كلمة التحرير

التقدم العلمي في ظل العولمة والنموذج الإسلامي لتفاعل الحضارات

العدد 95

مقدمة :

يتحدثون الآن عن « العولمة» باعتبارها السمة المميزة لحضارة العصر المادية في سعيها إلى الهيمنة وفرض سيطرة النموذج الغربي سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وعلميًّا . ولكن هذا يخالف ناموس التفاعل الحضاري الذي يحكم العلاقة بين الثقافات العالمية الكبرى على أساس الاحتفاظ بالتمايز والخصوصيات . ولقد كانت « عالمية» الإسلام وحضارته من أهم خصائص النموذج الإسلامي الذي حقق  انتشارًا ودوامًا متلازمين على الأرض لم تحققهما حضارة أخرى عبر عصور التاريخ الإنساني .

وإن ما يحدث في الحاضر والمستقبل من تفاعل وتبادل بين ثقافات الأمم المختلفة ينبغي أن يكون امتدادًا لعمل نفس القانون الذي اتبعته حضارات العصور القديمة والمتوسطة والحديثة ، برغم الفارق الكبير بين وسائل الاتصال وآلياته ومعدلاته في كل من تلك العصور .

* التقدم العلمي في ظل العولمة :

إن صياغة تعريف جامع مانع – كما يقول المناطقة – لمصطلح «العولمة» ليس بالأمر اليسير؛ نظرًا لتعدد مفاهيمه التى تتأثر كثيرًا بتعدد الاتجاهات إزاءه رفضًا أو قبولاً بدرجات متفاوته . فهناك من لايرى  في «العولمة» إلا بعدها المكاني ، ويعرفها بأنها مجرد وصف لمجموعة من العمليات التي تشمل أغلب الكوكب ، أو التى تشيع على مستوى العالم . وهناك من يرى أن «العولمة» تعنى فقط حالة التداخل المكثف في العلاقات بين دول العالم على جميع المستويات : السياسية والاقتصادية والثقافية والأيديولوجية وغيرها ؛ وذلك نتيجة الإنجازات العلمية والتقنية في مجالات الاتصالات والمعلوماتية وصناعة المعرفة خلال هذا العقد الأخير من القرن العشرين ، بعد أن توفرت القدرة على اختراق الحدود من خلال الفضائيات التى حولت العالم إلى «  غرفة كونية صغيرة » لكن مهمة إيجاد صيغة محددة لوصف كل هذه العمليات والأنشطة يبدو عملية بالغة الصعوبة ، وحتى لو تم التوصل إلى مثل هذه الصياغة المحددة ، فمن المشكوك فيه أن تحظى بالقبول أو الاستعمال على نطاق أوسع .

والأفضل – فيما نرى – أن يتم تعريف «العولمة» بتحديد أهم خصائصها وصفاتها ومظاهرها التى تدل عليها . ويمكن – من جانبنا – أن نجسد هذه الخصائص والصفات بصورة إجمالية في أمرين مهمين جدًّا :

– الأمر الأول نستشفه من تحاشي أنصار «العولمة» وبعض فلاسفتها إدخال الدين ضمن مجالات نشاطها ، فهم يحصرونها بصورة رئيسية في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة ، وفي بعض الأحيان يدرجون مجال العلم والتقنية . وهم بهذا الاختزال ، يجعلون منها «علمانية» جديدة تستبعد الأديان من دائرة التأثير .

–  الأمر الثاني هو ذلك التحيز الذي يصل إلى درجة التعصب للنموذج الغربي ، وتعميمه ، وفرض سيطرته وهيمنته ، مع السعى إلى اختراق خصوصيات الغير وطمس القسمات التىتتشكل منها شخصيات الأمم والشعوب الأخرى ، وخاصة المستضعفة منها ، وهو – أي النموذج الغربي المدعم بالتفوق المادي والثقافي – يسخر من أجل هذا كل إنجازاته العلمية والتقنية ، وقدراته الاقتصادية ، وإمكاناته الإعلامية ، بل وقوته العسكرية إذا اقتضى الأمر ؛ ليفرض تصوراته الخاصة عن السلام والأمن والحرية وحقوق الإنسان ، وغير ذلك من المفاهيم التى لها عند كل أمة ، بل عند كل توجه فكري وسياسى ، تصور خاص .

وهذان الأمران اللذان يجسدان أهم خصائص العولمة الغربية ومظاهرها التى تدل عليها قد صاحبها خلال السنوات الأخيرة ظهور اتجاهات نقدية جعلت كثيرًا من الشعوب ، بل الحكومات في الغرب نفسه ، تخشى هذا الخطر القادم، وترفض الاستجابة لدعواته ، والانخراط تحت لوائه ، وقد تجلى ذلك في تقرير الحزب الاشتراكي الفرنسي الصادر في 3 /4/ 1996م بعنوان «العولمة وأوروبا وفرنسا» متضمنًا أعنف نقد «للعولمة الأمريكية» ، وكذلك عند توقيع اتفاقية «الجات» امتنعت فرنسا وتحفظت كثير من الدول الأوربية في البداية على البند الخاص بالمجالات الثقافية والإنتاج الإعلامي .

ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل ظهرت حركات فكرية مضادة للعولمة داخل الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها. وفي الوقت نفسه تحاول هذه الحركات تقديم البديل للعولمة .

من ناحية أخرى ، يتفق دعاة العولمة الغربية على اعتبار الإسلام في مقدمة الأخطار التى تواجههم أو تقوض أركان       دعوتهم في جانبها الأيديولوجي ، وقد ظهرت عقب  انهيار الشيوعية كتابات وبحوث ومقالات تحذر من الإسلام على أنه الخطر الجديد . وفي المقابل هناك بعض المعتدلين الذين ينصفون الإسلام بمبادئه وقوته الروحية ، ولا يجدون غضاضة في التعامل معه ومع أتباعه من خلال الحوار ، ولامانع لديهم من أن تكون الغلبة لمن يصلح للبشرية حتى ولو كان هو الإسلام .. فهم يرون البون واسعًا بين «عالمية» النموذج الإسلامي ، و« عولمة» النموذج الغربي ، حتى وإن حاول الغرب أن يضفى على تصوراته طابعًا إنسانيًّا ، ويرفض أي نوع من الاختلاف حولها .

ولم يسلم العلم من السقوط في أسر أيديولوجيا العولمة الغربية ( الأمريكية والأوربية واليابانية) ، فتحول البحث العلمي إلى سلطة سياسية مرتبطة بنفس الأيديولوجيا ، وأصبح «العلم السرى» تعبيرًا عاديًّا يبرر استثناء بعض مجالات البحث العلمي التى يتوقع أن تضر بالمركز التنافسي الاقتصادي والأمن القومي ، من قانون حرية المعلومات الأمر الذي يؤدي إلى تخلف العلم نفسه في بعض الميادين .

كذلك أصبح العلم سلعة وموضوعًا للإنتاج في صناعة جديدة هي « صناعة المعرفة » التى حلت تدريجيًّا محل المادة في الإنتاج . الأمر الذي جعل مكانة المواد الأولية الطبيعية أكثر تدهورًا؛ لأن الحاجة إليها تقل تدريجيًّا ، وهذا   ينعكس سلبًا على حركة التقدم العلمي في الدولة التى تلهث وراء تقنيات جديدة تحتكر العولمة إنتاجها. ومن الأمثلة الصارخة على الخلل الذي أحدثته العولمة في توجيه مسيرة العلم والتقنية مشكلة التلوث البيئي التى تزداد تفاقمًا يومًا بعد يوم ، وأصبحت خطرًا قائمًا يهدد حياة الإنسان في كل مكان على الأرض ، وينذر بأوخم العواقب .

* قانون التفاعل  الحضاري :

يمكن القول بأن المعادلة التى تبلورت من خلال الدراسات الموضوعية الجادة في تاريخ المعرفة والحضارة الإنسانية قد أصبحت في حكم الحقيقة التاريخية الثابتة التى تعبر عن العلاقة بين ثقافات الأمم على أساس التفاعل المتبادل من جهة ، مع الاحتفاظ بالهوية والقسمات المميزة من جهة أخرى .

أما التفاعل المتبادل فيعني أن الثقافة الإنسانية ذات موارد متعددة بين شرقية وغربية ، يغذي بعضها بعضًا ، دون أن تقام بينها حواجز منيعة ، لا تسمح باتصال أو تبادل ، ومن ثم نجد أن حضارات العصور القديمة والوسطى قد أخذت وأعطت مثلما تأخذ الأمم اليوم وتعطي ، لتبقى شجرة العلوم والمعارف خضراء يانعة ، وارفة الظل وغزيرة الثمار .

ويمكن الاستشهاد على صحة هذا الطرف من معادلة التفاعل الحضاري بأمثلة عديدة لا يسمح المقام بحصرها ، ولكن أحد هذه الأمثلة نستخلصه من مجال تاريخ العلوم ، حيث نجد أن تقديس «فيثاغورث» وأتباعه للأعداد يشبه تلك المعتقدات التى وجدت في بابل ، ونجد أيضًا أن مضمون نظريته المعروفة باسمه ، نظرية «فيثاغورث» كان معروفًا في مصر والهند وبابل ، ويربط بعض المؤرخين بين صحة هذه المقولة ، وبين ما يروى عن «فيثاغورث» من أنه سافر إلىبابل ودرس بها، وأنه عاش في مصر وشاهد إنجازات المصريين وعني باستخلاص المبادئ النظرية التى قامت عليها تلك الإنجازات ، مستعينًا في ذلك بأفكاره العقلية ، فقد توصل المصريون القدماء للعلاقة بين الأعداد 3 ، 4 ، 5 في مثلث قائم الزاوية ، ثم صاغ منها فيثاغورث نظريته التى تقضي بأن المربع المنشأ على الوتر في المثلث القائم الزاوية يساوى مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين .

واستطاع علماء الحضارة الإسلامية بعد ذلك ، وعلى أساس ما توصل إليه القدماء ، أن يستنبطوا تعميم نظرية فيثاغورث لأي مثلث ، وكان لكل هذه الإنجازات مجتمعة أكبر الأثر في تطوير علم الهندسة المستوية ، ثم انبثاق باقي الفروع الهندسية في العصر الحديث .

وعن تفاعل الحضارات كثيرًا ما يحدثنا التاريخ السياسي أيضًا، فقد قامت علاقات تجارية بين الهند واليونان والعرب منذ عهد الإسكندر المقدوني وحتى الفتح الإسلامي ، وتشهد ألواح حضارة بلاد ما بين النهرين وكتابتهم المسمارية على تفوقهم في عدد من فروع العلم والمعرفة نتيجة اتصالهم بالمصريين القدماء ، وتعتبر الحضارة الفارسية حصيلة لحضارات الأمم والشعوب التىأخضعتها حتى امتدت إلى بلاد السند في الشرق وبلاد ما بين النهرين والساحل الفينيقي ومصر وآسيا الصغرى وشمالي اليونان في الغرب . ولطالما  فاخر ملوك الفرس بأن أمبراطوريتهم ضمت عشرين أمة ، حتى أن البلاط تكاثر فيه علماء وأطباء ومنجمون من بابل ومصر والهند واليونان ، كما أن الكتابة المسمارية استخدمت في البدء مع بعض التعديل للتدوين، وبعد ذلك اعتمدت اللغة الآرامية لغة رسمية .

وينبغي ألا يغيب عن الأذهان ما يقتضيه اتصال الشعوب واندماجها من تبادل وتلاقح بين الثقافات ، وأن ما نشهده في عصرنا الحاضر من تفاعل وتبادل بين ثقافات الأمم المختلفة ينبغي أن يكون امتدادًا لعمل نفس القانون الذي اتبعته حضارات العصور القديمة والمتوسطة والحديثة ، برغم الفارق الكبير بين وسائل الاتصال وآلياته ومعدلاته في كل من تلك العصور .

وأما الطرف الآخر لمعادلة التفاعل بين الثقافات والحضارات ، فهو احتفاظ كل ثقافة وكل حضارة بخصوصياتها المميزة ، والإبقاء على طابعها ومقوماتها التى تنفرد بها ، ومقاومة كل أمة للذوبان في أية أمة أخرى إلى الحد الذي تنطمس فيه معالم هويتها وقسمات شخصيتها .

ولقد تحقق التفاعل الحضاري بصورة واضحة في مختلف مراحل التاريخ الإنساني، لكن صبغته «العالمية» كانت أوضح ما يمكن في النموذج الإسلامي لعصور الازدهار في ديار الإسلام إبان القرون الوسطى.

* النموذج الإسلامي للعالمية :

لم يكن البعد الديني بصورة عامة غائبًا أوبعيدًا عن مجال التأثير في طبيعة التفاعل بين الحضارات ، فقد نمت الحضارات القديمة كلها في ظل ديانات وضعية أو سماوية محرفة ، تقوم في أغلب الأحيان على التحيز التعصبي وتمجيد عنصر على سائر العناصر ، وتستند في مجملها إلى مجموعة من الأفكار والآراء والمعتقدات التى تتعلق بالحياة وما بعد الحياة، والتىيتوصل إليها فيلسوف من الفلاسفة ، وقد تكون متفقة مع العقل والمنطق أو قريبة في تصوراتها مما جاء في الرسالات السماوية، وقد لا تكون ، ولكنها على أية حال فعلت فعلها في دفع الشعوب التى آمنت بها إلى الأخذ بسبب في طريق الحضارة والمدنية .

وفي داخل هذا الإطار العام كان كم العطاء الحضاري ودوامه متوقفين على مدى اقتراب تلك الديانات الوضعية من المثل الأعلى الذي حدده الله – سبحانه وتعالى – للإنسان ، وعلى مدى تعبيرها عن القانون الإلهي الذي أراده الله تعالى ناموسًا طبيعيًّا لحركة الكون والحياة .

وقد كان كلٌّ من جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده بعيد النظر حين رأى أن الأصول الدينية الحقة تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل ، وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع دائرة العلوم والمعارف ، وتنتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية . ولم يتوفر هذا الذي رأياه إلا في رسالة الإسلام المكتملة التي جمعت في إعجاز رباني بين متطلبات الدين ومتطلبات الحياة ، وحثت على الانفتاح والتعارف والإخاء الإنساني طريقًا للتكامل بين البشر ، ودعت إلى الاستفادة من علوم الآخرين في مضمار الرقي المادي والعلوم العقلية والتجريبية. قال تعالى : {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّــــــهَ عَلِيمٌ خَبِير } (سورة الحجرات : 13) .

وقال عليه الصلاة والسلام – فيما رواه الترمذي والعسكري: «الحكمة ضالة كل حكيم فإذا وجدها فهو أحق بها» .

ومما يؤكد مبدأ الانفتاح والتواصل بين الأمم في دعوة الإسلام العالمية من أجل الخير لكل البشر أنه كفل المحافظة على الحقوق والعهود والمواثيق للذين لم يأتمروا عليه . قال تعالى : {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} (سورة الممتحنة : 8) .

وفي ضوء هذه المبادئ السامية التي سنها الإسلام للتعامل مع غير المسلمين انتشرت رسالة الإسلام في جميع أنحاء الأرض ، وازدهرت الحضارة الإسلامية في جوانبها المادية نتيجة التقائها بثقافات الإغريق والرومان والفرس والهنود وغيرهم . حيث تعرف المسلمون على علوم كثير من الشعوب من غير ملتهم ، وتكونت لديهم خبرات واسعة في شتى المجالات الصناعية والتجارية والزراعية والعمرانية والعلمية والفنية ، وترجموا إلى اللغة العربية كل ما عرفوه من تراث الأقدمين ، وصهروا هذه الخبرات والمعارف التي أخذوها واستفادوا منها في بوتقة الإسلام ، فجاءت الحضارة الإسلامية فيما بعد مطبوعة بطابعه وممهورة بخاتمه ، عدا الإسهامات الجديدة التي أبدعوها إبداعًا بعد أن لم تكن شيئًا مذكورًا .

* حقائق التاريخ :

لقد عرف المسلمون جيدًا ماذا يأخذون وماذا يتركون ، فبينما نجدهم قد ترجموا علوم الإغريق وحكم الهند وسير أبطال فارس ، فإنهم لم يترجموا من آداب جيرانهم إلا ما هو في حكم الفكر ، وليس الفن أو العاطفة ، فهم -مثلاً- لم يترجموا ملاحم اليونان ولا مسرحهم ولا شعرهم الغنائي ، ذلك أن الشعر العربي الأصيل هو فنهم الأول الذي اعتزوا به أيَّما اعتزاز لمجئ الإسلام باللغة العربية ، ولم يكونوا بحاجة إلى الأدب اليوناني ، وكان شكله الأسمى مسرحيًّا ، والعرب لم تعرف المسرح ، وكان مضمونه الأغلب صراعًا بين الآلهة أو بين الإنسان والآلهة ، والعرب لا يدخل في عقيدتها الصراع مع الآلهة ، والمسلمون لا يعرفون إلا التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى .

وعندما أعطى المسلمون أدبهم وشعرهم لأوربا الناهضة أعطوه شعرًا عربـيًّا خالصًا لم يسهم في تطوره وفي مراحله الأخيرة إلا قوم استظلوا بالحضارة الإسلامية وتأثروا بها . لكن أوربا هي الأخرى – بالرغم من انتشار اللغة العربية آنذاك – فطنت إلى ضوابط التبادل الحضاري بين الأمم ، فلم تأخذ من هذا الأدب العربي الإسلامي إلا بقدر ما دعت إليه ضرورة انصهار سكان جنوب غرب فرنسا وجنوبي أسبانيا وصقلية في بوتقة الحضارة الإسلامية .

ومن الجدير بالذكر أيضًا أن جل ما عرفه المسلمون أو نقلوه من معارف السابقين ذات الفائدة كان تراثًا إغريقيًّا غربيًّا أكثر منه صينيًّا أو هنديًّا أو مصريًّا أو فارسيًّا شرقيًّا ؛ ذلك لأن ما وجده المسلمون لدى أمم الشرق القديم لا يعدو في حقيقته من الناحية الموضوعية أن يكون لونًا من الأساطير الدينية الممزوجة بضروب من التفكير الخيالي ، أو خبرات تجريبية حصلوها بدافع الحاجة للمأكل والملبس والمأوى ، أو بغرض الاستكشاف والغزو وبسط السلطان ، أو ما إلى ذلك . أما بلاد الإغريق فقد كانت – بحكم موقعها الجغرافي – ملتقى ثقافات الشرق كله . وتميزت معالجتهم لقضايا المعرفة بأسلوب فلسفي يستند إلى التأمل العقلي الخالص، على عكس علوم الشرق التي طوعت لخدمة الحياة العلمية ، ولهذا فإننا نجد أنها استطاعت تحديد الكثير من المفاهيم التي تعبر عن واقع الحياة وظواهر الكون بصيغ ومسميات رضيت بها جميع الأجيال التالية .

فقد عرف المسلمون من الإغريق ، ثم عرفت البشرية على أيدي المسلمين أسماء الفلسفة والتاريخ والحساب والهندسة والفلك والفيزياء والذرة والحيز المكاني ، والعلة والمادة وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا) وغيرها . وقد لخص «ول ديورانت» صاحب «قصة الحضارة» جوهر العطاء المتبادل بين الغرب والشرق بقوله : «إن اليونان عرضوا على الشرق الفلسفة ، وعرض الشرق على اليونان الدين ، وكانت الغلبة للدين؛ لأن الفلسفة كانت ترفًا يقدم للأقلية، أما الدين فكان سلوى للكثيرين» .

* العقلانية في النموذج الإسلامي :

بالرغم من أن تراث الإغريق كان بحق المنبع الأساسي الذي أخذ منه المسلمون في أولى مراحل النهضة العلمية الإسلامية ، وبالرغم مما تميز به هذا التراث من إنكار للوحي وتجسيد لهيمنة العقل وسلطان العقلانية في المجتمع المقسم إلى سادة وعبيد ، إلا أن الحضارة الإسلامية ظلت محافظة على قوام الدين الإسلامي ومقوماته ، حيث نهض الإسلام المرتكز على «الوحي» بدور «المكون الرئيسي» حتى لمعالمها وقسماتها غير الدينية ، ومن ثم قاومت «العقلانية المؤمنة» في الحضارة الإسلامية أي تأثير يؤدي إلى شطرها أو تلويثها ، وضربت صفحًا عن الصيحة الشائعة لدى الإغريق بأن «النظر للسادة والتجربة للعبيد» وبقي القرآن الكريم حصن الأمان لكل المسلمين ، يستحث جميع ملكات الإنسان على تحصيل العلم النافع ، ويدعو إلى اقتران هذا العلم بالعمل الطيب والسلوك الأمثل ويرسي مبدأ تكريم الإنسان وتحقيق المساواة الإنسانية. قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُون كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُون} (سورة الصف : 2 ، 3)

قال عز من قائل : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (سورة الحجرات : 13) .

* عالمية الإسلام ليست العولمة :

وهكذا تؤكد لنا حقائق التاريخ أن حضارة الإسلام قدمت لنا «نموذجًا إرشاديًّا» Paradigm لناموس التفاعل الحضاري الذي يلعب دورًا أساسيًّا في تقدم الشعوب ، بالإضافة إلى مجموعة المثل والمبادئ العقيدية والعوامل الذاتية الخاصة بقدرات ودوافع كل أمة على إحداث التغيير ، وهي أبعد ما تكون عن تلك الصفات القائمة على التعصب للجنس أو الدين أو البيئة الجغرافية ، فالفكر والإبداع لم يكونا أبدًا قاصرين على شعب دون شعب ، أو مكان دون مكان ، أو زمان دون زمان ، بحيث نقول عن جنس معين من البشر : إنه أذكى بني الإنسان ، أو نصف الأقدمين بأنهم أقل ذكاءً وعبقرية من المعاصرين ، أو نميز منطقة معينة من الأرض بأنها الأصلح دون سواها لاحتضان الفكر الإبداعي وتشييد البناء الحضاري .

ومهما روجت الأقوام المنسوبة إلى الجنس الآري لمقولة تفوقها على غيرها من الأجناس ، أو بالغ الأوروبيون في سرد مزايا إقليمهم و «عبقرية» موقعهم الجغرافي بالقياس إلى القارات الأخرى ، فإنهم لو عاشوا منعزلين عن باقي شعوب العالم لظلوا علي حالتهم البدائية المتوحشة حتى يومنا هذا . وإن هناك من بين الغربيين أنفسهم من راح يسخر جاهرًا من الاعتقاد السائد بينهم بأن الصفات التي تميزهم من طول فارع وشعر أشقر وعيون زرقاء وبعد عن الفكاهة ، هي سر التقدم الذي صاحب حضارتهم، ولم يجد المنصفون من علماء الغرب المعنيين بالدراسات الإسلامية أدنى حرج في الاعتراف بحقيقة العطاء المتبادل بين الحضارات بما في ذلك حضارة الغرب الحديثة والمعاصرة ، فيقول أحدهم وهو «كولر يونج» في ندوة عن «أثر الثقافة الإسلامية في الغرب المسيحي»: وبعد فهذا عرض تاريخي قصد به التذكير بالدين الثقافي العظيم الذي ندين به للإسلام منذ أن كنا نحن المسيحيين داخل هذه الألف سنة – نسافر إلى العواصم الإسلامية وإلى المعلمين المسلمين ندرس عليهم الفنون والعلوم وفلسفة الحياة الإنسانية ، وفي جملة ذلك تراثنا الكلاسيكي الذي قام الإسلام على رعايته خير قيام حتى استطاعت أوروبا مرة أخرى أن تتفهمه وترعاه . كل هذا يجب أن يمازج الروح التي نتجه بها نحو الإسلام نحمل إليه هدايانا الثقافية والروحية ، فلنذهب إليه إذن في شعور بالمساواة نؤدي الدَّين القديم . ولن نتجاوز حدود العدالة إذا نحن أدينا ما علينا بربحه ، ولكننا سنكون مسيحيين حقًّا إذا نحن تناسينا شروط التبادل ، وأعطينا في حب واعتراف بالجميل .

* مقومات النهضة العلمية الإسلامية:

إن الفاحص المدقق لواقع الأمة الإسلامية الآن لا يجد صعوبة في تقييم هذا الواقع من مختلف الجوانب : الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية وغيرها ، مقارنة بالأحوال المناظرة في دول العالم المتقدم . الأمر الذي يتضح معه أن فجوة التخلف العلمي والتقني التي تفصل بين دول العالم الأول ودول العالم الثالث فجوة هائلة تزداد اتساعًا يومًا بعد يوم . ويعتقد الكثيرون أن سدّ هذه الفجوة يكاد يكون مستحيلاً .. ويروج البعض لما يقول به الغرب من أن حالة التخلف التي نعيشها نتيجة طبيعية لارتباطنا بالإسلام .. وأن ما نقاسيه اليوم عقوبة نستحقها لانسلاخنا عنه (أي عن الغرب) خاصة وأنه يزعم أن حضارته وتصوراته وثقافته هي المعيار الذي يجب أن يقاس عليه الحال عند الأمم الأخرى، فكل ما وافق الفكر الغربي اعتبروه حضارة وتقدمًا ، وكل ما خالف النظام الغربي وصف بالتخلف والبعد عن الحضارة .

وتبلورت هذه الصورة مؤخرًا فيما يسمى «بالعولمة» أو «الكوكبة» التي تعني ضرورة تعميم النموذج الغربي ليشمل الكرة الأرضية سياسيًّا وثقافيًّا وعلميًّا واقتصاديًّا ، وتذوب فيه كل الثقافات والهويات غير الغربية .. ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد ، بل يمتد إلى التهوين من شأن الحضارات الأخرى والحط من قدرها ، ويتم التركيز بصورة رئيسية على دين الإسلام وحضارته . حيث يعتبرونه الخطر الأول الماثل أمامهم .. ويرون في النموذج الإسلامي مصدر قوة تضعف سيطرتهم وهيمنتهم، وتهدد بقاء حضارتهم .

ولهذا فإن العولمة الغربية تسعى إلى تدمير النموذج الإسلامي بكل السبل وتستخدم لذلك أساليب عديدة منها :

1 – في مجال التربية والتعليم ، وإليه يعزى السبب الأول لتخلف الأمة نتيجة الازدواجية التى تؤثر في إعداد العقلية الإسلامية .. والتى جعلت التعليم مجرد وسيلة للحصول على شهادة متوسطة أو عليا لا تعبر في أغلب الأحوال عن المستوى الذي يناظرها في الدول المتقدمة. وفقد نظام التعليم في جميع مراحله القدرة على إعداد وبناء متخصصين على مستوى جيد ، خاصة في المجالات العلمية : النظرية والتطبيقية والتقنية .

2 – في مجال الثقافة العلمية : نجح النموذج الغربي في تكوين ذيول أو عمالة ثقافية في الدول النامية تروج لفلسفة العلم الغربية التى تدعو جميعها إلى تهميش دور الدين وإبعاده عن دائرة التأثير .. وتطوع هؤلاء السلفيون للنموذج الغربي والثقافة الغربية ، تطوعوا من خلال المنافذ المتاحة لهم في أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية لنشر ثقافة التغريب والدعوة إلى مقاطعة الماضي الذي لم يجدوا فيه شيئًا على الإطلاق  يفيد حاضرنا أو مستقبلنا..

3- في مجال البحث العلمي لم يتناسب العائد كمًّا وكيفًا مع الإمكانات والقدرات  والأموال التى تنفق دون ترشيد ، بالرغم من آلاف الخريجين الذين تخرجهم أكثر من 250 جامعة و 350 معهدًا متخصصًا ونحو ألف مركز وأكاديمية للبحوث العلمية والتقنية ، موزعة في مختلف دول العالم الإسلامي .

وإذ ما قبلنا هذا التشخيص لحالة العلم والتقنية في العالم الإسلامي فإنه يمكن تحديد صور التحدي التى تواجه الأمة بصورة إجمالية فيما يأتي :

1- على المستوى الفكرى لابد من تفنيد المزاعم المعادية للإسلام دينًا وتاريخًا وحضارة ، والمروجة لاتساع الفجوة العلمية والتقنية واستحالة اجتياز حالة التخلف العلمي والتقني التى تعيشها الأمة الإسلامية استنادًا إلى الفهم الواعي لطبيعة التقدم العلمي والتقني الذي يسير في شكل موجات أو أجيال، إذا فاتنا الإسهام في جيل منه ، فلا يعني هذا أننا لا نستطيع اللحاق بالأجيال التالية .. وهناك مجالات يمكن أن تحقق الأمة فيها تفوقًا على غيرها إذا ما أحسنت الإفادة من الثروات والإمكانات المتوفرة لديها .. مثال ذلك: أبحاث الطاقة الشمسية ، والطاقة المائية ، وتقنيات زراعة الأنسجة النباتية، وصناعة الدواء من الأعشاب الطبية ، والمعلوماتية ، بالإضافة إلى إحراز التفوق في بعض العلوم التى تتنازعها اختصاصات متعددة مثل علوم الفضاء والعلوم البيئية وغيرها .

2- لاشك أن إصلاح التعليم لإعداد الباحث الجيد يعتبر من التحديات التى تحتاج إلى مواجهة تأخذ في الاعتبار طبيعة المجتمع الإسلامي وقيمه ، إلى جانب الاسترشاد بالنماذج الناجحة في الدول التى مرت بنفس ظروفنا ومتابعة برامج الإصلاح لمختلف عناصر العملية التعليمية المتمثلة في المعلم والمتعلم والمنهج والمكان (المدرسة ، المعمل ، المدرج…) والمجتمع ، وهي ما نسميها «الميمات  الخمسة» وتحتاج في نظرنا إلى درايات نظرية وميدانية خاصة يعرف أصولها علماء التربية.

3 – كذلك يشهد واقع البحث العلمي في الجامعات ومراكز البحوث على كثرتها – بأن الوقت والجهد يضيعان سدى – ناهيك عن الأموال – بسبب غياب التنسيق العلمي بين الباحثين أنفسهم ، فضلاً عن غيابه بين مختلف المؤسسات العاملة في ميدان البحث العلمي والمتصلة به ويأتي هذا العامل في مقدمة التحديات التى تحول دون نهضة علمية إسلامية متكاملة ، ويمكن التغلب على هذه العقبة بإنشاء «اتحاد علمي إسلامي» يضع السياسات العلمية والتقنية الدقيقة والمستقرة من واقع الإمكانات المتاحة للأمة الإسلامية، ويعمل على تحقيق التكامل بين البرامج العلمية الإقليمية، ويقضي على العزلة القائمة حاليًا بين العلم الإسلامي والعلم العالمي ، ويسهل متابعة كل ما يستحدث في مجال إنتاج المعرفة .

وهذا كله يتطلب بطبيعة الحال رعاية مالية سخية من القادرين ، أفرادًا ودولاً ومؤسسات ، خاصة وأن العلم في عصرنا أصبح صناعة ثقيلة ومكلفة .

وقبل هذا كله لابد أن تتوافر الإرادة القوية لدى أبناء الأمة الإسلامية لتغيير واقعهم المرير ، برفع شعار «الأسلمة في مواجهة العولمة» وصدق الله العظيم حيث يقول {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (سورة الرعد : 11) ، ويقول {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} (سورة الأنعام : 153).

المراجع

1- د. أحمد فؤاد باشا ، أساسيات العلوم المعاصرة في التراث الإسلامي، دراسات تأصيلية. دار الهداية ، 1418 هـ – 1997م .

2 – د. أحمد فؤاد باشا : دراسات إسلامية في الفكر العلمي . دار الهداية ، القاهرة ، 1418هـ ، 1997م .

3 – د. أحمد فؤاد باشا : في فقه العلم والحضارة ، سلسلة قضايا إسلامية ، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، القاهرة 1417هـ – 1997م .

4 – ول ديورانت قصة الحضارة ، الترجمة العربية ، بدون تاريخ النشر .

5 – أثر العرب والإسلام في النهضة الأوربية ، مجموعة مؤلفين ، اليونسكو، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1987 م .

6 – زغلول راغب النجار : قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر، كتاب الأمة ( 20) ، الكويت 1409هـ – 1988 م .

7 – محمد عبد السلام ، البعد العالمي للتنمية ، سلسلة منشورات أكاديمية العالم الثالث للعلوم (1) تريستا ، إيطاليا 1986م .

8 – وحيد الدين خان ، واقعنا ومستقبلنا في ضوء الإسلام ، الترجمة العربية، دار الصحوة، القاهرة 1984 م .

9 – غازي أبو شقرا : العلوم المتكاملة ، معهد الإنماء العربي ، بيروت 1977 م .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر