أبحاث

الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد (1)

العدد 3

الفقه هو أحد العناصر الهامة في حضارتنا الإسلامية العربية، فقد علم الدارسون لهذه الحضارة المثلى أنها “حضارة قانونية”، لأنها تستند إلى شريعة شاملة ضبطت حياة الإنسان بمجموعة متماسكة من الأحكام والآداب، صاحبته من الميلاد إلى الوفاة، بل عنيت به وشرعت له قبل أن يولد، وبعد أن يموت.

ولسنا في حاجة إلى أن نتحدث هنا عن قيمة هذا الفقه ومكانته العالمية، وشهادة كبار علماء القانون في العالم كله له، وإشادة المؤتمرات الدولية للقانون المقارن به، وتنويهاته بشأنه، فحسبنا أن هذا الفقه كان أساس التشريع والقضاء والفتوى في العالم الإسلامي كله طيلة ثلاثة عشر قرنا تبدلت فيها التنظيم وتغيرت الأوضاع والأحوال، فلم يضق صدره بمشكلة، ولم يقعد عن الوفاء بمطلب، بل كان لديه لكل حادثة حديث، ولكل واقعة حكم، ولكل مشكلة حل وعلاج.

خصائص الفقه الإسلامي:

ولقد علم الدارسون لهذا الفقه، المتعمقون في فهمه، أنه فقه أصيل كل الأصالة، متفرد بخصائصه ومميزاته التي جعلته نسيج وحده بين قوانين العالم وفقهها فهو متميز في مصادره وأسسه وأهدافه واتجاهاته ووسائله.

وأن هذه الخصائص والمميزات للفقه الإسلامي –وإن شئت قلت: للشريعة الإسلامية- لتستحق أن يؤلف فيها كتاب، بل كتب، ولكني أجتزئ هنا بكلمات موجزة، تشير إلى معالم هذه الخصائص أو جلها، وإن لم نوضحها تمام التوضيح.

(1) الأساس الرباني:

لقد تميز هذا الفقه –قبل كل شيء- بأساسه الرباني، فمصدره الأول هو الوحي الإلهي، الذي وضع الأصول والقواعد ووضح الأهداف والمقاصد، وضرب الأمثلة، وبين الطريق، وهدى إلى الصراط المستقيم، وكل دارس للقرآن الكريم دراسة علمية موضوعية يخرج بيقين جازم، إن هذا النص يستحيل أن يكون مصدره بشرا أو أي مخلوق كان، وإنما هو كلام رب الناس ملك الناس، إله الناس.

ولهذا المعنى كان لهذا الفقه من القبول والاحترام والانقياد لأحكامه لدى الأمة –حكاما ومحكومين- ما لم يحظ به أي قانون آخر من القوانين التي وضعها البشر منذ قانون حمورابي، إلى قانون نابليون، إلى أحدث قوانين العصر. ذلك لأن أمتنا تنظر إلى هذا الفقه وإلى العمل به والانقياد له على أنه عبادة وقربة إلى الله، كالصلاة والصيام. بل ترى أن تقبل أحكامه بالرضا والتسليم وانشراح الصدر أمر لا يتم الإيمان إلا به، وخاصة في الأحكام التي جاء بها نص صحيح الثبوت، صريح الدلالة “فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت، ويسلموا تسليما”.


(2) الوازع الديني:

وتبعا لهذا الأساس الرباني، تنشأ مزية أخرى للفقه الإسلامي هي ما يصاحبه من المعاني الروحية الدينية التي فاق بها كل القوانين البشرية.

فهو لا يعتمد على وازع السلطة وحدها، بل يعتمد –مع ذلك وقبل ذلك- على الضمير الديني الذي يقيد صاحبه بفكرة الحلال والحرام، ولا يكفيه أن يحكم له بأنه صاحب حق قضاء، حتى يطمئن إلى استحقاقه له ديانة. فليس كل ما يزعجه هو خوف السلطات التي تراقبه، بل خشية الله المطلع على سره ونجواه. فهو إذا أفلت من يد قانون الأرض، فلن يفلت من عدالة السماء، وإن استطاع النجاة والفرار من عقوبة الدنيا، فلن ينجو من عقاب الآخرة، وهو أشد وأخزى.

ومعنى هذا أن الإنسان يقيم من داخل نفسه حارسا على نفسه، يمنعه من مخالفة الشرع ويدفعه إلى اتباعه، وهو حارس يقظ لا يحابي ولا يتهاون، ولا تروج عنده الحيل كحراس القوانين.

(3) الإنسانية:

وتميز الفقه الإسلامي بنزعته “الإنسانية” الأصيلة، ومنشأ ذلك أن الإسلام نفسه غالى بقيمة الإنسان، وراعى فطرته، واعترف بكيانه جسما وروحا وعقلا وعاطفة، وحفظ له كرامته حيا وميتا، وحمى حياته من كل عدوان ولو كان جنينا جاء من طريق حرام. وقرر له من الحقوق والحريات ما يحفظ عليه خصائص إنسانيته ومقوماتها، قبل أن تعرف الدنيا شيئا اسمه “حقوق الإنسان”.

قرر هذا كله للإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن جنسه ولونه ووطنه ولغته ونسبه وطبقته، بل عن دينه وعقيدته، ما دام للجميع رب واحد، وأب واحد.

روى البخاري أن جنازة مرت على النبي صلى الله عليه وسلم فقام لها واقفا فقالوا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي! فقال: أليست نفسا؟”.

ولا عجب بعد هذا إذا رأينا عمر يفرض ليهودي من بيت المال ما يكفيه، ومثل ذلك لقوم من النصارى مجذومين مر بهم في طريقه إلى الشام.

ومن هذا المنطلق كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه لقوادهم: “لا تمثلوا” مع ما يصحب الحرب عادة من رغبة في التشفي والانتقام من العدو، وخاصة إذا كان عاتيا متعديا، ولكن الإسلام حرم التمثيل بجثث الأعداء، رعاية لحرمة الإنسان، وإن كان ميتا، وكان محاربا.

ويوم كان الرقيق يعتبرون في نظر بعض كبار الفلاسفة مجرد “أدوات اقتصادية” أو “ماشية” للأمة، جاء رسول الإسلام ليقول “إخوانكم خولكم…فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم”.

 

(4) الوسطية:

ويتميز الفقه الإسلامي بنزعة “الوسطية” التي جنبته التطرف والجموح وجعلته دائما في موضع الاعتدال والتوازن، دون جنوح إلى إحدى جهتي الإفراط أو التفريط. وهذا أثر من آثار صفته الربانية، فقلما يسلم تفكير البشر من الغلو أو التقصير، نتيجة التأثر بالمؤثرات البيئية والزمنية، التي تدفع الإنسان إلى مواجهة التطرف –عادة- بتطرف مثله أو أشد. وهذا أمر لا حيلة للإنسان فيه، لأنه مقتضي طبيعته، وحكم جبلته “ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير، وكان الإنسان عجولا”.

ولهذا رأينا الأنظمة البشرية والقوانين الوضعية تتفاوت فيما بينها وتتناقض من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، كما نجد ذلك واضحا في مواقفها من الروحية والمادية، أو المثالية والواقعية، أو الثبات والتطور، أو غير ذلك من المتقابلات التي تباينت فيها المذاهب والفلسفات وتطرفت، واتخذا الإسلام –وحده- منها موقف الوسط العدل الذي سماه القرآن “الصراط المستقيم” والذي مدح به هذه الأمة فقال: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا”.

ولا أبالغ إذا قلت: إن الوسطية أو التوازن هي الطابع العام والسمة الأصيلة لثقافتنا العربية وحضارتنا الإسلامية –بصفة عامة- على امتداد القرون.

(5) التوازن بين الفردية والجماعية:

وانبثاقا من هذه “الوسطية” كان تميز الفقه الإسلامي بموقفه المتوازن من الفردية والجماعية، فلا يستطيع دارس لهذا الفقه أن يصفه بأنه “فردي النزعة” مثل عامة القوانين الوضعية في بلاد الغرب الليبرالية أو بلاد العالم الحر.

ولنأخذ لذلك مثلا القانون المدني الفرنسي الذي صدر عام 1804م. فقد كان هذا القانون وليد الثورة الفرنسية التي كان هدفها الأول تحرير الفرد مما كان ينوء به من قيود وأثقال، في السياسة والقانون والاقتصاد وغير ذلك كله من نواحي الحياة العامة. فجاءت هذه الثورة عام 1789 لتقرر أن للإنسان، باعتباره فردا، حقوقا طبيعية بلغت من القداسة ألا يجوز العبث أو المساس بها، ولو لصالح الغير.

ومن ثم، ساد هذا القانون روح فردي قوي يلتئم مع الروح الذي أملى إعلان حقوق الإنسان، وهو تدعيم حقوق الأفراد وحمايتها، وينظر إلى الفرد باعتباره العنصر الأهم في الحياة، لا باعتباره جزءا من كل هو الجماعة. ولقد كان من نتائج ذلك، أن أتى وقت اعتبرت فيه الحقوق مطلقة المدى، وإن صاحب الحق في استعماله سيد لا يسأل عما يترتب على هذا الاستعمال من الأضرار التي تحيق بغيره”.

ومن الحق ما يقول أستاذنا المرحوم د. محمد يوسف موسى: إن ما حدث بعد عصر الثورة من تطورات اجتماعية واسعة المدى والأهمية. قد أدى إلى تطور مماثل في القوانين، جعلها تنظر إلى الفرد وحقوقه باعتباره عضوا في الجماعة، ومن ثم أخذت في الحد من حريته في استعمال حقوقه، فنشأت نظرية “التعسف في استعمال الحق”.

إلا أنه، مع ذلك، بقي من الثابت الذي لا ريب فيه أن نظرة الشريعة الإسلامية لحقوق الأفراد وتقييدها بما يحقق مصلحة الجماعة ولا يضر مصلحة الفرد نفسه صاحب الحق، أوسع مدى وأبعد أثرا من نظرة القوانين الحديثة في هذه الناحية. ولهذا نراها جميعا تبيح التعامل مع الربا مع ما فيه من صالح صاحب المال والضرر بالمحتاج للقرض.

ونعتقد أن هذه التفرقة الواضحة، بين طابع الشريعة الإلهية وطابع القانون البشري، ترجع إلى تفرقة أساسية في أصل حقوق الفرد في الشريعة والقانون.

إن القانون في أول أمره، يعتبر حقوق الفرد حقوقا طبيعية له، فهو يملكها ويتصرف فيها حسب ما يرى، ومن ثم لا حرج عليه ولا تثريب إن أساء استعمالها. أما الشريعة الإلهية فترى أن الفرد نفسه وكل ما يعتبر له عادة من الحقوق، ملك لله تعالى وحده، ومنحة منه لعبيده، ولا يمنح ما يمنح من حقوق الأفراد إلا لغرض حكيم هو تحقيق الخير للفرد والمجتمع معا، ولذلك نجد تقييد استعمال الحقوق من نواح عديدة مختلفة.

ذلك، بأن من المسلم الذي لا جدال فيه أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد العاجل والآجل معا، وأن هذا ثابت في جميع الأحكام بالاستقراء، وهذا ما اختاره أكثر الفقهاء المتأخرين. ويترتب منطقيا على ذلك الأساس، وجوب أن يكون الإنسان في عمله واستعماله لحقوقه متفقا مع قصد الله من التشريع، وإلا كان عمله باطلا لمناقضته للشريعة ومقاصدها.

وإذا كانت النزعة الفردية منتفية عن الفقه الإسلامي بلا ريب، فلسنا نستطيع أن نصفه أيضا بأنه “جماعي النزعة” بما لهذه الكلمة من مدلول واضح المعالم في عصرنا، تمثله الماركسية بمدارسها المختلفة، وتطبيقاتها المتباينة، وكلها تعني توسيع دور المجتمع –ممثلا في الدولة- وتضخيمه، بحيث يصبح هو المالك الأوحد لمصالح الإنتاج والمسيطر على التجارة، والمتحكم في أرزاق الأفراد….الخ، وتضييق دور الفرد، والتقليل من حقوقه وحرياته، حتى تنكمش مواهبه، وتصدأ قدراته، وتذبل حوافزه.

وأوضح مثلا لوسطية الفقه الإسلامي هنا، وهو موقفه من الملكية الفردية، فهو لا يصادرها ويلغيها كما هي فلسفة الماركسية، ولا يقرها بغير حدود ولا قيود تذكر، كما هي فلسفة الرأسمالية، وإنما يقبلها بقيود وشروط في اكتساب ما يملك، وفي تنميته بعد الملك، وفي استهلاكه وإنفاقه بعد ذلك، ويوجب على المالك حقوقا كثيرة، وتكاليف شتى، بانيا ذلك على أن المال مال الله، والإنسان مستخلف فيه.

(6) أصوله وضوابطه الكلية:

ويتميز الفقه الإسلامي –فوق ذلك كله- بما وضع له من قواعد دقيقة، وأصول مقننة، تضبط طرائق استنباط الأحكام فيه، سواء كانت عن طريق البيان والتفسير للنصوص الشرعية –بعد الاستيثاق من ثبوتها- أم عن طريق ملء الفراغ فيما لا نص فيه بالقياس أو الاستحسان أو الاستصلاح أو غيرها. وهذا هو ما اشتمل عليه علم “أصول الفقه” الذي اهتدى إليه فقهاء الإسلام منذ عهد مبكر. وكان أول من دونه في صورة علمية رائدة، الإمام الشافعي –رضي الله عنه- في “رسالته” المعروفة، ثم نما واتسع نطاقه حتى قيل فيما بعد: إنه من العلوم التي نضجت حتى احترقت. ولم يعرف قانون ولا فقه في الدنيا ضبطه مثل هذا العلم.

يقول الدكتور السنهوري وحشمت أبو ستيت في كتابهما “أصول القانون”: “….لم تسلك الشريعة الإسلامية في نموها الطريق الذي سلكه الفقه الروماني، فإن هذا الفقه بدأ عادات، كما قدمنا، ونما وازدهر عن طريق الدعوى والإجراءات الشكلية. أما الشريعة الإسلامية، فقد بدأت كتابا منزلا، ووحيا من عند الله، ونمت وازدهرت عن طريق القياس المنطقي، والأحكام الموضوعية. إلا أن فقهاء الإسلام امتازوا على فقهاء الرومان، بل امتازوا على فقهاء العالم باستخلاصهم أصولا ومبادئ عامة من نوع آخر، هي أصول استنباط الأحكام من مصادرها، وهذا ما سموه بعلم أصول الفقه”.

ويقول الدكتور الدواليبي في مقدمة كتابه “المدخل إلى علم أصول الفقه”: “إن رجال الفقه في الإسلام –بما ابتكروا من هذا العلم، وبما أقاموا ما فيه من قواعد في الاجتهاد- قد أسدوا خدمة إلى علم الحقوق عامة لا تقدر، وشغلوا به فراغا لا يزال عند غيرهم يذكر، وسهلوا للقضاة والمفتين طرق فهم الشرائع والقوانين تسهيلا، وغدا هذا العلم ضرورة من ضرورات طلاب الحقوق….إلخ”.

(7) القدرة على النماء والتجدد:

ومزية أخرى لهذا الفقه العظيم، هي خصوبته ومرونته، وقدرته على النماء والتجدد، ومواجهة كل طريف، وعلاج كل طارئ، وحل كل مشكل، مهما يكن حجمه ونوعه.

ولا عجب أن دخل هذا الفقه شتى البيئات والأوطان، وحكم مختلف الأجناس والألوان، من أعراب البوادي، إلى ورثة الحضارات العريقة في بلاد الأكاسرة والقياصرة والفراعنة والتبابعة. وقد واجه نظما متباينة، وعادات متضاربة، وأفكارا متباعدة، وأوضاعا متغيرة، وأحوالا متقلبة، فلم يضق ذرعا بالإفتاء فيها، والتشريع لها، والقضاء بينها بالقول الفصل، والحكم العدل.

حتى العصور المتأخرة التي غلب فيها التقليد المذهبي، واشتهر لدى الناس خلوها من الاجتهاد والمجتهدين، نجد أن المتأخرين من علماء المذاهب المتبوعة -الذين لم يبلغوا مرتبة السابقين في التخريج والترجيح –فضلا عن الاجتهاد- لم يقفوا جامدين في وجه الأحداث، عاجزين أمام المشكلات الجديدة. بل واجهوها باجتهادات شتى، وأنظار متفاوتة، وقرروا لها أحكامها على وجه يجزم من اطلع عليها بأنها ضرب من الاجتهاد قائم على النظر في النصوص، والنظر في وجوه المعاني والمصالح، على نحو ما كان يفعل المجتهدون الأوائل، وإن اختلفت دائرة الاجتهاد ودرجته.

وإذا أخذنا فقه الحنفية مثلا وجدنا عند متأخريهم هذا النوع من الاجتهاد فيما لا يكاد يحصى من المسائل.

ومما يذكر هنا على سبيل المثال ما كان من اجتهادهم بشأن فقدان وقت العشاء في بعض الأقطار الأوربية –مثل بلاد البلغار- بعد اتساع الدولة العثمانية، والذي جر إلى الكلام عن المنطقة القريبة من المنطقة القطبية الشمالية، وعن المواقيت فيها. وكذلك ما كان بشأن بيع الوفاء. والنزول عن الوظائف والمرتبات في الأوقات نظير عوض.. وبشأن تصرفات الأصحاء في بلد نشأ فيه الوباء.. وبشأن الحكر وما يتعلق به.. وبشأن خلو الحوانيت.. وبشأن “السوكرة” أو “السوكرتاه” وضمان ما يهلك من التجارة.. وغيرها، مما يجده الباحث منثورا في كتاب مثل “رد المحتار على الدر المختار” المعروف بـ “حاشية ابن عابدين” وغيره من كتب المتأخرين.

تجديد الدين رحمة من الله للأمة:

وربما توهم بعض الناس أن الفقه الإسلامي لا يتسع صدره للتجديد، لأن أساسه أساس ديني رباني، أساسه الوحي المعصوم، وما كان هذا شأنه فلا يتقبل تجديدات البشر غير المعصومة.

ومن حسن الحظ أن نجد في النصوص الدينية نفسها ما يصرح بشرعية التجديد للدين بين كل قرن وآخر، وذلك في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- “إن الله يبعث لهذه الأمة –على رأس كل مائة سنة- من يجدد لها دينها”.

ولفظة “من” في هذا الحديث تصلح للجمع كما تصلح للمفرد، فقد يكون المجدد واحدا، وقد يكون أكثر من واحد، كما قاله الذهبي وابن كثير وابن الأثير وغيرهم، وكما يشهد به التاريخ.

وإنما يكون مجددا –كما قال العلامة النووي- إذا كان مجتهدا قائما بالحجة، ناصرا للسنة، له ملكة رد المتشابهات إلى المحكمات، وقوة استنباط الحقائق والدقائق والنظريات من نصوص الفرقان وإشاراته، ودلالاته واقتضاءاته، من قلب حاضر وفؤاد يقظان… ويشمل التجديد “ما اندرس من أحكام الشريعة، وما ذهب من معالم السنن، وخفي من العلوم الدينية الظاهرة والباطنة…” “وذلك لأنه سبحانه –لما جعل المصطفى خاتمة الأنبياء والرسل، وكانت حوادث الأيام خارجة عن التعداد ومعرفة أحكام الدين لازمة إلى يوم التناد، ولم تف ظواهر النصوص ببيانها، بل لا بد من طريقٍ وافٍ بشأنها، اقتضت حكمة الملك العلام، ظهور قوم من الأعلام في غرة كل قرن ليقوم بأعباء الحوادث (ما يجد ويطرأ في كل عصر) إجراء لهذه الأمة مع علمائهم، مجرى بني إسرائيل مع أنبيائهم…”.

ولهذا عرف التاريخ الإسلامي جماعة من الأعلام اشتهروا بأنهم “المجددون” مثل الإمام الشافعي وأبي الحسن الأشعري، وأبي بكر الباقلاني، وأبي حامد الغزالي وغيرهم ممن تركوا وراءهم آثارا لا تُمحى في تفكير الأمة وشعورها وسلوكها.

وإذا كان تجديد الدين مشروعا بصفة عامة، فإن الفقه أولى جوانب الدين بالتجديد، لأنه الجانب العملي المرن المتحرك الذي يطلب منه مواجهة كل طريف وجديد بالحكم والفتوى والبيان.

ولكن ما مدلول التجديد؟ وهل ينافي الأصالة التي نريد أن نحتفظ بها لفقهنا الإسلامي، شأن كل ما هو أصيل في تراثنا وحضارتنا؟ وهل نال فقهنا من هذا التجديد المنشود؟ أم بقي شيء آخر أو أشياء يجب أن يسعى إليها الغيورون عليه؟.

 

لا منافاة بين الأصالة والتجديد:

وأبادر فأقول: لا تنافي أبدا بين الأصالة والتجديد، إذا حدد مفهوم كل منهما، ووضع موضعه الصحيح، فإن أكثر ما يضر بثقافتنا ويشيع البلبلة بيننا هو اختلاط المفاهيم، واضطراب الدلالات، بترك بعض الألفاظ المهمة التي لها قوة المصطلحات، مائعة رجراجة، دون ضبط ولا تحديد لمدلولاتها، ليفسرها من يشاء كما يشاء.

إن الأصالة في لغتنا المتداولة ليست ضد الجدة والحدوث. وإنما هي قصد الزيف والدخل والغش. فالأصيل في القبيلة غير الزنيم الدعي، اللصيق بهم وليس منهم. وكلمة “الأصيل” إذا وصف بها الأشخاص أو الألفاظ تذكر عادة في مقابل كلمة “الدخيل” أو “الأجنبي”. وإذا وصفت بها الأشياء تذكر في مقابل “الزائف” أو “المغشوش” أو “البراني”. وفي اللغة الدارجة تستعمل كلمة “أصلي” مقابل كلمة “تقليد” ويراد بكلمة “تقليد” في صورة “الأصلي” ومظهره، وهو زائف في حقيقته وجوهره.

فالأصالة عندنا إذن لا تنافي إلا الزائف المغشوش أو الدخيل الذي يراد أن يلصق بنا وينسب إلينا، وهو غريب عنا.

وبناء على هذا يمكننا أن نكون أصلاء، ومجددين في الوقت ذاته، نبقى على الأصيل، ونأتي بالجديد.

تحديد مفهوم الأصالة والتجديد:

ليست الأصالة –إذن- هي التقوقع على القديم، ورفض كل جديد، مهما يكن في القديم من ضرر، ومهما صاحب الجديد من نفع.

إن إبقاء كل قديم على قدمه، وإغلاق باب الإبداع والاجتهاد، هو سبيل العاجزين الذين لا يريدون أن يعملوا ما وهبهم الله من عقول، ولا أن يبذلوا جهدا بناء يثبتون به وجودهم، وصلاحيتهم للخلافة في الأرض، والسيادة في الكون، مرددين قول من قال: ما ترك الأول للآخر شيئا….

وليست الأصالة رفض كل شيء جاء عن الغير، أيا كان ذلك الشيء وذلك الغير، فقد نستطيع أن نأخذ بعض الأطر أو الأشكال المناسبة لنا، لنضع داخلها مضاميننا ومفاهيمنا الخاصة، بشرط ألا يكون مبعث ذلك مجرد الرغبة في التقليد، بل الحاجة إلى التحسين.

وقد نقتبس بعض الجزئيات والصور من هنالك إذا كنا في حاجة حقيقية إليها، ولم يكن عندنا ما يغني عنها، ولم تكن منافية لأصولنا وجوهر حضارتنا، وخصوصا ما كان يتعلق بما يطلق عليه اسم أحكام “المراسم” أو “الإجراءات” أو غير ذلك من النواحي الشكلية، التي لم تتعرض الشريعة لها إلا بالإجمال، نظرا لشدة قابليتها للتغير حسب الزمان والمكان والحال، فمن الحكمة أن يفوض تنظيمها وتفصيلها إلى أولي الأمر وذوي الشأن ومن ثم نقول: إن اقتباسنا بعض هذه الأحكام في مثل هذا المجال لا ضير منه ولا حرج فيه على أن نهضمها ونتمثلها ونحولها إلى عصارة تذوب في داخلنا، وتختلط بأجزاء كياننا، فتنسى جنسيتها الأولى وتصبح جزءا لا يتجزأ من فقهنا.

وليس التجديد هو الاستخفاف بكل قديم، وفتح الأبواب لكل جدي، بدعوى أن الجديد دائما يمثل التقدم والرقي، والقديم يمثل التخلف والانحطاط. وهذه دعوى مرفوضة. فكم من جديد سيئ، وكم من قديم صالح، بل إن أعظم الأشياء وأقدسها وأنفعها قدم الحياة والإنسان. وإن مما ابتدعه الناس في القرن العشرين ما يعتبر أضر الأشياء على الإنسان وخصائصه.

على أن القدم والجدة أمر نسبي اعتباري، قديم اليوم كان جديد بالأمس، وجديد اليوم هو قديم الغد. ولا يجوز في منطق العقل السليم أن يكون مجرد مرور الزمن هو الحاكم على الأشياء بالبطلان.

وليس التجديد أن نسير وراء غيرنا، ونتبع سنن الآخرين، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، فنفقد بذلك ذاتنا، وتذيب شخصيتنا، ونرضى لأنفسنا موقف التبعية والخضوع، موقف الذيول والإمعات، وقد جعلنا الله رؤوسا، موقف المقلدين الذي عبناه على أنصار القديم، ودعاة الجمود. وكلا الموقفين مذموم، لأنه إهمال للعقل، وإطفاء لشمعة الفكر، وإضاعة لاستقلال الشخصية.

ليس التجديد هو تطويع الفقه الإسلامي حتى يساير القوانين الوضعية الغربية، لاتينية أو جرمانية، رأسمالية أو اشتراكية، فهذا ليس من التجديد في شي، بل هو تحريف وتزييف.

إنما التجديد الحق هو تنمية الفقه الإسلامي من داخله، وبأساليبه هو مع الاحتفاظ بخصائصه الأصيلة، وبطابعه المميز.

ويعجبني هنا ما قاله علامات القانونيين العرب المرحوم عبد الرازق السنهوري في مقدمة دراسته: “مصادر الحق في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة بالفقه الغربي”، قال: “لن يكون همنا في هذا البحث إخفاء ما بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي من فروق في الصنعة والأسلوب والتصوير، بل على النقيض من ذلك، ستعني بإبراز هذه الفروق، حتى يحتفظ الفقه الإسلامي بطابعه الخاص، ولن نحاول أن نصطنع التقريب ما بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي على أسس موهومة أو خاطئة، فإن الفقه الإسلامي نظام قانوني عظيم، له صنعة يستقل بها، ويتميز عن سائر النظم القانونية في صياغته، وتقضي الدقة والأمانة العلمية علينا أن نحتفظ لهذا الفقه الجليل بمقوماته وطابعه، ونحن في هذا أشد حرصا من بعض الفقهاء المحدثين، فيما يؤنس فيهم من ميل إلى تقريب الفقه الإسلامي من الفقه الغربي، فإن هذا لا يكسب الفقه الإسلامي قوة، بل لعله يبتعد عن جانب الجدة والابتداع، وهو جانب للفقه الإسلامي منه حظ عظيم”.

إن الموقف السليم الذي يلزمنا أن نتخذه، والذي يوجبه علنيا فقه حضارتنا: أن نعرف ما تحتمه علينا الأصالة، وما يقتضيه التجديد والتطور، وبالتالي: أن تجمع بين الثبات والمرونة معا، بشرط أن نملك التمييز بين ما هو ثابت وما هو متطور من فقهنا.

مفهوم التجديد الاحتفاظ بجوهر القديم:

إن التجديد لا يعني أبدا التخلص من القديم أو محاولة هدمه، بل الاحتفاظ به، وترميم ما بلي منه، وإدخال التحسين عليه، ولولا هذا ما سمي “تجديدا” لأن التجديد إنما يكون لشيء قديم.

ولنضرب مثالا للتجديد في المعنويات بالتجديد في الماديات. فلو كان لدينا بناء أثري عظيم: جامع أو قصر مثلا، وأردنا تجديده، فماذا نصنع؟.

إن أحدا ذا عقل لا يفكر في هدمه أو هدم جانب حيوي منه ليستبدل به مبنى جديدا من طراز عصري خلاب، لأن هذا هدم وتغيير وليس بالتجديد.

إن التجديد هنا يقتضي جملة أمور:

1) الاحتفاظ بجوهر البناء القديم والإبقاء على طابعه وخصائصه، بل إبرازها والعناية بها.

2) ترميم ما بلي منه، وتقوية ما ضعف من أركانه.

3) إدخال تحسينات عليه لا تغير من صفته، ولا تبدل من طبيعته، مثل تجميل مدخله، وتنظيف ساحته، وعمل حديقة من حوله…الخ.

معالم التجديد المنشود للفقه الإسلامي:

وفي ضوء هذا المفهوم للتجديد ننظر إلى فقهنا الإسلامي في هذا العصر، الذي أصبح طابعه التغير، والتغير السريع.

إن التجديد الذي يحتاج إليه الفقه الإسلامي اليوم له طرائق أو مظاهر شتى، بعضها يتعلق بالإطار والشكل، وبعضها يتعلق بالمضمون والمحتوى.

أولا- “تنظير” الفقه الإسلامي:

من هذه التجديدات: ما نسميه “تنظير” الفقه الإسلامي، ونعني به: أن تصاغ أحكام الفقه الجزئية وفروعه المتفرقة، ومسائله المنثورة في أبوابها المختلفة من كتبه في صورة “نظريات كلية عامة” تصبح هي الأصول الجامعة، التي تنبثق منها فروعها، وتتشعب جزئياتها المتعددة، وتطبيقاتها المتنوعة.

وذلك على نحو ما هو معروف في القوانين الأجنبية، في مثل النظرية العامة للالتزامات، ونظرية الأهلية.. ونظرية البطلان وغيرها.

وقد شهد الدارسون من كبار رجال القانون –أمثال السنهوري وغيره- أن الفقه الإسلامي غني بمواد وعناصر، لو تولتها يد الصياغة، فأحسنت صياغتها، لصنعت منها نظريات ومبادئ، تضاهي –بل تفوق- في رقيها وشمولها ومسايرتها للتطور، أعظم النظريات الفقهية التي يفخر بها اليوم الغرب الحديث، ويتلقاها عنه الناس هنا وهناك على أنه مبدعها، وهي موجودة في فقهنا منذ بضعة عشر قرنا، من حيث عناصرها وموادها الأولية، ولا تحتاج إلى الصياغة والبناء.

ومن هذه النظريات -التي تعد من أحدث نظريات الفقه الغربي في القرن العشرين- نظرية “التعسف في استعمال الحق” ونظرية “الظروف الطارئة” ونظرية “تحمل التبعية” و”مسئولية عدم التمييز”… وكلها لها أسسها في الشريعة الإسلامية كما أوضح ذلك السنهوري في بحث قديم له، وكما فصلت ذلك دراسات الباحثين المتخصصين من أساتذة الشريعة والقانون فيما بعد.

وهذا “التنظير” أو “التأصيل” شبيه –إلى حد ما- بما صنعه فقهاؤنا في العصور الماضية من وضع قواعد فقهية عامة، تندرج تحتها أحكام جزئية كثيرة، مثل قاعدة: “الأمور بمقاصدها”، “المشقة تجلب التيسير”، “الضرر يزال”، “العادة محكمة”، “اليقين لا يزال بالشك”….الخ.

بيد أن الذي نريده في عصرنا أمر آخر يختلف عن ذاك في مضمونه ونتائجه، وإن كلا الأمرين جمع للمتفرقات، وإدراجا للجزئيات تحت كليات.

ثانيا- الدراسة المقارنة:

ويحتاج الفقه كذلك إلى أن يدرس دراسة علمية موضوعية مقارنة، تكشف عن مكنون جواهره، وعدالة مبادئه، ورسوخ قواعده، وتجلي ما فيه من روائع الاجتهاد والاستنباط والتوليد والتخريج.

وهذه الدراسة المقارنة أو الموازنة ذات شعبتين:

المقارنة بين المذاهب الفقهية:

الشعبة الأولى: دراسة مقارنة داخل الفقه الإسلامي نفسه، أي بين مذاهبه بعضها البعض، لاستبانة وجهات النظر، ومنازع الاجتهاد المختلفة، وما يستند إليه كل منها من أدلة واعتبارات كلية أو جزئية، وذلك لمعرفة   أي هذه الآراء هو الصحيح أو الأصح، أو الأليق بحال الناس اليوم. وقد يمكن التوفيق بين الآراء، والجمع بينها، بجعل كل منهما لحالة خاصة، على نحو ما فعل الشعراني في “الميزان” أو على نحو آخر، أو أنحاء آخر.

ولا أقصد بالمذاهب الفقهية هنا: مذاهب أهل السنة الأربعة وحدها، أو حتى المذاهب الثمانية المدونة (الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والظاهري والزيدي والجعفري والأباضي) فقط، بل أقصد ما هو أعم من ذلك وأوسع مدى، كمذاهب الأوزاعي والثوري والطبري التي كان لها أتباع يقلدونها ويتعبدون على أساسها ثم انقرضوا، وسادت مذاهب غيرهم عليها.

وهناك مذاهب غير هؤلاء وهؤلاء من الصحابة والتابعين وأتباعهم. وهي –إن لم تدون في كتاب منفرد أو مجموعة كتب- باقية محفوظة فيما نُقل إلينا من كتب الآثار والسنن من الجوامع والمصنفات، وكتب اختلاف الفقهاء، وكتب التفسير وشروح الحديث، وغيرها من الكتب المؤلفة في نوع خاص كالأموال والخراج.

أهمية الدراسة للمذاهب:

وهذه الدراسة المقارنة للفقه الإسلامي ومذاهبه ضرورية وفي غاية من الأهمية والنفع، فهي لازمة لمعرفة سعة آفاق الفقه الإسلامي، ورحابة صدره لشتى الاجتهادات وتعدد المشارب والمنازع، وهذا ما يشهد بما تشتمل عليه أصوله من سعة ومرونة.

وهي لازمة لتخفيف العصبية المذهبية التي تحول بين أصحابها وبين مجرد النظر في المذاهب الأخرى إلا في بعض المسائل لمحض الرد عليها. وقديما قالوا: من جهل شيئا عاداه.

وهي لازمة لتكوين “ملكة الفقه” التي لا بد منها لقيام أي اجتهاد صحيح، ولهذا قال علماؤنا: من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه.

على أني أنصح هنا بعدة أمور لها أهمية خاصة في هذه الدراسة:

(1) الوصل بين الفقه والحديث:

لا بد من الوصل بين الفقه والحديث النبوي. فمما لا جدال فيه أن معظم أدلة الفقه من السنة. فإن آيات الأحكام في القرآن قليلة محدودة. وجل استدلال الفقهاء إنما هو بالأحاديث.

وفي هذه الأحاديث ما لا يخلو من كلام في ثبوته أو في دلالته، أو من اضطراب في سنده أو متنه، أو من شذوذ أو علة تخرجه عن حد الحديث الصحيح المحتج به، أو يوجد له معارض مساوٍ له، أو أقوى منه، أو حديث آخر خصص عمومه أو قيد إطلاقه، أو بين أن له مقصودا في غير المتبادر منه، أو يوجد حديث آخر ناسخ له، رافع لحكمه بالكلية، أو في حال دون حال.

وهذا يوجب علينا الاهتمام بعلم الحديث رواية ودراية، ومراجعة أدلة الأحكام في ضوء علوم الحديث الكثيرة، مثل علم الجرح والتعديل، وعلم الرجال، وعلم علل الحديث… ومختلف الحديث، والناسخ والمنسوخ منه الخ..

وهنا يلزمنا الرجوع إلى كتب الطحاوي والبيهقي وابن تيمية وابن القيم وابن حجر العسقلاني، والصنعاني والشوكاني وغيرهم.

(2) العناية بفقه الصحابة والتابعين:

يجب توجيه مزيد من العناية إلى فقه الصحابة والتابعين خاصة، فهي في الواقع أساس الفقه الإسلامي كله، وعليه تخرج الأئمة المتبوعون أو أساتذتهم. وقد تبين لي بطول الدراسة والتتبع والاستقراء: أن أفقه الناس لروح الإسلام وأعلمهم بمقاصده هم الصحابة، لأنهم تخرجوا في مدرسة النبوة، وشاهدوا أسباب نزول الآيات، وورود الأحاديث، مع سلامة فطرة، ونور بصيرة، وتجرد للحق، وجودة في الفهم، وتمكن من اللغة، ولهذا إذا اجتمعوا على رأي، أو نقل عن عدد منهم ولم يعرف لهم مخالف كان أقرب ما يكون تعبيرا عن صلب الشريعة، ولب الإسلام، ونعني هنا بالذات فقهاء الصحابة الذين أخذ عنهم العلم والفتوى ممن ذكرهم ابن القيم في كتابه “إعلام الموقعين” أمثال الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعائشة وزيد بن ثابت ومعاذ وأبي بن كعب وسلمان وأبي الدرداء وغيرهم –رضي الله عنهم.

ويلي الصحابة في منزلتهم من فقه الإسلام: التابعون لهم بإحسان، فهم تلاميذهم وخريجوهم، الآخذون عنهم، والواردون مناهلهم، والسالكون طريقهم، من أمثال الفقهاء السبعة في المدينة، وعطاء ومجاهد وابن جبير في مكة، والحسن وابن سيرين في البصرة، وعلقمة والنخعي والشعبي في الكوفة، وطاووس في اليمن، ومكحول في الشام، ويزيد بن أبي حبيب في مصر.

(3) العودة إلى المراجع الأصلية:

يجب الاهتمام بالعودة الأولى، والمراجع الأصلية للمذاهب نفسها، فكثير من الدارسين للفقه يعتمد على كتب المتأخرين من متون وشروح وحواش، مغفلا الينابيع الأولى التي استقى منها المتأخرون. مع أن الكتب الأولى تمتاز بالبساطة والوضوح والأصالة والاستدلال، والبعد عن التكلف والألغاز.

ومن هذه الينابيع كتب الإمام محمد بن الحسن الشيباني في مذهب أبي حنيفة، وكتاب المدونة في مذهب مالك… وكتاب “الأم” للشافعي.

ويلي ذلك كتب المتقدمين من فقهاء المذاهب، فهي قريبة من الكتب الأولى في خصائصها التي أشرنا إليها.

ولا يعني ذلك إغفال كتب المتأخرين أو الغض من قيمتها، فهذا لا يقوله أحد ممن اطلع على هذه الكتب، وعرف ما فيها من ذخيرة وثروة فقهية طائلة، هي حصيلة أجيال وقرون، من الاستنباط والتخريج والتوليد، والموازنة والاختيار والتصحيح، وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والعرف والحال.

وإنما نعني فقط عدم الاكتفاء بها والاعتماد الكلي عليها.

وهل يستغني باحث عن الرجوع إلى كتب مثل ابن الهمام وابن نجيم وابن عابدين من متأخري الحنفية؟ أو مثل القرافي وابن عرفة والدردير وشراح “خليل” من متأخري المالكية؟ أو مثل الرافعي والنووي وابن حجر الهيثمي والرملي من الشافعية؟ أو مثل ابن مفلح وابن جرب والمرداوي والبهوتي من الحنابلة؟

وفي كتب الأصول نجد مثل الموافقات للشاطبي.

المقارنة بين الفقه والقانون:

والشعبة الثانية للدراسة المقارنة المطلوبة لتجديد الفقه الإسلامي، هي دراسته مقارنا بالقوانين العالمية الشهيرة، القديمة منها كالقانون الروماني، الذي يعتبر أصل القوانين الغربية جمعاء ومصدرها الأول، ومثل القانون الفرنسي، والقانون الجرماني.

وينصح كثير من الدارسين للقوانين الوضعية بالاهتمام بالقوانين الجرمانية خاصة ومقارنتها بالقانون الإسلامي، لأنها كثيرا ما تتفق وجهتها ووجهته، وتلتقي نزعتها ونزعته. كما لاحظ ذلك مثل الدكتور السنهوري، والدكتور محمد زكي عبد البر، وغيرهما.

وهذا اللون من الدراسة الموازنة جدير بأن يفيدنا جملة فوائد، منها:

(1) أن نزداد معرفة ويقينا بأصالة الفقه الإسلامي وتميزه واستقلاله عن أي فقه آخر خلافا لما أثاره بعض المستشرقين من قبل من تأثر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني الأمر الذي تصدى له الباحثون وزيفوه بأنصع البراهين، كما فعل الدكتور صوفي أبو طالب من أساتذة القانون في دراسته القيمة عن الشريعة الإسلامية والقانون الروماني، وكذلك المغفور لهما الشيخ أبو زهرة والدكتور محمد يوسف موسى وغيرهم.

(2) أن نزداد إيمانا بخصوبة الفقه الإسلامي وسعته، وقدرته على مسايرة التطور ومواجهة كل جديد بعلاج يناسبه، ووقوفه أمام أحدث القوانين وأرقاها على قدم المساواة، بل تفوقه عليها في كثير من الأحيان في الصنعة والصياغة، فضلا عن المضمون والموضوع.

وهذا ما شهد به كثير من المخلصين الذين درسوا الشريعة دراسة مقارنة، من رجال القانون.

(3) أن نتبين المواضع الجديدة التي اجتهد فيها غيرنا، وسبقوا فيها بالتشريع والفتوى، في حين لم نقدم فيها نحن ما يليق بفقهنا، لحدوثها بعد عصور الاجتهاد والتخريج، أو في عصرنا هذا بعد تعطيل الفقه الإسلامي عن العمل والحكم، واكتفائنا بالموقف السلبي العاجز: موقف الاستيراد لا الإبداع موقف التسول من الغير، لا الاعتماد على النفس. وعندئذ نجتهد في تلافي ما أصابنا من قصور وسد ما لدينا من ثغرات. وفي أصولنا وتراثنا ما يسعفنا بكل ما نريد، مع أن الاقتباس الجزئي لا مانع له بعد أن نصبغه بصبغتنا، ونضفي عليه من شخصيتنا ما يجعله جزءا من فقهنا.

(4) أن نسهم في إضافة جديد إلى القانون العالمي المقارن، ونقدم للعالم المتحضر بعض ما لدينا من كنوز يجهلها علماؤه وباحثوه، ويبحث عنها مصلحوه ومفكروه وسيجد عندنا ما قصرت عنه فلسفاته وأنظمته، وما عجزت عنه شرائعه وقوانينه، من توفيق بين الدين والعقل، ومزج بين الروح والمادة، وجمع بين الدنيا والآخرة، وملاءمة بين حقوق الفرد ومصلحة الأمة.

ولقد قدم بعض الثقات من علمائنا المعاصرين نماذج من فقه شريعتنا، وموقفه من بعض القضايا القانونية الكبيرة، في بعض المؤتمرات الدولية للقانون المقارن فكان من أثرها شهادة هذه المؤتمرات للفقه الإسلامي بما عرفناه من الأصالة والتميز.

ثالثا- فتح باب الاجتهاد:

وأهم من كل ما سبق من ألوان التجديد للفقه الإسلامي: أن يعاد فتح باب الاجتهاد فيه من جديد، لأن هذا الباب فتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يملك أحد إغلاقه من بعده. ولا نعني بإعادته مجرد إعلان ذلك. بل ممارسته بالفعل.

وينبغي أن يكون الاجتهاد في عصرنا جماعيا في صورة مجمع علمي يضم الكفايات الفقهية العالية، ويصدر أحكامه في شجاعة وحرية، بعيدا عن كل المؤثرات والضغوط الاجتماعية والسياسية، ومع هذا لا غنى عن الاجتهاد الفردي، فهو الذي ينير الطريق أمام الاجتهاد الجماعي، بما يقدم من دراسات عميقة، وبحوث أصيلة مخدومة، بل إن عملية الاجتهاد في حد ذاتها عملية فردية قبل كل شيء.

والاجتهاد الذي نعنيه ينبغي أن يتجه أول ما يتجه إلى المسائل الجديدة. والمشكلات المعاصرة، يحاول أن يجد لها حلا في صورة نصوص الشريعة الأصلية وقواعدها الكلية.

ومع هذا ينبغي أن يعيد النظر في القديم ليقومه (أي يعدله، ويعطيه القيمة) من جديد، في ضوء ظروف العصر وحاجاته.

ولا تقتصر إعادة النظر هذه على أحكام “الرأي” أو “النظر” وهي التي أنتجها الاجتهاد فيما لا نص فيه، بناء على أعراف أو مصالح زمنية لم يعد لها الآن وجود أو تأثير، بل ينبغي أن يشمل الأحكام التي أثبتتها نصوص ظنية الثبوت كأحاديث الآحاد، أو ظنية الدلالة –وأكثر نصوص القرآن والسنة كذلك- فقد يبدو للمجتهد اليوم فهم فيها لم يبد للسابقين، وقد يظهر له رأي ظهر لبعض السلف أو الخلف، ثم هجر ومات، لعدم الحاجة إليه حينذاك، أو لأنه سبق زمنه، أو لعدم شهرة قائله، أو لمخالفته للمألوف الذي استقر عليه الأمر زمنا طويلا، أو لقوة المعارضين له وتمكنهم اجتماعيا أو سياسيا أو لغير ذلك من الأسباب.

وأكثر من ذلك أن الاجتهاد الذي ندعو إليه لا ينبغي أن يقف عند حد الفروع الفقهية فحسب، بل ينبغي أن يتجاوزها إلى دائرة أصول الفقه نفسها، تكملة للشوط الذي بدأه الإمام الشاطبي في محاولة للوصول إلى أصول قطعية وتتمة لما قام به الإمام الشوكاني من الترجيح و”تحقيق الحق من علم الأصول” على حد تعبيره، ولا ريب أن كثيرا من مسائل الأصول لم يرتفع فيها الخلاف، فهي في حاجة إلى التمحيص والموازنة والترجيح، وبعضها يحتاج إلى مزيد من التوضيح والتأكيد، وبعض آخر يحتاج إلى التفصيل والتطبيق. ومن ذلك تمييز السنة التشريعية من غير التشريعية، والتشريعية المؤقتة من التشريعية المؤبدة، وتمييز تصرف الرسول بمقتضى الإمامة والرياسة للأمة، من تصرفه بمقتضى الفتوى والتبليغ عن الله.

ومن ذلك: مناقشة موضوع الإجماع –وبخاصة السكوتي منه، ومدى حجيته وإمكان العلم به، وكثرة دعاوى الإجماع، مع ثبوت المخالف، وتحقيق القول في الإجماع الذي ينبني على مراعاة مصلحة زمنية لم تعد معتبرة ومثال ذلك: القياس والاستحسان والاستصلاح، ومتى يؤخذ بها ومتى لا يؤخذ وما ضوابط كل منها وحدود استخدامه.

أمور يجب مراعاتها عند ممارسة الاجتهاد:

1- يجب أن نذكر أن مجال الاجتهاد هو الأحكام الظنية الدليل، أما ما كان دليله قطعيا فلا سبيل إلى الاجتهاد فيه، وإنما تأتي ظنية الدليل من جهة ثبوته أو جهة دلالته، أو من جهتهما معا.

فلا يجوز إذن فتح باب الاجتهاد في حكم ثبت بدلالة القرآن القاطعة، مثل فرضية الصيام على الأمة، أو تحريم الخمر، أو لحم الخنزير، أو أكل الربا، ومثل توزيع تركة الأب الميت بين أولاده للذكر مثل حظ الأنثيين، ونحو ذلك من أحكام القرآن والسنة اليقينية التي أجمعت عليها الأمة، وأصبحت معلومة من الدين بالضرورة، وصارت هي عماد الوحدة الفكرية والسلوكية للأمة.

2- يتمم هذا ألا ننساق وراء المتلاعبين الذين يريدون تحويل محكمات النصوص إلى متشابهات، قابلة للأخذ والرد، والإرخاء والشد، فإن الأصل في هذه المحكمات أن ترد إليها المتشابهات، وترجع إليها المحتملات، فتكون هي الحكم عند التنازع والمقياس عند الاختلاف، فإذا أصبحت هي الأخرى موضع خلاف ومحل تنازع، لم يعد ثمة مرجع يعول عليه، ولا معيار يحتكم إليه.

3- يجب أن تظل مراتب الأحكام كما جاءتنا. القطعي يجب أن يظل قطعيا، والظني يجب أن يستمر ظنيا، فكما لم نجز تحويل القطعي إلى ظني، لا نجيز أيضا تحويل الظني إلى قطعي، وندعي الإجماع فيما ثبت فيه الخلاف، مع أن حجية الإجماع ذاته ليست موضع إجماع!.

فلا يجوز أن نشهر هذا السيف –سيف الإجماع المزعوم- في وجه كل مجتهد في قضية، ملوحين به ومهددين، مع ما ورد عن الإمام أحمد أنه قال: من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريه! لعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم. وإذا كان في مخالفة الإجماع ذاته كلام، فكيف بمخالفة المذاهب الأربعة، التي يشنع بها كثيرون اليوم، كما شنعوا بها على ابن تيمية من قبل؟ مع أن أحدا من علماء المذاهب الأربعة لم يقل: إن اتفاقها حجة شرعية. ولو قالوه لم يعتبر قولهم، لأنهم خالفوا فيه أئمتهم من ناحية ولأنهم مقلدون من ناحية أخرى. والمُقلد لا يُقَلد. أما أئمة المذاهب أنفسهم فقد حذروا من تقليدهم. ولم يدعوا لأنفسهم العصمة.

4- ينبغي أن نحذر من الوقوع تحت ضغط الواقع القائم في مجتمعاتنا المعاصرة وهو واقع لم يصنعه الإسلام بعقيدته وشريعته وأخلاقه، ولم يصنعه المسلمون بإرادتهم وعقولهم وأيديهم، إنما هو واقع صنع لهم، وفرض عليهم، في زمن غفلة وضعف وتفكك منهم، وزمن قوة ويقظة وتمكن من عدوهم المستعمر، فلم يملكوا أيامها أن يغيروه أو يتخلصوا منه، ثم ورثه الأبناء عن الآباء، والأحفاد عن الأجداد، وبقي الأمر كما كان.

فليس معنى الاجتهاد أن نحاول تبرير هذا الواقع على ما به، وجر النصوص من تلابيبها لتأييده، وافتعال الفتاوى لإضفاء الشرعية على وجوده، والاعتراف بنسبه مع أنه دعي زنيم.

إن الله جعلنا أمة وسطا لنكون شهداء على الناس، ولم يرض لنا أن نكون ذيلا لغيرنا من الأمم، فلا يسوغ لنا أن نلغي تميزنا، ونتبع سنن من قبلنا شبرا بشبر وذراعا بذراع، وأدهى من ذلك أن نحاول تبرير هذا وتجويزه بأسانيد شرعية، أي أننا نحاول الخروج على الشرع بمستندات من الشرع، وهذا غير مقبول.

5- لا ينبغي أن نجعل أكبر همنا مقاومة كل جديد، وإن كان نافعا، ولا مطاردة كل غريب وإن كان صالحا، وإنما يجب أن نفرق بين ما يحس اقتباسه وما لا يحسن، وما يجب مقاومته ولا ما لا يجب، وأن نميز بين ما يلزم فيه الثبات والتشدد، وما تقبل فيه المرونة والتطور.

ومعنى هذا أن نميز بين الأصول والفروع، بين الكليات والجزئيات، بين الغايات والوسائل، ففي الأولى نكون في صلابة الحديد، وفي الثانية نكون في ليونة الحرير، كما قال إقبال رحمه الله:

مرحبين بكل جديد نافع                                          ومحتفظين بكل قديم صالح

6- ولا بد لنا –لكي ينجح الاجتهاد- أن نتوقع الخطأ من المجتهد، إذ لا عصمة لغير نبي، وأن نفسح له صدورنا، وألا نشدد النكير على من أخطأ في اجتهاده ونتهمه بالزيغ والمروق وما إلى ذلك من النعوت، وذلك بشرطين:

أ- أن يملك أدوات الاجتهاد –وهي معروفة مذكورة في أصول الفقه- فليس كل من اشتغل بالفقه أو ألف فيه أو حفظ مجموعة من الأحاديث يعد مجتهدا.

ب- أن يكون عدلا مرضي السيرة. وهو ما يطلب في قبول الشاهد في معاملات الناس، فكيف بقبول من يفتي باجتهاده في شريعة الله؟.

أما أدعياء الاجتهاد، الذين لا يملكون إلا الجراءة على النصوص، والاستهانة بالأصول، وإتيان البيوت من غير أبوابها، فهؤلاء يجب أن يرفضوا، حفاظا على قداسة الدين، وحرمة الشريعة، أن تتخذ سلما للشهرة، أو مطية للوصول إلى دنيا ظاهرة، أو إشباع شهوة خفية، أو أداة لتأييد سلطان جائر أو لتبرير سلوك منحرف، أو فكر مستورد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر