Uncategorized

إسلامية المعرفة في ضوء إعجاز القرآن الكريم كما يصورها النورسي

منبع الأزمة :

الأصل الذي لا يختلف فيه اثنان هو:أن العلوم من شأنها أن تنقذ الإنسان من الموت المتمثل فى الجهل ، وتوفر له الحياة الآمنة الكريمة ، 

وتهيئ له الراحة والطمأنينة .هذا أصل فطرى متفق عليه ،  وتفيض به مشاعر كل إنسان .لكن حين تصبح هذه العلوم مصدر شقاء وتعاسة للإنسان ،  ومصدر خوف وإزعاج له ،  عندها يتضّح حجم الأزمة التى تسببّها هذه العلوم (1)،  وعليه لا بدّ من مراجعة طويلة لمعرفة حقيقة هذه العلوم ، والفلسفة التى انطلقت منها ، والأصل الذى قامت عليه ، والغاية التى تتوجّه إليها ، والطريق الذى تسير عليه….مراجعة تهدف إلى تدارك الأخطار والأخطاء التى حَفّت بهذه العلوم ، وبنائها على حقائق جديدة ، وأصول واضحة لا يأتى عليها الخلل والنقصان .

مفهوم إسلامية المعرفة:                          

لم تكن مثل هذه الاصطلاحات والتعبيرات جديدة من حيث معناها وحقيقتها على البيئة البحثية والعلمية الإسلامية ،  فقد كان هذا المعنى حاضراً فى أذهان وعقول علمائنا السابقين ، فكان بحثهم فى علوم الطب والهندسة والجغرافيا والفلك …مرتكزاً على هدى القرآن الكريم ، والسُنَّة النبوية المطهرة ،  ومنطلقًا منهما. إلا أن هذا المعنى لم يكن ليشكل منهجية متّبعة فى عملية بناء المعرفة على قواعدها فلسفتها الإسلامية المستمدّة من نصوص الوحى . هذا لّما كانت المعرفة بأيدى المسلمين فى الوقت الذى كان العالم كله بما فيه أوروبا يرزح فى ظلام حالك ، وليل بهيم .

ويبدو أن المعرفة لما أصبحت فى يد الخصم وانتقلت إليه بفعل أسباب خارجية،  وأخرى داخلية تمثّلت فى التقليد ، والكبت الفمرى السياسى ….، وشكل هذا تحدّيًا كبيراً للأمّة فى عصرها الراهن ، بات من الضرورى إعادة الحق إلى نصابه بعد أن أساءت أوروبا إلى العلم والمعرفة ببترها عن مصدر أساس من مصادرها ، وبترها، عن أهدافها وغاياتها؛ لتسير فى اتجاه غير معروف،  وليرسو مركب المعرفة فى محطة غير معلومة،  بفضل قيادة رعناء تعوزها الخيرة والحكمة والإيمان !!

إن هذه المعرفة التى بُترت عن مصدرها، والتى قامت على ساق عرجاء قد غزت جامعاتنا ومعاهدنا ومؤسساتنا التعليمية ، وأصبح التعليم فى بلادنا لا أقول صورة طبق الأصل عن التعليم فى الغرب ، بل صورة مشوهة عنه ، فصدّر إلينا الغرب حثالة علم يبثّ الإلحاد فى ديارنا،  ويقذف إلينا منه ببضاعة مزجاة ، ويتوجّه إلى عقيدتنا بمعاول هدّامة. وفى الوقت نفسه حجب عنا العلم التقني ، فلا تجد فى ديار العالم الإسلامى مركز بحث تقني يضاهى أقل المعاهد الغربية شأنًا وقيمة .وإن وُجدت ، فَتَحْتَ إشرافه ورقابته !!

ونعنى بإسلامية المعرفة: العودة بهذه العلوم إلى مرجعية الوحى وهيمنته من حيث أصول هذه العلوم وقيمها وغاياتها وفلسفاتها واستخدامات نتائجها فى الواقع الحياتى والمعرفى للبشرية .فعملية التأصيل لا تمثل علما،  ولكنها منهجية تنظر إلى العلوم وتؤسسها وتقيمها فى ضوء التصور القرآنى للخالق والوجود ؛وجود الإنسان والكون والحياة .

“إن الإسلامية تعنى فى الجوهر سلامة التوجه ، وسلامة الغاية، وسلامة الفلسفة التى تتوخاها أبحاث تلك العلوم واهتماماتها،  وتطبيقاتها وإبداعاتها ، فيصبح العلم الإسلامى علمًا إصلاحيًّا إعماريًّا توحيديًّا أخلاقيًّا راشداً “(2) .

طبيعة المعرفة ومصادرها :

لا يُراد بالمعرفة فى مثل هذه الاصطلاحات المعرفة على عمومها،  فإن من المعرفة ما هو حيادى،  كما هو الحال فى العلوم الكونية،  لكنها _مع ذلك _يمكن استغلالها لتؤدى أغراضا ولتحقق أهدافًا غير حيادية.وإن منها ما التحيّز عليه ظاهر، والحياد فيه منعدم،  كما هو حال العلوم الإنسانية والاجتماعية . ولذلك فإن من أهداف الأسلمة:إزالة التحيّز الذى خيّم على هذه العلوم ؛لتسير وحدها إلى أصولها،  وتهتدى بنفسها إلى منابعها .

لقد أولى النورسى اهتمامًا بالغاً بتحديد طبيعة المعرفة ومصادرها ، وتكاد لا تخرج عنده عن معرفة الله تعالى .إنها المعرفة الإيمانية ، وكل ما عداها داخل فيها قطعًا .فمعرفة الإنسان ،  ومعرفة الكون ، ومعرفة الوجود والحياة كل أولئك وسائل تقود إلى معرفة الله تعالى .والمعرفة عنده لا تخرج عن واحدة من ثلاثة :معرفة كونية تشمل علوم ما فى السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى ، ومعرفة إنسانية تشمل الكينونة الإنسانية ، وكل ما يتعلق بالإنسان فرداً ونوعًا ظاهراً وباطنًا . ومعرفة إلهية ترتبط بوجود الله تعالى وبربوبيته ، وشؤونه فى خلقه .وكلها يقضى بعضها إلى بعض، والعلاقة بينها علاقة تلازم (3)وتكامل .

إنه يبحث عن معرفة أبدية،  فيقول :بما أن الإنسان مخلوق للأبد ، فلا بدّ له من لذّة أبدية تمكن فى أمور أبدية مثل :المعرفة الإلهية ، والمحبّة،  والكمال ، والعلم ، وأمثالها ، بل مقصد القرآن تدريس معرفة الصانع الجليل (4) .

ويبيّن أن العلوم الإيمانية هى الشفاء والدواء الروحانى للأمراض الإنسانية . وحاجة الإنسان إليها كحاجته إلى الخبز والماء(5) .

وهدفها النهائى :تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى،  بتحقيق الأبعاد المعرفية والعملية للعقيدة الإسلامية من حيث تصورها الصادق للكون والحياة والإنسان .

وتشهد رسائل النورسى كلها أن المعرفة لا بدّ أن تكون قائمة على أصول هدايات الوحى المصدر الأول للمعرفة والعلوم،  فإن الذى قرر المعرفة وحثّ عليها هو نفسه الذى حددّ اتجاه سيرها فى أول ما نزل من القرآن الكريم ، بقوله تعالى :(اقرأ باسم ربّك الذى خلق)[سورة العلق: 1] .فقوله تعالى :(اقرأ باسم ربّك ) قد حدّد غاية المعرفة والقراءة وفلسفتها وهدفها …ومن هنا يتبيّن أن أية معرفة أو قراءة غير محدّدة بهذا الاتجاه محكوم عليها بالنقص والضلال ، مهما كانت هذه المعرفة .

ويرى النورسى أن العلوم _فى الأغلب_قسمان :العلوم المادية ، ويشبّهه بأنه كرفع الصخر؛ بحاجة إلى التعاون وتلاحق الأفكار .والعلوم الإلهية التى لا تأثير للتعاون وتلاحق الأفكار فيها أصلاً .ومن توغّل فى الماديات تبلّد فى المعنويات،  ولا يكون حكمه فيها حجّة ، ولا يستحق أن يسمع له . فمراجعة الماديين للمعنويات التى هى حقائق محضة،  ومجردات صرفة ، واستشارة آرائهم وأفكارهم تعنى الإعلان عن سكتة القلب الذى هو اللطيفة الربانية،  وعن سكرات العقل الذى هو الجوهر النورانى (6) .

وبهذا يشير النورسى إلى وجه الخلل فى الفلسفة الغربية بعدم تفريقها بين الماديات والمعنويات ،  فاستخدامها المنهج التجريبى فى البحث فى المعنويات التى هى حقائق محضة …يعنى :أن أولئك قوم سقطت عقولهم فى عيونهم ، والعين عاجزة عن رؤية المعنويات .فالمنهج التجريبى الغربى بهذا المنطق مرفوض عند النورسى ؛لأنه سيخضع قيم الإنسان واعتقاداته للتحيل المخبرى المادى .

وفى الماديات يؤكد النورسى وجود مصادر أخرى للمعرفة تتمثل فى التجربة والملاحظة والاستقراء . ويرى أن العقل هو الوسيلة إلى ذلك كله ؛فالإنسان يسير على وفق قانون يضمن له الترقى وبلوغ الكمال ، وهذه طبيعة فيه ، ويأتى ذلك عن طريق تتابع الأفكار وتلاحقها ونضوجها الذى لا يتم إلا بالتجارب المتعاقبة التدريجية ، غير أن هذا كله يخص جانب الماديات، ويوضّح جانب المعنويات المتمثلة فى العلوم الإلهية (7) .

جهود النورسى فى عملية الأسلمة :

وعى النورسى طبيعة المعركة التى يقف على ثغرة منها،  ونظر إلى ما تحمله من أبعاد تدميرية لحضارة الأمّة وثقافتها .والاستعمار الغربى الجديد بدا هو الآخر مدركًا لموطن التأثير فى كيان الأمّة ؛فعمل_بقصد أو بغير قصد _ على توجيه العلوم وجهة مادية ، وألغى البعد الغيبى ومصدريته فى المعرفة ، ودخل إلى العالم الإسلامى بهذا اللون الجديد من الغزو .ولذا ، أصبح من الضرورى الوقوف فى وجه هذا التيار الجارف من العلوم بمنهجية شاملة تنبع أساسّا من القرآن الكريم الموصوف بالإعجاز والهيمنة والحاكمية ، فهو المهيمن على المعرفة ، وهو الحاكم عليها ، ومن هنا ينبغى فرض الرقابة الصارمة على العلوم الوافدة بوصفها الخطوة الأولى فى عملية التأصيل الإسلامى للعلوم وتوجيهها .

يقول النورسى مبينّا أهمية هذه الخطوة فى عملية التأصيل :إن نهر العلوم الحديثة والثقافة الجديدة الجارى إلينا من الخارج كما هو الظاهر ، ينبغى ان يكون أحد مجاريه قسمًا من أهل الشريعة ؛كى يتصفى من شوائب الحيل ، ورواسب الغش والخداع ؛لأن الأفكار التى نمت فى مستنقع العطالة ، وتنفست سموم الاستبداد ، وانسحقت تحت وطأة الظلم ، يحدث فيها هذا الماء الآسن العفن خلاف المقصود ، فلا بدّ من تصفيته بمصفاة الشريعة .وهذا الأمر تقع مسؤوليته على عاتق أهل المدرسة الشرعية(8) .

ويظهر من هذا الكلام أن النورسى يعنى بذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية ، ملفتًا النظر إلى طبيعة البيئة التى نبتت فيها تلك العلوم ، وأنها بيئة غير سويّة ، فماذا يتُوقع أن يكون حصادها ؟! لقد لفت النورسى النظر إلى خطورة الأمر منذ البدايات الأولى لاتصال المسلمين بالغرب أو العكس . وقرر هذا الكلام _أيضًا _إبّان سقوط الخلافة الإسلامية فى الآستانة فى “إسلامبول” .وبدء الغزو الحقيقى للعقل المسلم عن طريق هذه العلوم ؛ولذلك قام بجهود حثيثة لإنشاء مدرسة تقضى على هذا المكر،  وتدرس فيها العلوم المختلفة على أساس أنها لُحمة واحدة .

لقد دعا النورسى إلى تأسيس مدرسة الزهراء التى تقوم على مزج العلوم الكونية الحديثة ودرجها مع العلوم الدينية ، وجعل اللغة العربية فيها واجبة .وقد سئل ليوضّح فكرته وهدفه من إنشاء هذه المدرسة ، فقال :”ضياء القلب هو العلوم الدينية ، ونور العقل هو العلوم الحديثة ،  وبامتزاجهما تتجلّى الحقيقة ، فتتربّى همّة الطالب ، وتعلو بكلا الجناحين .وبافتراقهما يتولد التعصب فى الأولى ، والحِيَل والشبهات فى الثانية “(9) .وهذا الكلام أدل ما يكون على وحدة العلوم وإن تنوعت ، واتفاقها وإن تعددت، إذ ان التمازج بينها هو الذى يكشف عن الحقيقة الإنسانية أو الحياتية أو الكونية ، فلا تصطدم واحدتها بالأخرى ، ولا تنفى إحداها صاحبتها ، هذا إن لم يكمل بعض هذه الحقائق البعض الآخر، ويساند بعضها بعضًا .

على أن هذه العلوم _كما يشهد الواقع الحديث _لم تقبل أن تأتلق مع الدّين ، لا عند الغرب ولا عند الشرق ، بل نفى الدين بعيدًا عن العلم ، وألقى فى غياهب السجون يئن من جراحاته ، ويولول على هزيمته .فى حين يستقبل الإسلام وحده بالنظرة إلى العلوم نظرة جامعة بإنهائه كل الثنائيات التى يصطدم بها العقل ، وتصطدم بها الحياة أيضًا ، فقضى على الثنائية التى تجعل العلم فى كفًة والدين فى الأخرى . وقضى على الثنائية التى تجعل علماء الدين فى جانب ، والآخرون فى الجانب المقابل لا لقاء بينهما .وقضى على الثنائية القائمة بين الحياة والدين .وقضى على الثنائية القائمة بين الدنيا والآخرة….وجعل الإسلام أقرب الناس إلى الله تعالى ، وأشدهم له خشية : العلماء ، بقوله تعالى :(إنما يخشى الله من عباده العلماء )[سورة فاطر:28] فى سياق الحديث عن مظاهر إبداع القدرة الإلهية فى الكون وفى للوقوف على حكم وأسرار ذلك الخلف .ودعا إلى منهج فى التفكير تحت إشراف الوحى وإرشاده .إن عملية الأسلمة قاطعة بعجز العقل وحده عن القيام بهذا الدور.ولذا وجب للوحى المعصوم أن يقوم بتوجيه هذه العملية على أًسس صحيحة .

وبعد إدراك النورسى أهمية هذه النظرة إلى المعرفة وضرورتها ، نراه يسلك طريقين فى الوقوف على حقيقة الجميع بين العلوم :

طريق الوقوف على حقيقة الجمع بين العلوم :

بستوحى قارئ رسائل النور طريقين قرر فيهما النورسى وحدة العلوم:  الطريق الأول : دعوته إلى إنشاء جامعة الزهراء؛ لتؤكد هذا المعنى فى مفهوم الجيل المسلم بوصفه أمراً جوهريُّا،  وحقيقة ناصعة قررها الإسلام من أول يوم .وليست المناداة بهذه الحقيقة وإشهارها ردّة فعل لما هو الحال فى العلوم الغربية التى عزلت الوحى عن أى توجيه أو اتصال بالدين .

وفى هذا الطريق ردّ واضح على المقولة المزعومة غير الواعية،  هى :”الغزو الأصولى للعلوم الإنسانية والاجتماعية” . بمعنى أن العلماء الذين حاولوا أن يمزجوا بين هذه العلوم والدين ، ليس عملهم إلا محاولة يائسة لاختراقها تطفلاً وتصنعًا وتكلفًا .وحجتهم أن هذه العلوم وجدت بمعزل عن الأديان كلها ، فما علاقة الدين بها؟! لذلك فإن النورسى كان حريصًا على إبراز هذه الحقيقة بصورتها الناصعة الطبيعية ، لا بوصفها ردّة فعل لما تجنيه هذه العلوم على نفسها ، أو يجنبه عليها أصحابها .

إن فى أفكار النورسى تربة خصبة لتلك الدعوة فى عملية الجمع والتأصيل ؛فقوله بجامعية القرآن الخارقة فى مباحثه وعلومه .وتقريره لجامعيته الخارقة فى مقاصده ومسائله ومعانيه وأساليبه ولطائفه ومحاسنه ..كل أولئك تربة خصبة يمكن لهذه الفكرة _فكرة إسلامية المعرفة وتوجيهها _أن تنمو فيها نمواّ نشطًا وسريعًا .

الطريق الثانى :اعتصام النورسى بالمنهج القرآنى فى دعوته إلى الجمع بين العلوم لمواجهة عبث المدنية الغربية بها ، ومحاولة التصدّى لهذا العبث .بل تحدّى المدنية الحديثة بشقيها : الرأسمالى والاشتراكى الشيوعى ، وإثبات أن هذه العلوم لا يمكن أن تسير _فقط_ على وفق مقررات العقل ومفاهيمه وأساليبه فى البحث من تجارب وملاحظات وغيرها .إن هذه العلوم لا يمكن أن تسير وتوجّه إلا وهو الوحى .ولما لم يكن هناك وحى كتُب له الخلود،  وتُعهد بالحفظ والعناية إلا القرآن،  لا جرم كان القرآن هو المسؤول الموجّه،  والمشرف الناصح لهذه العلوم ،  تحت إشرافه تسير، وعلى وفق توجيهاته تمضى وتستنير .

لقد كان التصدّى لعبث المدنية الحديثة بالعلوم من جهة ، ومحاولة تأصيلها وتوجيهها إسلاميًّا من الجهة الأخرى همًّا وهدفًا من أهداف النورسى من إنشاء مدرسة الزهراء؛لأن العلوم التى تغزو بلادنا لم تنشأ فى جوّ علمى موضوعى ، ولم تحط بتصور واضح للكون والحياة الإنسان. بل الأدهى والأمر،  أن التجارب التى مثّلت الحيوانات عينّاتها فى مختبرات هذه العلوم،  قد سحبت نتائجها وعممّت بحيث تصلح أن يفسر بها سلوك الإنسان وأفعاله …؛لذا يجب التصدّى لها . وذكر أن من أهدافه :فتح طريق لجريان العلوم الكونية الحديثة إلى المدارس الدينية بفتح نبع صاف لتلك العلوم ، بحيث لا ينفر منها أهل المدارس الدينية (10)؛ليثبت أن الإسلام حامى العلوم وراعيها ، ومرشدها وهاديها ، بدل توهم خلاف بينها وبين الدين، أو عزل المهتمين بالعلوم الدينية عن أولئك المهتمين بالعلوم الكونية .إنه يجب القضاء على حاجز العزلة،  وإنها هذه الثنائية .

إن نظرة النورسى الشمولية إلى القرآن الكريم ، ومعايشته لواقع التحدّى الذى شهدته الأمة وما تزال تشهده،  مكنتاه من الاعتقاد العلمى والعملى اليقينى أن القرآن الكريم هو الرجعية الأساس ،  والمصدر الفعلى لمختلف العلوم؛ لأنه قد بنى تصوراً حقيقيًّا واضحًا صحيحًا لوجود الإنسان والحياة والكون .وهذا التصور ينبنى عليه حصيلة عمل الإنسان ومعرفته وسلوكه وبحوثه وتجاربه ، لتعطى نتائج مثمرة ، وتسير إلى غايات واضحة بمحددات منضبطة .

مرجعية أو أدلة الجمع بين العلوم :

قرر النورسى فى أكثر من موضع من رسائله أن الآيات القرآنية جامعة بدلالاتها وإشاراتها لأنواع العلوم والمعارف الحقيقية والحاجات البشرية …وجميع خلاصات العلوم الكونية ،  وقوانين وشرائط الحياة الاجتماعية والتربوية والشخصية ، والحياة القلبية والمعنوية والأخروية . بل إن الكلمات القرآنية لها هذه الصفة. وأكد هذا المعنى عند تفسيره لقوله تعالى : (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّى ) [سورة الكهف:109]. وعَنى “بكلمات ربى”: القرآن،  فهو حىّ يتدفق بالحياة …هذه القوانين التى جاء بها القرآن إن سئلت من أين إلى أين ؟ لقالت بلسان إعجازها : نجئ من الكلام الأزلى ، ونرافق الفكر البشرى إلى الأبد (11) .

ولا شكّ فى أن النورسى متأثر بأبى حامد الغزالى فى قوله: “…وبالجملة فالعلوم كلها داخلة فى أفعال الله عز وجل وصفاته ، وفى القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته ، وهذه العلوم لا نهاية لها ،  وفى القرآن إشارة إلى مجامعها ….بل ما أشكل فيه على النظار واختلف فيه الخلائق فى النظريات والمعقولات ففى القرآن إليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفهم بدركها….”(12).

حتى العلوم الدنيوية _فى نظر الغزالى _تنشعب من القرآن ، قال: والعلوم الدنيوية كالطب والنجوم وهيئة العالم …فليست أوائلها خارجة عن القرآن ، فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى هو بحر الأفعال (13).

فالقرآن – إذن مصدر للمعرفة الدنيوية الأخروية،  ومصدر للعلوم الكونية والاجتماعية و الإنسانية ،  بدلالة آياته وإشارات تلك الآيات،  فضلاً عن ضمه هذه العلوم تحت جناحيه ،  بتأطيره للأبعاد التى يمكن أن تصلها ،  وتسويره للحدود التى تنتهى إليها . إن المعرفة مملكة يتربع القرآن علي عرشها .

غير أن النورسي لم يتوقف عند حدود كلام الغزالي ،  فلقد طوّر بعض الأفكار ،  ودلّل علي بعض الحقائق ،  وأسند كلام الغزالى ألى دعامات قويّة ،  ستتضح بعد استكمال عرض أفكار النورسي في عملية الأسلمة .

ولكن هناك قضية ينبغى أن لا تغيب عن أذهاننا ، وهى أن النورسى يصنّف على أساس أنه من علماء الشريعة والدين ، وإن درس واطّلع على العلوم الأخرى كالرياضيات والفلسفة والفلك والجغرافيا…فحديثه فى الأسلمة يكتفى منه بإثارة هذه القضية ووضعها على عتبة الأولويات ،  والدعوة إليها بوصفها منهجًا قويمًا فى إعادة بناء المنظومة المعرفية البشرية على أُسس الوحى وهداياته الشاملة. هذا ما يمكن أن يقدمه عالم متضلع فى علوم الشريعة .

الجهود التى تتطلبها عملية الأسلمة :

يعترف النورسى أن عملية التأصيل لا تتم بمجهود علماء الشريعة وحدهم، ولا تتم – كذلك –  بمعزل عنهم ، فمن الحماقة بمكان أن يُظن أن عملية الأسلمة يمكن أن تتم بمعزل عن المتخصّصين فى علوم الشريعة؛ ليخلو الأمر إلى علماء الإنسانيات والاجتماعيات الذين يعوزهم المنهج المتكامل والمؤهلات الكافية فى التعامل مع القرآن الكريم،  بل لا بدّ أن تتضافر كل الاختصاصات على ذلك .هذا ما أشار إليه النورسى فى دعوته إلى تفسير القرآن من قبل جماعة متخصّصة من العلماء تجمع تخصصاتها علومًا شتى ، وذلك للكشف عن معانى القرآن وجمع المحاسن المتفرقة فى التفاسير، وتثبيت حقائقه المتجلية بكشف الفن – العلم الحديث – وتمخيض الزمان من انتهاض هيئه عالية من العلماء المتخصّصين المختلفين فى وجوه الاختصاص ، ولهم مع دقة نظر وُسْعَةُ فكر لتفسيره (14).

وهذه دعوة صريحة إلى تفسير موسوعى للقرآن يقوم على أساس تضافر جميع التخصصات وتعاضدها، إنْ فى العلوم الإنسانية والاجتماعية أو فى العلوم الكونية والطبيعية.لكن لا يفهم من هذا أن التفسير يكون على هيئة اجتماعات ولقاءات منتظمة ، بل يوجّه النظر إلى طبيعة المنهج الصحيح فى تفسير القرآن،  منهج يقوم على تعاون مستمر،  والتقاء مثمر تشارك فيه شتى ميادين التخصص المعرفى .

أقول:ينبغى أن نقبل هذا الإسهام فى عملية الأسلمة من النورسى،  ولا نطلب منه المزيد نظرًا لطبيعة تخصّصه،  وللمعركة التى يقف منها على ثغرة عظيمة .

طبيعة التأصيل الإسلامى للعلوم الإنسانية والكونية :

أولاً :مصدر العلوم ووحدتها ودلاتها :

سبقت الإشارة إلى مصادر المعرفة عند النورسى المتمثلة فى الوحى والمشاهدة والاستقراء والتجربة،  وسنبين هنا أنه قد نجم عن الأزمة المفتعلة بين الدين والعلم فى بيئتنا الإسلامية آثار غير محمودة العواقب،  حيث سادت الفوضى والاضطراب مختلف العلوم فأصبحت متحيزة ضدّ بعضها البعض، بل محاربة لبعضها البعض، ومستهينًا بعضها بشأن الآخر. وترى من آثار الفوضى السائدة كيف حُصرت علوم الوحى فى أضيق نطاق ، وعزلت عن بقية العلوم ، وتعرض دارسها لسوء التقدير فى سُلّم الرواتب والعلاقات الاجتماعية،  إذا ما قورنت بالعلوم الأخرى : الإنسانية والاجتماعية والطبيعية،  فأعطيت أولوية كبيرة،  وأهمية خاصّة لعلوم الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والحاسوب، بينها أهملت علوم الوحى؛ لتحذو مناهجنا التعليمية والتربوية حذو الغرب فى ترسيخ مادية العلوم .

إن هذه النظرة ليست وليدة حماقة عمياء_وإن كانت جديرة بهذا الوصف _بل هى تأسيس وترسيخ للنظرة الإصلاحية الحديثة التى قام بها الغرب ضدّ سلطته الدينية الحاكمة المتمثلة فى الكنيسة آنذاك….قذفوا بهذه النظرة فى بيئة غير بيئتها ، وفى جوّ لا يعانى من مشكلات بين العلم والدين ، واقتفى أثر هذه النظرة ربائب الغرب من أبناء المسلمين .

إن ما يستفاد من معنى العلم “أنه إدراك الشئ بحقيقته ، ويكون إما بإدراك ذات الشئ ، أو بالحكم عليه بوجود شئ هو موجود له،  أو نفى شئ هو منفى عنه (15). وهذا يقتضى أن إدراك الشئ على ما هو عليه،  وبما يثبت له من أوصاف ، أو ينفى عنه من صفات هو ما يسمى “علم” .ومن أول وظائف العلم نفى الجهل وإعدامه ، وتثبيت الحق مكانه .وهذا – أيضًا – يقتضى أن الحقائق فى مختلف العلوم والمعارف من شأنها أن لا يكذب بعضها بعضًا ، وأن لا يناقض بعضها الآخر، ما دامت تسعى جميعًا لإدراكًا حياديًّا ، لا تتدخل فيه نظرات مسبقة، أو تصورات لا تتلاءم مع هذه الحقائق فتزحزحها عن حيادها وتدفعها إلى التحيز ضد أم الحقائق وهو الوحى .

إن الحياد فى الإدراك من شأنه ان يجعل العلوم سائرة مع بعضها فى تناسق مستمر؛لتواكب ذلك التناسق العجيب فى نظام الكون ، فيتوجه النظامات :نظام العلم ، ونظام الكون بالسجود إلى واضح هذا النظام .إن البعد الغيبى ينبغى أن يكون حاضراً فى نظام المعرفة وأوضاع العلوم؛ ليأخذ دوره فى توفير الأمان وضمان السلامة لها، بل وتوفير الجهد والطاقة الإنسانية فيما تفوق به على عقل الإنسان وفكره .هذا – فى تقديرى – ما يريد أن يصل إليه النورسى: ربط العلوم بمصدرها .

لقد رأى النورسى أن العلوم جميعها تدل فى انتظام واتفاق على وحدانية الخالق سبحانه وتعالى (16)،  وعلى دليل عنايته بالخلق ، وعلى انتظام هذا الخلق واتساقه على وجه الكمال والشمول ، ويستدعى العلوم الحديثة لتشهد على هذه الحقيقة ، يقول مؤكداً هذه الحقيقة : يا هذا! إن لم يُحِطْ نظرك بهذا النظام العالمى المزيّن بفصوص الحكم ،  ولا تقتدر على الاستقراء التام ، فانظر بجواسيس الفنون – وسائل العلوم الحديثة – التى هى الحواس لنوعك ….لترى نظامًا يبهر العقول ، وتعلم أن كل فن من فنون الكائنات كشّاف بكلية قواعده عن اتساق وانتظام لا يعقل أكمل منهما …والفنّ عبارة عن قواعد كلية ، وكلية القاعدة تدل على حسن النظام؛ إذ ما لا نظام له لا تجرى فيه الكلية ، وهذا بدوره يؤدى إلى أن كل فن من فنون الكونية بسبب كلية قواعده ينتج بالاستقراء التام نظامًا كاملاً شاملاً ، وإن كل فنّ برهان نيّر يشير إلى الحكم والفوائد المستترة فى معاطف انقلابات الأحوال،  فترفع الفنون أعلام الشهادة على قصد الصانع وحكمته ، كأن كل فن نجم ثاقب فى طرد شياطين الأوهام (17) .

بينما الفلسفة التى قامت عليها العلوم الحديثة لم تكن حيادية النظرة؛ ولذلك اتخذت من هذه العلوم وسائل إلى نفى الخالق ، وحصر الدين فى زوايا ضيّقة ، وإثارة فوضى علمية مفزعة!!

ويتضح هذا أيضًا من تقرير النورسى لجواب على سؤال طرحه بعض تلاميذه ، فقد سألوه أن يعرّفهم بخالقهم ؛لأن مدرّسيهم لا يذكرون الله لهم !فكان جوابه :إن كل علم من العلوم التى تقرؤونها يبحث عن الله دومًا ، ويعرّف بالخالق الكريم بلغته الخاصّة،  فأصغوا إلى تلك العلوم دون المدرسين(18) .

وكثيراً ما يبيّن النورسى أن كل علم من مئات العلوم التى توصّل الإنسان إلى كشفها بما يملك من شعور يعرف تجليًا واحداً من تجليات اسم “الحكم” فهذه الكائنات ينظر إليها علم الطب والصيدلة والكيمياء والهندسة والزراعة والتجارة وعلم الإعاشة وعلم التغذية بما يحقق المصلحة للبشر…وكذا لو سئل علم العسكرية عن هذه الأرض ، وعلم الكهرباء؛ لنظروا إليها من الزاوية نفسها. قطعًا: أن هذا الكون قد زيّن بحكم ومصالح شتى ضمن انتظام كامل لا نقص فيه، وأن تلك الأنظمة البديعة والحكم السامية النابعة من تلك الحكمة المعجزة المحيطة بالكون قد أدرجت بمقياس أصغر، حتى فى أصغر كائن حىّ ، وفى أصغر بذرة (19) .

وهذا يعنى أن العلاقة القائمة بين العلوم وغاياتها ووحدة نظامها وفلسفتها علاقة تلازم وتكامل ،  فكما أن العلوم تشهد بوجود الخالق المدبر الواحد الأحد،  كذلك تكون هذه الوحدانية منتظمة فى هذه العلوم،  فتكون كالروح الذى يسرى فيها جميعا. وكما تؤدى هذه العلوم إلى معرفة الخالق تتطلب السير فى الأرض والنظر فى الكون والأنفس ؛لا كتشاف العلوم ومعرفة نظامها وطبيعتها،  فإنما يخشى الله من عباده العلماء. وهذا كله يشير بوضوح لكل ذى عينين إلى أن أهمية الوحى وضرورته القاطعة فى قيام فلسفة العلوم وغاياتها وأهدافها على توجيهاته وإرشاداته،  وعلى التصورات التى بناها عن هذا الوجود بأكمله (20) .

ثم يشير النورسى إلى نظام الوحدة الذى تنتظم به موجودات الكون ، وما يقتضيه هذا النظام،  ودلالة هذا النظام على الانتظام المقابل فى العلوم جميعًا،  فيبيّن أن موجودات الكون بأنواعها المختلفة يحكمها نظام قائم على التعاوم والتسائد والتجاوب والتعانق ، ويسعى كل جزء منها لتكملة مهمة الآخر، بحيث تمثل بمجموعها وأجزائها وحدة واحدة كوحدة أجزاء جسم الإنسان التى تتعصّى على الانقسام والانفكاك …إن هذه السمات الواضحة على وجه الكون إنما هى أختام كبرى،  وبصمات ساطعة للتوحيد (21) .

إنه لو نظرنا إلى الكرة الأرضية التى هى موظف مأمور من لدن الفرد الواحد جل جلاله لوجدناها جنديًّا مطيعًا لله الواحد الأحد،  هذا الانقياد يلزمها بانتظام سيرها وحركتها ، فيتفرع عن ذلك علوم كثيرة كالفلك والجغرافيا ….إذا عرفت هذا،  فإنك تعلم عندئذ مدى جهل المتشدقين بالطبيعة وعبّاد الأسباب،  وفى أى درك من وحل الحماقة يتمرغون ، وفى أى بيداء وهم يتيهون،  وقس عليه بُعدهم كل البعد عن ميدان المنطق والعقل السليم(22) .

يتوجّه النورسى ببحثه الفذّ إلى بيان إعجاز الصنعة الإلهية التى حكمت نظام الكون وأثرها على العلوم؛ليُعلم أن جرّ العلوم إلى دوائر إلحادية هو مما جناه البشر على هذه العلوم بتوجيههم إيّاها هذه الوجهة المتكلفة، ولا ريب أن هذه العلوم لا بدّ أن تثور على هذا التوجيه المنحرف يومًا ما،  بصورة أو بأخرى .

فتجده – مثلاً – يذكر أن قوله تعالى :(وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم)[سورة الحجر:21]. يشير إلى أن الحكمة العامة المهيمنة على الكون – والتى هى تَجَلًّ أعظم لاسم “الحكيم” – إنما تدور حول محور الاقتصاد،  وعدم الإسراف ، بل تأمر بالاقتصاد.

ويستنبط من ورود ذكر “الميزان”فى سورة الرحمن أربع مرات – أن “العدالة والاقتصاد والطهر “التى هى من حقائق القرآن ودساتير الإسلام ما أشدّها إيغالاً فى أعماق الحياة الاجتماعية ، وما أشدّها عراقة وأصالة .قال:وأدرك من هذا مدى قوّة ارتباط أحكام القرآن بالكون ، وكيف أنها مدّت جذوراً عميقة فى أغوار الكون فأحاطته بعرى وثيقة لا انفصال لها (23)،  أى :شدّة اتصال أحكام القرآن بعلوم الكون وعلوم الحياة .

وفى تفسيره لقوله تعالى :(وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس )[سورة الحديد:25]قال :لا يريد القرآن أن يبين استخراج الحديد تدريجيًّا من هذا المخزن الصغير – الأرض – بل يريد أن يبين أن تلك النعمة العظمى قد أنزلت من الخزينة الكبرى للكون مع كرة الأرض ،  وذلك لإظهار أن الحديد أكثر ضرورة لخزينة الأرض ، بحيث إن الخالق الجليل عندما فصل الأرض من الشمس أنزل معها الحديد ليحقق أكثر حاجات البشر ويضمنها .فالقرآن الكريم يقول بإعجاز :أنجزوا بهذا الحديد أعمالكم ، واسعوا للاستفادة منه بإخراجه من باطن الأرض (24)،  ولايتم ذلك إلا عن طريق العلوم ، علم طبقات الأرض،  وعلم الهندسة الصناعية …وغيرها من العلوم .

ويرى النورسى أن فلسفة استخدام الحديد قائمة على جلب المنافع ودفع المضار،  قال: ولقد شوهد تحقق منافع الحديد المهمة للبشرية قبل نزول القرآن ، إلا أن القرآن يبيّن أن الحديد سيكون فى المستقبل فى صورة تحير العقول،  سيراً فى البحر والهواء والأرض حتى إنه يسخر الأرض،  وبظهر قوّة خارقة تهدد بالموت ، وذلك بقوله تعالى :(فيه بأسّ شديد ) مُظهِراً لمعه إعجاز في إخبار غيبي (25) .

وبمفهوم النورسي يمكن أن نقول: أن الإلحاد حينما خيّم العقلية الحديثة كان – بلا ريب – السبب الرئيس الكامن وراء تشيّت العلوم،  وعزلها عن مصدرها،  وجعل منها وسيلة سخرية واستهزاء بالدين . وإذا تفيأ التوحيد مكانه الصحيح أمكنه أن يُعيد كل شئ إلى النورسى يريد أن يقول :إن العامل الحاسم فى عملية أسلمة العلوم الحديثة عامّة لا يتوجّه ابتداء إلى هذه العلوم فإنها وسائل ، وهى لا تقود إلا إلى خير . إنما يتوجّه إلى العقلية التى تصورت العلوم على هذه الكيفية لدعوتها إلى الاعتراف يالتوحيد بوصفه النقطة المركزية،  والنواة الأصلية لهذه العلمية. إن التوحيد ضمن أن يتربع على عرش العقلية الحديثة ويهيمن عليها،  وحُقّ له ذلك؛ لمَا يمتلكه من حقائق معصومة،  وبواعث سامية ، عندئذ تبتدئ هذه العقلية بمراجعة تصوراتها لهذه العلوم . وهذه خطوة ضرورية منهجية ينبغى أن تتحقق فى البيئة التى نبتت فيها تلك العلوم .

إن العملية تحتاج إلى التبشير بالإسلام من جديد بالصورة التى تحقق هذه الأبعاد المعرفية . هذا هو الشق الأول اللازم تحقيقه فى هذه العملية . وينبغى للجهود المباركة التى أخذت على عاتقها القيام بعملية التأصيل أن تتيقظ لهذا الأمر بالتبشير بالدين وقيمه القائمة على أساس الوحدانية المطلقة لله تعالى ، ليس فى البيئة الإسلامية ،  بل فى البيئة الغربية الإلحادية .

أما بيئتنا الإسلامية فإن الأسلمة فيها تستدعى بعض الخطوات الضرورية،  ومن بين تلك الخطوات: القيام بإجراء عمليات جراحية للعلوم الوافدة كى يتحقق شفاؤها،  فتعود إلى رشدها. هذا فى تصورى ما تتطلبه جهود المتخصصين من العلماء فى شتى المعارف،  غير أن هذه العملية لا ينبغى أن تبقى ذيلاً للعلوم الغربية وتابعة لها،  بل ينبغى أن تستفيد من تجاربها فتتجاوزها ؛ لتشكل بذاتها علومًا إنسانية واجتماعية وطبيعية قائمة على هداية الوحى، ومعترفة بوحدانية العلوم؛ لنصدرها إلى البيئة المعرفية الغربية ؛لتكون بديلاً قويمًا لمنظومته المعرفية. وذلك من خلال طريقين متكاملين:

– طريق الاجتهاد المؤهل الواعى فى نصوص الكتاب والسُنّة لتنزيلها على الواقع المعاصر، وكسر الإطار التاريخى الذى أحاطهما به التقليد ، والأفهام الفجّة؛ ليستأنف النص دوره فى مواكبة حياة الأمّة ، وإرشاد مسيرتها المعرفية.

 – وطريق الفهم المبصر للثروة التراثية الهائلة التى خلفها علماء الأمّة فى ميادين العلم والمعرفة؛ لتكون قادرة على تمكنها من الوقوف، بل والانتصار فى ساحة المواجهة. وبذلك يتحقّق الشق التانى من عملية تأصيل العلوم تأصيلاً منهجيًّا إسلاميًّا .

ثانيًا: فلسفة هذه العلوم ونقطة ارتكازها وتوازنها:

يشهد الواقع الفكرى فى الساحة الإسلامية المعاصرة- فى هذا المجال – حديثًا مستفيضًا عن عملية التأصيل الإسلامى فى العلوم الإنسانية والاجتماعية ، أما العلوم الكونية والطبيعية فلم تتناولها جهود ذات بال بعد. ولعّل السبب – كما هو ظاهر – أن العلوم الطبيعية أكثر حيادية من قريناتها فى الإنسانيات والاجتماعيات ، وتتعامل مع قوانين مادية،  وقضايا مجرّدة .وعملية تأصيل هذه العلوم إسلاميًّا تتحدّد وتنضبط بتوجيه غاياتها وأهدافها وفلسفتها،  وطرق الاستفادة من هذه العلوم ماديًّا،  إضافة إلى الخطوة الأساسية فى هذه العلوم ، ومنتهاها ، وبيان آثارها الإيمانية المتوجهة إلى الاستسلام للخالق جل جلاله .

لقد توجهت عناية النورسى إلى هذه القضية ابتداء؛ ليبيّن أن العلوم عامّة لا يمكن أن تستند إلى لا شئ ، ولا يمكن أن تكون مطلقة هكذا ، تخّيم عليها العبثية ، وتهيمن عليها الفوضى. ولذلك بيّن أن كل ما ناله الإنسان – من حيث جامعية ما أودع الله فيه من استعدادت –من الكمال العملى والتقدم التقنى والفنى ، ووصوله إلى خوارق الصناعات والاكتشافات تعبّر عنه الآية الكريمة بتعليم الأسماء : (وعلّم آدم الأسماء كلها)[سورة البقرة: 31] .بمعنى :أن لكل كمال وعلم وتقدم وفن حقيقة سامية تستند إلى اسم من أسماء الله الحسنى،  وفى هذا الاستناد يجد كلٌّ منها كماله،  ويصبح حقيقة فعلاً،  وإلا فهو ظل باهت ناقص مبتور مشوش(26) .

يسترشد النورسى بهذه الآية ليبين نقطة استناد العلوم الطبيعية والإنسانية كلها, والحكمة التى قامت عليها ، فيقول :إنه تعالى بتعليم آدم الأسماء كلها يفيد تعلم جميع العلوم والفنون الملهمة لبنى آدم ، فمثلاً :

علم الهندسة حقيقته وغاية منتهاه الوصول إلى اسم العدل المقدّر،  وبلوغ مشاهدة التجليات الحكيمة لذلك الاسم بكل عظمتها وهيبتها فى مرآة علم الهندسة .

وعلم الطب مهارة ومهنة ، وحقيقته الاستناد إلى اسمه تعالى:” الشافى” ، فيصل الطب إلى كماله،  ويصبح حقيقة فعلاً بمشاهدة التجليات الرحيمة لاسم “الشافى” فى الأدوية المبثوثة على سطح الأرض الذى يمثل صيدلية عظمى .

والعلوم التى تبحث فى حقيقة الموجودات كالفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان،  هذه العلوم التى حكمة الأشياء يمكن أن تكون حكمة حقيقية بمشاهدة التجليات الكبرى لاسمه تعالى : “الحكيم” جل جلاله فى الأشياء. وهى تجلّيات تدبير ، وتربية ، ورعاية .وبرؤية هذه التجليات فى منافع الأشياء ومصالحها تصبح تلك الحكمة حكمة حقًّا. أى: باستنادها إلى ذلك الاسم،  وإلى ذلك الظهير تصبح حكمة فعلاً . وإلا فإمّا أن تنقلب إلى خرافات ، وتصبح عبثًا لا طائل من ورائها ، أو تفتح سبيلاً غلى الضلالة،  كما هو الحال فى الفلسفة الطبيعية المادية (27).

وهذه قضية بالغة الأهمية ؛ لن نقطة الاستناد تحدّد مسار هذه العلوم وغاياتها،  وتقرر أن هذه العلوم ليست مقصودة لذاتها ؛ولكنها ضرورية بوصفها مظهراً من مظاهر تجليات أفعال الله تعالى وأسمائه الحسنى. وبعبارة أخرى: إن هذه العلوم تحيط الهداية الإمانية بأبعاد جديدة ،  وتجعل العقيدة فى أرقى مستويات الهيمنة على مسلك الإنسان فى أفعاله،  وفى منهج تفكيره. إن النورسى يهدف إلى تقرير البعد الإيمانى فى عملية أسلمة هذه العلوم بوصفه النتيجة الأولية منها ؛ولذلك تكون هذه العلوم وسيلة هداية إلى الإيمان والإسلام والإحسان .

هذه النظرة الحقيقية إلى العلوم مؤهلة تمامًا لتحل محل النظرة  المادية العاجزة عن تفسير كثير من نتائج هذه العلوم،  إما تحيزاً لتلك النظرة المادية على عللها أو إنكاراً لتدخل الوحى فى شؤون هذه العلوم .

ويلتفت النورسى إلى ملحظ آخر فى العلوم الطبيعية التى تتعامل مع ظواهر الكون على وجه الخصوص ، ويرى أنها مبنية على توازن عجيب،  وقائمة على نظام متناسق ؛لأنها تتعامل مع مظاهر كونية متناسقة متوازنة ؛يشهد بذلك العلوم التى توصل إليها الإنسان نفسها . لقد ذكر رحمه الله :”أن العلوم التى توصل إليها الإنسان ما هى إلا ترجمة لذلك النظام البديع ،  وتعبير عن ذلك التوازن الرائع. تأمل فى الموازنة الرائعة بين الشمس والكواكب السيّارة الاثنتى عشرة…تأمل فى الأرض تلك السفينة السابحة فى الفضاء بسرعة مذهلة دون أن تزعج من عليها …تأمل فى تولدات ووفيات النباتات والحيوانات وإعاشتهما وحياتهما على الأرض ، والتى يزيد عدد أنواعها على الأربعمائة ألف نوع…تأمل فى أعضاء كائن حىّ من الأحياء التى لا تُعدّ ولا تحصى ودقّق فى أجهزته وحواسّه…ترى فى كل ذلك انسجامًا تامًّا،  وتناسقًّا كاملاً وموازنة دقيقة ، كل أولئك يتوجّه ليدل على الجليل العدل الحكم (28) .

ثالثًا: تحقيق الكمالات المادية بهذه العلوم :

يلمح النورسى بعداً ذكياً فى فهم معجزات الأنبياء ودورها فى عملية أسلمة العلوم الطبيعية وطبيعته ؛لأن الوحى الإلهى كما أن من أهدافه تحقيق الكمالات المعنوية للناس من تزكية النفس وسمو الروح ، وتهذيب الخلق … كذلك أراد منهم أن يحققوا الكمالات المادية ، وسبيل النورسى فى هذا المسلك إعطاؤه معجزات الأنبياء أهمية بالغة فى تحقيق هذه الكمالات. لقد بين أن كل معجزة من معجزات الأنبياء تشير إلى خارقة من خوارق الصناعات البشرية ، إن يد المعجزة هى التى أهدت إلى البشرية الكمال المعنوى (29) .

إن قصص الأنبياء ومعجزاتهم تهدف إلى تشويق البشر وتشجيعهم على التوسل للوصول إلى أشباه هذه المعجزات . كأن القرآن بتلك القصص يضع أصبعه على الخطوط الأساسية ، ونظائر نتائج نهايات مساعى البشر للترقى فى الاستقبال الذى يُبنى على مؤسسات الماضى الذى هو مرآة المستقبل ، وكأن القرآن يمسح ظهر البشر بيد التشويق والتشجيع قائلاً له : اسمع واجتهد فى الوسائل التى توصلت إلى بعض تلك الخوارق (30) .

وسنبين الكيفية التى يرى بها النورسى معجزات الأنبياء محققة للكمالات المادية ؛لأن الإسلامية تمثل غاية الرقى والمدنية فى المعنويات والماديات :

أ – معجزة آدم عليه السلام :

معجزة آدم عليه السلام هى تعليمه الأسماء إظهاراً لاستعداده للخلافة ، وهى تشير إلى فهرس خوارق العلوم والفنون والكمالات،  وتشوق إليها جميعًا، مع إشارتها إلى أُسس الصنعة إشارة مجملة مختصرة:إن تعليم الإنسان – المالك لاستعداد جامع – علومًا كثيرة لا تُعد ، وفنونًا عديدة لا تُحصى حتى تستغرق أنواع الكائنات ، فضلاً عن تعليمه المعارف الكثيرة الشاملة لصفات الخالق الكريم وشؤونه الجليلة – هذا التعليم هو الذى أهّل الإنسان لينال أفضلية ليس على الملائكة وحدهم ، بل على السموات والأرض والجبال،  فى حمل الأمانة الكبرى (31).

وقوله تعالى:(وعلَّم آدم الأسماء كلها)[سورة البقرة:31] فيه خطاب بالمعنى الإشارى، كأن الله تعالى يخاطب بنى آدم فيقول:”يابنى آدم !إن تفوّق أبيكم آدم فى دعوى الخلافة على الملائكة كان بما علمته السماء كلها لتثبتوا جدارتكم أمام المخلوقات ؛فلقد مهّد الطريق أمامكم لبلوغ أسمى المراتب العالية فى الكون ، وسُخرت لكم الأرض فانطلقوا فيها وتقدموا، واستمسكوا بكل اسم من أسمائى الحسنى، واعتصموا به لتسموا وترتفقوا. واحذروا أن تتبعوا الشيطان فى رقّيكم فتكون ذريعة تردّيكم من سموات الحكمة الإلهية إلى ضلالة المادية الطبيعية.ارفعوا رؤوسكم وأنعموا النظر والفكر فى أسمائى ، واجعلوا علومكم ورقّيكم سلمًا ومراقى إلى تلك السموات ؛لتبلغوا حقائق علومكم وكمالكم، وتصلوا إلى منابعها الأصيلة ، تلك هى أسمائى الحسنى(32).

ب- معجزات إبراهيم عليه السلام:

يشير قوله تعالى:(قلنا يا نار كونى بردًا وسلامًا على إبراهيم)[سورة الأنبياء:69] إلى أن اقتدوا بإبراهيم ، كى يكون لباسكم لباس التقوى، وليكون حصنًا مانعًا ودرعًا واقيا فى الدنيا والآخرة تجاه عدوكم الأكبر : النار.لقد خبّأ الله سبحانه مواداً فى الأرض تحفظكم من شرّ نار جهنّم ،  فهلمّوا واكتشفوا هذه الموادّ المانعة من الحرارة ، واستخرجوها من باطن الأرض وألبسوها .

إن إيجاد مادة لا تحرقها النار هو ما تحثّ عليه الآية الكريمة،  لتحصيل حلّة قشيبة نسجت فى مصنع” حنيفًا  مسلمًا” لا تتمزق،  ولا تخلق،  وتبقى محتفظة بمجالها وبهائها إلى الأبد(33).

ج- معجزة داودً عليه السلام:

تشير المعجزة التى أجراها الله على يد داودُ عليه السلام،  وهى قوله تعالى :(وألنا له الحديد)[سورة سبأ:10] وقوله:(وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب)[سورة ص:20] . فتليين الحديد نعمة عظمى ، وهو أصل جميع الصناعات البشرية وأساسها،  وهو أم التقدم الحضارى من هذا الجانب ومعدنه. وما دام سبحانه قد كرمّ من هو رسول وخليفة معًا،  فوهب له الحكمة وفضل الخطاب،  وسلَّم إليه يد الصنعة البارعة،  فهو يحضّ البشرية على الاقتداء بما وهب له، ويرغّب على ما فى يده من صنعة ومهارة .

إن ما منحه الله تعالى لداوُد عليه السلام قوّة عظيمة لإرساء أركان خلافته ، وإدامة دولته وحكمه،  وما دام هذا الأمر ممكنًا ، ووقع فعلاً،  وذا أهمية بالغة فى الحياة الاجتماعية ، فانهضوا يا بنى آدم بأوامرى التكوينية تُهب لكم أيضًا الحكمة والصنعة،  فتقتربوا منهما بمرور الزمن وتبلغوهما (34).

كذلك فى تسخير الجبال لداوُد،  وتسبيحها معه والطير إشارة إلى أن قوُة تسبيحاته وأذكاره من القوّة العظيمة والصوت الرخيم والأداء الجميل ما جعل الجبال فى وجد وشوق كأنها حاكٍ عظيم تردد تسبيحات وأذكارًا. ويعنى النورسى بذلك صدى الصوت المتردد من تسبيح داوُد .هذه القابلية التى وهبت للجبال يمكن أن تنكشف وتنبسط أكثر من ذلك ، ولقد بسط الله له بذرة قابليته للخلافة ونمّاها حتى غدت الجبال منقادة إليه كأى جندى مطيع لأمره. كذلك تعليمه وتعليم سليمان منطق الطير فيه ما يشير إلى الاستفادة من قابليات الطيور والانتفاع منها،  واستنطاق الجمادات من هاتف وحاكٍ .

إن الانقياد لله تعالى والخضوع لأمره يؤدى إلى أن تنقاد للإنسان مخلوقاته المبثوثة فى ملكه ،  فالطريق – يا بنى آدم – ممهّد أمامكم إن استطعتم أن تقبضوا زمام تلك المخلوقات باسم الخالق العظيم ، وإذا سموتم إلى مرتبة تليق باستعدادكم ومواهبكم (35) .

د- معجزات سليمان عليه السلام :

لقد سخر الله الريح لسليمان عليه السلام،  يقول سبحانه : (ولسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر )[سورة سبأ: 12] .

فقد قطع عليه السلام فى شهرين. ومدلول هذه المعجزات فى تحقيق الكمالات المادية إشارتها إلى أن الطريق مفتوح أمام البشر لقطع مثل هذه المسافة فى الهواء. كأن الله تعالى يقول :”إن عبدًا من عبادى ترك هوى نفسه ، فحملته فوق منون الهواء ، وأنت أيها الإنسان !إن نبذت كسل النفس وتركته،  واستفدت جيدًا من قوانين سنتّى فى الكون يمكنك أن تمتطى صهوة الهواء(36) .

وقد أسال الله لسليمان عليه السلام عين القطر، :(وأسلنا له عين القطر )[سورة سبأ:12] ، وفى هذه المعجزة إشارة إلى بلوغ البشرية أقصى أمانيها فى الصناعة ، وكسبها القدرة الفائقة فى مجال القوّة المادية ، ويكون ذلك بتلبين الحديد وإذابة النحاس ، فما ورد فى معجزات داوُود وسليمان يستقطب أنظار البشرية عامّة إلى هذه الحقيقة،  وتلفت السالفين وكسالى الحاضرين إليها (37).

وقد وهبه أيضًا معجزة يتمكن بها من الاطلاع المباشر بنفسه ، وبلا تكلّف ولا صعوبة على أحوال رعاياه،  ومشاهدة أوضاعهم ، فكانت هذه المعجزة مناط عصمته وصونه من الشطط فى أمور الرعية .وهى وسيلة قوية لبسط راية العدل على أرجاء المملكة .فمن يعتمد على الله ،  ويسير فى حياته على وفق السنن الإلهية والعناية الربانية يمكن أن تتحول له الدنيا الواسعة كأنها مدينة منتظمة أمامه .

وما حدث من إحضار عرش بلقيس ماثلاً أمامه- بعينه أو بصورته – فى بلاد الشام بعد أن كان فى اليمن، فيه إشارة رائعة إلى إحضار الصور والأصوات من مسافات يعيدة .فالآية تقول :أيها الحكام إن كنتم تريدون أن تسود العداله أنحاء مملكتكم، فاقتدوا بسليمان عليه السلام، واسعوا مثله إلى مشاهدة ما يجرى فى الأرض كافة، ومعرفة ما يحدث فى جميع أرجائها . والحاكم العادل المشفق على رعيته لا يصل إلى مبتغاه إلا إذا استطاع الاطلاع متى شاء على أقطار مملكته….فالله تعالى يبيّن لكل إنسان من بنى آدم أنه قد وهب له قابلية فطرية ليكون خلفية فى الأرض بما زودّه من استعدادات يتمكن بها من مشاهدة الأرض بأطرافها ، وإن لم يستطع بلوغها ماديًّا…فسارعوا إلى العمل الجاد، واسعوا سعيًا حثيثًا كىّ تحوّلوا الأرض إلى ما يشبه حديقة صغيرة غنّاء.إن الآية تثير اهتمام الإنسان ، وبعثه لاكتشاف وسائل إحضار الأصوات والصور من أبعد الأماكن وأقصاها ضمن أدق الصناعات البشرية (38) . كذلك تسخير الجنّ والشياطين والأرواح الخبيثة له، قال تعالى: (وآخرين مقرّنين فى الأصفاد) [سورة ص: 38]. وقال :(ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك وكنّا لهم حافظين) [سورة الأنبياء:82] .

كأن المراد:”أيها الإنسان! إنى أسخر الجن والشياطين وأشرارهم لعبد قد أطاعنى ، وأجعلهم منقادين إليه، مسخرين له .فأنت إن سخّرت نفسك وأطعتنى قد تُسخر لك موجودات كثيرة، بل حتى الجن والشياطين .

والآيات تخّط أقصى الحدود النهائية، وتعيّن أفضل السُبل القويمة لللانتفاع، بل تفتح السبيل أيضّا إلى تحضير الأرواح ومحادثة الجّن (39) الذى ترشح من امتزاج فنون الإنسان وعلومه، وتظاهر مما تنطوى عليه من قوى ومشاعر فوق العادة، المادية منها والمعنوية. ولكن ليس كما عليه الأمر فى الوقت الحاضر، حيث أصبح المشتغلون بهذه الأمور موضع استهزاء، بل ألعوبة بيد الجن الذين ينتخلون أحيانًا أسماء الأموات،  وغدوا مسخرين للشياطين والأرواح الخبيثة، إنما يكون ذلك بتسخير أولئك بأسرار القرآن الكريم مع النجاة من شرورهم (40) .

ه- معجزة موسى عليه السلام:

لقد أجرى الله تعالى على يد موسى معجزات عديدة، كان منها العصا، كما يقرر قوله تعالى :(فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا)[سورة البقرة:60] وتُشير إلى إمكانية الاستفادة من خزائن الرحمة المدفونة تحت الأرض بآلات بسيطة، فيا أيها الإنسان! إن اعتمدت على قوانين الرحمة الإلهية أمكنك أن تخترع آلة شبيهة بتلك العصا، أو نظيرة لها.

إن الآية الكريمة قد وضعت الخط النهائى لحدود استخدام تلك الآلة، ومنتهى الغاية منها. كما خطّت معجزة سليمان أبعد النقاط النهائية وأقصى ما يمكن أن تبلغ إليه الطائرة (41) .

و- معجزة عيسى عليه السلام:

يبيّن الله جل ذكره ما أجراه على يد نبيه عيسى عليه السلام، فيقول على لسانه :(وأبرئ الأكمه والأبرص وأُحيى الموتى بإذن الله) [سورة آل عمران :49] .كأن الآية تقول:” إنه يمكن العثور على دواء يشفى أشدّ الأمراض المزمنة ، والعلل المستعصية، فلا تيأس أيها الإنسان، ولا تقنط أيها المبتلى المصاب، فكل داء مهما كان له دواء ، وعلاجه ممكن، فابحث عنه، وجدْه، واكتشفه، بل حتى يمكن معالجة الموت نفسه بلون من ألوان الحياة المؤقتة.إن الآية ترسم أقصى المدى، وأبعد الأهداف التى يصبو إليها علم الطب البشرى(42) .

والنتيجة:ما دامت الآيات التى تخص معجزات الأنبياء عليهم السلام لها نوع خاص من الإشارة إلى خوارق التقدم العلمى والصناعى الحاضر، ولها طراز من التعبير كأنه يخط أبعد الحدود النهائية لها، وحيث إنه ثابت قطعًا أن لكل آية دلالات على معان شتى، بل هذا متفق عليه لدى العلماء…ولما كان هناك أوامر مطلقة لاتباع الأنبياء عليهم السلام والاقتداء بهم، لذا يصح أن نقول: إنه مع دلالات الآيات المذكورة على معانيها الصريحة هناك دلالات مشوّفة بأسلوب الإشارة إلى أهم العلوم اليشرية وصناعاتها (43) .

رابعًا: تحقيق الكمالات الإنسانية بهذه العلوم:

معجزة نبينّا محمد صلى الله عليه وسلم  تُشير بمضمونها وحقيقتها إلى تأصيل القرآن للعلوم كلها إنسانية واجتماعية وطبيعية…وبها يتمثل الإشراف الحقيقى على هذه العلوم برسم فلسفاتها وغاياتها ، وتأطير مداها وأبعادها، وبتحديد غاياتها وأهدافها. لقد أدرك النورسى هذا المعنى فى معجزة محمد عليه الصلى والسلام  .

يبيّن النورسى رحمه الله: أن المعجزة الكبرى للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم هى القرآن الكريم ذو البيان المعجز، وهو الآية الواضحة المفصلة لجميع مراتب الأسماء الحسنى كلها التى علمها الله آدم عليه السلام تعليمًا مجملاً؛ ولأن حقيقة تعليم الأسماء تتجلى فيه بوضوح تام، وبتفصيل أتم؛فإنه يبين الأهداف الصائبة للعلوم الحقة وللفنون الحقيقية، ويظهر بوضوح كمالات الدنيا والآخرة وسعادتهما، فيسوق البشر إليها، يوجهه نحوها، مثيرًا فيه رغبة شديدة فيها، حتى أنه يبين بأسلوب التشويق أن: أيها الإنسان! المقصد الأسمى من خلق هذا الكون هو قيامك أنت بعبودية كلية تجاه تظاهر الربوبية، وأن الغاية القصوى من خلقك أنت هى بلوغ تلك العبودية بالعلوم والكمالات (44) .

وهذا يشير بوضوح إلى التوجيهات الحقيقية للقرآن الكريم فى عملية أسلمة العلوم، وهى:رسم الأهداف وتحديد الغايات. وتوجيه الجهود الإنسانية لتحقيق الكمالات فى إطار الأهداف والغايات المرسومة. وتوظيف الجهود العلمية والكمالات المادية والمعنوية لبلوغ كمال العبودية لله ربّ العالمين .

إن الشريعة الإسلامية التى ختمت بها كافة الشرائع هى المحور الأصيل الذى يدور عليه نظام الحياة، ونظام المعرفة ، وهذا وجه بديع للأبعاد الحضارية لمفهوم إعجاز القرآن فى نظر النورسى؛ حيث يقرر أن الديانة والشريعة الإسلامية المؤسسة على البرهان العقلى، ملخصة من علوم وفنون تضمنت العقد الحياتية فى جميع العلوم الأساسية: من فن تهذيب الروح، وعلم رياضة القلب، وعلم تربية الوجدان، وفن تدبير الجسد، وعلم تدبير المنزل، وفن سياسة المدينة، وعلم نظامات العالم، وفن الحقوق،  وعلم المعاملات، وفن الآداب الاجتماعية..فمن زيّن وجدانه بالإنصاف يصدق بأن حقيقة هذه الشريعة خارجة عن طاقة البشر دائمًا، لاسيما فى هذا الزمان (45) . وهذا ما يؤهلها إلى أن تكون الأم الحانية على الكون وعلى المعرفة وعلى الحياة، وعلى الإنسان.

خامسًا: تأصيل مفاهيم العلوم ومعانيها :

تشمل عملية تأصيل العلوم منهجيّا من المنظور الإسلامى العناية بتحديد وتبيين مفاهيم هذه العلوم والظواهر الطبيعية والإنسانية والاجتماعية التى تتعامل معها هذه العلوم. فالعلوم ومفرداتها تحظى باهتمام بالغ فى عملية التأصيل .

ولقد أدرك النورسى هذا المعلم فى هذه العملية ، فحاول أن يردّ على الفلسفة الحديثة فى عبثها بمفاهيم الظواهر الكونية من خلال علومها؛ليبرز الأبعاد الغائبة – أو التى أجبرت على الغياب – من هذه المفاهيم، إنها أبعاد الوحى وتوجيهاته .والسرّ فى ذلك؛ أن النورسى ينظر إلى كل ما حوله بمفهوم القرآن الكريم ومنظوره، وبمفهوم القرآن يحكم ويقضى، وإلى مفهوم القرآن يرجع ويتحاكم. ولنلق الضوء على بعض ما قصد النورسى إليه فى هذه الخطوة المنهجية:

لقد عرض لتصور الفلسفة الغربية لمفهوم جرم كونى، وهو الشمس ، وردّ هذا التصور والمفهوم الناقص الذى تلقيه الفلسفة عليها. يقول: إن الفيلسوف الثرثار يوقعك فى الحيرة والدهشة بتعريفه للشمس بقوله: إن الشمس كتلة عظيمة من المائع النارى تدور حول نفسها فى مستقرها، تطايرت منها شرارات وهى أضنا، وسيارات أخرى، فتدور هذه الأجرام العظيمة المختلفة فى الجسامة…، فانظر ماذا أفادتك هذه المسألة غير الحيرة المدهشة،  والدهشة الموحشة،  إنها لم تفدك كمالاً علميًّا،  ولا ذوقًا روحيًّا،  ولا غاية إنسانية،  ولا فائدة دينية .

بينما الشمس فى منظور النورسى القرآنى:مأمور مسخر، وسراج منور، وفى تعبير “السراج”فى قوله تعالى:(وجعل الشمس سراجًا)[سورة نوح:16] ، تنبيه إلى رحمة الخالق فى عظمة ربوبيته،  وإفهام إحسانه فى سعة رحمته،  وإحساس كرمه فى عظمة سلطنته .

هذا هو البعد الغائب فى بيان المفاهيم الحقيقية للظواهر الكونية والطبيعية: إن هذه المخلوقات لا يبحث فيها لذاتها،  بل ولا عن ماهيتها، بل يبحث فيها بوصفها علامة على معرفة الصانع. إن هذه المفاهيم لا بدّ أن تفيد الكمال العلمى، والذوق الروحى،  والغاية الإنسانية ، والفوائد الدينية (46).

والحديث عن مفاهيم:”الطبيعية، والقوانين، والقوى” كان فى الغالب يتم بمعزل عن الوحى والدين، كأنها مفاهيم متضاربة أو متضادة, ببينما مفهوم الطبيعة فى نظر النورسى عبارة عن شريعة إلهية كبرى أوقعت نظامًا دقيقًا بين أفعال وعناصر وأعضاء جسد الخليقة المسمىّ بعالم الشهادة. هذه الشريعة الفطرية هى التى تسمىّ “سُنّة مجموع القوانين الاعتبارية الجارية فى الكون .

والقوى كل منها هو حكم من أحكام هذه الشريعة. والقوانين كل منها عبارة عن مسألة من مسائلها . ولاستمرار أحكام هذه الشريعة،  واطّراد مسائلها توهّم الخيال فجسّمها فى “الطبيعة” ، وعدّها موجودًا خارجيًّا مؤثرًا،  وحقيقية واقعة فاعلة،  بينما هى أمر اعتبارى ذهنى .

إن الطبيعة مطبعة مثالية وليست طابعة، نقش لا نقاشة، قابلة للانفعال لا فاعلة،  مسطر –آلة قياس – لا مصدر ، نِظَام لا نظَّام ، قانون لا قدرة، شريعة إدارية لا حقيقية خارجية (47) .

لقد أزال النورسى بهذا البيان المعانى الإلحادية التى أرغمت هذه المفاهيم على حملها؛ بسبب الهيمنة الهو جاء للغرب على العلوم. إن العلوم – مهما كانت – لا يمكن أن تدفع إلى الإلحاد أو تؤدى إليه،  بل هناك روح يسرى فى كيانها يقود – بكل يسر – إلى الإيمان ؛إن هذه الروح هى التى فُصلت – بالتصور الغربى – عن العلوم ، فأصبحت العلوم جسدًا لا روح فيها.

لقد بدأ علماء الغرب فى اتجاه مازال متواضعًا ولما يصبح ظاهرة عامة ، الدعوة إلى التقليل من التجريبية فى محاولة لإدراك تصور شامل للإنسان والكون والحياة ؛لأن التجريبية أوقعت الإنسان فى صراع مع نفسه،  يقول د. جيمس ب. كوننت (james b .conant) محدّدًا رسالة العلم الحديث للإنسان الحديث :إننا نعترف – بصغار وضعة – بذلك الخضم من الجهل الذى يحيط بنا ، حيث لا دليل لنا إلا التجريبية ، ومع ذلك ، فإننا لا نستطيع أن نضع حدودًا للتوسع المقبل فى “إمبراطورية العقل “. إن التدنى المستمر فى درجة التجريبية فى أعمالنا هو ممكن ،  وذو مغزى عميق فى وقت واحد .هذه هى – باختصار – رسالة العلم الحديث إلى الإنسان الحديث (48) .

ويلفت النورسى النظر إلى عظم جناية الفصل ما بين الغيب الذى يرسم الأفق الواسع للمعرفة ،  وبين العلوم نفسها حيث ألزمت أو قُيّدت بالتصوّر المادى فى التعامل مع ظواهر الكون ، أو فى تفسير نتائج هذا التعامل مما تفروه العلوم ؛وبناء على الفلك – مثلاً – قائلاً: يا من تعلم فى المدارس الحديثة مسائل فاقدة للروح فى علم الفلك ، فضاق ذهنه ، وانحدر عقله إلى عينيه ، حتى استعصى عليه استيعاب السرّ العظيم لقوله تعالى :(ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجومًا للشياطين )[سورة الملك :5] (49) مشيرًا إلى هذا العلم لما توضّح فى الآية الكريمة من رجم الشهب للشياطين .

سادسًا :الربط المنهجى بين قراءة القرآن وقراءة الكون :

هناك قضية مهمّة فى عملية تأصيل العلوم وفق التصور الإسلامى المنهجى الشامل ، تتمثل فى ربط قراءة القرآن الكريم قراءة حضارية منهجية مرتبطة بحقائق الكون الشاملة ، وظواهره المنتظمة ….أو البحث فى قضايا الكون ، وتفسير ظواهره ، وبيان حكمة وجوده ومآله …على وفق التوجيه والإرشاد المعصوم لنصوص القرآن الكريم ؛لأن الكون هو مظهر أفعال الله وتجلّى أسمائه الحسنى ، والقرآن هو كلام الله تعالى ، فيفهم كلامه على ضوء فعله ، ويفسّر فعله على ضوء كلامه .فالقرآن والكون كتابات يفسر أحدهما الآخر ، ويكشف عن مراميه ودلالات معانيه.

والنورسى رحمه الله يؤكد هذه الحقيقة ، أو هذا الأساس فى فهم القرآن ، فإذا ما فسر القرآن على هذا الأساس ، فإن حاجز التاريخ الذى تسوّرت به آيات القرآن فى عمل كثير من يزول بذلك الربط الواقعى المنهجى للقراءتين المفسرين سوف معًا ، يقول النورسى :”إن القرآن المقروء هو أعظم تفسير وأسماه وأبلغ ترجمان وأعلاه لهذا الكون البديع ، الذى هو قرآن آخر عظيم منظور “(50) .

بل يوجّه النظر إلى أن جزالة القرآن وسلامة أسلوبه وفطريته تكون بأن يتلو على الإنسان ما كتبته القدرة الإلهية فى صحائف الكائنات من آيات ، حتى كأن القرآن قراءة لما فى كتاب الكائنات وأنظمتها ، وتلاوة لشؤون بارئها المصوّر وأفعاله الحكيمة .فإن شئت فاستمع بقلب شهيد إلى قوله تعالى :(عمّ يتساءلون) وقوله :(قل اللهم مالك الملك) (51) .

إن العلاقة بين القرآن والكون وثيقة جدًّا ، ولا يمكن الفصل بينهما ، فالرسالة المحمدية مترشحة من حسّ الكون وشعوره وعقله ، فهى أصفى خلاصته ، بل إن حياة محمد صلى الله عليه وسلم – المادية والمعنوية – بشهادة آثارها حياة لحياة الكون،  والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له .والوحى القرآنى بشهادة حقائقه الحيوية روح لحياة الكون وعقل لشعوره ، أجل ،  اجل؛فإذا ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره مات الكون ، وتوفيق الكائنات .وإذا ما غاب القرآن وفارق الكون جنّ جنونه ، وفقدت الكرة الأرضية صوابها ، وزال علقها ، وظلت دون شعور ، واصطدمت بإحدى سيارات الفضاء ، وقامت القيامة (52) .

بهذه العلاقة يجعل النورسى القرآن ، بل الرسالة الإسلامية بعمومها مرتبطة بالكون ، فأول الناطقين باسم الكون ، وأولى المتحدثين الصادقين باسم الكائنات هو هذا القرآن الحكيم ، بل هذه الشريعة العالمية المعصومة بكمالها وشمولها .كذلك ، فإن أول الممثلين لحقائق هذا الكون وظواهره هى نصوص الوحى ، وليست العلوم ، بل العلوم تابعة لنور تلك النصوص فى توافق مستمر ، وانسجام كامل .

وقد وافق النورسى مدرسة المنار فى دعوتها إلى الجمع بين القراءتين، فقد قالت موجهة نقدًا شديدًا إلى العقلية التقليدية فى التفسير :

“أليس أكبر خذلان للدين وجناية عليه أن لا ينظر المنتسبون إليه فى آياته التى يوجههم كتابه إلى النظر فيها ، ويرشدهم إلى استخراج العبر منها،  أليس من أشدّ المصائب على الملّة أن يهجر رؤساء دين كهذا الدين العلوم التى تشرح حكم الله وآياته فى خلقه …ألا إنَ لله كتابين: كتايًا مخلوقًا وهو الكون،  وكتابًا منزلاً وهو القرآن ، وإنّما يرشدنا هذا إلى طرق العلم بذاك،  بما أوتينا من العقل ، فمن أطاع فهو من الفائزين ، ومن أعرض فأولئك هم الخاسرون “(53).

غاية الربط المنهجى بين القراءتين :

يتقرر الهدف من عملية الجمع بين القراءتين حيث تؤديان إلى التوحيد والاهتداء إلى الخالق الجليل سبحانه وتعالى. فكما أن الأدلة القاطعة برهنت على أن هذا القرآن لا يمكن إلا أن يكون  من عند الله تعالى بدليل عدم الاختلاف بين آياته كما قال :(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا) [سورة النساء :82]. كذلك فإن الانتظام المذهل ،  والانسجام الكبير بين كل مظاهر الكون يشهد أن هذا الكون لا يمكن إلا أن يكون من صنع الله الذى أتقن كل شئ ، يقول النورسى فى ذلك : “إن كل آية كونية من آيات قرآن الكون العظيم المنظور تعرض للأنظار معجزات نيّرات هى بعد نقاطها وحروفها،  فلا جرم أن المصادفة العشواء،  والقوّة العمياء،  والطبيعة الصمّاء البلهاء،  التى لا هدف لها ولا ميزان ، لا يمكن أن تتدخل فى أيّة جهة كانت فى هذا الميزان المتقن الخاص،  وفى هذا الانتظام البديع المتّسمين بالحكمة والبصيرة ” (54) .

ويربط النورسى بين إعجاز القدرة الإلهية وإعجاز القرآن العظيم؛ ليدلى كل إعجاز بشهادة للآخر، وليكون فى الإعجازين عبرة لكل عاقل ورشيد،  أو لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد .

ويشير النورسى فى هذا المقام إلى المنافقين الذين لم يروا الإعجاز فى نظم القرآن،  وذلك أمر لا يدعو للعجب ؛لأن المنافقين كذلك لم يروا الإعجاز فيما هو أشدّ وضوحًا وأبين دلالة وظهورًا،  وهو إعجاز القدرة الإلهية المتجلية فى كل مظهر من مظاهر هذا الكون الذّرة وحتى المجرّة .فيقول: إن توصيف الفاسقين المشككين فى إعجاز ونظمه بهذه الأوصاف فى هذا المقام أى فى قوله تعالى :(وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) [سورة البقرة:26] ، إنما هو لمناسبة لطيفة عالية،  كأن القرآن يقول: ليس ببعيد من الفساق الذين لم يروا إعجاز القدرة فى نظام الكائنات التى هى القرآن الأكبر أن يترددوا ويجهلوا إعجاز نظم القرآن ؛إذ كما يرون نظام الكائنات تصادفيًّا ، والتحولات المثمرة عبثًا اتفاقية ، فتستر عنهم – لفساد روحهم – حِكَمَه ؛كذلك بفطرتهم السقيمة وتهوسهم الفاسد رأوا النظم المعجز مشوشًا،  ومقدماته عقيمة،  وثمراته مُرَّة (55) .

ويؤكد غاية هذه القراءة المنهجية حين يجيب على شبهة تقول :لأى شئ لا يبحث عنها فن الحكمة والفلسفة ….والجواب: لأن الفلسفة عدلت عن طريق الحقيقة وضلّت عنها،  والقرآن الكريم إنما يبحث عن الكائنات استطرادًا  للاستدلال على ذات الله وصفاته وأسمائه الحسنى، أى :يُفهم معانى هذا الكتاب؛ كتاب الكون العظيم كى يعرف خالقه (56) .

تفوّق القرآن المسطور على القرآن المنظور :

لكن هذا لا يعنى فى نظر النورسى أن الكتابين متساويان فى القيمة والأهمية،  بل هناك هيمنة واضحة للكتاب الخالد المسطور،  وهو القرآن الكريم،  على كتاب الكون المنظور،  من هذه الناحية .

لذا،  فمن البديع أن يبيّن النورسى أن فى القرآن عينًا باصرة نافذة بحيث ترى جميع الوجود وتحيط به،  وتضع جميع الموجودات أمامه كأنها صحائف كتاب؛ فيوضح طبقاتها وعوالمها،  فكما إذا استلم الساعاتى ساعة صغيرة بيده يقلبها،  ويعرّفها ويفتحها،  كذلك الكون بين يدى القرآن الكريم بعرّفه ويبين أجزاءه (57)،  فهو الكتاب القادر على أن يجيب عن كل التساؤلات التى ما يزال أهل العلم والمدنية الحديثة يقفون أمامها حائرين إلى عصرنا هذا. يتحدث أحدهم(58) عن الانفجار الكبير(big bang the) الذى بدأ به كوننا،  فيقول: أما لماذا حدث هذا الانفجار،  فذلك هو أعظم لغز يحّيرنا (59) . لقد أعطى القرآن التصور الواضح،  والتفسير الصحيح عن ذلك الانفجار،  وتلك هى قصّة الخلق،  خلق الكون،  يقول سبحانه موجهًا نظر الذين كفروا إلى هذه الحقيقة: (أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقًا ففتقناهما،  وجعلنا من الماء كل شئ حىّ أفلا يؤمنون) [سورة الأنبياء:30]. بأن لهذا الكون ربًّا وخالقا .

ويضيف النورسى بعدًا آخر فى هذه القراءة الحضارية للقرآن الكريم،  ويقرر أن القرآن الكريم كما يفسر بعض آياته بعضًا، فكذلك العالم المادى،  يحتاج احتياجًا حقيقيًّا إلى شمس تفيض منها عليه أنوار نعمته تعالى،  كذلك العالم المعنوى يحتاج إلى شمس النبوة لفيضان أنوار رحمته تعالى،  فنبوة أحمد عليه الصلاة والسلام فى الظهور والوضوح والقطيعة بدرجة الشمس فى وسط النهار،  وهل يحتاج النهار إلى دليل (60) .

وإن القرآنين يدلان على عظيم شأن الله تعالى ودقة حكمته،  فإذا ساوى أحدهما الآخر،  تفوق القرآن المسطور فى الحسن والجزالة بسبب إقبال عدد غير محدود من المفكرين المطالعين له،  وهذا يؤدى إلى تنوع الكتب بتنوع الأفهام وتعددها،  وبذلك تتفاوت الفوائد فتتلاحق وبزداد الحسن والجزالة (61) .

وهذا بدوره يؤكد مرجعية القرآن فى كل شأن من شؤون الكون،  وهيمنته المطلقة على كل المعارف المتصلة بة؛ لأن امتداد إعجازه على ممر العصور والأزمان،  ومسايرته لنظام الكون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،  سيحفظ للقرآن هذه المكانة،  وتلك المنزلة فى مرجعتيه المعصومة .

الدعوة إلى بلوغ درجة الإحسان فى القراءة:

يشارك النورسى الغزالى فى دعوته إلى قراءة حقيقية للقرآن تتجاوز حدود الأصوات والألفاظ،  وتخترق حاجز الزمان والمكان؛ لتصل فى نهايتها إلى الاستماع من المتكلم الأزلى جل جلاله . فالنفس الشفافة،  والإحساس المرهق لهما أثر جلىّ فى قراءة القرآن أو الاستماع إليه؛ وبذلك تتجلى أنوار القرآن على قلب القارئ أو السامع،  والنورسى هنا يريد لمن يستمع القرآن أن يبذل أقصى استطاعته ليستمع إليه كما أُنزل،  وهذا مدرك من قِبَل بعض العلماء،  حيث قالوا: “اقرأ القرآن كأنه يتنزل عليك” . ومقصد النورسى من ذلك: أن تلبس لكل نغمة من نغماته – المتصوّرة على الحجب،  والمتنوعة فى المراتب الإرشادية،  والمنصبغة بحسيات الوسائط من جبرائيل عليه السلام إلى من تسمع منه – ما يناسبها،  فلك أن تمر بسمعك من القارئ فى مجلسك إلى الاستماع من النبى صلى الله عليه وسلم … ولك أن تستمع من جبرائيل وهو يخاطب النبى فى الأوفق الأعلى… ولك أن تستمع من خلف سبعين ألف حجاب من المتكلم الأزلى وهو يتكلم مع النبى فى قاب قوسين أو أدنى،  فالبس – إن استطعت – لكلٍ ما يليق به(62).

وهذا نهج فى القراءة قد سبق للغزالى أن دعا إليه محدِّدًا إياه بالقراءة،  فقد ذكر فى تعداده أعمال الباطن عند التلاوة: الترقّى،  وهو أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله عزّ وجل لا من نفسه. فدرجات القراءة ثلاث؛ أدناها: أن يقدر العبد كأنه يقرؤه على الله تعالى واقفًا بين يديه… والثانية: أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يراه ويخاطبه بألطافه،  ويناحيه بإنعامه وإحسانه… والثالثة: أن يرى فى الكلام المتكلم،  وفى الكلمات الصفات،  فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته… بل يكون مقصور الهمّ على المتكلم،  موقوف الفكر عليه،  كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم .

وهذه درجة المقربين،  وما خرج عن هذا فهو درجات الغافلين(63) .فالنورسى يبحث عن قراءة واعية للقرآن الكريم،  ويحث على اشتراك كل لطائف الإنسان فى عملية القراءة والاستماع بأن يشارك العقل الروحَ والقلب والوجدان؛ ليصل إلى مرحلة “اقرأ القرآن كأنه يتنزل عليك” .

هكذا وظّف النورسى إعجاز القرآن فى عملية أسلمة العلوم وتأصيلها،  يثبته ويواجه به الفلسفة العلوم الوضعية الغربية،  ويأبى إلا أن ترتكز المعرفة على أصول الوحى وهداياته وتصوراته وغاياته وفلسفته،  فلتنظر البشرية كلها هل هناك ما هو أجمع للعلوم،  وأقوم لحل مشكلات العلم والمعرفة غير هدى الوحى المعصوم! تلك هى إسلامية المعرفة التى يعدّ النورسى رائداً من روّاها. فقد دعا قولاً وعملاً إلى بناء المعرفة على مبدأ الوحدانية المطلقة لله تعالى،  وحدّد الإطار العام للمعرفة من حيث ماهيتها،  وطبيعتها،  وخصائصها،  وفلسفتها،  وغايتها،  وثمرتها. وهذا جهد كبير بذاله النورسى لمواجهة المنهج المعرفى الوضعى الذى يتبناه الغرب ويقيم عليه منظومته الفكرية. ويلاحظ كيف أن النورسى يدعو إلى إقامة عقلية مستقلة فى النظر إلى العلوم لا على أساس الفلسفة الغربية وعلومها التجريبية. لقد أهمل – كما هو ملاحظ – أىّ شأن للعلوم الغربية فى عملية التأصيل،  ولم ينظر إليها بوصفها مادّة مهمّة .

ولكن يبدو فى واقع الأمر سؤال بحاجة إلى تفصيل اكثر من النورسى رحمه الله،  وهو: ما هو شكل هذا المنهج الذى تتمّ فى ضوئه عملية الأسلمة،  وما محدّداته؟ لم يعتن النورسى بالإجابة التفصيلية عن هذا السؤال،  واكتفى بتحديد إطار وطبيعة هذا المنهج بوجه عام؛ والسبب أنه ظل يواجه عقلية مادية ملحدة. ومن ثَمّ تحوّلت القضية عنده إلى موضوع آخر هو الموضوع الأساس الذى يجبُ أن تتوجّه لحله العقول. فمخاطبة مادى لا يؤمن بالله تعالى بالتوافق والانسجام والوحدة بين العلوم أمر ثانوى فى نظر النورسى .

ولذلك رأيناه فى رسائلها كلها يواجه هذه العقلية الملحدة ليثبت ضلالها وعدم صدقها فى الأحكام التى تطلقها على المعرفة والعلم،  وعدّ الإيمان بوحدانية الله تعالى هو الأساس الذى يمكن إداراك العلوم على وجهها وحقيقتها .

ويبقى الاحتكام إلى منهج يضبط عملية الأسلمة قائمًا،  يحتاج إلى مؤسسات عملية وجهود بحثية كبيرة تقف على شأنه،  وترعى خطواته إلى مرحلة النضج،  حتى تنشأ الأجيال المسلمة الحاضرة والقادمة على معرفة توحيدية خالصة .

الهوامش

(1)بيّن النورسى أن المدينة الحديثة – بغرورها العلمى – قد جنت على الإنسان،  فلقد أفقرته – بعدم استماعها إلى الأديان السماوية – ومحقت أخلاقه ودفعته إلى ممارسة الخداع والانغماس فى الجرائم،  ومن هنا فسدت أُسس الأخلاق. والشاهد على هذا أن مجموع ما ارتبكته البشرية من مظالم وجرائم وخيانات فى القرون الأولى قاءتها واستفرغتها هذه المدنية الخبيثة مرّة واحدة،  وتنبّأ بأنها ستصاب بالمزيد من الغثيان فى قابل أيامها. انظر: النورسى؛ الكلمات،  ترجمة إحسان الصالحى(1992) دار سوزلر،  اسطنبول. ص:856- 857. وانظر:النورسى؛ المثنوى العربى النورى،  تحقيق: إحسان الصالحى (1988)،  مطبعة الزهراء،  العراق. ص: 226. والنورسى؛ الملاحق،  ترجمة: إحسان الصالحى(1995) دار سوزلر،  اسطنبول. ص: 380.

(2)عبد الحميد أبو سليمان؛ أزمة العقل المسلم(1991)،  المعهد العالمى للفكر الإسلامى،  فرجينيا،  الولايات المتحدة،  ص:214.

(3)أديب إبراهيم الدباغ؛ نظرية المعرفة عند النورسى (1995)،  مجلة النور،  تحرير جمال أو ساك،  اسطنبول. ص:57.

(4)انظر:النورسى؛ إشارات الإعجاز فى مظان الإيجاز،  تحقيق: إحسان الصالحى (1994)،  دار سوزلر،  اسطنبول. ص:196، 225. وانظر: الكلمات،  ص:363.

(5) النورسى؛ المكتوبات،  ترجمةإحسان الصالحى(1992)،  دار سوزلر،  اسطنبول. ص:462. والملاحق، ص:66. ويشيرالنورسى – موافقًا الإمام الغزالى – إلى أن أوسع المعارف وأرحبها هى معرفة الله تعالى،  وأنه تعالى خلق الكون لتُعرف ألوهيته ومحبة ربوبيته. ويبيّن أثر معرفة الله على استقرار الإنسان ونفسيته،  ويبيّن أن الذى لا يعرف الله يحمل فوق رأسه همومًا وبلايا بسعة  الدنيا وما فيها،  وهى نقطة استمداد وحيدة للإنسان. انظر: النورسى؛ اللمعات،  ترجمة: إحسان الصالحى(1993) دار سوزلر،  اسطنبول. ص:208، 288، 322. والكلمات،  ص:67، 828، 831، 838. وانظر: النورسى؛ صيقل الإسلام،  تحقيق: إحسان الصالحى(1995) دار اسطنبول. ص:122 .

(6)انظر:صيقل الإسلام،  ص:32-33 .

(7)المرجع السابق نفسه،  ص:32-33 .

(8)نفسه،  ص:530 .

(9)نفسه،  ص:428 .

(10)المرجع السابق نفسه،  ص: 430 .

(11)انظر: الإشارات،  ص:174. الكلمات،  ص:460، 466، 881. وانظر بعض هذا الكلام فى: اللمعات،  ص:47، 526. المكتوبات،  ص:247، 439، 506-508 .

(12)أبو حامد الغزالى،  إحياء علوم الدين(1986) دار الكتب العلمية،  بيروت،  ج1،  ص:341.

(13)أبو حامد الغزالى،  جواهر القرآن،  تعليق: خليل إبراهيم(1992)،  دار الفكر اللبنانى،  بيروت. ص:30/31 .

(14)الإشارات،  ص:25. وانظر: صيقل الإسلام،  ص:37 .

(15)الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى،  مفرادت القرآن(بلا تاريخ)،  دار المعرفة،  بيروت. ص:343 .

(16)الإشارات،  ص:61 .

(17)نفسه،  ص:150 .

(18)الكلمات،  ص:175، 749. وانظر: النورسى؛ الشعاعات،  ترجمة: إحسان الصالحى(1993) دار سوزلر،  اسطنبول. ص:257 .

(19)اللمعات،  ص:532- 534. وانظر:الكلمات،  ص:175- 178 .

(20)من المفيد أن أنبه هنا على شئ مثير للاهتمام،  وهو أن بعض علماء الغرب اليوم يحاول أن يقوم: إن هناك نظرة أخرى جديدة للفلسفة الغربية،  تضفى على العلوم وحدة جديدة مذهلة،  وحدة عميقة وبعيدة المدى فى آن معًا. ففى القرن العشرين تلتقى الفيزياء ومبحث الأعصاب،  وعلم النفس الإنسانى عند المبدأ نفسه،  مبدأ عدًم قابليته إرجاع العقل إلى مادّة…والنظرة الجديدة فضلاً عن توحيدها للعلوم،  توحد من جديد بين العلم والفن؛ لأن كلاً منهما يدرس الجمال وينشده بطرائق مختلفة. كذلك فالنظرة الجديدة تتبح التوفيق بين العلم والدين. انظر: روبرت أغروس وزميله؛ العلم فى منظوره الجديد،  ترجمة: نافع لبّس (1989) المجلس الوطنى للثقافة والفنون،  الكويت. ص:136- 137 .

(21)اللمعات،  ص:540- 552  .

(22)نفسه،  ص:548- 549 .

(23)انظر: اللمعات،  ص:526.

(24)نفسه،  ص:423- 424.

(25)نفسه، ص:424.

(26)الكلمات،  ص:290.

(27)انظر:الكلمات،  ص:290، 291، 463، 749.

(28)انظر: اللمعات،  ص:524- 525.

(29)الكلمات،  ص:279.

(30)الإشارات،  ص:238- 239.

(31)الكلمات،  ص: 270، 463، 489.

(32)نفسه،  ص:289- 290.

(33)نفسه،  ص:288- 289.

(34)نفسه،  ص:282.

(35)نفسه،  ص:286- 287.

(36)نفسه،  ص:280.

(37)نفسه،  ص:282- 283.

(38)نفسه،  ص:283- 284.

(39)استنبط النورسى من قوله تعالى:(فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرًا سويًّا) [سورة مريم:17] معنى تحضير الأرواح،  غير أنه يرفض الصور العديدة لتحضير الأرواح عند المعاصرين الذين يحضرونها إلى مواضع لهوهم،  وأماكن لعبهم،  والذى هو هزل واستخفاف رخيص. ولكن يمكن تحضير الأرواح بمثل ما قام به أولياء صالحون لأمر جاد،  ولقصد نبيل هادف،  من أمثال ابن عربى،  الذين كانوا يقابلون تلك الأرواح الطيبة متى شاءوا،  فأصبحوا هم منجذبين إليها،  ومنجلبين لها،  ومرتبطين معها،  ومن ثَمّ الذهاب إلى مواضعها،  والتقرب إلى عالمها،  والاستفادة من روحانياتها،  فهذا هو الذى تُشير إليه الآية،  وتُشعر إشارتها حضًّا وتشويقًا اللإنسان،  وتخط أقصى الحدود النهائية لمثل هذه العلوم والمهارات الخفية،  وتعرض أجمل صورة وأفضها. الكلمات،  ص:285.

قلت: كلام النورسى فى تحضير الأرواح لا دليل عليه،  وليس هناك ما يؤيده من كتاب الله،  ولا من سُنّة رسوله،  والكتاب والسُنّة حُجّة على من زعم هذا الزعم،  إن كان ابن عربى أو غيره. وما ذكره من معنى الآية هو باب الرمز أو الإشارة،  التى تنافى مقاصد الشريعة،  فما الذى يمكن تحصيله من هذا العلم؟ ولو كان حقًّا هذا الزعم؛ لأمكننا الاستغناء عن علم التاريخ ومدوّناته وتراجم الرجال بتحضير روح من نتحدث عنهم وسؤاله عما وقع وجرى!! إن تحضير الأرواح مشكلة تفتح بابًا من التشكيك فى الماضى،  بل وفى العديد من القضايا. فضلاً عن زعزعته لإيمان العوام….سامح الله النورسى على هذا الزعم. إن النورسى حبيب إلى قلوبنا،  ولكن الحقّ أحبُّ إلينا منه .

(40)الكلمات،  ص:284- 285.

(41)نفسه،  ص:280- 281 .

(42)نفسه،  ص:281 .

(43)انظر: الكلمات،  ص:279، 292- 293، 515.

(44)نفسه،  ص:291- 292.

(45)انظر: الإشارات،  ص:172. صيقل الإسلام،  ص:150.

(46)الكلمات،  ص:267.

(47)المثنوى العربى،  ص:429. وأقول: ينبغى للجهود المعاصرة المباركة أن تعنى بتأصيل المصطلحات التى تستخدمها،  سواء فى التعبير عن هذه الفكرة أو فى بيانها،  أعنى مصطلحات الآلة والغاية .

(48)جيمس كوننت،  العلم الحديث والإنسان الحديث،  ترجمة: عفيف بعلبكى(بلا تاريخ) دار الكتاب،  بيروت. ص:98.

(49)انظر: الكلمات،  ص:202- 210.

(50)الكلمات،  ص:143.

(51)اللمعات،  ص:196. المثنوى العربى،  ص:281.

(52)نفسه،  ص:567- 568.

(53)محمد رشيد رضا،  تفسير المنار(1973) دار المعرفة،  بيروت. ج2،  ص:63- 64.

(54)اللمعات. ص:530.

(55)الإشارت،  ص:212.

(56)الكلمات،  ص:266.

(57)المكتوبات،  ص:250.

(58)هو: د. كارل ساغان،  أستاذ علم الفلك وعلم الفضاء بمعهد ديفيد دنكان،  مدير معمل دراسات الكواكب بجامعة كورنيل. فى كتابه: “الكون” .

(59)ساغان،  الكون،  مرجع سابق،  ص:219.

(60)المثنوى،  ص:245. وانظر: صيقل الإسلام،  ص:130.

(61)المثنوى،  ص:283.

(62)المثنوى،  ص:246.

(63)انظر: الغزالى،  الإحياء،  مرجع سابق، ج1،  ص:338- 340.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر