أبحاث

دراسة الإدارة العامة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية

العدد 3

حينما استقدمت مصر خبيرين من علماء الإدارة العامة في أمريكا وهما الأستاذ لوثر جوليك والأستاذ جيمس ك. بولوك ليمنحاها مشورتها في تنظيم إدارتها العامة، وكان ذلك في عام 1962، افتتحا تقريرهما بنبذة عن نظام الحكم في الإسلام، ولخصاه من وجهة نظر دارسي الإدارة العامة في بنود عشر هي كالآتي:

1- شرع الله إقامة الدولة كنظام أخلاقي واقتصادي وسياسي، وللإنسان أن يشكل هذا النظام، بفضل ما يتاح له من اتساع في المعرفة والخبرة والتفكير، وذلك على أساس المبادئ الأخلاقية الأساسية المقررة.
2- الناس سواسية أمام الله، ومن ثم أمام القانون.
3- ليس للحاكم ولا لرجل الدين ولا لأية طبقة أو فئة أن تحول بين المرء وحقوقه وواجباته أو تفصل بينه وبين الله.
4- الاستغلال الشخصي للنفوذ أمر يأباه الخلق الكريم.
5- نظام القيادة، نظام مستحب من حيث المبدأ، ولكن كل راع مسئول أمام الله عن رعيته، وبذا يكون مسئولاً عن رعاية شئون الناس. ولا تكون القيادة بالوراثة، بل بالاختيار….ويبرر قيامها ما تلتزم به من مستويات خلقية وما تقدمه من خدمات.
6- الأخذ بالشورى على الصعيدين المحلي والقومي أمر لا بد منه في اتخاذ القرارات والأعمال الحكومية والانتخابات.
7- نظام الملكية الفردية حق مقدس ينطوي على ضرورة استخدام الممتلكات على نحو مثمر مع تخصيص قدر من الدخل في عون المعوزين وخدمة المجتمع والضرائب (الزكاة والإنفاق).
8- للمجتمع، وللحكومة التي يقيمها المجتمع على أساس الشورى، أن يقرر ما يدخل في باب “المعروف” وما يدخل في باب “المنكر” استناداً إلى المبادئ الخلقية والدينية المقررة.
9- العمل له بنالته الخاصة، ويستحق العامل أجراً عادلاً على عمله.
10- الإنسان مكلف بكسب العلم، وإعمال العقل، واستخدام المعرفة التي حصلها على هذا النحو من نفع الناس ومرضاة الله.
لقد أراد الخبيران الأمريكيان أن يوجها بتقريرهما النظر إلى أصول الإدارة الإسلامية، وأن ينبها دارسي الإدارة العامة في البلاد العربية إلى ألا ينشدوا انشداد المتعصبين إلى الثقافة الغربية، حينما يحاولون أن يتلمسوا أصول الإدارة العامة، ذلك أن الإدارة العامة أصبحت تتجه في دراستها إلى دراسة النظم (The Systems)، ومنذ أن أزاحت أمريكا عن نفسها احتكار علم الإدارة العامة واتجهت إلى الدراسات المقارنة، وسواء أزاحته راضية أو مكرهة، فإن سعيها لدراسة نظم الغير في الإدارة العامة أصبح واضحاً ملموساً.
ودراسة نظم الإدارة العامة System of Public Administration تعني دراسة أصولها ممزوجة بالعقيدة الدينية أو السياسية التي تعيش فيها. ولقد صارت دراسة نظم الإدارة العامة كما نوهنا بعاليه هي الأمر المستحدث في دراستها، أي مودتها (Mode) الجديدة أو بعبارة أخرى منهجها الحديث الغالب في الوقت المعاصر، إذ ليس من المعقول أن يزرع نبتها (محصولها من الثقافة الغربية) في أرض لا تعرف طبيعتها وقدرتها على الإنبات والإثمار.

وكلمة “الإدارة العامة المؤمرك” كلمة لا تبخس حق الأمريكيين في علمها المستحدث، فليس هناك من بحاث الإدارة العامة في أي بلد في العالم –كما يقول العالم الهولندي فيلد- قادر على أن يتخلص من ثقل الثقافة الأمريكية في الإدارة العامة، خاصة بعد أن عمد علماؤها الأمريكيون، -منذ قال الأستاذ وودرو ولسن في عام 1887، الذي طالب فيه بضرورة أمركة علم الإدارة العامة المنقول إليهم من أوربا في الشكل واللغة والأفكار والمبادئ والأهداف- عمدوا إلى الانغماس في تطوير مادة هذا العلم تطويراً قومياً أمريكياً، فلم ينظروا إلى دراسته نظرة مجردة من غاية سياسية، بل نظروا إليها على أنها تعني إدارة الأعمال الخاصة بحكوماتهم، وإلى هذا انصرفت بعض التعاريف لهذا العلم التي أدلى بها علماؤهم، فقيل عنه إنه يعني “مجموعة أنشطة السلطة التنفيذية في الحكومة الأمريكية”، وكان لمثل هذه الاتجاهات رد فعل لدى الشعوب الأخرى –فحتى الإنجليز- أصبحوا ينادون بتخليص مادة الإدارة العامة من أمركتها إذا أريد بها أن تخدم قوميتهم.
ولقد كان ممن ساهموا بنصيب وافر في أمركة علم الإدارة العامة الأستاذ جوليك أحد الخبيرين اللذين أشرنا إلى رأيهما بعاليه، واللذين قدما هنا المحاور العشرة التي يمكن أن يدور عليها تنظير الإدارة الإسلامية. فكلمته المشهورة “بوسد كورب” “Posdcorb”، والتي كونها من الحروف الأولى للوظائف الإدارية الثمانية التي رأى قيام نظرية الإدارة العامة عليها، وهي التخطيط (P. Planning) والتنظيم (O. Organization) والتوظيف (S. Staffing) والتوجيه (D.Directing) والتنسيق (C. Coordinating) والتسهيل (O. Operating) والتقرير (R. Reporting) و التمويل (B. Budgeting) هذه الكلمات ذات الحروف الثمانية والتي أصبح علماء الإدارة العامة يأتون عليها لتشير إلى وظائف العملية الإدارية على إطلاقها، إنما صاغها جوليك لتشير إلى الوظائف الثمانية التي تقوم عليها مهمة الرئيس الأمريكي الإدارية، بصفته الرجل التنفيذي الأول The First Executive، ومن هنا يمكن أن نستخلص أن جوليك يرى أن لكل أمة نظامها الإداري الخاص الذي يجب أن تصاغ نظريته على خصائص من شرعها ونهجها.
لهذا فإذا جاء جوليك بالذات، فلم يحاول أن يفرض هو وزميله بولوك في تنظيرهما للإدارة العامة الإسلامية كلمات التخطيط والتنظيم والتوظيف.. وما شابهها ضناً منه أن يُحَمل الإدارة الإسلامية على هذه الاصطلاحات المستحدثة، فهذا اتجاه جدير بأن يتلقفه المسلمون ليقوّموا عوده وينصبوا بنيانه، ذلك أن الإدارة العامة كأي علم حديث التكوين إذا ما أريد تثبيت قواعدها في الثقافة الإسلامية، إنما يحتاج الأمر لتضافر من أهل العلم الذي ذاب تفكيرهم في أصوله ومن أهل الفقه الإسلامي الذين يمكنهم أن يرشدوا هؤلاء العلماء إلى ركائز العقيدة الإسلامية التي قامت عليها حياة الإسلام، خاصة وأننا نجد في كتابات كثير من رواد هذا العلم أنه أصبح يعني علم الحياة ذاتها”.
ولا أظن أن إثراء دراسة الإدارة العامة عالمياً بمنطق الإسلام في الحكم والإدارة، يمكن أن تكون –كما يحاول بعض العلماء العرب- بحشر المصطلحات الحديثة من الإدارة لتحمل عليها الثقافة الإسلامية، فهذه كلمات لا يصح أن تأتي في تأصيل العلوم الإسلامية إلا بالمضاهاة للكلمات العربية التي تعني معانيها، وليس بفرضها وكأنها صهرت في اللغة العربية التي تعني معانيها، وليس بفرضها وكأنها صهرت في اللغة العربية منذ نبتها، وكما تكون لم يكشف عنها إلا لأن السابقين من البحاث لم يستشفوها مثلما استشفها المحدثون، بينما الأولى حقاً وواقعاً أن تحمل هذه الكلمات على قواعد الثقافة الإسلامية لا أن تحمل الثقافة الإسلامية عليها.
وكما تثري اللغة العربية بإدخال هذه المصطلحات إليها ووضعها في موضعها الصحيح المبتغى، فإن علماء الغرب أيضاً في حاجة إلى أن يعرفوا المزيد من الاصطلاحات الإسلامية التي تثري منطقهم العلمي، لا أن تقدم لهم ما ابتدعوه حديثاً من المصطلحات كقاعدة لمنبت الوعي الإسلامي، وبدون أن تستكمل حتى وصف الهياكل التي ولدت فيها مثل هذه الاصطلاحات.

لعمري إنها لقضية تحتاج للدراسة ممن يبحثون فيما يجب أن تكون عليه ثقافة المسلم المعاصر، خصوصاً والإدارة العامة من العلوم المستحدثة التي أصبحت تبني الأمم عليها آمالاً عراضاً من توعية الحكام والمحكومين بشئون حياتهم ومثلهم العليا.
وحينما يهرع العلماء العرب للتكلم عن الإدارة العامة في دولة النبي صلى الله عليه وسلم يتحدثون عن التخطيط في الإسلام بأشكاله المختلفة ولا يتركون حتى شكله الاقتصادي الأيديولوجي فيتطرقون للحديث عنه، ثم الحديث عن مبادئ التنظيم في شكله الرسمي والغير رسمي في صدر الإسلام ويتخيلون البناء التنظيمي للإدارة الإسلامية فيرسمون له رسماً تنظيمياً يضعون فيه الرسول على رأس الدولة ويفرعون له خطوط السلطة التي تسير محدودة الاتجاه نحو كل من فوضه الرسول بنوع مخصص منها. إلخ تلبيس حياة الإسلام الإدارية للمصطلحات الحديثة، فإنما يجيء ذلك على حساب النص الإسلامي والاصطلاح الإسلامي.
إن الخبيرين الأمريكيين لم يحاولا أن يسلكا هذا المسلك، بل أرادا أن يثريا المنطق الأمريكي من الإدارة العامة –بل والمنطق العالمي لها لمن يريد أن ينهل منها- بالجديد من الأفكار عن الإدارة العامة في الإسلام.

ونجدهما قبل أن يقدما محاورهما العشرة لتنظير الإدارة العامة الإسلامية يلجآن إلى فقهاء المسلمين ليستوضحاهم حكم الشرع والعقيدة في أصول الإدارة، وحينما خشيا ألا يسعفهم اللفظ الأنجلوسكسوني في التعبير عن بعض الاصطلاحات العربية، إذا يهما يقدمانه بحروف لاتينية إلى لغتهما ويفرضانه عليها ليوفيه من يجيء بعدهما حقه من العناية في البحث والاستزادة من المعرفة.

ومن أمثلة هذه الاصطلاحات كلمة الشورى “Shura” التي وضع مقابلاً لها عبارة “mutual consultation” والزكاة “Zakat” والتي وضع مقابلاً لها عبارة “part of income to the support of the needy” والمعروف “Marruf” والتي قابلها عبارة “the obligation to decide what is right” والمنكر (Munkar) التي قابلها عبارة “the obligation to decide what is wrong”.

لقد أكد الخبيران الأمريكيان ضرورة الالتزام باتجاه محدد في دراسة الإدارة العامة فذكروا أن دراستها في أي بلد لا بد أن تتم أولاً وقبل كل شيء في إطار المعتقدات والقيم التي يدين بها شعب هذا البلد والتي تسيطر عادة على مسيرة دولته وتوجه حكومته، مبرزين بأنه إذا لم تحاول هذه الدراسة أن تبتعث هذه المعتقدات والقيم وتصوغها وتشكلها في صورة نظم، فإن التقدم الذي يحرزه الشعب لن يتحقق، لأنه لا مجال ولا أمل منه في النجاح إلا إذا قام على القوى الأخلاقية والفلسفية والروحية.

لهذا فلما جاء هذان الخبيران إلى مصر ومعهما أيديولوجيتهما من الإدارة العامة كما صاغتها أمريكا في القرن العشرين، لم يكونا قادرين أن يفرضا أيديولوجيتهما الأمريكية التي ترعرعت في جو الثقافة الغربية على وطن إسلامي (تقاليده ونظمه وعاداته).

ولقد كان عليهما قبل أن يتحفونا بكل جديد في الرأي والمشورة أبدعتها قرائح أهل الغرب في الإدارة العامة وأن يدرسا أولاً إذا كانت تعاليم الإسلام تعوق تقدم النظم الحكومية، وكان ردهما بعد أن وعياها أن الثقافة الإسلامية ليست فقط أبعد ما تكون عن إعاقة التقدم والتطور في النظم الحكومية، بل إنها تقدم للشعب المسلم المبادئ التي يمكن أن يقيم عليها “ديمقراطيته” الجديدة، ثم هي أبعد الأشياء عن العودة إلى الطاعة العمياء، أو التشبث بالتقاليد العتيقة، ذلك أن الثقافة الإسلامية تشجع الإنسان على استخدام عقله في تقدير مقتضيات العالم الحديث مع الاطمئنان إلى القيادة المسئولة وتبادل الرأي والمشورة.

وإذا كان لنا تعليق على رأي الخبيرين الأمريكيين قبل أن نختتم حديثنا في هذا المجال فهو أن الخبيرين الأمريكيين –ربما اتقاء لبعض الظن، أو لما تخلقه حساسية اختلاف الديانة وتباين القومية، أو لأنهما أرادا أن يتركا هذه المهمة لغيرها- نجدهما لم يذكرا على الإطلاق لفظة “القرآن” الكريم عمدة الشريعة الإسلامية وأصل أصولها، ولا لفظ “السنة” المحمدية المفصلة لآيات والمخصصة لعامه والمقيدة لمطلقه، وذلك عند تبيان الأصول العشرة التي صاغاها للإدارة الإسلامية.

ثم إذا كانا قد تحاشيا نصوص القرآن الكريم التي قامت عليها أدلة ما صاغاه من مبادئ، تيقناً منهما أن القرآن إنما نزل من عند الله بلسان عربي مبين وأن ترجمته إلى غير العربية أو تفسيره بغيرها لا يعد قرآنا، وأنه كما يؤكد أهل اللغة لا يصح الاستنباط من الترجمة لأن فهم المراد من الآيات يحتمل حينئذ الخطأ والتعبير بغير اللغة العربية يحتمل أيضاً الخطأ.

إذا كان قد تبين لهما ذلك فتحاشيا النصوص الإسلامية، فإن رأي الخبيرين قد لا يكتمل وضوحه بغير إقامة على أدلته في الشريعة الإسلامية، وهذا ما يجب أن يستكمله مجهود علماء المسلمين في الإدارة العامة وفقهاء المسلمين من أصول الشريعة ولا أظن إلا أنهم سوف يثرون دراسة الإدارة العامة بالكثير الذي غابت عن تبيانه النظم الأخرى. والله الموفق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر