أبحاث

ملوثات البيئة الفكرية : رؤية إسلامية

العدد 112

تمهيد

يريد الإسلام من خلال نظرته التوحيدية التأسيس لبيئة فكرية تساعد على تئمين استعادات (البيئة الفطرية في جوانبها المتعددة)(1). الإنسان المتنوعة والمختلفة، وتتوخى تحقيق مقاصده وفق خطة تجعل الغاية النهائية (عبادة الله تعالى) محركاً رئيساً في بناء الحضارة الإنسانية الراشدة، وقد جعلت من غايتها النهائية في الدنيا تحقيق إنسانية الإنسان، فكان من مقاصد دور الإنسان وفق النظرة التوحيدية السعى نحو الإنسانية في السلوك الفردي والاجتماعي.

وتحقيق هذه المقاصد النهائية والمرحلية، يقتضى وجود بيئة فكرية – في أصل الإنسان ووسطه الاجتماعي – تساعد على إنتاج نخب تحمى المقاصد وتعمل على إشاعتها، بمعنى حمايتها من جانبي الوجود والعدم كما يقول الشاطبي (2).

وتماشياً مع تلك الغايات، في إطار نظرته المتناغمه مع الكون بجميع مكوناته، خلق الله الإنسان مزوداً في أصل خلقته بمثمنات تلك البيئة، بل وزود بعوامل نفسية ومعرفية واجتماعية تيسّر له الحفاظ على البيئة والحيلولة دون تلويثها، وجماع تلك العوامل الفطرة الإنسانية التى فطر عليها الإنسان في أصل خلفته.

فما هي الظروف البيئية التى توفرها الفطرة وفق النظرة التوحيدية ؟

ترسخ لدينا من خلال فرشة البحث أن بيان المراد بالفطرة مرتبط أساساً بشرح مصطلح النظرة التوحيدية . فما هو معنى هذا المصطلح ؟

أولاً: النظرة التوحيدية وتجلياتها

1/1: النظرة التوحيدية

محور نظرة الإنسان المسلم للكون مبدأ التوحيد، وهو أساس العقيدة الإسلامية ومحرّك فعاليتها المعرفية والفكرية والسلوكية والنفسية والاجتماعية، إذ تنسحب على جميع ميادين الفعل الإنساني، حتى صار بمقدورها تحويل الأفعال العادية إلى عبادات بالنية، ولهذه النظرة امتدادات جلية في علاقة الإنسان بربه، وموقفه من الكون، وصلته بأخيه الإنسان، ومن ثمّ كان للنظرة التوحيدية تجليات عدة :

1/2 : التجلي الأول : الجانب الإلهي في النظرة التوحيدية

أساس فاعلية الإنسان وإنسانية علاقته بالآخرين والتوحيد في جانبه الإلهي؛ إذ يعتبر التوحيد حجر الزاوية في العلاقة بين الإنسان وسائر مكوّنات الكون، فتوحيد الخالق في ذاته وصقاته وأفعاله يحرر الإنسان الموحّد من الخوف ويمده بعناصر البقاء والقوة من خلال ربط قلبه بالقوى الذي لا يضعف والغنى الذي لايفقر ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾(فاطر: 15) .. وهكذا يكون التوحيد من هذا الجانب منسجباً على جميع ميادين الفعل الإنساني، وراسماً لعلاقات إنسانية في الميادين الاجتماعية والسياسية والفكرية، حتى جعلت ديمومة التوحيد في النفس الإنسانية متأثرة وجوداً وعدماً بدرجة تحقق غاياته وآثاره على مستوى بالفعل اليومي، أي درجة الإيمان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمدى فاعلية المؤمن في تغيير العالم على وفق مراد الله تعالي، ويؤكد ذلك جعل الشارع لأصل أبعادها الوظيفية ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت : 45) «من لم تنه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له»رواه أحمد في الزهد عن ابن مسعود موقوفاً، ابن جرير عنه مرفوعاً.

1/3: التجلي الثاني : الجانب الإنساني

النظرة التوحيدية للإنسان تبّين أن أصل بني الإنسان واحد يرجع إلى أب واحد «آدم»، وتوالدوا بطريقة واحدة، وهذا يؤصل لأفكار رئيسية مفادها أن الإنسان فعل من أفعال الله الكونية، خلق جميع أفراده من مادة واحدة (تراب) جعل تخلّقهم على نسق واحد (التناسل) ، ويصيرون إلى مصير واحد، وهو مايجعل الإنسان أو النوع الإنساني مصون الكرامة محفوظ الجانب في كل أحواله بصرف النظر عن انتمائه العرقي أو الجنسي أو الترابي … إذ الأصل في النظر إليه جوهره أي ماهو به إنسان، وهذا يؤسس للنظرة التوحيدية للإنسان، ويدعوهم للعيش في كنف المساواة وفي جوّها.

ويقرر هذه الحقيقة ويؤكدها تصوير القرآن الكريم للإنسان، فهو مخلوق مكرّم ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(الإسراء : 70) فكان الإعلان الإلهي عن جعله خليفة تنبيه وإعلام الإلهي عن جعله خلفية تنبيه وإعلام لهم بهذه الوظيفة النوعية، وهي وظيفة شاملة لجميع بني آدم، لهذا كان التكريم عاماً بالنسبة لأفراد البشر ومنسحباً على جميع مكونات الإنسان، فهو كريم ونفيس غير مذلول ولا ذليل في صورته وحركته … وخلاصة ذلك أنّ الإنسان مفضّل على كثير من المخلوقات، نفضيلاً مشاهداً؛ لأنه موقع الامتنان الإلهي على الإنسان، تفضيلاً مكّن الإنسان من السيطرة على سائر المخلوقات بعقلية وإرادته، ومن جهة أخرى هو كائن تافه (من ماء مهين) خلق من تراب ثم من سلالة من ماء مهين، وإن طال العمر عاد إلى الضعف الذي كان عليه في البداية، ومع ذلك يغلب عليه التكبّر والتعجرف، قال تعالى منبهاً ومرشداً ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾(الطارق : 5)، ويعتبر تنبيه الإنسان بهذين الأمرين من مقاصده بعث الفاعلية الحضارية بوظيفته ..

وهكذا في النظرة التوحيدية يظهر جلياً أنّ جانبها الإنساني يقرر مجموعة من الحقائق، أولها أنّ الإنسان كائن مكرم، وغفلته عن تلك الميزة يوقعه في حضيض التفاهة المتعلّقة أساساً في تغليب الجانب الأرضى منه على الجانب السماوى أو الروحاني، بمعنى إذا نسي تكريمه وقع تحت طائلة الغرائز وسلطانها، وبهذا تغيّب أصل ما جعلت له تلك الغرائو والأشواق، فينتقل الإنسان من طور الإنسانية إلى طور البهيمية الضارية المفترسة.

كما أنها من جانب آخر تقرر حقائق ذاتا تأثير عظيم في تهيئة جو الحوار والتفهم والتعاون بين البشر، ويتجلى هذا الأمر فيما باتي :

النوحيد الإلهي يجسد في جانبه العقدى أن الله موصوف بكل صفات الكمال منزة عن جميع النقص، وهذا يقتضى أنه سبحانه وتعالى غنى ونحن الفقراء إليه، وهذه المعرفة سواء في جانبها المعرفي البحث أو في جانبها الجواني، تؤسس لبيئة فكرية تسهم في تحسين أداء الإنسان في جميع ميادين حياته، ويتلخّص هذا قيما يأتي :

1-    البشر جميعاً من أب واحد فلا تفال بينهم، هم أخوة ينبغي أن يكون التعاون والتآزر على المعروف والتقوى شرعة أساسية تحكمهم، كل ذلك بسبب علمهم بأبوة واحدة .

2-    البشر ينتهون في أصل مادة خلقهم الله تعالى من تراب، فمادة خلقهم واحدة، وبالتالى لا يحق لأحدهم أن يحقر أخاه أو أن يستخف به، لاشتراكهم جميعاً في مادة الخلق .

3-    توالد البشر بطريقة واحدة (التناسل البشرى)، وهذا يقتضى التساوى المطلق بينهم وخاصة المطلق بينهم وخاصة من جهة الإحساس بالتكريم الإلهي، ويكرّس هذا أنّ مدة الحمل بكل فرد منهم واحدة إلا ما شذّ.

4-    الإحساس بالجميع بين كونه كائناً مكرماً من جهة وتافهاً من جهة أخرى بمثابة تذكير دائم لبنى آدم، فمن أهين أو قبل الاستهانة فليتذكر أنه كائن مكرم، ومن رام التكبّر على بنى آدم فليتذكر أنه مخلوق تافه من ناء مهين، وهو حين يتذكر ذلك يسقط القناع وتطرد الطاووسية التى ركبته أو ركبها، وأحسن الأوضاع التوازن بين الأمرين.

التذكير بهذه المبادئ المستقاة من العقيدة الإسلامية، سعي مستمرة لإبقاء البيئة الفكرية طاهرة من الملوّثات، وهو في ذات الوقت عمل على تطهير ما كان ملوّثاً منها؛ لأن فقد تلك المبادئ حين مباشرة العمل الاجتماعي أو السياسي أو الحضاري يوقع المسلم تحت طائلة سلطان الشهوات والغرائز، وبذلك يفقد إنسانية تصرفاته، ويضيع أصل الهدف من وجوده.

ويعتبر التوحيد في جانبه المشار إليه من أهم محددات التفكير في جانبيه المتعلقين بالموضوع والمنهج، فلا حجر على التفكير، ولا حجر على الاختيار والتعبير، وبهذا يتحقق للباحث التحرر من عوامل تعتبر من مكبّلات الإدارة البشرية، لعل أهمها :

1-    الخوف في الموضوع أو المنهج، باعتباره من أهم موانع البحث العلمي الموضوعي، ويظهر هذا الأمر في عدة أشكال وأنماط، لعل أهمها :

(*) مراعاة السامع حين تجسيد البحث (محبذ مراعاته حين تبليغ البحث) فيخضع لشروطه المحددة سلفا، وبهذا لا يزيد الباحث أن يكون عربة في قاطرة مجرورة محددة الأهداف والغايات، والسامع في هذا المقام قد يكون سلطة عملية وقد يكون سلطة سياسة أو طلبة أو مجتمعاً أو….

2-    الزهو بالعلم أو المنصب أو الجاه أو الدرجة العلمية، فيخضع الباحث السامع إلى ضغط الألقاب، فيكون الاستحضار الدائم للألقاب حين الخطاب مانعاً من التوجّه مباشرة إلى الموضوع المبحوث، ويقرب من هذا الضغط بالمؤلفات أو ما شابهها.

1/4: الجانب الثالث : الكوني من النظرة التوحيدية

الكون في النظرة التوحيدية مخلوق لله تعالى كالإنسان، سخّره له وجعله في خدمته بشرط أن يأتيه باسم الله بواسطة ما منحه من استعدادت عقلية وبدنية وفق سنن لله تعالى في خلقه (3)، وتؤكد مجموع مظاهر الكون تميّز الإنسان عن سائر المخلوقات تميزاً ذاتياً (بما استوع من استعدادات) وظيفياً بما كلّفه الله تعالى به «التكليف بعمارة الكون وفق مراد الله؛ لأنه مخلوق مكلّف مسؤول ».

يستشف مما سلف أن للإنسان صلة وطيدة بالكون، ومبنى ذلك منزلة الإنسان في الكون نفسه، وتتجلى في النقاط التالية :

1-    وحدة الإنسان والكون، فكلاهما مخلوق لله تعالى، إذ تكرم عليها الخالق بعناصر الوجود والبقاء.

2-    الإنسان كسائر مكونات الكون محكوم بفوانين يسير وفقها، وليس له أي استقلال عن الظواهر الكونية وقوانينها، فهي مؤثرة في وجوده وبقائه بوصفها الخزان المعرفي والغذائي لجميع حاجاته، وهو بدوره مؤثر عليه من جانب بقائه صالحاً أو طالحاً، نافعاً أو ضارّاً.

3-    الإنسان والكون مشتركان من حيث المصير، إذ يتحركان معاً إلى نهاية قدرها الله تعالى ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (المائدة : 18).

4-    وحدة من حيث المالك والمسير.

وفي ضوء ما سلف يتبّين أن للإنسان في التصور التوحيدي صلة وثيقة بالكون، تتجلى فيما يأتى :

5-    صلة اعتبار وتأمل وتفكير:يعتبر الكون وفق التصور الإسلامي مسرحاً للتأمل وموضوعاً عظيماً للتفكير، بدليل توظيف القرآن الكريم لألفاظ مشجعة على إعمال الحواس في الكون (نظر، بصر ومشتقاتهما ..)كما وظف ألفاظاً تحث على التفكير والتأمل في الكون (يعقلون، ويتفكرون، ويتدبرون، ويوقنون، ويفقهون…).

1-صلة استثمار وتسخير وتذليل :تبدو صلة الانتفاع والاستثمار والتسخير واضحة جلية في القرآن الكريم ﴿وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)﴾ (النحل : 5-6).إنها خطابات تدفع الإنسان وتحفيزّه (ذاتياً وموضوعيّاً) على استثمار الكون وتسخيره، باعتباره نعمة إلهية خلقت للاعتبار والتدبر والانتقاع والاستثمار بشرط التعامل معها بما منح من قدرات عقلية وعملية وبدنية ونفسية (4).

1/4/1 صلة الإنسان بالكون

صلة اعتبار وتأمل وتفكر

صلة استثمار وتسخير وتذليل

درس مستمر

عمل مستمر

الصبر على البحث

عدم العداوة

الحث على البحث

إدارة البحث

التفاؤل في البحث

عدم التقديس

أرضية الرد

يتجلى مما سلف أن الرؤية التوحيدية للعالم تؤسس – وبما لا مجال للشك فيه، من خلال نظرتها للإنسان – لبيئة فكرية متميزة عمدتها الإنسان المكلف بعمارة الكون وفق مراد خالقه، وهذا يقتضى التعامل مع الكون في إطار تلك الوظيفة أولاً، وفي كنف الحفاظ على أصل البيئة التى خلق عليها من حيث هي ثانياً.

في ضوء ما سبق، سأعرض أصل البيئة التى خلق عليها الإنسان وأثرها في تهيئة البيئة الفكرية من خلال الحديث عن إصلاح التصورات؛ لأن «إصلاح الفكر لابد أن يقوم على عقيدة صالحة»(5) بمفهومها الإيماني الجامع بين نباهة العقل وحضوره من جهة وخشوع القلب من جهة أخرى، وبهذا تهيئ الإنسان المسلم فكرياً للتفاعل الموضوعي والإيجابي مع الكون.

ثانياً : إصلاح التصورات أساس إصلاح البيئة الفكرية

الفكر كما مرّ معنا، هو تفاعل العقل مع الواقع المعيش بجميع مكاوناته، لكن هل يمكن التفاعل مع هذا الواقع بغير تصور كوني مسبق؟

النظرة التوحيدية كغيرها من التصورات والعقائد تحدد الفكر وترسم سيره وتشحن القلب المسّلم بشحنات تدفعه دفعاً في مسار تحقيق المسلم الإيديولوجي أو العقدى بواسطة الفكر، سواء في عالم الأشياء أو في عالم الأفكار أو في عالم الأشخاص، ويمكن تجلية هذا الأمر من خلال الحديث عن أصل البيئة التى خلق عليها الإنسان واثرها في استنطاق الأوامر والنواهي الإهلية وتمثلهما في الحياة اليومية بجميع مضامينها.

2/1 : أصل بيئة الإنسان من حيث هو :

خلق الله الإنسان على الفطرة في جانبيها المعرفي والديني، فقد خلق الله الإنسان على الحنيفية السمحة فأجلته الشياطين عنها (6) وما ذلك إلا بمثابة إفساد لبيئه الأصلية، ويشهد له أيضاً حديث الفطرة : «فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»(7)، فأصل للتلوث والتغيير، ومن حكمة الله أن جعل عودته إليها بواسطة الفطرة المعرفية (العقل الفطري)، فبذكّر الإنسان بأصل ما جعل مركوزاً فيه من المعارف وأكبر شاهد على ذلك أساليب القرآن الكريم في التذكير، الجامعة بين مخاطبة العقل والوجدان في ذات الوقت.

وتركيز النظرة التوحيدية على أصل البيئة التى خلق عليها الإنسان من حيث هو، يدل على أنها أساس التعامل مع الإنسان والكون، إذ الغفلة عنها مهيئة لبيئة فكرية خاصة منافية لذلك الأصل المشار إليه، بل وتنذر بخطر كبير على وجه الخصوص، بما يجعلها ناقلة للإنسان من طور الإنسانية حين الغفلة إلى طور البهيمية الضارية، لأن الفطرة أساس فكرة التكريم، ومن ثم كانت لها أهمية عظيمة في تهيئة البيئة الفكرية.

وفكرة التكريم الإلهي للإنسان تجسّد التذكير بأصل البيئة الفكرية والنفسية التى وجد عليه الإنسان في أصل خلقته، كما تذكره بوجوب العودة إليها، بتهيئتها من جديد في جانبيها المعرفي والتربوي، وينتج هذا التذكير آثاراً عظيمة على القعل والقلب، يمكن تلخيصها في الجدول المبيّن أدناه:

2/2 : آثار فكرة التكريم في تهيئة البيئة الفكرية

الآثار المعرفية

الآثار التربوية

اكتشاف منزلية الإنسان في الكون

رفض الإذلال أو الذل

التحرير المعرفي من الأساطير

نشر التكريم والتأسيس للتفكير الحر

تشجيع الروح النقدية تدفع إلى التبليغ بعد الاقتناع

رفض فكرة التمييز بين البشر رفض الاستخفاف بالآخر

إشباع الفضول

الدفاع عن المستضعفين

2/3 : آثار الرؤية التوحيدية للكون في تهيئة البيئة الفكرية:

سبق وأن أشرنا إلى أنّ البيئة الفكرية تتناول أمرين، أولهما يتناول الاستعداد المعرفي، ويتناول الثاني الاستعداد التربوي، ويشكلان في إطار تناغمي الدعوة إلى الحفاظ على البيئة والتعامل معها وفق شروطها الموضوعية، واستثمارها وتسخيرها وفق ما خلقت له وخلقت عليه من استعدادات تجعلها مهيئة للتثمين والتسخير والاستثمار.

ويمكن تلخيص ما سبقت الإشارة إليه في الجدول المبيّن أدناه:

آثار النظرة التوحيدية للكون على البيئة الفكرية

الآثار المعرفية

الآثار التربوية

الحقيقة الموضوعية للكون

التعامل الإيجابي مع الكون

تبطل فكرة الاستثمار

إصلاح التصورات

ترسيخ فكرة الاستثمار

إصلاح إرادة البحث

استعلاء الإنسان

تنمية إرادة البحث

فرصة التأمل والبحث

الصبر على البحث

تشجيع العلم التجريبي

أداء حق الله تعالى فيها

إذا كان البيئة الفكرية في أصلها على وفق ما صورنا، فما هي ملوثاتها؟

بّين مما سبق أن الملوثات تتناول أمرين رئيسين، يتناول أولهما ملوّثات البيئة الأصلية للإنسان، ويتناول ثانيهما نظرة الإنسان إلى الكون والحياة، لهذا سأعرض المسألة من الزاويتين المشار إليهما في نسق واحد، وألحق بهما الملوثات المتعلّقة بغياب المعرفة، وأختمها بالملوثات النفسية والسلوكية.

ثالثاً : ملوثات التصورات التوحيدية :

3/1 : مدخل عام :

قررنا فيما سبق أن الله تعالى خلق الخلق على الفطرة في جانبي المعرفة والتدين بما يحمله من مضامين تربوية وأخلاقية (تعرف بأخلاق الفطرة).

ويظهر تلوّث الشق الثاني بما يعرف في العقيدة الإسلامية (التصورات النظرية) بمضادات التوحيد (الشرك، والنفاق، والكفر، ..)، وإذا تلوّث أصل الإنسان بمثل هذه الأمراض فإن مجموع أعماله ستنصبغ بمتطلبات هذه المضادات، فتتأثر أعماله العلمية ومواقفه الاجتماعية، بل ويفوق ذلك ليؤثر في الأداء الحضاري العام بما يحمله من أثر على الفكر والتفكير.

ولبيان ذلك اخترنا النماذج الآتية:

الشرك والكفر – بوصفها من مضادات التوحيد ومن الملوثات الأساسية لأصل ما خلق عليه الإنسان – يؤثران في الموقف الفكري وتفسير الظراهر السننية (الطبيعية) والإنسانية كما يؤثران أيما تأثير في المواقف السلوكي المؤسس على هذا النمط من التفكير، ويمكن تلخيص هذا الأمر في المناحي الآتية:

·        تفسير الظواهر الكونية في جانبيها الشيئي (عالم الأشياء) أو الإنساني (عالم الأشخاص) بمركزية الإنسان الغالب، ينجر عن قبول هذا الرأى كمسلّم نظري صحيح عدة أمراض لها كبير الأثر على تلويث البيئة الفكرية التوحيدية، لعلّ من أهمها ظاهرة النفاق في جوانبها المتعددة والمتمظهرة أساساً في المواقف السياسي والثقافي والاجتماعي، بل ويجاوز ذلك فيؤثر على العرض الموضوعى للفكر نفسه.

·        اتخاذ مواقف اجتماعية وسياسية منسجمة مع تلك التصورات مما يجعلها مؤثرة على الأداء الحاضر والمستقبل للفكر، بل ويجاوزه إلى تلويث البيئة الفكرية إن في تفاعلها مع الفكر أو في تهيئة الجو الصحي لصناعة الأفكار الفاعلة في الحاضر والمستقبل.

ولتوضيح المسألة أكثر أخترت التفصيل في النفاق من جهة كونه من مضادات التوحيد المؤثرة على التصورات والأعمال البدنية والعقلية والنفسية، بل يجاوزها بالتأثير على تفسير الظواهر الإنسانية والفلسفية والسياسية والحضارية وحتى ذات الطبيعة الشيئية أحياناً.

3/2: تجليات أثر النفاق في تلويث البيئة الفكرية:

نفهم حركة النفاق في إطار آثارها الوخيمة على تلويث البيئة الفكرية من زاويتي بعديها النفسي والاجتماعي بوصفها العناصر الرئيسة المحددة لعمل الفكر والمانعة دون انطلاقته وتفاعله الإيجابي والموضوعي مع عالم الأشخاص.

1-    يضطر البشر من منطلق الخوف من اكتشاف حقيقتهم إلى التخفى إلى حين زوال المخيفات، فإذا زالت دفعوا الأستار وكشفوا عن حقيقتهم، والتستر ليس عملية شخصية لا تطال الآخرين، بل تؤثر في المواقف الفكري مما يقع في هذه البلاد أو تلك

2-    يترجم المواقف النفسي السابق في موقف اجتماعي، فيضطر المنافق إلى مجاراة الأحداث والانصياع لها إلى حين.

ويتجلى موقف المنافق في العمل العلمي والسياسي والثقافي والاجتماعي …

·        الخضوع لمطالب المستمعين سواء كانوا سلطة أو معارضة أو شعباً، فيتفنن هذا النمط من الباحثين في تأييد السلطة السياسية، بل قد يجاوزونه إلى إبطال آراء جميع مخالفيها، وفي ذلك أكبر التجنى على البحث العلمى والمطارحات الفكرية.

·        التخاذل عن نصرة البحث العلمي الموضوعي، وبالتلي التخاذل عن نصرة الدين.

·        إثارة الشائعات المدمرّة بهدف توجيه الفكر للتفكير في مشاكل وهمية وشغله عن القيام بدوره الحضاري المنتظر في إطار التصور التوحيدي.

·        التخريب الداخلي لعالمي التركيز على التحضير النفسي للمخاطب.

·        تأسيس المؤسسات الضرار بغرض توجيه الفكر، ثم الهيمنة على سوق التوجيه أو التشويش على المؤسسات الأصلية أو التشكيك فيها على الاقل.

·        إذا فشلت كل محاولات الاستقطاب سيضطر إلى إعمال مسلك الاستفزاز الفكري بغرض استنزاف الطاقات في معارك وهمية الرابح فيها خاسر، وهو بمثابة تحريض على استعمال العنف وفق قاعدة الضارب المستعطف – ضربنى وبكى وسبقنى واشتكى – فيظهر المناطق بمظهر المظلوم الحقيقي – وأكبر شاهد أيامنا الحبلى بهذا النماذج من الظلمة .

·        التمكين للنفاق يبعد الكفاءات الفكرية عن مقاليد التوجيه في المجتمع، بل يبعدهم من الميادين التى لايحسنها غيرهم، فيصبح نيل منصب التوجيه والإرشاد – بل وحتى الحقوق – استعطافاً لا استحقاقاً، فيمكن للرداءة الفكرية والانتهازية، بسبب وقوع مقاليد الأمور في أيدى المنافقين فيعملون على تهيئة جو ملائم لبقائهم ومساعد على ديمومة أفكارهم.

رابعاً : المؤثرات المتعلقة بالمعرفة :

تظهر ملوثات البيئة الفكرية في جانبها المعرفي في غياب أو تغييب العلم وهيمنة روح الجهل في علاقاتنا المعرفية ومواقفنا الاجتماعية، كما يتجلى أيضاً في هيمنة لتقليد والوقوع تحت طائلة المكبّلات الإيديولوجية، والاستخفاف المعرفي أو قبوله، وأحادية المنهج رغم تعدد العلوم من حيث طبيعتها وحقيقتها.

4/1 : الجهل وأثره على البيئة الفكرية :

يعد الجهل من أهم أسباب عدم قيام الأمم بأصل وظائفهم والسير في طريق الشرور ، الجهل هو الذي يصور الأشياء على خلاف حقيقتها، وبذلك يوجه الفكر من خلال تهيئة بيئة فكرية جاهلة

–         إلى ميادين مخصوصة في الحوار والنقاش والموقف الاجتماعي العام بل ويتعداه إلى الأداء الحضاري ، فتشل الطاقات وتستنزف قوة الأمة في معارك وهمية.

إن الجهل يصور التطاول على الفكر شهامة وبسالة وشجاعة، ويصور خدمة الأجنبي إنسانية وفخراً وشرفاً، بل قد يجاوز إلى أخطر من ذلك فيغيب الإحساس بتلك الجرائم المقترفة في حق الأمم والشعوب بسببه ؛ لهذا فالجهل «أم الشرور والأمراض، بل إن كل بلاء يحل على أي أمة من ابتداء العالم إلى نهايته إنما هو وليد هذه الآلام وثمرتها»(8) ، ومن ثم فالجهل رأس ملوّثات البيئة الفكرية في طلب العلم ، فضلاً عن تجسيد متطلبات العلم أو نتائجه، كما يعد من أهم الحوائل دون البحث الفكري الجاد والهادف، حتى ليعد هذا النمط من التفكير السليم ضرباً من التشويش و (الجهل) (وفق ما ورد في المثل السائر رمتنى بدائها وانسلت) .

4/2 : هيمنة التقليد:

يهيمن على عقل المسلم منذ أمد بعيد القراءة التاريخية لدينه وخبرات أسلافه، بفعل شيوع التقليد والوقوف دونه (9)، فأصبح دور العقل المسلم التفنن في الرجوع إلى الماضى بوصفه أنموذجاً كاملاً في السياسة والحكم والتعلّم والتفاعل مع الواقع المعيش، والفكرة في حقيقة الأمر ليست باطلة بإطلاق ، بل هي خطيرة من حيث عملها على دعم الوجود التاريخي المنغلق على حساب الوجود الحضاري المطلوب ، إذ رسخ في قلب المسلم المعاصر ونفسه أنه لا صورة ممكنه ومتاحة للعيش في كنف الإسلام إلا تلك الصورة التاريخية المنقولة ، وأي خروج عنها يعد خروجاً عن الإسلام (10).

فتحوّل الإسلام – الذي هو حقيقة أمره تحوّل دائم من التقليد إلى الأصالة (11) إلى تاريخ ، عوض التفاعل معه بما يقتضيه من مراجعة دائمة لخبراتنا الفقهية والاجتماعية والفكرية بناء على ماثبت من نصوص وصحّ من اجتهادات ، في إطار ما طرأ علينا من إكرامات.

فالتقليد في الأوساط العلمية الأكاديمية من أهم موانع الانطلاقة الفكرية المنتظرة من جهة ، وأهم ملوّثات البيئة الفكرية توجهها إلى ميادين مخصوصة في البحث من جهة ثانية ، والحيلولة دون ولوج ميادين بحثية بفرضها الإكراه الحضاري في الواقع المعاصر.

4/3 : المكبلات الإيديولوجية (الأفكار المسبقة):

يساق الإنسان في ميادين البحث – شاء أم أبى في كثير من الأحيان – بقناعته المستبقة ، فيقرأ ويحلل كل ما تبلغه عينه بما رسخ في نفسه ووقر في قلبه من أفكار مسبقة، وفي ذلك أكبر بلاء على العلم والمعرفة، فتكون الأفكار المسبقة ملوّثة للبيئة الفكرية بوصفها مانعاً قوياً من القراءة الموضوعية ، لما تقتضيه من دخول الباحث مشحوناً بأفكار تسوقه سوقاً إلى نتائج محددة سلفاً، ولخطورة هذا الأمر حذّرنا الشارع الحكيم من الوقوع تحت طائله ، فقال تعالى : ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾(الاسراء: 36).

،«أي إنك أيها الإنسان تسأل عما تسنده إلى سمعك وبصرك وعقلك وهذا أدب خلفى عظيم ، وهو إصلاح عقلي جليل يعلم الأمة التفرقة بين مراتب الخواطر العقلية بحيث لا يختلط المعلوم والمظنون والموهوم ، ثم هو أيضاً إصلاح اجتماعي جليل يجنب الأمة من الوقوع والإيقاع في الإضرار والمهالك من جرّاء الاستناد إلى أدلة موهومة»(12).

من منطلق ما سبق بيانه يتجلى أن الأفكار المسبقة من أهم ملوّثات البيئة الفكرية من منطلق شرعي وعقلي ؛ لأنها من العناصر التى تعيق سير العقل والفكر سيراً عادياً وموضوعياً.

ولعل من أهم الأمراض الفكرية المنبثقة عن الرواسب الفكرية ، الاستخفاف المعرفي أو قبوله، كما يظهر في أحادية المنهج المحكّم في جميع العلوم والمعارف.

4/3/1 : الاستخفاف المعرفي أو قبوله:

يعد الاستخفاف بالآخرفي ميدان المعرفه من أهم أسباب عدم تصحيح الأخطاء الفكرية أو التفكيرفي تصحيحها على الأقل ، وهذا الملوّث لا يقل شناعة عن قبول الاستخفاف بالعقل والفكر ، بل يعدان من العناصر التى تختلط فيها العناصر النفسية (الاستكبار وقبول الاستخفاف) بالعناصر المعرفية ، فالذي يستخف أو يقبل استخفاف الآخرين في الميدان المعرفي لا ينتظر منه أن يكون على خلاف ذلك في الموقف الاجتماعي والسياسي والفكري وحتى الحضاري.

4/3/2: أحادية المنهج :

يهيمن على عقول بعض الباحثين والمؤلفين أن العلم واحد وموضوعه واحد لا يتعدد، ويخلص إلى نتيجة مفادها أن منهج بحث ودراسة العلوم والأفكار واحد، وقد بلي الفكر الحديث بهذا الداء في فترات متقطعة من تاريخ الإنسانية ، ففسرت كل مسائل العلم والفكر في حقبة غلبة التحليل المادي للتاريخ بهذا المنهج، واستولى التفسير التجريبي على عالمي الفكر الشعور حين هيمن هذا المسلك التحليلي على عقول الناس في فترة من فترات التاريخ، وهكذا ماكانت الغلبة لمنهج في فترة من الفترات إلا وكان سيد الموقف في تحليل كل شئ حتى ما لا ينسجم مع طبيعة ذلك المنهج ، ومن نماذج هذا المسلك الإغراق في المذهب على حساب الدين ، فيرى أصحابه الدين من خلال المذهب، وقد كان – وما زال – هذا سبباً في ضياع الولاء لله تعالي فى أعمالنا، كما كان سبباً في روح الالتزام؛ فضاع الاسلام في صورته الإنسانية الحضارية من جرًاء هذه التصرفات المنبثقة عن الأحادية المتحكّمة في عقولنا وأفكارنا وسلوكنا ، ولا تتوقف أحادية المنهج عند هذا الحد بل قد تتجاوزها إلى تفسير كل أمور الكون المادية والمعنوية تفسيراًغيبياً يلغى كل سلطة للإنسان على عالمي البناء والشهود الحضاريين ، وقد يزكي هذا المسلك من قبل مؤسسات علمية ) هدفها صرف الباحثين عن التفكير في البناء الحضاري، فضلاً عن المساهمة فيه بغرض تعطيل وظيفة الشهود الحضاري من خلال التشويش الإعلامي بغرض صرف الناس الدعوة إلى الله سبحانه وتعالي.

4/4 :غياب النقد المقاصدي (الغائي) :

الأصل أن يبادر الناقد قبل النقد إلى التساؤل عما يقدم نقدنا كقيمة معرفية مضافة؟، وماذا يقدم كموقفحضاري؟. ماهي مقاصد النقد من الناحية المعرفية والحضارية ؟ بمعنى ما هي موجبات النقد من الزاويتين المعرفية والحضارية؟ ليس في هذا المقام التعامل الإيديولوجي مع الأفكار من خلال إخضاعها لمقاصد الإيديولوجية السياسية – الاجتماعية (13)، بل المقصود ، هو التساؤل في إطار غائية التساؤل الموضوعي عن القضايانا.

الجواب الصحيح عن السؤالين وبكل موضوعية، يشهد به السائل على نفسه (دون استجابة لداعي الخوف والضغط الأدبي أو المالي أو السياسي) ، استفت قلبك فإن أفتاك فاقبل، بمعنى أن وحد إجابيه عن تساؤلاته موجبة للإقدام أقدم ، وإن وحد فيها غير ذلك أحجم، فالامتناع عن مساءلة النفس والفكر، بعناصر تمنع البحث الفكري الموضوعي، كما هو شأن كثير من البحوث التى يساق إليها الباحث بدافع نصرة أحابه أو إذلال غيرهم أو ماشابه ذلك، وإدراج هذا الملوث في خانة الملوثات المتعلقة بالمعرفة ، بسبب تسربه إلى الفكر من جهة الوسط الثقافي الذي يذكى هذا النوع من انشغال على حساب النقد الفكري الفاعل في حاضرنا والمساهم في بناء مستقبلنا، ومن ثم كان هذا العامل من ملوثات البيئة الفكرية في شقيها المعرفي والتربوي.

خامساً : الملوثات النفسية :

من نافلة القول البيان التفصيلي لدور العناصر النفسية في توجيه الفكر، إذ في الغالب يساق المرء بقلبه حتى في سير فكره وعقله ؛ لهذا كانت هذه العوامل ملوثة للبيئة الفكرية حال تنكبها عن جادة الصواب ، والاستسلام لرغباتها ونزواتها ، ولعل من أظهر تلك الملوثات جعل الدنيا هدفاً نهائياً من الوجود ، والاستبداد وهيمنة روح التسليم للواقع ، وفقدان عناصر التربية الفكرية.

5/1 جعل الدنيا هدفاً نهائياً من لوجود:

جعل الدنيا هدفاً نهائياً يعرّض أصحابه للوقوع تحت طائلة الغرائز، فيعمل المبتلى بها على قضاء كل ما تطلبه ولو على الحساب الآخرين – وهي دائماً كذلك – وما دامت منافع الناس متضاربة وتحقيقها أو منع فقدانها لا يتم إلا بالفكر فسيضطر المدافع عن منافعه إلى إعمال كل الوسائل الفكرية من أجل الحفاظ على تلك الغنائم ، وبهذا الصدد سيكون فكره مقيداً ممنوعاً من الحركة في غير الطريق الذي رسمته له منافعه المادية، فيتحول الإنسان من جرّاء ذلك عن إنسانيته إلى حيوان متوحش باستطاعته فعل الأعاجيب من أجل تحقيق رغباته، وهكذا يفقد الإنسان إنسانيته لمجرد ضياع الهدف من الوجود الإنساني ، ومن كان هذا شأنه ففكره كما ترى ملوث بل وواقع تحت سلطان الدنيا تجره جراًّ إلى حيث يفقد إنسانيته، وما الصراع العالمي الذي ضاع في جوه حق المستضعفين من أفراد وشعوب وحكومات إلا بسبب هيمنة حب الدنيا عند الكبار، ويتجلى أثر ذلك على الفكر في الازدواجية المحكمة في العلاقات السياسية والفكرية والثقافية ين الشعوب والدول ، فما يرى حقاً في بين الشعوب والدول ، فا يري حقاً في بلد فهو ليس كذلك في بلد آخر ولو تشاهبت كل المعطيات ، سبباً في الامتناع عن معاونة بلد آخر ، كل ذلك بسبب حب الدنيا الذي ولد الكيل بمكيالين في الثقافة والاجتماع والسياسة بل وحتى الحضارة.

5/2 : الاستبداد أو قبوله:

يذهب العقل حين الحديث عن الاستبداد إلى الميدان السياسي مباشرة، والمسألة حسب تقديرنا أوسع من أن تحصر في هذا الباب؛ لأننا – وإن كنا نعيش استبداداً لاينكره إلا مكابر – مستبدون إلى النخاع من خلال علاقتنا بطلبتنا وأسرنا وأولادنا ومجتمعاتنا ، لهذا لا نستبعد أن يكون كل واحد فينا ممارساً لدور السلطة بمفهومه السلبي الذي يعنى التسلط والقهر ، بل قد يكون واحد منا يتصور نفسه عملياً فوق مقام الاستدراك فضلاً عم النقد، يصدر الأوامر وما على الآخرين إلا التسليم بما يريد، فكيف لمن كان حاله على وفق ما ألمحنا، أن يستغرب الاستبداد السياسي؟

والاستبداد يعد من أهم موانع المناقشات الفكرية الهادئة والهادفة لما يقتضية من كم للأفواه وتقييد للأيدي، وبالتالي سيكون حين العمل به أو الاستجابة له ملوثاً خطيراً للبيئة الفكرية؛ لأنه يمنع البحث الموضوعى سواء في قضايا النزاع الفكري أو غيره، وتزداد خطورة الاستبداد على الفكر حال تلبسه بالدين من خلال الاستدلال على ضرورته والتسليم به لشواهد نصية أو تجربة تاريخية معينة، فتتحول رغبات ونزعات وإرشادات اشخاص معيّنين ديناً لايجوز العدول عنه بفعل بعض المعدودين في أهل العلم، فيصير الفكر بهذا مصروفاً عن التفكير في مثل أصل هذه القضايا أو المساءلة عنها على الأقل، رغم مالها من تأثير وخيم على توجيه الفكر، لما يحمله هذا الموقف من خلع نوع قداسة على أشخاص أو أفكار معينة.

إن الاستبداد بمفهومه العام – السياسي والفكري والتعليمي والحضاري –يعد ملوثاً قوياً للبيئة الفكرية بوصفه من أهم صوارف الفكر عن التفكير بكل حرية في المواضيع التى يراها ذات نفع في الحاضر والمستقبل.

والاستبداد نفسه – حسب تقديرنا – لا يقل شناعة عن قبول الاستبداد من حيث تلويثها للبيئة الفكرية؛ إذ قبول الاستبداد يترجم في موقف فكري يتجلى في البحوث والمؤلفات فيتفنن قابلوا الاستبداد في التأييد والمرافعة عن رأي المستبد (قد يكون سياسياً، وقد يكون معلماً أو مثقفاً أو غنياً أو…)، ولا شك أن من كان هذا شأنه سيكون بعيداً كل البعد عن المتنازع حولها في عالمي الأفكار والأشخاص.

إن العقل المبرر للاستبداد «فكر قمعى لا يستطيع أن يتحمل الأفكار التى تنطوى بسهولة ضمن إطار سلفاً… لهذا فالأفكار المخالفة مرشحة للمصادرة الدائمة، وأساس هذا التحليل السلوك الوسواسي نفى الآخر عقلياً، أي رفض الآخر من خلال رفض حق الاختلاف في وجهات النظر، ولا شك أن ذلك مقدمة للإنكار الجسيدي، أي هو الشكل الأول من أشكال الاغتيال، والانتقال من هذا الشكل الأول من القتل المادي لايحتاج إلى تفكير جديد بقدر مايحتاج إلى تجسيد القتل النظري الممثل في الاستبداد؛ لأنه لايتطلب تفكيراً جديداً بقدر ما يتطلب حالة انفعالية جديدة، فبمجرد تغير مزاج المستبد يقع ما لا يحمد عقباه »(14) ، وبهذا يصبح الفكر المبرر للاستبداد ملوثاً للبيئة الفكرية معداً لنفوس انتقامية وظيفتها الاغتيال في الوقت المحدد في الظروف المحددة.

وبهذا يتحول الفكر بواسطة هذه الملوثات عن وظيفة الأصلية، ليتفرغ – وبشكل كلي لمهمة تصفية الفكرة المخالفة وتحميلها مسؤولية جميع الإخفاقات ، عوض العمل على تغيير الواقع الفاسد (15) والتقارب بين القوى الفاعلة في المجتمع بهدف مواجهة الخطر المحدق بالجميع.

5/3 : هيمنة روح التسليم:

يعتبر التسليم للواقع بجميع مكوناته امتداداً عادياً لفكرة الاستبداد بمفهومها العام، وقد ظلت فكرة التسليم مهيمنة على فكرة التسليم مهيمنة على فكرنا منذ أمد بعيد، فتولدت عنها أمراض أخطر، لعل أهمها أن يقوم الرجل منا مقام المستبد في تثبيط العزائم، فيؤلب العامة على من رام الحديث عن التغيير الاجتماعي، فضلاً عن الذي يعمل على تجسيده.

وقد غيبت العناصر الروحية من نفسيتنا ولوثت بيئتنا الفكرية بفعل شيوع تثبيط العزائم الذي نخر لأوصال الأمة، فلا  مشجع على البحث الموضوعي وخاصة في المسائل المخالفة لرأي شائع أو حاكم مستبد أو عالم مهيمن على الثقافة والمال و….، والمعينون على التزلّف والتملق بأصحاب الجاه والسلطان السياسي والثقافي والمالي كثر، ويكاد يكون هذا المرض شاملاً لجميع البيئات العربية والإسلامية، وقد شكا أحد الصالحين من هذا المرض في بيئه، حيث قال : «هناك بيئات من النوع الأول، ماتنهض لواحد من بينها، إلا إذا فرضته عليهم قوة من خارج»(16)، وما أظن بيئتنا العربية والإسلامية مشرقاً ومغرباً بعيدة عنها، سواء في الأداء السياسي أو الثقافي أو التعليمي.

إن التسليم بالواقع من أهم ملوثات البيئة الفكرية من جانب توطين السكوت عن البحث الموضوعي والحيلولة دون بعث التفكير الحر، لما يقتضيه من تجاوز لتكبيل الفكر وتحديد لمجالات بحثه وجبره على السير في مسارات محددة سلفاً من قبل الفكر الإطلاقي المجسد في العقليتين التسليمية والمسلم لها.

5/4 : فقدان عناصر التربية الفكرية:

تنقسم هذه العناصر إلى صنفين، يتناول أولهما العناصر النفسية من التربية، ويتضمن الثاني العناصر المعرفية في جانبيها المنهجي المتعلق بمواضيع العلوم، وهذا يقتضى تكويناً مستمراً في جميع الجوانب المشار إليها.

5/4/1 : العناصر النفسية:

أهمل المسلم المعاصر بفعل الإكراهات الواقعية ومتطلبات الحياة البائسة – بفعل الفقر عند البعض والتخمة لدى البعض الآخر – كثيراً من عناصره النفسية التى يولد مزوداً بها، وإذا به بفعل التربية الاجتماعية والمدرسية والمنظومات القانونية والممارسة السياسية، يكتشف بأنه لا يتمتع بقدرة على التغيير الفكري، ثم يتحول في قابل الأيام – بفعل استثمارها الذكي من قبل المخالف – إلى فقدان القدرة على تحقيق التغيير الفكري المنتظر، وتتحول تلك النزعة بعد أيام وبفعل التذكية الرسمية بشقيها السياسي أو الثقافي (والديني) إلى فقدان الرغبة في التفكير في التغيير فضلاً عن القيام به، وهكذا يتحول إنسان المنطقة من كائن مكرّم خلقه الله تعالى حراً بالتكليف إلى إنسان فاقد للرغبة والإرادة والقدرة، كأنه مشلول على طول الخط (يأكل القوت ويتنظر الموت)، يسلم أمره لولاه يفعل بشأنه مايشاء، وكأنها جيرية بعثت من مرقدها ولهذا كان التسليم بفكرة التسليم ملوثأً للبيئة الفكرية وحائلاً دون انطلاقة العقل والفكر في عالمه الرحب

وبهذا الصدد تعتبر العولمة من أبرز القوى الخارجية المسلّم بها ولها لدى البعض بوصفها عاملاً في البيئة الفكرية، وقد عملت العولمة على القضاء على التنوع والتعدد في المجتمع الدولي، والتي من خلالها تختار الصراع وسيلة الحوار (عوض الحوار الحضاري السلمي الهادئ)(17)، ويؤكد هذه المعاني عدم قبول الغربيين، والامريكان على وجه الخصوص بالديمقراطية الحضارية المعبر عنها في حقيقة الأمر بالديمقراطية السياسية؛ ليس إلا نتاجاً لفلسفة كونية مستقلة، لهذا عدّ رفض الديمقراطية الحصارية دليلاً قاطعاً على أحادية النموذج الذي تراد فرضه على المستضعفين.

العولمة بهذا المعنى ليست في حقيقة الأمر إلا تسويقاً جديداً لأفكار سابقة عرفت في ماضى الأيام «بالثقافة الواحدة والوحيدة»، وهي النموذج الوحيد للخروج من دائرة التخلف والخلوص إلى التقدم وفق بعض التصورات، وقد عبر الدكتور على شريعيّ بمصطلح «Monoculture»(18).

ووجه الصلة بينهما حتتي حسب تقديرنا ، إذ تتجلي في العولمة المنهج العالمي الموحد للانعتاق من التخلف وولوح طريق التقدم ، وقد صوّر هذا المسلك في طريق وحيد لا محيد عنه، حتى صوّر لنا اننا أمام جبرية جديدة ليس في مقدورنا التفكير في مواجهتها، فضلاً عن مواجهتها بالفعل، فمن أرارد التقدم فهذا هو المسلك (19)ولا طريق غيره، كما تتجلي في الثاني (الثقافة الوحيدة) بوصفها المسلك الوحيد للتقدم، فصارت وفق هذا االتصور الثقافة تستورد كاستيراد المواد الغذائية، فمن أراد إمتاع الجسد فهذا طريقه الوحيد، ومن أراد التحضّر والتقدم فهذا مسلكه الوحيد أيضاً (وهو طبعاً الطريق الغربي عندهم).

ومن أهم مظاهر الثقافة الوحيدة التى يراد تبربر فرضها: العلمانية زالنموذج الأمريكي للديمراطية وحقوق الإنسان في الأوساط الإسلامية، بشرط أن لا تكون وسيلة لديمقراطية حضارية؛ لأنها .

بذلك تصبح خطراً على النموذج الذي يبشرون به في العالم كله، وهي ولا شك من أهم عوامل تلويث البيئة الفكرية إذا ليس بمستطاع المفكرين المستقلين عن النمط الفكرى الأمريكي في ظل النظام المسلط على المستضعفين وفق رأي كثير من الساسة والمثقفين السئرين في ركابهم.

يتجلي في العاملين السابقين التلويث المقصود للبيئة الفكرية في العصر الحديث، لهذا يقال لنا ولسائر المستضعفين – وفق بعض التصورات – إما أن تدخلوا الصف مختاريين وأما ستدخلونه مرغمين، وفي ظل هذا التلويث ماالذي يجب القيام به؟ وهو السؤال المفروض أن يفكر الجميع في الإجابة عنه بطريقة موضوعية، ولعل من العناصر الأولية للإجابة أن نبتعد عن تولى وظيفة الآخر في تثبيط العزائم، فإننا وإن لم نتمكن من المقاومة فينا كقوة كامنة مبلّغة إلى الأجيال اللاحقة، وبهذا تكون قد قمنا ببعض ماعلينا من تكاليف شرعية وذلك يحقق أقل مايجب علينا تجاه الأجيال اللاحقة.

والمهم حسب تقديرنا في هذا السياق أن نؤسس لحسن السؤال الوظيفي وإن كان الجواب التفصيلي صعب المنال في إطار الجهود الفردية، والأهم من كل ذلك أن نكشف أثر هذه الأفكار (العالمية) في تلويث البيئة الفكرية، لهذا أدعو إلى الحذر من خطورة التلسيم لهذه القوى المهيمنة على الثقافة والسياسة والاجتماع، فإننا – وإن فصّرنا في القيام بالواجب – ملزمون شرعاً وعقلاً ومن منظور تبرئة الذمة الشرعية، التى من متطلباتها تبرئة الذمة الحضارية، بتعهد بذرة المقاومة الفكرية في نفوس أبنائنا وحملة ميراثنا، فلا نقوم مقام الآخر في تسويق أفكاره ومبادئه التى يهيمن بها على العالم من جهة، وتفجير التفكير في التحرير من جهة أخري، فضلاً عن التجسيد الحضاري والتربوي لفكرة الانعتاق نفسها.

5/4/2 : العناصر المعرفية :

يلاحظ المسلم المعاصر غياب القراءة المنهجية لخبراتنا المعرفية؛ إذ يغلب على جهودنا الجانب الكمي على حساب القراءة القراءة الوظيفية الانتقائية، وبفعل أساليب التعليم غيّب السؤال المنهحي والموضوعي في مناقشة قضايانا الفكرية والحضارية، وقد ولد هذا النمط من التعلم والتعليم منهجاً معيناً في الاوساط الأكاديمية، ونظراً لغياب هذا التساؤل المنهجي في كنف نقص فظيع في الجوانب النفسية من التربية الفكرية، نهتم بمسائل ميتة في تاريخنا الثقافي، فأحييت القضايا الميتة من خبراتنا المعرفية، واشتغل الناس بها عن القيام بالتواصل الحضاري مع الأجيال بل ومع الإنسانية في كنف الميزة الإنسانية لديننا الحنيف، إذ من أهم أبعاده ومقاصده التعامل الإنساني وإشاعة الإنسانية في التعامل.

ورأس البلايا في  لتربية الفكرية في جانبها المعرفي قلة الاهتمام بالثقافة العامة بجميع مضامينها، وهيمنة القراءة، التماساً للبركة على حساب القراءة الوظيفية الهدائية، وقد نتج عن هذا النمط من القراءة والكتابة تغييب المساءلة المنهجية في جميع قضايانا، وجاوزوا ذلك إلى إنكار المساءلة المنهجية والقائمين عليها بوصفها بدعة لدى البعض، ومدعاة لفتح باب موصد بإحكام لدي البعض الآخر أو قد يترتب عليها زلزال جديد على مستوى المسلمات الفكرية لدى فريق ثالث، والقطعيات الفكرية – بفعل التاريخ والتكرر- لدي البعض الآخر، لعل أصدق أنموذج على الدعوة لقراءة جديدة وظيفية موضوعية علم مقالات الإسلاميين، وهو موضوع شائك حسب تقديرنا، يستدعي نوعاً من الحضور الإيماني المستمر حين القراءة والكتابة أولاً، زيادة إلى وقادة فكر وتكوين منهجي رسالي (في موضوع الالتزام والتساؤل الموضوعي والمنهجي).

وبهذا الصدد يعد عدم الالتزام بهذه الضوابط تغييبا للتقوى في جانبها المعرفي، لأن المسلم لايصعب عليه استحضار التقوى في جانبها الاجتماعي والأخلاقي والأدبي، ولكن من الصعوبة أن يستحضر التقوى حين ممارسة البحث أولاً والتعبير عن نتائج ذلك البحث ثانياً والمسألة في غاية التعقيد، نظراً للتدخل الكبير بين المذهب والدين – على مستوى التصور – ولا شك أن التوفيق في هذا الأمر عزيز جداً، ولعل أصدق أنموذج على ذلك ماكتبه العلاقة جمال الدين القاسمي في كتابه: الجرح والتعديل، والمعتزلة والجهمة.

سادساً: الإعداد الفكري لمواجهة الملوثات:

معلوم أن صرف دواء العلاج يكون وفق التشخيص؛ لهذا فإن مقترحاً منسجم كل الانسجام مع ما سبق تقريره من ملوثات، فتعرض عناصر الإعداد الفكري لمواجهة تلوث البيئة الفكرية على النحو اللآتي:

1-    عناصر الإعداد في التصورات (الإعداد الإيماني).

2-    الإعداد المعرفي.

3-    الإعداد النفسي.

6/1: عناصر الإعداد في التصورات:

6/1/1: التأثير العام:

تبدأ عملية إصلاح التصورات ببيان مركزتيها في تطهير البيئة من الملوثات، فالعقيدة الإسلامية ليست من قبيل المعارف الصرفة التي لا تبني قصراً ولا تهدم مصراً، بل هي محرك النفوس للتأسيس الحضاري المنشود، إذ هي قوة الدفع الداخلية في العملية التغييرية على مستوى الأنفس أولاً ثم على مستوى الآفاق ثانياً، وإذا كان للتصورات وفق النظرة التوحيدية هذه المنزلة فينبغي أن يعمل كل في دائرة عمله على ترسيخها في الضمير الشعبي والوسط التعليمي.

ويحقق هذا التصور بعداً إنسانياً على مستوى التصرفات البشرية عامة، سواء كانت أعمالاً علمية أو سياسية أو ثقافية أو اجتماعية ، فمثلاً منتهى الأهداف المحركة للأداء العلمي المستمر ربط الهمة بمرضاة الله تعالى ، ومرضاة الله غاية لا تدرك مع كمال الرضا؛ لأن كل من سار في نهجها أحس بالتقصير ، وكلما أحس بالتقصير كان أكثر خدمة للمجتمع، بل كلما سار المسلم في طريق طلب كمال الرضا كلما ازداد اندفاعاً نحو الخدمة العامة ( بجميع اشكالها – اجتماعية، وفكرية، وسياسية، وتربوية، وحضارية… حتى الرياضية) من خلال الإحساس المستمر بالتقصير.

والبعد الإنساني المشار إليه أعلاه بصبغ الأداء الاجتماعي والأدبي بنفس الدرجة التي يؤثر بها على الأداء المعرفي في جانبه التعليمي، سواء كمعلم أو كمتلقي، هذا بالنسبة للمدخل العام في مسألة التصورات وصلتها بتطهير البيئة الفكرية، أما تفاصيل المسألة، فسنعرض جزءاً منه في الفقرات اللاحقة.

6/1/2: فعالية التوحيد في تهيئة البيئة الفكرية:

بناء على ما سبق تقريره، نركز على بيان أهمية التوحيد في تطهير البيئة الفكرية، ويستشف هذا الأمر من خلال العمل الكبير الذي يقوم به التوحيد في جاني التخلية والتحلية، فعمله عظيم في تخلية القلب من كل مضادات التوحيد، لا بوصفها من مضادات العقيدة الإسلامية فحسب، بل لكونها ملوثاً قوياً لأصل الفطرة التي خلق عليها الإنسان، وبالتالي فهو ملوث للبيئة الفكرية الصحيحة، وتعرض العقيدة الإسلامية حقائق التوحيد لتحلية القلب والعقل بها في اللحظة نفسها التي تقوم بالتخلية ( إفراغ القلب من مضادات التوحيد) ، وكل ذلك بمثابة إعداد فكري لأساس التصور الموضوعي لعالمي الأنفس والآفاق؛ ليتسنى للإنسان التعامل الموضوعي مع عالمي الأشياء والانسان في إطار غائية واضحة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بماهية الإنسان ( خليفة الله) الراسمة لوظيفته الاجتماعية والمحددة لمفهوم حريته المكتسب بالتكليف.

يوضح المسألة نماذج من مضادات التوحيد، فمثلاً هل يصح أن يكون الكفر أو الشرك أو النفاق كأساس لتحليل الواهر الكونية والإنسانية، الشرك هو الازدواجية في الحكم على أشياء من طبيعة واحدة، وكذلك الحال بالنسبة للنفاق سواء في بعده العقدي البحت أو من حيث آثاره الأخلاقية المؤثرة في الجوانب المعرفية سواء في القراءة أو البحث أو تبليغ البحث؛ لأن النفاق هو اتخاذ موقفين متعارضين اقتضتهما المنفعة ( الغنيمة) وليس المعرفة؛ لهذا يجب العمل على تطهير البيئة الفكرية من مثل هذه الأمراض الخطيرة على التصورات أولاً، وأثرها الوخيم على البيئة الفكرية ثانياً.

وطريق الإصلاح هو العلم وتبليغ العلم والعمل بمقتضاه، وأول من يوجه إليه هذا الخطاب من أجل مساهمة في تطهير البيئة من النفاق، هم أهل السلطان في المجتمع، سواء كان هذا السلطان ثقافياً أو مالياً أو سياسياً؛ لأنهم أول المسؤولين عن سيادة التزلف والتملق والنفاق في الحياة(20) العامة وعلى جميع الصعد الثقافية والفكرية والسياسية والحضارية، ثم يبلغ بعدها أفراد الأمة من معلمين ومتعلمين ووعاظ ومرشدين وسائر الناس بخطورة النفاق على الأنفس وتلويثه البيئة الفكرية والأخلاقية.

وبهذا الصدد يحسن التنبيه إلى بعض أساليب النفاق في تلويث البيئة الفكرية:

6/1/2/1: أساليب النفاق في تلويث البيئة الفكرية:

·        الإعراض عن البحث الموضوعي وتعويضه بالاهتمام المهرجاني في تحصيل العلوم وتبليغها.

·        العمل على تمكين الجبن المعرفي من خلال زعزعة ثقة الناس بأنفسهم.

·        الاتصاف بالشح العرفي.

·        التخاذل عن نصرة البحث العلمي الموضوعي.

·        زرع البلبلة الفكرية من خلال شغل الناس بقضايا ميتة من تاريخنا، بل قد يشغلوننا بما يهدر طاقاتنا فيما لا طائل منه.

·        تأسيس المؤسسات الضرار في المعرفة، بغرض استقطاب العناصر القلقة المضطربة أولاً، وتشكيل الأذكياء ونجباء الطلبة ثانيا، أو على الأقل شغلهم عن أصل ما تصرف من أجله الأموال وتتعلق به الهمم(21).

6/2 عناصر الإعداد المعرفي:

سبق وأن ذكرنا بأن من أهم ملوثات البيئة من الناحية المعرفية، غلبة الجهل، وهيمنة التقليد، ووقوع العقول والقلوب في هاوية المكبلات الفكرية، مما ولد الاستخفاف وقبوله في بيئتنا العربية الإسلامية، والذي قد يتلبس بأحادية المنهج في بعض الأحيان، ومما زاد الأمر شناعة أو تغيب النقد المقاصدي الذي يستحضر دوماً الأساسيات التي تجمع وتبعد ما يفرق إلى حين (بعد بحث كل ما يلم الشمل).

6/2/1: الإعداد لموجهة الجهل:

الجهل بوصفه ملوثاً للبيئة الفكرية ينقسم إلى قسمين، أولهما يدرج فيه أولئك الذين لا يعلمون ويعلمون انهم لا يعلمون – الجهل البسيط – وثانيهما يندرج فيه أولئك الذين لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون – الجهل المركب – فالأول أمره في أبسط ما يكون؛ إذ يملك في نفسه استعداداً أولياً  للتعلم من خلال الاعتراف بالجهل ، فما على القائمين على التوجيه إلا التلطف في التبليغ المعرفي بغرض تخليه القلوب والعقول من الجهل وتحليتها بالعلم مشفوعاً بجانبه الوظيفي، كي لا تكون المسألة المعرفية في مواجهة الجهل مواجهة مع الجاهل بقدر ما تكون مواجهة للجهل، أي يجب تحرير الأنفس من العناصر النفسية التي تعيق عملية التبليغ، إذ يعد عدم استحضارها حال التبليغ استفزازاً لملوث من ملوثات البيئة الفكرية.

أما بالنسبة للفريق الثاني (الجهل المركب) فأحسن أسلوب في تبليغهم، أن يجمع الخطاب بين مخاطبة العقل والقلب في نفس الوقت وبنفس القوة وفق مسلك القرآن الكريم، ومن رام تجاوز هذا المسلك قد يفضي عمله إلى نقيض القصد، فتشتد كراهية المنصوحين لأهل التصحيح، ويزداد خبثهم ومكرهم، بل يجاوزون ذلك إلى الإصرار على ما يعتقدون وقد يجرون بفعل الاستفزاز قبل التذكير إلى الانفعال الذي يولد عنفاً لفظياً في بداية الامر ليتحول في مقابل الأيام إلى عنف مادي.

والمهمة حسب تقديرنا تستدعى تضافر جهود الجميع وعلى رأسهم أهل التعليم والتوجيه والوعظ والإرشاد وأهل السياسة والقانون من خلال منظوماتهم وممارستهم، ورجال الفكر والثقافة… كل في اختصاصه، ورغم أهمية عمل الجميع في تطهير البيئة الفكرية من الجهل وتوابعه، فإن للقرار السياسي الراشد دوراً أهم ومهمة أعظم في إصلاح النفوس وتطهيرها من الجهل من خلال ربط ولاية المناصب وإعطاء المكاسب بالعلم أولاً لا بالولاء، وإن كان ولابد من شرط الولاء- كضرورة عملية يقتضيها الانسجام بين المسيرين – فلابد أن يكون بعد العلم لا قبله.

6/2/2: معالجة هيمنة التقليد:

يجب أن يعلم المسلمون أن الإسلام في حقيقة الأمر هو دعوة مستمرة ودائمة للتحرر من التقليد بالتأصيل، وطريقها المراجعة الدائمة لخبراتنا المتنوعة، وخبرات الإنسانية بالوحي، كتاباً وسنة؛ لأن الوحي من أهم عناصر تطهير البيئة الفكرية من التقليد، وما جاء الإسلام إلا من أجل تقديم البديل الحضاري المؤسس على الإقناع والاقتناع – محرك أساسي للأداء الحضاري المنتظر – لتجاوز التقليد بالتأصيل.

والتقليد بوصفه من اهم ملوثات البيئة الفكرية لا ينحصر أثره في جانب على حساب آخر، بل ينسحب على العقيدة بالدرجة نفسها التي ينسحب بها على المعرفة والسياسة، ولا يتوقف على إحياء أفكار الشرق القديم أو حديث بل يشمل أيضاً الدعوة إلى تقليد الآخر من خلال خلع صفات العلمية والحضارية على كل ما يأتينا من الغرب، فالحداثيون مثلاً بدعوى التجديد استبدلوا تقليداً بتقليد، وهم حين يفعلون ذلك يلوثون البيئة الفكرية بدعوى تطهيرها (رمتني بدائها وانسلت) من التقليد فيرتمون في تقليد أشنع.

وتجاوز التقليد حسب تقديرنا لا يكون إلا بإشاعة التعليم، وبيان أهمية المصادر الإسلامية في المراجعة الدائمة للتقليد المعرفي والسياسي والفكري بغرض التمحيص المستمر لخبراتنا – طبعاً من قبل أهل الاختصاص – والتأصيل لمواجهة التقليد.

قد نجد صعوبة في مواجهة التقليد لا تقل عن الصعوبة المنتظرة من مواجهة الجهل؛ لهذا يجب استصحاب متعلقات التقليد حين صياغة الخطاب العلمي والتوجيه الذي يصلح التقليد بالتأصيل، ولعل من معلقاته الأسرة والسياسية والمنفعة المادية والمعنوية والهيبة الاجتماعية ، ومن ثم كان الارتباط بهذه الأمور من ملوثات البيئة الفكرية حال تمكنها الكلي من النفس والقلب، بحيث يصبح القول ما قال المقلد – بفتح اللام – وما قال المقلد فصدقوه، ومن نافلة القول التأكيد على تجنب جعل المطارحة التربوية في التقليد مسألة يراد بها كسر شوكة فلان أو علان؛ لأنها لا تزيد المقلد إلا تشبثاً بأفكاره السابقة، فيفضى العمل التوجيهي حين فقده لتلك الشروط النفسية إلى نقيض المقصود، فيزداد التقليد شناعة دفاعاً عن مكسب أو جلباً لمنفعة؛ لأن الدفاع عن التقليد ليس قضية معرفية بقدر ما هو قضية منفعية سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو فكريه…

6/2/3: تحرير العقل والقلب من المكبلات:

يتجلى تحكم المكبلات في القلب والنفس البشرية ف عدة صور، أولها الاستخفاف المعرفي أو قبوله، وثانيهما أحادية المناهج المحكمة في جميع العلوم.

6/ 2/3/1: التحديد الدقيق للمصطلح:

يراد بالمكبلات المعارف المسبقة التي تحول دون القراءة الموضوعية للأفكار القابلة والحاضرة، فتكون تلك المعارف بمثابة محدد لمنهج القراءة بل قد تطال موضوع القراءة نفسه، فينر إلى المعارف من منطلق المعارف السابقة وفي كنفها؛ لأن المكبل بتلك المعارف يكون مقيد الإرادة موجه الاهتمام، مثاله من يريد أن يفهم العالم من خلال قريته أو مجتمعه، أو من يروم فهم عالم الأفكار من فكرة معينة يحكم إليها جميع المنتجات الفكرية، وهو بهذا لا يختلف عمن رأى فأراً ثم كف بصره، فإذا سئل عن سور الصين، قال: كم يعادل من فأر؛ ولهذا كانت المكبلات الايدلوجية أو الفكرية ملوثة للبيئة الفكرية، يجب العمل على تطهير البيئة الفكرية منها بطريق تربوي راشد، ومواجهة هذا الأمر نقتضى قطع الطريق على كل ما من شأنه تطبيع هذا الأمر أو تذكيته، فيعمل المثقفون على تكريس استهجان هذا المسلك في الأوساط العلمية ثم الشعبية .

ومن ماهر المكبلات الرواسب الفكرية المتلبسة بالاستخفاف المعرفي حيناً وأحادية المنهج في تحصيل العلوم او تبليغها، ومن هذا المنطلق سنتناول عرض المسألتين في سياق الحديث عن المكبلات.

6/2/3/2: الاستخفاف المعرفي أو قبوله:

كثيراً ما يكون الاستخفاف بالآخر من متطلبات الحيلولة دون وصول الآخر إلى عمق الفكر الذي يراد فرضه على الساحة العلمية والحضارية، فيكون الضغط الأدبي سبباً في إبعاد الناس عن المناقشة الموضوعية من خلال الاستخفاف بهم بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر، وبهذا يمكن تلويث البيئة الفكرية بوصفه مانعاً من القراءة الموضوعية للمسائل المعروضة للنقاش.

والاستخفاف ليس شنيعاً حال صدوره عن الجهلة، لأنه ليس غريباً صدور مثل هذه الأفعال عنهم، ولكن شناعته في صدورها عن أهل الفكر والثقافة والسياسة؛ لأنهم بصنيعهم هذا يساهمون في تمكين الاستخفاف بالعلم والفكر من ضمير الأمة، وبهذا يساندون على تلويث البيئة الفكرية.

والاستخفاف الآنف الذكر لا يقل شناعة عن قبول الاستخفاف المعرفي بوصفه استجابة إرادية لمستخف؛ لأنه وسابقه يهيئ لتلويث البيئة الفكرية من خلال خلع نوع قداسة على أشخاص معيين، ولتجاوز هذا الداء يحسن أن لا يأخذنا في المعرفة والفكر لوم لائم، فنبحث الأفكار والمسائل بكل موضوعية غير آبهين بمستخف أو قابل له، وبذلك نساهم في تطهير البيئة الفكرية من هذه الأمراض الفتاكة، فنكون خير أنموذج معبر عن بطلان أفكار المستخفين ( مهما كانت مناصبهم ومكاسبهم) بالعلم والفكر، وأنموذجاً علمياً لتربية القابلين للاستخفاف بغض إخراجهم مما هم فيه.

6/2/3/3: أحادية المنهج:

يتصور بعض الباحثين ن اندراج مواضيع مختلفة تحت اسم العلم، يقتضى اشتراكاً في منهج الدراسة، وقد تمثل هذا الرأي المعجبون بالفلسفة الوضعية ردحاً من الزمن، ورام تحقيق ها المسلك رواد الفلسفة المادية، إذ حاولوا تحليل كل الواهر الإنسانية والكونية في إطار هذه الرؤية الفلسفية، رغم علمنا يقيناً بان تعدد موضوعات العلوم يقتضي تعدداً في مناهج تناولها، فلا يمكن تطبيق المناهج التجريبية على القضايا الغيبية؛ لأنها ليست من طبيعة مخبرية ، أو تحكيم مناهج المحدثين في الخبرة الصوفية، أو تطبيق المنهج الصوفي في قبول الحديث أو رفضه ، إن التعدد المنهجي في تناول العلوم ودراستها حقيقة واضحة حتى في الموضوع الواحد من العلوم، مثاله بحث مسائل الكلام على مشرب المعتزلة يختلف عن طريقة بحثه لدى الأشاعرة وهو بدوره متميز عن ما هو عند غيرهم كابن تيمية و…. وهكذا في سائر مباحث المعرفة سواء في العلوم الإسلامية او غيرها.

وأظهر أنموذج في أحادية المنهج الذي يراد فرضه في عالمنا الإسلامي تصوير البعض أن طريق الخروج من التخلف إلى التقدم هو الطريق الذي رسمه الغرب ممثلاً في أمريكا مصدقين ما قاله أحدهم ” إن النموذج الأمريكي في السياسة والحكم والفكر هو النهاية العظمى لما يمكن ان يبلغه الفكر، فهو بمثابة الأنموذج النهائي المطلق الذي يجب أن يقتدى به كل من أراد التنمية والانعتاق وحقوق الانسان”… إلى آخر الموشح.

وهذا ليس مستغرباً صدوره من مثل هذه القوى؛ لأنها بذلك تدافع عن مصالحها الحضارية والفكرية بواسطة تخليه الأفكار من عناصر المقاومة ثم تحليتها بالعناصر التي يراد تحليل تاريخ الإنسانية ومستقبلها في كنفه؛ لهذا يجب العمل بجد على تطعيم أبنائنا بالفكر والعلم لمواجهة مثل هذه الملوثات الفكرية بوصفها مانعاً قوياً – حين التسليم بها – من التفكير الصحيح، وموجهاً للفكر نحو البحث في قضايانا والحيلولة دون بحث قضايا أخرى.

كما يجب العمل على منع قبول فرض هذا الأنموذج الفكري على عالمنا الإسلامي؛ لأن تمكين هذا الداء من الأمة سيحول دون التفكير في انطلاقه حضارية أصيلة؛ لأنها ستأتي على عناصر المقاومة الفكرية من الأساس وفي ذلك أكبر الخطر على حاضر الأمة ومستقبلها.

6/2/4: غياب النقد المقاصدي:

يهيمن على عملنا النقد في ميادين الفكر والساسة التعلق باستعراض القوة الخطابية حناً والمادة حيناً آخر، فننقد للنقد انتصاراً للنفس ورغباتها ونزواتها) قد يصبح العمل النقدي أشبه بالعبث المختصر أساساً في قتل أوقات الناس فيما لا طائل منه)، لهذا يغيب السؤال عن مقاصد النقد وأهدافه، لماذا النقد؟ وما هو موضعه من البناء الحضاري المنشود؟ وهل يحقق ما يهدف إلى تحقيقه؟

وتعود الغفلة عن الرؤية المقاصدية في التحليل والنقد إلى عدة عوامل، يتخلص بعضها في عناصر معرفية، ويعود البعض الآخر إلى عناصر نفسية، فالعناصر العلمية تختزل في غياب المراقبة الذاتية بطريق التساؤل الموضوعي الذي يتوخى إعطاء الناس حقوقهم أو على الأقل عدم الوقوع في ظلمهم معرفياً واجتماعياً (ولأن يخطئ أحدكم في الصفح أحسن من أن يخطئ في الظلم)، وهي بدورها تعود إلى إهمال القراءة الوظيفية المستمرة لجهود الآخر وفق ما يريد تصوره لا وفق فهمنا لجهوده، أي يجب موضوعياً استصحاب أجواء الحمل بالأفكار وظروف ولادتها؛ لأننا حين استصحاب ذلك سنتلمس العذر لأصحابها وإن خالفناهم في تبنيها جملة وتفصيلاً، وفي ذلك أقصر طرق التواصل المعرفي المطهر للبيئة الفكرية من التشنج والنقد الانفعالي، والمؤسس للتواصل الاجتماعي والتعاون والحضاري.

ولتطهير البيئة من هذا الوباء ، يحسن استحضار التساؤل عن المقاصد في المراحل التي يقطعها الفكر بدءاً بالإجابة الدقيقة عن سبب التطلع إلى النقد ثم رسم خطة مضبوطة لتحقيق المراد المشروع من النقد، بشرط أن تتصف بالعلمية جميع المراحل التي قطعها الفكر من المقدمات إلى النتائج، ولا شك أن ذلك سيحقق مجموعة لا يستهان بها من العناصر الضرورية التي تعد بمثابة تطعيم للنفس من مثل هذه الأدواء، فيهيئ هذا العمل لقبول الآخر من الناحية الفكرية، وهو المسلك الأول والأساسي لاستقطابه على مستوى الفعل الاجتماعي للمساهمة في البناء الحضاري المنشود.

إن النقد المقاصدي -حين الإجابة الموضوعية عنه – سيحرر النفس والعقل من كثير من الأمراض، يحرر القلب من الانشداد إلى الدنيا والاستبداد وحب الرياسة والتطلع إلى غلبة النفس على حساب الحق والحقيقة…. كما يحرر العقل من الأفكار والمسبقة والاحكام الجاهزة، ويشجعه على البحث الفكري الهادئ دون خوف أو جل، يتوخى في كل ذلك مرضاة الله سبحانه وتعالى، وفي ذلك أكب ضامن للموضوعية المتباهي بها بين الأمم والشعوب؛ لهذا كانت التقوى في جانبها المعرفي أحسن مظهر للبيئة الفكرية في مثل هذه الأوبئة.

6/3: الإعداد النفسي:

تعد العناصر النفسية من أهم المؤثرات على الأداء الفكري وذلك بسبب مساهمتها ف البيئة الفكرية سلباً وإيجاباً، فقد تكون مطهرة كما يمكن أن تكون ملوثة، فالفكر وإن كان ثاقباً لا يمكن أن يحقق مقاصده ما لم يكن وعاء الشعور (الوجدان) سليماً معافي من أمراض تحول دون تحقيق الفكر لأهدافه وغاياته، فالعناصر النفسية تحد من فاعلية الفكر بنفس القدر الذي تكون به سبباً في انطلاقته، وهذا بقدر تحرر النفس من معوقات الإشهاد على الناس من الناحية المعرفة والحضارية والسياسية…

سبق وأن ذكرنا أن من العناصر الملوثة للبيئة الفكرية من الناحية النفسية التعلق بالدنيا، والاستبداد وقبوله، وشيوع روح التسليم، وفقدان عناصر التربية الفكرية.

6/ 3/1: التعلق بالدنيا:

الصراع الحضاري والسياسي يستعمل الصراع الفكري وسيلة لتحقيق المراد، وأساس الصراع الحضاري الرغبة في الغلبة – دولة على دولة أو حزباً على حزب أو شخصاً على شخص…. – هو العمل على الاستحواذ على الدنيا وملذاتها، يفسر هذا الامر الصراع القائم في كثير من أصقاع العالم، كما يمكن أن يكون الصراع بسبب إرادة بسط نفوذ جماعة على حساب أخرى بغرض تغليب رأي بواسطة طالبي الدنيا.

لهذا عملت بعض السلطات السياسية والثقافية على تمليك التوجيه الفكري بقرارات رسمية لشخصيات مخصوصة إما لكفاءتها الاكاديمية أو لأقدمية اكتسبوها في ميدان التعليم والبحث، ولعل من أشنع الصور أن يقع التوجيه في أيدي غير أمينة مشهورة بالتقصير، إذ فيهم من لا يرد في بلده يد لامس، فذهب إلى أوروبا أو أمريكا فأخذ شهادة مزورة يظهر أنها كتبت له لا يدري خباياها، وكأن الغربيين بتواطؤ من المحليين حملوا الدكتوراه سفاحاً(22).

ويظهر القصور في الأعمال الفكرية لطلاب الدنيا من المناحي الآتية:

6/3/1/1: إهمال الواجب التوجيهي:

حصر هذا النمط من المفكرين واجباتهم في كلمات تؤدي بقصور أو وفاء، ثم يقبعون في بوتهم بعد ذلك، لا ينصرون حقاً ولا ينشئون جيلا(23) تنازلوا عن دورهم في صناعة المجتمع، بل راموا تلويث بيئته الفكرية بتمكين حب الدنيا وكراهية الموت.

6/3/2/2: مماستهم للتضليل:

يكره العقلاء مثل هذه الأعمال ويدعون إلى محاربتها، وفي ذلك أردد معنى قول أحد اعلام الدعوة (24) ” إني أكره الشيوخ والمفكرين الذين يسترضون الرؤساء بالفتاوى الجهلاء، وتوجيهاتهم الغبية، إنهم يدورون-في الساحة السياسية (البرلمانات ومجالس الحكومات…. وفي الجامعات والكليات) – بذممهم كما يدور سائقو سيارات الأجرة بعرباتهم يتلفون، هل من راكب، قبحهم الله وقبح من كلفهم، وقبل منهم”.(25).

6/3/1/3: جعلوا الفكر معيباً بتصرفاتهم:

استمد اللذين اتهموا الفكر والمفكرين بعدم الفاعلية في التغيير من تصرفات أولئك الذين حملوا الفكر ما لا يطيق لا في بلاد العرب وحدها بل في أقطار أخرى، إنهم يسخرون الفكر لهوى الرجال والنساء، واخترعوا افكاراً-تزلقاً وطلباً لدينا – لا يقبلها من له ذرة عقل وشهامة، وما كسبوا بذلك إلا غضب الله سبحانه وتعالى، وكراهية الصالحين من عباده، وازدراء الجماهير المغلوبة على أمرها.

ويحق في هؤلاء (المفكرين) قول أحمد محرم في بعض علماء الدين:

أرى علماء الدين لا يحفظونه        ولا يرفعون اليوم رايته العليا

هم اتخذوا ما أحرزوا من علومه    سبيلاً إلى ما يبتغون من الدنيا

إذا ما اتاهم جاهل بضلالة          أتوه بألفي عالم يحمل الفتيا

6/3/1/4: المساهمة في تفريق الأمة:

يعمل هذا الصنف من العلماء على ” شغل الناس بقضايا نظرية عفي عليها الزمن أو خلافات فرعية لا يجوز أن تصدع الشمل أو تمزق الأهل” (26).

ونظراً لما لتلك التصرفات من أثر جسيم على حاضر الأمة ومستقبلها محلياً ودولياً عمل كثير من العلماء وألحوا على ضرورة إبعاد أمثال هؤلاء المفكرين من ضمير الأمة، والسعي إلى الحيلولة دون هيمنتهم على ميدان التوجيه، وبهذا الصدد يحسن إبعاد الأصناف الآتية:

·        يقصى من ميدان الفكر العلماء الذين يحرقون البخور بن أيدي الساسة المنحرفين ويزينون لهم نكوصهم ومجونهم.

·        يقصي من الميدان نفسه أيضاً اللذين يشغلون الناس بقضايا نظرية ميته عفي عنها الزمن، كما يلحق بهم النافخون في الخلافات الفرعة التي كان من المفروض ان لا تصدع الشمل او تمزق الأهل.

·        يلحق بالقائمة السابقة العلماء المفكرون الذين يظلمون الفكر بسوء الفهم، ويرونه ف السياسة والحكم والمال ظهيراً للاستبداد والاستغلال وإضاعة الشعوب (27)، بسبب تعلقهم بالدنيا ومطالبها، ومن تعلق بالدنيا فتن بها وأسرته فلا يقرأ بموضوعية ولا يوجه بموضوعية، لان موضوعيته نسبية تدور حيث تدور الغنيمة، وحيث تكون المطالب الدنيوية محققة في أكمل صورة فثم الموضوعية.

وأصدق علاج لها النسيج على وفق نسق التذكر القريني الجامع بين مخاطبة الوجدان والعقل، أي التذكير العقلي المخاطب للفكر والقلب في اللحظة نفسها، لأن طالب الدنا لا دواء لمرضه غر محاولة ربطها بهدف أخروى يوسع من الدنيا ويجعلها مسرحاً للاستكثار من الخير ودافعاً – بالنظر إلى زوالها المرتقب – لاستثمارها في الخير بغرض طرد خوف الفناء بطلب البقاء عند الله تعالى، فما قدم الله تعالى بقي وما قدم لغيره فني، إنك يا طالب الدنيا بالفكر قد أسرت تفكيرك وعرضته للبيع بأبخس الأثمان ، فكان الأصل أن يكون تفكيرك وسلة لتحريرك وتحرير غيرك، فكيف تجعله مطية لأسر نفسك وفكرك وغيرك؟

6/3/2: دواء الاستبداد وقبوله:

الاستبداد الفكري ظهير الاستبداد السياسي والاجتماعي، بل يعد الاستبداد السياسي والفكري توأمان كل واحد منهما يعد طريقاً للآخر، وكلاهما يحمي بالتنظيمات القانونية والسياسية…، ولهذا فالاستبداد خطير بصفة عامة، ولكنه يزداد شناعة حال تلبسه بالدين، لصعوبة تحرير النفوس منه؛ لأنهم يتصورون تحرير الأنفس منه عملا على تحريرها من الالتزامات الشرعية.

لهذا يعمل فقهاء السلاطين على ترسيخ القول بأن لا فائدة مرجوة من الحرية والمساواة؛ لأنها – حسب تقديرهم – نقض للمحرمات الرسمية (ليست الشرعية) وتشكيك في التقاليد ومساواه بين عليه القوم وسفلتهم…

وهكذا تصور الدعوة إلى الحرية الفكرية دعوة إلى الفوضى، حتى ليغدوا الاستبداد في صورتيه السياسية والفكرية أرحم على الامة من الحرية، بل وقد يكون في تصريحات المتزلقين ما يدل على أن الاستبداد أكثر انسجاماً مع الطبائع البشرية، رغم علم كل العقلاء أن الحرية من لوازم الإنسانية ومن أسس التشريع واساس التكليف(28).

وحال الاستبداد الفكري لا يختلف حسب تقديرنا عن قبوله؛ لأن المطيع للمستبد لا يقل جرماً عن المستبد نفسه، وما استبد من استبد إلا بمساعدة وتشجع-مباشر وغير مباشر-من قبل القابلين لأفكاره وتوجهاته. ولتجاوز هذين المرضين الخطرين يجب ترويض النفس على التزام الرؤية الموضوعية المبنية أساساً على تقوى الله تعالى وطاعته، ولا يتأتى لها تحقيق مقاصدها بغير معاندة الهوى واجتناب الشبهات والتورع عن المآثم صغيرها وكبيرها، حتى يحصل الباحث المسلم على ملكة التقوى والعدالة(29).، وتجتمع فيه الاوصاف التي قررها الشارع الحكيم، واقرب ما يحقق به تجاوز الداءين التذكر الدائم للتكريم الإلهي مع كونك مخلوقاً تابعاً لخالقك في أصل خلقك وبقائك ومصيرك، إذ بالشق الأول يطرد قبول الاستبداد من النفس، وبالثاني يمنع الاستبداد، واحسن ما يبلغ به هذا المضمون العقدي الجمع بين مخاطبة العقل والقلب في ذات الوقت.

6/3/3: طرد روح التسليم:

التسليم المطلق للغالب السياسي أو الفكري أو الحضاري من بنيات قبول الاستبداد بجميع أشكاله وأنماطه، والتسليم بالتسليم بها ولها، حتى يصبح التفكير بتغيير الوضع غير العادي فعلاً غير عادي، هذا مجرد التفكر أما مباشرة ذلك فيعد لدى البعض من أشنع المنكرات.

ونظراً لتطبيع الوضع غير العادي يصبح العمل على تنقية البيئة من هذا المرض من أصعب الصعوبات، إذ كلما رام المفكرون تجاوز هذا الدا واجهتهم عقبة كأداء أقام أركانها المستفيدون من الوضع غير العادي.

تبدأ عملية إصلاح الوضع لنجاوز هذا الملوث ببعث المساءلة الموضوعية عن أصل المسائل المسلم بها ومقصد التسليم بها، هل يعود إلى الإكراهات الواقعية أم يعود على محاولة إخراج بعض القضايا من دائرة الحوار إلى دائرة المحظور الذي يحرم بحثه والتفتيش في أصله؟

ويحسن حين عرض المسألة تجاوز طرح القضية في جو التشنجات والانفعالية، بل يجب تهيئة الجو الهادئ والظروف العادية التي لا يحس فيها المحاور (بفتح الواو) بأنها قضية شخصية غرضها إثبات عجزة وقلة حيلته، بل يجب أن يعمل على إقناعه بأن من مصلحته بسط البحث في القضة بشكل موضوعي، وليكن الغرض المتنبي-على الأقل من الناحة النظرية-من الحوار أن يقنع أحد الطرفين الآخر؛ لأنه بهذا يدرك بأنه دخل ومحاورة ميدان النقاش على قدم المساواة، وهي أقصر طرق تهيئة النفوس للحوار الهادف الهادئ.

6/4: اكتساب عاصر التربية الفكرية:

تكتسب عناصر التربية الفكرية بالتعليم والتذكير التربوي والتعليمي، وتنقسم هذه العناصر إلى نمطين، أولهما يشمل العناصر النفسية في التربية الفكرية، ويضم الثاني العناصر المعرفية في التربية الفكرة.

6/4/1: العناصر النفسية:

تبليغ المعرفة وتعلمها يفرض توفر شروط تعد بمثابة بعث الاستعداد النفسي للتعليم والتبليغ، وفقد هذا الاستعداد من أبرز موانع تحقيق المقصد من العلم والتفكير.

يخلق الانسان مزوداً بهذه العناصر النفسية إذ هي كامنة في النفس الإنسانية، فإما أن تنميها التربية الفكرية والمنظومات الاجتماعية والقانونية فتخرجها من طور القوة إلى الفعل أو تفجرها فتقضى عليها في مرحلة التعليم الابتدائي ويرسخ الحكم عليها سائر مراحل التعليم، وما دام أمرها كذلك فيجب العمل على ساعدة الانسان على اكتشاف نفسه من خلال إخراج استعداداته النفسية من طور القوة الكامنة إلى القوة الحية الفاعلة، وطريق ذلك تذكيره بقوته من خلال ترسيخ فكرة التكريم الإلهي المربوط أساساً بكرم الله تعالى على الإنسان.

أيها الإنسان لقد خلقك الله تعالى حراً بالتكليف فأكسبك قدرة وإرادة ورغبة، فإذا أردت الحفاظ على قوتك وإرادتك فيجب التحكم في رغبتك.

إن أول مراحل التغيير النفسي العمل على تكون الرغبة على وفق مراد الخالق عز وجل، وإذا تحقق هذا المقصد سهل بعدها استعمال الإرادة فيما تشتهي النفس، كما يسهل في ذات الوقت إعمال القدرة في سبيل ما رسمته لنفسك حين حررت رغبتك من وأدها العلمي.

إن أول ما يظهر البيئة الفكرية تحضير الشروط النفسية المتحكمة في الانسان من الداخل سلباً وإيجاباً، فإذا اكتشفها الانسان وأعملها فيما جعلها خالقها له حققت مقاصدها أو قربت منها على الأقل؛ لهذا نعمل على تذكير الناس بقدراتهم الكامنة التي خلقوا مزودين بها لغرض ويفي منسجم مع ماهية الانسان ووظيفته الاجتماعية ورسالته الحضارية.

6/4/2: العناصر المعرفية من التربة الفكرية:

لا يمكن ان تحقق العملية الفكرية نتائجها المنتظرة بسلامة الاعداد النفسي البحت، إذ يجب مع ذلك توفر شروط معرفية لا تقل أهمية عن العناصر المشار إليها أعلاه، فحتى وإن اكتشف المسلم قوته الكامنة من الناحية النفسية فهذا لا يغير من المسألة شيئاً، إلا إذا واكب هذا الإحساس موقف عملي لتحقيق المرغوب الموافق للإدارة، فهل يتحقق المرغوب بسلامة الشروط النفسية وحدها؟

الأصل أن يترجم اكتشاف الاستعدادات النفسية في التربية الفكرية إلى موقف عملي يترجمه التزود بالمعرفة وتبليغها ومناهج دراستها، من هذا المنطلق تنصب جهود الباحثين والمفكرين على إشباع حاجة الانسان إلى المعرفة الوظيفية، ولا يتأتى تحقيق المراد من المعارف المكتسبة إلا إذا أحاط المفكر بمسالك تبليغها، وقبل ذلك جب ان يدخل تلك العلوم من أبوابها من خلال قراءتها المنهجية المنسجمة مع طبيعة ذلك العلم، وبهذا تشمل التربية الفكرية القضايا الآتية:

6/4/2/1: العناصر المتعلقة بموضوعات العلوم:

يجب على من يتصدى للدراسات الفكرية أن يحيط بمواضيع المناقشة تفوق إحاطة أهلها او تساويها على الأقل؛ لن المفكر الرسالي يربى من خلال الحوار والتربية، وهذا يقتضي العلم والصبر على البحث والمناقشة، فلا يجوز شرعاً او عقلاً الحكم على قضايا ومسائل لا سابق علم لنا بها، إذ يعد هذا العمل ملوثاً للبيئة الفكرية ومانعاً قوياً من الاستفادة مما يقول، فضلاً عن كونه من أهم عناصر الاقناع بنقيض المقصود، فمن رام الاقناع بالحوار الفكري فلا يتحدث فيما لا يعرف. وبهذا الصدد كثيراً ما تلوث البيئة الفكرية من خلال الخوض بجهل في قضايا ف منتهى التعقيد ، فتجد أحدهم ينقد الساسة والتربة والتعليم والاجتماع مع علمنا يقين بأنه لم يقرأ كتاباً واحداً في الباب، بل ينقد أحدهم كتاباً لم يقرأ منه سطراً واحداً، وقصارى ما قرأه  نتف نقلت منه في جريدة أو سمع عنها تعليقاً في إذاعة أو تلفاز، وهكذا يكون عدم المعرفة بمواضيع العلوم ملوثاً قوياً للبيئة، ولتجاوز ذلك يجب بعث المطالعة الواعية في المجتمع سواء كانت في وعاء مكتوب أو مسموع أو مرئي، المهم أن نشيع في الامة القراءة الهادفة، وبذلك نشرك كل أفراد الأمة في عملية المقاومة الفكرية، وبالتالي يشترك الجميع في الذود عن ميراثنا الثقافي والحضاري، فيكون جميع أفراد الأمة في الصفوف الأولى للمقاومة الفكرية التي هي أساس المقاومة الاقتصادية والاجتماعية والحضارية .

6/4/2/2: العناصر المتعلقة بالمناهج:

 فقد مناهج الدراسة الموضوعية ملوث للبيئة الفكرية، إذ يفضي إلى دخول ميادين العلوم من غير أبوابها، فيكون الحوار في مثل هذا الجو أشبه بحوار الطرشان، من هذا المنطلق ينبغي أن يكون الحرص على التمكن المنهج بنفس درجة الحرص على تحصيل العلوم على الأقل.

وتحقيق هذا الهدف يوجب التفريق الدقيق بين ميادين العلوم من خلال التمييز بينهما من جهة المناهج، فتنوع مواضيع العلوم يقتضي تنوعاً في مناهج دراستها، ويحسن في هذا السياق دراسة هذه المناهج من خلال مؤلفات أهلها لا بالواسطة كما هو شان كثير من المتطفلين على عالم الفكر، وبهذا الصدد بعد التمرس بالمناهج من أنفع طرق استثمار المعارف في الحوار والمطارحات الفكرية، إذ يكسب الاشتغال به التعامل المنهجي مع العلوم، ثم بطول التمرس يصبح ملكة لا يمكن الانفكاك منها حتى في الأوضاع العادية.

6/4/2/2: العناصر المتعلقة بالأسلوب:

يقوم الأسلوب الفكري الفاعل على الحوار كمبدأ لا يمكن تجاوزه أو التنازل عنه، فالحوار طريق تحصيل القناعة الذاتية المرتكزة على الحجة والبرهان(30) وهو طريق إيصال الاقوال الفاسدة والاحكام الخاطئة ثم تصحيحها، ولتحقق هذه المقاصد ينبغي السعي إلى توفير شروط موضوعية في الحوار أسلوباً وموضوعاً.

ينبغي في المتحاورين التحرر الكلي من الاحكام المسبقة والضغوط النفسية، لأنه بمثابة توفير الأجواء الضرورية للتفكير المستقل(31).

وتحقيق هذا الهدف بغرض توفر عناصر تكميلية منها على سبيل المثال لا الحصر:

أ/ مخاطبة الناس بما يفهمون، فقد نجد الفكر تباهى بعدم قدرة الناس على فهمه، رغم أن هذا العرض دليل على عدم فهم المبلغ (بكسر اللام).

ب/ الحوار بالتالي هي أحسن }وجادلهم بالتي هي أحسن{؛لأن المجادلة بالتي هي أخشن دليل الاستبداد الفكري من جهة، وهو نوع من الضغط المفقد للحرية (الشرط الأساسي في البحث الفكري الجاد).

ج/ المسألة الفكرية ليست من قبيل المسائل العقلية الصرف، بل يجتمع فيها العنصر المعرفي بالعناصر النفسية بحيث يصعب التفريق بينهما من الناحية العلمية (وإن كنا نستطيع التمييز بينهما من الناحة النظرية)، من هذا المنطلق سيضطر الباحث الرسالي إلى التذكر وفق أسلوب القرآن الجامع بين إقناع العقل وإخضاع القلب، وبذلك تطهر البيئة الفكرية في عناصرها الداخلية والخارجية من الملوثات.

الخاتمة

حاول الباحث تقصى ملوثات البيئة الفكرية في إطار التصور التوحيد الشامل ، فالتوحيد هو أساس التصورات الإسلامية ، وهو قوتها الدافعة الفاعلة في ضبط علاقة الانسان بخالقه اولاً والكون ثانياً وعلاقته بأخيه الانسان ثالثاً، وكان ذلك مطية لإثبات فاعلية التوحيد ف صلاح البيئة الفكرية وطهارتها من الملوثات، وبالنظر إلى هذه الفاعلية بينت أثر مضادات التوحيد في تلويثات البيئة الفكرية، انتقلت بعدها إلى حصر الملوثات المتعلقة بالمعرفة ولخصتها في الجهل والتقليد والرواسب الفكرية المتمثلة في الاستخفاف المعرفي أو قبوله في بعض الأحيان واحادية المنهج أحياناً أخرى، كما تفسد البيئة بغياب النقد المقاصدي.

واقتضى عرض تلك الملوثات بيان المفسدات النفسية للبيئة الفكرية، فكان من أهمها التعلق بالدنيا والاستبداد وقبوله وهيمنه روح التسلي(32) وفقدان عناصر التربية الفكرية في جانبيها النفسي والمعرفي، وختمت المداخلة بالحديث عن الاعداد الفكري لمواجهة الملوثات، وقسمتها على وفق ما سبق تقريره، بدأت بالعناصر المتعلقة بالإعداد التصوري وأردفتها بالإعداد المعرفي ثم النفسي … وكل ذلك من أجل تقديم تشخيص موضوعي لملوثات البيئة ثم تقرير الدواء حسب ما بلغه اجتهادنا، وانتهينا بعد البحث إلى النتائج الآتية:

الإنسان هو اهم عناصر البيئة الفكرية ففساده الذاتي إفساد للبيئة الفكرية، ومن ثم يجب العمل على عدم تلويث بيئته الذاتية الأصلية، وإذا ما لطخت بمثل هذه الأمراض فيجب العمل على بعث تطعيمه الفكري من جديد، وطريقة ترسيخ فاعلية التصور التوحيدي في تطهير البيئة الفكرية، ثم العمل بعد ذلك على تحقيق الإعداد المعرفي الجاد فيجابه الجهل بالعلم والقليد بالتأصيل، والتحرر من هيمنه المكبلات بالتذكير العلمي؛ وبذلك تجاوز عقليتي الاستخفاف وقبوله، ومن ثم تطلق أحادية المهج الدال على قله العلم والحيلة ويحضر النقد المقاصدي ،  ولا يتأتى لتلك العناصر أن تؤتي اكلها ما لم يكن الانسان مستعداً نفسياً للتعلم والتبليغ الهادفين، فتكون تلك الغائية من اهم عناصر الإعداد المحررة من الدنيا كغاية نهائية للوجود الإنساني ، وإذا تحرر الإنسان منها قام بالواجب ، ولا يمكنه  الدوام على ذلك إلا إذا جمع إلى الفكر الذكر ، وطريقة اكتساب عناصر التربية الفكرية ف شقيها النفسي والمعرفي بما يوجب المراقبة و التكوين المستمرين في العلوم والمناهج وأساليب عرضها.

الهوامش

(۞)بحث ألقي في مؤتمر الاجتهاد في الصحة والبيئة والصحة العمران الذي نظمته كلية الشريعة والدرسات الإسلامية – جامعة اليرموك، والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، ورابطة الجامعات الإسلامية، 27 – 29 محرم 1424 هـ الموافق 30/3 – 1/4/2003 م .

(1)      البدنية والاجتماعية والنفسية والعقلية والدينية.

(2)     الموافقات : الشاطبي الجزء 2 خصصه للكتابة عن مقاصد الشريعة.

(3)     الإسلام ومتطلبات التغيير الاجتماعي / محمد حسين الطيطيائي 29 .

(4)     نظام الإسلام عقيدة وعبادة / محمد المبارك .

(5)     إصلاح الفكر الإسلامي / طه جابر العلواني ، دار الهدى للطباعة والنشر، عين مليلة، الجزائر 19.

(6)     ورد هذا المعنى في جزء من خطبة النبي صلى الله علية وسلم فيما أخرجه مسلم «ألا إن ربي أن أعلمكم ما جهلتم ككل علمني .. إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم اتتهم الشياطين فأجلتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، أمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً…».

(7)     جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز.

(8)     ضد الاستبداد / توفيق السيف، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت ط 1 / 344 ، 1999م.

(9)     انظر ما قاله ريتر عن التقليدية وتأثيرها في التراجع الثقافي الإسلامي ، الإسلام العاصر / رضوان السيد ، دار البراق للنشر ، تونس الطبعة الأولى ص 315.

(10)لايذهب بك الخيال بعيداً فتظن أن الجيل الأول لم يكن نموذجاً يحتذي في تفاعله مع الواقع المعيش، بل المرفوض أن نحاول بعث وضعهم بمكوناته الدينية في عصر غير عصرهم ، وهذا بمثابه بعث ما لا طائل منه

(11)الإسلام ومستقبل الحضارة / صبحى صالح ، دار الشورى ، الطبعة الأولى ، 1982م ، ص 339.

(12)التحرير والتنوير / محمد الطاهر بن عاشور ، الدار التونسية للنشر ، تونس 1984 ، ج 15 / 101.

(13) انظر مجتمع النخبة / برهان غليون ، دار البراق للنشر ، تونس / ط 2، 1989م، ص 245.

(14)انظر مجتمع النخبة / برهان غليون ، 224-255.

(15)انظر مجتمع النخبة / برهان غليون

(16)قصة حياة ص 170.

(17)قد رام التبشير بهذه الفكرة عالمين أمريكين ، يرى أحدهما توقف التاريخ عند النموذج ىالأمريكي ويرى الثاني أن الصراع الحضاري ضرورة موضوعية وحضارية وفق التصور الأمريكي. انظر الحكمة (مجلة عراقية) تصدر عم بيت الحكمة. العدد العاشر السنة الثانية. 1420 هـ / 1999م مقال سامي مهدي، أممية ليبرالية أم نظم ديمقراطية، ص 50-51.

(18)العودة إلى الذات لم الدكتور على شريعيّ، ترجمة دسوقي شتا، دار الزهراء القاهرة .

(19)حاول وما زال الأوربيون الخروج من الوق الأمريكي الذي يراد فرضه باسم العولمة، وقد تجلى هذا الأمر من خلال المشروع الأوروبي الموحد في المال والأعمال والاجتماع، بل وتعداع إلى النموذج الثاقفي الموحد.

(20)  انظر في هذه المعاني، توفيق سيف/ مرجع سابق 360.

(21)  انظر في أساليب النفاق: كتاب دراسات في السيرة/ عماد الدين خليل.

(22)  قصة حياة ص 166-167 (بتصريف).

(23)  المصدر نفسه ص 168.

(24)  محمد الغزالي رحمة الله، توفي بتاريخ 13 مارس 1996.

(25)  المصدر نفسه ص 226.

(26)  الغزالي/ علل وادوية ص 108.

(27)  الغزالي/ هموم داعية ص 108 وما بعدها.

(28)  انر توفيق سيف/ مرجع سابق ص 275-277.

(29)  المرجع السابق 359.

(30)  المرجع السابق ص 44.

(31)  المرحع السابق ص 44.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر