أبحاث

الثقافة والحضارة

العدد 3

لا يخطر ببالي أن أتحدث هنا عن الثقافة والحضارة بمفهومها الحديث، فهذا أمر لا قبل لي به، ولا حاجة بنا إليه. وإنما مقصودي أن أرسم خطوطاً سريعة توضح نظراتي إليهما وموقفي منهما من خلال لغتنا العربية، وهي كما تعلمون، لغة “جوانية” على الأصالة، تجعل الصدارة للمعنى والقيمة والفكرة.

وقد حفزني إلى هذه الخواطر أننا نشهد هذه الأيام من آثار الغرب فيما يسمونه “حضارة” و “ثقافة” ما يدعونا إلى وقفة تأمل وتفكير: إغراق في الاقتصاديات. واستبعاد للماكينات وسباق إلى الإلكترونيات، وازورار عن القلب والجوهر والروح في الإنسان. ونشهد موكباً حاشداً من الصور تلاحقنا بها السينما والصحف والإذاعة والتليفزيون -تجعلنا نجري ونلهث إلى غير غاية، ونعيش على هامش أنفسنا، وكأنما أضحى مثلنا الأعلى أن نقيم في معسكرات أو مخيمات، وكأننا خطوط هندسية أو أرقام حساب.

باسم الثقافة والحضارة بعد أن زيفوهما أهدروا “الناطقية” فينا؛ وباسم العقل، بعد أن ابتذلوه، ندّدوا بما هو روحي وأبدي، وسَخِروا من الأديان بعد أن سخّروها لحكم الجماهير.

وقالوا لنا إن تقدم العلم سيمهد السبيل إلى الوئام بين جميع الشعوب. ولكن المبدأ الأعلى للعلم -وهو السماحة والنزاهة- قد أفلت منهم ولم يفهموا دروسه، حتى قال أحد علمائهم: “متى خرجنا من مجال تخصصنا، عدنا كما كنا بدائيين”!.

إن الثقافة والحضارة لا يُرتجلان، ولا يُستعاران، ولا يُستوردان، ولا يقومان باللوائح أو المراسيم. والشعوب لا تثقف ولا تتحضر إلا في أناة وتريث وعكوف؛ ولن تبلغ من ذلك ما تريد إلا بالتعهد والرعاية والعناية وكلها تتنافى مع العجلة والتهور والاندفاع.

فليست الثقافة ولا الحضارة محفوظات أو مجهزات أو معلبات، بل هي كما قال “هريو”: “ما يتبقى في نفوسنا بعد أن نكون قد نسينا كل ما حفظنا”.

وليس شأن الثقافة والحضارة كشأن ما يسمى باللغة العصرية باسم “القهوة الفورية” (instant coffee) أو نسكافيه “Nescafe) “وشتان عندنا بين هذه القهوة “الجاهزة” وبين القهوة العربية “المجهزة”. أعني تلك التي لا تصير قهوة إلا بعد إعداد خاص وعلى مراحل. وتلك في نظرنا هي نفخة الحضارة الحقيقية في عمل القهوة: لأنها تتطلب تريثاً وعناية، وتفسح للذهن مجالاً للتأمل والروية.

وما قلته عن “القهوة الفورية” نستطيع أن نقوله عن بعض الأفكار الجاهزة، والإديولوجيات المستوردة، والعقائد المجهزة حتى قبل أن تجهز، كما يقول برجسون. ويحضرني في هذا المقام حكاية واقعية تعبر في نظري عما أريد أن أؤكده من “جوانية” الثقافة والحضارة. وأنهما لا تقومان إلا بالعراقة والأصالة.

في سنة 1917 مثلت مسرحية “أوديب ملكاً” على مسرح “أورانج القديم” في فرنسا. وكان الثري الأمريكي “كارنيجي” من شهود المسرحية. فأعجب بها أيما إعجاب. وما كاد ينتهي التمثيل حتى نهض من مكانه وأسرع إلى مدير المسرح يهنئه، ووجه إليه السؤال التالي:

“كم من الدولارات تلزم لإخراج هذه المسرحية في أمريكا على هذا النحو من الإبداع؟”.

فأجابه الفنان الفرنسي: مع الأسف يا مسيو كارنيجي، ليست الدولارات هي الشيء المطلوب هنا، بل يلزم لذلك ألفان من السنين..!.

وأكبر الظن أن المدير الفرنسي أراد أن يقول للثري الأمريكي ما قاله من قبل الشاعر العربي القديم:

حسن الحضارة مجلوب بتطرية                                   وفي البداوة حسن غير مجلوب

وأود أن أنوه في هذا المقام بأن وزارة الثقافة المصرية قد أحسنت، من الناحية الشكلية على الأقل، حين راعت هذا المعنى عند إنشائها “المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب”، فدلت بهذا على أنها قد انتبهت إلى أن لجان هذا المجلس لا تنشئ ثقافة، وإنما “ترعى” الثقافة القائمة، وأن هذه “الرعاية” أمر يحتاج إلى الجهد والوقت والمال.

والواقع أننا لا نستطيع أن نبحث عن ثقافة أو حضارة بمعزل عن وعي الإنسان وموقفه منهما. إن الناطقية الإنسانية هي مركز الكون كله. والعالم الخارجي أو “عالم الأعيان” كما يقول المتكلمون الإسلاميون، لا يكاد كذلك إلا بالقياس إلى “عالم الأذهان”. وكل أمر “واقع” فهو ملون دائماً بموقف الذات من الموضوع. إن الذات “تقد العالم على قدها” كما يقول كانط.

والإنسان ليس مجرد نتيجة للتاريخ: بل هو القوة المحركة للتاريخ. والدين دعامة أساسية للحضارة؛ لأنه منبع للقيم الروحية، ولأنه هو البعد الجواني للإنسان من حيث هو إنسان. فما من حضارة تصلح لأن يطلق عليها هذا الاسم إذا جعلت ديدنها أن تتنكر للدين ولقيم الروح. وهناك مجتمعات ربما نجحت في حل مشكلات الإنتاج، ولكنها لم تستطع حتى اليوم أن تحل مشكلة الإنسان. والإنسان لا يقنع بالمادة بل يريد الروح، ولا يكتفي بالحياة في الحاضر، بل يتطلع إلى حياة المستقبل.

إن الحضارة تقوم في النهاية على الإيمان كما يقول “مادارياجا”. و “الإيمان رابطة أخلاقية تجعل الناس يرتفعون فوق مصالحهم الشخصية المباشرة. وإن المدافع والذخائر والمؤن مادة لا حياة فيها بغير الإيمان: وفي معركة “فالمي” تغلب الإيمان بلا مدافع على المدافع بلا إيمان”.

والحرية والعدل روح المجتمع المتحضر. ولا يمكن أن يدوم مجتمع بلا حرية ولا عدالة. وليس هنالك سوى اختيار واحد: إما الحرية وإما الطغيان، فإذا ألغيت الحرية فسم طغيانك ما تشاء: فاشية أو نازية أو دكتاتورية (المافيا) أو استبداد الصعاليك.

المجتمع المتحضر هو المجتمع الأخلاقي أو “المدينة الفاضلة” بتعبير الفارابي. وهي تلك التي يجعل أهلها أمور السياسة خاضعة لقانون الأخلاق، ويدأبون في أفكارهم وأعمالهم على الإنصات إلى صوت الضمير. ولا ريب أن العلوم الأخلاقية والنفسية والاجتماعية هي اليوم ألزم من علوم المادة التي هي أدنى إلى أن تكون خطراً يتهدد الناس في مجتمع ما يزال أهله على جهل بأنفسهم. ومن البين، كما يقول مالك بن نبي، أن تربية إنسان متحضر وإعداده أصعب من صنع محرك، أو تعويد قرد على أن يلبس رباط رقبة!.

إن الروح هي التي تتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم. وحيث تغيب الروح يكون السقوط والاضمحلال: لأن ما يفقد القدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهوى منجذباً بثقل لا سبيل إلى مقاومته. والدين هو “مجمع” القيم الاجتماعية ولكنه يقوم بهذا الدور في حال نشأته وانتشاره وحركته، حيث يعبر عن فكر الجماعة. أما حين يصبح الإيمان مطوياً بغير إشعاع، أعني حين يصير إيماناً فردياً، فإن رسالته التاريخية تنتهي على الأرض، إذ يكون عاجزاً عن تحريك دفة الحضارة، ويصبح إيمان متعبدين يعزلون أنفسهم عن الحياة، ويهربون من واجباتهم ومسئولياتهم”.

في 18 يونيو سنة 1916 ألقى (رابندرانات تاغور) محاضرة في جامعة طوكيو خاطب فيها الشيبة بقوله: “إنكم لا تستطيعون أن تقبلوا الحضارة الحديثة كما هي.

إن واجبكم أن تدخلوا عليها التغير الذي تتطلبه عبقريتنا الشرقية. وواجبكم أن تبثوا الحياة حيث لا يوجد إلا الماكينة. وأن تستعيضوا بالقلب الإنساني عن حسابات المصلحة الباردة. وأن تتوخوا الحق والجمال حيث لا سلطان إلا للقوة الغاشمة والنجاح اليسير. إن حضارة أوروبا نهمة ومسيطرة، تلتهم الشعوب التي تغزوها؛ إنها تبيد وتفني الأفراد والشعوب التي تعوق مسيرتها الفاتحة.

إنها حضارة كلها سياسية، تستسيغ لحوم الآدميين. إنها تقهر الضعفاء وتثرى على حسابهم. إنها آلة للطن. إنها تبذر -أينما ذهبت- الحسد والغيرة والشقاق. إنها تصنع الفراغ حولها. إنها حضارة علمية لا إنسانية ومصدر قوتها أنها تركز جميع قواها صوب غاية واحدة: الثروة، وتحت اسم الوطنية لا تراعي كلمة الشرف، إنها تمد بلا خجل شباكها، ونسيجها الكذب، وتقيم للمعبود الهائل البشع المعابد المشيدة للكسب والمنفعة.

ونحن نتنبأ دون تردد بأن هذه الحضارة لن تدوم أبداً لأن في العالم قانوناً أخلاقياً مهيمناً ينطبق على الجماعات كما ينطبق على الأفراد وإهدار كل مثل أعلى في الأخلاق ينتهي بأن يؤثر في كل عضو من أعضاء الجماعة. ويولد عدم الثقة والاستهتار. ويحطم في الإنسان كل ما هو مقدس، إنها تمرد على القوانين التي سنها العلي القدير. إنها لا تستطيع أن تنتهي إلا إلى “كارثة”.

ورومارولان الذي سجل هذه الفقرات في يومياته قد أعلن أن هذه المحاضرة التي تبين منعطفاً في تاريخ العالم لم يكن لها صدى في كبرى الصحف الأوربية ولم تنشر إلا في المجلة المسماة (أوت لوك) the outlook الصادرة بنيويورك في 9 من أغسطس 1916.

إن الثقافة عندنا ليست معلومات محفوظة ولا تطبيقات منقولة بل هي في مفهومها الصحيح شيء يجاوز المهارة أو البراعة في أي ناحية من نواحي العلوم النظرية أو العملية. الثقافة مرادفة في نظرنا لحضور القلب ويقظة الروح، وهما لا يكونان إلا مع الضمير الحي والعقل الناضج والقلب السليم. ومتى يفترقان، وأصبحت حياته مصدقاً لأفكار: فبعد عن الآلية والأنانية، وقصد إلى الغايات بأفضل الوسائل، واتجه إلى الجوهر والمخبر، دون وقوف عند المظاهر والأعراض. والأساس المتين الذي تقوم عليه الثقافة الواعية، ثقافة القلب والعقل والحس، وهو الاعتقاد بالقيم الروحية والمبادئ الأخلاقية. فلسنا نتصور أن مثقفاً واعياً لا تصدر أفكاره وأعماله عن يقين راسخ بأن الثقافة -كالحضارة- تقوم على الإيمان، أي على الرابطة الأخلاقية التي تدفع الناس إلى أن يفكروا ويعملوا متساندين، مرتفعين على بواعث الأنانية والأثرة متخطين نوازع المصلحة المادية المباشرة.

والإنسان المثقف منوط برسالة أخلاقية اجتماعية عليه أن يؤديها: فهو بحكم وعيه المستنير تكون رسالته السعي الدائب إلى تقدم المجتمع وإسعاده: فهو يجعل جهده أن يزكي في نفوس الناس الشعور بالمثل الأعلى، وهو ذلك الشعور الذي استضاء بنور العقل، فأصبح حرية نابعة من الذات، ووعياً للحقوق والواجبات: ينبه وعيهم للحقوق حتى لا يستغلهم المستغلون وحتى يتعاونوا فيما بينهم، وحتى يبذلوا جهودهم من أجل المجتمع. والمجتمع لا يتطلب من المثقف، لكي يؤدي هذه الرسالة، أن يكون “عارفاً” فحسب، بل أن يكون على الخصوص “فاضلاً”. ولا يتطلب منه أن يكون قد وصل إلى أعلى درجة من الثقافة فحسب، بل إلى أعلى درجة من الأخلاق في عصره.

وما من واحد من أهل الثقافة يستطيع أن يزهو بنجاح دعوته لإصلاح أمته ما لم يكن قد بدأ بإصلاح نفسه: إن الثقافة الحقيقية هي تلك التي يتألق فيها نور العقل والإيمان.

أما المدنية فقد سجلت موقفي منها منذ أكثر من أربعين سنة في مذكرة جيب فقلت ما نصه: إن أعظم ما يميز “المدنية” عندي خلق التسامح، والبعد عن التحيز، وتجنب الميل مع الهوى. وما دامت المدنية الحاضرة لا تزال مشوبة بنزعات العصبية ونزوات الكراهية، وعلى الخصوص في الأمور السياسية، فهي بعيدة في جوهرها عن المدنية الحقيقية (الجوانية ص 36).

وفي سنة 1927 استوقفتني مشكلة العلم والأخلاق، ومضيت أقرأ وأتأمل، وكانت نتيجة هذه الدراسة التأملية مقالاً نشرته بعنوان: “هل العلم صديق للإنسان؟” قلت فيه إني لا أرى حداً لما يأتي به الإنسان من مغامرات رهيبة في آفاق العلم. وإن العقل لتساوره الحيرة بإزاء ما ستكون عليه الحياة أيام أحفادنا”. وقلت مفسراً أسباب تخوفنا من العلم، مع أنه قيل فيما يقال رهن إشارة الإنسان وطوع أمره: “وإنه ليهولنا أمر القوى التي استطاع العلم ابتعاثها حتى اليوم وقد يساورنا القلق لفكرة القوى التي قد يوفق إلى ابتعاثها في الغد. فقد يأتي يوم نرى فيه الوجود الإنساني نفسه تحت رحمة عالم من العلماء، ونرى أن لمسة زر صغير قد تفجر قوى عنيفة تقضي على جماعات وشعوب بأسرها…”. أفكانت هذه نبوءة مني بالأخطار التي سيتعرض لها العالم بعد ذلك بعشرين سنة بفضل الأسلحة الذرية؟ مهما يكن الأمر فقد مضيت في مقالي فعبرت عن أملي في أن يكون العلم في المستقبل قوة رحيمة كلها خير وبركة تخفف أعباء سكان الأرض جميعاً. وذكرت مع ذلك أن الشك يخامرني في استطاعة العلم أن يجعلنا أوفر سعادة وهناء، وإن كنت على يقين بأنه لا يجعلنا أكثر حكمة ورشاداً، وأشرت في وضوح إلى أن صداقة العلم للإنسان أو عداوته له إنما هي مسألة إنسانية في صميمها، ترجع إلى قوة النفس ومتانتها.

“والأمر كله يتوقف علينا، وعلى مدى شعورنا بوجوب الإقلاع عن الخطة المستقيمة التي اتبعها قافلتنا في ماضيها. ولو سار أهل العلم على أساس الحكمة والروية لزلزل خوفنا منه، ولأصبحنا نرى فيه ذلك المسحن المتفضل الذي يدر الخير على الجنس البشري جميعاً: ومن ثم نستطيع أن نستخدم المال الذي اعتدنا إنفاقه على السلاح والذخائر في وجوه الإصلاح، وفي تحسين مرافق الحياة تحسيناً من شأنه أن يحل مشاكل الإنتاج والطعام والزراعة والصناعة وما إليها، وأن يهيئ لنا حياة أرغد وأهنأ وأوفر سلاماً واطمئناناً، وعالماً أرحب مكاناً لإقامتنا القصيرة مما كان عليه في تاريخه المضطرب العصيب”. ووجهت التحذير الذي كثيراً ما وجهه المفكرون المعاصرون بعد إطلاق القنبلة الذرية في الحرب العالمية الثانية فقلت: “لقد آن لنا أن نتعلم كيف نعيش معاً وفي وفاق وأمن وسلام، وأن نعمل على تنظيم أنفسنا وضم صفوفنا في مواجهة الفتنة النائمة التي لو قدر لها أن تستيقظ لقضت على الغالب والمغلوب على السواء”.

وكتاب الأستاذ “ألبير باييه” بعنوان “أخلاق العلم” يؤيد موقفي الجواني من العلم والأخلاق والمدنية، فالفصول الأولى منه تؤكد هذه الفكرة: وهي أن العلم لا يستطيع أن يرشدنا إلى القيم الأخلاقية، ولا إلى ما ينبغي أن يكون. ولهذا يجب “ألا نطلب إلى العلم ما لا يسوغ له أن يعطينا” (دفاع عن العلم ص 53).

لقد آن أن نختم الحديث فأقول إني الآن بعد أن طوفت في الآفاق شرقاً وغرباً، التماساً لمعنى الثقافة والحضارة، لا أجد معبراً عن موقفي خيراً من بيت عربي للشاعر الصوفي فريد الدين العطار يقول فيه:

فإن تقرأ علوم الناس ألفاً                                         بلا عشقٍ فما حصلت حرفاً

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر