نموذج بديع الزمان النورسي للنهضة الإسلامية
مقدمة
في عالم الأجداب والصقيع, حيث يعيش مسلم هذا الزمان , تنشق التربة أحيانا عن نبتة خضراء, هنا أو هناك, تنمو رغم الإعصار, وتورق وتزهر ويشتد عودها, ويمتد ظلالها ليضم الحياري والتائهين … فتخضر بهم الأرض بعد إقفارها, ويدفئ الإيمان رقعة الصقيع. وتلك سنة الله في عباده.
ومن بين النماذج التي يفتش عنها المسلم في كتابه تاريخه المعاصر, تسطع صفحة بديع الزمان النورسي, كعلامة بارزة على طريق الحركة الإسلامية الشاملة… علما وجهادا, قلما وسيفا, فكرا وتخطيطا وانجازا.
وحمل الراية بعده أتباع مخلصون, تجاوزوا الرقعة التركية المحدودة, وانتشروا في الأرض, وعكفوا علي تعاليمه يرتوون منها, وينثرون بذورها في كل مكان… ومن هؤلاء, كاتبا هذا المقال, اللذان جمعا فيه بين طرفين: البحث العلمي المتكامل, والملحمة البطولية الرائعة.
التحــرير
في كل ناحية من نواحي الدراسة – المعمارية, والسياسية, وغيرها – تتوفر لدي الباحث نماذج متعددة, ولكن النماذج التي تتعلق مباشرة بعمليات التغيير في المجتمع تعد محدودة. ويتفق معظم العلماء الاجتماعيين على ثلاثة منها:-
- أ- أن يبدأ التغير من أعلى البناء ويشق طريقة إلى أسفله.
- ب- أن يبدأ التغيير من أسفل البناء وينتقل إلى أعلاه.
- ت- أن يبدأ التغير من المستويين السفلي والعلوي في وقت واحد.
النموذج أ:
ويتم تطبيق هذا النموذج – إلى حد كبير – بأسلوب ثوري. وهو يعد من النماذج الدكتاتورية بصفه عامة و عادة ما يتم التغيير المتجه من أعلى إلى اسفل بالقوة. وميزة ذلك النموذج هو أن التغيير يمكن تحقيقه – إلى حد كبير – في فترة قصيرة من الوقت ولكن نقيصة ذلك النموذج هي أن الأفراد عليهم أن يقبلوا التغير سواء كانوا مقتنعين بضرورته أو غير مقتنعين. وبسبب هذا العامل, فان ذلك النموذج لا يحتاج لتأييد الأغلبية عند بدء التغيير, ولا يحافظ على القيم الحالية التي تحترمها الأغلبية.
النموذج ب:
يبتدئ التغيير في هذا النموذج من مستوى الفرد. وهو بذلك لا يتطلب أي اكراه بل يعتمد على رغبة الفرد في التغيير.
وميزة هذا النموذج هي أنه لا يتجاهل المعارضة, بل هو في الحقيقة يحترم وجهة نظر الأقلية. ولكن نقيصته أن التغيير يتم ببطء شديد. ونتيجة لعامل الزمن هذا, مالم يكن هناك اتجاه للنضال المنظم, فان التغيير قد يفقد اتجاهه وقوته الدافعة.
ويتطلب هذا النموذج بصفة عامة, اتجاهاََ أيديولوجيا معقولا ومغريا للغاية حتى يحرك مشاعر الأفراد ويوقظ رغبتهم في التغيير.
النموذج ج:
يجمع هذا النموذج بين بعض ملامح النموذجين أ,ب وهو يبدو مغريا من الناحية التصورية, ولكنه من الناحية الواقعية يعتمد على التقليد. وتتمثل ميزة هذا النموذج في أنه يأخذ المبادئ المقر بها من النماذج الأخرى, ومن ثم فهو لا يحتاج إلى وقت لتطوير مفاهيمه الخاصة به.
ونقيصته هو أنه لا يمتلك مصدرا أيديولوجيا خاصا به, ومن ثم فهو يفتقد الاتجاه.
بديع الزمان النورسي:
ولا يوجد نموذج معترف به من قبل بديع الزمان النورسي بالنسبة للشئون السياسية والاقتصادية. ولكن من الواضح أن نموذجه في النهضة الإسلامية تمثله مجموعة رسائل النور ذاتها. وان اتجاه التغيير الذي تضمنته رسائل النور هو من القاعدة إلى القمة ومن الفرد إلى المجموع.
ونستطيع أن نتبين اتجاه رسائل النور في كلمات مؤلفها, الذي يقول : (( إن رسائل النور لا تحاول مجرد اصلاح قلب فرد معين أو إصلاح ضميره, بل إنها تحاول علاج قلب الجماعة, وهو الرأي العام أو الضمير العام الذي خضع على مدي ألف عام – للأساليب المفسدة التي تراكمت ورانت عليه. وهي تحاول هذه المعالجة عن طريق التطبيب والعقاقير التي وفرها القرآن الكريم وتضمنها الإيمان بالله عز وجل)).
لقد كان بديع الزمان سعيد النورسي يؤمن أن التغيير الجوهري يستطيع أن يعالج الضعف الأيديولوجي في المجتمع, نظرا لأنه لولم يتم ذلك, تكون رسالة العمل الإسلامي فاقدة معناها.
ولذلك فان المكونات الأساسية لنموذج النورسي هي:
- علاج ضعف الإيمان وتنمية ضمير الفرد.
- قيام العمل الإسلامي من خلال اتجاه جماعي.
- استهداف الوحدة في أبعادها الثلاثة :-
- أ- بين أفراد المجتمع الإسلامي.
- ب- بين الدول الإسلامية.
- ت- جهة مشتركه مع المؤمنين من أبناء الديانات الأخرى ضد أعداء الإيمان.
1- علاج ضعف الإيمان:
لقد عاش بديع الزمان في عصر كانت سمته السائدة هي تمسكه بالعلم, والمنطق, والفلسفة الوضعية. ولقد اعتقد أن العالم يمر بعصر الصراع الأيديولوجي, ولذلك اتخذ مكانه الخاص به في الحياة الفكرية, وقام بدروه الذي أملاه عليه الإسلام. فقد أخذ على عاتقة التخلص من الشكوك المثارة حول الإسلام وعن تقديم حضارة الإسلام في صورتها التي تتمثل في عصر النبي صلي الله عليه وسلم ولعل أعظم ميزات رسالة النور تمكن في أسلوبها في التوجه لضمير العصر مع احتفاظها بالإيمان التام بقيم الإسلام الجوهرية.
ولقد أكد سعيد النورسي على أن أعظم مشاكل هذا العصر هي الأزمة الروحية. ولقد قال في تحليله لأحوال هذا العصر:
(( ان العالم يمر بأزمة أخلاقية. فقد ظهر مرض مدمر في المجتمع الغربي الذي اهتزت أسسه الأخلاقية, وسوف ينتشر هذا المرض في جميع أنحاء العالم بمرور الوقت. وعلينا أن نتساءل: بأي وسيلة سوف يستطيع المجتمع المسلم مقاومة ذلك الداء المعدي؟ ولكنني أرى القادة لا يبالون.
وليس من الممكن تدعيم قلعة الإيمان بواسطة أعمدة الكفر البالية. ولذلك فإنني ركزت جميع جهودي على أهداف الإيمان, مؤكدا الوجود الذاتي الأخلاقي, ومؤكدا وجود الضمير ورسوخ العقيدة في الأمة, على أساس توحيد الله عز وجل وعلى مبادئ الإيمان الأخرى التي جاء بها القرآن الكريم تلك هي أسس الإسلام, وعندما تهتز هذه الأسس فان المجتمع يصل إلى نهايته)).
وبإدراكه ذلك, أخذ بديع الزمان في مواجهة ضعف الإيمان والأخلاق الذي أصاب أساس المجتمع ذاته من خلال كتاباته ومحاضراته العامة. وقد شعر بضرورة قيامة بتلك المهمة الضخمة بالرغم من جميع الصعوبات, فقد أحس بأنه بمثابة (( بائع في متجر جواهر القرآن))
الأسلوب الذي يرى وجوب تطبيقه:
أ- الاتجاه المنطقي:
يجب أولا اصلاح الأفراد من أجل رفع مستوى المجتمع, لإنه ليس من الممكن اقامة بنيان صحي على أساس أفراد فاسدين. وهنا يظهر السؤال المنطقي: كيف يتم إصلاح عقيدة الأفراد, تلك العقيدة التي يهددها اليوم خطر جديد يأتي من وجهة مختلفة عن وجهته السابقة. فقد كان الخطر في الماضي يتمثل في الجهل, وفي معظم الحالات كان تنوير الفرد بالوعظ والإرشاد يكفي لدرء الخطر عنه. أما الآن فان الهجمات الموجهة إلى الدين تأتي من العلم والفلسفة.
ولذلك, تركز رسائل النور على إثبات حقائق الإسلام بأسلوب علمي. وهي تستكمل مهمة العلوم الحديثة: فهي تأخذنا من النقطة التي أوصلتنا إليها العلوم ثم تركتنا, وهي تقودنا من الحقائق التي اكتشفها العلم لتصل بنا إلى ادراك صفات الله. ولم يكن هذا الشرح يتمتع في الماضي بمثل تلك الأهمية التي يتمتع بها اليوم. لأن العلم لم يكن قد حقق مثل ذلك التقدم حينئذ, وكان ثمة عدد قليل من المشركين في الأمة الإسلامية بأكملها. ولقد كان ذلك هو السبب في ان العلماء في الماضي قد ركزوا على تنمية ايمان المؤمنين بدلا من بناء أسس الإيمان لهؤلاء الذين أنكروها.
ولكن في هذا العصر, يعد الكفر أكثر شيوعا, وثمة محاولات لإبعاد الناس عن الدين من خلال تضليل التكنولوجيا والعلم. ولذلك, فانه من الضروري اليوم دراسة العلم من وجهة نظر دينية, ودراسة الدين من وجهة نظر علمية. وفي عبارة أخرى, يجب أن نجمع بين العلوم الدينية والعلوم الحديثة معا. وتقوم رسائل النور بتفسير الآيات القرآنية بواسطة الاكتشافات العلمية, والقوانين الطبيعية, والتطورات التكنولوجية.
ولعل بعض الأمثلة يمكنها أن تلقي الضوء على موضوعنا هذا. ففي الدول الإسلامية, بدأ كثير من الأفراد, من ذوي التعليم الغربي, في التهجم على بعض الآيات القرآنية التي بدت لهم أنها ليست ذات مغزي في الوقت الحاضر. وقد قام بديع الزمان تلك الادعاءات بقوة مقدما ما يوازنها. مؤكدا أن تلك الآيات, التي تعرضت للهجوم, هي في الحقيقة أكثر الآيات إعجازا, ولكن نظرا لأنها تشير إلى أمر معين وتتضمن مفهوما خفيا, فانه من الصعب لعامة العلماء أن يفهموها ويفسروها بشكل صحيح. ولذلك فان بديع الزمان قد كرس كثيرا من جهده للآيات التي تتضمن الشعائر الدينية. ونتيجة لذلك, فان عمله الضخم ليس بمثابة تفسير لفظي, بل انه تفسير للمعاني القرآنية الأكثر عمقا, أي أنه تفسير بالمعنى.
ويخبرنا بديع الزمان أن الآيات المشيرة إلى أمور معينة تحوز على معنى عميق للغاية. فإنها تخبرنا ما الذي حدث في وقت معين, كما تشير إلى التطورات المقبلة. وتعد الآيات التالية – على سبيل المثال – قليلة بين العديد من الآيات التي فسرها:
(( … ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن يعمل بين يديه بإذن ربه )) سبأ 12- 34.
تصف لنا هذه الآية امكانية قطع مسافات طويلة في وقت قصير. وعند تفسير ذلك, نجد أن القرآن قد أشار إلى اختراع الطائرة.
(( قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم )) 21 -69
لقد أشار بديع الزمان إلى أنه في حين تشرح هذه الآية قصة إبراهيم, فإنها أيضا تشير إلى مبدأ التبريد.
(( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي)) النمل 27-40.
من هذه الآية يشرح لنا بديع الزمان أن الله عز وجل قد أعطانا علامة تشير إلى اختراع التلفزيون بإخبارنا قصة عرش بلقيس وكيف أنه أحضر للنبي سليمان في غمضة عين.
ب- أسلوب المختبر
ثمة ناحية فريدة في اتجاه بديع الزمان وهي تطبيق مبدأ المختبر في كتاباته, مثلما برهن في رسالته بعنوان: الطبيعة, سبب أم نتيجة؟:-
(( عندما ننسب الكائنات المخلوقة – بحكمة وجمال وتوازن – إلى الطبيعة بدلا من نسبتها إلى وجود ذي قوة وحكمة مطلقة, نكون كأننا نسبنا جميع الآلات في كافة المصانع إلى كل ذرة من التربة. وحينئذ سوف يبقى مقدار ضئيل من التربة لإنماء الأنواع التي لا حصر لها من الزهور وهذا المقدار الضئيل من التربة في الحقيقة يبرهن على مقدرة اعطاء الأشكال والأنواع المختلفة لجميع أنواع الزهور ثم البذور المغروسة بها على التعاقب. وعندما ننسب ذلك إلى الله القادر المقتدر, فلن تستطيع تلك التربة البرهنة على هذه المقدرة إلا اذا حازت على أداة مختلفة لكل نوع من أنواع الزهور. لأن جميع البذور, مثل المني والبيض, تعد بمثابة خليط لنفس المواد: الأكسجين, والهيدروجين, والنيتروجين, والكربون, الخ…. وأن العوامل التي تؤثر على نمو الزوع مثل الهواء, والماء والحرارة والضوء تعد غير واعية, وهي تقوم بالغزو مثل الفيضانات أينما تأتي…))
ج- تطور الفرد من خلال التعليم:
لقد حدد بديع الزمان أشد أعداء العالم الإسلامي في ثلاثة أمور, (( الحاجة)) (( الجهل)) (( النزاع)) وذكر أنه لا يمكن الهرب منهم الا عن طريق احتضان مبادئ (( الفن)), و(( المعرفة)) ((والوحدة)), ولقد ذكر أن المبدأ الأساسي لتعليم المسلم في عصرنا هذا هو تعليمه كلا من العلوم الدينية والعلوم الحديثة معا, ومن ثم يتم القضاء على التعصب والكفر. ولقد شرح أفكاره في الكلمات الفصيحة التالية:
(( إن علوم الدين تعد بمثابة أنوار الضمير وتعد الفنون المدنية بمثابة بريق العقل. وان الحقيقة تصبح واضحة أمامنا عن طريق مزيج الاثنين. وعندما يتم فصلهما, يظهر التعصب أولا: وينتج بعده المكر والنزوع إلى الشك)).
2- اتجاه الجماعة
لقد أكد سعيد النورسي بقوة على الحاجة إلى الجماعة. ولقد كان يعتقد أن أهم الانجازات سوف تتم من خلال الجماعة. فان جهد الفرد (على سبيل المثال جهد المتصوفين ) يعد محدودا, ولكن القدرات الكافية في الجماعة تعد غير محدودة. ونحن نرى اليوم كيف تتفوق الشركات الضخمة على الأعمال الفردية. ان تلك الشركات تعد كينونة منفردة, ولكن تنظيم وإدارة أعمالها يتمان بواسطة الجماعة. والعمل الإسلامي, في يومنا هذا, يجب ألا ينتمي للفرد وحده بل انه يجب أن ينتمي إلى جهد جماعي. ولقد كان في الماضي يتطلب الفردية, وربما الفاشستية من أجل أداء المهام العديدة. أما اليوم. فان معظم المهام تتطلب الجهود الجماعية. ولقد قام بديع الزمان في رسالته عن الاخلاص بوضع واحدة من أفضل القواعد بالنسبة للكيفية التي يجب أن تعمل بها الجماعات الإسلامية وتحترم كل منها الأخرى. وهذه القاعدة هي (( قد يكون لديك الحق في القول: إن أسلوبي أو طريقتي يعد أفضل أو أوضح أسلوب أو طريقة, ولكنك لا تملك الحق في القول: أن أسلوبي هو الأسلوب الصحيح, أو أن الأسلوب الصحيح فقط – هو أسلوبي)).
3- الوحدة
أ- الوحدة بين الأفراد المسلمين
تعد الوحدة الإسلامية ضرورية لنشر الفكر الإسلامي أو الحفاظ عليه: (( ان الهنا واحد, وقوتنا واحدة, ولدينا اجماع عام على أساسيات الإسلام)) لقد قال إن هذه الأسس هي التي نشترك فيها جميعا فتملي الوحدة علينا. ان الوحدة بين الأفراد سوف تنتج مجتمعا متحدا. ولقد اعتقد بديع الزمان دائما أن عصرنا هو عصر التجمع, ومن ثم نادى بايجاد قوة روحية دافعة في المجتمع. وهو يرى أن الفرد – حتى العبقري – من المحتم أنه سوف يقهر بواسطة الشخصية الروحية للمجتمع. ولذا السبب تبرز حاجه المسلمين للعمل كمجتمع واحد.
ب- وحدة الدولة الإسلامية:
إن وحدة الدول الإسلامية حول هدف مشترك يجب أن تكون واحدة من العناصر الرئيسية في وضع سياساتهم, فانه ليس ثمة فرصة في عصرنا هذا بالنسبة للدول المنفردة والمنعزلة. ويرى بديع الزمان أن هدف هذه الوحدة هو اثارة الحماس في العالم الإسلامي من أجل التقدم. وسمة هذه الوحدة هي الحب بين المؤمنين. ولقد قال بديع الزمان, بصدد إيضاحه أن هذه الوحدة سوف تزود المسلمين بأبعاد واسعة لمفهوم الأخوة:
(( إن هدف الحكومة هو تعزيز الرابطة المضيئة للإسلام والحفاظ عليها بحيث تجعل من ثلاثمائة مليون فرد وحدة واحدة من خلال سر أخوة العقيدة, فان ذلك هو المصدر الوحيد للعون والتدعيم. ان قطرات المطر أو ومضات الضوء سرعان ما تجف أو تتلاشى لو أنها بقيت مبعثرة. ان الله عز وجل مطلق الكرم وهو يأمرنا ألا نيأس من رحمته, وأن نتمسك بشدة بحبلة ولا نتركه حتى لا ننتهي إلى الخضوع والدمار)).
ولكن أى نوع من الوحدة اقترحها بديع الزمان؟ لقد كان لديه بعض الأفكار الواضحة والمحددة بالنسبة للوحدة ولكيفية تحقيقها. وقد ذكر في خطاب للأمير صباح الدين, أنه يوم أن يكون لدي العالم الإسلامي الوعى بالعمل المنسق. يمكنه التجمع في اتحاد فدرالي ملائم. ولقد ذكر في عام 1948, أنه (( ثمة علامات أن القرآن الكريم الذي يعد مصدرا مقدسا للدستور في الدول الإسلامية, سوف يحقق الاتحاد بالمعنى التام للكلمة)) وفي بحثه تحت عنوان(( عظة في دمشق)) ذكر بديع الزمان أن اتحاد الدول الإسلامية هذا سوف يتكون بأسلوب مماثل لأسلوب الولايات المتحدة الأمريكية. وان مثل ذلك الاتحاد الفدرالي ليس حلما بالنسبة للعالم الإسلامي, فان مجتمعاته تعد بالفعل متماثلة من الناحية الاجتماعية والثقافية والتاريخية. ويعد النظام الفدرالي في الحقيقة أفضل وسيلة للوحدة بين الأمم, فهو الذي يمكن الدول المختلفة من الحفاظ على صفاتها القومية في حين أنها تكون متحدة كل مع الأخرى. ولذلك هو النظام الذي تبنته أعظم القوي في العالم مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي وألمانيا الغربية.
واذا أخذنا في اعتبارنا أن الكثير من الدول العصرية قد كونت تحالفات وتكتلات في حين ظلت محتفظة باستقلالها, فانه يصبح من الواضح أن الدول الإسلامية لن تجد صعوبات كثيرة في أن يضمها اتحاد فدرالي, نظرا لأنها تحتفظ بروابط تاريخية, وثقافية, وروحية ومادية قوية فيما بينها. وتبقي أمامنا حقيقة أن المشاكل الخارجية التي تواجه الدول الإسلامية تجعل مثل التخالف ضرورة لها. ولقد ثبت دائما أن محاولة اقامة دول منعزلة عن الشئون الدولية تعد غير مجدية. ومن الناحية الأخرى, نجد أن الدول الإسلامية التي تشكل وحدة واحدة اكنت ناجحة للغاية. ولننظر كيف كانت الأوبيك بمثابة سلاح فعال للعالم الإسلامي ضد القوى العظمى, بالرغم من أنها تعد فقط بمثابة تنظيم يتعلق بشئون البترول. ولقد افترض سعيد النورسي أن مفهوم الوحدة سوف يستمر بقوة لو أن الدول الإسلامية اتبعت أسلوب الشورى الذي سنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام:-
(( إن الشورى العادلة تؤدي إلى الإخلاص والتماسك)).
وبالقوة المشتقة من ذلك الإخلاص والتضامن الحقيقي, يصبح ثلاثة من الرجال ذوي فائدة للأزمة كما لو كانوا مائة, تماما مثلما نستطيع قراءة الآحاد الثلاثة (111) على أنها مائة واحدى عشر. وفي الحقيقة, إن كثيرا من الحالات ترينا أن عشرة من الناس يستطيعون القيام بعمل ألف رجل وذلك بسر الاخلاص والتضامن والشورى الحقيقية
(( وباختصار, إن ممارسة الشورى كما تمليها المبادئ الإسلامية سوف تؤدي إلى الوحدة والتضامن, وهذه بدورها سوف تؤدي إلى ضمان الرقي من جميع الأوجه)).
ج- الجبهة المشتركة مع المؤمنين الآخرين
لقد نوقشت النتيجة المرجحة للوحدة الإسلامية أيضا في أعمال بديع الزمان. وهو يرى العالم الغربي يجب ألا يتخذ اتجاها سلبيا بالنسبة للعالم الإسلامي المتحد. بل على العكس, لأن الغرب أيضا يعد في أشد الحاجة لمثل هذه الوحدة – (( ان الدول المسيحية في الماضي لم تؤيد الوحدة الإسلامية.
والآن بعد ظهور كل من الشيوعية والفوضوية, فانه يجب على أمريكا وأوربا أن تقفا إلى جانب القرآن والوحدة الإسلامية)).
ولقد قال بديع الزمان في أحد كتبه:
(( لقد كانت مصانع السياسات الانجليزية والفرنسية والأمريكية في العصور الماضية تكمن في معارضة الوحدة الإسلامية. والآن, اذا تجاوزنا عن ذكر معارضتهم لها, فان مصالحهم تحتمها, لأن الشيوعية, والشرك والكفر يؤدي إلى الفوضوية, وليس هنا شيء سوى الوحدة الإسلامية حول حقيقة القرآن, يمتلك فرصة الوقوف أمام تلك القوى العاتية المدمرة)).
نحو المستقبل المشرق
لقد حدثت تطورات كبيرة في العقود الماضية تجاه عالم إسلامي متحد, ونخص بالذكر المؤتمر السنوي للعالم الإسلامي, وبصفة خاصة آخر تلك المؤتمرات, الذي عقد في استانبول بين العاشر والثامن عشر من مايو عام 1976م, الذي وضع الأساس لإيجاد علاقات أقوى. وتضامن أوثق بين الدول الإسلامية.
وفي ضوء تلك التطورات السارة, نستطيع الآن تذكر كلمات بديع الزمان, التي بدت متفائلة أكثر مما يجب منذ وقت قريب:-
(( على الرغم من شيوع اليأس, سوف أجعل العالم بأجمعه يستمع إلى اعتقادي اليقيني بأن المستقبل للإسلام, وأن حقائق القرآن سوف تكون لها السيطرة الغالبة. وحينئذ يجب أن نرضى تماما بنصيبنا الذي يضعه لنا قدرنا, وسوف يكون قدرنا هو المستقبل المشرق.
أما قدر الآخرين فسوف يكون الماضي المتسم بالفوضى)).
((…. وذلك, حينئذ, هو سر الاثارة التي في قلوب البشر برسالة النور, مثل موجات عظيمة في , سوف يكون له – لا لغيره – أثر على قلوبهم وأرواحهم. وبالرغم من أنه ثمة آلاف من الكتب أكثر فصاحة من رسالة النور تناقش نفس الحقائق. فإنها لم تستطع الوقوف أمام الشرك المطلق. واذا كانت رسالة النور ناجحة إلى حد ما في مقاومة الشرك المطلق تحت تللك الظروف الصعبة, فان السبب في ذلك هو سعيد النورسي, ولكنه ليس ثمة قوة أو موهبة خاصة في شخصه. ولكن الشيء الذي يتكلم هو الحقيقة فقط, حقيقة الإيمان)).
ولقد شهد واحد من الطلبة الممتازين لبديع الزمان وهو زبير جندوز ألب:
(( إن رسالة النور تبرهن بشكل معقول ومنطقي من خلال الآيات القرآنية الكريمة ومن خلال أكثر الأدلة حسما أن الفلسفة المادية, التي تعتمد عليها الشيوعية, تعد بدون أساس على الاطلاق وليس لها علاقة بالحقيقة أو الواقع. وهي تثبت وجود الله ببراهين قاطعة وغير قابلة للإنكار حتى للماديين الذين لا يعتقدون بأن لهم عيون لا يبصرون بها, وهي تبث النور لتنقذ هؤلاء الذين وقعوا في ظلام تلك الأيديولوجية الفاسدة. وأن الأسلوب الأصيل الساحر وفن الخطابة السامي الذين تتضمنهما تلك الأعمال الرائعة يعدان من ناحية اخرى بمثابة دافع آخر لإقبال الناس على قراءتها, خاصة شباب المدارس الثانوية والجامعات. وان رسالة النور في الحقيقة تنقذ قارئها من مثل ذلك البؤس, في كل من الحياة الدنيا والآخرة, وتزوده بمعرفة أكثر مما تزوده بمعرفة أكثر مما تزود به الجامعات خرجيها, وتلقنه كيفية طاعة الله, والمثابرة على ذلك. وحب الآخرين. ولهذا السبب فان من يعرف خصائصها لن ينفصل عنها بأي ثمن, وليس من الممكن نزع الإخلاص والاحترام الحقيقي تجاهها من أي قد..))
حياة بديع الزمان النورسي:
لقد ولد الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي منذ أكثر من قرن مضى, عام 1873, في قرية بشمال الأناضول, تسمى نورس, ومن ثم كان اسمه النورسي. ولقد تتلمذ في مراحل تعليمه الأساسي على أحسن العلماء في عصره. وقد كان له من الذكاء الخارق والقدرة على التحصيل في سن مبكرة ما جلب له شهرة هائلة بين معلميه, وزملائه وأهله في خلال شهور قليلة, بدأ في تعليم بعض معلميه. وعندما بلغ السادسة عشر, أسكت علماء مرموقين دعوه إلى مناظرة بينه وبينهم. ولقد تكررت هذه الحادثة الأخيرة مرارا مع مجموعات مختلفة من العلماء, ومنذ ذلك الحين بدأ الناس في اطلاق اسم بديع الزمان عليه, وهم يعنون بذلك معجزة العصر.
ولقد قادته الفترة التي قضاها في التعليم إلى أن يفكر في أن المرحلة التي يدخل فيها العالم عصرا جديدا ومختلفا, يسود فيه العلم والمنطق, لن ينفعها ذلك النظام ذو النمط القديم في التعليم الديني, ولن يكون كافيا للتخلص من الشكوك المشارة حول القرآن الكريم وحول رسالة الإسلام. ولقد توصل إلى نتيجة مؤداها أنه يجب أن يتم تدريس العلوم الدينية في المدارس الحديثة من ناحية, وأن يتم تدريس العلوم الحديثة في المدارس الدينية من ناحية أخرى. وقال في ذلك سوف نحمي من في المدارس الحديثة من الشرك, وسوف نحمي من في المدارس الدينية من التعصب)).
ولقد توجه بديع الزمان إلى استانبول بهذه الفكرة, مرة في عام 1896, ومرة أخرى في عام 1907, حيث حاول إقناع السلطان بتأسيس جامعة الأناضول, تدرس كل من العلوم الدينية والحديثة معا. ولكن الكلمات الخشنة التي استخدمها في حديثه مع السلطان قد قادته إلى المحكمة. ولكنه حتى هناك, لم يتوقف عن استخدام نفس الأسلوب العنيف. ولقد وجدت السلطات العسكرية بمقتضى ذلك أن أفضل شيء هو إرساله إلى مستشفى الأمراض النفسية. ولكن الطبيب الذي فحصه قال (( اذا كان ثمة ذرة من الجنون في عقل بديع الزمان, فانه لا يوجد واحد عاقل في هذا العالم)).
ولقد تم القبض على بديع الزمان ومحاكمته محاكمة عسكرية بتهمة التحريض على الهياج بالرغم من أنه في الحقيقة قد حاول ونجح إلى حد ما في تهدئة الأحداث. وبينما كان من الممكن رؤية أجساد المدانين متدلية من خلال نوافذ قاعة المحكمة العسكرية, فان بديع الزمان قد تقدم بدفاع بطولي, أدى في النهاية إلى تبرئته.
وبعد سلسلة من التبرئات في عصره, عاد بديع الزمان سعيد النورسي إلى شمال الأناضول, وزار القبائل, وشرح لهم أن حركة الحرية التي بدأت في الظهور ليست متعارضة مع الإسلام, بل هي في الحقيقة تمثل ما يدعو عليه السلام. ولقد أخبرهم أن جميع أنواع الطغيان مرفوضة بمقتضى القانون الإلهي, الذي سوف يزدهر وينشر فضائله في المناخ الحر.
ولقد جمع تلك الأحاديث فيما بعد في كتاب بعنوان (( المناظرات )).
وفي الحرب العالمية الأولى, عمل بديع الزمان سعيد النورسي كرئيس لفوج المتطوعين في الجبهة القوقازية في شمال الأناضول. ولقد أشاد جنرالات الجيش العثماني بالبطولة التي أبداها في المعارك . وكتب حينذاك (( إشارات المعجزة )) التي حازت على كثير من الاستحسان من علماء بارزين, كتبها أثناء قتاله, على ظهر الفرس, أو في الخطوط الأمامية أو في داخل خندقة. وفي وحدة من المعارك ضد القوى الروسية الغازية, أسر بديع الزمان وتسعون آخرون حيث أرسلوا إلى معسكر الأسرى في كوستروما، بشمال جنوبي روسيا. وذات يوم, جاء الجنرال الروسي نيقولا نيقولا يفتش, وهو القائد العلى للقوات المسلحة للجبهة القوقازية وعم القيصر, إلى المعسكر للتفتيش. ولم ينهض بديع الزمان واقفا عند دخول الجنرال. وعندما سئل بديع الزمان عن سبب تصرفه أجاب بهذه الكلمات: (( إنني عالم مسلم ولدى ايمان في قلبي. ومن يحمل الإيمان في قلبه يعد أسمى ممن ليس له ايمان.
وأنا لا أستطيع أن أسلك سلوكا يتعارض مع إيماني..))
ولقد حوكم في محكمة عسكرية وحكم عليه بالموت, وعندما حان وقت التنفيذ الحكم, بدأ في أداء واجبه الأخير, وهو الصلاة, أمام الفرقة التي سوف تقوم بإطلاق النيران. ولقد تأثر الجنرال الذي شهد ذلك المشهد تأثرا عميقا, وتقدم إلى بديع الزمان, ولكن تلك المرة معتذرا.
ووسط الهدير الذي نتج عن الثورة الشيوعية, وجد بديع الزمان سعيد النورسي مهربا له من العسكر, وبعد رحلة طويلة عاد إلى استانبول عام 1918م. وكوفئ بميدالية حرب كبيرة, وعرض عليه أنور باشا وزير الدفاع بعض الوظائف. ولكنه رفضها جميعا.
وعندما غزت القوى الاستعمارية تركيا اثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى, تحدى بديع الزمان البريطانيين الغزاة في استانبول بهجمات مريرة كادت أن تكلفة حياته, ولقد كان يوجه اليهم الحديث بعبارات مثل (( أيها الكلاب الرعاع. يا أحط درجة من درجات الرعاع))
(( وابصقوا على الوجه الصفيق للبريطانيين الملعونين)) ولقد جعلته تلك الهجمات هدفا للبريطانيين, ولكنه نجا بعون الله العظيم من جميع المؤتمرات التي نسجت ضده, واتجه إلى مهمات أخرى كانت في انتصاره.
وفي عام 1922, توجه بديع الزمان إلى أنقرة بعد أن تلقى منها حوالى 18 دعوة لزيارتها, وتم استقباله في قاعة الاجتماع القرمية الكبرى في احتفال كبير. ولقد وجد أن معظم النواب كانوا مهملين لالتزاماتهم الدينية. وفي 19 يناير 1923, أصدر بيانا للنواب. وأثر ذلك البيان بدأ عدد منهم يتراوح بين الخمسين والستين يؤدي الصلوات الخمس.
ولقد قضي بديع الزمان ثمانية شهور في أنقرة ثم غادرها قاصدا فان, حيث عاش هناك لمدة عامين في عزلة, وكان شاغله الوحيد فيها هو التأمل والصلاة. وفي نفس الوقت ظهرت تلك الأحداث السيئة المعروفة باسم الثورة الشرقية. ولقد ناشدوا بديع الزمان أن يمد لهم يد العون لإنه كان ذا تأثير بالغ على الناس, ولكن بديع الزمان رفض مطالباتهم قائلا:
(( أن السيف يجب استخدامه ضد العدو الخارجي, ولا يجب استخدامه في الداخل تخلوا عن محاولتكم, فإنها محكوم عليها بالفشل, وقد تؤدي إلى إبادة الآلاف من الرجال والنساء الأبرياء بسبب قلة من المجرمين)). ولكنه اتهم مرة أخرى بأفعال لم يقم بها, وأرسل إلى المنفى في بوردور, غريب الأناضول. ورغم وضعه تحت مراقبة صارمة ورغم اضطهاده لم يمنعه ذلك من تعليم حقائق الإيمان للناس حوله, ومن جمع كتابات سرا ووضعها في كتاب واحد.
وعندما أخطرت السلطات في أنقرة بنشاطه أعدت خطه لإسكاته. فأرسلوه إلى بارلا, وهي مكان ناء بوسط الأناضول تحيط به الجبال, آملين أن يموت في نهاية الأمر من الوهن والوحدة.
لقد كان نشر حقائق الإيمان يعد بمثابة جريمة لا يمكن التغاضي عنها في الظروف التي سادت في ذلك الوقت: فقد حظر الأذان, واستخدمت مئات من المساجد لأغراض أخرى, وتم إعداد الخطط لفصم جميع الروابط التي تربط الأمة بماضيها وبقيمها الأخلاقية, وكان مجرد ذكر الدين يتطلب شجاعة عظيمة. كانت تلك هي الظروف التي بدأ سعيد النورسي فيها الجزء الثاني من حياته, والذي أسماه (( سعيد الجديد)). واتخذ له هدفا (( بعث الإيمان)), الذي اعتبره أول وأهم حقيقة في الكون. حيث قال:
(( إنني سوف أبرهن للعالم أن القرآن هو الشمس الروحية التي لن تغرب أبدا ولن تطفا أبدا)), وقد فعل ذلك. ولم يوافه الأجل في بارلا حيث أرسل ليموت من الوحدة بل أن سعيد جديد ظهر هناك, وظهرت معه على أفق العلم والثقافة شمس جديدة, أضاءت منذ ذلك الحين للملايين من البشر.
وخلال الثمانية أعوام ونصف التي قضاها تحت الاضطهاد في بارلا, كتب بديع الزمان ثلاثة أرباع مجموعة رسالة النور, ولقد ضوعفت أعداد تلك الرسالة عن طريق النسخ اليدوي لأن كل من المؤلف وطلبته لم يكونوا يستطيعون تحمل نفقات الطباعة, ولم تكن لديهم الحرية أيضا في الطباعة. كانت الكتابة باليد أيضا من الأعمال الخطرة, فقد كان يتم تعذيب الناسخين في السجون وأقسام البوليس, وكانت كافة المحاولات تبذل لمنع الناس من الاتصال ببديع الزمان.
ويجب أن نذكر هنا أنه في ذلك الوقت لم يكن ليجرؤ على محاولة كتابة أو نشر مجرد بحث واحد موجز في الدين, اذا استثنينا تلك المعركة الحازمة, المثابرة, المستمرة, التي قام بها بديع الزمان وطلبته, وعندما تأخذ في اعتبارنا تلك الظروف التي تمت فيها كتابة رسالة النور ونشرها في جميع أنحاء الأناضول, فإننا لن نجد صعوبة في ادراك كيف أن مريم جميلة, تلك الكاتبة الأمريكية المسلمة المعروفة, كانت على حق عندما قالت: (( انه ليس بمبالغة أن تقول أن ما تبقي من الإيمان الإسلامي في تركيا إنما يرجع إلى الجهود المثابرة لبديع الزمان سعيد النورسي)).
واعتقل بديع الزمان عام 1935 مع 120 من طلبته, وتمت محاكمتهم في محكمة اسكيسيهير الجنائية. وفي سجن اسكيسيهير الذي قضوا به احدى عشر شهرا خلال المحاكمة, كان عليهم أن يتحملوا مار يمكن احتماله من العذاب. ثم أطلق سراحهم في الربيع التالي, ولكنهم لم يتركوا في سلام.
ومرة أخرى أرسل بديع الزمان إلى المنفى في مدينة أخرى, وهى كستا مونو, بمصاحبة الشرطة له.
ولقد عاش النورسي في كستا مونو سبع سنوات استمر خلالها في كتابة ونشر رسالة النور. ونظرا لأنه هو وطلبته قد حرموا من كافة الحريات تقريبا, فانهم كونوا منظمة بريدية خاصة بهم تسمي (( سعادة بريد النور)). ومن خلال سعادة بريد النور, تم نسخ 600000نسخة من الرسالة عن طريق الكتابة باليد.
وفي عام 1943, تم القبص عليه مرة أخرى, وأرسل إلى محكمة دينزلي الجنائية هو و126 طالبا, لأنهم طبعوا رسالة تتعلق بوجود الله سرا في استانبول.
وفي السجن أيضا, لم يفشل في الحركة مثلما لم يفشل أبدا عندما كان في المنفي.
فلقد كان يحاول اصلاح المجرمين الذين اعتبرهم ضالين بالنسبة للمجتمع ويحتاجون إلى الهداية كما كان يكتب رسائل جديدة أيضا داخل السجون رغم أنه لم يكن يسمح بالورق والقلم للمسجونين, ولذلك كان يكتب على علب الثقاب الورقية.
وبتلك الكيفية ظهرت في الوجود (( رسالة الثمرة)) وانتهت المحاكمة بالتبرئة التي أعطت بالإجماع وتم التصديق عليها بالإجماع بواسطة المحكمة العليا. ولكن ذلك لم يؤد إلى إعطاء بديع الزمان حريته مرة أخرى, فانه, بمقتضى أمر من أنقرة, أرسل إلى مدينة أخرى, وهي أميرداج.
ولقد كانت أميرداج بالنسبة له لا تختلف عن أى مكان آخر, فهناك أيضا المطاردات, والضغوط, والمؤامرات, وبالرغم من ذلك كانت الحركة المستمرة المثابرة…. إلى أن انتهت تلك الفترة أيضا باعتقاله, ولقد أرسل هو وثلاثة وخمسون طالبا, إلى محكمة أفيون الجنائية وقضوا عشرين شهرا في سجن أفيون حيت كانت الإجراءات القاسية التي واجهوها هناك تعد أعنف مما مروا به من قبل. وكان النورسي حينئذ قد بلغ سن الخامسة والسبعين, ويعاني من العديد من الأمراض. ومع ذلك فقد عزل في زنزانة مكسورة النوافذ قضي بها شتاءين قاسيين. ولم يكتفوا بأن يتركوه يموت في سلام, بل انهم وضعوا السم له في طعامه. وعندما كان يعاني من أثر اسم, ويجرؤ بعض طلبته على الاقتراب منه يضربون بالعصي. ثم ألغى حكم المحكمة بواسطة المحكمة العليا, ولكن المحكمة تلكأت في تقرير ما اذا كانت سوف نسحب حكمها أم لا, إلى أن قضى بديع الزمان وطلبته في السجن الفترة المحددة لهم في الإدانة الملغاة. حيث قررت المحكمة أخيرا أنهم يجب اطلاق سراحهم.
وبعد مضي ثمانية سنوات من ذلك الوقت صدر القرار الأخيرة: ففي عام 1956, أعلنت المحكمة أن هؤلاء الذين أمضوا عامين تقريبا في السجن تحت ظروف من الصعب تحملها قد ثبتت براءتهم الآن.
وبعد امضاء فترة حياته التي تمثلت في حوالي قرن من الزمان, كانت كل دقيقة بها مكرسة لخدمة الإيمان, رحل بديع الزمان سعيد النورسي عن هذا العالم في صباح 23 مارس 1960. رحمه الله رحمة واسعة.
الهوامش:
مترجم عن الإنجليزية من جملة الاتحاد التي يصدرها اتحاد الطلبة المسلمين بالولايات المتحدة الأمريكية وكندا – عدد أكتوبر 1978