أبحاث

النظام العام في الشريعة الإسلامية (2)

العدد 112

إذا كان مسار البحث، وعلى ما سبق، في مجال الشريعة الإسلامية، ليفصح عن أن ثمة إطاراً مرجعياً عاماً يحيط الحياة الاجتماعة للفرد المقيم بالجماعة المؤتمرة بالمنظومة الإسلامية، كما يحيط الجماعة ذاتها ونظامها السياسي، فثمة تساؤل يلح في هذا الخصوص، عن هذا الإطار، ماهيته وعناصره وحدوده؟. وبمعنى آخر: بماذا ينضبط الحق ابتداء، وبماذا تتقيد الإدارة في أصل شرعتها، وماهية هذه القيود وكنهها؟ وهو التساؤل الذي تحاول التصدى له بهذه الجزئية.

فقط يتعين بداية، الإشارة إلى أنه، ولما كنا قد استبعدنا مفهوم النظام العام برؤيته الوضعية عن المجال المعرفي للشريعة الإسلامية بنظامها الشرعي القانوني، فمن المتعين أيضاً استبعاد كافة تصورات مفهوم النظام العام والتى انطلقنا منها في تعيين هذا المفهوم وأصلنا على هداها عناصره الأساسية. فنحن هنا بصدد دراسة إطار مرجعي يمثل في ذاته – ومن ضمن ما يمثله – دوراً ارتكازياً في الحياة القانونية للشريعية الإسلامية. هذا الإطار له تصوراته الخاصة وآلياته المستقلة، المبنية في مفاهيمها وحدودها وماهياتها، لتلك الخاصة بمفهوم النظام العام الوضعي على ماتقدم عند دراسته تفصيلاً بالفصل المنقضى.

فإذا كان، وكان مفهوم النظام العام لينطلق من حقيقة كونه حد على الإرادة وهي بصدد تصرف قانوني، وذلك وفق فهم القانون الوضعى، فإن للإطار المرجعي في الشريعة الإسلامية منطلقاً يتجاوز هذه الحدود. فهو ليس بحد على الإرادة المكتملة بحيث يرد من خارجها كما هو الحال في القانون الوضعى، ولكنه ضوابط لا تنشأ الإرادة منضطبة ابتداء إلا إذا التزمت إياه، ومن ثم فلا تكتسب الإرادة أي قدرة على الفعل إلا إذا إضيفت متوافقة لأحكام هذا الإطار ومن داخله منضبطة بمقتضاه؛ لذلك كان المنضبط بهذا الخصوص ليس الإرادة فقط وهي بصدد تصرف شرعي وإنما المنضبط كافة الأوضاع التى يتم بها الفعل الإنساني، سواء وجدت فيها الإرادة أو انتفت، وسواء أخذت أي من أشكال التصرف أو الوقائع، أكانت تصرفاً شرعياً أو تصرفاً فعلياً أو واقعة شرعية، بل إنه وفي أحوال قد يرتب التزامات دون أن يكون ثمة إرادة معتد بها تكون سبب هذا الالتزام (1). وعلة ذلك، أن هذا الإطار المرجعي المعنىّ لا يتعلق فقط بالتنظيم القانوني، وإنما هو بالأساس إطار مرجعي لتنظيم حياتي كوني، يتصل بالمنظومة القانونية كما يتعلق بغيرها من المنظومات الأخرى، وعلى قمة مدارجها منظومة المفاهيم الدينية العقدية والعبادية، مروراً بالمنظومة الخلقية المتعين سياتها داخل المجتمع المسلم والمنظومة الاجتماعية الخاصة بحدود العلاقات بين الأفراد وبينهم وبين جماعاتهم الفرعية المنتمون إليها، فضلاً عن جماعتهم الأصلية، إضافة إلى المنظومة السياسية الاقتصادية المتبناة، وبمعنى آخر، ما المنظومة القانونية إلا آلية من آليات ضبط انفعال الحياة الإنسانية لمجتمع يتبنى عقديّاً الإسلام داخل أصل هذا الإطار المرجعي، وعليه فإن هذا الإطار وإن وجد أصوله من أكثر من الروافد وعلى ما يبين لاحقاً، فهو بالأساس يمتد في نفوذه متغلغلاً حتى أهون جزئيات النشاط الحياتي الفاعل، وهو وبامتداد مظلته على هذا النحو، يشمل النشاط الإنساني سواء الواعي المستند إلى إرادة واعية مدركة، كما يشمل نشاطه غير الواعي الذي قد يعترض فيه الإرادة عارض يؤثر على إداركها وهي بصدد الفعل المشروع فيه، وفي كل الأحوال يرتب من الآثار ما يكون كافلاً لرأب ما انخرم داخل هذا الإطار إزاء ذلك الفعل، وإن ترتب على ذلك آثار تلحق آخرين خلاف من قام بالفعل المعنّي. ومثال ذلك ما يترتب على إحياء الأرض الموات وهو مستطلح الأرض متعذر زراعتها وليست مملوكة لأحد، فلا خلاف في تملك محييها لها (2)، ويمثل هذه الحال، لسنا بصدد تصرف شرعي وإنما هو تصرف فعلي، رتب عليه الخالق الكريم آثاراً قانونية شرعية، أهمها تملك الأرض، وهو حكم قرره المولي عز وجل عند تحقق أحد العلل التى قررها سبحانه مناطاً للتملك، حيث يتعين مناط التملك في هذه الحال المائلة، بتوفر مفهوم عمارة الأرض وحصول نفع المسلمين، الأمر الذي انتفى معه عن حال كالتحجير إثر التملك. فالتحجير هو وضع الشخص حدود لأرض إعلاماً بنواحيها، إن المحجر لا يتملك هذه الحدود التى قام بوضعها وتظل هذه الأرض مباحاً، وعلة ذلك انتفاء مناط التملك في هذا الخصوص، إذ وبحسبان أن هذه أرض كلها أو بعضها ليست مملوكة له بأي من الوسائل المقررة شرعاً للتملك كما أنه لم يقم بإحيائها أي لم يتحقق مناط عمارة الأرض، فمن ثم ليس من مسوغ شرعي لتملك لها (2)، ومن أمثلة ذلك – ايضاً – الجواز الذي يرتب أحكام تتعلق بالميراث، وهي وقائع ليس ثمة إرادة فردية أو جماعية في حصولها، ورغم هذا تترتب الآثار القانونية الشرعية، وهي منضبطة بالحدود المقدرة شرعاً بالإطار المرجعي الإسلامي، وكذلك من الوقائع الشرعية التى ترتب التزامات وواجبات، أحوال إتلاف غير المميز أو المجنون مالاً للغير، فرغم ذهاب عقل الفاعل وانتفاء إدراكه ووعيه، فإنه يظل ضامناً في ماله ما قام بإتلافه، وهو أمر يتقرر بحكم ووجوب إزالة الضرر تفريعاً عن الأصل الكلي المتعلق بحديث الرسول (صلي الله عليه وسلم)«لا ضرر ولا ضرار».

الإطار المرجعي:

يقول الله تعالي في محكم البيان ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [يوسف: 40]، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[المائدة : 50]، ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُالْفَاصِلِينَ﴾[الأنعام : 57].آيات عديدة وغيرها كثير، تفيد حاكمية الله تعالي على خلقه وعلى شئون حياتهم ومناهج تجمعهم الإنساني. فبموجب هذه الحاكمية تعينت مصادر النشريع وأدلته الشرعية، وتحددت أطر الولايات العامة والفرعية والشخصية، وتقررت حقوق الإنسان – الفردية والعامة – ، ودار كل هذا في فلك العقيدة الإسلامية خادماً لها، محققاً لمنتهاها؛ ليغدو التنظيم القانوني للتشريع الإسلامي تنظيماً للسلوك الإنساني – الفردي والجماعي الرسمي (للدولة وأجهزتها) ضابطاً له بإطار كلي عينه المولى عز وجل حاكماً بهذا السلوك عينه حاكماً لنهجه العقدى والفكري والخلقي، وهذا ما أطلقنا عليه الإطار المرجعي، بحسبانه الإطار الذي يطوى بين جنباته أسس الاعتقاد الإسلامي وكليات هذا الدين وأصول مبادئه، فتكون النظام القانوني الشرعي للإسلام، ليس تكويناً منعزلاً مستقلاً عن المنظومة الفكرية الإسلامية، وإنما هو نبت لهذه المنظومة آخذ منها محتد بحدودها منضبط بأصولها، وبالحال ذاته نافع لها مكمل لإطارها الكلي بحسبانه الانعكاس القانوني لأصول ومبادئ وكليات هذه المنظومة التى يتأصل عمدها على هدى منها. الأمر الذى كان معه نظام القانوني الشرعي، هو الحال التقنيني للشريعة الإسلامية، فإذا ما اتفقنا على تعريف هذه الشريعة بحسبها: مجموع الأحكام المأخوذة من القرآن الكريم وسنة رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وما استقر في كتب الفقه الإسلامي منذ تأسست المذاهب الفقهية المختلفة وما تفرع عن أحكام القرآن والسنة من اجتهادات فقهاء، تبين قدر التنوع الموضوعي في الأحكام والقواعد التى ينطوى عليها النظام الشرعي القانوني الإسلامي، الذي يغدو مقتصراً على ضبط سلوك التعامل داخل المجتمعات على مستويات قطاعاتها المختلفة تراثيّاً، وإنما يمتد لينال بالتنظيم مجالات من العلاقات أكثر رقيّاً من ذلك، بداية من علاقة الإنسان بربه مروراً بعلاقاته الخلقية بالآخرين. إلى إن ينتهى بعلاقات القربى وما تفرضه ديانة من واجبات والتزامات ذات انعكاس قانوني في هذه المنظومة القانونية بالغة الشمول والاتساع.

ومن ثم، وعلى أصل ما تقدم، يمتاز النظام القانوني الإسلامي عن غيره من النظم القانونية الوضعية، بأن ليس ثمة انحسار لدوائر الأطر العقدية والعبادية والخلفية عن هذه المنظومة القانونية، وإنما تتداخل فيما بينها؛ لبناء قواعد السلوك الإنساني في ساحة المعاملات الإنسانية والجمعية ، ليتكون منها جميعها المنظومة القانونية الإسلامية. هذه المنظومة تمتد لكافة أصول الإسلام وكلياته ومبادئه وأسسه، العقدى والمعاملاتي، الخلفي والعبادي، دون تمييز بينها ودون انحسار عن أيها.

وهنا يتعين موضع بحثنا بهذه الجزئية، وذاك حول الإطار الذي يتشكل منه السياج المحيط ضبطاً بالمنظومة القانونية الشرعية في الإسلام، أي الإطار المكون لأصول الشرع التى لا خروج عليها ولا فكاك منها ولا التفات عنها ولأي نظام قانوني يبغي (أو يدعى) النسبة للفكرية الإسلامية. والناظر في هذا الخصوص إنما يجد تنوعاً لهذه الأصول الشرعية، ما بين القطعى وقسيم للقطعى، وذلك حسب معايير الاستدلال المتبناة توصلاً لهذا الإطار الكلي الذي تتشكل منه المرجعية العليا للنظام القانوني الإسلامي، أي هذا الإطار المرجعي، إنما تتوزع أصول أحكامه الشرعية ما بين دائرتين، الأولى دائرة الأحكام القطعية والثانية دائرة الأحكام قسمية القطعية.

أما دائرة القطعى، فهي الأحكام المحصلة مباشرة من النص – كتاب أو سنة – أو الإجماع، ومعيار الاستدلال المنتهج في هذا الخصوص هو المعيار النصي الذي بيحث في نصوص الكتاب الحكيم والسنة النبوية المشرفة وإجتماع الأمة لتحصيل أحكام قطعية، أي أحكام تدل بذاتها ووجودها على مدلولها مقطوع مقصودها وسند ورودها. وأما دائرة قسيم القطعي، فهي الأحكام المحصلة بطريق الاستقراء، أي المتواصل إليها ليس بالسبيل المباشر من ألفاظ النصوص، وإنما بطريق غير مباشر باستقراء النصوص واستنباط كلياتها وتخريج أصولها وأهدافها، وصولاً إلى تحصيل أحكام كلية للشريعة الإسلامية تكون أصلاً تركز عليه هذه الشريعة، على ما يضعه بدرج القطعى، فيغدو قسمياً له، ومعيار الاستدلال المتبع في هذا الخصوص هو معيار الاجتهاد البشري الذي يبذل فيه المجتهد جهده ويعمل عقله ويعتصر قريحته، لبلوغ هذه الدائرة من الأحكام.

بيد أن ثمة ملاحظة واجبة الإشارة تتمثل في هذا التصنيف لأحكام الإطار المرجعي ما بين قطعي وقسيم قطعي، ليس مفاده استقلال للدائرتين عن بعضهما البعض أو استغلال لمعياري الاستدلال الخاص بكل منهما، وإنما الأمر على خلاف ذلك، إذ إن كل من المعيارين يعتمد بالأساس على النص – الكتاب والسنة – وكل منهما يتطلب جهداً في تخريج الأحكام من النصوص، فقط يتوقف الجهد في الدائرة الأولى على تبين معاني دلالات ألفاظ النص، فيحصل بهذا الحد الحكم المتطلب، حال يستلزم الجهد في الدائرة الثانية مزيد من إنعام للنظر وضم نصوص وتخريج أحكام على أحكام، حتى يتوصل إلى الحكم المراد. وفي النهاية يتعين لدينا جملة من الأحكام ذات مصادر مختلفة بعضها يرتد وبشكل مباشر إلى الكتاب والسنة وبعضها يرتد إليهما بشكل غير مباشر عن طريق سبل الاجتهاد المختلفة، وهذا ما سوف يبينه البحث لاحقاً.

القطعي

عندما تتحدث عن القطعي فإننا نعنى بالأساس انتهاج معيار نصي بيحث في المصادر النصية المقدسة، أي في النص المقدس الذي يجد مصدره قطعاً وعلى نحو مباشر في أحكام المولى عز وجل الثابتة بكتابة الحكيم. أو يجد مصدره قطعاً فيما هو منسوب إلى الله وعلى نحو غير مباشر عن طريق نبيه المرسل بالسنة النبوية المشرفة، أو يجد مصدره في إجماع أمة محمد على حكم معين بأمر معين، ذلك أننا بصدد ثلاثة أنواع من النصوص بحسب مصدرها، فهناك النص القرآني، وهناك نص السنة المحمدية، وهناك النص المقرر بالإجماع بحسبه مصدراً للتشريع الإسلامي.

أولاً: نصوص القرآن الكريم:

وجميعها قطعى من وجهتى الورود (الثبوت) والدلالة… فأما قطعية الثبوت فتعني أنه من المقطوع به جزماً أن كل نص متلو من نصوص هذا الكتاب الحكيم هو ما أنزله الله تعالى على رسوله (صلي الله عليه وسلم) الذي بلغه بدوره إلى الأمه دون تحريف أو تبديل (3)، أي ثابت يقيناً أمر نسبته إلى الله تعالى. وأما قطعية الدلالة، فالثابت استقراراً فقهاً وأصولاً أن نصوص الكتاب الحكيم إنما يتم تصنيفها مابين نصوص قطعية الدلالة وأخرى ظنية الدلالة. والنص القطعى الدلالة إنما هو ما جاء بمعنى يتعين فهمه دون سواء ولا يتحمل تأويلاً فلا ينظر فيه إلى ترادف، ولا ينظر فيه إلى حقيقة أو بحاز؛ وذلك لكون المعنى المقصود واضح بذاته متعين دون غيره، كقول الله تعالى: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ [النساء: 12]، أن الآية قاطعة في بيان فرض الزوج في هذه الحال لكون النصف، فالدلالة هنا قطعية (4). أما النص الظنى الدلالة فهو ما جاء بمعنى يحتمل هو وغيره، إذ بتطرق الاحتمال إلى الفهم تكون الدلالة ظنية، كقوله تعالي ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾[البقرة: 228]، لفظ قرء يحتمل أكثر من معنى، فقد يكون الطهر وقد يكون الحيض، وبهذا الاختلاف في المعنى أثره على الأحكام الفقهية الفرعية؛ ولذلك فلمثل هذا التعدد في المفهوم لفظاً من النص ولاحتماله أكثر من منعى تكون الدلالة ظنية (5).

ولايعنينا في هذا المقام بهذه الجزئية سوى الصنف الأول من النصوص قطعية الدلالة.

من ذلك يتبدى لنا أن النصوص القرآنية وهى ما بين قطعى الثبوت والدلالة، قطعى الثبوت ظنى الدلالة، إنما ينقطع يقيناً بأن الصنف الأول منها يكون القطعيات التى يتشكل منها الإطار المرجعى الأعلى بموجب قطعية ثبوت نسبتها لله تعالى وقطعية فهمنا لمقصود المولى عز وجل منها. هذا الصنف من النصوص يدخل هذا الإطار المرجعي، أيّاً ما يكون طبيعة أحكامه أو موضوعها، إذ لا فارق في هذا الخصوص بين نصوص تحمل أحكاماً عقدية أو خلقية وعملية.

أ‌-    الأحكام العقدية:

تعد النصوص القرآنية القطعية – ثبوتاً ودلالة – المنظومة على أحكام عقدية خاصة بأصول الاعتقاد الإسلامي، من مرتكزات الإطار المرجعي الأعلى، كقوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾[البقرة:285]، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر:9]، ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الواقعة:77-80]، وقوله:﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾[البينة:1-5]، فهذه الآيات بما تنطوى عليه من تقرير بموجبه التسليم بالإيمان با لله تعالي وتعيين الفروع هذا الإيمان، تدخل الإطار المرجعي الأعلى بحكم قطعيتها الدلالية فضلاً عن الثبوتية، وتعد قيداً لكل تفكير تشريعي مما ليس معه ثمة سبيل للفكاك منه، إذ ليس بمقصود بأي تقنين إسلامي، احتمال نطاق نصوصاً تنطوي على تشكيك فيما تقدم أو انتقاص من اكتماله أو حتى مجادلة في دلالته، كما لا يحتمل هذا النظام أي تصرف أو فعل شرعي أو مادي، يتطاول على هذه الدلالات العقدية الكلية، بحيث إن وجد هذا الفعل أو التصرف، بطل، ولزم الجزاء حداً أو تعزيزاً حسب طبيعته. ويؤكد هذا، إن في المساس بأي من الإيمان أو فروعه، أو إنكار أي منها، فإن الله تعالى بقوله: ﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾[النحل: 106، 107]، ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[البقرة: 217] فإن الله يقوله هذا – إنما يقرر كفران مقترفها، أي خيانته لله ورسوله وسائر المسلمين، ولا جدال أن هذا إنما يمثل خيانة لجماعته التى يحيا بين ظهرانيها، خيانة توجب إنزال أشد الجزاء، فليس من جريمة أشد من خيانة الجماعة والدولة القائمة عليها، الأمر الذي يفيد ارتكاز الإطار المرجعي الأعلى على أصل من هذه الأحكام العقيدية، التى تتشكل بها البذرة الأول لسند اجتماع الجماعة في هذا المجتمع الذي يتخذ الإسلام ديناً وعقداً دنيوياً ايضاً.

ب‌-الأحكام الخلقية:

أي تلك النصوص التى تنطوى على أحكام خلقية كقوله تعالى:﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[النور: 30، 31] مثل هذه الأحكام إنما تُعد المرجع الشرعي الأعلى لأى تنظيم قانوني ينتظم حال المرأة وعلاقة الرجل بها، فيلزم النساء بالمجتمع على الاحتشام في الثياب وإلا كان التعزير واجباً، وكذلك هذه الأحكام الأخلاقية تعد المرجع والبُعد الشرعي للنصوص القانونية التى تعين حدود المحارم والتابعين مما لا غنى عنهم والذين يرتفع عنهم الحظر المقرر في الاطلاع على النساء، ومن ثم ترفع التعزيزالذي تتضمن النصوص العقابية الخاصة بالاختلاط بالأجنبيات.

وكذلك قوله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾[الإسراء: 26- 27]، ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا﴾[الإسراء: 31]، ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً﴾[الإسراء: 32]، ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾[الإسراء: 33]، ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾[الإسراء: 35]،وهي جميعها أحكام خلقية بالأساس تحثعلى الغير، وتضع في الحال ذاته تنظيماً كلياً للمحرمات، فالنفس حرام والفرج حرام ومال الغير حرام، ومن هنا كنا بصدد إطار مرجعي يخرج على القواعد الأخلاقية واجبات قانونية تقرر منع العدوان وتحدد المحرمات، وتضع – مع غيرها من نصوص الحدود الأخرى – الجزاء القانوني الشرعي على المثل هذه الأفعال(1).

جـ –الأحكام العلمية:

وهي النصوص التى تنتظم نوعين من الأحكام، أحكام العبادات وأحكام المعاملات:

1- النوع الأول وهو أحكام العبادات كالصلاة والزكاة والحج والنذر واليمين، كقوله تعالي:﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 215]، ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة: 60]، أحكام قطعية الدلالة في تعيين مصارف الصدقات ومستحقيها وكذلك قوله تعالى:﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[البقرة: 185]، أحكام قطعية تفصل العزائم من الرخص في الصوم بشهر رمضان، فتوجب الصوم على من يشهد الشهر قادراً وترخص بعذر عند المشقة المتحققة في أحوال المرض أو السفر، فيكون لها موردها القانوني عند تعين الحاجة كتعزيز الفاطر رمضان دون عذر.

2-أما النوع الثاني فهو أحكام المعاملات كالعقود والتصرفات والعقوبات والجنايات مما يقصد بها تنظيم علاقة المكلفين بعضهم بعضاً، سواء أكانوا أفراداً أو جماعات، وهي الأحكام التى تعد في الفهم القانوني المعاصر أحكاماً قانونية، وهي تنقسم إلى أنواع:

1.  أحكام الأحوال الشخصية التى تتعلق بالأسرة منذبدء تكونها وحتى انفصام عراها بالموت أو الطلاق إثر هذا الانفصام كذلك، كقوله: ﴿وَآتُواْ النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾[النساء:4]،تبياناً وعلى نحو قاطع لوجوب الصداق والمهر، وقوله:﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً﴾[النساء:22]، أحكام قاطعة في تعيين المحرمات من النساء، وقوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾[البقرة:229- 230]، أحكام في بيان مرات الطلاق التى تحرم بعدها المطلقة على مطلقها، فلا يكون بمكنته مراجعتها، وهي قطعية لا خلاف حول دلاتها. وأخيراً وفي هذه الجزئية كافة أحكام المواريث وهي قطعية إطلاقاً باتفاق الفقه إجماعاً، كقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾[النساء:11]، قاعدة التوريث بين العصبات، وقوله:﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾[النساء:11]،﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾[النساء:11]،﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾[النساء:11]،﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْلَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾[النساء:11]، وهذه جميعها قواعد قطعية في توريث ذرى الفروض.

2.  الآحكام المدنية المتعلقة بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيع وإجارة ورهن وكفالة، وشركة ومداينة ووفاء بالالتزام، وهي المنتظم علاقات الأفراد المالية وحفظ حقوق ذوى الحقوق وآياتها بالقرآن الكريم سبعون آية، مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾[المائدة:1]، في بيان وجوب تنفيذ الاتفاقات والعقود، وقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَ تَأْكُلُوْا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُوْنَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾[النساء:29]، في بيان حرمة الغبن والغش والتدليس وكافة صور التغرير في العقود، وهذه الآيات، وللحق، مصدر للعديد من الأحكام الفقهية التى تنتظم شأن المعاملات في الشريعة الإسلامية، وكذلك قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[البقرة:278]، ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا﴾[البقرة:275]،﴿يَمْحَقُ اللَّـهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾[البقرة:276]، وفي جميعها في مقام النهى تحريماً قطعياً عن الربا، وفصل حكمها عن حال البيع الحلال شرعاً.

3.  الأحكامالجنائية:وهي المتعلقة بما يصدر عن المكلف من جرائم وما يستحقه عليها من عقوبات قصداً لحفظ حياة الناس وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم، فضلاً عن تعيين حدود علاقة المجني عليه بالجاني وبالأمة. مثال ذلك قوله تعالى:﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[المائدة:38]، في بيان حد السرقة، وقوله ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[النور:2]، في بيان حد الزنا وكيفية إيقاع الحد، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[المائدة:90]، في بيان حرمة الخمر والميسر والنهى القطعى عنها، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوْا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيْثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةً فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيْمًا حَكِيْمًا﴾[النساء:92]، في بيان جزاء القتل الخطأ وتنظيماً لعلاقة الجاني بأهل المجنى عليه. وقوله:﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾[النساء:93]، ثم قوله : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[البقرة:178]، ثم قوله: في بيان حكم تحريم القتل العمد وجزاؤه الأخروى ثم الدنيوى مع تقرير جواز معافاة القاتل وأحكام الإعفاء حالتئذ.

4.أحكام المرافعات وهي المتعلقة بالقضاء والشهادة اليمين قصداً لتنظيم إجراءات تحقيق العدل بين الناس، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[البقرة:282]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾[البقرة:283]،ويبين مما تقدموعلى نحو قطعى الدلاة وجوب اكتمال أهلية المتعاقدين واختبارهم أو من ينوب عن الضعيف منهم، ووجوب وصف وبيان محل العقد بما ينفى الجهالة، وكذلك الشروط الإضافية كالنص على أجل الاستحقاق، كما أوضحت هذه الآيات طرق الإثبات، فقررت الإفرار بالكتابة، والدليل بالنية، والتذكير بأداء الشهادة، كما قررت كفالة الوفاء بالرهان المقبوضة.

5.الأحكام الدستورية وهي المتعلقة بنظام الحكم بالمحكوم وأصوله قصداً لتحديد علاقة الحاكم بالمحكوم وتقريراً للأفراد والجماعات من حقوق (6)، كقوله تعالى : ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾[ال عمران:159]،
﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾[الشوري:38]، فالآية الأولي بالغة الدلالة في جوب الأخذ  بالشوري، إذ إنها نزلت في أعقاب هزيمة المسلمين بغزوة أحد، وهي الهزيمة التى ما كانت لتكون – بأمر الله – لو لم ينزل الرسول (صلى الله عليه وسلم)على مشورة صحابته في الخروج لملاقاة المشركين، إلا أنه ورغم ذلك استمر توكيد الله على رسوله الكريم بوجوب لزوم الشورى في كل ما يحتاج إليها، «والنص بهذه الصورة وفي هذه الظروف نص قاطع لا يدع مجالاً للشك في أن الشورى مبتدأ أساس من مبادئ النظام السياسي الإسلامي وقيمة عليا يجب على الأمة المسلمة أن تتمسك بها دائماً وتحت جميع الظروف (7). وأما الآية الأخرى فتفيد أن الشورى من خصائص الإسلام التى يجب أن يتحلى بها المؤمنون أكانوا جماعة لم تقيم عليهم دولة بعد أو كانوا جماعة تأسست لهم دولتهم بالفعل»(8). وكذلك من الآيات القطعية في خاصة هذا الشأن قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[ال عمران:104]، ويستدل العلماء من هذه الآية على تأكيد وجوب الشورى، ذاك أن الله تعالى ضمن توفر الشورى، أن استحدث آلية تقوم برقابة الحكام في أمر التزمهم بالشورى، بحسبان أن نقول الحاكم عنها يعين فرضاً على المحكومين الانتصاب للأمر بالمعروف والنهى عم المنكر، بدعوة الحكام إلى التزام جادة الصواب في هذا الخصوص ودرء ما لحق عملهم من مفاسد بدعوة الأمة إلى ترك المنكر والتزام المعروف (9). وكذلك من أحكام هذه الطائفة، قوله تعالى في معرض بيان التزام العدل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾[النساء:58]،﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[المائدة:8]، وكذلك قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا كُوْنُوْا قَوَّامِيْنَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ﴾[النساء:135]، وهذا توكيد من بعد توكيد على المكانة التى بلغ «العدل» شأوها في النظر الإسلامي، فالأمر بالعدل لم يكن ليتعداه فقط إلى ماهو بين المؤمنين من علاقات وحسب، بل امتد إلى ماهو قائم من علائق بين المسلمين وأعدائهم، بل أنه فاق هذا وذاك فلم يقتصر الأمر بالعدل على حدود الفعل والحكم بل تعداه إلى العدل أيضاً في القول، بقوله تعالى:﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوْا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوْا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ﴾[الأنعام:152]، وكذلك من الأحكام القطعية بالغة الأهمية في السياق، حق الجماعة في محاسبة الحكام، وهو المستدل عليه قطعياً بقوله تعالى: ﴿فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[ص:26]، وقوله تعالى:﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾[البقرة:204]، فمن الحكام فعلاً يعتبر فساداً في الرض أو اتباعاً للهوى يجب على الأمة أن تأمره بالكف عن مثل هذه الأفعال، وإلا كانت تقصره في واجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن لم يستجيب وجب عليها أن تحاسبه في ذلك وتسأئله عنه» (11)،(12).

6.الأحكام الدولية التي انتظمت أمور معاملات الدولة الإسلامية وغيرها من الدول ومعاملة غير المسلمين القائمين بالدولة الإسلامية وذاك بأوقات السلم والحرب، كقوله تعالي ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[التوبة:29]، وقوله :﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾[التوبة:36]، وقوله :﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[البقرة:190]، وقوله :﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾[ال عمران:140،139]، وقوله كذلك :﴿لَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾[النساء:90]، وقوله :﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾[التوبة:6]، وقوله :﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة:8]، وقوله :﴿وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[الحجرات: 10،9]، وقوله :﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[الأنفال: 67]، وقوله :﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾[محمد : 4]، وهذه جميعا أحكام قطعية قرها الله تعالى حاكماً أعلى، نحسبها المرجع في ضبط العلاقات بين الدول الإسلامية وبينها وبين غيرها من الدول غير المسلمة، وذلك إبان الحرب وإبان السلم، وكذا علاقة الدولة المسلمة بغير المسلمين القاطنين أرضيها، وكذا علاقتها بأسرى حربها بالدول غير المسلمية.

وبعد، فهذه كانت محاولة لمقاربة القطعيات بالقرآن الكريم، أي النصوص قطعية الثبوت والدلالة به، في محاولة تصنيفية لها، حيث تبين لنا من الدراسة السابقة أن القطعيات النصية بالكتاب الحكيم إنما تتوزع على ثلاث مجموعات أساسية، تتكون المجموعة الأولي من القطعيات العقيدية حال تتكون المجموعة الثانية من القطعيات الخلقية، وأخيراً تتكون المجموعة الثالثة من قطعيات نصوص أحكام المعاملات من أحكام أحوال شخصية وأحكام مدنية جنائية وأحكام مرافعات وأحكام دستورية وأحكام دولية.

ثانياً : نصوص السنة النبوية:

تحتل السنة النبوية المشرفة المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم بين مصادر الشريعة الإسلامية. والمعنىّ بها كل ما روى عن الرسول الكريم محمد (صلي الله عليه وسلم) من قول أو فعل أو تقرير. فالسنة القولية هي أحاديثه المشرفة التى قالها في مختلف الأغراض والمناسبات كقوله (صلي الله عليه وسلم): «لا ضرر ولا ضرار» وقوله «في السائمة الزكاة» ، وقوله عن البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ، والسنة الفعلية هي أفعاله (صلي الله عليه وسلم) كأدائه الصلوات الخمس بهيئاتهاوأركانها، وأدائه مناسك الحج، وقضائه بشاهد واحد ويمين المدعي، وأخيراً السنة التقريرية هي ما أقره الرسول مما صدر عن بعض الصحابه من أقوال وأفعال بسكوته وعدم إنكاره أو بوافقته وإظهار استحسانه، فيعتبر بهذا الإقرار أو الموافقة صادراً عن الرسول (صلي الله عليه وسلم)، كحادثة الصحابيين اللذين خرجا في سفر فحضرتهما الصلاة ولم يجدا ماء فتيمما وصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاته ولم يعدها الآخر، فلما قصا أمرهما على الرسول أقر كل منهما على ما فعل، وقال للذي لم يُعدها: «أصبت السنة وأجزأتك صلاتك»، وقال للذي أعادها: «لك الأجر مرتين» والسنة النبوية من حيث الأصل، حجة على كافة المسلمين واجبة الاتباع، وهذا ما أجمع عليه المسلمون، مما صدر عن النبي الكريم من قول أو فعل أو تقرير، مقصود به التشريع والاقتداء، منقول إلينا بسند صحيح يفيد القطع أو الظنى الراجح بصدقه، إنما هو حجة إطلاقاً ومصدراً للتشريع دون خلاف. فقط المشكل يداخل المسألة في مدى صحة ثبوت المروى إلى الرسول، ذاك أن السنة النبوية تنقسم إلى سنن متواترة وسنن آحاد، وثمة من زاد الأحناف عليها بسنن المشهور، فلئن كانت أحكام القرآن الكريم جميعها قطعية الثبوت، أي مقطوع يقيناً جهة ورودها من الله تعالى بواسطة رسوله الكريم، حسبما تقدم آنفاً، فإن سنن رسولنا الكريم ليست جميعها مقطوع ثبوتها للرسول، إن منها ماهو قطعي الثبوت وغالبها ظنى االثبوت، فالسنة المتواترة هي ماصدرت من رسولنا الكريم ورواه عنه جمع يمتنع عادة تواطؤهم على كذب لكثرتهم وأمانتهم واختلاف وجهاتهم وبيئاتهم، ورواه عن هذا الجمع جمع مثله يمتنع اتفاقهم على الكذب، وهكذا يروى من أول السند إلى منتهاه (13) ومن هذا القسم السنن الفعلية كأداء الصلوات والحج والأذان وغير ذلك من شعائر الدين التى تلقاها المسلمون عن رسول بالمشاهدة أو السماع، كل أن توجد سنن قولية تعد متواترة (14) وفي هذا الخصوص يذهب من الفقهاء إلى أن السنن القولية المتواترة – على قلتها – نوعان، المتواترة لفظاً وهي الأحاديث التى اتفق رواتها على نقلها بألفاظها زمعانيها وهي قليلة جداً، المتواترة معنى، وهي الأحاديث التى اختلف الرواة في ألفاظها واتفقوا في معانيها، فرغم اختلاف الألفاظ فإن المضامين واحدة، ومثاله حديث رسوال الله «إنما الأعمال بالنيات» وحديث رفع اليدين في الدعاء، ويذهب هذا الفقه إلى دخول غالب السنن الفعلية المتواترة في هذا النوع (15)أما سنن الآحاد فهي القسم الآخر من قسمى السنن النبوية عند الجمهور، والقسم الثالث منها عند الأحناف، وهي ما رواها عن الرسول آحاد لم يبلغ حد التواتر، ورواها عن هذا الراوى مثله، وهكذا حتى وصلت إلينا بسند طبقاته آحاد لامجموع التواتر، وهذا القسم يجمع أكثر الأحاديث التى جمعت بكتب السنة النبوية. وعند الأحناف يتوسط هذين القسمين، قسم ثالث هو السنة المشهورة، وهي تلك الأحاديث التى يكون رواتها الأول أحاد، أي رواها عن الرسول صحابي أو اثنين أو جمع لا يبلغ حد التواتر، ولكن بعد هذه الطبقة الأولى حدث التواتر حيث رواها عن هذا الرواري أو الرواة جمع عن جمع يبلغ حد التواتر (16).

وبعد فهذه هي أقسام السنة النبوية المشرفة آثرنا العرض لها بداية، لكونها ليست جميعها من ذات الحكم من وجهة القطعية الثبوتية، ذلك أن القسم المتواتر من هذة السنة، وإجماعاً، يُعد قطعي الثبوت للرسول الكريم، حال لا يُعد كذلك سنة الآحاد فهي ظنية الثبوت، ويذهب الأحناف إلى إلحاق السنة المشهورة بالسنة المواترة، من جهة قطعيتها الثبوتية، وأمر قطعية الثبوت من هذه الوجهة له أثر الهام في دلالاتها؛ إذ إن السنة قطعية الثبوت تفيد العلم الضروري، فلا يحتاج معها إلى بحث واجتهاد، كما أن منكرها يخرج عن الملة ولكون منكر القطعى يكفر، فمنكر السنة المتواترة يكفر بدوره.

وعليه ومما تقدم، يبين أن السنة المتواترة، هي يقيناً قطعية الثبوت، فإذا ما كان منها ما هو قطعى الدلالة بل إن غالبها كذلك – أمكنها هذا من حجز موقعها بين القطعيات التى تشغل الإطار المرجعي الأعلى، وتنظم بالتالي إلى النصوص قطعية الثبوت والدلالة بالقرآن الكريم، ليشكلا جزءاً هاماً من أجزاء الإطار المرجعي الأعلى موضع الدراسة

ثالثاً : الإجماع :

وهو من أهم المصادر الأصلية للفقه الإسلامي حيث يحتل المرتبة بعد القرآن والسنة في هذا المجال، ويُعرف اصطلاحاً بانه «اتفاق مجتهدى أمة محمد صلي الله نعليه وسلم بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي اجتهادي» (17)، أي أنه يتعين لتحقق اتفاق كافة مجتهدى الأمة فليس بإجماع اتفاق بعضهم، كما يكفيه اتفاق كافة مجتهدى الأمة في عصر من العصور فليس بشرط اتفاق المجتهدين في كافة العصور لاستجالته المادية، ويشترط كذلك فيه أن يرد هذا الإجماع على مسألة اجتهادية؛ لكون القطعى من النصوص وعلى ماتقدم، أي قطعيات القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة – ليست مجالاً للاجتهاد (18).

والإجتماع المعتبر على هذا النحو، حجة على كافة المسلمين، وآية ذلك قوله تعالي ﴿ومن﴾[النساء : 115]، ومن ثم، وقد توعد الله من يتبع غير سبيل المؤمنين بدخول جهنم، فإن هذا الوعيد الشديد إنما يرد على مخالفة اتفاق المجتهدين من المؤمنين بحسبانه سبيل المؤمنين الحق واجب الاتباع (19). وكذا قول رسولنا الكريم «لايجتمع أمتى على ضلالة» وقوله : «لاتجتمع أمتى على خطأ» وقوله : «يد الله مع الجماعة ولا يبالى الله بشذوذ من شذ» فهذه جميعا أحاديث إن كان منها في ذاته خبر آحاد، إلا أنها تشكل فيما بينها كلاً يُعد متواتر المعنى يفيد القطع بحجبة الإجماع بناء على ما ثابت من عصمة الأمى – الجماعة (20) .

ومن أمثلة الأحكام التى تجد مصدرها الشرعي في الإجماع، توريث الجدة السدس، واشتراك الجدرات إن كن أكثر من واحدة في هذا السدس، وعدم جواز زواج غير المسلم من المسلمة، وعدم جواز تزوج الأخت في عدة أختها، وحرمة شحوم الخنزير، وحرمة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وزيادة الأذان يوم الجمعة، وجمع المصحف على عهد أبى بكر وتوحيده في زمن عثمان، ومقاتلة مانعى الزكاة على عهد أبي بكر، وحرمة الربا في الأصناف الستة التي جاء بها الحديث الشريف – فرغم كونه خبر آحاد صار حكماً قطعياً بالإجماع – فهذه جميعها أحكام أجمع عليها على عهد الصحابة رضوان الله عليهم مستندة بالأساس إلى الكتاب والسنة أو المصلحة ومرفوع أمر حجتها من اللظنية إلى القطعية يتلقى الصحابة لها إجماعاً وعدم مخالفة أحد ممن جاء من بعدهم لها واسمرارهم العمل بها حتى وقتنا هذا (21).

وبعد فتلك هي القطعيات التى تجد مصدرها مباشرة من النصوص القائمة بالأدلة الشرعية الأصلية في الكتاب الحكيم والسنة النبوية المطهرة والإجتماع، حيث يتشكل منها أهم أجزاء الإطار المرجعي الأعلى. فهذه القطعيات وبحكم نصيتها، ليس للعقل سبيل لجهد في خاصتها سوى تفهم مقتضى ألفاظ تصوصها وتبين محتوى أحكامها، فسبحانه هو الذي قسمها على هيئتها القطعية وأنزلها على كنهها الذي استوت عليه، ومن ثم فليس ثمة من سبيل لبشر سوى الانصياع لهداها، الأمر الذي ارتقى بهذه القطعيات إلى الدرج الأعلى من مدارج هذا الإطار المرجعي موضع الدراسة، لتكون بمثابة الجوهر الذي تدور حوله أحكام الشريعة الإسلامية إجمالاً والسياج المحيط الذي تنضبط به وفيه الأحكام الشرعية القانونية تفصيلاً.

ولعل مما تجدر الإشارة إلية في هذا الخصوص، أن هذه القطعيات، هي أحد نوعي أحكام النظم الإسلامي الذي تتوزع أحكامه ما بين ثابت ومتغير، بحسبان القطعيات النصية هي الثابت من الأحكام، والمعنى بثباتها استحالتها التبدل لأي اعتبار كان ومنياً أو مكانياً، فهي خارج ظرف الزمان والمكان واعتبارات الأحوال وتغيرات الأعراف والعادات، ولذلك فإن هذه القطعيات النصية عصية إطلاقاً على الاجتهاد، فليس يمكنة مجتهد تعديل أوتبديل أحكام الميراث أو الحدود الشرعية … ولا عجب في مثل ذلك الأمر، ففي نظام ومرجعية إلهية، يفوض قياده للبارئ خالق الأكوان والنظم الذي تعهد بصون شرعه وحفظه من التعديل والتبديل، والذي باين في أحكامه ما بين قطعي الدلابة الثبوت وبين ظني أحدهما أو كلاهما، فليس بالمستطاع التغافل عن ذلك جميعه وإهمال التباين الذي أحدثه سبحانه بين القطعي والظنى أحدهما أو كلاهما في أحكامه على نحو ما تتقدم، وهو جل وعلا المنزه عن السهو أو اللغو فكان أن ترتب عليه من الآثار ما قصده الشرع منه، وكان للقطعي المطلق مكان الثابت المقدس الذي لا مساس به ولا تطاول عليه باجتهاد بشري.

بيد أن ذلك، ليس مفاده اقتصار الإطار المرجعى على هذه القطعيات النصية وحسب، أي انطوائه عليها وحدها. وإنما ثمة ماينطوى عليه هذا الإطار، آخذ لحكم القطعي رغم عدم قطعيته النصية، إذ إنه ورغم ارتداده انتهاء إلى النصوص يستمد سند شرعته القطعية بالاجتهاد القائم على الاستقراء الكلي لجملة أحكام الشرع الإسلامي ونصوصه، فمن هذا السبيل أمكن قراءة أمور أفصحت عنها النصوص إجمالاً وأبانها البناء المنطقي المعقول لجوهر الشريعة الإسلامية . تلك الأمور هي ما يمكن الاصطلاح عليه بالكليات التى ترتفع لمصاف القطعيات النصية، لتصير قسيمتها.

قسيم القطعي

فزغنا بالدراسة السابقة عمَّا يُعد قطعياً من أحكام، إلى كونها تلك التي انطوت عليها صراحة نصوص وردت بأخد مصادر الأحكام الأصلية – الكتاب أو السنة أو الإجماع – وثبت لهذه النصوص يقينية قطعيتها من وجهة النسبة والمصدر ووجهة الدلالة، وأشرنا سريعاً إلى أن هذه القطعيات هي التى تتكون منها ثوابت الشرع الإسلامي، إلا أنه، ولما ظهر جلياً من أن هذه الثوابت لا تقتصر انحصاراً في هذه القطعيات النصية وحسب، وإنما ثمة من الثوابت ما يستفاد دون أن تنطوى عليه أحكام بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، كتلك التى انطوت عليها النصوص عديدة ظنية الثبوت بأخبار الآحاد وتعضدت فيما بينها من أشتراك في المعنى والمقصد لإفادة حكم هو من العسير التغافل عن صيروته حكماً قطعياً، أو كتلك الكليات التى أبانها الاجتهاد المطلق لجملة أحكام الشريعة الإسلامية والذي يتوصل منه إلى أحكام يكون مقطوع الجزم بصحتها ومقصدها فتصير كليات قطعية على هذا المقتضى، أقول – لما ظهر هذا، صار واجباً العرض بهذا النوع من الثوابت، لدراسة كنهها، ومعرفة آليات تبينها منهجياً، زمدى قوة ثبوتها مقارناً بقوة ثبوت القطعيات النصية آنفة البيان. فقط وقبل العرض، يتعين بداية الإشارة إلى عدد من الأمور الضابطة لدراستنا هذه، التى هي تعد بمثابة المقدمات لها، فيجدر الانتباه إلى أننا ننتقل بالدراسة من النقل إلى العقل، أى من النص إلى الاجتهاد، وهو ما يعمل بذاته تداعياته على مستوى ما يتوصل إلى قطعيته التى تصير قطعية عقلاً لانصاً وهذا، ولا ريب، أدنى درجة من القطعى النص الذي أبانه الشرع بشكل مباشر وجزم سبحانه صراحة يلزوم قطعيه، خلافاً للقطعى العقلي موضع الدراسة الذي هو في النهاية قطعي بالاجتهاد، فالمغايرة في مصدر ثبوت القطعية لابد من يكون لها أثرها في قوة هذه القطعية ذاته، وذلك من وجهة العلو – بأدنى تقدير – فليس من جدال علو القطعى النص على القطعى الاجتهادى والتزام الآخر بالأول انضباطاً، الأمر الذي يجدر بنا إلى اعتبار القطعى الاجتهادي قسيماً للقطعي النصي وتسميته كذلك تنزيهاً للقطعيات النصية عن أن يخالطها ما دونها، وإن عُد هذا الأخير من ثوابت الشرع الإسلامي هو الآخر.

ومن جانب آخر فإن قسيم القطعي وإن أطلقنا عليه مجازاً القطعي العقلي، فهو قطعي في حدود المذهب المجتهد به للتوصل إليه ، وليس كما هو حال القطعي النصي الذي قطعيته تتجاوز حدود المذاهب ومناهج الاستدلال فالقطعية العقلية وبحكم الاجتهاد فيه، ترتبط وجوداً أو عدماً، قوة ودرجة ثبوت بالنهج الاجتهادي المتبع لبلوغها ومن ثم فهي وإن كانت قطعية إلا أنها قاصرة في حدود الإطار المنهجي المتوصل إليها به، لتصير قطعية نسبياً داخل المذهب المنتهج.

ومن جانب ثالث، فإن دراستنا لقسيم القطعي، سوف تتبلور بالأساس دراسة منهجية حول أساليب تعيين هذه القطعيات العقلية وآليات الاستدلال عليها وكيفية الاجتهاد لبلوغ القصد في معرفتها، لا حول تعيين ذاتها وتحديد كنهها، فذلك يخرج بنا عن نطاق بحثنا المنصب بالأساس على الإطار المرجعي الأعلى للشريعة الإسلامية وللنظام القانوني الشرعي القائم بها. ولذلك ولما تقدم، فسوف يجرى عملنا في هذا الخصوص نحو استيضاح كيفية تكون الإطار المرجعي وعرض بعض من نماذج ما اشتمل من مجموعات أحكام، على نحو ما تبعناه منهجياً عند دراسة القطعيات النصيات، حيث استقام بحثنا حول نفاد القطعى النصى وكيفية تبينه مع عرض نماذج له. وعليه يمكن إيجاز الدرس في هذه الجزئية بأنه يجرى حول مناهج الاستدلال على القطعيات العقلية أو ما يمكن تسميتها «قسائم القطعي» ومصادر من وجهة متولى هذا الاستدلال وآلية فرضه.

أولاً: الوسائل المنهجية للأستدلال:

والمعنىّ بالوسائل المنهجية، جملة الأدوات التى تعُد كفلية بتمكن المجتهد من استبيان القطعيات العقلية، إما من مفردات جزئيات خطاب الشارع الموزعة بفروع أحكامه، أو من جملة هذا الخطاب، وعلى هذا النحو يمكن أن نستشف نهجين كليين للاستدلال أحدهما يتعامل مع فروع الأحكام ومفردات خطاب الشارع، والآخر مع جملة خطابه سبحانه وتعالى ومجموع أحكامه.

أ‌-    منهج الاستدلال من الفروع:

 وهذا المنهج يعتمد بالأساس على استقراء قطعيات من نصوص ظنية بالأساس، إما ظنية الدلالة أو ظنية الثبوت، تتعاضد فيما بينها وتتضافر على نحو معين، فتفيد معنَّى معيناً، إفادة قطعية بحيث بستحيل بظنى حالتئذ إلى قطعي، وذلك على وجهين؛ الأول كما إذا ما ورد نص قرآني ظنى الدلالة أو سكت الكتاب عن أمر معين، فجاءت السنة النبوية المطهرة لتبيان الأمر إما يترجيح راجح على مرجوج من الدلالات، أو بإبانة المسكوت عنه، وذاك أنه لكل نص «نية لفظ مشترك أو لفظ مطلق أو نحو هذا يكون ظنى الدلالة ؛ لأنه يدل على معنى ويحتمل الدلالة على غيره» (22) مثاله قوله تعالى ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ﴾ لفظ الميتة عام، والنص تم تخصيصه بحديث الرسول الكريم عن الكريم عن البحر  «هو الطور ماؤه الحل ميتته»وبذلك تحول النص القرآني إلى قطعى الدلالة في تحريم كل ميتة ليس بميتة بحر، وكذلك قوله تعالى :﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ تمتخصيصها بحديث الرسول «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» ووجه الدلالة أن الآية القرآنية وردت عامة فكانت طنية حتى انحسم الأمر بحديث الرسول المحرم من الرضاع، فصار حل الزواج لغير الأحوال المقررة بالآية الكريمة نسباً أو بالحديث الكريم رضاعاً حلاً قطعياً (23) . ومثال لحال سكوت الكتاب عن أمر معين، قوله تعالى : ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ .

هذه الآية الدلالة في حكم توريث البنات اللاتي يزدن عن اثنتين إن يستحققن الثلثين، وقطعية الدلالة في حكم توريث البت إن تستحق النصف، حال بقي أمر توريث البنتين سكوتاً عنه، أي دلالة يتأرجح ما بين أخذ حكم نصاب البنت الواحدة وأخذ حكم نصاب فوق البنتين، وهنا جاءت السنة النبوية الفعلية المشرفة لتحسم هذه الظنية بحكم قاطع في الدلالة، حيث ألحقت البنتين بالبنات فوق الاثنتين، ليصير توريث البنتين بموجب حكم قطعي مقرر النصاب ثلثي التركة.

أما الوجه الآخر، فهو الحال الذي تتعاضد فيه أخبار آحاد جملة المبادئ الأساسية إلى أصلٍ عليها النظام الإسلامي، لتحمل معنى واحداً، وتفيد مقصداً مشتركاً، إذ يستحيل هذا التوافق في المضمون، إلى حكم قطعى الدلالة، والثبوت فيوجب العلم والعمل معاً، ومثال ذلك حديث الرسول «إنما أنا بشر، وإنه يأتينى الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضى له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما اهي قطعة من النار فلياخذها اوليتركها» (أخرجه البخاري) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «الولد للفراش وللعاهرة الحجر» (أخرجه البخاري).

وهذان الحديثان من أخبار الإماء التى توجب العلم دون العمل ظنية في ثبوتها، إلا أنهما وإذ يتعاضدان بقرائن خارجية، فالأول بتقوى بمفهوم العدل الواجب قيامه بين الناس ، والآية الكريمة التى تحض على عدم أكل أموال الناس بالباطل، فيصير مصدراً لأحكام قطعية عقلاً تفيد عدم براءة ذمة مغتصب حق غيره ولو كان مؤيداً بحكم قضائيٍ، وعدم إمكان سقوط هذا الحق إطلاقاً، فيصلح حينئذ سبباً لالتزام قضائي، بحيث إذا ماتنازل المغتصب عن هذا الدين الذي تقرر له بحكم قضائي – على غير حق – جاز، دون أن يُعد هبة، وإن تم التنازل في مرض الموت، جاز وليس من إعمال لأحكام الوصية. أما الحديث الآخر، فقد عضده حرص الشرع على منع اختلاط الأنساب وصونه حقوق الغير ممن لا يد لهم في الفعل الحاصل – وهم الأولاد في هذا الحال – لنحصّل حكماً قطعياً عقلياً يكاد يتفق عليه الفقه أجمع، بأن نسبة الولد لا تكون إلا للزوج، وقيام الزوجية قرينة ناطقة – دليلاً على نسبة الولد للزوج بحسبه أبيه في النظر الشرعي، مما ليس يمكنه أي زوج أن يثبت خلافة حتى وإن تمكن من إثبات زنا الزوجة . ففي الحالين المتقدمين استحالت أخبار الآحاد إلى أحكام قطعية، عدت من ثوابت الشرع التى ليس بالمكنة الخروج عليها. وكذلك يجرى هذا مجموع من الأحاديث النبوية التى تفيد كلها أن الأعمال بالبنات، والعبرة بالمقاصد، وهذه هي مااتجه جزء من الفقه لدلاتها القطعية بينة الوضوح إلى اعتبارها من قبيل المتواتر نصاً، وعدها وفق هذا التخريج قطعية الثبوت والدلالة.

ومن ثم فإن القطعيات العقلية المتواصل إليها بهذا النهج الاستدلالي، إنما تم بالاستقراء، أي بالاستدلال المحصل لنتيجة، هى أكبر من المقدمات التى ساهمت في تكوينه. ففي الوجهين المتقدم الإشارة إليهما، ثم القفز من الفروع والجزئيات إلى كليات، أي تم اعتماد الاستدلال القائم على التوافق المنطقى بين مقتضى أحكام فرعية، وحصل منه ما أفاده من نتيجة، كونت في ذاتها كلياً شرعياً.

هذا النهج الاستدلالي يتأصل على منهج من مراحل متعددة، بيدأ بمرحلة أولى لامناص عنها تتمثل في دراسة مدلولات الألفاظ التى وردت في الكتاب والسنة بحسب الوضع اللغوى من وجهة، والاسيتدلال الفقهى من وجهة أخرى، وذلك أن التأكد من الدلالات اللفظية لغوياً وفقهياً، لهو نقطة البدء لأى عمل يبحث في الأحكام الشرعية، ولو على مستوى التخريج الجزئي لها من النصوص المنطومة عليها، فاللفظ والعبارة هما تجئ المرحلة الثانية وفيها يُنتقل إلى البحث عما يعارض الأدلة التى لاحت، للاستفادة من كامل المدلولات اللفظية والفقهية المتواصل إليها ولتحصل اعتقاد واجب ولازم بسلامة هذه الأدلة وخلوها مما يبطلها إما بالقضاء عليها كلياً أو جزئياً بالتقييد أو التخصيص، فإذا اعتقد سلامة الأدلة من معارض وثبت توافقها على مفاد معين، عُدت هذه الأدلة كلاً يمثل أحد ثوابت الشرع الإسلامي بحسبانه قطعياً عقلياً. أما أن ثبت معارض لهذه الأدلة، تجرى محاولة التوفيق بين هذه الأدلة ومعارضها، فإن أمكن كنا بصدد دليل جديد بمفاد جديد، يمثل نقطة ثبات بين الحدين، الحد الأكبر والمتمثل في الأدلة المتوافقة القائمة على مفاد مشترك والحد الأصغر والمتمثل في المعارض لها، وحالتئذ لا تكون الأدلة ذاتها هي الكلى الثابت، وإنما يغدو القطعى العقلى هو تلك النقطة التى أمكن عندها التوفيق بين هذه الأدلة ومعارضها، ومثال ذلك عامة أو مطلقة أو مشتركة، فهذه تمثل الحد الأكبر، وتأتي النصوص الأخرى المخصصة أو المقيدة أو المفردة لتمثل الحد الأصغر، ومن التوفيق الحاصل بينهما عند تمام التخصيص أو التقييد أو الفرز، يتكون القطعي العقلى الذي نعنية بحسبانه يمثل نقطة اتزان بين الأدلة ومعارضها، أما إذا لم يكن مستطاعاً اجراء مثل ذلك التوفيق، يكون من العسير تخريج قطعي من هذه الأدلة فتبقى على حالها في إفادة حكم جزئي على ما تتضمنه من فروع دون تعدية إلى تكوين كليّ. وعند هذه المرحلة، قد يتوقف الاستدلال، بيد أن ثمة من الأحوال ما لايكتفى فيه بهاتين المرحلتين، أذ يضحى الاستدلال، لاكتماله، في حاجة إلى مراحل أخري، وهنا تتعين المرحلة الثالثة وهي التعرف على علل الأحكام بتنقيح مناخها وتخريجها وربط الأحكام بعللها، حتى يمكن منضبط، كما قد تتعين المرحلة الرابعة وهي الاستهداء بالصحابة رضوان الله عليهم اقتداء بمسالكهم في فهم الأحكام وكيفية تطبيقها على ما عرض لهم من نوازل، ومثال لما تقدم، نجد أن ثمة حكماً شرعياً يمثل كلياً من كليات الشرع الإسلامي يقتضى بالنهى عن الغرر، هذا الحكم حصّل من نهى الرسول صلى اله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء العبد الآبق وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص (أي الذي يغوص في البحر لأجل الجواهر)، في هذا الحكم جرى العمل اساساً بالمرحلتين الثانية والثالثة، حيث تم البحث في الأدلة التى تفيدها هذه الأحكام الجزئية لبيعها، وجرى البحث عن معارض لها، ولم يثبت وجوده، ثم تم تنقيح مناط كل حكم منها ووجدانه النهى ورد فيها جميعها وفقاً للغرر، وعليه انعقد كلي عُدَّ من ثوابت المعارضات، ألا وهي النهي عن الغرر، الأمر الذي صار معه، بلا خلاف، كل تعارض اشتمل على غرر أو جهالة، تعارض باطل. أي أننا استقرأنا الفروع والجزئيات التى وردت بشأنها أحكام في خصوصها ثابتة بأدلة ظنية الثبوت وقفزنا بأحكامها من نطاق حدودها المحدودة إلى تحصيل حكم كلى، لنكشف بذلك عن ثابت من ثوابت الشرع، يُعد في حقيقته قطعياً عقلياً.

ب‌-منهج الاستدلال من جملة خطاب الشارع.

يسعى الاستدلالي إلى  التجاوز المنهجي لحدود الفروع الجزئية التى يتكون منها خطاب الشارع، صوب جملة هذا الخطاب، بحيث تصير نصوص الشرع الإسلامي بكاملها، متعاضدة فيما بينها، متكاملة على تُستقرأ من مقتضى أحكامه، الكليات التى تشكل بعض من القطعيات العقلية، فأحكام الشرع الإسلامي على ضربين؛ ضرب أول ويمثل الاتجاه المباشر لكل حكم من هذه الأحكام على المباشر لكل حكم من هذه  الأحكام على وحدة من وجهة الدلالة التى يفيدها الحكم، وضرب آخر يمثل الاتجاه الكلي لجملة هذه الأحكام ودلالالتها الكلية التى تفيد ما بُعد من ثوابت الشرع الإسلامي، فإذا كنا قد عرضنا فيما انقضى، إلى بيان لصور وأنواع من ذاك الضرب الأول، فإن جوهر البحث بهذه الضرب الثاني، بحسبانه فيزياء القوى الفاعلة – الأحكام – داخل التكوين البنائي لنسق خطاب الشارع – ذاك كان لكل نظم علاقات قوى تمثل ديناميات الانفعال الناشط داخل هذا النظم، فإن هذه القوى والعلاقات البيانية بينها، وهي أمر محسوس بالختم، إنما ثمثل الروح لهذه التظم، والذي بدونه لألقى النظم جسداً هامداً من الأحكام الجافة المتنافرة غير القادرة على التفاعل المشترك فيما بينها.

والحق فإن هذا النهج المدروس، ينطلق من تسليم عقدى – مبتدأ- باتساق أحكام الشرع الإسلامي فيما بينها دون تنافر أو شقاق، وتسليم عقدى بأن الشارع الحنيف ما وضع النظام الإسلامي إلا لصالح العباد في العاجل والآجل معاً (24). وهاتان مقدمتان تسليميتان لكل عقل مسلم يجتهد حول شرعه الإسلامي، إنهما نتيجة حتمية لا فكاك منها تقوم على أصل من أصول من أن الشرع الحنيف المنزه، ما أتى بشئ من أحكامه، وما أقام عليها هذه الأحكام من أسس وأصول، وما قوضه من قوى عقل وعلاقات متبانية بينها، إلا بغية فلاح العباد وصلاحهم في الدنيا قبل الآخرة، ومن ثم فليس ثمة من سبيل لأفكار قوى الفعل داخل منظومة الشريعة الإسلامية والعلاقات البيانية بينها، على ما يلي.

يقوم هذا النهج بمرحلة أولى، تتمثل في النظر إلى نصوص الشريعة الإسلامية بكاملها؛ نظراً يعمل سير غور هذه النصوص، ودلالاتها اللغوية والفقهية الشرعية، لتحصيل فهم كلي لمجموع دلالات لأحكام الشرعية، وهي المرحلة التى ينتقل فيها العقل المجتهد من النص إلى ما يمكن تسميته «ما وراء النص» في غوص جاء وراء كافة احتمالات مقاصد الشرع الإسلامي من هذه الأحكام، لتحقيق كافة المعاني التى يمكن استفادتها من هذه النصوص خلاف المعنى المباشر المتبادر من الدلالات المباشرة لها.

ثم تأتى المرحلة الثانية، وحتى تلك التى تعمل على الاستثمار الكامل لكافة نطاقات النصوص، وكل دلالاتها المباشرة والمتوارية التى تحتملها، ومحاولة إيجاد القواسم المشتركة بينها، وما يصلح أن يكون معتبراً كلياً في الشرع الإسلامي، بما يطويه بين جنباته من فلسفات خاصة بالتشريع الإسلامي، ومقاصد شرعية مرعية من قبل هذا الشرع، وأخيراً تأتى المرحلة الثالثة، وفيها يتم عرض نتائج العمل في المرحلتين السابقتين على بعض، للنظر في مدى اتساق وقدرة تماسكه، ومدى توافقه مع الأحكام المباشرة المستفادة من المعنى الأولى المتبادر من النصوص، فإن بدا توافق في كل ذلك كنا بصدد كليات شريعة هي بحكم هذه الكينونة تعد قطعيات عقلية، لا محال، وأضحى ذلك دليلاً على صحة المتوصل إليه، ما يمكن معه تعيين قوى الفعل الناشطة داخل المنظومة الإسلامية، وهي تلك الأسس والأصول التى تُبنى على قوائمها مرتكزات هذه المنظومة، ويبضبط على هداها تناغم الحركة الإنسانية المتبينة لهذه المنظومة معتنقاً جميعاً.

هذا النهج المتقدم، هو الذي حصلت به أسس الشريعة الإسلامية، آنفة البيان في مبدأ هذا البحث، كالعدل والحرية والمساواة، وهو كذلك، الذي اعتمده العقل المسلم لتحصيل مقاصد الشرع الإسلامي، سواء المقصد الأساسي، العام المتمثل في إقامة المصالح الأخروية والدنيوية بحسبان ما ثبت استقراء بالمنهج المتقدم من أن «الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، وذلك على وجه لايختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات .. (فالشارع) قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلابد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديّاً وكلياً عاماً في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال (25). فالمقطوع به استقراء أن الشريعة الإسلامية إنما تتفياً نقصداً أساساً ألا وهو حفظ النظام العام واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو الإنسان، والحفظ في هذا المقصد بقدر ماشمل العقيدة والأعمال شمل أيضاً أحوال الناس وشؤونهم في الحياة الاجتماعية؛ لأن الإصلاح المنوه به هو صلاح الأحوال الفردية والجماعية والعمرانية» (26). وبذات النهج تمكن العقل المسلم من التمييز بين المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية، بحسبان ما استقرء مما للأحكام الشرعية من مقاصد، إن منها ما هو أساس يعتبر الغاية الأولى العليا للأحكام، ومنها ما هو ثانوي تابع للمقصد الأساس أو مكمل له. ونحن هنا لسنا بصدد العرض للنظرية العامة للمقاصد الشرعية حتى نفيض في تبيانها، وأنما – وحسب – تستدل بهذه النظرية على ما طرحناه من أن ثمة قطعيات، غير نصية، وإنما عقلية يتم تحصيلها بالاجتهاد والنظر الاستقرائي الباحث في جملة الشريعة الإسلامية بأكملها، لتخريج المعاني الأساسية التى تأصلت عليها هذه الشريعة، ومنها استبان أن ثمة ما هو منضبط المعنى، موافق مقتضيات الفطرة الشرعية، متسق استواء والأحكام الشرعية على مستواها التفصيلى الحرفى، وذلك جميعه على نحو ملحوظ لا يختص به فرع من أحكام الشريعة دون آخر، وتشكل النسق الغائي لهذه الشريعة بأهدافها الكلية ومقاصدها النهائية، وبذلك أمكن – فقهيّاً – تحصيل قطعيات عقلية، لم تفدها صراحة النصوص، وإنما أفادها الاستقراء الكلي لجملة أحكام ونصوص الشريعة الإسلامية.

ثانياً: القائم على تحصيل القطعيات:

أشرنا عرضاً قبل، أن منا يميز القطعيات النصية عن قسائم القطعيات، هو الثبات المطلق الذي تتسم به الأولى مقارناً بالثبات النسبي الذي تتصف به الثانية، فالقطعيات النصية هي قطعيات لاسبيل لانكارها أو زعم محدوية فاعليتها أو انحصارها زمناً أو مكاناً أو حالاً، وهي بهذه الكيفية تُعد كذلك باعتراف كافة المذاهب والمناهج المختلفة، فالجميع على كلمة سواء في شأنها، والإجماع قاطع في حصوصها، أما قسائم القطعيات، فهي بحكم طابعها الاجتهادي منهجاً، ترتبط فيما يتوصل إليه منها بالنهج الاستدلالي المتبع وفق أصول المذهب الفقهي المبحوث فيه، ومن ثم فهي قطعية عقلاً لدى المذاهب المنتهج دون أن تكون بالضرورة كذلك وفق أي مذهب آخر؛ إذ لاختلاف الأصول المنهجية بين مذهب وآخر وتمايزها في مناهج الاستدلال، يمكن أن تترتب نتائج تفرز تردداً في شأن بعض الأمور ما إذا كانت قطعية عقلاً أم أنها ليست كذلك، الأمر الذي حدا بنا من البداية، وتوقياً لهذا الاعتبار إلى الاعتداد بها مجرد قسائم للقطعي وحسب، وليست قطعيات في ذاتها، حتى لا تخالط القطعيات النصية التي هي كذلك في ذواتها، بيد أن الأمر في هذا الخصوص ليس محتدماً أو جوهرياً، في افتراق المذاهب فيما بينها، بشأن تعيين القطعيات العقلية، بل إن الغالب الأعم من هذه المذاهب، تكاد تتفق فيما بينهما حول الغالب الأعم من القطعيات العقلية المقول بها، وغالباً ما يرد الخلاف مورد الجزئيات والفروع المخرجة تخريجاً اجتهادياً محضاً. ولعل هذه التقارب الشديد، ليجد مناطه، في وحدانية منابع قسائم القطعيات التى تتعين في المصادر النصية بالكتاب والسنة، وفي الاتفاق حول كليات الشريعة الإسلامية، الأمر الذي يقلص دور الاختلاف الاستدلالي في ترتيب اختلاف جذري حول ما يعد من قطعيات الفعلية.

وهنا، وعند هذه النقطة تتعين ثلاث آليات هامة، تلعب دوراً بالغ الحيوية في تحديد قسامة القطعيات، وهي إن جاز التعبير ثلاث قوى فاعلة في هذا الخصوص.

أ‌-    أولها التوافق الجمعى لهيئة مجتهدى الجماعة المعتمدين لدى هذه الجماعة، الذي إن انعقد على أن ثمة أمراً ماهو من قبيل قسائم القطعيات صار كذلك لدى هذه الجماعة بلا خلاف، ونحن لا نعنى في هذا الخصوص باتفاق هيئة المجتهدين، الإجماع على النحو المصطلح عليه في علم أصول الفقه، وإنما نعنى، وحسب، التشارك الوجداني الفقهي من جانب والجمعي الشعبي من جانب آخر، على الاعتداد بأمر ما بحسبانه من ثوابت الشريعة الإسلامية، فحالتئذ يتعين هذا الأمر بوصفه قسيماً للقطعي.

ب‌-         أما ثاني هذه القيم فهي سلطة ولي الأمر وسلطاته في التغليب والترجيح بين الآراء المختلفة، وبين الاتجاهات الاجتهادية المتباينة، فما يراه بحكم ولايته العامة على أمر الجماعة المسلمة كلياً، فهو قسيم للقطعي، ما دام قد شايع أحد الآراء ذات تقبل الجمعي ولم يشق عن النسق الفقهي المنتهج تشريعاً لدى الجماعة.

جـ- واخيراً تأتى القوة الثالثة، ممثلة في القاضى، الذي يبدو دوره في هذا الخصوص دوراً كشفياً أكثر منه منشئاً، فهو يكشف عما يُعد لدى الجماعة وحسب اتجاهات القوتين الأوليين، كلياً، فيعينه كذلك ويرفعه إلى مصاف القطعيات العقلية، وذلك وهو بصدد ما يفرض عليه من نوازل قد تستوجب الكشف عن هذه القطعيات.

وقد يُلحظ من هذا الاستخلاص الأخير، أن ثمة ثلاث قوى فاعلة على مستوى تحقيقه قسائم القطعي، تشابه وتوازي المستويات الثلاث التي ذكرناها في الفكر الوضعى المتعلقة بالنظام العام، فهذا النشابه دلالته أن الأداء الوظيفي للمنهج الفقهي الإسلامي فيما يتعلق بالقطعيات يوازى ويكفل ماتوصل إليه مفهوم النظام العام في القانون الوضعي بمستوياته كافة، بمعنى أن القطعيات العقلية في الفقه الإسلامي، هي من حيث العموم والشمول تستجيب وتؤدى كل النتائج التى يصل إليها الفكر الوضعى من خلال فكرة النظام العام بمستوياتها الثلاث.

إلا أنه ينبغي ألا يغيب، أن ثمة فروقاً أساسية بين النظام الإسلامي والفكرية والوضعية، تتعلق بالمصدر الذي تنحدر منه أحكام لقطعيات الخاصة بكل منهما، وتتصل كذلك بمناهج الاستدلال المتبعة لتخريج هذه الأحكام من الوجهتين النظرية والمنطقية. فيمكن الفارق الجوهري الأساسي، في أن القفه الإسلامي، ومنهما اجتهد فيه لتخريج أحكام كلية هو أهل لهذا التخريج، يرد دوماً ودائماً إلى القواعد المنزلة منصوص القرآن والسنة، ومن ثم فهو ينطوي على قطعيات ليس لها نظير منهجي في الفكرية الوضعية، ألا وهي القطعيات النصية آنفة البيان، وهذه القطعيات ثابتة وقائمة دون إمكان لتعديل أو تغيير، مهما استطال الزمن ومهما تبدلت الأحوال ومهما تغييرت الأمكنة، وهذا مستوى لا نظير له بفكرة النظام العام الوضعية. أما القطعيات العقلية المرجحة بالقوى الثلاث آنفة الذكر، والتى قد تفيد دلالة تعادلها الموضوعي مع مستويات النظام العام، فهي أيضاً – وافتراقاً عن حال النظام العام ومستوياته – مردودة بالضرورة واللزوم إلى نصوص القرآن والسنة، أي إلى مرجعية إلهية خارجة عن الزمان والمكان والأحوال وهي المرجعية الشرعية العليا، ومن ثم يغدو ما قد يطرأ على هذه القطعيات العقلية من تبدل أو افتراق بين مذهب لأخر في خاصتها، إنما هو ترجيح لرأي على آخر تسعها جميعها النصوص المنزلة أي يحتملها القصد الإلهى بأحكام اللانهائية. وعليه يتبلور محور الافتراق في هذه الجزئية، حول نوع من الأبدية السرمدية تتسم به نصوص القرآن والسنة، أي النصوص المرجعية للنظم الإسلامي، تفتقر إليها أعلى النصوص في مدارج الشرعية الوضعية.

وثمة فارق آخر يتمحور حول مفهوم الإرادة لدى كل من المنظومة الفكرية الإسلامية والنظم الفكرية الوضعية، ملف الإشارة إليه بمبتدأ هذه الدراسة، يتمثل في أن الارادة  في الفكر الوضعي صبغت فلسفياً، ومن البداية على أنها مطلقة حرة وذلك بحكم الشرعة الأولى، إلا أنه ولضرورة عيش اجتماعي مشترك، وجب تقييدها، وهو ما تم فعلاً بالتصور المطروح بفكرة النظام العام، الأمر الذي يفيد أن تقييد الإرادة في الفكر الوضعى إنما تم لأسباب خارجة عن ماهيتها وبآليات خارجية عن مكوناتها. حال أن الأمر خلافة في المنظومة الفكرية الإسلامية أن الإرادة في الإسلام ولدت بأصل الشرعة الأولي مقيدة غير طليقة، محدودة باعتبارات قدرت إلهيّاً قبل، ومن ثم تكون القطعيات العقلية التى يتوصل إليها بأي من المناهج المقررة اجتهاداً، وعبر أي من القوى الثلاث الفاعلة في هذا الخصوص – أنفة البيان – قطعيات مبيننة لحدود سلطة الإرادة وساحة هذه السلطة، أي كاشفة عن مساحات التقييد لدى هذه الإرادة، وليس كما الوضع في فكرة النظام العام، حيث ترد قواعده مفتئة على الإرادة مقلصة من بعض – أو كل – مكناتها.

مما يستظهر معه، الخلاف بين المرجعية الإسلامية العليا وفكرة النظام العام الوضعية، خلافاً معه من العسير إسباغ وصف فكرة النظام العام على هذه المرجعية الشرعية الإسلامية.

الهوامش

(1)  أما عن التصرف الشرعي فقد سبق تبيانه ولا مزيد فيه بهذا الخصوص، وأما عن التصرف الفعلي فهو الأفعال التى ترتب آثاراً ولو لم يردها الفاعل كالغصوب والإتلافات، ومنها كافة صور التعدى على الغير كالجنايات والسرقة ومنها الإحراز وإحياء الموات والتحجير وهي ليست من الغصوب ولا الإتلافات. وأما الواقعات الشرعية فهي الحوادث التى تقع دونما اختيار من الإنسان كالميلاد والوفاة الجوار ومضي الزمان. وقد جعل الله تعالى لكل فعل منن هذه الأفعال جميعها حكماً شرعياً يرتب التزامات، سواء وقعت على عاتق اللقائم بالفعل أو على عائق غيره وعلى عاتق غيره كجماعة بأسرها. وهي تتراوح ما بين عقوبات بدنية والتزامات مالية أو عينية وواجبات مفروضة. أصل هذه الأحكام جميعاً إنما يمكن في ذلك الإطار المراجعي الأشمل المقرر ترسماً بالوضع الإلهي، الذي إليه ترد الإثار يجعل منه.

انظر د/ محمد زكي عبد البر، التصرفات والوقائع الشرعية – دار القلم بالكويت – الطبعة الأولى – 1402 هـ 1982 م.

(2)  ويشير الفقه إلى أن عمارة الأرض وانتقاع المسلمين بها، يكون باحياء الأرض وزراعتها على نحو ما تزيد به الثروة القومية للجماعة ويحصل من خراجها وعشارها – انظر د/ د/ محمد زكي عبد البر – المرجع – ص 122، 123، 124.

(3)  علم أصول الفقه، الشيخ / عبد الوهاب خلاف – الطبعة الثالثة – 1366 هـ ، 1947م – مطبعة القصر ، شارع فاروق – ص 147.

(4)  أصول الفقه الإسلامي، د/ محمد كمال الدين إمام – الطبعة الأولى – 1416 هـ ، 1996م / – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – ص 147.

(5)  أصول الفقه الإسلامي، د/ محمد كمال الدين إمام – الطبعة الأولى – 1416 هـ ، 1996م / – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – ص 147.

(6)  والحق أن غالب الأحكام الفقهية في خاصة هذا الشأن تجد أدلتها من السنن النبوية وإجماع الصحابة والاجتهاد المعتبر حيث تتعين آيات الله تعالى بمحكم كليات ضابطه ابتداء وهادية انتهاء للأدلة التى تعد تفصيلاً للآيات.

(7)  د/ محمد سليم العوا في النظام السياسي للدولة الإسلامية. المرجع السابق – ص 192.

(8)  مرجع سابق ص 192.

(9)  مرجع سابق ص 192.

(10)       مرجع سابق ص 192.

(11)       مرجع سابق ص 249.

(12)       وهذا الأمر تحديداً مما يتدخل بين المعيارين الآخرين لاختفاء قطعية دلالية عليه كما يبين لاحقاً.

(13)       د/ محمد كمال الدين إمام- أصول الفقه الإسلامي – المرجع السابق – ص 157.

(14)       الشيخ/ عبد الوهاب خلاف – علم أصول الفقه – المرجع السابق – ص 40.

(15)       د/ محمد كمال الدين إمام– المرجع السابق – ص 157.

(16)       د/ محمد كمال الدين إمام – المرجع السابق – ص 159.

(17)       أصول الفقه الإسلامي – الشيخ/ محمد مصطفي شلبي – دار النهضة العربية بيروت، لبنان – طبعة 1406هـ – 1986م – ص 151.

(18)       د/ محمد كمال الدين إمام – المرجع السابق – ص 165.

(19)       الشيخ/ محمد مصطفي شلبي – المرجع السابق – ص 165.

(20)       د/ محمد كمال الدين إمام – المرجع السابق – ص 167.

(21)       الشيخ/ مصطفي شلبي – المرجع السابق – ص 175.

(22)       الشيخ عبد الوهاب خلاف – مرجع سابق ص 34.

(23)       وقد يرد بأن من الفقهاء من ذهب إلى أن العام قطعى حتى يتم خصيصه، وحيئذ تندرج القطعية على غير المخصص، ومنا نرد عليه بأننا بصدد قطعيات عقلية قائمة على الاجتهاد، وكل يجتهد ومذهبه الاستدلالي، إذ في خصوص القطعيات العقلية ليس ثمة إجماع في خاصتها من كافة المذاهب كما في القطعيات النصية، وهذا حدا بنا إلى تستمية العقلية «قسائم القطعي» لكونها في حقيقتها في درجة أدنى من الوجهة القطعية من درجة القطعيات النصية.

(24)       الموافقات في أصول الشريعة – أبو إسحاق الشاطبي – الجزء الثاني – المكتبية التجارية الكبري مصر – جـ 6.

(25)       المرفقات – الشاطبي – الجزء الثاني – ص 37.

(26)       نظرية المقاصد الإمام محمد الطاهر بن عاشور- إسماعيل الحسنى – المعهد العالمي للفكر الإسلامي – سلسة الرسائل الجامعية (15) – الطبعة الأولى 1416 هـ – 1955 – ص 235.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر