أبحاث

ضوابط التأويل لنصوص القرآن والسنة

العدد 150

مقدمة

-1-

معلومٌ مشتهرٌ أمرُ انتشارِ “التأويلاتِ السِّريالية العبثية الباطنية” – وإن شئتَ سميتَها التبديلات لا التأويلات- لنصوص كلام الله ولمجمل سنة رسوله (ص)- حتى أصبحتْ الميدانَ الذي يتبارى فيه كلُّ عاجزٍ – مِن قِبَل نفرٍ من بني جلدتنا يَدَّعون المنهجيةَ، والموضوعيةَ، والتجردَ العلميَ لوجه الحق والحقيقة، ويعتبرون أنفسهم “مجددين”، وحقيقةُ أمرِهم أنهم مِن “المجدِّدينات” على حد تعبير النابغة الأديب/ كامل الكيلاني، هكذا – والله- سمَّاهم هذا الاسم العجيب، وحين سأله سائل عن معنى هذه التسمية، أجاب بجواب أعجبَ وأبدعَ: “هذا جمع مخنث سالم”، فأقسَمَ له سائله أنَّ اللغة العربية في أشدِّ الحاجة إلى هذا الجمع في هذا الزمن!(1).

ولهؤلاء المجددينات – في عصرنا هذا- أهداف ثلاثة:

* أولها: “أَنْسَنَة”(2) كلام الله ووحيه برفع صفة “القداسة” عنه، ومن ثم، فتح الباب للتصويب والتخطئة فيه، والأخذ منه والرد والاستدراك عليه، شأنَ كل ما هو “بشري” لا يتصف بـ “الكمال المطلق”.. تمركزاً حول “الذات”، وتنحيةً “للإله” جانباً.

* وثانيها: رفع صفة كونه “وحياً ورد من عالم الغيب” واعتباره “منتجاً بشرياً” و”إفرازاً طبيعياً” للعصر الذي ظهر فيه،

ومن ثم، فتح الباب للقول بتاريخيته وعدم صلاحيته لكل زمان ومكان، شأنَ كل ما هو “مادي” “غير متجاوز”.. تمركزاً حول “المادة”، وتنحيةً “للغيب” جانباً.

* وثالثها: رفع صفات “المعيارية” و”القيمية” و”الأخلاقية” التي تميزه بنفي “الحكمة” و”الغائية” و”الاتساق المنطقي” عنه،

ومن ثم، فتح الباب للقول بنسبيته؛ لتُطِلَّ “العبثية” برأسها تبعاً لذلك؛ شأنَ كل ما هو “سائل” و”زئبقي” يمكن إعادة تشكيله حسب الطلب.. تمركزاً حول “الدنيا” وتنحية “للآخرة” جانباً.

فالنص الديني الإسلامي (أي كلام الله ووحيه) عندهم: بشري مادي نسبي.

وبيِّنٌ تماماً أن هذه “الأهداف – الوسائل” منبثقة عن ثلاث “غايات” قام عليها “عصر الأنوار الأوربي” الذي كان ثورةً على “عصرهم المظلم السابق”، وهي:

أولاً: نفي السلطة الروحية للكنيسة.

وثانياً: نفي السلطة الثقافية للكنيسة (ويدخل ضمن مفهوم الثقافة ههنا: العلوم الكونية؛ بحتةً وتجريبيةً وتطبيقيةً).

وثالثاً: نفي السلطة السياسية للكنيسة.

وهذا، كما لا يخفى، أسوأ أنواع التقليد، التقليد الفلسفي للغرب، رغم أن ظروفنا وسياقاتنا غير ظروفه وسياقاته، ومجتمعاتنا غير مجتمعاته، ومشكلاتنا غير مشكلاته. ولكنه السقوط في جُبِّ “مركزية الغرب الكونية” ودعوى “عالمية نموذجه”، واختزال “التجارب الإنسانية” في “التجربة الغربية”، مع ما في ذلك من تحطيم لـ “تركيبية الإنسان” التي ترفض “تنميط” و”قولبة” البشر بِصَبِّهم في “علبة خرسانية واحدة”..

ومع ما في ذلك من إسكاتٍ لإبداعنا، وإسقاطٍ لقيمنا، ومحوٍ لذاتيتنا ورؤانا: لنتقبل ذاتيتهم ورؤاهم..

وأصبحت مهمة هؤلاء: نقل كل ما ينتجه الغرب بحلوه ومره، فوقعوا ضحية ما يسمى بـ “إمبريالية المقولات”؛ أي تبني مقولات الآخر الفلسفية والمعرفية، ثم النظر للعالم، بل ولأنفسنا أيضاً، من خلالها..

ودخلوا “جحر الضب”؛ يحفرون إذا حفر، ويؤولون إذا أوَّل، ويفككون إذا فكك، فامَّحَوْا في الآخر، ومَن كان كذلك فَقَد “ذاتيته”، ومن ثم، “إنسانيته”.

وهذا ما أسميه بـ “السلفية التغريبية” في مقابل “السلفية الماضوية”؛ فالأولى ألقت زمامها للغرب، والثانية أخضعت عنقها للآباء والأجداد، وكلاهما “وثنية فكرية”، بينما السلفية الحقة هي العودة للمنابع الصافية والجذور الضافية: الكتاب والسنة، مع “الاسترشاد” – لا “إخضاع الأعناق”- بجهود السابقين واللاحقين، والشرقيين والغربيين، بعد تمريرها في “مصفاة الترشيح العقلي الإسلامي”.

***

ولا يخفى أن في ذلك كله(3) غفلة عن:

* أولاً: أن الله قد خاطبنا بلساننا نحن؛ بكل ما يستلزمه ذلك من:

* تكريمٍ للإنسان.

* ونفيٍ لكل سلطة روحية بشرية مُدَّعاة عليه.

* وأنسنةٍ مؤمنةٍ (أي: أنسنة إسلامية رشيدة) للنص.

بكل ما يعنيه ذلك من:

– تيسيرِ فهمه لنا.

– ووجودِ منهج لغوي معياري – هو لساننا الذي بأساليبه خوطبنا- نستطيع به أن نتبين مراد الله من كلامه – على حسب الوسع والجهد-، خاصةً مع الأمر الإلهي بالتدبر والادِّكار.

– خاطَبَنَا بلساننا نحن، لا بلسان غريب عن ألسنة البشر، يقود للغموض والالتباس، ويفتح الباب مشرعاً لأحد طريقين:

* النسبية المطلقة والعبثية.

* أو ادعاء السلطة الروحية على البشر مِن قِبَل الكهنة أو مَن يُسمَّوْن برجال الدين.

* وثانياً: أن الميتافيزيقا (= الله.. الوحي.. الغيب.. المقدس) ما ثبتت إلا بالعقل.. وأن هذه الميتافيزيقا هي مَن أمرنا – بعد ذلك- بإعمال العقل.. وأن هذه الميتافيزيقا هي مَن أمرنا بالنظر في الفيزيقا (= الكون.. المادة).. فالله عندنا يرشد إلى النظر في المادة.. والمادة عندنا ترشد إلى الإيمان به.. بكل ما يحمله ذلك مِن نفيٍ “للتناقض الموهوم” بين الغيب والمادة.. بل “الغيبُ” ذاته هو الذي “استخلفنا” في “المادة” وأرشدنا – في ذات الوقت- إلى “اقتناص المعاني” من “الكون”.

* وثالثا: أن الدنيا عندنا مزرعة الآخرة وقنطرة لها، وأنها بالنسبة لنا صندوقُ استثمارٍ آمِنٌ مضمونٌ .. ومن ثم، آمن المسلمون – انطلاقاً من تعاليم دينهم- بالحكمة المأثورة: “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً”!(4).

إن التعلقَ بالآخرة مُحَفِّزٌ لا نظير له على الإبداع والإتقان والإحسان في الدنيا؛ حتى نفوزَ برضوان الله ونعيمه، ونتجنَّبَ سُخطه وعذابه.. والتعلق بالآخرة يؤدي – في الدنيا- إلى تغيي الحق والعدل وإعمار الأرض؛ ابتغاءَ مرضاة الله، فكيف نترك الدنيا ونتعلق بالآخرة، والدنيا لا تَصلُحُ إلا بها؟!

ولذلك كانت السياسة في ديننا تعني القيام بما فيه صلاح أمرنا في العاجل والآجل معاً.

إن الحياةَ دونَ يقينٍ بآخرةٍ فيها ثوابٌ وعقابٌ: عبثٌ صِرْف لا معنَى له ولا سندَ ولا رصيدَ، وعذابٌ بلا حكمة – فلماذا الكَدُّ في الدنيا إذاً ما دُمنا سنَفْنَى بالموت؟!-، وألمٌ بلا عِوَض، ومغامرةٌ بلا عائد، ومشروعٌ بلا ضمان ولا تأمين.

الآخرةُ هي الأملُ الباقي، واليقينُ الذي لا يعلوه يقين، فكيف نتركها؟!

* ورابعاً:

– أنَّ الربَّ في الإسلام: حكيمٌ، عليمٌ، رؤوفٌ، رحيمٌ، ولطيفٌ بعباده.. ومن ثم، فلا مجال – في الإسلام- للتمركز حول الذات وتنحية الإله جانباً؛ لأن الوحي الذي أوحى به هذا الإله إنما يستهدف سعادة هذه الذات في العاجل والآجل .. ومن ثم، كان الفعل الحضاري الإسلامي قائماً على أصل “التفاعل مع الدين”، بينما الفعل الحضاري الغربي قائم على أصل “التصارع مع الدين”.. وبذلك هما رؤيتان لا تجتمعان ولا تمتزجان، وكل ساعٍ في سبيل جمعهما أو مزجهما – أعني الأصول والثوابت الكلية التي قامت عليها الحضارتان والرؤيتان- إنما يبذر من البذور ما ستلفظه التربة المبذور فيها.

– وأنَّ فَهمَ كلامِ الله بما يُوحِي القارئُ به لنفسه – على أي وجهٍ وقع ذلك؛ عملاً بالنسبية المطلقة-، لا بما يقصده الله منه وَفق دلالاتِ اللسان وسَنَنه ومقاصدِ الوحي والشريعة: يجعل القارئَ مُنتِجاً لمعاني المقروء ومقاصده ودلالته لا كاشفاً لها وباحثاً عنها.. فـ “معنى النص الديني” – بذلك- هو “ما يقصده قارئه منه” لا “ما يقصده مُنـزلُ النصِّ ومُوحِيهِ”؛ فلا دلالة في النصوص إلا حسبما يفهمها كل قارئ – على أي وجه وقع ذلك-..

إنه إذاً إحلاٌل للإنسانِ محلَّ الله؛ أيْ “تأليهُ الإنسان” و”تأليهُ العقل”؛ أليس هو مَن سيحدد مقاصدَ خطاب الله لخلقه على وَفق ما تُوحِي به نفسُهُ إليه، لا على وَفق مقاصد شريعة الله ووحيه ومراده، وسَنَن لغته، ومنطق كونه ومخلوقاته، وبديهيات ما أودعه في عقولهم وأرشدهم إليه من خلالها؟! ومن كان هذا وصفُهُ فهو الإله حقاً!

وهذا موقف عجيب؛ يفترض الصراع بين “العقل” و”خالق العقل”، مما يستدعي إقصاء أحد الطرفين ليحل الآخر مكانه، مع أن ما يَراه العقل الصحيح هو ما يراه الدين الصحيح، لا يختلفان إلا إذا انحرف بالعقل غاوٍ أو زَيَّفَ الدينَ مَن هو أشدُّ غوايةً.. فصحيحُ المنقول – في ديننا- لا يُخالِفُ بحالٍ صريحَ المعقول، ولا يجوز له ذلك، بل مستحيلٌ/ ممتنعٌ أن يقع منه أو أن يُوجَد فيه!

إن أي نص له حدود ومعنى ومركز: نصٌّ متماسكٌ، ويشير إلى مصدره/ صانعه، وينطوي على معنى الغائية، وهو بذلك أفلت من الصيرورة (التحولات المتلاحقة)، وحقق ثباتاً وتماسكاً، ومن ثم فهو متجاوز.

أما النص الذي لا حدود له ولا مركز فهو: نص متعدد المعاني بشكل مطلق؛ لفقدان الحدود والمركز؛ ومن ثم: استحالة الاتفاق على معنى أو معيار متجاوز.. ولذلك: ثمة معانٍ بعدد القراء، مما يخلق مجالاً عشوائياً يتبدد فيه المعنى، ويصبح البحث عنه عبثاً، مما يؤدي إلى إنكار المعنى واستحالة التواصل – الذي يقتضي قدراً مشتركاً من الحقائق وحداً أدنى من الثوابت-، مما يخلق حالة من السيولة المطلقة، تختفي في طياتها الحقيقة؛ تقويضاً للمعنى.. وهي بذلك محاولة لنقل “الشِّرْكِ” من “عالَم العقيدة” إلى “عالَم الكتابة”؛ حيث يحل “تعدد المعنى” محل “تعدد الآلهة”، بل يقوم مقامه ويفعل فعله، فيتخذ كل امرئ إلهه: المعنى الذي خَلَقَه هو للنص، فيتمحور المرءُ حولَ ذاته، متخذاً منها “المركز المطلق” و”الأصل الأصيل”.. وصدق الله العظيم إذ يقول: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) [الجاثية: 23].

– أن العلاقة بين الوحي والعقل والواقع علاقة جدلية تفاعلية، فنحن أمة:

* تقرأ النقل بالعقل، وتضبط العقل بالنقل.

* وتصل الظواهر بالقيم، والأحداث بالعِبَر.

* وتفهم أن عصر نـزول النص مجرد “وعاء تتحقق فيه وعن طريقه” مقاصد النص وقيمه، فليس هو عين الماء التي “أخرجت” لنا الماء، وإنما هو جدران البئر الذي “نـزمُّ” فيه الماء و”نحفظه” أن يضيع سدى، إنه “المثال” الذي نحتذيه بأن “ننساح وراء أهدافه ومقاصده” لا “هياكله”، إنه “السابقة الدستورية” التي يجب أن نقيس على “نهجها وروحها” أبداً. وبناءً عليه، وحيث إن النص الديني الإسلامي هو الخاتم، فإن هذا النص يمتد زمنه إلى ما بعد زمن نـزوله، حتى إن كل زمن يليه يكون زمنَه.

* وتُعمِل “النصوص” في “الواقع المتنوع المتغير” لا عن طريق “استدعاء دلالات النص” وفقط، وإنما أيضاً، وعلى ذات الدرجة من الأهمية، بـ “توصيف الواقع بوصف يُمَكن من إنـزال حكم النص عليه”.

***

وخلاصة هذه الرحلة من الرصد والتفكيك والتركيب:

* أولاً: أن النص (الغيب.. الوحي.. الميتافيزيقا) هو مَن أرشد إلى “تكريم الإنسان”، فكيف نحاول نحن نـزع “القداسة” عن النص بزعم إعادة الاعتبار للإنسان وتكريمه؟!

* ثانياً: أن النص هو مَن أمر أن نقرأه “بالعقل”، فكيف نحاول نحن نـزع “الغيبية” عن النص بزعم إعادة الاعتبار للعقل واحترامه؟!

* ثالثاً: أن النص هو مَن “أرشد إلى القيم والأخلاق” و”حث على الاعتبار بالوقائع”(5)، فكيف نحاول نحن نـزع صفة “المعيارية” عن النص بزعم التصاقه الميكانيكي بالظروف والسياقات والعصر الذي نـزل فيه؟!

في حين أن عصره هذا مجرد “وعاء تتحقق فيه وعن طريقه” مقاصد النص وقيمه، وإلا فكيف نقتنص المعاني ونستخلص المقاصد والقيم التي نُقِيم عملنا بها وعليها ونُقَيِّمُه؟! أنقتنصها من الفراغ ونستخلصها من الهواء؟! وأنَّى لمقاصد النص وقيمه أن “تتحقق” إلا في واقع وظروف وسياقات؟!

إن مضمون النص الديني غير منحصر فيما يأتي به ظاهر التشريع، وإنما هو متسع، بل ومنساح وراء ما يرمي إليه هذا التشريع من تقصيدٍ(6) للفعل وتخليقٍ(7) للسلوك، بحيث يصبح للنص الديني وجهان: “قانوني” و”أخلاقي مقاصدي”، مع تبعية الأول للثاني.

ومن ثم: كلما تجددت الظروف والسياقات والأعصار، أمكن – بكل سهولة وليونة ومرونة ويسر؛ بسببٍ من انسياح النص وراء المقاصد والأخلاق، وبسببٍ من تبعية وجهه القانوني لوجهه الأخلاقي المقاصدي- أن يتجدد “تحقق” هذه القيم وأن يتجدد “الإيمان” بها؛ فيكون النص الديني محفوظاً – بحفظ قيمه- في مختلف الأطوار والأحوال والأعصار.. وبذلك يتشابك “الإطلاق” مع “المرونة”.. و”الثابت” مع “المتغير”.

-2-

ومعلومٌ مشتهرٌ كذلكَ أمرُ انتشارِ “الاجتهادات الصبيانية المُبْتَسَرة” في الأفق الفكري/الفلسفي والعقدي والتفسيري والفقهي لأمتنا المثخنة بالجراح مِن قِبَل نفر مِن “إخواننا الطيبين”؛ بفرعَيْهم “أهلِ القصور والتقصير” الذِين ما يفتأون يجتهدون ويُفتون، و”أهل الجَرْحِ والتجريح” الذِين ما يَنْفَكُّون يُبَدِّعون ويُفَسَّقُون ويُضَلَّلُون، دون مراعاةِ أَيِّهِمَا لأصول النظر، ولا جَرْيِ أحدٍ مِنهُما على القواعد!

كيف لا، ومن سماتهم – وهي كثيرةٌ، وهم ألوانٌ شتى- :

* الجمودُ على حرفية النصوص دون فقه فيها ولا غوصٍ على معانيها.

* التقليدُ المُمَنْهَج لآراء السابقين دون نقد لهم فيها.

* إفناءُ الأعمار – مِن قِبَل بَعضِهِم- في الدفاع عن خرافات الاعتقادات وبدع العبادات.

* إنكارُ بعضهم لمقصديةِ الشريعة رأساً، وإنكارُ آخرين لتعليلِ الأحكام بالرأي المبني على أصول النظر والجاري على القواعد.. ومَن لم يُنكر منهم أياً من ذلك، تجدْ إهمالَه لفقه المقاصد والأولويات والموازنات والمصالح والمآلات بادياً في لحن قوله.

* إهمالُ فقهِ الواقع، واقعِ الحياة، وفقهِ السنن الكونية والاجتماعية.

* الخلطُ بين الثوابتِ والمتغيرات، والأصولِ والفروع، والضرورياتِ والحاجيات والتحسينيات (= التكميليات).

* إهمالُ فقه الاختلاف، واعتدادُهُم برأيهم إلى حد الغرور الذي قد يصل إلى مشارف الاستعلاء أحياناً، وكأنهم معصومون مِن الخطأ، وكأن قولَهُم ورأيَهَم هو حُكمُ الله القاطعُ الباتُّ!.

* تجريحُ مخالفيهم تبديعاً وتفسيقاً – وتكفيراً أحياناً- وكأنهم قد خالفوا حُكمَ اللهِ لا اجتهادَ غيرِهم في دَرْكِهِ والوصولِ إليه(8).

-3-

ومِن ثَمَّ، تَصدُرُ هذه “الدراسة – الخلاصةُ”.. نعم، هي خلاصةٌ لثلاثة أمور:

* أولُهَا: أنِّي تَحَرَّيْتُ فيها تجنب التطويل؛ إذ القليلُ كثيرُ الفائدة خيرٌ مِن الكثير قليلِ الفائدة!.

* وثانيها: أنِّي لم أتطرق فيها لكل ما يمت إلى مبحث التأويل بسبب؛ لأن جُلَّ تركيزي في هذه الدراسة إنما ينصب على بيان مفهوم التأويل الأصولي وقانونه: من الوجهة التأصيلية المنهجية لا غير؛ فإن موضوع التأويل – بمفهومه العام- وثيق الصلة بالتفسير والتدبر وقواعدهما ومنظومتهما؛ وهما بحر لا ساحل له، وأرجو الله أن يوفقني إلى خوض غماره في قابل الأيام.

* وثالثها: أني لم أكثر من ضرب الأمثلة فيها – لا العقدية ولا التفسيرية ولا الفقهية-، وإن كان في النية تَغَيِّي ذلكَ فيما بعد؛ إذ بالمثال يتضح المقال. وإنما كان جل تركيزي على الجانب التأصيلي النظري المنهجي؛ لخطورته ووعورته وشديد أهميته؛ إذ هو الأُسُّ الذي يقوم عليه بنيان التأويل – بمعناه الأصولي-. فنحن، ههنا، نصب جل اهتمامنا على بناء “نموذج معرفي” ذي “مقدرة تفسيرية وتطبيقية” عالية؛ يمكن تنـزيله وتفعيله في أكثر من ميدان.

نقول: ومِن ثَمَّ، تَصدُرُ هذه “الدراسة – الخلاصةُ”؛ إبراءً للذمة، وإقامةً للحجة، ودحضاً للشبهة؛ بياناً لضوابطِ التأويل الإسلامي في التعامل مع كلام الله وسنة رسوله، وبياناً لشروطِ المجتهدِ الواجبِ توافُرُها في مَن يدعي الاجتهادَ والتجديدَ والحقَّ في التأويل؛ لعل “المجددينات” يرتدعون، ولعل “إخواننا الطيبين” يعقلون، ولعل “الحيارى والتائهين” يهتدون، ولعل “المترددين والمتخوفين” يتثبتون ويطمئنون، ولعل “الراسخين في العلم” يقرأون فيُسَرُّونَ ويَنْقُدُون(9)!.

وكلي ثقةٌ، إن شاء الله، في أنَّ ما بَيَّنْتُهُ مِن منهجٍ للتأويل – في هذه الدراسة- قادرٌ على أن يكشف عن “زيوف الأسماء” – من ذوي “العقول المُحْتَلَّة”- التي صنعها التغريب – وفي مقدمتها الأسماءُ المسماةُ بأسمائنا-، وعنْ “العقول المختلة” التي تملأ ساحاتنا الاجتهادية والإفتائية، وعن غيرهما مِمَّن تكادُ بسببهم تتدحرجُ الأمةُ مِن العالم الثالث – التي أقسمتْ ما تتركه- إلى عالم الفناء والتلاشي!

فها هي ذي “ضوابطُ التأويل الإسلامي لنصوص القرآن والسنة”(10)، وها هي ذي “شروطُ المجتهد”، أَضَعُهُمَا بين يدي القارئ، حامداً لله، شاكراً لأنْعُمِه، ومُقِرَّاً بفضله؛ فقد أكرمني اللهُ وفَتَحَ عليَّ بهما بعدَ طولِ بحثٍ ودراسة وتفكر وتدبر واجتهاد؛ وَلْيُقارنْ القارئُ بالمصادر والمراجع المذكورةِ آخرَ البحث، يتضحْ له صدقُ ادعائي وجِدةُ ما جئتُ به، وإنْ كان ذلك لا يَمنعُ ولا يَجْحَدُ عظيمَ استفادتِي منها، وبنائي عليها، وَفق منهج محكم من التحقيق والتدقيق والمقارنة والنقد في تعاملي معها، على ما في بعضها من أمور آخذها عليها، أو مِن تقليدٍ وترديدٍ لما جاء به غيرُها دونَ نظرٍ فيه ولا نَخْلٍ له ولا إضافةٍ عليه(11).

ولا يفوتني في ختام هذه المقدمة أن أتوجه بخالص شكري وتقديري وعرفاني لأستاذيَّ الكبيرين الجليلين الكريمين: أ. د/ محمد عمارة وأ. د/ عبد الحميد مدكور على ما أبدياه من ملاحظات وتعليقات وتدقيقات وتصحيحات على المسودة الأولى لهذا البحث.

***

المبحث الأول

مفهوم التأويل في اللغة والقرآن والسنة

أولاً: مفهوم التأويل في اللغة(12):

التأويلُ مِن آلَ الأمرُ/ الشيءُ يَؤُول إلى كذا: إذا رَجَعَ وعاد، يقولون: طبختُ النبذ حتى آل إلى الثلث؛ أي رَجَعَ.. والأوْلُ هو الرجوعُ إلى الأصل، والمَوْئِل: المَوْضِعُ الذي يُرجع إليه.. وأَوَّلَ الشيء إليه أي أرجعه، يقال في الدعاء لمن فقد شيئاً: أوَّل الله عليك ضالتك؛ أي ردها وأرجعها.. وأوَّلَ الحُكم على وجهه؛ أي وَجَّهَهُ إلى الوجه الذي هو الصواب.

وآلُ الرَّجلِ: عشيرتُه التي يَرجعُ إليها.. وآلَ جسمُ الرَّجلِ: إذا نَحُفَ؛ أي رجع إلى تلك الحالة.. وآل مالُهُ إلى النصف: إذا رجع.. وكذا آلَ لحمُ الناقة إلى كذا.

والإيالةُ: السياسةُ؛ لأنها مرجع الرعية، ولأن مرجع الرعية إلى راعيها، ولأن السياسة في جوهرها قَصْدُ إصلاحِ الأمر والبلوغِ به إلى المآل/ العاقبة/ المصير الأسلم والأفضل والأصح.

والأوَّلُ مِن الأشياءِ: يَرجعُ إليه ما بعدَه مما تأخَّرَ عنه.

والأيِّلُ – حيوان معروف؛ مِن الوعول- إنما سمي أيِّلاً؛ لكثرة عوده ورجوعه إلى مكان الظل، أو لأنه يؤول إلى الجبال يرجع يتحصن فيها، أو لأنه يؤول إليها عائداً إلى مقره ومبدئه، وراجعاً إلى بيته الذي يأوي إليه، فهي مأواه ومرجعه وعاقبته ومصيره.. إلخ.

والتأويل أيضاً مِن المآل، وهو العاقبةُ والمصير، وهو آخرُ الأمر وعاقبتُهُ – أي ما سَيَرْجِعُ إليه الأمر في النهاية-، يقولون: إلى أي شيءٍ مآلُ هذا الأمر؛ أي مصيرُهُ وعقباه.. وتأويل الكلام هو عاقبته و/أو ما يؤول إليه ويرجع.

ويأتي التأويل أيضاً بمعنى التفسير، وهو ليس غريباً عما سبقه من معانٍ، بل منها ينتح، فالتأويلُ تفسيرٌ؛ لأن المُفَسِّرَ يفكر ويقدر ويتدبر ويراجع مرات ومرات حتى يَخْلُصَ إلى المعنى المراد، ففيه معنى العودِ والرجوعِ؛ وفيه كذلك الرجوعُ باللفظ – سواءٌ حُمل على ظاهره، أو صُرف عنه بدليل- إلى أصل المعنى المبتغى منه.

وأَوَّلَ الكلامَ أي فسره ورده إلى الغاية المرجوة منه؛ أليس في الإرجاع والعاقبة معنى التفسير والبيان والتأويل، أي إرجاعِ الألفاظ والعبارات إلى معانيها المقصودة، أو الوصولِ باللفظ إلى معناه المراد؟!

وتَأَوَّلَ فلانٌ الكلامَ الفلاني: أي نَظَرَ إلى ما يَؤُول – أي يرجع أو يصير- إليه معناه.

وتأويلُ الأمر والنهي: امتثالُ ما يَؤُول إليه الطلب فيهما؛ وهو أن يفعل المرءُ ما أُمر به وأن ينتهي عما نُهي عنه-.

وتأويلُ الخبر: وقوعه وتحققه وحدوثه.

وتأويل الرؤيا هو ما ستؤول إليه؛ إشارةً إلى ما سيؤول إليه الحال مستقبلاً.. وهو أيضاً وقوعُها على الوَجه الذي فُسِّرَت به.

إذن، التأويلُ في لسان العرب – وكما صرَّح أئمة اللغة- هو التفسير والمرجع والعاقبة والمصير.

وخلاصة الخلاصة أن مادة “الهمزة والواو واللام” ترجع إلى أصلين: ابتداءُ الأمرِ (أي الرجوع إلى الأصل والبدايات)، وانتهاؤه (أي العلم بالعواقب والمصائر والنهايات).. أي: الرجوعُ، والعاقبةُ.

ونخلص من هذا التحقيق والبيان المركز إلى أن تأويلَ الكلامِ لغةً يعني: بيانَ الحقيقة التي يؤول إليها الكلام.. يعني: بيانَ حقيقة المراد من اللفظ وإن لم يوافق ظاهره لدليل.. يعني: رَدَّ الكلام وإرجاعَه إلى الغاية المرادة منه علماً (بالفهم والتفسير والبيان) أو عملاً (بتنفيذ المأمور به أو ترك المنهي عنه) أو وقوعاً وتحققاً (بمعرفة حقيقة المُخْبَر به؛ ولا يكون ذلك إلا بوقوعه وتحققه).

إذن – نحن نكرر ونؤكد ونوضح-، تأويلُ الكلام هو رَدُّهُ إلى الحقيقة المرادة منه، “علماً” كان أو “عملاً” أو “وقوعاً وتحققاً”.. ونقصد بالعلم: الفهمَ والتفسير والبيان.. ونقصد بالعمل: تنفيذَ المأمور به أو ترك المنهي عنه.. ونقصد بالوقوع والتحقق: معرفةَ حقيقة المُخْبَر به؛ ولا يكون ذلك إلا بوقوعه وتحققه.

وليس شرطاً – كما أشرنا باقتضابٍ مِن قبلُ- أن تكون الحقيقة المرادة مستفادةً من ظاهر اللفظ فقط، بل قد تُستفاد من معنى يحتمله اللفظ لدليل دل عليه. ولا يُخرجه ذلك عن مسمى الفهم والتفسير والبيان، بل كيف يَخرُج وهو منه؟!

أليس مِن التفسيرِ والبيانِ اتباعُ ما يدل عليه الدليل؟!

أليس بيانُ حقيقة المراد من اللفظ، وإن خالفَ ظاهرَهُ لدليل، هو عين التفسير والبيان؟!

أليس يكون هذا بذلك هو المعنى الصحيح المقصود من اللفظ في ظننا واجتهادنا؟!

لماذا نُمسك عن إطلاق مسمى التفسير والبيان عليه مع أنه صريح اللغة؟!

إن هذا لشيءٌ عُجابٌ تَوَارَدَ عليه عدد غفير من الباحثين والكُتَّاب – طوال الخمسين عاماً الأخيرة- لغرض في أنفسهم، وهو توفير أرضية علمية – غير ذات أساس في ظننا- ينطلقون منها للقدح فيمن لا يذهب مذهبهم في ما يُسمونه بآيات وأحاديث الصفات التي سنقف معها – في دراسة غير هذه الدراسة بإذن الله- وقفة مقتضبة اضْطَّرَّنَا إليها تكرارُ تَعَدِّيهم وقدحهم في مخالفيهم فيها!

أيصل بهم التعصب لآرائهم ولِمَا وجدوا عليه آباءهم إلى هذا المدى؟! أَلأَجْلِ مسألة الصفات – التي جعلوها ديناً مع الدين، بل ديناً فوق الدين، عليها يُعادون ويُوالون، ويٌقسِّمون الناس ويُصَنِّفُون، ويُبَدعون ويُفَسِّقون، ويَصِلُون ويَهْجُرُون- يُرمى الأصوليون ومتأخرو اللغويين – زوراً وبهتاناً- باختراع معنىً اصطلاحيٍ للتأويل لا علاقة له بمعنى التأويل في لسان العرب، مع أنه مشتقٌ رأساً مِن معنى التأويل اللغوي كما أوضحنا، بل كما يتضح لكل من يبحث المسألة بقلب سليم، ودونَ تقديسٍ وإيمانٍ بما وجد عليه مشايخه وبما هو شائع في بيئته العلمية ووسطه الفكري؟!

والله لو صح ما رَمَوْا به الأصوليين ومتأخري اللغويين، ما توانينا عن تأييدهم فيه، فقداسة الإسلام – عندنا- لا تعني بأي حال من الأحوال قداسة من يتناوله، أو يتناول لغته، بالدراسة، لكنْ أن يُرمى الأصوليون ومتأخرو اللغويين بما لم تقترفه أيديهم، فهذا مِن أَفْرَى الفِرَى!

التفسير والتأويل في أصل اللغة يُطلَقَان على ما به يُمكن فهمُ النصوصِ وإدراكُ معانيها، سواءٌ بحمل الألفاظ على ظاهرها أو بصرفها عنه إلى معنى آخر تحتمله لدليل يعضده، فجاء الأصوليون فاصطلحوا على تسمية الأول بـ “التفسير”، والثاني بـ “التأويل”، فكان ماذا؟! وجاء متأخرو اللغويين فنصوا على الثاني في معنى التأويل ضمن ما نصوا عليه فيه، فكان ماذا؟! هل أجرموا؟! هل أحدثوا في دين الله ولغته ما ليس منهما؟!

أليس في الإرجاع والعاقبة معنى التفسير والبيان والتأويل، أي إرجاع الألفاظ والعبارات إلى معانيها المقصودة، أو الوصول باللفظ إلى معناه المراد؟!

وها هو ذا الإمام الجليل ابن تيمية نفسه.. والذي يضعونه بلسان حالهم في كفة، وعلماء الأمة كلهم في كفة أخرى؛ غلواً فيه.. والذي يقدسون كلامه تقديساً في ما يُسمى بآيات وأحاديث الصفات.. نعم، الإمام ابن تيمية أحد أعلام الأمة الكبار، تشهد بذلك حياته فكراً وجهاداً، وبما لا ينكره إلا جاحد أو مكابر، لكنْ هذا شيءٌ والغلو في شخصه ورأيه واجتهاده شيءٌ آخر!

نقول: ها هو ذا الإمام ابن تيمية نفسه يقول – بحق- في أكثر من موضع في كتبه: “التأويل في لفظ السلف له معنيان: أحدهما تفسير الكلام وبيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالفه فيكون التأويل والتفسير متقارباً أو مترادفاً”. [مجموع الفتاوى، 13/ 270].

ويقول أيضاً: “إذا عُلم أن المتكلِّم أراد المعنى الذي يقال أنه خلاف الظاهر، جُعل مِن التأويل الذي هو التفسير؛ لكونه تفسيراً للكلام وبياناً لمراد المتكلم به، أو جُعل من النوع الآخر الذي هو الحقيقة الثابتة في نفس الأمر التي استأثر الله بعلمها؛ لكونه مندرجاً في ذلك، لا لكونه مخالفاً للظاهر” [الصفدية لابن تيمية 1/ 291].

وإن تعجب فعجبٌ فعلُ الإمام ابن تيمية نفسه، أدركَ ما سبق نقلُهُ عنه، ثم حَمَل حملةً شعواء على مَن خالف اجتهاده في مسألة الصفات؛ لأنه ادعى – باجتهاد منه لأدلة علمية رآها- أن الشارع أراد ظاهر معنى آيات الصفات، لكنْ غيرُهُ خالَفَه في ادعائه هذا – اجتهاداً منه لأدلة علمية رآها أيضاً- فكان ماذا؟!

الواجبُ حيال ذلك أمران:

أولهما: النظر المستقل في المسألة. وقد فعلتُ في مبحث منفصل عن هذه الدراسة.

وثانيهما: النظرُ في أدلة كل فريق وتشريحها علمياً ومنهجياً، وقد فعلتُ، وكذلك فعل غيري قديماً وحديثاً؛ ومنهم من مال إلى قول ابن تيمية ومدرسته، ومنهم من مال إلى غيرها، ومنهم من رأى رأياً جديداً – كما ستجده في المبحث المنفصل حيث ينشر- إن شاء الله.

فهل أَجْرَمَ أحدٌ منا جميعاً بذلك – سواءٌ مال إلى ابن تيمية أو إلى غيره أو رأى رأياً جديداً-؟!.. المسألةُ برمتها من محالِّ الاجتهاد يقيناً، إذ ليس فيها نص قطعي الدلالة، وما كان كذلك كان للاجتهاد فيه مدخلٌ وَفق أصول النظر.. ومن ثم، فلا مَحَلَّ لتبديعٍ ولا لتفسيقٍ.. خاصةً وأنَّ الكل جميعاً: يؤمن بنصوص الوحي إيماناً جازماً، ويبتغي – في ذات الوقت- تعظيمَ الله وتنـزيهه؛ كلٌّ بحسب اجتهاده وفهمه للنصوص، ومدى ألمعيته وسقفه المعرفي الذي يتيح إحسان التعامل معها.

ثانياً: مفهوم التأويل في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة

الناظر في موارد لفظ التأويل ومشتقاته في القرآن والسنة يجده يدور حول ثلاثة معان(13)، هي:

* الأول: بيانُ مراد المتكلم، وهذا هو التفسير.

وبتعبير آخر: البيان والتوضيح، أي تفسيرُ الكلام وبيان معناه سواء بموافقة ظاهر الألفاظ أو بحملها على معنى غيره تحتمله لدليل. وبهذا المعنى يكون التأويل مرادفاً لمفهوم التفسير.

ومثاله من سنة رسول الله (ص):

دعاءُ النبي (ص) لابن عباس: “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل”(14).. أي وعلمه التفسير؛ أي هَبْهُ القدرة والملكة على تفسير وفقه دين الله.

* والثاني: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام؛ أي التحقق العيني للدلالة اللغوية؛ أي تحققُ نفسِ المراد بالكلام؛ أي ظهور المُتَكلَّم به إلى الواقع المحسوس:

أ- فإن كان الكلامُ خبراً، كان تأويله وقوعَ المُخْبَرِ به (كمن يقولُ: جاء محمَّدٌ، فتأويلُ هذا الكلامِ مجيءُ محمدٍ بنفسه).

ومثاله:

قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف: 53]، وقوله تعالى: (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) [يونس: 39].. فالتأويل في كلا الموضعين معناه تحقق وعد القرآن ووعيده؛ وعدِه للأبرار بالثواب والنعيم والجِنَان ووعيدِه للكفار والفجار بالعقاب والعذاب والنيران.

وقوله تعالى: (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) [الكهف: 78]، وقوله تعالى: (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) [الكهف: 82].. ومعناهما: سأنبئك بحقيقة ما رأيتَ من الأمورِ العجيبة التي لم تَصبرْ عليها.

وقوله تعالى: (وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً) [يوسف: 100].. فتأويل الرؤيا ههنا هو تحققها على أرض الواقع أمام عيني يوسف عليه السلام؛ (قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً).

وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) [يوسف: 21] وقوله تعالى: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) [يوسف: 101].. فتأويل الأحاديث في كلا الموضعين يعني قدرة يوسف – التي أتاها الله إياه- على الإخبار بالمعنى الحقيقي للأحلام وكيف ستتحقق عملياً على أرض الواقع.

ب- وإذا كان طلباً – أي: أمراً أو نهياً-، كان تأويله أن يُفعَلَ هذا الطلب.

ومثاله من سنة رسول الله (ص):

أخرج البخاري في صحيحه – تحت تفسير قوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 3]- عن عائشة قالت: “كان رسول الله يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهمَّ ربَّنا وبحمدك، اللهمَّ اغفر لي. يتأوَّلُ القرآن”؛ تعني بقولها “يتأوَّل القرآن”: يعملُ ويُطبِّقُ ما أُمِرَ به من التسبيح والتحميد.

وأخرج الطبري – في تفسيره- عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر: أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول الله (ص) كان يفعل ذلك، ويتأوَّل هذه الآية: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله) [البقرة: 115].. وتأويل رسولنا الأكرم لها هو تطبيقها والعمل بها(15).

* والثالث: العاقبة.

ومثاله من كتاب الله:

قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59]، وقوله تعالى: (وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [الإسراء: 35].. أي ذلك خيرٌ وأحسنُ عاقبةً وجزاءً.

ثالثاً: وقفة مع آية سورة آل عمران:

الوقفة الأولى: معنى التأويل الوارد في الآية الكريمة:

وهي قوله تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَنـزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب) [آل عمران: 7].

ولفظَ التأويل في الآية الكريمة يحتمل وجهين، كلاهما صحيح، ونقول بهما معاً في تفسير الآية:

الأوَّل: أنَّ التأويل بمعنى التفسير، وبهذا يكون الراسخون في العلم يعلمون تأويلَ القرآن، أي: تفسيره؛ لأن الله لم يجعل في كتابه ما لا يُعلَم معناه، وإلا كان عبثاً يتنـزه العاقلون عنه، فكيف بواهب العقل؟! أرأيتَ إن نَشَرَ امرؤ كتاباً وَوَضَعَ فيه ما لا يمكن أن يَعلم معناه القراءُ أجمعون، ماذا نقول فيه؟!.. ثم إن الله ما فتئ يصف قرآنه بأنه (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ).. (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).. (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ).. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ).. إلخ.. فهل من التيسير للذكر أن يُنـزلَ كلاماً لا يُعلم معناه بحال؟! وهل يصح أن يُوصَف كلامٌ، أيُّ كلامٍ، بأنه عربيٌّ مبينٌ وفيه ما لا يُمكن أن يُعلم معناه بحال؟! وكيف يُعقَل القرآن – (قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2]- وفيه ما لا يُمكن أن يُعقل أصلاً لاستحالة معرفة معناه؟!.. تعالى الله القدوس الحكيم عن ذلك علواً كبيراً(16).

ويكونُ الوقفُ في الآية – بناءً على ما سبق- على قوله تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(17)، وتكون الواو عاطفةً.. ولكنْ انتبه!؛ العطف يقتضي المغايرة؛ فلا تجعل عِلْمَ البشرِ تأويلَ المتشابهات كعلم الله بها؛ ففارقٌ بين العلم النسبي الجزئي القاصر الناقص، والعلم المطلق الكلي المحيط الكامل؛ فارقُ ما بين علم البشر وعلم الله!

لكنْ، لا يعني هذا الإمساك عن التفسير؛ لأن الله إنما كلفنا بما نستطيع – (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)..( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).. (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).. إلخ- .. ولأن النسبية في هذا الميدان هي نسبيةُ التدرج في الكد والبحث والاجتهاد والتدبر وإعمال العقل، ونسبيةُ التدرج في الإدراك: وفقاً لاتساع المعارف وتراكم الاجتهادات ومرور الأزمان.. ولكل ذلك كان الباب مفتوحاً – ولا يزال، وسوف يظل؛ فمن يجرؤ أن يغلق باباً فتحه الله؟!- أمام الراسخين في العلم لفقهِ وتفسيرِ وَحْيِ الله، وتأويلِ ما تشابه منه، كلٌّ وَفْق أصول النظر.

الثَّاني: أنَّ التأويل بمعنى ما تؤول إليه حقيقةُ الأشياء التي استأثر الله بعلمها، وهي المغيبات (= عالَم الغيب)؛ كيفياتها ووقت وقوعها وكنهها – مِن مِثل ميعاد موت المرء (أَجَلُ كل إنسان) وما أخبر عنه الله من أخبار القيامة وأشراطها، ومن أحوال الآخرة، وغيرِ ذلك من المُغيَّبات-.. وكثيراً ما يضربُ القرآنُ الأمثالَ للعقل على شيء من هذه المغيبات؛ ليكتفي بهذه الأمثال في التصورات الإيمانية لها، وليُشبع بها نهمه إلى معرفتها، وليقفَ دونَ حدودِ كُنه حقائقها ومآلاتها، أو كيفياتِها أو أوقاتِها، تاركاً ذلك كله لصاحب العلم المطلق والكلي والمحيط، جل في علاه.

ويكونُ الوقفُ في الآية – بناءً على ما سبق- على لفظ الجلالةِ من قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله)، وتكونُ الواو مستأنفةً، أي أنَّ جملةَ: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم) جملةٌ مستأنفةٌ.. وكيف لا، ومنهاجُ النظر الإسلامي يميز – بحق- بين المطلق والنسبي؛ فيَقْصِرُ الإطلاق على الذات الإلهية، ويضع ملكات الإنسان وصفاته في إطار النسبي؛ فعالم الغيب قد استأثر الله بعلمه – إلا ما أخبرنا به عنه- فلا يمكن بحال ادعاء معرفته.. ولو اتَّكَأْتَ على العقل في إدراك كنه وجوهر وكيفيات ومآلات الغيب: ما أسعفك أبداً، بل لأوردك المهالك بشطحاته وظنونه وأوهامه؛ لنسبية إدراكه وقدراته في هذا الميدان.

إن من نعم الله علينا أن جعل العقل هو الذي يدرك بنفسه عجزَه وقصورَه عن إدراك بعض – أو أكثر- ما حوله (ذواتاً أو ماهيات)، وبذلك عرفنا عجز العقل بالعقل نفسه، فكان هذا أشد إقناعاً وألزمَ حجةً.. العقل، على عظمته وضرورته، إنما قصاراه – في كثير من الأحيان، بل في أغلب الأحيان- أن يدرك الأعراض والظواهر والخصائص والآثار، أما إدراك الكنه واليقين فسبيله الإيمان والعلم الإلهي الكلي والمطلق والمحيط(18).. ولذلك اختُص المنهاج الاسلامي في المعرفة بتزامل وتكامل آيات الله في كتابيه: كتاب الوحي المسطور وكتاب الكون المنظور.. واختل هذا التوازن في معارف الحضارات التي أخذت بشق منهما دون الآخر؛ فغرق البعض في «المادية» وحدها، واستغرق آخرون في «الباطنية» دون سواها!

نعم، العقل ميزان صحيح، وأحكامه القطعيةُ يقينيةٌ لا كذب فيها، غير أنك – كما ذكر ابن خلدون في مقدمته- لا تطمع أن تَزِنَ به كلَّ ما وراءَ طوره أو أن تعلم به ما يفوق حدود معرفته؛ فللعقول في إدراكها حدودٌ تنتهى إليها لا تتعداها؛ إذ ليس للعقل سبيلٌ إلى إدراك كل مطلوب(19).

خلاصة:

لفظُ التأويل في لسان القرآن – وفي لسان العرب كما أوضحنا كلا الأمرين مِن قبلُ- معناه الحقيقة التي يؤول إليها الخطاب؛ سواءٌ:

أ- بإدراك معنى الكلام (فيكون التأويل ههنا بمعنى التفسير والتدبر والعقل والفقه؛ أي معرفة المراد بالكلام).

ب- أو بالإيمان الإجمالي به دونَ خوضٍ في كنهه أو كيفيته (فيكون التأويل ههنا مما انفرد الله بعلمه؛ إذ حقيقة الكلام لا يعلمها إلا هو).

الوقفة الثانية: علاقة “المتشابه” بـ “التأويل” من خلال آية آل عمران.

أولاً: إنما سَمَّى الله المحكمات أماً للمتشابهات؛ لأن المتشابهات إذا أشكل أمرها رُدت إلى المحكمات فعُرف تأويلها، كما تُرد البنت إلى الأم فيُعرَف نسبها.

وخَصُّ الأمِّ بالذكر دونَ غيرها؛ لأنها التي يُعلَم كونُ الولد منها قطعاً.. ومن ثم، فإن المُحكمات دون غيرها هي التي يُعلم معنى المتشابهات منها.

والمتشابهات: منها ما يُعلم برده إلى المحكم، ومنها ما لا يُعلم مطلقاً؛ لانغلاق باب المعرفة به. وسيأتي تفصيل الكلام على كلا النوعين.

ثانياً: إذا كان التأويل بمعنى التفسير، فإن المتشابه يتعلق بأمر يمكن أنْ يَعْلمه الناس، وهو المعنى، فإذا خفيَ على بعضهم شيء من معناه، أو التبس، فهو بالنسبة لهم متشابه، ويكونُ من باب “المتشابه النسبي” الذي يَعْلمُه قومٌ دون قوم.

وليس الوقوعُ في المتشابه النسبي مشكلاً، إذ لا يَسْلمُ أحدٌ منه، أليس يمكن أن يخفى أو يلتبس على المرء كثيرٌ من المعاني؟! فما كان خافيًا عليه أو ملتبساً عنده، كان بالنسبة له متشابِهاً.

لكن إن عمدَ إلى الآياتِ، وحَرَّفَ مدلولها، أو عمد إلى قضيَّةٍ كلية، عقدية أو تشريعية، وأخذ بجزء من آياتها التي توافق مُعتقدَه أو مذهبه أو هواه، وحرَّف الآيات الأخرى، أو أهملَها قَصْدَ الزَّيغ والفتنة والتحريف، كان مذموماً بنص الآية.

ثالثاً: إذا كان التأويل بمعنى ما تؤول إليه حقيقةُ الشيء، فإنَّ المتشابه يتعلق بأمر لا يمكن أنْ يَعْلَمَهُ النَّاسُ، وهو ما تَؤُولُ إليه حقائق الأشياء التي ذكرها الله في القرآن أو ذكرها رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يتعلَّقُ بالغيبيَّاتِ، وهذا النَّوعُ هو “المتشابِه الكلي”، الذي يستوي الناس جميعاً في عدمِ إدراكِه، ويتعلق بأمرين: وقتِ الوقوعِ، وكيفيَّةِ ما يقعُ من المغيَّباتِ، الأول كوقت خروجِ الدَّابَّةِ، ونـزولِ عيسى عليه السلام، ووقت قيام الساعة، والثاني ككيفيات كثير من الغيبيات التي لم يُطلِع الله عبادَهُ عليها، ككيفية الدابة التي تخرج في آخر الزمان، وكيفية حساب الله للناس يوم القيامة، وكُنْهِ وكيفية نعيم الجنة، وكنه وكيفية عذاب النار، وكيفيات صفات ما وصف الله به نفسه(20)، وغيرِها من الكيفيات.

وتطلُّبُ هذا القسمِ زيغٌ، لأنه مما استأثر الله بعلمه، ولم يُرِدْ أنْ يُطلِعَ عبادَه عليه، فمن تعرَّض إلى تأويله، فقد افترى على الله، وقال عليه بغير علم.

وإذا تبين هذا، عُلِمَ أن الله لم يخاطبْ عبادَه في كتابه بما لا يعلمون معناه، أما ما يتعلق بحقائق بعض المُغيَّبات من وقت وقوعها أو كيفيتها، فإنها موجودة في القرآن، نعلم معناها ولا ندرك كنهها – وإنما نُدرك معناها الإجمالي- ولا كيفياتها؛ والكنه والكيفية خارجان عن حد المعنى كما هو بَيِّنٌ.. ومثالُ ذلك قوله تعالى: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُون) [النمل: 82].. فمعنى الدابة معروف، وهي الحيوان الذي يدب على الأرض، وهذا هو التفسير.. لكنْ متى تخرج؟ وكيف تخرج؟ وما أوصافها (ما كُنهها)؟ كلُّ هذا من الغيب الذي استأثرَ الله بعِلمِه، فهو من “المتشابه الكلي” الذي يُوكَل علمُه إلى الله سبحانه وتعالى.

المبحث الثاني

ضوابط التأويلِ الإسلامي

على من يريد خَوْضَ غِمارِ التأويل(21) واقتحامَ لُجَّةِ الاجتهاد أنْ يعلمَ ما اشترطه الإسلام – فيما انتهى إليه اجتهادي- في ذلك مِن:

أولاً- أهلية المُؤوِّل/ المتأوِّل للاجتهاد، باستجماعه شروطَ المجتهد

– إذ التأويلُ نوعُ اجتهاد، بل هو أحدُ أكبرِ ميادينه؛ لأنه اجتهاد في فهم النصوص وبيان مرادها، في ظننا وكما ظهر لنا- وإلا كان قولاً على الله بغير علم، والله يقول: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء: 36]، ويقول جل في علاه: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83]؛ يستنبطونه أي يستخرجونه، وإنباط الماء هو استخراجه من باطن الأرض؛ إذن لابد من الغوص في أعماق النصوص لاستخراج المعنى المراد، والله لم يقل: “لعلمه الذين يسمعونه – أو حتى يفهمون معاني كلماته- منهم”، بل قال: “لعلمه الذين يستنبطونه منهم”.

وشروط المجتهد(22) هي(23):

(أ) الشروط العلمية:

(1) القدرة الذاتية على الاستنباط المباشر للأحكام من أدلتها، بحصول ملكة (يمن الله بها على من يشاء من عباده، وينميها طلبُ العلم، والسعيُ في تحصيله، ودرسُه ومدارستُه) تُمَكِّنُ من ذلك (وهذا لا ينفي جواز اتباعه لرأي مجتهد آخر في مسألة لم يصل فيها بعدُ إلى حكم، أو يستقر فيها على رأي. ولاحظ أني قيدتُ الجواز بـ “الاتباع” لا “التقليد”؛ إذ بالأول يُعرف مُرتكز ومُنطلق ومأخذ الرأي الذي اتبعه، أما الثاني فإنما هو محض الانقياد على غير بينة ولا بصيرة).

(2) العلم بـ، والفقه في، المبادئ والمقدمات الأساسية لـ: علوم القرآن، وعلوم المصطلح والجرح والتعديل، مع القدرة على الاجتهاد في مسائلها التي لها وجه مساس بالمسائل محل الاجتهاد من المجتهد

(3) العلم بـ، والفقه في، قواعد وأسس اللغة العربية (علوم: النحو والصرف والمعاني خاصة).. والحذق للسان العرب (بكثرة التردد على التراث العربي، وبالقدرة على البحث فيه وفي معاجمه).. مع القدرة على الاجتهاد في مسائل العربية ولسان العرب التي لها وجه مساس بالمسائل محل الاجتهاد من المجتهد.

(4) التمكن التام من علوم: أصول الفقه.. والنظريات والقواعد الفقهية.. وفقه المقاصد وقواعدها وطرق استنباطها وكيفيات إعمالها وتفعيلها.. وفقه الأولويات.. وفقه الموازنات.. وفقه السنن الكونية.. وفقه الاختلاف (آدابه – قواعده – أسبابه – مجال الاجتهاد ونطاقه – معرفة مواضع الاختلاف بين العلماء قديمهم وحديثهم؛ وذلك إنما يتأتى بسعة الاطلاع – مع الإلمام بتاريخ ومدارس ومناهج التفسير والفقه).. وفقه الواقع (أي معرفةُ الواقع القديم بدراسة التاريخ والوعي به.. ومعرفةُ الواقع المعاصر وتأملُه، وملاحظةُ ما يجري فيه من أحداث، وملاحظةُ عادات الناس، والدرايةُ بشبكات العلاقات وقواعد التعامل السارية في جسد الواقع، والدرايةُ بعلاقة مجتمع المجتهد بالمجتمعات الأخرى، ومدى تأثيره فيها، وتأثره بها.. وفهمُ ثقافةِ العصر وروحهِ، ومعرفةُ ما يمور به من تيارات وأفكار وتطلعات.. ودراسةُ مبادئ العلوم “الإنسانية” و”الكونية”).. مع القدرة على الاجتهاد في مسائل تلك العلوم كافة (باستثناء العلوم “الإنسانية” و”الكونية”؛ إذ يُرجَع فيها لأهل الاختصاص إذا لم يكن المجتهد أهلاً للكلام في أي منها – وهو الأعم الأغلب-).

(5) فقه وتدبر القرآن الكريم (مع ضرورة وجود منهج للمجتهد، مُؤسَّسٍ على جميع ما سبق ومُنبثقٍ عنه، في كيفية التعامل مع القرآن؛ فهماً وتفسيراً واستنباطاً.. نعم، “بعض” مسائل هذا المنهج موجودة في أصول الفقه ولها وَجْهُ مساس به، ولكنك لا تجد “كثيراً” منها – إن لم نقل “أكثرها”- فيه).

(6) فقه وتدبر السنة النبوية المشرفة (مع ضرورة وجود منهج للمجتهد، مُؤسَّسٍ على جميع ما سبق ومُنبثقٍ عنه، في كيفية التعامل مع السنة؛ فهماً وتفسيراً واستنباطاً.. نعم، “بعض” مسائل هذا المنهج موجودة في أصول الفقه ولها وَجْهُ مساس به، ولكنك لا تجد “كثيراً” منها – إن لم نقل “أكثرها”- فيه).

(ب) الشروط الخُلُقية:

(7) العدالة والاستقامة والصلاح؛ إذ الفاسقُ لا يمكن أن يُؤتمن على شرع الله ودينه؛ وكيف نأخذ الحكم الشرعي مِن فم مَن لا يلتزم بالشرع؟!

(8) التقوي والأمانة والورع؛ حتى لا يبيع دينه بدنياه.

2- أن يكون للاجتهاد في النص(24) مدخلٌ، والتأويلُ نوعُ اجتهاد كما سبق.

وإلا فإن أمورَ الغيب – وهي بطبيعتها مما لا قدرة للعقل البشري على الخوض فيها أو في كنهها، فيجب فيها التصديق والتسليم والإذعان (لأن الإسلام لا يُخبر فيها بما يحيله العقل، وإنما بما يفوق إدراكه، وما كان كذلك وَجَبَ فيه ما سبق، لا إعمالَ مِبْضَعِ التأويل في جسده)، مِثلَ أمور الساعة والآخرة والجنة والنار والصراط والحوض- وثوابتَ العقيدة والشريعة(25) – أقصدُ النصوصَ المُحكمات (= قطعيةَ الدلالة = الصريحة)، فقطعيتُها تنفي الاحتمال، ومن ثم ليس للتأويل من سبيل إليها؛ لأنها بَيِّنَة بذاتها(26)، وإلا كان الأمر خروجاً على العدل وتحريفاً صريحاً لمراد الشارع – لا مدخلَ للاجتهاد فيها.

نعم، كثيرٌ من الألفاظ واضحٌ في الدلالة على المعنى المراد، لكنَّ وضوحَها هذا واقعٌ ضمنَ حدود الاحتمال الذي قد ينتفي عنها تماماً – بحيث تصيرُ دلالتُهَا محكمةً (= قطعيةً) لا مدخل للتأويل فيها مطلقاً- بأمر واحد لا ثاني له، وهو دلالة بَيِّنَات أخرى من الشرع تفيد نفي الاحتمال عنها، فتصير بذلك محكمةً (= قطعيةَ الدلالة)، لا لذاتها وإنما بواسطة. فتصيرُ إرادةُ الشارع من هذه الألفاظ، بدلالة بيناته الأخرى التي أفادت نفي الاحتمال عنها، قطعيةً، تامةَ الوضوح والتفسير، لا يتطرق إليها احتمالٌ بحال.

وخلاصة هذا أن قطعية الدلالة قد تَنْبُع من ذات دلالة الألفاظ (= قطعي بذاته) أو تُكتَسَب من خارجها (= قطعي بغيره) (27).

وههنا تنبيه: نعم، وكما سبق القولُ، كثيرٌ من الألفاظ واضحٌ في الدلالة على المعنى المراد، لكنَّ وضوحَها هذا واقعٌ ضمنَ حدود الاحتمال، ولكنَّ ذلك لا يُجيز بحالٍ صرفَهَا عن دلالتها الواضحة تلك (= ظاهر الألفاظ) إلا بدليل/ قرينة؛ فـ “غيرُ جائزٍ تركُ الظاهر المفهوم إلى باطنٍ لا دلالة على صحته”، وإلا اضطربت حياة الناس بما لا سبيل إلى الشفاء منه؛ لاضطراب المنظومة اللغوية التي يؤدون بها أغراضهم، فكيف الحال إذا كان التشريع الذي يتحاكمون إليه كذلك أيضاً؟!(28).

3- الأصل حمل الكلام على معناه الظاهر(29)؛ إذ هو ما تدل عليه اللغة بأصل وضعها(30).

ومن ثم، لا يجوز العدول عنه بالتأويل(31) إلا لدليل – سيأتي تفصيلُ أمرِهِ في الفقرة رقم 8-، وإلا بطلت الثقة باللغة ومهمتها، وصار الأمرُ محضَ عبثٍ وإضلال؛ فإن اللغة أساس التفاهم بين الناس، فإذا لم تكن لألفاظها وتراكيبها قواعد ودلالات مُعَيَّنة يَفهم بها الناسُ بعضُهم عن بعض في أمور دينهم ودنياهم، استحالَ الأمرُ فوضى، وأضحَى لكل امرئ الحقُّ في أن يُفَسِّرَ ما شاء بما شاء، وأن يَتحدثَ بما شاء يقصدُ به ما شاء. وهذا جميعُهُ خارجٌ عن حدود العقل.

4- استهدافُ/ تغيي التوفيقِ – أي تحقيق الانسجام- بين النصوص المشكلة؛ برفع التعارض الظاهري(32) بين بعضها البعض، أو بين ظاهر النص وكليات الشريعة ومقاصدها ومقرراتها، أو بين ظاهر النص وصريح العقل أو قطعي العلم أو مؤكد الواقع(33).

وذلك الرفعُ(34)– بشرط وجود دليل يُرَجِّحُه كما سيأتي بيانه- يكون بـ: تخصيصِ العام، أو تقييدِ المطلق، أو حملِ اللفظ على معناه المجازي أو الشرعي أو العُرفي(35)، أو حملِهِ على أحد المعاني عند الاشتراك، أو حملِ الكلام على الإضمار، أو حملِ الأمر على غير الوجوب (أي على الندب أو الإرشاد)، أو حملِ النهي على غير التحريم (أي على خلاف الأَوْلَى أو على الكراهة والتنـزيه)، أو إدارةِ أحكام النصوص مع عللها وحِكَمِها ومقاصدها حيث دارت وإحسانِ تنـزيلها وتحقيقِ مناطها، أو غيرِ ذلك من الطرق العلمية، كلٌّ في حدود ما تجيزه أصول النظر ويجري على القواعد.

مع الحذر من أن يؤدي الجمعُ بين النصوص بالتأويل إلى بطلان/إبطال نصٍّ منها أو جزءٍ منه(36).

5- ألا يصادمَ التأويلُ الذي يُصار إليه نصاً دينياً مُحكَماً (قرآناً كان أو سنة) ولا أصلاً قطعياً – إلهياً (= دينياً؛ أي أياً من مقررات الإسلام) كان هذا الأصلُ أو عقلياً أو علمياً-، وإلا أمسى فاسداً مردوداً لا اعتبار له ولا قيمة.

6- أن يكون اللفظ المراد تأويله قابلاً للتأويل، بأن يكون محتملاً لذلك لغةً، وإلا صار الأمر عبثاً. ويُقال ههنا ما قلناه عن اللغة تحت رقم 3 تماماً بتمام.

7- أن يوافق المعنى الذي أُول إليه النصُّ أحدَ الاستدلالات التالية:

أ‌- الوضعَ اللغوي للألفاظ(37).

ب‌- الحقيقةَ الشرعية لها – أقصدُ المستعملةَ في الكتاب والسنة(38)-.

ت‌- الحقيقةَ العرفية لها – أقصدُ وقتَ نـزولِ القرآن؛ لأن ألفاظ الوحي، قرآناً وسنةً، لا يجوز حَملُها على اصطلاحات حادثة بعد عهد التنـزيل؛ لأنها، والحالُ كذلك، ليست مرادةً بها ولا مقصودةً منها؛ إذ لم توجد في عصر التنـزيل-.

وبتعبير آخر: أن يرجع المُؤَوَّلُ به إلى معنى صحيح في الاعتبار؛ أي موافقٍ لوضع اللغة، أو عرف الشارع، أو عرف الاستعمال وقتَ نـزول القرآن.

8- أن يستندَ التأويلُ إلى دليل صحيح يجيز، أو يوجب(39)، صرفَ اللفظ عن معناه الظاهر إلى غيره(40)، فـ “غيرُ جائزٍ إحالةُ الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان”، وإلا آل الأمر إلى اتباع الأهواء والظنون الباطلة. والعقلُ والشرعُ على خلاف ذلك(41).

وأن يكون ذلك الدليل أقوى من هذا الظاهر، وإلا آل الأمر إلى اتباع الظنون المرجوحة(42). والعقلُ والشرعُ على خلاف ذلك أيضاً.

والأدلة (= القرائن) التي تصلح أن تكون مُرَجِّحًَا، كلٌ بما تحتمله دلالة الألفاظ كما أكدنا ونؤكد، هي(43):

أ‌- سباقُ وسياقُ النص ذاته (أي نَظْم الكلام وعموده)؛ إذ كثيراً ما يرفع الاحتمال ويزيل الالتباس(44)؛ فإن السباق والسياق مُبَيِّنُ لإرادة المتكلم ومُفصحُ عن قصده.

ب‌- نصٌ آخر من الكتاب أو السنة(45)، سواءٌ كان خَفِيَّ الدلالة لا يُتوصل إليها إلا بالاستنباط والتدبر وإحسان الفهم، أو ظاهرَ الدلالة – ولا دليلَ يُعضدُ صرفَهُ عن ظاهره-، أو مُحكَمَهَا.

ت‌- مقاصدُ(46) ومحاور السورة القرآنية التي بها الآية محل البحث. ولا يكون ذلك إلا باعتماد مبدأ الوحدة البنائية في السورة القرآنية – أي التفسيرِ الموضوعي لها-.

ث‌- أصلٌ من أصول الإسلام؛ مقاصدُه العامة، وكلياتُه الأساسية، وثوابتُه المطلقة. وبتعبيرٍ آخر: كلياتُ الشريعة(47) الأساسية ومقاصدها ومبادئها وثوابتها وقواعدها والمصالح التي أرشدت إليها(48)، أيْ جملةُ مقرراتِها.

ج‌- مقاصدُ النصوص الجزئية – أقصدُ عينَ الآية أو الحديث محلِ البحث والتأويل- وملابساتُها المحيطة بها ومناسباتُ نـزولها/ ورودها وعللُها وحِكَمُها المنصوصةُ والمستنبطة؛ لأن كل نص ديني، قرآناً كان أو سنة، يستهدف، ولا بد، تحقيقَ مقصدٍ إلهي شريف. ومن ثم، وجب أن يُعّيَّن ذلك المقصد، وأن يُجرى على أساسه فهم النص وتنـزيله.

وعلى المتدبر للنص الديني استفراغُ وسعه في التدبر للكشف عن مقاصده وعلله وحكمه من خلال آليات الكشف والاستنباط المعروفة. وقد يُستنبط المقصد/ العلة/ الحكمة من عينِ النص محل البحث، أو من سياقهِ، أو بالنظر والتفكر والتدبر فيه(49)، أو من خلال النقطة التالية، وهي:

ح‌- ما دلت عليه القراءة الشمولية للنصوص ذات الصلة مِن معانٍ ومقاصد وحِكَم وغايات مرادة للشارع.

أي – بتعبير آخر-: ما دل عليه وأرشد إليه استقصاءُ واستقراءُ واستنطاقُ ودراسةُ وتدبرُ كافة النصوص ذات الصلة بالنص محل البحث والتأويل؛ بردِّ بعضها إلى بعض، واعتمادِ التفسير الموضوعي لها، والوحدةِ البنائية الكامنة في جميعها؛ تجنباً لقراءة التعضية، أي الفهم الجزئي السطحي المتسرع الخاطف.

يقول تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل: 4]؛ و”الرَّتْلُ” في اللغة: “حسن تناسق الشيء وانتظامه على استقامة، وهو الصف على نسق معين”. ومواضيع الوحي – قرآناً وسنة- ومقاصده وأهدافه ومحاوره قد جاءت متفرقة فيه طولاً وعرضاً؛ فلا يُفهَم أو يُؤَوَّل الموضوع الواحد منها دونما ترتيل لمختلف الآيات أو الأحاديث الواردة حوله؛ بجمعها ونَظْمها وصَفِّها وفهمها وَفْق نسق مرتب محكم.

خ‌- ما دل عليه الحس والعقل – أقصدُ العقلَ المؤمنَ المُسَدَّد-؛ إذ دلالات الألفاظ على المعاني ليست مُرادةً لذاتها (أي ليست ذاتيةً)، وإلا كانت دالة عليها قبل المواضعة – على المعنى الذي شرحناه للمواضعة-، وإنما دلالاتُها تابعةٌ لقصد المتكلم وإرادته، ونحن نعلم بالضرورة أن المتكلم، وهو هنا الله ورسوله، لا يريد الدلالة على ما هو مخالف للحس أو لصريح العقل(50).

د‌- ما دل عليه قطعيُّ العلم أو مُؤَكَّد الواقع (أقصد الحس). ويُقال فيه ما قد قيل في سابقه تماماً بتمام.

إذن، لو أُريدَ قصرُ العام على بعض أفراده، أو تقييدُ مطلق، أو حملُ اللفظ على معناه المجازي لا الحقيقي أو الكنائي لا الصريح، أو غيرُ ذلك من ضروب التصرف العلمي، لدليل يعضده ويرجحه، فهو تأويل صحيح(51).

وخلافُ ذلك لا يكون إلا افتئاتاً على الشرع وتكسيراً لعظام اللغة ودلالاتها، وليَّاً لعنق النص أو تحميلاً له أكثر مما يحتمل.. فلا تأويل للشرع إلا بما أرشد إليه الشرع أو أذن به.. والقرينةُ – أقصدُ المستمدةَ من الشرع أو المتكئةَ عليه أو المُرشَدَ إليها مِن قِبَله؛ كما سبق بيانه في المتن والهوامش- بيانٌ منه على عدم إرادته ظاهرِ النص. وافتقادُها مانعٌ من التأويل مُحَرِّمُ له، وإلا نَسَبْنَا إلى الشارع ما لم يَنْسُبه لنفسه، وأَدْخَلْنَا فيه ما ليس منه، وهذا بهتان عظيم؛ (قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ) [يونس: 59].

9- أن يكون التأويل الذي يُصار إليه منسجماً وملتئماً ومتماشياً مع السياق الذي ورد فيه النصُّ موضعُ التأويل (أي أن يكون متماشياً مع نظم الكلام وعموده)؛ إذ قد يكون المعنى المُؤَوَّل إليه صحيحاً في نفسه، ولكن النص بسياقه – أي بنَظْمِه وعموده- يَلْفُظُهُ، أو بالأقل: لا يدل عليه ولا يرشد إليه.

تنبيه عام هام:

كافةُ ضوابطِ التأويل السابقِ ذِكرُها، جائزٌ، بل واجبٌ، إعمالُهَا في كلِّ نصٍّ محتمِلٍ للاجتهاد، عقدياً كان النصُّ أم شرعياً فقهياً؛ أليستْ ضوابط لفهم نصوص الشرع كلِّها – أعني ما يحتمل الاجتهاد منها-؟!

***

ويمكن إجمال ما تقدم من ضوابط التأويل – مع مراعاة ما سبق من تفصيلات- في الآتي:

1- أهلية المؤوِّل للاجتهاد – والتأويلُ نوعُ اجتهاد، بل هو أحدُ أكبرِ ميادينه-، باستجماعه شروطَ المجتهد.

ويمكن إجمال شروط المجتهد في الآتي:

– وجودُ الملكة (أي القدرة الذاتية على الاستنباط المباشر للأحكام من أدلتها) وهي هِبَة ومِنحة ومِنَّة مِن الله يَمُنُّ بها على مَن يشاء مِن عباده.

– والتمكنُ من المبادئ والمقدمات الاساسية لعلوم القرآن والسنة واللغة.

– وإدامةُ النظر والتفكر والفقه والتدبر في القرآن والسنة.

– والعلمُ بفقه السنن الكونية وفقه الواقع وأحوال العصر.

– معَ وجود منهجية في الفهم والتفسير والاستنباط (تشملُ ضمنَ ما تشمل، وتتطلبُ، التمكنَ من: أصول الفقه، والنظريات والقواعد الفقهية، وفقه المقاصد والأولويات والموازنات، وفقه الاختلاف).

– معَ التحلي بالاستقامة والتقوى.

2- قابلية النص للاجتهاد: بألا يكون من أمور الغيب – وهي بطبيعتها مما لا قدرة للعقل البشري على الخوض فيها أو في كنهها، مِثلِ أمور الساعة والآخرة والجنة والنار والصراط والحوض- أو من ثوابت العقيدة والشريعة – وهي الأمور قطعية الدلالة؛ ففيم الاجتهاد إذن والقطعية تنفي الاحتمال؟!-؛ إذ لا مدخل للاجتهاد في أي من ذلك.

وقابلية اللفظ للتأويل، بأن يكون محتملاً لذلك لغةً؛ أي بأن يكون ظاهراً فيما صُرف عنه، محتمِلاً لما صُرف إليه.

و”الظاهرُ” هو ما يتبادر إلى الفهم لأول وهلة بمجرد سماع الكلام.

و”الصرفُ” لا يجوز أن يقع إلا لدليل يُعضِّدُه ويُرَجِّحُه سيأتي بيانُ أمرِه.

3- أن يرجع المُؤَوَّلُ به (= التأويل) إلى معنىً صحيحٍ في الاعتبار؛ أي موافقٍ لوضع اللغة، أو عرف الشارع، أو عرف الاستعمال وقت نـزول القرآن.

4- أن يكون الدليل المعضِّدُ/ المُرَجِّحُ حجةً/ راجحاً في نفسه. وهذا الدليل هو القرينة.

● والقرائن منقسمة، باعتبار موقعها المكاني من النص، إلى:

أ‌- متصلة: سياق النص ذاته، أو مقاصده وعلله وحِكَمه المرادة منه.

ب‌- ومنفصلة: نصوص أخرى غير النص محل التأويل، أو مقاصدها وعللها وحكمها المرادة منها.

● ومنقسمة، باعتبار موقعها المعنوي من النص، إلى:

أ‌- مقالية: جاء ذكرها ضمن سياق ورود النص محل التأويل، أو ضمن سياق النصوص الأخرى.

ب‌- وحالية: مستنبطةٍ – وفق آليات الاستنباط المعروفة- من سياق النص محل التأويل، أو من مناسبة نـزوله أو سبب وروده أو مقتضيات الأحوال التي لابسته، أو من النصوص الأخرى وسياقاتها وأهدافها ومقاصدها، أو من مقاصد الشريعة العامة وكلياتها الأساسية وثوابتها المطلقة، أو أن تكون مما دل عليه قطعيُ العلم أو مؤكدُ الواقعِ – أقصدُ الحسَّ- أو العقلُ – أقصدُ العقلَ المؤمنَ المُسدَّد-.

ويُمكن بتقسيمٍ آخَر حصرُ القرينة في الآتي – على التفصيلِ السابقِ وُرُودُهُ فيها من قبل-:

أ‌- سباقُ وسياقُ النص ذاته (أي نَظْمُ الكلام وعموده)؛ إذ كثيراً ما يرفع الاحتمال ويزيل الالتباس.

ب‌- نصٌ آخر من الكتاب أو السنة، سواءٌ كان خَفِيَّ الدلالة لا يُتوصل إليها إلا بالاستنباط والتدبر وإحسان الفهم، أو ظاهرَ الدلالة – ولا دليلَ يُعضدُ صرفَهُ عن ظاهره-، أو مُحكَمَهَا.

ت‌- مقاصدُ ومحاور السورة القرآنية التي بها الآية محل البحث.

ث‌- أصلٌ من أصول الإسلام؛ مقاصدُه العامة، وكلياتُه الأساسية، وثوابتُه المطلقة. وبتعبيرٍ آخر: كلياتُ الشريعة الأساسية ومقاصدها ومبادئها وثوابتها وقواعدها والمصالح التي أرشدت إليها، أيْ جملةُ مقرراتِها.

ج‌- مقاصدُ النصوص الجزئية – أقصدُ عينَ الآية أو الحديث محلِ البحث والتأويل- وملابساتُها المحيطة بها ومناسباتُ نـزولها/ ورودها وعللُها وحِكَمُها المنصوصةُ والمستنبطة؛ لأن كل نص ديني، قرآناً كان أو سنة، يستهدف، ولا بد، تحقيقَ مقصدٍ إلهي شريف. ومن ثم، وجب أن يُعّيَّن ذلك المقصد، وأن يُجرى على أساسه فهم النص وتنـزيله.

وعلى المتدبر للنص الديني استفراغُ وسعه في التدبر للكشف عن مقاصده وعلله وحكمه من خلال آليات الكشف والاستنباط المعروفة. وقد يُستنبط المقصد/ العلة/ الحكمة من عينِ النص محل البحث، أو من سياقهِ، أو بالنظر والتفكر والتدبر فيه، أو من خلال النقطة التالية، وهي:

ح‌- ما دلت عليه القراءة الشمولية للنصوص ذات الصلة مِن معانٍ ومقاصد وحِكَم وغايات مرادة للشارع.

أي – بتعبير آخر-: ما دل عليه وأرشد إليه استقصاءُ واستقراءُ واستنطاقُ ودراسةُ وتدبرُ كافة النصوص ذات الصلة بالنص محل البحث والتأويل.

خ‌- ما دل عليه الحس والعقل – أقصدُ العقلَ المؤمنَ المُسَدَّد-.

د‌- ما دل عليه قطعيُّ العلم أو مُؤَكَّد الواقع (أقصد الحس).

فالقرينة، أو الدليل، تدور إجمالاً حول أربعة أصول: صحيح الشرع 52، وصريح العقل، وقطعي العلم، ومؤكد الواقع (والرابع مندرج في الثاني عند التأمل). كلٌّ في إطار ما تحتمله لدلالة الألفاظ كما أكدنا ونؤكد.

5- أن يكون التأويل الذي يُصار إليه منسجماً وملتئماً ومتماشياً مع السياق الذي ورد فيه النصُّ موضعُ التأويل؛ إذ قد يكون المعنى المُؤَوَّل إليه صحيحاً في نفسه، ولكن النص بسياقه – أي بنَظْمِه وعموده- لا يدل عليه.

* * *

الهوامش

1- انظر جامع الترمذي، (1/ 71ـ 72)، تحقيق وتعليق العلامة/ أحمد شاكر رحمه الله. وقد نقل شاكرٌ هذه الواقعة عن أخيه وصديقه كاملٍ الكيلاني، رحمه الله.

2- أي إلباسه صفات “الإنسانية” لا “الألوهية”، صفات “المخلوق” لا “الخالق”.

3- الإشارة هي لـ “الأهداف” الثلاثة سابقة الذكر.

4- وهي مستمدة من قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 77].

ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: “اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر”. أخرجه مسلم (2720).

5- والحق أن الوقائع للقيم والمقاصد: كالوعاء للشراب.

6- من المقاصد. أي أنها أفعال غائية مُحَمَّلة بالقيم وذات مقاصد.

7- من الأخلاق. أي أنه سلوك منضبط بالأخلاق.

8- وقد نقدنا ونقضنا أكثرَ هذه السمات، وبَيَّنَّا ما يجب نَهْجُهُ، في كتابنا: في فقه الاجتهاد والتجديد – دراسة تأصيلية تطبيقية، تقديم د/ محمد عمارة، ط 1، 2010م، دار السلام بالأزهر – القاهرة. فليُراجعه مَن شاء التوسع.

9- بل وكلي آذانٌ صاغيةٌ لأي نقد علمي مِن أيِّ الناس صدر، بل أنا له مُنْتَظِرٌ، وبه فَرِحٌ؛ فإني لا أدعي فيما أكتبُ كمالَ الاستيعاب، ولا روعة التقسيم، ولا دقة التحقيق، ولا عِظَم المضمون، ولا حُسْنَ الاستدلال، ولا متانة التأصيل، ولا حُسْنَ الاستنباط، ولا أدبية الأسلوب، وإنما أرجو جميعَ ذلكَ وأَحْرِصُ عليه.

10- بالطبع نحن نقصد بـ “السنة” في بحثنا هذا – طولاً وعرضاً- صحيحَهَا سنداً ومتناً، لا ضعيفَها.

11- وليُلاحَظ أنَّ لي تعليقات على عدد من المصادر والمراجع آخرَ الدراسة: فيها فوائد كثيرة، فلا يُهملنَّها القارئ، هذا رجائي منه، مع خالص شكري له.

12- مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى، 1/ 87، ط 1374هـ. مقاييس اللغة لابن فارس، 1/158- 159، تحقيق شيخ المحققين/ عبد السلام هارون رحمه الله. الصاحبي لابن فارس، ص 164. وتهذيب اللغة للأزهري 15/ 437. تهذيب الآثار للطبري، مسند ابن عباس، السفر الأول، ص 183، تحقيق العلامة/ محمود شاكر رحمه الله. ومفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، ص 99. ومقدمة التفسير للراغب الأصفهاني، ص (402- 404). ولسان العرب لابن منظور، 11/ 32، ط 1956م دار صادر – بيروت. والمعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، 1/ 34.

13- من معاني التأويل في اللغة – كما سبق البيان-:

أ‌- الرجوعُ إلى مراد المتكلم، وهو على قسمين، هما “الأول” و”الثاني” الذيْن سيأتي ذكرهما في المتن.

ب‌- العاقبة، وهو المعنى “الثالث” الذي سيأتي ذكره في المتن.

فنرجو الانتباه لهذا.

14- أخرجه أحمد (2379، 2879) وابن حبان (7055) وغيرهما، ومعناه في الصحيحين بألفاظ مقاربة. وصححه (أي اللفظ الوارد في المتن) د. الجديع. ولم أَفرُغ بعدُ للنظر فيه، فنكتفي مؤقتاً بتصحيح أستاذنا الجليل.

15- وهو كذلك بيان محلها بالتطبيق النبوي لها على وجه محدد.

16- فإن قيل: وماذا يقال في الحروف المقطعة أوائل بعض السور؟!

قلتُ: هذه الحروف ليس لها معنى ولها مغزى. وبيان ذلك كالآتي:

الحرف بذاته في لغة العرب – والقرآنُ نـزل بلغتهم- لا معنى له.. العرب لم تجعل للحرف المُفرَد معنىً بذاته.. ولذلك فلا معنى له في القرآن، وإنما له مغزىً يفيد معنىً جليلاً؛ فإنما ذُكرت هذه الحروف في أوائل بعض السور بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق كلَّهم عاجزون عن معارضته بمِثْلِهِ مع أنه مركبٌ من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ويتحدثون: نثراً وشعراً.

ثم إن فيها مِن اللطائف والحِكم الشيءَ الكثير؛ فلعلني أُفردها بالبحث بعدُ إن شاء الله. وقد تكلم عن كثير منها – مستفيداً ممن سبقه ومُضيفاً عليه- إمام الدعاة والمفسر الرباني الملهم الشيخ/ محمد متولي الشعراوي رحمه الله، فمن يتتبع تفسيره لها في كل موضع ذُكرت فيه – كما لاحظتُ- يجد خيراً كثيراً.

17- إذا عَلِمْتَ صحَّةَ هذا الوجه التَّفسيريَّ، ظهرَ لك خطأُ جعلِ الوقف على لفظِ الجلالةِ من الوقف اللازم، الذي عرفوه بقولهم: “اللازم من الوقوف: ما لو وُصِلَ طرفاه غيَّرَ المرام وشنَّعَ معنى الكلام”. [علل الوقوف للسجاوندي، 1/ 62]. وعلى هذا سارت جلُّ المصاحف التي اعتمدت رأيه، سوى مصحف المدينة النَّبويَّةِ الذي جعل علامة الوقف الأولى “قلى”، وفيها ترجيحٌ للمعنى الثاني على الأوَّل، لكنْ ليس فيها ردٌّ للمعنى الأوَّلِ كما يُفهَمُ من الوقف اللازم.

والصَّوابُ أن يكونَ على قوله تعالى: “وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ” وَقْفُ معانقة، بحيثُ إذا وُقف على الأول، لم يُوقف على الثاني، ويكونُ لكل وقفٍ معنىً يغايرُ الآخرَ، وهذا الوقف يشتملُ على القولين الواردين أعلاه في المتن بلا ترجيحٍ بينها – أي بتجنب جعل أحدهما راجحاً والآخر مرجوحاً-.

18- إن عقل رسول الله (ص) أكمل العقول على الإطلاق، وقد أخبر سبحانه أنه قبل الوحي لم يكن يدري الإيمان كما لم يكن يدري الكتاب؛ فقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا) [الشورى: 52] وقال تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) [الضحى: 6- 7].. فإذا كان أعقل خلق الله على الإطلاق إنما حصل له الهُدى بالوحي – مصداقاً لقوله تعالى: (قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) [سبأ: 50]- فكيف يحصل لغيره من ذوي العقول الاهتداء إلى حقائق الغيب – إذ تصوُّرُ ماهيتها وكنهها فوق طاقة البشر- بمجرد عقولهم دون نصوص الوحي.

نعم، مجرد إثبات وجود قوة خفية موجِدَةٍ وحاكمة ومديرة للكون قضيةٌ يمكن البرهنة عليها بطريق عقلي صرف، ولكن أين هذا من تصور تفاصيل حقائق وماهيات الغيب؟!

19- لي بحث بعنوان “الإسلام والعقل” ما يزال في طور الإعداد. يسر الله إتمامه.

20- سيأتي في دراسة منفصلة بإذن الله بيان لما يسمى بـ “آيات وأحاديث الصفات”.

نعم، لله سبحانه وتعالى صفات كثيرة (لا محل لذكرها ههنا، وإن رُمتَ تفصيلاً لها فعليك مثلاً بكتاب محمد الغزالي “عقيدة المسلم”، وكتاب عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني “العقيدة الإسلامية وأسسها”، والأخير هو أفضل ما وقفتُ عليه في باب العقيدة بمفهومها العام؛ استيعاباً للموضوعات وتحقيقاً للمسائل)، لا نـزاع في ذلك، لكنْ النـزاعُ: هل تدل كثير من الآيات والأحاديث – التي يستند إليها البعض- على ما ينسبونه لله من صفات؟ وهل هي واردة أصلاً في سياق الحديث عن كنه الله وذاته وصفاته؟ أم أن لها مورداً آخر يتجاهلونه أو يجهلونه؟!

21- التأويل المقصود في دراستنا هذه هو: حمل اللفظ/الكلام على غير مدلوله الظاهر مع احتماله له؛ لدليل يُرَجِّحُه. بل هو – إن شئتَ الدقة في التعبير-: صرفُ اللفظ/الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله لدليل يرجحه، أو حملُ اللفظ/الكلام على معنى يحتمله غيرِ الظاهرِ منه لدليلٍ يرجحه.

22- نقصد المجتهدَ المستقل – وهو عندي مَن استكمل آلة الاجتهاد، وانفرد لنفسه بمنهج في ‏النظر، اجتهد في تحريره وضبطه وتقعيده- لا المجتهدَ المنتسب، ولا مجتهدَ الفتوى – ويسمونه مجتهد “الترجيح”-، على اختلاف لا يضر في هذا التقسيم بين الأصوليين.

23- وهي مما فتح الله به عليَّ بحمده وفضله بعدَ إدامةِ نظرٍ وتفكرٍ، وطولِ تدبرٍ واجتهاد، فضلٌ من الله ونعمة.

24- نقصد بالنص – في اصطلاحنا طيلة هذه الجولة الأصولية في موضوع التأويل- النص الثابت؛ وهو القرآن (وكله قطعي الثبوت) وصحيح السنة (أي ما ثبت منها وفق قواعد التصحيح والتضعيف).

25- وتتمثل في:

1- العقائد الأساسية مثل: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

2- وأركان الإسلام العملية مثل: الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.

3- وأمهات الفضائل الأخلاقية مثل: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والصدق والأمانة والرحمة والصبر والشكر والحياء والتعفف عن الحرام.

4- وأمهات المحرمات القطعية مثل: القتل والزنا والشذوذ الجنسي وشرب الخمر ولعب الميسر والسرقة والغصب والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات والتولي يوم الزحف وشهادة الزور وعقوق الوالدين وقطع الأرحام والغيبة والنميمة والكذب والتعدي على حرمات الناس.. والكبر والغرور والحسد والبغضاء والرياء والعُجب وحب الدنيا واتباع الهوى والشح.

5- وأمهات الأحكام الشرعية القطعية: في الأكل والشرب، واللباس والزينة، والبيع والشراء والمعاملات المالية والأمور الاقتصادية، والنكاح والطلاق، والوصية والميراث، والعقوبات الشرعية المقدرة – كالحدود والقصاص-، والسياسة والعلاقات الدولية.. إلخ.

26- أحكامُ النصوص المحكمات (= قطعيات الدلالة) لا يلابسها اجتهاد إلا في تحقيق المناط – وهو ما يُسمى بالاجتهاد التنـزيلي؛ أي تنـزيل أحكام النصوص على الواقع-. وبَيِّنٌ أن هذا غيرُ الاجتهاد في المعنى، الذي هو ممنوعٌ في القطعيات – إلا على وجه تعميق فهمنا لها وتعميق إدراكنا لمراميها ومقاصدها وفلسفتها-.

27- مثال القطعي بغيره :

قوله تعالى: (نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) [البقرة: 223]؛ فلفظ “أني” مشتركٌ يأتي بأحد معنيين: “كيف” و”أين”، لذلك فهو محتمِل، لكنَّ احتمالَ إفادة “أنى” لمعنى “أين” مرفوعٌ مُنْتَفٍ بقرينة “حرثكم”؛ فالحرثُ لغةً “موضعُ الإنبات”؛ وهو في الآية مجاز؛ بمعني “موضعِ طلبِ الولد/ النسل”، وذلك لا يكون إلا “القُبُل”. فتعين قطعاً امتناعُ وقوع الاحتمال المذكور، وإلا كان معنى الآية: “فأتوا موضعَ طلبِ الولد أين شئتم”؛ وهذا لا معنى له، يتنـزه عن الإتيان به العقلاء، فكيف بواهب العقل؟!

وبهذا يجوز لنا، بل يتعين علينا، القولُ بقطعية دلالة لفظة “أنى” على الوجه الذي ذكرتُ.

وههنا استطرادٌ تفسيريٌّ خطر لي، فتح الله به عليَّ، فأحببتُ كتابته ههنا علَّ فيه ما يفيد:

في قوله تعالى “نساؤكم حرثٌ لكم” تشبيهُ جماعِ الرجلِ زوجتَهُ في قُبُلها بحرث الفلاح لأرضه (فالجماع والحرث كلاهما فعل عملي، والزوج والفلاح كلاهما فاعل، والقُبُل والأرض كلاهما مفعول فيه. ثم اعْتَبِرْ بهذا التشبيه؛ انظر كيف هي عناية الفلاح بأرضه! وكيف حرصه عليها! وكيف اهتمامه بها وقيامه بأمرها ودفعه لما يضرها وجلبه لما ينفعها! انظر إلى كل ذلك واعتبر به استحضاراً له في تعاملك مع زوجتك!)، فتعين – باستحضار ما سبق بيانه من معنى “الحرث” ومن معنى “أنى”- أن يكون تفسير الآية كالآتي: “قُبُلُ نسائكم مواضعُ جماعِكُم (أي بمِثْلِ ما أنَّ أرض الفلاح موضعُ حرثه)، فأتوها (أي فأتوا مواضع جماعكم) كيف شئتم؛ مقبلين أو مدبرين”. وبهذا البيان/ التفسير تتضح حرمةُ إتيان النساء في أدبارهن!

ثم إنّ الأمر باعتزال النساء في قوله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ) [البقرة: 222] يفيد أن علة تحريم إتيان النساء في قبلهن وقت الحيض “عدمُ نقاءِ المحل” – لأنه تعالى إنما علَّق جوازَ القُرب من القُبُل بالطهر من الحيض والتطهر منه- ؛ فكيف إذن بـ “دبر النساء”، هل هو “نَقِيُّ المحل”؟! أم هو – كما يعلم البشر جميعاً- “مَجْمَعُ النجاسات”؟! أليس هو “محل البراز”؟! آلبراز أنقى من دم الحيض؟! لا يقول بذلك عاقل؛ فثبتت حرمة إتيان النساء في أدبارهن!

ثم إن الله حرم إتيان قُبُل النساء حتى يَحْصُل “نقاء” محل الإتيان – بانقطاع دم الحيض ثم غسل المكان وتطهيره- كما سبق البيان، و”النقاء” لا يحصل للدبر أبداً؛ إذ النجاسة “ملازمة له” دائماً، بل “مُقيمة فيه”؛ فثبتت بذلك حرمة إتيان النساء في أدبارهن.

إلى غير ذلك من وجوه الدلالة على التحريم التي لا محل لذكرها ههنا – وهي كثيرة-، إذ ليس المقام مناسباً لذلك.

28- سيأتي للمسألة مزيد بيان وتفصيل في الفقرتين رقم 3 و8.

29- الظاهر المقصود في دراستنا هذه: هو ما يتبادر إلى الفهم لأول وهلة بمجرد سماع الكلام/اللفظ.. وهو ما يمكن تسميتُهُ بـ “الدلالة المتبادَرَة”.

30- نقصد بـ “الوضع”: “الدلالةَ المتبادَرَة” أي “الاستعمالَ الأشيعَ والأغلبَ والأظهرَ الذي تواضع عليه جمهور الناطقين بلغة ما، أي الذي سار على وَفْقِهِ الناسُ في فهم كلام بعضهم البعض، منذ وجود اللغات على ظهر الأرض واستقرار أمرها”.

وتعريفنا هذا لـ “الوضع” ينهي إن شاء الله إشكالات كثيرة مثارة حوله، وحول معاني “الحقيقة” و”المجاز”، في علوم اللغو والبلاغة والأصول والعقيدة.

ولتجلية مقصودنا نقول:

مسألةُ وضع اللغة مِن مباحث “الماورائيات”، أي ما وراء الحس، أي الغيبيات، والغيب لا يمكن لأحد أن يُقطَعَ فيه بشيء.

قال البعض بأن الناس قد تواضعوا على الألفاظ ومسمياتها، ويقصدون بالمواضعة ما يشبه “الاتفاق التعاقدي” على ذلك. وكأن الناس في غابر الأزمان قد عقدوا مؤتمرات لغوية متخصصة ليقرروا فيها ما هو حقيقة وما هو مجاز!

وقال آخرون بأن اللغة توقيف من الله. ولم أجد لهم دليلاً على ذلك يصمد أمام النقد والتمحيص، بل كلها – عندي- ظنون مرجوحة، وكم سيكون فَرَحي لو ثبت في ذلك دليل.

وقال آخرون إن اللغة في أصلها محاكاةٌ للواقع، وهذا إن صحَّ في “آحادِ أصواتٍ أو حروفٍ أو كلماتٍ”، لا سبيل إلى “تعميمه على بنية اللغة كلها” نحواً وصرفاً وكلمات.

والخلاصة أن شيئاً من هذه الافتراضات ليس له متكأٌ صالحٌ ولا مُسْتَنَدٌ معتبرٌ.

والصواب الذي ينبغي القول به في وضع اللغة – فيما يبدو لي والله أعلم- هو “الاستعمال” ؛ أي اطرادُ استعمالِ الألفاظِ على مسمياتٍ بعينها؛ فالاستعمالُ أن يَطَّرِد – مثلاً- إطلاقُ اسم “الشجرة” على هذا المسمى، فيُعْلَمُ بإطلاق هذا الاسم – “الشجرة”- أن هذه هي المرادة دون غيرها من الأشياء، وكذلك إذا قيل “الشاة” فَيُعْلَمُ أنها الأنثى من الضأن دون غيرها، وهكذا.

وهذا “الاستعمال” هو الأساس المعتمد في تقرير مسألة المجاز؛ مثلاً: إذا جاءتنا – عن العرب الأقدمين- عشرات أو مئات الشواهد في إثبات أن “القمر” يُطلق على الجُرم الذي في السماء، ثم جاءنا – عنهم كذلك- شاهد أو شاهدان أو عشرة في إطلاق “القمر” على الوجه الحسن، يكون الأول – الذي اطَّرَدَ به الاستعمال- هو المعنى الحقيقي الوضعي الأصلي – أي “الدلالة المتبادرة والمقصودة” منه عند إطلاقه-، ويكون الثاني – الذي لم يطرد به الاستعمال، والذي يُوجَد قطعاً بينه وبين المعنى الأول علاقةٌ/مناسبة ما؛ لأن المجاز فرعُ الحقيقة- هو المعنى المجازي من اللفظ.

وبهذا التوضيح والبيان تنحل – إن شاء الله- كثيرٌ من الإشكالات المثارة حول معاني “التواضع” و”الحقيقة” و”المجاز”. والله أعلم.

31- وقد سبق التنبيه على مقصودنا بالتأويل.

32- التعارض لا يكون إلا في “ظاهر الأمر” الذي يبدو للمجتهد؛ إذ يستحيل تعارض النصوص في “نفس الأمر”؛ لأن الوحيَ حقٌ كله؛ والحق لا يتعارض. كما يستحيل تعارض النصوص وقواطع العقل؛ لأن الأول كلمة الله، والثاني خلق الله؛ ويستحيل أن يتعارض قول الله وفعله.

33- ويمكن التعبير عن “الواقع” بـ “الحس”.

34- أقصدُ الذي اقتضاه الدليلُ – الذي مرَّ التنبيهُ على ضرورة وجوده، والذي سيأتي تفصيلُ أمرِه-.

35- نقصد معناه العرفي وقتَ نـزول القرآن – كما سيأتي بيانه بعدُ في المتن-.

36- وتخصيص العام – أو ما في معناه مما مر ذِكرُه في المتن- بإخراج بعض أفراده من تحت جناحه لِدليلٍ اقتضى ذلك، لا يعني إبطالَ ذلكَ النصِّ، ولا يجوزُ أن يُفهَم منه ذلك؛ إذ العملُ به باقٍ في غير هذه الأفراد.

ثم إن الدليل المقتضِيَ لذلك – وهو مستمد من الشرع- قد أرشد إليه، فكان ماذا؟! إنه مجردُ تنسيقٍ بين الأدلة بإحسان ترتيلها – على ما سيأتي توضيحه في المتن مِن معنى الترتيل-. إنه تصرفٌ في الشرع بالشرع، وفهمٌ للحقِّ بالحق. وهذا مباين لمعنى إبطال النصوص كل المباينة. ثم إن الشرع لا يُبطِلُ بعضَهُ ببعضه، هذا محال؛ أيُبطِلُ الحقُّ الحقَّ؟! فثبت المراد.

37- وقد شرحنا مِن قبلُ مرادنا بالوضع اللغوي.

38- الحقيقة الشرعية مقصودُها تنـزيلُ ألفاظ الشارع على مفاهيمه التي أرادها وقصدها حسبما جرت بها عادته في الاستعمال. وبتعبير آخر: هي الاستعمالات الجديدة التي وضعها الشارع لهذه الكلمات.

فإذا كان من عادة صاحب الشرع استعمالُ اللفظ في معنى شرعي اصطلاحي خاص، وجبَ تقديمه على غيره من المعاني؛ تحقيقاً لمراد الشارع فيما أراده بتلك الألفاظ.

39- إنما قلنا: “يجيز، أو يوجب” على سبيل التخيير؛ لأن المجازَ – الذي هو استعمال اللفظ في غير الدلالة المتبادَرَة منه (أي في غير الدلالة الأصلية له)، بقرينة تدل على ذلك، مع وجود علاقة بينهما؛ أي بين المُتَبَادَر منه والمُسْتَعْمَلِ فيه- فرعُ الحقيقة، ولا يُقَدم الفرعُ على الأصل إلا حالَ امتناعِ الأصل، أو حالَ كونِ الفرع مصحوباً بما يُغَلِّبُهُ على أصله. وما قيل في المجاز يُقال في التأويل؛ لأن الأول أحدُ تجلياتِ الثاني وأبنائِهِ الشرعيين، بل أقول: لأنهما وجهان لعملة واحدة.

40- فلو أُريدَ قصرُ العام على بعض أفراده، أو تقييدُ مطلق، أو حملُ اللفظ على معناه المجازي، أو غيرُ ذلك من ضروب التصرف العلمي، لديل يعضده ويرجحه، فهو تأويل صحيح. وخلافُ ذلك لا يكون إلا ليَّاً لعنق النص أو تحميلاً له أكثر مما يحتمل.

41- أما العقل: فقد تكلمنا على دلالته تلك في الفقرتين رقم 2 و3 بمتونهما وهوامشهما.

وأما الشرع: فلأن شرطَ صحةِ التكليف به قدرةُ المكلفين به على فهمه في يسرٍ لا عسرَ فيه، ووضوحٍ لا غموضَ فيه، واستقامةٍ لا اضطرابَ فيها ولا عِوَجَ ولا ترددَ (نقصد بالتردد ما يحيلُ الأمرَ إلى لوحة سريالية عبثية يَختارُ بناءً عليها مَن شاء ما شاء من المعاني).

فكيف يتأتى ذلك مع ادعاءِ جوازِ إرادةِ غيرِ ظاهرِ الألفاظ دون دليل يرجحه أو برهان يعضده؟!

وبتعبير آخر: كيف يتأتى ذلك مع ادعاءِ جوازِ إحالةِ الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان؟!

وبتعبير ثالث: كيف يتأتى ذلك مع ادعاءِ جوازِ تركِ الظاهرِ المفهومِ إلى باطنٍ لا دلالة على صحته؟!

هذا لا يأتي به شرع الله أبداً.

ثم إن الحرجَ – ومنه العسرُ والغموض (= عدم الوضوح) والاضطراب- منفيٌ قطعاً عن شرع الله، فثبت المراد.

42- وكيف نسميه بالديل والقرينة والبرهان، وحالُهُ كما وصفتُ؟!

43- والقرينة، أو الدليل، الذي يجوز على أساسه – وبمراعاة الضوابط الأخرى- تأويلُ نصوص القرآن أو السنة يدور إجمالاً حول أربعة أصول: صحيح الشرع، وصريح العقل، وقطعي العلم، ومؤكد الواقع/الحس (والرابع مندرجٌ تحت الثاني عند التأمل).

44- ويندرج تحت سباق النص وسياقه، ضمنَ ما يندرج، ما يُسمى في علم الاصول بـ “المُخصِّصِ غيرِ المستقل للنص العام” – أي المخصص الذي يكون جزءً من النص-، ومنه: الاستثناء، والشرط، والصفة، والغاية.

وحقيقة أمرها أنها ليست مُخصِّصَاتٍ، وإنما قيودٌ في القول لا يتم، بل لايجوز، فهمُهُ إلا بها، وإلا أخذنا ببعض القول دون بقيته (والخلاف مع الأصوليين في هذه النقطة اصطلاحيٌ أكثرَ منه حقيقياً؛ إذ كُلُّنَا يعتمدها، سُميت مخصِّصَاتٍ أو لم تُسمَّ).

فضلاً عما يجليه السباق والسياق من المعاني والمقاصد والدلالات. مثلاً: ملاحظةُ التقديم والتأخير وما يفيده، وملاحظةُ حروف المعاني وما تدل عليه، إلى غير ذلك من أدوات الملاحظة البلاغية المُنتِجةِ للدلالات والمعينةِ على التنبه إلى مقاصد النظم وما ينطوي عليه من معانٍ وفوائد.

ويمكن تسمية سباق النص وسياقه – إذا وَسَّعنا مدلوله- بـ “القرينة المتصلة” سواءٌ كانت مقاليةً أو حالية.

والقرائنُ منقسمةٌ، باعتبار موقعها المكاني من النص، إلى:

أ‌- متصلة: ذُكرت في ذات سياق النص محل التأويل؛ سواءٌ كان ذِكرُها باللفظ أو بالمعنى.

ب‌- ومنفصلة: ذُكرت في سياق نصوص أخرى باللفظ أو بالمعنى.

ومنقسمةٌ، باعتبار موقعها المعنوي من النص، إلى:

أ‌- مقالية: لم ترد في سياق ذات النص محل التأويل وإنما وردت في غيره باللفظ أو بالمعنى.

ب‌- وحالية: كمقاصدِ الشريعة، والأحوالِ التي أحاطت بالنص أو لابَسَتْهُ وقتَ تشريعه.

وخلاصة ما تقدم في القرائن: أنها منقسمةٌ إلى متصلة ومنفصلة (وكلٌّ منهما منقسمة في ذاتها إلى مقالية أو حالية).

ومنقسمةٌ كذلك إلى مقالية وحالية (وكلٌّ منهما منقسمة في ذاتها إلى متصلة ومنفصلة).

ويمكن تقسيم القرائن كذلك إلى: لغوية، وشرعية (بالنص أو بالمعنى)، وعقلية، كلٌ في إطار ما تحتمله دلالة الألفاظ.

45- نقصد بـ “السنة” ما يشمل السنة القولية والفعلية والتقريرية.

تنبيه: جوازُ تخصيص النصوص بالعرف، وهو مما نقول به، مقصودٌ به، عند التحقيق، العرفَ القولي أو العملي (أي ما جرت به العادة من الأقوال والأفعال) الموجودَ على عهد التشريع بعد ورود النص العام الذي يُراد حملُهُ عليه وبيانُهُ به؛ لأنه، والحالُ كذلك، من قبيل “السنة التقريرية”، وإلا لبَيَّنَ بطلانَهُ رسولُ الله (ص) ونَبَّهَ على عدم جواز حمل ذلك النصِ عليه. فإذا لم يصدر عنه (ص) شيء من ذلك، كان إقراراً منه به يوجِبُ علينا التزامه؛ أليس من معهودات العرب – التي لم يُنكرْها رسول الله، بل أقرَّها بسكوتِهِ عنها- في أساليب كلامهم في بيئتهم التي كانت مَهبِطَ الوحي ومُتَنـزلَ الشريعة؟! واللهُ لا يخاطبهم إلا بلسانهم، أليس كذلك؟!

ولذلك لم ننصْ على جواز التخصيص بالعرف؛ لأنه من قبيل السنة التقريرية السابقِ بيانُ جوازِ التخصيص بها مِن قِبَلِنَا.

وأما خلافُ ذلك من عادات الناس وأعرافهم، فلا تَخصص قرآناً ولا سنة، ولا يجوز لها ذلك، وإنما تُحكَم بهما إذا عارَضَتْهُما. أَنُحَكِّمُ أعرافَ الناس القوليةَ والعمليةَ في شرع الله؛ يُبطِلونه حين يشاؤون، ويعملون به حين يروق لهم؟!.. يأخذون بما يوافق أعرافهم ويدعون ما لا يوافقها؟!.. ما فائدةُ إنـزال الشريعة للبشر إذن؟!.. سبحانك هذا بهتان عظيم.. آلله أمركم بهذا أم على الله تفترون؟!

نعم، عرفُ الناس معتبرٌ في شريعة الله، ولكنْ ما لم يصادمها. أما ما كان مِن أحكام النصوص قائماً على العرف، فهو يتغير بتغيره.

46- التأويلُ بالمقاصد والعلل والحِكَم والثوابت والكليات والقواعد – الذي نتكلم وسنتكلم عليه طوال مشوارنا مع قانون التأويل- هو في حقيقة أمره تأويلٌ للنصوص بالنصوص؛ لأن القرآن والسنة – اللذيْن هما مصدر هذه الأمور، والمرشد إليها، والمنبه عليها، والداعي إلى اعتبارها- هما المُخَصِّصَان في الحقيقة.

47- نقصد بـ “الشريعة” كلَّ ما دلت عليه، سواءٌ كان في أبواب الاعتقاد أو في أبواب الأحكام.

48- “المصلحة” هنا – كما هو واضحٌ من منطوق الكلام ومفهومه- هي “المصلحةُ المعتبرة”؛ أي “المصلحةُ الشرعية”؛ أي المستمدةُ من النصوص وفقهها، والمتكئةُ على مقاصدها وفلسفتها، والمتوافقة مع منطق التشريع ومُبتغياته.

والتحقيقُ – إن شئتَ التدقيق- أنَّ “المصلحةَ” مندرجةٌ تحت أجنحة “فقه المقاصد والموازنات والأولويات والمآلات” – وفقهُ المقاصد منبعُها وأُسُّها جميعاً- ؛ تنظيراً واستنباطاً وتفعيلاً/ تطبيقاً. ولذلك لن أنصَّ على “المصالح” فيما سيأتي بعدُ في المتن أو في الهامش.

ولذات السبب لم أفعل مع “القياس” – وما شابهه-؛ إذ لم آت على ذكره مطلقاً؛ لأنه، بأركانه وأقسامه وشروطه ومسالك التعليل فيه، أي بمنظومته كلِّها، مُسْتَوْعَبٌ في “منظومةُ فقه المقاصد” ومشمولٌ بها ومندرجٌ تحتها، مع ترقيتِها له وهيمنتِها عليه.

ومن أراد أن يَذْكُرَهُما نصاً عليهما، فلا بأس؛ إذ الأمر ههنا “اختلاف تقسيمٍ” لا “اختلاف حجيةٍ”، فالأمر يسير.

49- ومما يَحسُن أن يُستعمَل ههنا:

– آليةُ مسالك التعليل: وقد فصَّل الكلامَ فيها علماءُ الأصول في مبحث القياس من كتبهم.

– تتبعُ موارد اللفظ في القرآن والسنة

– الدرايةُ بعلم النحو، وملاحظة تأثير قواعده في تفسير النصوص .

– الدرايةُ بعلم الصرف وقواعده، وملاحظةُ تأثير التغيير الصرفي في المعاني؛ إذ التغيير الطارئ على أبنية الكلمات يكسبها كثيراً من دقيق المعاني .

– الدرايةُ بعلم الحروف وما تدل عليه؛ لندرك وجوهها في النصوص، وأقصدُ “حروفَ المعاني” حروفَ الجر والعطف وما شابه، لا “حروفَ المباني” حروفَ الأبجدية العربية.

– معرفةُ المكي والمدني من الآيات، ومعرفة بيئة النص النبوي بتصوُّر الواقع الذي كان يعالجه والجو العام الذي أحاط به ومقتضيات الأحوال التي لابسته (أي الأسباب والظروف والحوادث والشروط الخارجية التي ألزمت ورود ذلك النص أو اقتضت تشريعه وحفَّتْ به وصاحبته)..

إلى آخر ذلك مما تجد تفصيلَ أكثرِهِ في الباب الأول من كتابي: في فقه الاجتهاد والتجديد – دراسة تأصيلية تطبيقية.

50- مثل: قوله تعالى: (خالقُ كلَّ شيء) [الأنعام: 102] أيْ: إلا نَفْسَهُ، فهو سبحانه وتعالى: شيءٌ؛ إذ يقول: (قل أيُّ شيءٍ أكبرُ شهادةً قل الله) [الأنعام: 19]، إلاَّ أنَّ العقولَ مدركةٌ قطعاً أنه الخالقُ، والمخلوقَ غيرُهُ. فهذا تأويل للآية بتخصيص عمومها بدلالة العقل.

وقوله تعالى عن الريح التي أُرسلت على قوم عاد: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيء) [الأحقاف: 25]، ومعلوم بدلالتي الحس والعقل خروجُ السماوات والأرض عن ذلك التدمير (إذ الريح حساً لا تقدر على تدميرهما، ثم هي عقلاً لو دَمَّرَتْهُما لم يكن لأيِّهِمِا وجودٌ الآن، أليس كذلك؟!). فهذا تأويل للآية بتخصيص عمومها بدلالة الحس والعقل.

وقوله تعالى عن ذات الريح: (مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيم) [الذاريات: 42]، ومعلوم – بدلالة الحس- أن الريح تأتي على الأرض (± الجبال)، ولكنْ معلوم كذلك – بذات الدلالة- أنها لا تجعلها رميماً. فدل الحس على أن عموم اللفظ ليس مراداً للمتكلم، فكان مؤولاً للآية بتخصيص عمومها.

تنبيه: ألفاظ العموم هذه إنما تعم ما قصده المتكلم – أي الشارع- منها فحسب، وقد عَلِمْنَا ما قَصَدَه منها ههنا بدلالتي الحس والعقل. ومعلومٌ أن الشارع لا يأتي بما يخالف الحس والعقل – أيخالِفُ قولُ الله في شرعه فِعلَهُ في كونه ومخلوقاته؟! اللهم لا-، فما خصَّصْنَا ألفاظ العموم ههنا إلا لتدل على ما قصده الشارع منها فحسب.

ثم إنَّ خلافَ المعقول لا يجوز أن يَدخل تحت اللفظ العام الوارد في شرع الله، وإلا كان صاحبُ الشرع كاذباً، ولمَّا وجبَ صدقُ صاحب الشرع ضرورةً، تَبَيَّنَ امتناعُ، بل استحالةُ، دخولِ خلافِ المعقول تحت إرادة الشارع من الألفاظ – مع شمولها له من حيث الوضع اللغوي-، وإن جاز ذلك في غير كلام الشارع – أي في غير القرآن والسنة- ؛ لأن غيرَه ليس بمعصوم؛ إذ ليس إلهاً، ولا يُوحَى إليه.

تنبيه استطرادي: بالمِثْلِ، يمكنُ القول – توسيعاً لوعاء القضية وسيراً على منطقها وبناءً عليه-: إنَّ خلافَ المعقول لا يجوز أن يكون في شرع الله أو أن يُنسَبَ إليه أو أن يُرَادَ منه أو به، وإلا كان صاحبُ الشرع كاذباً، ولمَّا وجبَ صدقُهُ ضرورةً، تَبَيَّنَت استحالةُ وجودِ خلافِ المعقول فيه أو إرادة ذلك منه.

51- أما إذا كان دليل التأويل مرجوحاً لا يقوى على معارضة غيره، أو خطأ في نفسه بأن يُستنبَط منه أو يُبنَى عليه ما لا يصح أن يكون مثله، سُمي بـ “التأويل الفاسد/الخاطئ”؛ لأن الدليلَ – بذلك- ليس دليلاً في نفس الأمر (أي: لمرجوحية ما اُّدِعَي من دليل، أو خطأ ما استُدِلَّ به عليه؛ بأن استُدِلَّ به على ما لا يدل عليه أو يرشد إليه).

أما إذا كان التأويلُ بغيرِ دليلٍ أصلاً، سُمي بـ “التأويل الباطل”؛ لافتقاده ما وجب أن يَرْتَكِزَ عليه تأصيلاً.

والخلاصة:

أن التأويل إذا ارتَكَزَ بوجه صحيح على ما ينبغي أن يُرتكَزُ عليه، فهو تأويل صحيح.

وإذا ما ارتَكَزَ بوجه خاطئ على ما ينبغي أن يُرتكَزُ عليه، فهو تأويل خاطئ/فاسد.

وإذا ما ارتَكَزَ على ما لا يُرتكَزُ عليه، أو ارتَكَزَ على لا شيء – مِن هوىً أو أوهامٍ أو خيالاتٍ أو غير ذلك-، فهو تأويل باطل.

52- أي كلياتُهُ ومقاصده وثوابته وقواعده العامة، ونصوصُهُ وسياقاتها ومقاصدها وعللها وحِكمها، وسَنَنُ لسانِهِ العربي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر