أبحاث

من معالم الاقتصاد الإسلامي

العدد 95

الاقتصاد في أبسط معانيه _ علم اجتماعي يختص بدراسة إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها واستهلاكها. ولهذه اللفظة في لغة الضاد معان عديدة تستقى من مادتها، فالفعل «قصد» يفيد معان منها : الاستقامة على طريق، وإنشاء قصائد، وتعهد التوجه إلى الشىء، والتوسط في الأمر بلا إفراط ولا تفريط، والعدل في الحكم، وعدم الإسراف ولا التقتير في النفقة، والاعتدال في المشية. والفعل «قصَّد» يعني التنقيح والتجويد والتهذيب. ويقال قصّد العود أي كسره بالتصفية. والفعل «اقتصد» يعني : التوسط بلا إفراط ولا تفريط. والفعل «أقصد» يعني : إصابة الشىء المحققة. والقاصد السهل(1)، ولا يخفي أن هذه المعاني تتعدى البعد المادي لإنتاج أي شىء وتوزيعه واستهلاكه إلى الأبعاد المعنوية على نقيض ما تزعمه المذاهب الاقتصادية الوضعية، ويتأكد ذلك حين نلقي نظرة سريعة على المواطن الستة التى وردت فيها بعض مشتقات هذه المادة في القرآن الكريم، فلقد وردت كلمة «مقتصدة» في موضع الربط بين إقامة الشرع كله وبين سعة الرزق، فأهل كل كتاب لو أقاموا منهج الله كما أنزله بلا تحريف ولا تبديل لصلحت حياتهم الدنيا ونمت وفاضت عليهم الأرزاق، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق وحسن التوزيع وصلاح أمر الحياة  ووجود الأمة المقتصدة غير المسرفة على نفسها وسط كثرة مسيئة هو حال أهل الكتاب {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}(2)، وجاءت لفظة «مقتصدة» في الآية الثانية والثلاثين من لقمان مشيرة إلى استواء سلوكي لقوم امتحنوا فأخلصوا في الاستقامة على المنهج في الشدة وتحلوا بالقصد بعد النجاة فلم يجرفهم الأمن والرخاء إلى النسيان والاستهتار ولم يجحدوا النعمة {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُور}(3) وهو ذات المبدأ الذي دعا لقمان ابنه إليه بقوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } وهو من الاقتصاد وعدم الاسراف؛ لأن المشية القاصدة إلى هدف لا تتلكأ ولا تتخايل ولا تتبختر بل تمشى في بساطة وانطلاق. ووردت ذات اللفظة « مقتصد» في سورة فاطر مشيرة إلى فئة تتسم بالوسطية، فلا هي ظالمة لنفسها تدخل في نطاق الظلم، ولا هي مسابقة في الخيرات تدخل في دائرة الإحسان(4)، وورد لفظ «قاصد» (في سورة التوبة) صفة للسفر القصير الأمد المأمون العاقبة، وذلك في مقابل الطريق الصاعد والغاية البعيدة التى تتقاصر دونها الهــــمم الساقطة والعزائم الضعيفة(5). وأخيرًا نأتى إلى سورة النحل(6) {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيل} لتدخلنا في سياق غايات وسيرو طرق معنوية فثمة الطريق إلى الله، وهو طريق قاصد مستقيم لا التواء فيه ولا تجاوز للغاية وكتب الله على نفسه كشف هذا الطريق وبيانه بآياته في الكون وبرسله إلى الناس، وهناك طرق أخرى لا توصل ولا تهدي.

ونود بعد هذا التمهيد الذي تعمدنا أن يكون مطولاً نوعًا ما، والذي قد نستطيع أن نفترض في ضوئه أن الاقتصاد وسيلة ونشاط متعمد يتوقف مردوده على : المنهج الذي يستند إليه، والغاية التى يتطلع إليها، أن نواجه سؤالاً مهمًّا كثيرًا ما يطرحه المعارضون للحل الإسلامي : هل هناك شىء ما يسمى : اقتصادًا إسلاميًّا ؟ أليس الاقتصاد علمًا موضوعيًّا لا موضع فيه للأخلاق والقواعد الدينية ؟ والأخطر من هذا السؤال هو  ذلك الوهم الاختزالي الذي دفع ببعض المسلمين إلى الظن بأن ما يسمي بالاقتصاد الإسلامي، مجرد حل وسط بين النماذج الاقتصادية الرائجة، والمجادلة بشأن قربه أو بعده عن هذا النموذج  أو ذاك. وجماع هاتين الإشكاليتين هو : هل هناك علم متفرد اسمه الاقتصاد الإسلامي ؟ ولما كان جناحا أى معرفة علمية هما : وجود أسس نظرية مع اختبار قدرتها في ساحة التطبيق، فإننا سنحاول في هذه الورقة مس هذه المشكلة البحثية بالتحرك على محاور ثلاثية : إبراز _ وليس كل _ معالم الاقتصاد الإسلامي، وهذه المعالم كما طبقها الصحابة في صدر الإسلام، ومدى الحاجة إلى ذلك الاقتصاد الإسلامي في واقع أمتنا المعاصر. وبالأحرى، هل أهميته تاريخية أم آنية ومستقبلية ؟ وكل ما أطمع فيه هو مجرد تقديم مخطط مبسط بالقدر الذي يتسع له المقام.

أولاً : معالم الاقتصاد الإسلامي، تأصيل نظري :

قد يكتفي الباحث المتعجل بالمختصر المفيد بالقول بتفرد الاقتصاد الإسلامي استنادًا على تعلقه بواحد من أركان الإسلام الخمسة : الزكاة، وبواحد من أكبر الكبائر : الربا. ورغم أن هذا الفارق ينفى عن الاقتصاد الإسلامي مقوله قربه أو بعده عن النماذج الأخرى أو وسطيته بينها كما سيتضح لاحقًا فإنه ليس الفارق الوحيد، ومن ثم، فإننا سنشير إلى المعالم الفارقة مع اختصاص ذلك الفارق الجوهرى بشىء من التفصيل :

(1) الفارق الإيماني :

علم الاقتصاد الغربي بكل مدارسه هو نتاج لرؤى بشرية في التعامل مع واقع غربي أفرزه الصراع بين الكنيسة والدولة، والثورة الصناعية والظاهرة الاستعمارية والصراع بين رأس المال والعمال، وتمثلت خلاصته في علم اقتصاد رأسمالي يعمل في وسط من اثنين: وسط مادي لا ينكر الجانب الروحي أو الأخلاقي ولكنه يصر على فصل الاقتصاد عن الجانب الروحي والأخلاقي، ووسط يشكل انشقاقًا على الوسط السابق بتأليه الاقتصاد، واعتباره القوة الموجهة لكل ما عداه، وينكر كل ماهو روحي إلى حد جحد الدين _ أي دين. وينطلق علم الاقتصاد الغربي الرأسمالي والشيوعي معًا بوصفهما وجهين لعملة واحدة من النظر إلى الإنسان على أنه مجرد حيوان اقتصادي وضيع الأصل لم يخلقه الله بل نشأ بالنشوء والتطور، والصلة وشيجة بينه وبين القردة خلقًا وخلقًا، وصلته بالبيئة صلة صراع يسعى خلاله إلى قهرها والهيمنة عليها بمشيئة حرة تصل به إلى ادعاء موت الله حينًا، وإلى زعم أنه أصبح إلهـًا حينًا آخر، أو ادعاء فريق من البشر أنهم جزء من الذات الإلهية، وغيرهم أحفاد القردة(7). وينحصر الهدف من النشاط الاقتصادي فيه بمكان وزمن محددين، فلا هو ينظر إلى البشرية في عمومها ولا إلى الأرض في كليتها، ولا لزمان يتعدى خططًا عشرية أو حتى عشرينية، ثم إنه يعتبر أوروبا مركزًا للوجود، فيقسم التاريخ ويرسم الحاضر، ويخطط للمستقبل على نحو يجعلها محورًا وما عداها مجرد هوامش خادمة أو مهملة أو مستبعدة، مع الإصرار علىحرية المشيئة والرفض المطلق للحرية المسئولة(8).

وعلى النقيض من هذا التصور ينطلق الاقتصاد الإسلامي من التوحيد الخالص كما هو محدد في القرآن الكريم والسنة. ويتضمن ذلك التصور : التسليم بأن الله خالق كل شىء ومالكه على الحقيقة، والإنسان مخلوق خلقه الله في أحسن تقويم، وفطره على الخير، واستأمنه على بعض ما لا قوام له في الوجود إلا به، من أشياء خلقها الله أيضًا بقدر، في كون كل ما فيه يسبح بحمد الله في تناغم وفق سنن كونية، وأقام تلك الأمانة على حرية الاختيار المرتبط ببيان المنهج والعاقبة معًا. ولا موضع في هذا التصور لعلاقة هيمنة من جانب الإنسان  على البيئة، بل لعلاقة حب وتسبيح جماعي مكانه هو الأرض جميعًا بكل ما عليها من مخلوقات، وزمانه هو الدنيا كلها بماضيها وحاضرها ومستقبلها والحياة الآخرة معًا. ولن أسمح لقلمى بحكم اعتبارات زمان ومكان هذه الدراسة _ بالاسترسال في رسم معالم هذه التصور، ولكننى لا أستطيع إلا أن أركز على أن هذا التصور يجعلنا أمام اقتصاد محكوم على صعيد عمليات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك بمنهج رباني تعود نقطة انطلاقه الأولى إلى عهد آدم وتتواصل عبر سيرة الصالحين، ويتجسد في أصدق وأكمل تجلياته في القرآن الكريم والسنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية في صدر الإسلام، فما يسمى بعصر الظلام أو العصور الوسطى، نقطة مضيئة بنور الله، وما تلاها مما سمي بعصر التنوير ومحورية أوروبا بكل ملابساته لحظة خروج تاريخية عليه، وتسليط الإنسان على إخوانه من الآدميين أو على غيره من المخلوقات أمر غير وارد. فكل المخلوقات خلقها الله، وتكريم الإنسان ليس لأنه مقدس بذاته، وسلامة الفطرة البشـرية مرهونة بأن لا تجتالها الشياطين _ شياطين الإنس والجن _ بالتمسك بحبل الله أي بالاستناد في ترتيب كل العلاقات : مع الخالق مع النفس ومع كل المخلوقات بمنهج الله. ويترتب على هذا الفارق المحورى حزمة من الفوارق الفرعية نكتفى بذكر بعضها فيما يلي :

(أ) الفوارق العنانية(9) :

يرى أستاذنا المرحوم حسن العناني أن للاقتصاد الإسلامي خصائص كثيرة تتصدرها الخواص المحورية الخمس التالية:

(أ/1) خاصية الاستخلاف :

الاستخلاف يعني تحميل تبعة أعمال معينة، ويستلزم ذلك أن يكون الإنسان حرًّا، حتى يكون استخلافه في عمارة الأرض محلاًّ حقيقيًّا للحساب والمساءلة،  وهذه الحرية الإنسانية نعمة إلهية وراءها النية والقدرة، وبين يديهـــا طرفا كل متاح لها وممكن (فعل الممكن وتركه) ومجالها هو المخلوقات، ومساحتها ليست مزاحمة القدرة الإلهية، بل منح الإنسان الصلاحية والاستطاعة لتنفيذ التكاليف، والقدرة الإنسانية إما عضوية أو مادية أوعقلية ومعنوية. وتكاليف الاستخلاف متكافئة مع مستوى القدرة الإنسانية، وتتفاوت بالتالى حسب تلك القدرة، فأساس التكليف هو الوسع والطاقة. وأول المستحقين لمراعاة هذه الخاصية الاقتصادية في مواجهتهم : ذات الإنسان. فالعقل له حدود، فليس له أن يقحم نفسه فيما لا طاقة به كالخوض في ذات الله أو في آياته أو في خلق الإنسان(10) مما ليس  للعقل به طاقة والحرية لابد أن تكون مسئولة بالاحتكام إلى منهج.والإنسان في ظل هذا التصور مسؤول منذ نشأته الأولى، وخرافة هي مقولة ارتقائه من طور القردة وهو كائن مهيأ للخير بفطرته، وهو مكرم، وليس هو بالمخطئ الذي لا مزيل لذاته ما دام يعرف التوبة، ولا هو بحاجة إلى من يحمل عنه أوزار خطيئته، والأمانة التى تحملها هي الطاعة عن اختيار بعمارة الأرض بمنهج الله، أو هي بالأحرى : الحرية المحددة لموقف الإنسان من تكاليف الخلافة وواجباتها، وهذه الحرية بذاتها تحتاج للاستقامة على الجادة إلى منهج، وإذا تركت لمحض هوى الإنسان ووسوسة الشيطان، فإن الإنسان يغدو ظلومًا جهولاً. وتنمو مسئوليات الخلافة بنمو الإمكانات والقدرات، فمرتكزات المسئولية ثلاثة : البلوغ، والعقل والاستطاعة. فالقلم مرفوع عن ثلاثة : النائم حتى يستيقظ، والمبتلى حتى يبرأ، والصبى حتى يعقل، ويسن تهئية النفس للمسئولية من قبل البلوغ ويراعي منهج الاستخلاف التكامل بين الإمكانات الخارجية والإمكانات الذاتية للاستخلاف، وما دمنا لا نملك أن نخلق ذبابة فإن المال الذي بأيدينا هو مال الله، ونحن فيه خلفاء لا أصلاء، وهو عارية في أيدينا يجب تنفيذ أمر الله فيها. وما نسب المال للبشر إلا لجعل مسئوليته وتدبير أموره واستخدامه غير مشاعة وحفز غريزة التملك بربط جزء من المال بأحاد البشر، وجزء يمثل ضروريات الحياة المشتركة بالكلية العامة.

(أ/2) خاصية وقف التشريع الاقتصادي الإسلامي على الوحي :

التشريع إما سماوي «أوامر ونواه، وإرشادات وقواعد» يشرعها الله للأمة على يد رسول وإما وضعي يطيعه البشر ويتعاملون بمقتضاه. ومن المعالم الفارقة بين التشريع السماوي والوضعي أن الأول : يرمى إلى مكارم الأخلاق، وجلب المصالح ودرء المفاسد، ويتعبد بالامتثال له، ويحاسب على الأعمال الداخلية والخارجية والتحضيرية، وهو لكونه من صنع الله يحيط بكل ما دقّ وجَلّ من شئون الخلق. أما الثاني فهو: لا يعني إلا بما يخص الإنسان تجاه غيره أساسًا، ودرء المفسدة، وهو إن دعا إلى الخير فبطريق التبعية لا بالأصالة، والجزاء فيه دنيوى، ولا يحاسب إلا على بعض الأعمال الخارجية التى لها مساس بالغير، وهو ظرفي يتأثر بمعطيات الزمان والمكان، وقد يرخص في بعض _ أو كل _ ما تحرمه الشرائع السماوية، والملاحظ هنا أن المنهج الإسلامي تضمن كليات وجزئيات. والمسئوليات التى يلزم الإنسان أن يعرفها ولا يستطيع إدراكها تكفل الشرع بتجليتها وفي مقدمتها تأكيد حتمية فشل العقل إذالم يلتزم بمنهج الإسلام في استخدام العقل. ومجال العقل هو الحادثات التى لا تدخل في نطاق الغيب «بمعناه الاصطلاحي الشرعى وليس كل مخبوء عن العقل» والمباحات التى لم تدخل في نطاق التشريع فعلاً أو تركًا. وليس للعقل أن يقحم نفسه فيما وراء الغيب أو في مجال التشريع الذي بينه الله لعباده بالوحي. ومن هنا كانت حساسية السلف البالغة في استخدام لفظي : التحليل والتحريم، واستخدامهم فيما يؤدي الاجتهاد إلى القول بحرمته : إني أكره هذا، وعشقهم لـ : لا أدرى والله أعلم. ودور العقل في الاقتصاد الإسلامي _ إذن _ ليس التكوين، بل الاكتشاف مع البراءة من الهوي والغرض، ويعالج ذلك التشريع أمور المرء في كل أطواره وفي الأنساق، من الأسرة حتى رابطة الشعوب الآدمية. وهو يرسم معالم الكسب المشروع وطرقه وآليات حراسته ليس على مستوى الأمة الإسلامية فقط، بل في علاقتها بالبشرية جمعاء.

(أ/3) خاصية كون الاقتصاد جزءًا من كل في تشريع الإسلام الكامل :

تعاليم الإسلام الاقتصادية جزء من كل على الدوام، لا مجال لتصورها على  الوجه الصحيح دون مراعــاة الارتباط بين الجـــزء والكــل وموقــع الجزء من الكل(11) ولا موضع في ظل هذه الخاصية لفهم الاقتصاد الإسلامي بعيدًا عن أحكام الشريعة من جهة ومقتضيات العقيدة من جهة أخرى. فالنشاط الاقتصادي الإسلامي تعبدي ومرتبط بالنية والسعي في سبيل الله مرتبط بالسعي على الصغار والأبوين المسنين وعلى النفس، بعكس سعى الرياء والمفاخرة. وعيادة المريض وإطعام الفقير وسقي المستسقي مضمون ثوابه عند الله، وعون الله للعبد مرهون بأن يكون هو في عون أخيه، والخبراء على النشاط الاقتصادي لا يقف عند حدود هذه الأرض وهذه الدنيا بل يمتد إلى الآخرة. وهو في النشاط الاقتصادي ليس النفع المادي وحده لأتباعه كما هو شأن الاقتصاد الرأسمالي وربيبه الاشتراكي، وإنما هو : إعمار الأرض وإقامة الحياة الطيبة للبشرية جمعاء. والرقابة على النشاط الاقتصادي الإسلامي ذاتية أولا والرقابة على النشاط الاقتصادي الرأسمالي والشيوعي خارجية في المقام الأول. ومن الخطل الحكم على أية قضية من قضايا الاقتصاد الإسلامي دون نظرها في بيئتها الإسلامية الشاملة، الطبيعية والأخلاقية. ولابد من التحذير من النظر إلى الاقتصاد الإسلامي على أنه أجزاء أو قضايا ينفصل كل منها عن الآخر، أو عن سائر الكيانات الأخرى.

(أ/4)خاصية التوازن بين الاحتياجات الروحية والمادية :

يستخدم علم الاقتصاد الغربي مفهوم الطبيعة، في حين يقوم الاقتصاد الإسلامي على مفهوم الفطرة الذي يفترق عن مفهوم الطبيعة في : إشارته إلى الفاطر الموجد للفطرة، بعكس الثاني الذي أريد به تماشي الإشارة إلى خالق الطبيعة ونسبة فعل الخلق لها، والفطرة ما دامت مخلوقة فإن لها بداية ونهاية، وتتوقف بدايتها على توافر خصائص، ويرتبط بقاؤها ببقائها، وتزول حتمًا بزوالها. ويبقى التوحيد بذلك صافيًا بعكس الطبيعة التى يتحايل بها دعاتها للزعم بوجود معنى مطلق لا يغني ولا يتحول، ويفتحون بذلك باب الشرك والإلحاد على مصراعيه(12). وفي حين تُحَكِّم الليبرالية أهواء الأفراد، وتطلق الاشتراكية العنان لسلطة الدولة، فإن الإسلام يلزم الإنسان بالجمع بين الإيمان بالغيب والانتفاع بالعقل، ولا يعرف الفصــل المفتعـل بين ديني ودنيوي(13).

(أ/5) الاقتصاد الإسلامي اقتصاد الملاك والعمال معًا :

المجتمع الرأسمالي مجتمع أصحاب رءوس الأموال أو الملاك. والمجتمع الشيوعي هو مجتمع العمال أو الفلاحين. الأمر والنهي في الأول للقلة التى تملك، وفي الثاني للدولة التى تملك ملكية اعتبارية يصبح المال معها بلا حاكم حقيقي، وتحول المجتمع إلى نوع من الرق الجماعي، حيث لا موضع للحرية، وتزعم أنها ستتمكن بالإلحاد والتنمية من إنهاء الصراع الاجتماعي وإقامة مجتمع لا طبقي. أما الاقتصاد الإسلامي فيقوم على تكافل صاحب المال ( أو بالأحرى المستخلف فيه) مع صاحب الطاقة على العمل (أو بالأحرى المرزوق بتلك القدرة) وفق منهج المالك الحقيقي الأوحد (الله سبحانه وتعالى). من البعيد عن الأمانة العلمية تشبيه الملكية الفردية في الإسلام بالملكية الفردية في النظام الرأسمالي، وتشبيهه بالملكية العامة في النظام الشيوعي. فالملاك والعمال، بل كل الناس، يجمعهم الاعتبار البشرى المتساوي، حتى لو لم تجمعهم الأخوة في الدين. دخول الاستخلاف في الملكية _ إذن _ فيصل فارق للاقتصاد الإسلامي عن الرأسمالي والعمالي. فالاستخلاف يشرك أصحاب الحاجة في المال الخاص والعام، ويلزم من ينميه بضوابط الحل والحرمة، ومنفقه بعدم العبث ولا الإسراف ولا التقتير. ويقيم ميزانه على العدل المنبثق من التوحيد وليس على حيازة السيطرة ولا السعى إليها. فالحريات والحقوق كلها مضبوطة وغير مطلقة(14). ويترتب على ذلك تكاليف إيجابية (من بينها : وجوب استثمار المال وإيتاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله ) وتكاليف سلبية ( من بينها تجنب الضرر في كيفية استعمال المالك لماله : فلا ضرر ولا ضرار، والامتناع عن تنمية المال بالربا أو الغش أو الاحتكار، والامتناع عن الإسراف والتقتير، وعدم استعمال المال لحيازة نفوذ سياسي.

ب _ فارق فرض الزكاة وتحريم الربا:

يجسد اعتبار الإسلام فرض زكاة وتحريم الربا بمثابة فارق واحد: حقيقة نظرته المتميزة للأرقام والإحصائيات، فالأخذ من المال تنفيذًا للشرع يحقق نموًّا له (تزكية) وإن ظهر في منظور الأرقام السطحي أنه أنقاص، وبالعكس، الإضافة إلى المال بأسلوب أهدره الشرع إنقاص  للمال، وإن بدا ظاهريًّا أن فيه زيادة له. إلا أن الفارق السالف الذكر لا يكفي لجمع الزكاة ومنع الربا في صعيد آلية واحدة، فما يصدق على الزكاة من أنها زيادة وطريق للزيادة في جوهرها يصدق على الإنفاق الطوعي، وعلى الالتزام بكل الضوابط الإسلامية للإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وكل ما يرتبط بكون الربا انقاص للمال في جوهره _ وإن خالف ظاهره _ يصدق على اقتراف كل المحرمات الأخرى في النشاط الاقتصادي من غش واحتكار وأكل لأموال الناس  بالباطل. وتأسيسًا على ذلك نود إرجاع الجمع بين فريضة الزكاة وتحريم الربا بالذات إلى كونهما يمثلان معًا آلية «رشد النقود» في منظور الإسلام. وقوام هذه الفكرة ببساطة أن محور وظيفة النقود هو كونها : مقياسًا للثمنية، وأداة للمبادلات، ومخزنًا للقيمة، وهي وظائف مرهونة جميعها بأمرين : تداولها وثبات قيمتها، ومن اللافت للنظر أن أي مال تؤدي زكاته مرة، لا تؤدي زكاته ثانية حتى لو تم ادخاره سنوات باستثناء النقود تؤدي زكاتها سنويًّا وإن لم تتداول وتستثمر تأكلها الزكاة، حتى لو كانت أموال يتيم.

وبعد تحليل علمي دقيق لعلة تحريم الربا بنوعيه: ربا النسيئة وربا الفضل، توصل أستاذنا حسن العناني إلى أن العلة هي : حفظ وظيفة النقود. ولما كان أساس أي مقياس أن يكون ثابتًا حتى يصلح معيارًا منضبطًا لقيمة غيره، فإن الشارع الحكيم حرص على ثبات قيمة كل ما يتخذ نقدًا، حتى لا تسود الفوضى في شتى أرجاء العملية الاقتصادية، فأذن بحرب منه _ سبحانه _ ومن رسوله لمن أقرض النقود بأية زيادة مهما كانت ضئيلة، وعامل السلع ذاتها حالة قيامها بوظيفة النقود في عمليات مقايضة معاملة النقود ؛ حيث بين الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بربا البيوع، حتمية التماثل في الكم والفورية في المعاملة حالة التبايع في الصنف الواحد حتى لو اختلفت جودته، وعلى الفــورية حالة اختلاف الأصـناف(15)، وهكذا يغدو من معه نقود مخيرًا بين خيارين لا ثالث لهما : أن ينفق نقوده حتى تؤدي وظيفتها بأن يقرضها لغيره قرضًا حسنًا، أو أن يدخل بها في مشاركة أو مضاربة أو مرابحة أو في سد متطلبات الحياة. وسوف نسلط مزيدًا من الضوء على محورية هذا الفارق فيما بعد.

(2) الفارق المفاهيمي :

لعل هذا الفارق هو أخطر الفروق بين الاقتصاد الإسلامي وغيره ؛ لتعلقه بإشكالية دقيقة هي الاختلاف التام. لمفاهيم محورية تحمل ذات المسميات في منظوره عن منظور غيره. ومن المستحيل في مثل هذه العجالة حصر كل تلك المفاهيم أو توضيح الفوارق البالغة بينها ؛ ولذا سأكتفى بإشارة بالغة الإيجاز لعدد يسير منها :

(2/أ) الملكية(16) :

أصل «الملكية » احتواء الشىء والقدرة على الاستبداد به والتصرف بانفراد والاختصاص الحاجز، وهي في منظور الاقتصاد الوضعي وظيفة اجتماعية، أي منحة من المجتمع أو من القانون الطبيعي، وهي في منظور الإسلام شىء مخالف بالكلية. فهي القدرة الشرعية على التصرف ابتداء إلا لمانع شرعي، والملكية على الحقيقة مقصورة على الله وحده، وما يملكه غيره هو مجرد حق التصرف وفق الشرع، فإن خالفته بأن كان طريقها الحيلة (السرقة والنصب) أو القوة (الغصب والسلب والقرصنة) أو الانتهازية (الربا والاحتكار والتواطؤ) أهدرت، فسبيلها هو العمل المشروع والميراث والوصية والهبة، فضلاً عن الملكية الموقوتة بالقرض والعارية. ولا تعتبر الملكية الخاصة ولا العامة أصل وغيرها استثناء في ظل هذا المنظور، بل تعتبران وجهين لعملة واحدة، غايتها تحقيق العزة الإسلامية بتوظيف ما استخلف الله الأمة فيه. ومرة أخرى أؤكد رفضى لمقولة التوازن بين أنواع الملكية، فالأصل هو التناغم بينها، كجسد واحد وليس كأنواع متقابلة فقوام شجرة المفاهيم الإسلامية كلها هو: التوحيد من أجل الجهاد، والجهاد من أجل التوحيد، وبتعبير آخر العمل كالجسد الواحد من أجل العزة الإسلامية. ولا موضع في ظل مثل هذا المفهوم للملكية للرشوة والغش والاحتيال والاغتيال والإنتاج الضار والمحرم والاحتكار والضرر والضرار، ولا موضع في ظله أيضًا لإمكانية تصور اتخام جزء من الجسد الواحد _ الأمة _ وحرمان الجزء الآخر ؛ إذ في ذلك تحويل له إلى جسد معوق. ومن هنا يرتبط مفهوم الملكية بالتكافل الضامن لتمام الكفاية بالنفقة الواجبة في الأنساق كلها من الأسرة إلى الأمة، وبالزكاة والنفقات الطوعية، وما يفرضه ولي الأمر في المال إن لم يُغَطِ كل ما سبق تمام الكفاية للأفراد وللأمة. والشرع هو الذي يحدد ملك المنفعة وحق الانتفاع، وهو الذي يحدد القيود التى ترد عليها من نظـام المـيراث والزكـاة وتحريم الكنز(17). ويرتبط هذا المفهوم أيضًا بالفروض الكفائية والعينية والحسبة وأساليب الاستثمار المشروع للمال في الإسلام.

(2/ب) المصلحة :

يرتبط هذا المفهوم في الاقتصاد الوضعي بالربح أو السعادة أو بتمكين طبقة من مقاليد القوة. أو بميزان قوة دولة قومية في مواجهة غيرها. أو حتى منظمات فوق قومية من منظور مادي بحت. ويختلف هذا المفهوم تمامًا في المنظور الإسلامي. فالمصلحة هنا على ثلاثة أنواع : مصلحة معتبرة شرعًا، ومصلحة أهدرها الشرع فصارت مفسدة، ومصلحة مرسلة. وبالتالى فإنه من الخطأ القول بأنه : حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله ؛ إذ الصحيح أنه حيثما كان شرع الله فثم المصلحة(18). ومعيار المصلحة هنا هو : حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال. ويطلق على حفظ الحد الأدني لها : المصالح الضرورية، وعلى الحد الأوسط : المصالح الحاجية، وعلى الحد الأعلى : المصالح التحسينية، والشريعة هي المنهاج الوحيد المستقيم الحاكم على الأشياء بالحل أو الحرمة أو الكراهة أو الإباحة. وأعتقد أن اعتبار كلية حفظ الدين هي الأصل، وحفظ الكليات الأربع الأخرى مجرد مفاهيم تابعة لها، قد يُجَلَّى مفهوم المصلحة على نحو يجعله تابعًا للدين من جهة ويفك أسر الغرب لهذا المفهوم وإخراجه له من منهج شامل لكل شىء إلى مجرد شعائر أو علاقة خاصة بين العبد وربه(19).

(2/جـ) الزكاة :

يخطئ كثيرون من غير المسلمين، ومن المسلمين أحيانًا في النظر إلى الزكاة على أنها ضريبة، أو مجرد صدقة. فالزكاة نظام متكامل لتحويل كل أفراد المجتمع إلى مالكين لحد الكفاية على الأقل، إن لم يكن لتحويلهم إلى دافعين للزكاة، ويكفى هنا الإشارة إلى أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وما لم يسع الإنسان بالعمل المشروع، والمجتمع بالزكاة إلى تمكين المسلم من أن يكون دافعًا للزكاة، فإن أيًّا منهما سيكون مقصرًا في مهمة الاستخلاف جاحدًا لفلسفة الجسد الواحد. ما نريد أن نقوله هنا : إن الزكاة ليست مجرد حق للمستحق من مصارفها،بل هي أيضًا صاحبة حق في بذل الإنسان جهده لكي يكون من دافعها إلا لسبب خارج عن استطاعته. ويكفى القول هنا أن الزكاة حددت من حيث مواردها ومصارفها وكيفية تحصيلها، ولا يصلح إطلاق هذا المفهوم على أي شىء لا يتضمن ذلك النظام كله، وبعيد كل البعد عن الحقيقة أن تكون مجرد سد لجوع شخص أو ستر لجسده. أنها اعطاء الفقير والمسكين كفاية العمر ؛ بحيث لا يحتاج إلى الزكاة مرة أخرى، ويخرج من الحاجة إلى الغنى، وتمكين صاحب الحرفة من ممارستها، وإعطائه ما يكفى لذلك حسب اختلاف الزمان والمكان والحرف والأشخاص. وأقل عطاء قال به الفقهاء هو كفاية سنة، مع اعتبار الزواج وكتب العلم من الكفاية، إذا كان آخذ الــزكاة غير قـادر على العمل(20).

وسنكتفى بما سبق رغم أنه نذر يسير من الفوارق المفاهيمية الجديرة بإبرازها والتأكيد عليها.

ثانيًا : لمحات من معالم الدور الاقتصادي للصحابة :

سبق التأكيد على أن الاقتصاد الإسلامي جزء من كل هو الشرع الإسلامي الذي ينبغي النظر إليه على أنه يشكل جملة واحدة. وأود ألاّ تغيب عن أذهاننا هذه الفكرة في رؤيتنا لدور الصحابة كصفوة للتكافل العام الملزم للأخذ بكل الأسباب المشروعة المتاحة الكفيلة بإقامة مقتضيات الاستخلاف وفق المنهج الإسلامي(21). وبتعبير آخر دور الصحابة كصفوة، أي كجماعة منظمة مستقيمة، تعمل على إقامة فرائض الاستخلاف ؛ وذلك بالتكافل في الاجتهاد لتعيين أمر الله وريادة الأمة في تنفيذه. ومن نافلة القول، أن ما سأشير إليه هنا هو مجرد أمثلة وليس بأي حال حصر لمعالم ذلك الدور. وسأكتفى بالإشارة إلى الملامح التالية :

(1) إدراك أن الاقتصاد مجرد كلمة في الجملة الإسلامية :

يقول عمرو بن العاص : لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل، ويقول عمر: لا يصلح للوالي أمر ولا نهي، إلا إذا تحلى بقوة على جمع المال من أبواب حله، ووضعه في حقه، وبشدة لا جبروت فيها. ولين لا وهن فيه، وعلم أنه لا أحد فوق أن يؤمر بتقوى الله ولا أحد دون أن يأمر بتقوى الله، «إني وإياكم في مال الله كوالي اليتيم. إن استغنى استعف وإن افتقر أكل بالمعروف » وعرف سلمان الخليفة بأنه «من لا يأخذ إلا حقًّا ولا يضع ما يأخذه إلا في حقه. ويعدل في الرعية ويقسم بينهم بالسوية ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله ويقضى بينهم بكتاب الله تعالى.

(2) رسم معالم دور المجتمع والدولة فيما يتعلق بالمال :

حدد عمر ابن الخطاب أساس طاعة الرعية «كتجسيد لدور المجتمع» للحاكم «كمجسد لدور الدولة» بما يلي :

_ أخذ المال من مآخذه التى أمره الله أن يأخذه منها.

_ وضعه في المواضع التى أمره الله بوضعه فيها ؛ حتى لا يبقي عنده ولا عند خاصته درهم ولا دينار منه.

_ أن يدر الأرزاق على المجاهدين من المهاجرين والأنصار ويوفر لهم فيئهم ولا يبقيهم في غزوة أكثر من ستة أشهر، ويكون أبًا للعيال حتى يعود ذووهم.

_ أن يأخذ من أموال المسلمين صدقة يطهرهم بها، ثم يردها على فقرائهم.

_ أن يوفى لأهل الذمة بعهدهم، ويقاتل عدوهم من ورائهم، ولا يكلفهم إلا ما هو دون طاقتهم.

فدور الدولة هو الإرشاد والتوجيه وإقامة العدل وإعادة ضخ كل ما تحصل عليه في المجتمع ليكون هو مصدر الإنتاج والقدرة. فالمجتمع هو الذي يحدد عطاء الخليفة . وللخليفة بعد تعيين حقه أن يستوفيه أو يتركه. والمجتمع هو الذي يقنن سلطة الخليفة في التصرف في المال العام. وقررت الصفوة المسئولية التضامنية لكل جيل من الأمة على صعيد الدولة والمجتمع، وأكدت على حق المجتمع في مراقبة الدولة في التصرف في المال العام وفي مراجعة مخصصات الولاة الفرعيين.

(3) طبقت الصفوة مبدأ التسوية في العطاء بين البشر بصرف النظر عن أي اعتبار آخــر فيما هو دون حد الكفاية ((المطعم والمسكن والأدوات اللازمة للحرفة التى يعمل بها الشخص ووسيلة الانتقال والتعليم وما يكفي لقضاء الديون والزواج والنزهة والسياحة ) ولا تدخل الزكاة في هذا الحيز، إذ إن مصارفها محددة، ولا دخل للحاكم فيها. وتظل الدولة حين يكثر المال عن حد الكفاية راعية وليست خازنة، إذ يتحتم عليها ضخ كل الموارد السائلة التى تزيد عن متطلبات تسيير أداة الحكم، في المجتمع، فالأخير هو الذي يتولى استثمار الأموال بالأساس. فوظيفة الدولة الإسلامية توزيعية بحته. ومن هنا كان الحرص على أسلمة إجراءات الجباية والرفق البالغ فيها.

(4) محاربة مانع الزكاة وتوظيف أموالها في الوصول بالمجتمع إلى حد الكفاية. فمن توجيهات عمر لعماله : إذا أعطيتم فأغنوا،وكرروا عليهم الصدقة، ولو راح على أحدهم مائة من الأبل، وحدث الحسن البصرى أن الصحابة كانوا يعطون الزكاة لمن يملك عشرة آلاف من الخيل والسلاح والخادم والدار ؛ لأنهم اعتبروا هذه من الأساسيات، التى لا يكلف مالكها ببيعها، وإن احتاج أعطى من الزكاة ما يبلغ به حد الكفاية.

(5) أرسى الصحابة مبدأ المسئولية التضامنية بين الأجيال بعد حد الكفاية.

(6) وضعت الصفوة أربعة ضوابط للتوظيف السياسى للعطاء العام بعد حد الكفاية : البلاء في الإسلام، والسابقة في الإسلام، والخدمات التى يقدمها المرء للإسلام، ومطلق الحاجة.

(7) ربطت الصفوة العطاء بالإيجابية في المشاركة السياسية، فلم يفرضوا لأهل البادية فريضة راتبة كأهل الحضر الذين يجامعون المسلمين على أمورهم، ويعينونهم على عدوهم وعلى إقامة الحدود، وقصروا إعانتهم على حالة تعرضهم لعدوان عدو أو لجائحة أو لحمل الديات لإصلاح ذات البين. ودعمت الصفوة القيادات المحلية بإنفاق بعض المال العام بواسطتها. وحرصت الصفوة على دعم المحليات بعدم نقل مال من محله إلا إذا زاد عن حاجتها، وكتبوا على دراهمهم الشهادة على وجه، وأمر الله بالوفاء والعدل على الثاني، ورصدوا أمولاً لدعم التواصل بين أجزاء الدولة الإسلامية لتوفير الزاد والماء والمواصلات.

(8) سعت الصفوة إلى تصحيح الآثار الجانبية للعطاء العام وأرست آليات لتوظيف المال الخاص في دعم المجتمع من أهمها : إنفاق الفكرة (تبليغ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والنصح والتناصح) وتقديم القدوة العملية، وتأصيل المفاهيم الاقتصادية، والندب الى مراعاة عامل القرابة في العطاء الخاص، والتركيز على الاستثمار الحقيقي بالتفرقة بين النقود والعقارات.

واعتبرت الصفوة الأداء الاقتصادي الجيد عبادة، والنشاط الاقتصادي للمجتمع هو الأصل وما عداه هو الاستثناء، مع تقديم الدولة تيسيرات للمشروعات الخاصة الحيوية ولإحياء الأرض الموات، وتأكيد حصانة الملكية الخاصة، ورقابة الدولة للأسواق ورعايتها، وتولى الدولة مهمة الإرشاد والتوجيه الملزم في أحوال الطورائ، والتفسير الضيق للحقوق المترتبة على العطاء العقاري، والالتزام بالشرع وتقنين ما لا نص بشأنه بضبط دائرة المباح بما يخدم الصالح العام للأمة كما حدث بخصوص أرض السواد. كما رأت الصفوة جعل دور الدولة في فض الخصومات الاقتصادية مكملاً لدور المجتمع وليس العكس، والتصحيح عبر ولاية الحسبة، وحظر اشتغال أولياء الأمر بالتجارة، واسترداد ما يكتسب بجاه الإمارة بلا سعى من الأمراء وخاصتهم.

9_ تأكيد حرمة المال الخاص في زمن الاقتتال. وبيان أن غنائم الحرب والالتزمات المالية المسموح للمسلمين بفرضها على غير المسلمين ترتب حقًّا في الأخذ فحسب، ولكن صيغتها أبعد ما تكون عن ترتيب (واجب) على المسلمين يفرض عليهم أخذها. فترتيبات ما بعد الحرب تخضع لاعتبارات الملاءمة السياسية.

هذه _ باختصار شديد _ بعض مجالات الأداء الاقتصادي للصحابة الكاشفة بدورها للطابع المتفرد للاقتصاد الإسلامي. وقد توضح لنا النقطة الأخيرة في هذه الدراسة مدى الحاجة الملحة للعودة إليه في ضوء واقع أمتنا الراهن.

ثالثًا : حاجة الواقع الإسلامي للاقتصاد الإسلامي :

لن نستطيع مرة أخرى تقديم معالجة وافية لهذه النقطة، بل سنكتفى بما يكفي لأثبات تلك الحاجة(22).

أ _ انعدام صلاحية الاقتصاد غير الإسلامي في المجتمع الإسلامي بالذات:

تتوقف صلاحية أي نموذج اقتصادي على توافقه مع البيئة التى يطبق فيها، وقدرته على استثارة همم الجماهير، وتمتعه بقدر من المرونة أمام المتغيرات المرتقبة والحادثة. واختلاف نظرة الإسلام للكون والحياة والإنسانية يعني القول بعدم صلاحية النموذجين الرأسمالي والاشتراكي، وأي خليط منها للعمل في بيئته وتحريك جماهيره والتحلى بالمرونة، ولا يمكن تكرار تجربة النمو الرأسمالي ولا تقبل تجربة النمو الاشتراكي في بيئة إسلامية. ويكفينا دون دخول في التفصيلات الإشارة إلى الإشارات التالية:

(1) مقومات التنمية الاقتصادية متوفرة في العالم العربي، ناهيك عن الإسلامي، وعدم النجاح فيها دليل بذاته على فشل المناهج المتبعة في الوصول إليها. فلقد كانت مصر منذ أربعين عامًا تلى اليابان مباشرة في معدل النمو. وأثبتت الدراسات أن المنهج الرأسمالي لا يؤدي حالة أخذ الدول النامية به إلى تحول ملموس فى مستوى معيشة 80% من السكان، بل يؤدى إلى تدهــور مستمر في مستوى معيشتهم(23). ولا حل إلا بإحلال فكرة الإمكان الاجتماعي محل فكرة الإمكان المالي على حد قول مالك بن نبي  بمعنى التأكيد على حشد المشاركة الجماهيرية في الإنتاج والبذل وتحقيق تعالى الجماهير على الاستهلاك المظهرى غير الحقيقي، وإدراك أن رأس المال لا يحقق التنمية، بل يسد _ على أقصى تقدير _ الفارق بين الامكان الاجتماعي ومتطلبات التنمية على نحو ما تعبر عنه حقيقة دور خطة مارشال بالنسبة لأوروبا الغربية(24).

(2) المناهج المستوردة، أو بالأحرى المصدرة، أدت إلى تمزيق وحدة العالم الإسلامي، وكرست تبعيته الفكرية، وزينت استقلاله، وأدت إلى استقطاب أدخلنا في حلقة مفرغة، بحيث جربنا كل النماذج وكل خلائط النماذج دون أن نفكر في تجريب نموذجنا الإسلامي، فلقد توزعنا بين متهافتين على النظام الرأسمالي ومتهافتين على النظام الاشتراكي. ووقعنا في براثن اختزال حضارات العالم في تلك النماذج. ويرجع ذلك إلى تأثير وسائل الإعلام والتلمذة على الفكر الغربي إلى حد بعيد. ويظل الحل بيد من لم يستقطبوا، وظلوا قوامين على أمر الله لا يضرهم من خالفهم. فأسلوب التربية في العالم الإسلامي يكرس هذا الاستقطاب والاعتماد على نظريات التعليم الأجنبية وترك مهمة تشكيل أبنائنا وصياغة قادتنا لها يؤدي إلى استقطاب أو عجز عن هضم ديننا الإسلامي بسبب الجهل به ؛ مما يعيق اكتشاف عدم انقطاع عطاء الفكر الإسلامي في مجال التنمية حتى الآن، أو بتعبير أدق في مجال العمارة (جباية الخراج وجهاد العدو وإصلاح العباد، وعمارة البلاد ) وإقامة مجتمع المتقين والحياة الطيبة، وهو ما أشرنا إلى طرف منه في الجزء السابق من هذه الدراسة. ولا مجال لنظرة كريمة للإنسان، ولا لتحقيق التآخي والتكامل بين الشعوب الإسلامية دون اللجوء إلى النموذج الاقتصادي الإسلامي، فالبديل الإسلامي القائم على ربط المنفعة المعتبرة إسلاميًّا باستراتيجية حد الكفاية، هو الطريق الوحيد لتفعيل قدراتنا الذاتية وتحقيق استقلالنا الذي لم نعرفه بعد. وهذا هو شرط الانطلاق الضروري. فلا إمكانية للاستقلال في ظل القابلية للاستعمار على حد قول مالك بنى بني.

(3) المناهج المستوردة خلقت إحساسًا موهومًا بمشكلات لا وجود لها إلا بسبب الاستناد إليها. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك ما يسمى بأزمة السكان في العالم العربي، وأزمة التمويل، فعلى صعيد المسألة الأولى زينت تلك المناهج وضع العالم العربي السكاني. فالقاعدة المعمول بها أنه إذا قل سكان منطقة ما عن 70 نسمة في الميل الواحد كانت منطقة خفيفة الكثافة السكانية، وإذا تراوحوا بين 70 _ 200 نسمة في الميل المربع كانت متوسطة الكثافة وإذا زادوا عن ذلك كانت عالية الكثافة، والعالم العربي بمساحته البالغة 13 مليون كيلو متر مربع منطقة خفيفة الكثافة بكل المعايير ؛ إذ لا تزيد الكثافة حتى في مصر عن 40 نسمة في الميل المربع.

ويتجلى زيف الحل الرأسمالي لهؤه المشكلة في حصرها في البعد العددي لها في مصر وحدها، بل بالأحرى في الوادي والدلتا، وطرح حل يقوم على تخفيضها، دون أن يكترث بتوزيع السكان ولا بخصائصهم، ويتكتم هذا الحل على مشكلة الندرة السكانية في معظم بلدان العالم العربي. ويطرح تخفيض السكان أو هجرتهم إلى خارج العالم العربي، مما يحرم الأمة من الكفاءات نتيجة هجرة العقول. ولم يكن الحل الشيوعي بأحسن حال، فلقد رفض الهجرة كحل وطرح التنمية مع الإلحاد كحل.

الحل الإسلامي وحده هو القادر على تحقيق الاستواء السكاني في العالم العربي بما يطرحه من إمكانية الوحدة والتكامل، ناهيك عن فكرة تكثيف صلابة الثغور والمناطق الحدودية الإسلامية. فالإيمان بوحدة الأمة الإسلامية وإحلال المواطنة الإسلامية والأخوة الإسلامية هو السبيل الوحيد لاستعادة العزة، بل ربما لإمكانية البقاء ذاتها.

ولا يختلف الحال _ في شىء _ بالنسبة لمسألة التمويل. فالعالم العربي منقسم إلى منطقة نقص في رأس المال، ومنطقة وفرة في رءوس الأموال. الأولى تشمل العالم العربي كله عدا منطقة تتسم بالخفة السكانية والإنتاج البترولى الكبير، ويبلغ سكانها حوالي 12 مليون نسمة، بينما بلغت أرصدتها المتراكمة قرابة 400 مليار دولار عام 1980، وتقتصر منطقة التوازي الرأسمالي في العالم العربي على الجزائر والعراق. والعجيب بحق أن النظم المستوردة التى قامت هي على الإمكان الاجتماعي والاعتماد على ما يملكه المجتمع كوسيلة لتحقيق الذات دون خضوع لسلطان رأس المال أقنعت منطقة النقص في رأس المال العربية بتبني الإمكان المالي، بمعنى ربط التنمية بالاستدانة(25). ويرسم أستاذنا الدكتور رمزي زكي بقلمه المبدع صورة مفزعة لواقعنا الاقتصادي الحالى في ظل التبعية للنظام الاقتصادي الغربي، وسأكتفى بالإشــارة إلى بعض معالم هــذه الصورة(26).

*متوسط دخل الفرد في السودان 300 دولار مقابل 19270 دولار في الإمارات عام 1985م.

* حجم التجارة بين البلدان العربية في ظل التبعية للمراكز الرأسمالية المتقدمة 10%.

* نسبة الاكتفاء الذاتي الغذائي العربي آخذة في الانخفاض ووصلت إلى 50% الآن. وبلغت قيمة وارادات العالم العربي من الأغذية 36 مليار دولار عام 1987م، هو ما يعادل 65% من قيمة الصادرات النفطية.

مجموع ديون الأقطار العربية ذات العجز المالي 150 مليار دولار أمريكي عام 1987 مع ظاهرة ارتفاع نسبة الديون لجهات خاصة، وهي بطبيعتها عالية الفائدة وقصيرة الأجل.

(ب) سمات حرب الله ورسوله الحالية :

كثيرًا ما نخطئ في تحليلنا لفساد النظام النقدي في ظل النظام الرأسمالي، ونتحدث عن فوائد المصارف على أنها أدنى خطورة من ربا الجاهلية والذي آذن الله بحرب المصر عليه. ولنتأمل في المؤشرات التالية لرؤية هذه المسألة بحجمها الحقيقي.

* ارتفعت أعباء خدمة المديونية العربية من 906,8 مليون دولار عام 1972 إلى 10,2مليار عام 1985. أي أن هذه المديونية نمت بمعدل سنوي مركب 20,4%. وارتفع مجمل فوائد المديونية في نفس الفترة من 183 مليون دولار إلى 3,1 مليار دولار بمعدل نمو سنوي 24,4% نتيجة تعويم سعر الفائدة. ووصل الأمر في تعميق التبعية مع توجيهات صندوق النقد الدولي إلى حد التحول من معالجة المديونية إلى نقل الدم إلى عروق الدائنين، وتأييد المديونية بمقايضتها بمشروعات القطاع العام. نحن إذن أمام إرهاب مالي دولي يؤدى إلى الاحتلال الأجنبي من قبل الدائنين للأصول الإنتاجية(27).

* وصلت فوائض دول الفائض المالي العربية إلى 456,7مليار دولار عام 1987، منها 60% ودائع في البنوك الأجنبية. وتعاني هذه الأموال من أثار التضخم وتدهور قيمة الدولار وفوائد الاستثمار، فضلاً عن تعرضها لإمكانية التجميد، واستخدامها في تكثيف ظاهرة الاستدانة في العالم العربي وبعبء أكبر(28). فالفوائض المالية العربية ثلاثة أمثال الديون العربية ويتم إقراضها للدول النامية وعبر وسيط ثالث بتكلفة باهظة. وتساعد وصفة صندوق النقد على تهريب الأموال العربية إلى الخارج(29). وأصبحت كل الدول العربية مدينة (عدا السعودية والكويت قبل الحرب الخليجية الثانية)(30).

* لم يقتصر هذا الوبال على البلدان العربية الدائنة والمدينة، بل امتد إلى العالم الرأسمالي ذاته ؛ حيث تلمست الولايات المتحدة طريقًا لزيادة الاستهلاك عن طريق القروض الداخلية، (قروض للمستهلكين وقروض للمنتجين وقروض للحكومة) والتركيز على الإعلان والدعاية. وغرقت الولايات المتحدة في دوامة نظام القروض المستهلك والرهون العقارية، ووصل دين الاقتصاد الأمريكي إلى 2,5 تريليون دولار عام 1974(31).

* أدى إلغاء الغطاء الذهبي إلى ضرب الاستقرار النقدي. فلم يتعد التضخم في ظل ذلك الغطاء 3%(32).

* البنوك لا تقرض وتقترض فقط، بل تقوم بخلق النقود. وتنحصر وظيفة البنوك في الوسائل السلبية. فالبنوك تقرض مالم تقترضه أصلاً أو تحوزه أو تمتلكه بإحــلال التعهد بالدفع محل النقود(33). ولا تتوسط البنوك في العملية الانتاجية ؛ فهي مؤسسات للوساطة المالية، واستثمارها في الأسهم والسندات محدود للغاية لا يتعدى 10%.

والمشكلة ليست مجرد تحديد الفائدة قبل الإقراض أو بعده، فذروة الفائدة الحيوية في حقيقتها تبدأ بالفرد ثم البنك المحلي، فالبنك الأجنبي، فالدول الفقيرة أو الدول ذات الفائض، فالمصرف الأجنبي، فالدول الفقيرة(34).

الخلاصة : الاقتصاد الإسلامي فريد من نوعه، وليس العالم الإسلامي وحده هو المحتاج إليه، بل العالم غير الإسلامي أيضًا. وإرهاصات فشل النموذج الرأسمالي باتت في غاية الوضوح، فلم يعمل النظام الرأسمالي ولن يعمل دون توليد أزمات، لعل أهمها الآن هي تهديده لقدرة كل الكائنات بما فيها الإنسان على البقاء على هذا الكوكب، بما أحدثه ويحدثه ذلك الاقتصاد الاستهلاكي المسعور من ترقيق لطبقة الأوزون، وتدفئة للأرض، وتلويث للبحار والمحيطات، وهدم لمنظومة التوافق البيئي التي وهبهــا الله لهذه الكرة الأرضية التى هي ذرة في كون الله.

(1) انظر : المعجم الوسيط، جـ2، ص 766.

(2) المائدة : 66 ، وانظر في ظلال القرآن، المجلد الثاني ص 930 _ 931.

(3) لقمان : 32، انظر في ظلال القرآن،ا لمجلد الخامس ص 2797.

(4) راجع : فاطر : 32. وانظر في ظلال القرآن، المجلد الخامس، ص 2790، ص 2944.

(5) راجع : التوبة 44 وانظر في ظلال القرآن، المجلد الثالث، ص 1661.

(6) النحل : 9.

(7) انظر في تفصيل هذه الفكرة، وفي وصول الأمريكين إلى الزعم بأنهم ليسوا بشرًا عاديين بل جزء من الذات الإلهية، وقردية غيرهم البشر في Horald Bloom, The American Religion, The Emergence of the post- christian Nation, New Yorle : simon and schster 1991

(8) انظر  في فكرة قيام المنظومة الرأسمالية على Liberty حرية المشيئة ورفضها لـ Freedom  الحرية المسئولة willam aphlus, unsustianable liberty, unsustainable freedom, in dennis c,fereges(editor) Building sustimable soceties, London, M.E. sharpe, pp. 33 – 45.

(9) هذا العنوان منحوت رغبة من الباحث في لفت نظر إخوانه الباحثين إلى درر علمية لم تأخذ حقها من تسليط الأضواء عليها، تقصيرًا منا في جهة ولكون البضاعة الجيدة لا تروج في هذا الزمان الردىء، فلقد رزق الله استاذنا المرحوم د. حسن صالح العناني شفافية علمية كاشفة ومعلمة، تجسدت في مؤلفاته القيمة في الاقتصاد الإسلامي التى نشرها المعهد الدولي للبنوك والاقتصاد الإسلامي ومن بينها كتابه «خصائص إسلامية في الاقتصاد» والذي سنعتمد عليه في هذه النقطة، ورائعته «علة تحريم الربا».

(10) يقول تعالى : {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِم} (الكهف : 51).

(11) لولا خوف الإطالة لأوضحت هنا فكرة مهمة هي لزوم النظر إلى القرآن والسنة الصحيحة على أنها بمثابة «جملة واحدة» لا موضع لفهم دقيق لأى مفردة فيها دون مراعاة سياقها. ولقد أكدت على هذه الفكرة في رسالتى للدكتوراه الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام ضمن معالم المنهج الإسلامي.

(12) إن نظرة سريعة على طبيعة العلاقة بين المال والعبادات كفيلة بإبراز التوازن القائم على التفاعل المتناغم بين الاحتياجات الروحية والمادية، ولعدم اتساع المجال للتفصيل ندعو القارئ إلى عرض هذه الفكرة عن أركان الإسلام.

(13) قد اسمع لنفسى بالإعراب عن رغبتي في تعديل عنوان هذه الخاصية من التوازن بين المادة والروحي إلى التناغم بينهما. فهما في المنظور الإسلامي ليسا ضدين نوازن بينهما، بل زوجان يتفاعلان بالمنهج، فينجبان :العزة الإسلامية. ولقد آن الأوان للخروج من أسر الفكر الوضعي، فوضع المدني مقابل الديني، والروحي مقابل المادي إفرازات للفكر النفسي ينبغي أن نستأصلها من جذورها.

(14) لا بأس من الإشارة هنا إلى أنه حتى لو أخضعت النظم الوضعية كل الحقوق والواجبات لضوابط فإن الاقتصاد الإسلامي سيظل منفردًا بكون تلك الضوابط محمولة له من الله ورسوله، في حين أن شبهة تحيز أو سقم الضوابط يظل ورادًا ما دام الإنسان يشرع للإنسان.

(15) لمزيد من التفصيل تراجع دراسة د. حسن العناني الرائدة «علة تحريم الربا» وهي من مطبوعات المعهد الدولي للبنوك والاقتصاد الإسلامي.

(16) انظر في تفاصيل تفرد المفهوم الإسلامي للملكية : د. عبد الحميد البعلى، الضوابط الفقهية في الملكية، القاهرة المعهد الدولي للبنوك والاقتصاد الإسلامي، 1982، د. شوقي عبده الساهي، المال وطرق استثماره في الإسلام، القاهرة : مكتبة حسان، 1984.

(17) لمزيد من التفاصيل حول القيود التى تلحق بأسباب التملك وبسلطات المالك في التصرف والانتفاع وقيود الارتفاق، وقيود الجوار، والقيود الطارئة راجع د. عبدالحميد البعلى، مرجع سابق، ص 86 _ 121.

(18) انظر في تفصيل هذه النقطة المهمة : د. على السالوسي، حكم ودائع البنوك وشهادات الاستثمار في الفقه الإسلامي، القاهرة : مطابع روز اليوسف، 1410هـ، ص 100.

(19) استندت في هذه النقطة على دراسة لي غير منشورة موضوعها :  رؤية نقدية في التأصيل المفاهيمي لمقاصد الشريعة.

(20) انظر في تفاصيل هذه النقطة الدراسة الرائعة الجديرة باسمها : د. يوسف القرضاوي، فقه الزكاة، مؤسسة الرسالة، القاهرة، جـ6، 1981. وهي جزآن. خاصة ص 570 جـ2.

(21) اعتمدت في هذه النقطة على أطروحتي للدكتوراه التى نشرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي. وعنوانها. الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام.

(22) من الدراسات الوافية في هذه النقطة : د. يوسف إبراهيم يوسف،المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية، القاهرة : الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، 1401هـ.

(23) المرجع السابق، ص 71.

(24) مالك بن بني، المسلم في عالم الاقتصاد، بيروت : دار الشروق، 1972.

(25) يتساءل د. يوسف إبراهيم بحق : أين 18 مليار دولار (قيمة مشروع مارشال) من إعادة بناء أوروبا، ويوضح كيف أنه مجرد بند أخير لمجرد سد العجز. انظر المرجع السابق،ص 492.

(26) د. رمزي زكي، الاقتصاد العربي تحت الحصار، القاهرة : مركز دراسات الوحدة العربية، 1989، وهو مؤلف بالغ الأهمية، يبدأ بالحديث عن أوهام التنمية الثمانية في العالم، ويؤكد أن الاقتصاد الرأسمالي ليس سوقًا بل هو منظومة عضوية واحدة.

(27) المرجع السابق، ص 218 _ 253.

(28) المرجع السابق، ص 268، 269، 312.

(29) المرجع السابق، ص 205 _ 209.

(30) المرجع السابق، ص 119 _ 120.

(31) المرجع السابق، ص 77 _ 98.

(32) المرجع السابق، ص 90.

(33) انظر : د. على السالوسي، حكم ودائع البنوك وشهادات الاستثمار في الفقه الإسلامي، القاهرة : روز اليوسف، 1410هـ ص40 _ 42.

(34) انظر :  د. على السالوسي، الرد على كتاب مفتى مصر عن معاملات البنوك وأحكامها الشرعية، القاهرة، دار المنار الحديثة، 1991، ص 81 _ 105.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر