أبحاث

عقائد فلسفية خلف صياغة القوانين الطبيعية

العدد 64

ملخص

توضح هذه المقالة أن الحقائق التجريبية والتعميمات التى تستنتج منها، والقوانين الطبيعية التى تبنى عليها يمكن أن تنتهى إلى صياغات مختلفة، يعتمد كل منها على موقف فلسفى خفى، يدخل مفاهيم جديدة لا تقتضيها الظواهر التجريبية. ويوضح تحليل أمثلة معينة أن أكثر من موقف فلسفى يمكن أن يرتب على ذات الحقائق العلمية، وأن تجريد الصياغة من محتواها الفلسفى الخفى يعطى تعميمات لا تثير أيا الإشكاليات التى تثار عادة حول ما يترتب على العلم الطبيعى من فكر وفلسفة. عقائد فلسفية خلف صياغة القوانين الطبيعية.

1- عن القانون الطبيعى:

هناك مفاهيم شائعة عن ماهية العلم الطبيعى ووظيفته، عند عامة المثقفين وأحيانا عند بعض العاملين فى البحوث العلمية، مصدرها الكتب المدرسية والصحف العامة والمقالات السطحية عن العالم المثالى للعلماء الطبيعيين، ملخص هذه النظرة الشائعة أن العلم الطبيعى وقوانينه ونظرياته نتاج فريد لا يخضع للاختلاف بين البشر، ولا يختصم حوله من أدركه، ووقف عليه، إذ التجربة المعملية هى الفيصل فى كل جدال حول مسألة علمية. والحق أن هذا يصح على جزء من العلم الطبيعى، يصح على قائمة الملاحظات سجلها الإنسان، أو سجلتها المعدات الألية، ليست إلا البداية والعمل العملى الحقيقي ينتج عن تفاعل الفكر البشرى مع هذه القوائم، وعما يضيفه عقل الإنسان عليها من التسبيب والربط المنطقى المتماسك. هذا التنظير الأنسانى ضرورى وأساسى، ويشكل حقيقة روح العمل العلمى. وبسبب هذا فإن العلم الطبيعى، فى المكان الأول، تجربة بشرية تخضع لما تخضع له كافة التجارب البشرية من اختلاف بين الناس وخصومة حول العمل: معناه وجدواه ومنتهاه.

ولعلى أعطى مثالا يوضح المقصود هنا: خذ الجاذبية: من الممكن أن نسجل قوائم كثيرة، نملأ بها على مر الأيام آلاف الصفحات، تعطى معلومات عن سقوط الأجسام على الأرض: شكل الجسم، حجمه، كثافته، نوع مادته، ارتفاعه، زمن سقوطه، نوع التربة التى سقط عليها، عمق الحفرة التى أحدثها… الخ، دفاتر معملية شاملة، ومكتملة تحوى كل (( الحقائق ))، ولكنها لا تحوى (( علما )). ينتج العلم عندما يتدبر الذهن البشرى هذه القوائم ويتفحصها من كل الوجوه الممكنة ويحاول الربط بينها بحيث يمكن إيجازها فى عبارة موحذة ( رياضية كانت أو نثرية )، ويصل الإنسان لبداية علم الجاذبية ( بعد قرون من العمل العلمى المنظم ) عندما يعلن أن الأجسام تسقط نحو سطح الأرض بتسارع واحد، ثم تمر عقود ويعلن عن قانون الجاذبية العام، وعن الربط بين سقوط الأجسام على الأرض ودوران القمر حول الأرض والكواكب حول الشمس، ثم تمر قرون ويعلن عن النظرية النسبية العامة، وعن الدوران التى تلعبه قوة الجاذبية فى تشكيل السدوم الكونية والجرات، ومع ذلك فإن علم الجاذبية ما يزال (( مفتوحا ))، ويختلف حول نظرياته الباحثون؛ إذ هنالك أكثر  من نظرية، وأكثر من (( فلسفة ))، (( تفسير )) قوائم الملاحظات، ولا تميز بينها التجارب المعملية والمشاهدات الفلكية المعلومة. بل إننا، فوق ذلك، لا ندرى عن (( ماهية )) الجاذبية شيئا، إذا ينحصر سعينا فى التوصل لقانون رياضى محكم يعطى وصفا دقيقا للكيفية التى تتحرك بها الجسيمات تحت قوة الجاذبية. أما طبيعة الجاذبية، ماهيتها، كنهها، مصدرها فمن غير الممكن أن تجدى فيه الوسائل المتاحة للعمل العلمى. وفى الواقع لا يبدو ممكنا تعريف مثل هذه المفاهيم تعريفا يدخلها فى نطاق البحث التجريبى. مثل هذا يصح على كافة القوى الطبيعية المكتشفة: القوى الكهربائية والمغناطيسية والنووية. ويمكن القول بصفة عامة بأن العلم، فى المستوى الأساسى، لا يبحث عن ماهية الموجودات وكنه القوى التى تحكم سلوكها وإنما يبحث عن المكونات الأولية للموجودات وعن القوانين التى تضبط عمل القوى التى تحكم سلوكها. والعلم الأساسى يستهدف استنباط القوانين الطبيعية بين المكونات الأساسية لمادة الكون. فما هو القانون الطبيعى وكيف يتوصل إليه؟

لاشك أن المنهج التجريبي قد تطور كثيرا عبر القرون واستفاد، ليس فقط من الوسائل التقنية المتاحة للتجريب المعملى فى كل مرحلة، وإنما من التنظير وأساليب التفكير العلمى التى أثبتت جدواها فى تنظيم الحقائق وربطها. وقد بلغ هذا التطور الحد الذى يمكننا الآن من تحديد الكيفية العامة التى ينتهى بها البحث لصياغة قانون عام، على الأقل فى المباحث التى بلغت درجة عالية من النضج والدقة مثل الفيزياء المعاصرة. تبدأ هذه الكيفية بتحديد الحالة العامة للنظام قيد الدراسة، عن طريق تسجيل المتغيرات المقيسة التىتميز حالة للنظام عن غيرها. ثم تجرى التجارب لرصد القيم المختلفة لهذه المتغيرات مع تطور النظام، أى رصد مسار تحول النظام من حالة إلى أخرى. ثم يبحث فى هذا المسار عن الخواص التى لا تتغير مع تطور النظام؛ اللامتغيرات أو الثوابت.   هذه الثوابت تعطى (( قوانين البقاء )) للنظام، وبالتدقيق فى قوانين البقاء لمجموعة متماثلة من النظم تقدم فرضية لقانون عام يقتضى قوانين البقاء المشاهدة. ثم يختبر هذا القانون بمقارنة تنبؤاته مع التجارب على أوسع نطاق ممكن، وينظر فى إمكانية استنتاجه من نظريات أعمق وأشمل. هذه النظريات الشاملة تشكل نماذج رياضية لمجموعات كبيرة من الظواهر الطبيعية تنتظم تحت تفاعلات أساسية واحدة.

ومن هذا العرض المقتضب للاستراتيجية التى تمكن من التعميم العلمى المفيد، يتضح أن هناك مستويات مختلفة للتنظير:

(1) مستوى قانون البقاء، وهو تعميم لصيق بالتجربة، ويبنى مباشرة على المشاهدة والقياس. وصيغة قانون البقاء أن دالة معينة، تعتمد على المتغيرات المقيسة تظل بقيمة ثابتة خلال تحول النظام من حالة إلى أخرى. وبسبب قرب قوانين البقاء من التجريب فإنها تشكل الواجهة الأولى

عند مهاجمة التجارب للنظرية؛ وهى ركائز يقوم عليها البناء النظرى؛ ولذلك فإن لسقوطها دويا متى سقطت بتدقيق التجريب، وتطوير المعدات، كما حدث عندما انهار قانون بقاء الانعكاس المكانى فى عام 1957م ثم قانون بقاء مضروب الانعكاس المكانى، وتضاد الشحنة فى عام 1964(1)، ويتابع الفيزيائيون حاليا التجارب العديدة التى ظلت تجرى منذ سنوات لاختبار قانون بقاء عدد الباريونات، الذى يقول بعدم إمكانية تلاشي البروتونات(2).

(ب) مستوى القانون العام، وهو فرضية تصاغ بحيث تضمن صحة قوانين البقاء المعلومة، وتشكل قاعدة رياضية لمناقشة ظواهر عديدة تشترك فى التفاعلات المؤثرة مع الظواهر التى قادت لقوانين البقاء. وإذ أن الانتقال من قوانين القاء للقانون العام: ليس فريدا، فإننا نجد عادة عدة فرضيات رياضية، يعطى كل منها قوانين البقاء المطلوبة وتختلف خارج نطاق التجارب المعلومة. (3) والفرضيات التى تظل فى الساحة هى التى لم ترفضها التجارب بعد.

(ج) مستوى النظرية الشاملة، وتعطى الصيغة الرياضية الموحدة التى يرد بها التفاعل الأساسى، قيد الدراسة، فى كل المجالات التى يؤثر فيها. وتكون صيغة التفاعل عادة حدا معينا فى الدالة مؤثر الطاقة، يستوفى الشروط التى تحقق قوانين البقاء المطلوبة وتعطى أشكال القوانين العامة لمجموعة الظواهر المعينة التى يختص بها كل من هذه القوانين. ويتضح من هذا أن فى النظرية الشاملة زيادة كبيرة على التجربة وإعمال إبداعى للفكر البشرى من أجل توسيع رقعة صحة المعلومات التجريبية وتعميق المفاهيم المنبثقة عنها. ولعلنا فى نهاية هذه الفقرة نعطى مثالا لمستويات التعميم المذكورة، ولنأخذ مجال الكهرباء، فعلى المستوى (أ) نجد قانون بقاء الشحنة الكهربائية: مجموع الشحنات الكهربائية يظل بقدر ثابت قبل وبعد التفاعل. وعلى المستوى (ب) نجد عددا من القوانين العامة التى تصف تفاعلات محددة يرد فيها الفوتون، مثل تفاعل الفوتون والألكترون،أو تفاعل الفوتون والبروتون أو تفاعل الفوتون والألكترون ومضاد الألكترون. أما على المستوى (ج) فنجد النظرية الكهرومغناطيسية التى تصف سلوك الجسيمات المادية فى المجال الكهرومغناطيسى بصفة عامة، وتحوى فى صيغة رياضية موجزة ومحددة تماما كل الخصائص التجريبية المعلومة للظواهر الكهربائية والمغناطيسية.

أنتقل الآن للحديث عن التداخل بين العقيدة الفلسفية وصياغة القوانين والنظريات العلميةبعد أن مهدنا له بتوضيح أثر الفكر الإنسانى فى التعميم النظرى للحقائق التجريبية.

2- الخلفية الفلسفية فى صياغة القانون الطبيعى:

هناك افتراض أساسي يقوم عليه العلم الطبيعي، هو الافتراض بمعقولية العالم، أى الافتراض بأن الظواهر الطبيعية مترابطة سببيا، وأنها ليست عفوية، من غير هذا الافتراض لا يكون العلم ممكنا، وهو افتراض لا يكون العلم ممكنا، وهو افتراض طبيعي، ولعله فى فطرة الإنسان وتكوينه العقلى. وفى صورته المتطرفة هو اعتقاد بحتمية التبعية السببية: أى الأعتقاد بأن حالة معينة للنظام الطبيعي تقود دائما وبالضرورة لحالة أخرى تليها. وهذا الاعتقاد بالحتمية المطلقة للقانون الطبيعى هو الذى ساد حتى بداية القرن الحالى، ولقد تغلغل فى المنهج العلمى بحيث إن علماء كثيرين باتوا يعتقدون أن إحساس الإنسان بالحرية فى الاختيار ليس إلا خديعة نفسية. وفى بداية القرن الحالى اتضح أن الحتمية المطلقة تناقض التجربة. وإذ أن التبعية السببية، على نحو أو آخر، لابد منها فى للعمل العلمى فإن التعديل الذى أدخل على فرضية الحتمية كان فى أضيق الحدود التى تضمن الاتساق مع التجارب. وأصبح الأمر بعد مقدم النسبية الخاصة أن هناك اتصالات سببيا، لا يعتمد على المشاهد، لكل ظاهرة مع مجموعة معينة من الظواهر: ثم بعد مقدم نظرية الكم أن هناك حتمية فى تطور حالات النظام، ولكن هذه الحالات لا تحدد تماما قيم المقادير المقيسة، وإنما تعطى احتمالات الحصول على قيم معينة لهذه المقادير. وهذا التراجع عن الحتمية المطلقة أفسح المجال لبعض العفوية، وسمح بمقدار من (( حرية الأختيار )) للجسيمات الدقيقة، ولكنه أزعج الحسن الفطرى للفزيائيين الذى يفضل أن تكون الظواهر الدقيقة منضبطة تمام بالحالات الابتدائية، والقوانين التى تحدد مسار التطور.

 هذا موقف فلسفى فى طبيعة العمل العلمى، ويشترك فيه الجميع بحكم المهنة. ومع ذلك فمن غير الممكن أن يدافع عنه بمنطق مُقنع، إذ ليس هناك ما يمنع منطقا أن يكون العالم فوضويا تتوالى فيه الحوادث دون تعاقب مفهوم. وإنه لمن حسن الحظ أن قدر العفوية المكتشف لم يحل دون فهم الإنسان للظواهر الكونية، والاستفادة من خيرات الأرض والسماء.  

ويحدث أحيانا أن يعترض على نظرية علمية متفقة تماما مع التجارب، فى حدود الصحة التجريبة، من مدخل فلسفى! فلقد انتقدت نظرية نيوتن فى الجاذبية الكونية، قبل أن يكتشف لها أى تعارض مع التجربة، بسبب أنها تقول بالتأثير عن بعد، أى تأثير الجسميات على بعضها البعض دون وسيط. كما عد الباحثون من ميزات النظرية النسبية العامة أنها تحقق بصورة ما فكرة ماخ بأن الأجسام البعيدة فى الكون هى التى تعطى خصائص القصور الذاتى للجسيمات ذات الكتلة. وفكرة ماخ ليست إلا أمنية بوجود ترابط وثيق بين البعيد والقريب، رأى أنه يعمق مفهوم الكتلة ويجعل تصورنا لأصلها جميلا ورائعا.

نخلص من هذا إلى أن البحث العلمى، على مستوى التفاعلات الأساسية، كان دائما مقترنا بفرضيات فلسفية أو مواقف عقدية لا تقتضيها بالضرورة التجارب المعملية. وهذا الاقتران مهم لأنه يعطى امتدادا فكريا وحضاريا للمجهود البحثى فى العلوم الطبيعية، ويمكنه من الإسهام، ليس فقط فى مجال التطبيقات التقنية، وإنما أيضا فى مجال الفكر الإنسانى الذى يطمح فى التعمق فى فهم الحياة وتنظيمها. ولذلك فإننا نجد أن صياغة كثير من القوانين العلمية الأساسية تجنح لشمولية واسعة، وتقرر مبادىء مواقف فلسفية معينة، وتترك انطباعا واضحا بأن هذه المبادىء الفلسفية بعينها هى ثمرة العلم التجريبى وما عداها باطل.

ولعلى أضرب لذلك أمثلة:

مثالى الأول: من علم التحريك الحرارى. كانت الصياغات التقليدية للقانون الثانى فى التحريك الحرارى منذ البداية شمولية وكاسحة: (( من المستحيل صنع ماكينة تحول كل الحرارة إلى عمل (( أو )) ليست هناك على الإطلاق عملية طبيعية نتيجتها الوحيدة نقل الحرارة من جسم إلى آخر أعلى منه درجة حرارة )). وواضح أنه ليس سهلا تصويغ مثل هذه العبارات على أساس تجارب محدودة أجريت داخل معمل فى مكان ما على الأرض. فهى فرضيات كونية شاملة تتحدث عن طبيعة الموجودات فى أى مكان وزمان، وتحقق طموح الإنسان فى أن يحلق بفكرة فوق الآماد والأبعاد، والكل يفضلها على التقرير المتواضع بأن عددا من الباحثين أجروا تجارب على مواد معينة، تحت ظروف معينة، محاولين تحقيق الكفاءة التامة عند تحويل الحرارة إلى عمل وفشلوا فى ذلك! البون الشاسع بين هذا التقرير والعبارات السابقة لا يرد إلى التجارب، وإنماه مرده إلى إعمال الفكر البشرى، واتخاذ مواقف عقدى فلسفى: ما فشلنا فى تحقيقه يستحيل أن يتحقق إطلاقا. والفرضية الأساسية التى (( تحصلنا )) عليها بهذه الكيفية غنية، ويمكن تطبيقها على كل ما فى الكون من الظواهر الحرارية، بل وعلى الكون بأكمله على أنه نظام حرارى مغلق يخضع لقوانين معاملنا، فنتنبأ مثلا بالفناء الحرارى للكون!

المثال الثانى من نظرية الكم، هناك قرين لمبدأ اللاد اتحادية المشهور، المتعلق بالارتباط بين درجتى الدقة فى قياس الموضع والاندفاع فى آن واحد. هذا القرين يربط بين الطاقة والزمن على نحو الصلة بين الموضوع والاندفاع، ويمكن استنتاجه من أسس نظرية الكم بصورة مماثلة، ولا يتطلب فرضية إضافية.(4)والعبارة الرياضية التى يرد بها الارتباط بين درجتى الدقة الممكنتين فى قياس الطاقة والزمن معا: عبارة بسيطة، ومتفق عليها تمام، كما هو الحال من التجارب المعملية فى المثال الأول. إذا قصرنا هذه العبارة على حدها المشروع، حسب شروط استنتاجها، نجدها تحدد مدى عدم التوافق بين المتغيرات غير المتوافقة فى القياس؛ فى هذه الحالة بين متغيرى الطاقة والزمن. فمتى ورد هذان المتغيران مع أى مجموعة من المتغيرات الأخرى، فى وصف حالة نظام طبيعي فلا بد أن يردا بحيث إن درجتى الدقة فى قياسهما ترتبطان بالعلاقة الرياضية المعطاة، وبصفة خاصة لا يردان بقيم محددة تماما، وإنما بقيم تقريبية متواسطة. وهذا فى الأساس من خصائص نظرية الكم. فإذا افتراضنا أن نظرية تمثل حقيقة الظواهر اعتبرناه من خصائص الطبيعة المشاهدة، ووضعنا بذلك قيدا على إمكانية القياس بدقة مطلقة بالنسبة للمتغيرات غير المتوافقة،  متى اجتمعت فى وصف حالة واحدة. غير أن الفرضية الكونية الشاملة التى بنيت على هذا الأمر: جاءت كاسحة، وتعدت هذه الحدود ببون شاسع: (( من الممكن دائما أن يظهر من العدم مقدار معين من الطاقة، ويتلاشى خلال فترة زمنية معينة متى ما ارتبط مقدار الطاقة وفترة بقائها بالعلاقة الرياضية المعطاة )). إننا الآن لا نتحدث عن خصائص نظرية تفسر الظواهر المعملية، ولا نتحدث عن حدود القياس التجريبي للمتغيرات المقيسة المشتركة فى وصف حالة النظام؛ ولكننا نتحدث عن الظهور من العدم، وعن الفناء والبقاء، لا نتحدث عن حدود الإنسان؛ ولكن عن مدى الإمكان، إمكان الوجود الفجائى والتلاشى الفجائي. نستطيع الآن أن نفسر ظهور الطاقة من العدم إذ لدينا قانون طبيعي، محدد بعلاقة رياضية، يوضح إمكانية ذلك، بل إننا نتخذ موقفا فلسفيا حول أساس العلم التجريبى: العلم التجريبي لا يشترط التسبيب. ذلك أن العلاقة الرياضية تربط متغيرى الطاقة والزمن حيثما وجدا، فإن امتدت لتعنى إمكانية ظهور الطاقة من محض العدم جاز أن يكون ذلك فى أى مكان وزمان، وبصورة فجائية، دون ربط سببى بين هذا الحدث وسوابقه. ورغم أن قدر العفوية، ومدى كسر التسبيب ضئيل جدا، وفق العلاقة الرياضية، ورغم أن هذه الفرضية على ما فيها من اكتساح تختص بما يمكن أن يشاهده الإنسان ويدرسه إلا أن هذا لم يمنع عددا من الباحثين من تقديم نظريات مبنية على هذه الفرضية تفسر ظهور الكون كله من العدم، لمدى عمره المديد، دون مؤثر وبلا سبب.

ومثالى الثالث والأخير من علم الكون: المبدأ الكونى العام، تدل المشاهدات الفلكية على أن المجرات ومجموعات المجرات، وكذلك الإشعاع الخافت الذى يصلنا من كافة أرجاء السماء، موزعة من حولنا توزيعا منتظم الكثافة لأقصى المسافات التى تمكن الفلكيون من رصدها. على أساس هذه الحقيقة صيغت فرضية شاملة تعتبر من أعمدة علم الكون المعاصر، هى المبدأ الكوني العام: (( يبدو الكون منتظما ومتجانسا من أى موضع فيه، فى كل وقت )). هذه الفرضية تعميم كاسح وتمديد شامل للانتظام والتجانس المشاهد الآن فى رقعة محدودة من العالم، يجعل منه خاصية أساسية لكل الزمان والمكان. وما من أنموذج رياضي لنشأة العالم وتطوره إلا ويعتمد هذا المبدأ ويبنى عليه. والموقف الفلسفى العقدى هنا جلى: ربما يكون صحيحا أننا لا نستطيع أن نشاهد كل الكون، ولكن ما يغيب عنا لا يختلف عما يظهر لنا منه. وهذا يعنى أن الأشياء والظواهر التى تثير فكرنا، وتستحق اهتمامنا هى تلك التى أثبتت وجودها بالظهور فى مراصدنا، وأن ما وراءها لا يخفى سرا، ولا يحجب مجهولا. ويتيح هذا الموقف للباحثين قاعدة مريحة لتقديم نظريات عن الكون بدلا من العالم المشاهد، الكون الشامخ الفريد الذى يحوى بنايته ونهايته، بدلا من العالم المشاهد الذى تتصل أطراقه بالمجهول غير المشاهد، وقد تدخله تأثيرات لا يتحكم فيها فكر ولا تجريب. فى كل هذه الأمثلة الثلاثة طفرة فكرية تجاوزت حدود التجربة والمشاهدة، وصيغت بحيث عبرت عن عقيدة فلسفية تعطى الفكر البشرى مقدرات لا حدود لها فى فهم وتصور وسبر غور الظواهر الطبيعية. ولا شك أن العالم الباحث ينزع دائما لأن يعبر عن الفرضيات العامة بعبارات تمكن من تطبيقها على أوسع نطاق ممكن، ثم هو يمتحن صحتها على هذا المدى الافتراضي بمواجهتها بمزيد من التجريب فيعدلها أو يقلص من نطاق صحتها متى ما اضطرت لذلك وأجبر عليه. ولسا هنا بصدد توجيه النقد لهذا الأسلوب، ولعله فى طبيعة تفكير البشر، ولكننا ندل عليه ونبينه ونوضح بصفة خاصة أنه يدخل زيادة كبيرة على مقتضى التجريب والمشاهدة، وأن ضياغات القوانين والفرضيات العامة يمكن أن تتخذ أشكالا مختلفة تعبر عن خلفيات فلسفية مختلفة، هى مواقف عقدية مسبقة لا صلة للعلم بها. والمواقف العقدية التى انطلقت منها الصياغات الواردة فى الأمثلة التى ذكرناها متقاربة وتعبر عن الإيمان بمقدرات الفكر الإنسانى: فما يستحيل على البشر هو المستحيل المطلق ( المثال الأول )، والعقل البشرى يدرك كل شئ بما فى ذلك القانون الطبيعي الذى بموحبه تظهر الطاقة من العدم ( المثال الثانى ) والمعرفة البشرية تشمل الكون بأكمله، ولا يخفى على الإنسان من الموجود شئ ذو بال ( المثال الثالث ). هذه فى حملتها، عقيدة تؤمن بأن ذكاء الإنسان وفكره وتدبيره أعلى مراتب الذكاء والفكر والتدبير فى الوجود، وأن ليست هناك خفايا ولا أسرار لا تدركها أجهزتنا ووسائلنا. وليس غريبا على من اعتقد هذا وآمن به، قبل بدء البحث والدراسة، أن يأتى بتعميمات وفرضيات صيغت بحيث تعكس هذه العقيدة بصورة تلقائية، ويجدر بنا أن نلاحظ هنا بصفة خاصة أن الذى يؤمن بأن تدبير الإنسان هو التدبير الأرقى فى الوجود، ويعلم أن الإنسان لم يدبر للكون مساره، لن يزعجه أن يجد أى قدر من العفوية والفوضوية فى الطبيعة. ولكى ندلل على أن هذه الفلسفة لا يقتضيها العلم، ولا تؤثر حقيقة على تطوره وامتداده، دعنا ننظر للأمثلة الثلاثة التى أوردناها بعين عقيدة لا تضع الفكر البشرى فى القمة من هذا الوجود.

3– من منطلق عقيدة مختلفة:

دعنا نفترض باحثا يؤمن بأن لهذا الوجود خالقا مدبرا حكيما؛ الله سبحانه وتعالى. وأن الله خلق الخلق وأرسل الرسل، وعن طريق الوحى للرسل علم الناس حقائق كثيرة عن الوجود؛ منها أن الله واحد، وأن أنواع المخلوقات والموجودات أكثر مما تراه الأعين وترصده المراصد، وأن الإنسان مميز بوعى، وحرية وإدارة، ومكلف بعبادة الله وطاعته، وأن السعى لاكتساب المعرفة بالتجريب والتدبر ممكن؛ لأن الله جعل سلوك الأشياء منضبطا بسنن وقوانين يمكن أن تحصل بالدراسة والاستنباط، وأن تحصيل المعارف ييسر الحياة على الأرض ويعين على فهم قدرة الخالق وإدراك روعة خلقه، وأن علومنا التجريبية ونظرياتنا ليست بشئ قياسا بعلم الله، ولن تمكننا أبدا من الإحاطة بأسرار الوجود وخالقه، فالرقعة المتاحة لنا للحياة والتجريب والتأمل ضئيلة ومقدراتنا العقلية محدودة والحياة التى نعيشها مرحلية وقصيرة وليس من مقاصد علم البشر فيها ولا من مرامية كشف الحجب عن الغيوب.

مثل هذا البحث، ولنسمه الباحث المؤمن، يدرك أن إحساس الإنسان بحرية الاختيار ليس وهما نفسيا، وإنما يصدر عن حقيقة واقعة. وفى الفترة التى بدا فيها للفيزيائيين أن سلوك الجسيمات حتمى يقرر موقفه العقدى أن هذه الحتمية لابد أن تنكسر، وتنتهى عند درجة من درجات التعقيد والتركيب، قبل أن نصل درجة تعقيد الذهن البشرى الناضج.        

وفى عصرنا الراهن يبدو أن الخيارات الفردية التى يختارها الجسم الدقيق تكون فى كل مرة عفوية وتحدث (( مصادفة ))، ولكنها على الكثرة الإحصائية تحقق الاحتمالات المتوقعة لها. والموقف العقدى هنا للباحث المؤمن أن (( المصادقة )) ليست واردة فى سنن الله، وأن هذه الكلمة لا تعكس علما، وإنما تعبر عن جهل الإنسان بالأسباب والعلل وراء بعض الظواهر، كان هذا الجهل متعلقا بطبيعة علم البشر ومحدوديته، أو كان مؤقتا يزيله مزيد التقدم فى المعارف المكتسبة. ولعل عقيدته لا تنفى أن يكون للجسم الدقيق إحساسه الذاتى بالجبر أو الحرية، وهو يحقق واحدا من (( الخيارات )) المتاحة لسلوكه! ذلك أن لهذه الكائنات علاقاتها التى نجهلها بخالقها سبحانه، ولعل فى سلوكها أعماقا أغور مما نتصوره أو تكتشفه لنا التجارب. ولقد اعتدنا فى الدراسات الاجتماعية أن تنقبل التنبؤ الإحصائي باحتمالات السلوك الجماعى للبشر وتقنين الاتجاهات العامة وأنماط التطور الممكنة للجماعات، مع علمنا باستحالة التنبؤ اليقينى بسلوك فرد واحد معين تحت الظروف العامة التى تطرأ على بيئته الاجتماعية. ولكنا لا نصف سلوك الفرد بالمصادفة أو العفوية. بينما نجد ذات الظاهرة فى الألكترونيات – ظاهرة السلوك الجماعى شبه المنضبط والسلوك الفردى شبه الفوضوى- فنصف ما يحدث للألكترون الواحد بالمصادفةّ! والحق أن لدى الباحث المؤمن ما يجعله يميز تمييزا فعليا بين سلوك الفرد من الألكترونات والفرد من البشر: علمه العقدى بأن للإنسان إرادة ومشيئة وتكليفا يحاسب عليه وليس ذلك للألكترون، رغم أن هذا الباحث قد يضفى على الوجود الألكترونى عمقا لا تدركه المختبرات.

وهذه عقيدة لا يطيقها كثير من الباحثين، ويظنون والمنهج العلمى على طرفى نقيض. لكن علة رفضهم إياها قبولهم الضمنى لعقيدة تفرد الذكاء البشرى وسمو فكر الإنسان فى الكون. وليس فى عقيدة الباحث المؤمن ما يناقض المنهج العلمى، بل يجد فى نجاح تطبيقه تحقيقا لثبات سنن الله فى خلقه وعدم تبديلها. وموقفه الإيمانى لا يمنعه من المساهمة البحثية حتى داخل نطاق الحتمية المطلقة عندنا كانت سائدة أو داخل نطاق التفسير بالعفوية فى السلوك الكمى عندنا كان سائدا؛ لأنه يدرك أن العلم البشرى كله محدود ومرحلى، وتقريبى، ويتصل بجزء ضئيل من هذا الوجود الكبير، ولا ضير إن وضع المرء فيه قيدا إضافيا ييسر الدراسة ويعين على تحصيل بعض التقدم. وفى هذا مجمل موقفه من الأمثلة الثلاثة التى سبق ذكرها ومن مثيلاتها. ففى المثال الأول نجد أن القانون الثانى فى التحريك الحرارى تعبير عن خاصية مشاهدة من خصائص النظم الحرارية التى تدرس فى المعامل، وهى أن هذه النظم الحرارية التى تدرس فى المعامل، وهى أن هذه النظم لا تحول كل الطاقة إلى عمل.. وإذا صيغت هذه الخاصية مبدأ عاما يقيد التنظير، ويسهل استنباط القواعد التى تضبط سلوك هذه النظم فإن هذا عمل علمى مفيد ولا غبار عليه. وإن تمكنا من تعميم هذا المبدأ على نطاق واسع فيما نراه حولنا من العالم المشاهد، ووجدنا أن هذا التعميم لا يناقض ملاحظات تجريبية أو مبادئ أخرى أكثر رسوخا، فإن فى هذا نجاحا واضحا، ودليلا على صحة الوعاء النظرى فى هذا المجال. ولا شك أن مثل هذا التنظير أفضل بكثير من العباراة السلبية بفشل الباحثين فى تحقيق مرادهم. ولكن يجب ألا يعتبر هذا المبدأ فرضية كونية شاملة تقتضى اعتقادا باستحالة مطلقة لحدوث شئ أو آخر، وبصفة خاصة لا يعقل أن يمتد أثره حتى يصح تطبيقه على كل الكون فيستنتج منه كيف يفنى الوجود. فبيئة علم الإنسان، التى تشمل كل ما تراه وتحسه أجهزتنا، ليست كل الكون، وليست نطاما حراريا مغلفا، وهى جزء ضئيل مما لا يدرك أبعاده إلا الله سبحانه، وقد تتفاعل هذه البيئة المحدودة مع الوجود بطرق لا يحبط بها علم البشر، ولا تدركها وسائله. والباحث المؤمن يضع هذا التصور، وهو معرفة يقين مصدرها الوحى والرسالات السماوية، فوق المعارف التجريبية والظنية ومهيمنا عليها، ويجد فيه ضابطا لجموع الخيال من غير طائل.

أما فى المثال الثانى فمن منطلق محدودية التجربة الإنسان فى الزمان والمكان: يتخذ الباحث المؤمن موقفا أساسيا بأن العدم المطلق ليس مما يمكن أن نعرف عنه شيئا نتيجة تجاربنا المعملية  إذ لا وجود له فى بيئتنا، ويستحيل عقلا أن نفهم كيف ظهر هذا العالم، هذه الفقاعة من الزمان والمكان والطاقة، من حيث لا زمان ولا مكان ولا طاقة. فالإنسان حبيس هذه الفقاعة، ليس بجسده فقط وإنما بفكره أيضا، ومن العبث أنه يظن أنه يستطيع – بإجراء بعض التجارب والتوصل لبعض النظريات حول سلوك الجسميات- أن ينفذ بفكره، ويحول موقفه فيصبح متأملا من خارج الوجود ينظر كيف تشكلت الأشياء من العدم المطلق. وليست هناك فى الحقيقة إشكالية فلسفية تتعلق بتفسير العلاقة بين اللاتحددية فى الطاقة واللاتحددية من الزمن. فالطاقة والزمن متغيران غير متوافقين، بحسب مبادىء النظرية الكمية. وبافتراض أن هذه النظرية سلمية ومقبولة فى وصفها للواقع الفيزيائى، يكون معنى العلاقة أننا عندما نضطر لوصف حالة نظام فيزيائى بمتغيرات بينها الطاقة والزمن، فلابد من أن نسمح بقدر من اضطراب القيمة فى كل منهما، بحيث لا نناقض النظرية الكمية التى تمنع توافقهما، أى تمنع ورودهما معا بقيمتين محددتين تماما فى وصف أية حالة فيزيائية واحدة. وليس هناك معنى للحديث فى هذا المجال عن العدم المطلق و إمكانية أن تظهر الطاقة أو تختفى. وفى نطاق عقيدة الباحث المؤمن رفض تام للعفوية التى تسمح بظهور الطاقة واختفائها، دون سبب لأى فترة مهما كانت قصيرة. وفرضية التسبيب هى أساس العلم التجريبي، وليس فى هذه العلاقة الرياضية البسيطة ما يدعو للشك فى هذه الفرضية.

أما المبدأ الكونى العام، فى المثال الثالث، فهو برمته تعبير مباشر عن فلسفة ترفض أن يغيب عن ذكاء البشر شئ مهما فى الوجود. ذلك أن مجرد التفكير بأن الوجود غير المشاهد قد لا يكون امتداد فاترا للعالم المشاهد، وأنه قد يكون مثيرا ومختلفا، وذا خصائص جديدة ومدهشة، هذا التفكير يزعزع الاطمئنان التقليدى بأن المعارف المكتسبة بالتجربة كافية وشافية، وتستقصى مدى ما يهم الإنسان، ويثير فضوله. ولا شك أن ملاحظة تجانس وانتظام الرقعة المشاهدة من العالم ملاحظة هامة جدا، وهى ركيزة أساسية فى تيسير بناء نماذج نظرية رياضية تصف تطور العالم منذ المراحل الأولى لنشأته. غير أن هذا يأتى فى نطاق العزل التقريبي للمشاهد عن غير المشاهد، وفق الاستراتيجية المتبعة فى العلوم الطبيعية. فدراسة ذرة الهايدورجين مثلا تبنى على افتراض أن هناك جسيمين، الكترون وبروتون يتأثران ببعضهما، ولا يوجد فى العالم سواهما. وخصائص العالم المرتب بهذه الصورة هى خصائص ذرة الهايدروجين. وهكذا الحال فى سائر العلوم الطبيعية، وهو كذلك فى علم الكون: خصائص النماذج الكونية المبنة على المبدأ الكونى تتعلق بالجزء المشاهد من العالم، على افتراض عزله التقريبي عما حوله، وليس لها امتداد لا نهائي نستنتج منه خصائص الخليقة حيثما شئنا.

والحق أن كثيرا من علماء الكون المعاصرين أدركو فى السنوات الأخيرة سذاجة التصور الذى يقصر الوجود على المشاهد، حتى إنهم ما عادوا يلزمون أنفسهم بأوضح صفات العالم المشاهد: الأبعاد المكانية الثلاثة، فالمشاهدات لا تمنع تصور أن تكون الأبعاد المكانية كثيرة ولكن أغلبها متقوقع فى حيز ضيق بحيث لا ترصده الأجهزة التجريبية! وبغض النظر عما ستؤدى إليه أمثال هذه النماذج النظرية، وهى ما تزال بعد فى مرحلة أولية ولم يتبلور محتواها الفيزيائي، فإن الاعتقاد بأن العالم المرئي محلى فى خصائصه الأساسية، هذا الأعتقاد يتسق مع الخبرة المكتسبة عبر تاريخ العلوم الطبيعية، وبصفة خاصة فى مجال الفلك حيث انتقلنا من مستوى الأرض إلى مستوى المجموعة الشمسية، إلى المجرة، إلى كوكبة المجرات المتقاربة إلى التوزيع المنتظم لكوكبات المجرات حتى حدود رؤية المراصد. لكل من هذه المستويات من العالم المشاهد خصائصه المحلية التى لا تنتظم المستويات من العالم المشاهد خصائصه المحلية التى لا تنتظم المستويات الأخرى. أليس غريبا الاعتقاد بأن تكون نهاية الاختلاف بين مستويات المشاهدة عند نهاية مقدرة الإنسان على الرؤية الفلكية؟ يبدو للباحث المؤمن أن مصدر هذا الاعتقاد هو الانزعاج من أن يكون الموجود أجل مما يمكن أن يدركه الإنسان بمجهوده الذاتى، وفى عقيدته أن هذا هو الواقع، وهو لا يجد فى التجانس التقريبى فى الرقعة المشاهدة من العالم إلا ما يعينه على دراسة بيئته المحلية بالنماذج الرياضية، ويعمق إدراكه لروعة خلق الله الذى تشكل هذه البيئة جزءا يسيرا منه.

4– خاتمـــــة:

ما يسمى عادة بالمنهج التجريبى فى العلوم الطبيعية ليس إلا تطورا وضبطا للكيفية التى يتوصل بها الرجل العادي لمعلوماته عن الإشياء حوله. والتقدم الكبير الذى حققته العلوم الطبيعية فى إدراك حقائق عميقة عن طبيعة سلوك الجسيمات والقوى التى تؤثر فيها: هو نتاج الجهد المبذول عبر القرون من قبل أعداد هائلة من الباحثين، وليس بسبب عصا سحرية تسمى بالمنهج العلمى التجريبي. وعندما يجنح العالم الطبيعى لصياغة بعض القوانين الطبيعية بما يعطى انطباعا بالسمو فرت أساليب ومقدرات الرجل العادى: فإنما يكون ذلك بسبب حيوده عن الالتزام الدقيق بحدود المنهج العلمى! ولعل ذلك راجع لضيق المنهج عن استيعاب طموح البشر وتطلعاتهم، وليس لشموله وتساميه فوق طرق وأساليب الرجل العادى(5)؛ ذلك أن الباحث لا يقبل على عمله خاليا من الأحاسيس والمحتوى الفكرى، وإنما يقبل عليه بطموح وتصور وتوقع فى إطار فلسفة عقدية أصبحت من خصائص كيانه وشخصيته. ولعل (( الفشل )) فى الألتزام بالحدود الدقيقة للمنهج العلمى عند الصياغة النهائية للقوانين المكتشفة جزء من الطبيعة البشرية، سواء كان مقصودا أو جاء عفوا دون قصد. ولقد كانت الإثارة الفكرية المترتبة على المغامرة بتقديم فرضيات جريئة من الدوافع المهمة لكثير من الباحثين المتميزين عبر تاريخ تطور العلوم. وأمثال هذه الأعمال الجريئة المثيرة، غير الملتزمة بالقيود المنهجية، هى الأكثر أهمية فى التأثير على مسار تطور العلوم، وأمثال هذه الأعمال الجريئة المثيرة، غير الملتزمة بالقيود المنهجية، هى الأكثر أهمية فى التأثير على مسار تطور العلوم، وهى التى تحد طريقتها فى النهاية للضياغات والملخصات التى تستقر فى الدوريات والكتب المتخصصة. وفى هذا تأكيد لإنسانية المجهود العملى، وفيه إثراء فكرى للمباحث العلمية يقصى عنها عوامل الملل والركود والجمود. غير أننا يجب أن ندرك هذه السمة الهامة فى الكتابة العلمية: أنها تعكس عقائد فلسفية خفية للباحثين والمؤلفين، لا تقتضيها بالضرورة النتائج التجريبية التى يكتبون عنها. متى ما أدركنا هذا سهل علينا أن نتابع ما يكتب وما يقال بحذر وتدقيق. ومع الزمن يمكن أن يكتسب المرء خبرة كافية تمكنه من استيعاب المادة العلمية البحتة فيما يقرأة، وأن يتعرف على فلسفة الكاتب وعقيدته وآن واحد، ومن خلال ذات النص، دونما أى خلل!

ويجدر بنا هنا أن نميز بين التأمل الفكرى والفلسفى، بل والاجتماعى والأخلاقى، الذى قد يبنى على- أو يكون بوحى من- نتائج العلوم الطبيعية، وبين الموقف العقائدى الشامل الذى يكون سابقا للعمل البحثى ومهيمنا عليه، وهو محل اهتمامنا فى هذه المقالة. ولا شك أن بعض المواقف الفلسفية الجزئية تعدل وتبدل بتأثير العلم التجريبي والحقائق التى تكتشفها البحوث. فهناك قضايا كانت فلسفية، وبعضا من مواقف عقدية شاملة، ثم حسمتها الحقائق التجريبية بما لم يترك مجالا للاختلا حولها. من ذلك مثلا قضية الحتمية الميكانيكية، وقضية قدم العالم أو حدوثه، وهى مسائل لم تعد مثار اختلاف بين العارفين. ولكن حسم هذه القضايا وأمثالها لم يفد فى أغلب الحالات

إلا لتبديل طفيف وإعادة للترتيب والصياغة بحيث يظل الموقف الفلسفى الأساسي للباحث ممكنا فى ظل الحقائق الحديثة. وهذا اعتبار يدعو للريبة فى الموضوعية المفترضة لدى العلماء الطبيعيين. والحق أن الموضوعية المعنية المطلوبة فى البحث العلمى هى موضوعية رصد الحقائق والمشاهدات كما وردت، وليس هناك إلزام مهنى بحصر التأملات والاستنتاجات والعبارات، بحيث لا تتعدى هيكل الحقائق المجردة. ولقد ذكرنا أن مثل هذا الالتزام لا يفيد العلم شيئا. غير أن الأمر قد يبالغ فيه من الطرف الآخر فتقدم نظرة فلسفية مثيرة فى إطار لا يحوى علما مفيدا. فى مثل هذه الحالات يستغل العالم رصيد سمعته العلمية ليبلغ رساله لا تتصل بعلمه وتخصصه، وإن سربلها بسرابيل علمه وتخصصه. من ذلك مثلا المقالات التى كتبها فى الدوريات المتخصصة مؤخرا أحد قادة علم الكون المعاصر يقدم فيها خواطره حول ما سماه (( الكون الفوضوى )). ملخص هذه الخواطر أن الحالة الابتدائية للخلق كانت تسمح بقيم عديدة للمتغيرات موزعة توزيعا عفويا، ونتج عن ذلك عدد كبير من الأكوان، كل منها محكوم تطوره بالقيم الابتدائية المعنية التى نشأ عنها، وكان من نصيبنا هذا الكون الذى نعيش فيه. قدمت هذه الخواطر فى معرض الإجابة على السؤال عن تفسير قيم الثوابت الكونية الأساسية المعلومة، وإجابة صاحب الكون الفوضوي أن السؤال لا محل له، إذ أن هناك أكوانا بكل القيم الممكنة للثوابت فلماذا لا يكون كون بهذه القيم المعينة؟ فى رأيى أن مثل هذا الموقف يعكس فلسفة عقائدية بلا محتوى علمى، بل هو فى جوهره موقف يرفض العلم التجريبى، ويمنع التفكير المرتب على التسبيب. وهو شبيه بتفسير النظرية الكمية المشهورة بتعددية العوالم الذى يدعى أننا نرى الألكترون يختار مسارا معينا دون الاختبارات الأخرى الممكنة، بسبب عدم تمكننا من رؤية العوالم الغيبية الكثيرة التى ينفصل عنها عالمنا المشاهد لحظة اختيار الألكترون يختار مسارا معينا دون الاختيارات الأخرى الممكنة، بسبب عدم تمكننا من رؤية العوالم الغيبية الكثيرة التى ينفصل عنها عالمنا المشاهد لحظة اختيار الألكترون حالة الممكنة. وما دامت الخيارات الأخرى تحدث فى عالم الغيب فلا مجال للتساؤل حول سبب الخيار المعين الذى تحقق فى عالم المشاهدة. هذه الفلسفات عقائد خالية من المحتوى الفكرى، ولا تضيف للعلم شيئا مفيدا، وهى من قبيل الوعظ الذى يستهدف صرف الناس عن توجيه نوع معين من الأسئلة!

وأختتم بالتركيز على النقطة الأساسية فى هذه المقالة، وهى التأكيد بأن المجهود المبذول نحو تحصيل العلوم الطبيعية، منذ التخطيط الأولى لإجراء التجارب المعملية حتى صياغة القوانين العامة، والنظريات الأساسية هو مجهود بشرى عليه سمات العاملين عليه، وبصفة خاصة يعكس بوضوح مواقف عقدية وإضافات فكرية وظلالات فلسفية ليست ضرورية لا ستيعابه ورعايته وتطوره. ومن المهم أن يؤخذ هذا المفهوم فى الاعتبار عند تدريب الناشئة فى كافة مجالات العلوم الطبيعية.

(1) قانون الانعكاس المكانى هو القول بأن القوى الطبيعية الأساسية لا تميز بين اليمن واليسار، وهو يعبر عن الاعتقاد بأن الصور المنعكسة من المرآة لظواهر طبيعية متحركة تمثل أيضا ظواهر طبيعية ممكنة الحدوث لنفس الجسيمات تحت ذات الظروف. هذا واضح فى واقع الحياة، إذا أن مشاهدتنا لتمثيلة على صورة شاشة التلفزيون المنعكسة من المرآة لا يثير فينا دهشة، ولولا البيانات المكتوبة على اللوحات ( والكتابة تميز بين اليمن واليسار ) لما اكتشفنا أننا نشاهد صورة الشاشة فى عام 1957م اتضح أن القوة النووية الضعيفة، وهى القوة الفاعلة فى اضمحلال الجسيمات الدقيقة، لا تحترم هذا القانون الذى ظن بدهيا. هذا يعنى أننا نستطيع بالتدقيق فى صورة معطاة لبعض الظواهر النووية أن نتبين ما إذا كانت تمثل الواقع فعلا أو تمثل خيال الواقع المنعكس من المرآة !: غير أن جميع الظواهر النووية التى لم تحافظ على الأنعكاس المكانى كانت ملتزمة بقانون بقاء مضروب الانعكاس المكانى، وتضاد الشحنة، حتى اكتشف انهياره فى بعض ظواهر الجسيمات الدقيقة فى عام 1964م. وهذا القانون يقول بأن الخيال المنعكس من المرآة يمثل ظاهرة طبيعية إذا استبدلنا كل جسيم بضديده، والضديد هو جسيم له نفس الكتلة، ويحمل شحنة مضادة. وبدا فى عام 1957م أن هذا القانون قد أنقذ الموقف بأمر بسيط: إعادة تعريف: (( المرآة الفيزيائية )) بأنها تلك التى تعكس اليمين واليسار وتصور الجسيم بضديده، مثل الصور السالبة فى آلة التصوير الضوئي ثم انهار هذا القانون، وكان لانهياره آثار تجريبية، وأصداء فكرية بعيدة وعميقة، ما تزال محل الاهتمام البحثى.

(2) الباريونات هى مجموعة من الجسيمات الدقيقة لها خصائص مميزة، وفيها الجسيمات النووية المعروفة: البروتونات والنيوترونات. وينص قانون بقاء عدد الباريونات على أن عدد الباريونات قبل التفاعل النووى يساوى عددها بعد التفاعل، وهذا يعنى بصفة خاصة أن الموجود منها فى العالم عدد ثابت، لا يتغير من الزمن؛ ولأن البروتون أصغر الباربونات كتلة، والجسيمات لا تتحلل إلا لجسيمات تقل عنها كتلة، فإن هذا القانون يستلزم ألا تتحلل البروتونات الى جسيمات أخرى أو الى إشعاع، أى أنه يقضى بعدم تلاشيها. غير أن النظريات الوحدوية المعاصرة- وهى النظريات التى تبحث فى نشأة القوى الطبيعية من قوة أساسية واحدة- تتنبأ بانهيار قانون بقاء البروتونات، وتقول بتطور المادة المشاهدة من أصل غير مادى، وعلى وجه التحديد تتنبأ بنهيار قانون بقاء البروتونات، وتقول بتطور فى نشأة القوى الطبيعية من قوة أساسية واحدة- تنبأ بانهيار قانون بقاء البروتونات، وتقول بتطور المادة المشاهدة من أصل غير مادى، وعلى وجه التحديد تتنبأ بأن للبروتون عمرا محدودا ( وهو بالطبع عمر مديد جدا! )، وتجرى حاليا تجارب عديدة لمحاولة اكتشاف ظاهرة تحلل البروتون.

(3) من ذلك مثلا الاختلاف بين النظريتين مشهورتين للجاذبية: النظرية النسبية العامة التى تمثل الحقل التجاذبى بممتدة من الدرجة الثانية، ونظرية منافسة تضيف دالة جديدة ثمثل جسما لم يكتشف حتى الأن. تتفق النظريتان حول قوانين بقاء الجاذبية، وتتطابقان فى حدود الظواهر المشاهدة، ولكنهما تختلفان فى مجالات لم تطلها بعد التجارب والمشاهدات. يوضح هذا المثال أن قوانين البقاء ليست كافية لتحديد نظرية فريدة للظواهر الطبيعية. 

(4)مبدأ اللاتحددية المشهور يقضي بأن مدى الحيود عن القيمة المتوسطة فى قياس موضع دقيق، يرتبط بمدى الحيود عن القيمة المتوسطة قياس اندفاعه (( فى نفس اللحظة ))، بحيث إن مضروبهما لايقل عن قدر معلوم، وهو قدر صغير جدا، لكنه ليس صفرا. وهذا يعنى أن معرفتنا للموضع والاندفاع مما لا يمكن أن تكون مضبوطة تماما: متى ما كسبنا دقة فى تحديد الموضع خسرنا دقة فى تحديد الاندفاع. هذا المبدأ يصح أيضا على متغيرى الطاقة والزمن. غير أن معناه (( الفيزيائي )) فى حالة كان محل نقاش واختلاف منذ سنوات كثيرة، لارتباطه بقانون بقاء الطاقة، ومما قيل فى تفسيره أنه متى علم أن ظاهرة معينة حدثت خلال فترة زمنية معلومة: فقد تحدد مدى جهلنا بالطاقة المتعلقة بالظاهرة، وفى حدود هذا الجهل يمكن أن يظهر أو يختفى قدر من الطاقة، دون تأثير على تجاربنا وقياساتنا فى الحدود التى نستطيع تمييزها. ويبدو لى أن كثيرا من الالتباس حدث بسبب الإشارة إلى أن الموضوع يتعلق بالدقة فى قياس الموضع والاندفاع فى (( لحظة )) واحدة. ولكن الحقيقة أن الأمر يختص بقياس الموضع والاندفاع فى (( حالة )) واحدة معينة، أو على وجه أدق يتعلق بتحديد (( الحالة )) الفيزيائية للنظام باستخدام مقيسات بينها الموضع والاندفاع. النظرية الكمية توضح أنه يلزم استخدام أحداهما دون الآخر لتحديد الحالة بدقة، كما تعين درجة التقريب فى وصف الحالة متى ما استخدمها معا. مثل هذين المتغيرين يسميان متغيرين (( غير متوافقين )). من هذا المنطلق لا يختلف الأمر أدنى اختلاف فى حالة الطاقة والزمن عنه فى حالة الموضع والاندفاع، وليس لقانون بقاء الطاقة صلة بتفسير المبدأ.

(5) المقصود هنا تأكيد أن المنهج العلمى لا يختلف جوهرا عن طرق التفكير العادية فى حياة الناس،وأنه مع الضبط والتدقيق فى صحة المعلومات، والالتزام بقواعد المنطق والاستنتاج: يضيق عن استيعاب تطلعات الإنسان وطموحه فى سبر غور المجاهيل من حوله. هذه التطلعات تدفع الباحثين أحيانا لقفرات فى الاستنتاج لا يجيزها المنهج، ولاقتحام آفاق لا تطيقها قيوده، ولا تسمعها أوعيته. فالحديث عن خصائص المتغيرات اللازمة لتحديد الحالة الفيزيائية للنظام الطبيعى يلتزم حدود النظرية الكمية، ولكنه لا يعلق على قضية فلسفية أساسية مثل الحديث عن ماهية العدم، وطبيعة القوانين التى تحكم ظهور الأشياء فيه واختفاءها منه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر