يقف أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (384- 456هـ) بأصول التشريع الإسلامي عند أربعة أصول هي (القرآن، والسنة، والإجماع والدليل).
فالقرآن الكريم هو مصدر المصادر، فما من أصل شرعي إلا كان اشتقاقه من القرآن، فهو الأصل لكل أصل في الإسلام “أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم”.
وابن حزم يرى أن أصل “البيان” ثابت في القرآن إما بذاته وإما ببيان السنة أو الإجماع.
ويعتبر ابن حزم من أنواع البيان ثلاثة: الاستثناء، والتخصيص، والتوكيد. فالاستثناء والتخصيص مثلما ورد في آية إهلاك قوم لوط.. (إلا آل بيته)، باستثناء امرأته من بينهم. والتوكيد مثل قوله تعالى: “فتم ميقات ربه أربعين ليلة” بعد أن ذكر تعالى ثلاثين ليلة وعشراً.
وألفاظ القرآن تفهم بمقتضى الظاهر فيها، إلا إذا قام دليل آخر من نص آخر على غير ذلك، ويكون بياناً للأول.
أما السنة فهي متممة للقرآن في بيان الشريعة “وابن حزم ينظر نظر الشافعي من حيث إنه يعتبر القرآن والسنة جزءين أو قسمين كلاهما يتمم الآخر، ويسميها النصوص”.
وأقسام السنة عند ابن حزم مثلما هي غيره ثلاثة: قول وفعل وتقرير لكنه يرى أن الحجة هي أقوال النبي.. أما الفعل فلا يكون حجة إلا إذا اقترن بقول أو قامت قرينة على قيامه مقام القول، أو كانت تنفيذاً لأمر.
والسنن عنده –من زاوية أخرى- تنقسم قسمين: سنن متواترة، وأخبار آحاد… فالمتواتر “هو ما نقلته كافة بعد كافة لا تقل عن اثنين لم يلتقيا” حتى تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أثر لم يختلف مسلمان في الأخذ به، وهو نادر.
وقد أجهد ابن حزم نفسه في البحث عنه فجمع منه نحو ثمانين حديثاً أوردها في المحلي، الذي اعتبره الأصوليون ثروة كبيرة للمحدثين والفقهاء جميعاً. والمتواتر الذي انتهى إليه ابن حزم قد اعتمده من جاءوا بعده من المشارقة والمغاربة أما حديث الآحاد فهو –عنده- ما نقله الواحد عن الواحد واتصل براويه العدول الثقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجب الاعتقاد بصدقه والعمل به، وابن حزم يقدم من سيرة الرسول الأدلة على توثيق هذا الحديث، فقد بعث الرسول عليه السلام معاذاً إلى اليمن، وأبا بكر أميراً للحج وأبا عبيدة إلى نجران… وهم آحاد.
أما الحديث الموقوف –وهو ما لم يبلغ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث المرسل وهو ما كان في رواته مجهول- فلا تقوم بهما حجة.
ومن مقررات ابن حزم في هذين المصدرين (القرآن والسنة) أنه لا تعارض بين نصوصهما بل نصوصهما متكاملة، وذلك لأنه لا يتصور تعارض ما دام المصدر هو الوحي الإلهي. وأي تعارض يبدو في الذهن إنما مرجعه إلى أنه تخصيص لعام، أو تتمة لمعنى جديد لم يستوفه النص الأول، أو أمر خاص بعد أمر عام، أو نهي خاص بعد نهي عام.
ومن مقرراته كذلك أن الأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة تؤخذ على ظاهرها، أي الوجوب الحتم أو النهي الحتم… ومن هنا فقد انفرد ابن حزم بآراء منها فرضية الزواج على كل مستطيع الباءة والنفقة ولو لم يخش الزنى. وجعل العمرة فرضاً كالحج، وجعل مكاتبة العبد حقاً له فرضاً لازماً إذا طلبها من سيده، وأوجب ترك البيع وقت النداء لصلاة الجمعة، وأوجب حق الماعون للجار… وهذا كله بتأثير الظاهرية التي يلتزمها.
أما الإجماع، وهو المصدر الثالث للتشريع عند ابن حزم الأصولي: فهو إجماع الصحابة قبل تفرقهم في الأمصار، ثم إجماع من يجيء بعدهم يكون تبعاً لإجماعهم.
وما اختلف مسلمان قط في أن ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم دون خلاف هو إجماع متيقن مقطوع بصحته وهو إجماع متواتر متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر علم من الدين بالضرورة لا يمكن إلا أن يكون عن نص، بل هو ما أقوى من النص، وهو التوقيف، والتعليم من الرسول صلى الله عليه وسلم فسند الإجماع في النهاية إنما هو النص.
وهذا القيد يخرج صوراً كثيرة من الإجماع قالت بها المذاهب الأخرى، مثل إجماع أهل المدينة، وإجماع أهل الكوفة، وعرف الناس، والإجماع السكوتي، وإجماع الأكثرية، وإجماع أهل العصر من غير عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والدليل هو الأصل الرابع من أصول ابن حزم والظاهرية –هو أمر مأخوذ من الإجماع أو النص، مولد منهما مأخوذ من دلالتهما وليس حملاً عليهما. أو قياساً إليهما. وذلك كأن يشتمل النص على مقدمتين تركت نتيجتهما فيكون استخراج النتيجة هو الدليل، أو تطبيق عموم فعل الشرط كقوله تعالى “إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف”، أو نفي معنى ضروري يفهم نفيه من النص، أو عدم النص على الشيء، كما هو في باب الاستصحاب الذي يعني أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن الحاضر والمستقبل.
وقد رفض ابن حزم من مصادر التشريع الإسلامي ما ذكره الأصوليون –بعد الأصول السالفة الذكر- وهي:
1- القياس:
فإن ابن حزم ينكر أن يكون تقدير فرع على أصل أو نظير على نظيره لمشابهته في علة أصلاً تشريعياً، وهو يعتبر ذلك لوناً من الرأي. والقول في الدين بالرأي عنده حرام “لأن أحداً من الصحابة لم يصحح أحد منهم القول بالرأي قط، بل قد يثبت عن الصحابة ذم الرأي.
وقد أورد ابن حزم الأدلة التي ساقها القائلون بالقياس. ورد عليها.. فقد احتجوا بأدلة فعلية كقوله تعالى: “قل يحييها الذي أنشأها أول مرة” وكقوله تعالى “ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما” وكقوله تعالى “ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق” ففي هذه الآيات أقيسة من وجهة نظرهم.
كما أنهم احتجوا بأدلة عقلية كقولهم: لما رأينا البيضتين إذا تصادمتا تكسرتا علمنا أن ذلك حكم كل بيض لم ينكسر.. فهذا قياس.
واحتجوا بأدلة تاريخية كإجماع الصحابة على تقديم أبي بكر قياساً على تقديم النبي له. وكقتال أبي بكر لما نعى الزكاة قياساً للزكاة على الصلاة.
وقد رد ابن حزم على هذه النصوص بدلالة بالغة. وبإيراد النصوص الأخرى المتعلقة بهذه القضايا والتي لم يستطع أصحاب القياس الاهتداء إليها. ثم بنصوص حرم القرآن فيها القياس مثل قوله تعالى “اليوم أكملت لكم دينكم” وقوله “ولا تقف ما ليس لك به علم”.
ولم يكتف ابن حزم بالرد على أصحاب القياس، بل أتى بقضايا أوجبت –عقلياً- القياس، لكن القياس لم يصح فيها شرعاً. كما أن أصحاب القياس لم يقيسوها، أو قاسها بعضهم وامتنع آخرون عن قياسها.
2- الاستحسان:
يعتبر ابن حزم الاستحسان من باب القول في الدين بالرأي والهوى الباطل، وسواء زعم المستحسن أنه إنما استحسن للصالح العام “المصالح المرسلة” أو لمصلحة محددة بموقف، فاستحسانه –أي رأيه الذي يميل إليه دون دليل- مرفوض لأنه ليس استحسان فقيه أولى بالاتباع من استحسان آخر، ولو صار الدين إلى هذا لكان لكل أحد أن يشرع باستحسان ما شاء فإن أوردوا: “ما رآه المسلمون حسناً”- فهذا حديث موقوف. ولو صح لما كان لهم فيه متعلق لأن ما رآه المسلمون حسناً هو الإجماع ولم يقل ما رآه بعض المسلمين.
3- التعليل:
وكما ينكر ابن حزم القياس والاستحسان ينكر القول في الدين بالتعليل. والتعليل اسم لما يتغير الحكم الشرعي بتغيره.
قال ابن حزم: “ويكفي من هذا كله –أي إنكار التعليل- أن جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم وجميع التابعين. وجميع تابعي التابعين ليس منهم أحد قال: إن الله تعالى حكم في شيء من الشريعة لعلة، وإنما ابتدع هذا القول متأخرو القائلين بالقياس”.
“ولسنا ننكر وجود أسباب لبعض أحكام الشريعة بل نثبتها ونقول بها لكننا نقول: إنها لا تكون أسباباً إلا حيث جعلها الله تعالى أسباباً، ولا يحل أن يتعدى بها المواضع التي نص فيها على أنها أسباب”.
وقد أورد ابن حزم –كما هو الشأن في منهجه- ما ذكره القائلون بالعلل سواء من أدلة نقلية، كفهمهم لقول الله تعالى: “لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً” وكفهمهم لآية الصيامة “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون” وكفهمهم لآية القصاص: “ولكم في القصاص حية”، وغيرها من الآيات- كما تتبع ابن حزم ما ذكروه من أدلة عقلية، ورد عليها بالتفنيد والنقد.
4- الذرائع:
يقصد بسد الذرائع منع التوسل إلى فعل الممنوع وذلك كالنظرة بالنسبة للزنا وكسائر المشتبه في حرمته، أو ما يمكن أن يؤدي إلى الحرام.
وقد أنكر ابن حزم الاجتهاد عن طريق الذرائع، لأن ذلك النوع باب من أبواب الرأي. وهو ينكر الرأي بكل شعبه.
وهو يتعقب أدلة مخالفيه، ويورد أدلة خاصة على رأيه كما هي عادته. وقد قصر النصوص التي تفيد المنع من الذارئع على الورع والحصن، لا على الإيجاب واللزوم، واستشهد على رفض الأخذ بالذارئع بآيات منها: “ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام” ومنها: “وقد فصل لكم ما حرم عليكم”.
وقد طبق ابن حزم هذه المعالم الأصولية في منهجه –حين قدم لنا مذهباً فقهياً “حزمياً” عبر موسوعته التي وصلتنا، وهي “المحلى”، إذ أن المحلى قد استغرق سائر أبواب الأصول والفقه، بدءاً من باب “التوحيد” والإيمان والقواعد الحزمية في الأصول، وإلى أن فرغ من سائر أبواب العبادات والمعاملات في مسائل أهل الذمة وأنواع التعذير.
وقد حمل هذا الكتاب بين دفتيه مذهب ابن حزم الفقهي الذي تدعوه “بالحزمية الظاهرية” مقارناً إياه بالمذاهب الأخرى، ولم تكن المنية قد تركت لابن حزم فرصة إتمامه، فإنه لم يكتب فيه إلا (2028) مسألة من مجموع مسائله البالغة (ألفين وثلاثمائة واثنتي عشرة مسألة). والمسائل الباقية وهي تبدأ من مسألة رقم (2029) “وأما الدية في قتل الخطأ فعلى العصبية وهم العاقلة”. اختصرها ابنه أبو رافع من كتاب الإيصال الذي لم يصل إلينا.
وإنه لمما يجعلنا ندرك مدى جهود ابن حزم في ميدان الفقه أن المحلى الذي تبلغ صفحاته نحو (7050) صفحة من القطع المتوسط ويقع في ثلاثة عشر جزءاً. إنما كتبه ابن حزم “شرحاً مختصراً للمسائل التي جمعناها في كتابنا الموسوم بالمحلى نقتصر فيه على قواعد البراهين بغير إكثار، ليكون مأخذه سهلاً على الطالب والمبتدئ”.
ومع ذلك، فهذه الموسوعة (المحلى) اعتبرت من أعظم المدونات لاجتهادات السلف رضوان الله عليهم، سواء في باب العقائد أو التشريعات الفرعية. إن كان من الضروري جمع المسائل المتشابهة إلى بعضها.
وقد ضمت آراء السلف (12903) آراء، نسبت إلى 546 عالماً سلفياً، منهم من ذكر له ابن حزم أكثر من ستمائة رأي، ومنهم من لم يذكر له إلا راياً واحداً. ويضاف إلى هذه الآراء (250) مسألة لفريق من الصحابة لم يعرف لهم فيها مخالف.
وفي ختام حديثنا عن جهود ابن حزم في الفقه وأصوله نستطيع أن نلاحظ ما يلي:
1- أنه طبق ظاهريته تطبيقاً كاملاً، وكان يأخذ بالأدلة التي يسوقها بظواهر ألفاظها.
2- أنه إمام من جملة الأئمة الذين لهم باع طويل في علم الأصول والفقه، وأنه صاحب مدرسة مستقلة.
3- وهو في تجديده واستقلاله وعمقه يشبه الإمام الشافعي ولا سيما من ناحية التزامه بالأثر، كما أنه يتفق في هذا الباب مع الإمام أحمد بن حنبل.
4- ومع ما يبدو في منهج ابن حزم من تضييق، فإن التزامه بالظاهرية قد هداه إلى آراء فقهية، تضمنها المحلى وغيره –اعتبرت سابقة لعصرها، ومن ذلك رأيه في حق المكاتبة للعبد، ومساواة العبد بالحر في عدد الزوجات، ورأيه في الغناء، وفي منع تأجير الأرض، وأن الأرض لمن يزرعها، وفي وجوب إنفاق الزوجة على زوجها، إذا كانت موسرة، وفقاً لما فهمه ابن حزم من ظاهر قول الله تعالى: “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف”، وكذلك كان ابن حزم رائداً في “الوصية الواجبة” للأقارب غير الوارثين، وإعطاء الحاكم حق تنفيذ الوصية الواجبة في تركة المتوفى حتى ولو قصر فيها.
وعلى رأي ابن حزم اعتمد القانون المصري في وجوب الوصية لفرع الولد المتوفى في حياة أبويه، وقد تناولت هذه القضية بالبسط المواد رقم 76، 77، 78، 79 من القانون المصري رقم 71 لسنة 1946م.
وكل هذه الإضافات تؤكد أن منهج “الحزمية الظاهرية” في التشريع، ليس أقل من غيره من المذاهب، سعة وعمقاً، وإن بدا ضيقاً عند النظرة السطحية، وبالتالي فهو منهج جدير منا بالدرس والتحليل.