر فقط فيما حولنا، فإنه توجد محيطات من الجهل وملايين السنين الضوئية من الجهل. إننا لا نعرف حتى عدد شعر رؤوسنا أو عدد الخلايا التي تتكون منها أجسامنا.
إن لدى المؤمنين بالعلمية إيماناً عظيماً بالطريقة العلمية. وهم يؤمنون أن العلم في النهاية سوف يأتي بنظرية شاملة تكون قادرة على شرح كل شيء، وإننا لندهش من أين يأتي ذلك الإيمان الأعمى؟ هل هو من بقايا المشاعر الحماسية للقرن التاسع عشر. لقد أصبح العلماء الفيزيائيون واثقين من أنفسهم للغاية بعد معرفة بعض الشيء عن قوانين الحركة للأشياء الضخمة البطيئة الحركة، والمغنطيسية الكهربائية، حتى أنهم اعتقدوا أنهم قد أصبحوا عالمين بكل شيء تقريباً، ولكن بعد ظهور آلاف من نظم المعرفة على مدى قرن، فإننا نرى أن عدد النتائج التجريبية، والفرضيات والنظريات المفككة، التي تفسر كل منها بالقليل من الحقائق، تميل إلى اللانهائية. أي أن عمليات وضع النظريات العلمية بدلاً من أن تصل إلى نقطة محددة فإنها تتشعب إلى اللانهائية. وعندما علمنا فقط أن المياه، كما نراها، تبتدئ في الغليان عند 100 درجة مئوية، كانت لدينا بذلك حقيقة يقينية، ولكن الآن عندما نتصور غلاية شاي مملوءة بالماء الذي يتكون من ترليونات من الجزيئيات، كل منها يتحرك بطريقة عشوائية، ثم نتصور أن كلاً من جزيئيات الماء هذه أ هـ2، ثم نتصور ذرة الأكسجين كنواة تحتوي على 16 إليكترون خارجي ثم نتصور الإلكترونات كشحنات موجبة محتملة، حينئذ سوف يتفتت جميع يقيننا إلى ترليون جزء من عدم اليقين.
هل يوجد أي كائن سوى الله يستطيع أن يكون متيقناً حتى بنسبة واحد في المائة مما يحدث لكل من تلك الترليونات من “الشحنات الموجبة المحتملة” عندما نضع غلاية الشاي على الموقد؟ كيف نستطيع فهم كلمة الغليان؟ لو أن جميع الناس على وجه البسيطة الآن تحولوا على رياضيين وفيزيائيين عظماء، وابتدأوا في وضع معادلة لحركة الإلكترون الواحد في الغلاية، فإنهم سوف يحتاجون إلى بضعة ملايين من السنين لإتمام وصف عمليات الغليان هذه.
إن ما ذكرناه هنا يعد مجرد مشكلة بسيطة في علم الفيزياء. ولكن حياتنا قصيرة الأمد، وتوجد مشاكل ذات شأن أعظم يجب حلها حتى نستطيع أن نحيا حياة جديرة بالإنسانية. لقد كانت أهم المشاكل التي أحاطت بي منذ أن أصبحت مدركاً لذاتي هي: لماذا أنا هنا؟ ما هو معنى وجودي في هذا العالم؟ إنني لا أستطيع الانتظار لألف عام أخرى حتى يتوصل العلم إلى نوع من الإجابة على هذا السؤال. إنني سوف أكون في ذلك الحين قد توفيت منذ أمد بعيد. وما هو الضمان أن العلم سوف يتوصل حتى بعد ألف عام إلى الإجابة الحقيقية؟ لو أننا استثنينا المعرفة التي جاءت إلينا في القرآن، فإن كل ما يبقى لدينا فيما يتعلق بالإجابة عن السؤال السابق هو مجموعة من التخمينات الخاطئة.
ولنكرر ذلك القول: فإنه لو لم ينقل الله ذاته تلك المعرفة المتعلقة بالأشياء الغير قابلة للملاحظة، فإنه من المستحيل لنا أن نحصل على تلك المعرفة من خلال جهودنا الذاتية، ولقد نقل الله إلينا تلك المعرفة، لعدله ورحمته بخلقه، على القدر الضروري والكافي وبأسلوب يتم فهمه بسهولة.
“ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر” (القمر 54: 17)
“إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون” (يوسف 12: 2)
إنه من الواضح أن الإيمان بالله يجب أن يسبق الإيمان برسله وبالقرآن فإذا كان شخص لا يؤمن بالله، فإن مسألة الإيمان برسله وكتابه لن تكون مثارة. كيف نستطيع حينئذ أن نبتدئ بتقديم دليل غير قابل للدحض لوجود الله؟ إن إجابتي هي: إنه ليس من الممكن أن نتوصل على دليل على وجود الله بطريقة الاستنتاج. وفي الحقيقة، فإنه ليس من الممكن في نطاق انتظام المنطقي والرياضي إيجاد دليل للقول، أنا موجود، لأن ذلك سوف يعتمد على العبارات الغير معرفة وفرضيات المنطق أو الرياضيات، وسوف يتطلب منا أولاً أن نؤمن بها. وحتى إذا جئنا بإثبات لوجود الله، كما جاء به ابن سينا، فإنه سوف يتضح لنا أن الكيان الذي أثبتنا أنه هو الله، ليس بأكثر من رمز منطقي كالعلة الأولى أو واجب الوجود وليس هو الله سبحانه وتعالى.
ومما له دلالته أن القرآن يتحدث عن آيات الله ويتحدث إلى العقل الإنساني مباشرة دون اللجوء إلى أي اصطلاحات منطقية أو مدرسية، ولذلك فإننا نكتفي بهؤلاء الذين تكون آيات الله في أنفسهم وفي العالم المادي كافية لإيجاد ذلك الاتجاه العقلي الذي نسميه بالإيمان. إنني أؤمن بنفسي وأؤمن بك، ولكنني لم أحاول إطلاقاً إثبات وجودي أو وجودك بطريقة منطقية. لقد اعتقد ديكارت أنه أثبت وجوده بإعلانه أنا أفكر ولذلك فأنا موجود، ومع ذلك فإن تلك العبارة لا تقول أكثر من (أنا موجود، ولذلك فأنا موجود) لأن استعمال الضمير (أنا) قبل أفكر قد وضع بالفعل الافتراض المسبق لوجود الشخص الذي يفكر.
ويوضح القرآن أيضاً أن الإيمان بالله راسخ في نفس الإنسان حتى أنه لا يجرؤ أحد على إنكاره عدا هؤلاء الذين أضلهم التكبر.
ونعود الآن إلى تعليمات القرآن التي تتعلق بالغيب والشهادة لنقدم وجهة النظر الإسلامية. فإن القرآن يعلمنا:
1- أن الله، الخالق، كائن مريد عالم، وأن كل شيء عدا الله هو خلقه. ولا يوجد إله غيره. وهو الأحد الصمد، الذي يعتمد عليه كل شيء في وجوده وبقائه. وهو الدائم، وارادته مهيمنة، وعلمه بخلقه شامل.
“قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد” (الإخلاص 112)
“الله لا إله هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم” (البقرة 2: 255)
2- إن الخلق ليس أثراً ضرورياً لتجلي قدرة الله، ولكن الله يخلق ما يشاء. وأن خلقه ليس نظاماً ثابتاً مغلقاً مثل سير الساعة، ولكنه عملية مستمرة، فكل نبات، وحيوان، وطفل حديث الولادة خلق جديد.
“إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون” (النحل 16: 4)
“ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين” (المؤمنون 23: 12- 14)
“كل يوم هو في شأن” (الرحمن 5: 29)
3- إن الكون حقيقة وليس وهماً، وهو قد وجد قبل أن يوجد الإنسان. ولم يخلقه الله لمجرد اللهو، وإنه من خلال الأشياء المختلفة، والكائنات الحية، والأحداث والعمليات تجلت صفات الله العظيمة في أنه الخالق، الرازق، الوهاب، المصور، الرحمن، العدل، المحيي، المميت، الغفور، الحسيب، الباعث.
“وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق” (الأنعام 6: 73)
“وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين” (الأنبياء 21: 16)
“هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم” (الحشر 59: 24)
“هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً” (الإنسان 76: 1)
4- إن عدد الأشياء المخلوقة قابلة للإحصاء.
“وأحصى كل شيء عدداً” (الجن 72: 28)
5- إن كل شيء خلقه الله منح تركيباً، وشكلاً، وحجماً معيناً، ثم زود بالهداية.
“سبح باسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى. والذي قدر فهدى” (الأعلى 87: 1- 3)
إن الشكل، والحجم، والهداية هي أشياء شاملة. وهداية الله بالنسبة للأشياء غير الحية هي وظائفها، وبالنسبة للحيوان هي غرائزه.
أما بالنسبة للإنسان فهي عقله وكذلك الهداية التي تأتي عن طريق رسل الله.
6- باستثناء المخلوقات التي ينتمي إليها الإنسان، والتي منحها الله حرية الاختيار في اتباع هدايته أو عدم اتباعها، فإن كل شيء عدا ذلك يخضع لأوامره.
“والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره” (الأعراف 7: 54)
“يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير” (التغابن 64: 1- 2)
“… وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون….” (آل عمران 3: 83)
7- أن خلق الله يتسم بالكمال، ويوجد توازن وانسجام بين العمليات المختلفة. وسوف يستمر ذلك ما شاء الله أن يستمر.
“ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور. ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير” “الملك 67: 3- 4)
8- إن مسئولية الله هي تزويد الغذاء، ووسائل الحصول عليه لكل كائن حي وأن الحيوانات –مثلهم مثل البشر- يميلون للعيش وتكوين جماعات، ومستعمرات وأمم فيما بينهم. وقد زود الله كل مخلوق بالإرشاد حتى يعرف كيف يحافظ على حياته، ويتكاثر ويتعامل مع الآخرين ويعيش طبقاً للمخطط الذي وضعه الله.
“وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين” (هود 11: 6)
“وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم” (الأنعام 6: 38)
“وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون” (النحل 16: 68- 69)
“حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون” (النمل 27: 18)
9- إن الإنسان هو جزء من خلق الله: وهو قد منح شكلاً، وحجماً وهداية مثله مثل المخلوقات الأخرى، وقد منح أيضاً تناسقاً في جسمه.
“لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم” (التين 95: 4)
ولقد منح القدرة على الملاحظة والتفكير:
“فجعلناه سميعاً بصيراً. إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً” (الإنسان 76: 32)
ولقد منح المعرفة، ولكن ليس بقدر كبير:
“علم الإنسان ما لم يعلم” (العلق 96: 5)
“وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً” (الإسراء 17: 85)
ولقد منح الإنسان القدرة على تكوين الأفكار وصياغة الأسماء:
“وعلم آدم الأسماء كلها” (البقرة 2: 31)
ولقد علم البيان والكتابة:
“خلق الإنسان علمه البيان” (الرحمن 55: 4)
“اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم” (العلق 96: 3- 5)
إن الإنسان هو نائب الله على الأرض، وقد منح السيطرة على موارد الثروات الأرضية. ولقد كرم الإنسان أكثر من معظم مخلوقات الله:
“وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم” (الأنعام 6: 165)
“ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره” (الحج 22: 65)
“ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً” (الإسراء 17: 70)
ولقد زودنا الله بمعرفة الغيب بالقدر الضروري والكافي بإرسال رسالة:
“عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً. إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً. ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً” (الجن 73: 26- 28)
وأخيراً، فإن الله قد وضع لنا شريعة إرشاد شامل بالنسبة لجميع أوجه الحياة (المعتقدات، والعبادات، والأوامر والمحرمات)، وإرشاد في الشئون الاقتصادية، والاجتماعية والإدارية. ولقد أكملت تلك الشريعة بإرسال رسوله ونبيه الخاتم محمد، هذه الشريعة طبقها في جميع أمور حياته، وأقام المجتمع الإسلامي على أساسها، وتمثلت تعليماتها في جميع أفعاله:
“هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون” (التوبة 9: 34)
“اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً” (المائدة 5: 3)
7- الأسس الإسلامية للعلم
في حين أن العلماء الغربيين والشيوعيين يجدون أنفسهم في حيرة بالنسبة لتبرير الافتراضات المسبقة للعلم، فإن العالم المسلم يقف على أساس ثابت، فهو يعلم أن خليقة الله هي شيء حقيقي، ولذلك فإن ما يلاحظه ليس بوهم، وأن الله قد زوده بالسمع والبصر و العقل حتى يستطيع أن يلاحظ ويفهم ويستفيد من العالم المادي، وأنه يوجد نوع من الانتظام الذي يكمن وراء الأحداث والعمليات، وأن كل المخلوقات لها شكل، وحجم، وهداية، وأن الأرض وما عليها قد عهدت إليه ليستخدمها لصالح البشرية، وأن لكل مرض شفاء، وأنه يوجد قانون كوني يحكم جميع المخلوقات وهو الخضوع لمشيئة الخالق، وأن شريعة الإسلام هي جزء من القانون الكوني، وأن من يطع هذه الشريعة يكن منسجماً مع باقي الكون، ومنسجماً مع طبيعته ذاتها، وأن الله لطيف ورحيم بالعباد. وهو لا يضطرب ومنسجماً مع طبيعة ذاتها، وأن الله لطيف ورحيم بالعباد. وهو لا يضطرب عند مواجهة المعاناة والألم، ولا يجذل عند إحراز الثروة أو القوة، لأن جميع تلك الأشياء تأتي من عند الله. وأخيراً، فإن مسئوليته الكاملة هي أمام خالقه الذي سوف يرجع إليه الحساب. وذلك ينبو به عن السعي وراء الشهرة أو الصيت.
إن العالم المسلم لا يضيع وقته في تفكير تافه حول المسائل الخارقة للطبيعة، لأن الله قد زوده بالمعرفة الضرورية والكافية بالنسبة لتلك المسائل، ولذلك فهو يستطيع أن يكرس جميع نشاطه للحصول على المعرفة وتطبيقها، سواء كانت معرفة الشريعة أو معرفة العالم المادي وتكون حياته متكاملة لأن كل ما يفعله في طاعة الله يعد عبادة لله وإيفاء لغاية حياته. ولا يوهن الفشل عزيمته، لأن كل ما يتطلب منه هو تقديم جهود مخلصة.
وعندما نقارن الأسس الإسلامية للعلم كما ذكرناها فيما سبق، فإننا نجد أن الإسلام لا يقوم بتبرير تلك الافتراضات المسبقة فحسب، ولكنه أيضاً يدعمها ويوسعها ويضعها على أساس موحد. ومن وجهة النظر الإسلامية، فإن الكون لا ينقسم إلى مادة وعقل، حي ولا حي، طبيعي وخارق، والإنسان وباقي الكون. إن تلك التصنيفات من صنع الإنسان، في حين أن الكون بأكمله هو من خلق الخالق الأحد… وهو كون وليس أكواناً… ولذلك فلنطلق عليه بأكمله اسم الطبيعي أو الخارق.
وإننا أحياناً نسمع السؤال: هل يتدخل الله في العمليات الطبيعية؟ إن هذا السؤال غير مقبول لثلاثة أسباب، أولاً، أنه يتضمن أن تلك العمليات الطبيعية مستقلة عن الله، وأنها تسير بطريقة سلسلة ولذا يجب أن لا يتدخل الله فيها. ثانياً، أنه يتضمن أن السائل يكون عليماً بجميع العمليات الطبيعية حتى أنه يستطيع أن يتبين ما هو (التدخل) الذي حدث فيها. ثالثاً، أنه يتضمن أن أي تفسير طبيعي يجب عدم إقحام الله فيه.
والسؤال الأخر الذي يطرح هو: إن الله من الممكن أن يقوم بأي فعل تحكمي، في حين أن قوانين الطبيعة لا تبدي تحكماً. إن سبب طرح هذا السؤال هو أن السائل يتصور الله بالقياس على الحاكم الإنساني المستبد أو لعله يفكر في آلهة اليونانيين، أو الرومانيين أو الهندوسيين. ومن الواضح أنه لو كان هناك أكثر من إله واحد لتم تدمير العالم. أو لعل السائل يتصور أن الله يخلق ويبيد فقط لمجرد اللهو.
ومن وجهة النظر الإسلامية، فإن ما نسميه القوانين الطبيعية إنما هي أوامر الله، أو سنة الله، ويقول الله:
“ولا تجد لسنة الله تحويلاً” (الإسراء 17: 77)
“والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر” (يس 36: 38- 40)
إن مثل هؤلاء الناس بدلاً من أن يعملوا على اكتشاف حكمة الله، وخلقه المستمر، وقدرته على التحكم في العمليات الطبيعية، فإنهم ينظرون إلى الله كطاغية أبله اهتمامه الوحيد هو إفساد سلاسة سير الكون الذي لم يخلق عن طريقة بالطبع، والذي لا يعتمد عليه في سير عملياته.
8-مسئولية العلماء المسلمين
إن العلماء المسلمين المهتمين بمصالح الأمة المسلمة تقع على عاتقهم مسئولية كبيرة، على كل من المستوى النظري والعملي.
وعندما ندرس تاريخ حياة العلماء الإسلاميين المبكرين مثل البيروني، وابن الهيثم، والمسعودي، وابن خلدون، والخوارزمي، وابن بطوطة، والكندي، نجد أنهم كانوا أشخاصاً ذوي همة عالية للغاية. فقد كان يتملكهم حب الاستطلاع الحماسي، وكانت لديهم طاقة وافرة وحماس للحصول على المعرفة، سواء عن الحقيقة الموخى بها والحقيقة المتمثلة في الخليقة (العالم المرئي). إن النقطة الهامة التي يجب أن نلاحظها هي أن همتهم العالية تنبع من إيمانهم. فقد كانوا يؤمنون يقيناً بالنصيحة القرآنية، وهي التفكر في آيات الله المتمثلة في العالم الخارجي وفي الإنسان، والأمر النبوي (اطلبوا العلم ولو في الصين) وهم لم ترهق أذهانهم بألغاز ما وراء الطبيعة والعبارات السكولاستية لأنهم كانوا يحوزون على المعرفة الضرورية والكافية بالنسبة للغيب، وقد مكنتهم العقيدة والممارسة الإسلامية بطريقها الواضح البسيط من التحرر من الأوهام، والكهانة، والخرافات والشعور بالذنب، وبما أنهم كانوا ينظرون إلى الكون كتجل لقدرة الله الإبداعية، وسلطانه وعنايته الإلهية، فقد كرس العلماء المسلمون أنفسهم للسعي وراء المعرفة بنشاط فكري، لأنهم كانوا يعلمون أن ذلك يعد واحداً من أسمى أشكال العبادة للخالق.
“إنما يخشى الله من عباده العلماء” (فاطر 35: 28)
لقد كان العلم الذي قدموه منسجماً مع معتقداتهم، وقد كان تطبيق ذلك العلم بأكمله يجري لصالح الإنسانية، وكانت المدنية التي أسهموا خير إسهام في تكوينها صحيحة من جميع الأوجه. وإنه لا يدهشنا أن نعلم أنهم كانوا هم الذين وضعوا الطريقة العلمية في الأصل، في مختلف المجالات مثل الطب، وعلم البصريات، والكيمياء، وعلم الإنسان، والجغرافيا المادية والثقافية، وعلم الاجتماع، وقد كان شعارهم الأول والأخير على مدى جميع مساعيهم هو “الحمد لله رب العالمين”. لقد كانت عظمة وجلال الله راسخة في نفوسهم وكان كل اكتشاف علمي يزيد من إيمانهم، ولم يمنعهم كبرياؤهم من الركوع في الصلوات والصيام في رمضان.
ونجد أن صورة المسلمين المتعلمين في الوقت الحاضر على عكس ذلك تماماً، فهم يتملكهم الكبرياء عند أول اتصال لهم مع العلم الحديث، حتى أن أول ما يفعلونه هو التخلي عن الصلاة والصوم. وهم أيضاً يفتقرون في حقيقتهم إلى حب المعرفة، وإذا ذهبنا إلى تركيا، أو باكستان، أو مصر، أو اندونيسيا، أو بالاختصار إلى أي بلدة مسلمة يوجد بها بعض الجامعات الرئيسية والعديد من المدارس والكليات، واختلطنا مع الأساتذة والطلبة فإننا سوف نشعر بالانقباض. فإننا سوف نجد الكتب، والمكتبات والمعامل، وحجرات الدراسة الفخمة، وكل شيء فيما عدا الحماس في قلب الإنسان. إن ذلك الحماس يوجد فقط بين القليل من الأساتذة والطلبة، ولو أننا درسناهم عن قرب أكثر فإننا سوف نجد أن هذه القلة تتكون من هؤلاء الذين يدينون بإيمان عميق بالله وبدين الإسلام. إن هؤلاء المسلمين الورعين فقط هم الذين يظهرون رغبة في التفوق في أي مجال من النشاط يقومون به، ولا تكون تلك الرغبة في التفوق بغرض الكسب الشخصي أو الشهرة، وإنما يكون الغرض منها هو تكريم الإسلام لا غير، أما الآخرون، الذين يعدون في نطاق المسلمين بالاسم، فإننا سوف نجد أنهم دائمو انتحال الأعذار، مضيعين للوقت، ضعيفي الشخصيات، ويفتقرون إلى العزيمة. ونستطيع أن نقارنهم بالسمكة الهلامية، ومن بين هؤلاء نجد من يتسمون (بالنزعة العصرية)، ولكن بنظرة فاحصة سوف نجدهم ليسوا بأكثر من نسخ ثالثة أو رابعة كربونية مطموسة. إنهم يكونوا كالقواقع الجوفاء التي تصب أفكار الآخرين وأساليبهم بها دون ما استيعاب.
إن استنتاجنا من ذلك هو أن المصدر الوحيد لتقوية عزيمة المسلمين يكمن في إيمانهم. وإننا لا يمكن أن ننتظر منهم أي إنجاز هام، ومتكامل وموحد لو لم يقو إيمانهم بصدق الإسلام. والظاهر أن دراسة العلوم الإسلامية في مدارسنا والطريقة التي تدرس بها غير مناسبة بالمرة لهذا الفرض ومن واجبنا إذن أن نمعن النظر في هذه المسألة بعمق.
ويكمن أيضاً أحد العوامل الرئيسية لافتقارنا إلى الحافز العلمي في حقيقته أن ما يدرس في معاهدنا هو نوع من المعرفة الغير متسقة مع إيماننا، وحضارتنا، وأسلوب حياتنا. وهو لم ينبع من تربيتنا، إنها معرفة نظرية، تتكون أحياناً من مجرد ترديد الاصطلاحات العلمية.
لقد كان المسلمون يلتزمون التزاماً عميقاً بالعلم عندما كان العلم وتطبيقه يعدان جزءاً من الحضارة والتقاليد الإسلامية، وقد فقد العلم أسسه الإسلامية عندما انتقل فيها بعد من أيدي المسلمين تماماً (تقريباً) إلى الأوروبيين. ونظراً للأسباب التي ذكرناها من قبل، فإن العلماء الأوروبيين وجدوا أن من الحكمة فصل العلم عن المسيحية، وبما أنهم كانوا يدينون بعداء تاريخي للإسلام والمسلمين، فإنهم قاموا عن عمد بقطع جميع العلاقات التي كانت تربط العلم بالإسلام والمسلمين، إلى حد أنه لقرون عديدة لم يذكر أي شخص أن الطريقة العلمية نبعت في الأصل من البلدان الإسلامية، وأنه كان يوجد عدد من العلماء البارزين من المسلمين. وفي نهاية الأمر، أصبحت وجهة النظر العلمية عدائية للدين، وغير مبالية بالاعتبارات الدينية، والحادية، حتى أنه أصبح من غير الممكن التفكير في ذكر اسم الله في أي مقالة أو كتاب علمي.
إن الوضع الراهن بين المسلمين بالنسبة للعلم هو كالآتي: لقد فقدوا القدرة على الاستمرار في أنشطتهم العلمية، لقد كانوا نياماً لقرون عديدة وعندما استيقظوا منذ وقت قريب، كانت رغبتهم الأساسية هي “اللحاق بتطورات القرن العشرين” بأسرع ما يمكن. ولهذا السبب فإنهم اعتقدوا أنهم لم يكن لديهم أي اختيار سوى محاكاة الأنماط الغربية، والحصول على المعرفة من الكتب، والمجلات، والتقديرات التي وضعها الكتاب الغربيون (وكذلك الأوروبيون الشرقيون والروس)، والحصول بالجملة على نتاج الأبحاث الغربية. ولهذا، فإنهم قد اعتمدوا على الكتب التي وضعها غير المسلمين عند تدريسهم لأي موضوع ابتداء من الفيزياء إلى علم الاجتماع، بل حتى مقارنة الأديان والإسلاميات.
وإذا كان بالإمكان المجادلة بأننا نستطيع تدريس العلوم البحتة مثل الفيزياء، والكيمياء، والجيولوجيا، وعلم النبات، والعلوم النظرية مثل المنطق، والرياضيات، وعلم الإحصاء، وعلم الحسابات الإلكترونية، ونتعلم استخدام الآلات بدون اقحام المعايير الأخلاقية أو القيم الدينية، فإننا لا نستطيع تطبيق نفس القول على العلوم التطبيقية، والهندسة، والهندسة المعمارية، والتخطيط الاقتصادي، والعلوم الاجتماعية، والدراسات الإنسانية.
وحتى عندما يدرس الطالب المسلم الفيزياء في كتاب وضعه كاتب غربي فإنه سوف يشعر بالاكتئاب وخيبة الأمل لعدم رؤيته أي إشارة لأعمال العلماء الفيزيائيين المسلمين. إننا نعلم أن واضع علم البصريات كان هو ابن الهيثم، وليس نيوتن، ولكننا دائماً نجد اسم نيوتن وقد بولغ في تمجيده لتجاربه في مجال الضوء. وبطريقة مماثلة، فإنه توجد فقط إشارات عابرة إلى مساهمات “العرب” (وليس المسلمين) في عالم الفلك، والرياضيات. والجغرافيا، وهكذا. ونظراً لأن الأستاذ أو الطالب في البلدان الإسلامية لا يشعر بالترابط العاطفي مع جاليليو، ونيوتن، واينشتين، ووينز، فإنه يفقد الكثير من حماسه، وإذا حاول أن يتلمس طريقه ويفكر كعالم، فإنه سوف يتشرب جميع الاتجاهات الالحادية واللامبالية بالدين التي تتخلل جميع العلوم الحديثة النابعة من الغرب.
ومن ناحية أخرى، فنظراً لأن جميع تلك الكتب توجد في لغات أجنبية، فإن طلبتنا يفقدون الكثير من الوقت والطاقة في محاولة إجادة تلك اللغات. وفوق ذلك، فإنه حتى إذا كان الكتاب يعالج موضوعاً علمياً، فإن اللغة ذاتها تكون متسمة بالأنماط الحضارية المعنية. إن الكلمات، والعبارات الاصطلاحية، والتعبيرات اللغوية تمثل انعكاساً للقيم، والاتجاهات والفوارق الدقيقة الأخرى للقوم الذين يتحدثون بتلك اللغة. ولنأخذ مثلاً بسيطاً. في اللغة الأردية، عندما نشير إلى العالم المادي، فإننا نقول قدرة onedrat التي تعني حرفياً قدرة (الله) أو خلق (الله)، في حين أننا في الإنجليزية نستعمل كلمة (الطبيعة) وأحياناً نبتدؤها بالأحرف الكبيرة، فنجعلها تبدو ككيان مفكر، قوي ذي إرادة.
وهكذا يتحول التوكيد من الله وقدرته الابداعية إلى كيان مجرد. ومن ثم فإن استخدام اللغات الأجنبية حتى في تدريس الفيزياء والرياضيات سوف يؤدي في نهاية الأمر إلى تضاؤل رؤيتنا الإسلامية للكون، ويحل محلها تدريجياً وجهة نظر منفصلة عن الدين.
إن مهمتنا حينئذ هي تأليف كتب علمية في لغات البلدان الإسلامية، مع إعطاء الأولوية للغة العربية، مثل الكتاب المناظر (كتاب علم البصريات) لابن الهيثم، الذي سادت فيه وجهة النظر الإسلامية على مدى الكتاب بأكمله بدون الإخلال بالمضمون الواقعي. ويجب أن توضع تلك الكتب على جميع المستويات، الابتدائي، والمتوسط، والمتقدم، ويجب إعطاء الأولوية للكتب التي تدرس في المدارس، والكليات والجامعات.
وإن مهمتنا أيضاً هي وضع تعريف واضح لأهدافنا التعليمية، والاجتماعية والاقتصادية التي يجب أن توجه جميعها إلى تحقيق هدفنا النهائي والإيفاء بمسئوليتنا تجاه الله وتجاه الإنسانية. وهي:
“كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله” (آل عمران 3: 110)
وقبل أن نستطيع تحديد أهدافنا التعليمية، والاجتماعية والاقتصادية، فإننا يجب أن نصفي أذهاننا من بعض العوائق النفسية. وإن أشد تلك العوائق النفسية خطورة هو شعورنا بالضرورة الملحة “اللحاق” بركب “الأمم المتقدمة”، إننا يجب أن نقرر بصفة نهائية أن اللحاق بالأمم المتقدمة ليس هدفنا. وإننا سوف نبحث في أعماق مصادر إيماننا، وهي القرآن والسنة، اللذان هما أساس إلهامنا، وسوف نكتشف حياة وأعمال الصحابة، وسوف نسبر غور تاريخنا الغني المتنوع، وتقاليدنا وحضارتنا، لنعرف ما هي الأهداف الإسلامية، التي يجب أن تكون طبقاً لعقيدتنا هي أهداف جميع الناس على وجه الأرض، بما في ذلك هؤلاء الذين يعيشون في البلدان المتقدمة، وحالما نضع تعريفنا للأهداف الإسلامية الحقيقية إننا نستطيع أن ننعم النظر في تجارب البشرية بأكملها حتى نقيم المؤسسات ونضع المنهج الذي سوف يقودنا إلى تحقيق تلك الأهداف على وجه السرعة.
إن النقطة الهامة هنا هي أن ذلك الولوع الشديد “باللحاق” بالركب الذي استحوذ على الأمم المسلمة لم ينتج عنه أي شيء سوى تبديد ثروتنا. وانحراف أفضل جهودنا عن القيام بعمل مثمر حقيقي. ولنقر بالحقيقة، وهي أنه فيما يتعلق بالتصنيع، فإننا لم نتخلف أجيالاً بل قروناً. إننا نفتقر إلى البنية التحتية الضرورية لتدعيم الصناعات الثقيلة مثل الطرق، والموانئ وشبكات التليفون، والكهرباء والإسكان والآلاف من الصناعات اللازمة لذلك. وإننا نفتقر أيضاً إلى المدارس وإلى التنظيم المتطلب أبناء الصناعة.
إن تلك البنية التحتية لن يتم البدء فيها إلا بواسطة الأشخاص، وأن الأشخاص لن يتعلموا ولن يعلموا ما لم يكن لديهم حافز يدفعهم لذلك.
هل يجب أن نقدم إلى شعوبنا حافزاً يقوم على أساس مبادئ المنفعة؟ ونخبرهم أن ذهابهم إلى العمل طبقاً للمواعيد المقررة والعمل بكفاءة سوف يزيد العوائد عن التكلفة؟ إننا نحلم بتلهف بالمداخن، والمولدات، والعقول الإلكترونية. وإنه من المثير أن الغربيين أنفسهم، الذين ابتدأوا في دخول مرحلة ما بعد التصنيع، يتملكهم الكثير من التفكير الواقعي حول التأثيرات الناجمة عن تلك الثمرات المريرة –الحلوة للعلم الحديث والتكنولوجيا بالنسبة للبيئة الإنسانية، وعلم النفس الإنساني، والقيم الإنسانية، في حين أنهم يحاولون بقوة بيع تلك الأحلام إلينا.
ولكن السؤال هو: عندما نتحدث عن اللحاق بالغرب، هل نفكر في حياة تذخر بالرفاهية ووقت الفراغ التي نستطيع أن نستمتع فيها بأقصى ما يمكننا؟ ولكن حياتنا قصيرة، وسرعان ما نقع تحت وطأة الهرم والأمراض وينتهي بنا الأمر إلى القبر. ثم نبعث بعد ذلك لمواجهة الخالق يوم الحساب. إن الشخص الذي يكون غير متنبه للآخرة هو فقط الذي يفكر على هذا المنوال. في حين يقول الله تعالى: “بل تؤثرون الحياة الدنيا. والآخرة خير وأبقى” (الأعلى 86: 17)
حين نضع أهدافنا التعليمية، والاجتماعية، والاقتصادية يجب أن نتمثل مبادئنا الرشيدة في القيم الإسلامية للتوازن والاعتدال وفي الهدف الإسلامي “ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة”.
ونستطيع أن نوجز الموضوع كالآتي: إن المهمة الأولى أمام العلماء المسلمين هي تأليف الكتب في لغات الشعوب المسلمة، وتحديد الأهداف الرئيسية التعليمية، والاجتماعية، والاقتصادية، ووضع خطة لتطوير المؤسسات والمناهج التي سوف تساعد على التوصل لتلك الأهداف للأجيال القادمة.
9- بعض الاقتراحات العلمية
إننا نحتاج إلى ثلاثة أشياء للبدء في ذلك المنهج وهي: الأشخاص المؤهلون، والتنظيم، والموارد المالية. وإننا في الواقع لو اعتمدنا على عدد الأشخاص المؤهلين المتوفرين، نستطيع إقامة الكثير من المؤسسات والتنظيمات المنفصلة سواء كانت في نطاق البنيان الحكومي، أو مستقلة عن نفوذ أية حكومة:
1- لتأليف الكتب العلمية، فإنه يمكن إقامة ما يماثل (دار الحكمة) في العصر العباسي، وتدعيمها بواسطة إحدى الحكومات الإسلامية.
2- لتحديد الأهداف، وتقييم البرامج التعليمية، والاجتماعية، والاقتصادية، فإنه من الممكن تكوين مجلس علمي استشاري، ذي سلطة واسعة.
3- لتنمية التعاون بين العلماء والمهندسين فإنه من الممكن لكل واحد أن يصبح عضواً في جمعية العلماء والمهندسين المسلمين الموجودين بالفعل.
4- لتنفيذ الأبحاث الأساسية، والتطبيقية فإنه من الممكن إنشاء هيئة مماثلة لمؤسسة العلم الوطنية في الولايات المتحدة. إن تلك الهيئة سوف تبدأ وتشجع تقديم اقتراحات أبحاث العلماء المسلمين في أي مكان في العالم. وإنه من المستحسن للغاية لو كانت تلك الهيئة مستقلة ومزودة برأس مال ابتدائي كبير من الحكومات المسلمة.
5- للاستفادة من المنح الدراسية للعلماء المسلمين المقيمين في دول أخرى، فإنه من المكن إقامة برنامج واسع ومستمر للأساتذة الزائرين بواسطة الجامعات المختلفة.
6- يجب إصدار دليل حديث للعلماء والمهندسين المسلمين مرة كل عامين على الأقل.
7- من الممكن إقامة “مراكز للتفوق” في أجزاء مختلفة من العالم المسلم، ويتخصص كل مركز في مجال معين.