Uncategorized

الأحكام الاعتقادية في محرر ابن عطية

مقدمة :

إن أشرف ما صُرِفَت إليه الهمم وفُنيَتْ في تدبره ومدارسته الأعمار هو كتاب الله تعالى؛ لأن شرف العلم من شرف المعلوم، ومن هنا فقد اهتم كثير من علماء الأمة بتفسير كتاب الله عز وجل، وقد كانت مناهجهم متنوعة تبعاً لعقيدة كلٍ منهم، فمن كان منهم على مذهب الأشاعرة طغى معتقد الأشاعرة على تفسيره، ومن كان على مذهب المعتزلة غلب معتقد المعتزلة على تفسيره، وهكذا.

ومع أن جل المفسرين متفقون على الجانب المنقول في التفسير، إلا أنهم اختلفوا في جانب الرأي، ما بين مطنب وموجز، وبين مهتم بالجانب اللغوي، وآخر معتن بالجانب البلاغي، ورابع بالجانب الفقهي في تفسيره…

وكما أن لكل فنٍّ مدارسه ومناهجه، فللتفسير أيضا  مدارسه،  ومن مدارس التفسير القيمة في العالم الإسلامي  نذكر مدرسة التفسير بالأندلس،  تلكم المدرسة العريقة التي كانت لها جهود عظيمة في خدمة كتاب الله تعالى على مر الأزمنة والقرون، فما خلت مرحلة من مراحل الزمن الغابر إلا ضربت بسهم وافر من علماء كانت  لهم الريادة والتقدم في هذا الباب.

وإذا كان من المفيد في  هذا المقال أن نشير إلى بعض هؤلاء العلماء لنلقي شعاعا على أساطين الفكر في الغرب الإسلامي ،نجد أن تلك الحقبة الزمنية حملت لنا خيرة المفسرين أمثال أبي عبد الرحمن بَقي بن مَخلَد (276 ه)[1]، وأبي محمد مكي بن أبي طالب القرطبي( 437 ه)[2]، وأبي بكر بن العربي المعافري (ت 543 ه)[3] وأبي العباس أحمد بن مسعود بن محمد القرطبي (ت 601 ه)[4]، وابن جزي الكلبي الغرناطي(ت741 ه)[5]،وأبي حيان الغرناطي(ت 745ه)[6]

وكان من العلماء الأفذاذ الذين نبتوا في تربة الأندلس، وأصبحوا من كبار مفسريها عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام المحاربي الغرناطي ثم الأندلسي المشهور بابن عطية ( ت 542 ه)  الذي أدرك شهرة  عظيمة بتفسيره الذي اختصر فيه كل ما كُتب قبله من التفاسير ، فراج رواجا عظيما في المغرب والأندلس، وحظي بمكانة عالية عند جميع المفســرين[7]، إذ إن مؤلفَه أفاض عليه من مكنوز علمه ، “فأحسن فيه وأبدع ، وطار بحسن  نيته كل مطار… فحرر وأجاد” [8] ما أضفى عليه روعة ودقة وقبولا كما يشير إلى ذلك العلامة ابن خلدون بقوله:” وهو تفسير مختصر للتفاسير بالمنقول، ملخص لها، مع العناية الفائقة في التحقيق والتمحيص والتحري بما هو أقرب للصحة والصواب ، حسن المنحى”[9].

فذاع اسم القاضي أبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الغرناطي المالكي بين عصرييه وأقرانه من أهل القرن السادس الهجري وفيمن جاء بعده من أهل القرون التالية ، ومرد ذلك إلى ما عُرف به الرجل من مساهمة في تنمية الدرس التفسيري وإثرائه بهذا الصقع وتحرير معانيه الذي أصبح منارة للعلماء، ونبعا ثريا لرجال الفكر والمعرفة، و منهلا يرتوي منه كل ظمآن  جاء بعده.

وليس هذا بمُستكثر على مُفسر مثل ابن عطية الذي أجبر ذاكرة التاريخ على المثول أمامه لتلتقط علومه الفريدة، وأعماله الخالدة ، ومصنفاته الباهرة ، والتي هي  ” بحق أصدق شاهد له بإمامته في العربية وغيرها”[10].

على أن اشتغال ابن عطية بالتفسير لم يحل بينه وبين الاهتمام بمعارف وعلوم أخرى ضرب فيها بسهمه الوافر حجبتها عن أعين الناس شهرته بالتفسير، من أبرزها علم القراءات والتفسير والحديث والفقه وأصوله، وعلم الكلام…

ومن ثمة فانتقاء الحديث عنه في هذه الدراسة باعتباره واحدا من مدرسة التفسير بالغرب الإسلامي وبالضبط اختيار (( الأحكام الاعتقادية في محرره الوجيز)) له ما يسوغه ، ليس من حيث السبق  الزمني، ولكن من حيث التدقيق والتمحيص الذي تفرد به  كما يُصرح بذلك ابن خلدون في مقدمته بقوله :”فلما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيص ، وجاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين، فلخص تلك التفاسير كلها – يقصد التفاسير التي استندت إلى الآثار المنقولة عن السلف – وتحرى ما هو أقرب إلى الصواب منها ،ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس حسن المنحى “[11] من جهة، ومن جهة أخرى استكشاف جوانب علمية في شخصية ابن عطية حجبتها عن أعين الكثيرين شهرته التفسيرية وتقديمها للمهتمين بتراث الغرب الإسلامي الذي شكل ابن عطية فيه مثالا للفقيه الغرناطي الذي بذل مجهودا جبارا في خدمة العقيدة الإسلامية الذي لم ينس نصيبه منها، شأنه شأن غير واحد من سلفه من فقهاء الأندلس؛ إذ ليس يخفى  على كل حصيف ما بذله مفسرو الغرب الإسلامي من مجهود في خدمة العقيدة الإسلامية نظرا لكون القرآن الكريم المصدر الأساس للتشريع، وبالأخص ما يتعلق بالإيمان والتوحيد فإن معظم القرآن الكريم حديث عن العقيدة.

  • فكيف تداخلت المسائل العقدية بالقضايا التفسيرية في محرر ابن عطية ؟
  • وبناء على أي مذهب عقدي حررها وناقشها؟
  • وإلى أي مدى كان الإمام ابن عطية رحمه الله ملتزما بمذهبه العقدي عند تفسيره لآيات الأحكام الاعتقادية؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة وما قد تتشقق به أو يتفرع عنها هو ما تسعى هذه المقالة العلمية إلى الكشف عن بعضه واستخلاصه، مستأنسين بالشاهد والدليل من بين ثنايا المحرر الوجيز.

أما خطة البحث فقد جاءت في مقدمة وثلاث مباحث على الشكل الآتي:

  • المبحث الأول: تحديد المصطلحات : الأحكام –الاعتقادية .
  • المبحث الثاني: المذهب العقدي لابن عطية من خلال مصادره المعتمدة في محرره.
  • المبحث الثالث: أحكام ومسائل عقدية اشتمل عليها محرره الوجيز.
  • خاتمة .

[1] أبو عبد الرحمن  بقي بن مخلد بن يزيد الأندلسي القرطبي الحافظ أحد الأعلام ، وصاحب ” التفسير ” ، و” المسند “، رحل إلى المشرق ولبث فيه أول مرة  14 سنة ، ثم رحل إليه مرة أخرى وبقي فيه 20 سنة ، في طلب العلم والحديث، ثم رجع إلى بلده ونشر فيه علم الحديث .ويقال إنه هو الذي نشر الحديث بالأندلس وكثره وليس لأحد مثل مسنده ولا تفسيره ، توفي سنة 276 ه .قال عنه مؤسس المدرسة النقدية في الغرب والعقائد والأديان “أبو محمد بن حزم ” :”وهو الكتاب الذي أقطع قطعا ، لا استثني فيه أنه لم يؤلف في الإسلام تفسير مثله “-ويضيف – ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره”. وكما كان علما في علوم  التفسير كان علما في علوم الحديث ، فمصنفه الكبير الذي رتبه على أسماء الصحابة – رضي الله عنهم –روى فيه على ألف وثلاثمائة صاحب ،ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه ، وأبواب الأحكام ، فهو مصنف ومسند ، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله مع ثقته وضبطه . عده الأندلسيون صنوا لفحول المشارقة من أمثال “محمد بن إسماعيل البخاري “وسليمان بن الأشعث السجستاني” وأحمد بن شعيب النسائي”. أنظر تذكرة الحفاظ ، للإمام الذهبي  2/368، دار إحياء التراث العربي ، بيروت .د.ت .

[2] اسمه حموش بن محمد بن مختار القيسي ، كان من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية ، حسن الفهم والخُلق ، جيد الدين والعقل ، كثير التأليف في علوم القرآن محسنا لذلك ، مجودا للقراءات السبع عالما بمعانيها .

[3] ولد باشبيلية وتلقى العلوم بها عن أبيه ،فأتقن القراءات ، ثم انتقل إلى قرطبة ودرس بها ،كان رحمه الله متبحرا في العلوم ، حريصا على نشرها ، غير أنه كان حاد اللسان متعصبا لمذهبه المالكي كما أورد ذلك محمد حسين الذهبي في كتابه ” التفسير والمفسرون” ،2/454-455  ط 7 ، سنة 2000، مكتبة وهبة ، القاهرة .

[4] له شرح على تفسير ابن عطية انتشر انتشارا عظيما بين أهل المشرق كما يقول ريبيرا. (RIBIRA) .

[5] هو محمد بن محمد بن جزي الكلبي( ت 758 ه)  ، الغرناطي المالكي ، المفسر الأصولي ، من  مصنفاته  ” التسهيل لعلوم التنزيل  في التفسير ” . تنظر ترجمته : الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب 2/274 – الدرر الكامنة لابن حجر  العسقلاني ،5/89.

[6] هو محمد بن يوسف بن علي أثير الدين أبو حيان الأندلسي( ت 745 ه) ، مفسر محدث ،أديب مؤرخ نحوي لغوي ،بلغت مؤلفاته ما يزيد عن خمسين مؤلفا منها : “البحر المحيط في التفسير ”  .ترجمته تنظر في بغية الوعاة 1/280 – والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع ، تأليف : محمد بن علي الشـوكــاني ( ت 1250 هـ)،2/272 – 279 ، دار المعرفة بيروت .

[7] يقول عنه الضبي في كتابه بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس  ص : 376″ إنه ألف في التفسير كتابا أربى فيه كل متقدم ” دار الكتاب العربي ، القاهرة ، 1966.

[8] الإحاطة لابن الخطيب 3/539.

[9] مقدمة ابن خلدون ، ص : 439 .

[10] بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي، ص : 292 ، تحقيق محمد  أبو الفضل إبراهيم  ، ط 1 .

[11] المقدمة لابن خلدون 3/1031.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر