أبحاث

مسارات النهضة ونظائرها في الفكر الإسلامي الحديث

العدد 132

توطئـة:

لم يكن شكيب أرسلان يزجي قولا في الفراغ حين تساءل بملء فيه: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ بل كان يطلق طلقة كاشفة تبدد الظلمة التي لفّت عقول رواد النهضة العربية – الإسلامية الحديثة، الذين حيرهم غروب شمس حضارتنا، وبزوغ شمس حضارة الغرب، الذي كان يعيش في ظلام دامس وقت أن كان نور التحضر والتقدم يغمر أرض الإمبراطورية الإسلامية مترامية الأطراف.

في حقيقة الأمر فإن سؤال النهضة ونظائرها وأشباهها هو الذي سيطر على العقل المسلم منذ  مطلع القرن الثامن عشر، وطفت على السطح مصطلحات تدور حول هذا المعنى، تتقاطع معه أحيانا، وتوازيه أحيانا، وتختلط به لدى كثيرين، مثل “الإحياء” و”الصحوة و”الإصلاح” و”التجديد”. وهذه المصطلحات توزعت على اتجاهات نظرية وعملية شتى هي:

1 – طرَحَها البعض كمنظومة قيم متماسكة، ترمي إلى تشكيل إطار عصري ذي جذور عميقة تمتد إلى العهد الأول للإسلام، وتحاول أن تعيد إنتاج تجربته الفريدة والعفية، التي أطلقت الدفقة الأولى لنور الحضارة الإسلامية، سواء من حيث الحالة الروحية الفياضة أو من زاوية السلوكيات والمآثر التي جاد بها الرعيل الأول، الذي سماه بعض أنصار الحركة الإسلامية الحديثة “الجيل الرباني” أو “الجيل الفريد”.

2 – وهناك من طرح هذه المصطلحات بوصفها شعارا سياسيا، يهدف إلى تعبئة وحشد الأنصار للاستقواء والاستعانة بهم في بناء “الدولة الإسلامية المعاصرة” أو “استعادة الخلافة” وإزاحة الأنظمة العلمانية وشبه العلمانية التي وصلت إلى سدة الحكم عقب سقوط الخلافة العثمانية عام 1924.

3 – وطرحت هذه المصطلحات أيضا في سياق التحدي الحضاري للغرب، والذي بلغ موقعا متقدما من نفوس وعقول أتباع الحركة الإسلامية الحديثة والمعاصرة، إلى درجة أن من تابعها وجعلها موضع الفحص والدرس رأى أنها تعد رد فعل على تجبر الحضارة الغربية، وتحول فائض قوتها وتمكنها إلى حركة استعمارية استهدفت بلاد العرب والمسلمين. ومن هنا حفل خطاب الإسلاميين على اختلاف تنظيماتهم وجماعاتهم من حيث التفكر والتوجه والتصرف بالعديد من المضمامين والتعبيرات التي توضح موقفهم المغبون من الغرب، ودعوتهم إلى مواجهته، ابتداء من التمسك بالهوية وانتهاء برفع السلاح.

4 – واستخدمت هذه المصطلحات لمواجهة تيارات سياسية وفكرية انحازت إلى “القطرية” الضيقة، ومالت إلى استعارة طرق الغرب وأدواته في النهضة، ورفعت شعارات من قبيل “التحديث” و”الحداثة” و”التنوير” في مواجهة من راموا التقدم على أسس إسلامية.

5 – كما طرحت هذه المصطلحات لدى البعض في إطار بحثهم عن دور حياتي، أو سعيهم إلى الحصول على تقدير الذات واحترام الآخرين، عبر الانتماء إلى فكرة سياسية واجتماعية مرتبطة بالدين الذي يحظى بمكانة عريضة في قلوب الشرقيين وعقولهم.

6 – وآخر وليس آخيرا، استخدمت هذه المصطلحات لدى البعض أيضا بغية تحقيق منافع مادية ودنيوية عبر الاستفادة من الأموال الطائلة التي جاد بها الموسرون من أنصار الحركة الإسلامية وأتباعها والمتعاطفون معها، سواء كانوا حكاما أو وجهاء أو حتى أفراد عاديين كانوا حريصين على دفع التبرعات المتفرقة والمنتظمة لهذه الحركة.

لكن هذه التوزيعات الست لمسألة النهضة خضعت كغيرها من اهتمامات علماء المسلمين المحدثين للأمرين الأساسيين اللذين يقاس عليهما أي تفكير أو عمل لنقف على مدى نجاعته وقدرته على تغيير الواقع المتردي الذي نعيشه، وهما الصواب والإخلاص. وفي حقيقة الأمر فإن كثيرا من أسئلة النهضة وسائليها لم ينقصهم الإخلاص، لكنهم افتقدوا في كثير من المواقع والمواضع والحالات إلى الصواب.

وأول خطوة نحو مفارقة الصواب كانت هي الخلاف على تعريفه، والتي نبعت أساسا من الاختلاف حول تأويل النص الإسلامي المؤسس وهو القرآن الكريم، إلى جانب الصحيح من السنة، وتجلياتهما في الواقع المعيش، ومن ثم فإن ما رأته جماعة ما عين الصواب رأته أخرى مخالَفة صريحة له، وما اعتبره البعض تجديدا في فقه الدين وفكره تصوره آخرون تجديفا وخروجا على الشرع.

وعلى هذا الأساس وقع اختلاف، ولا يزال، حول سبل النهضة، بين الفرق والجماعات والتنظيمات الإسلامية. فبعضها انطلق من الموقع نفسه ورمى إلى تحقيق الغاية ذاتها، لكنه لم يلبث أن تخاصم أو تنازع حول الأسلوب الذي يجب اتباعه في سبيل بلوغها. وهذا الاختلاف توزع على عدة محاور  من قبيل القواعد التي تقوم عليها النهضة، والعناصر التي تشارك في صنعها، والمستوى الذي تبلغه، والهيئة التي ستكون عليها في المستقبل المنظور والبعيد.

ولم يقتصر الاختلاف والخلاف على أتباع الحركة الإسلامية بل امتد إلى التيارات الفكرية الأخرى، التي أدلت بدلوها في الجدل والنقاش الذي دار حول معاني النهضة ومبانيها، وأشباهها ونظائرها، بل إن هؤلاء هم من أطلقوا السؤال أولا، وقبل وقت طويل من التفات الحركيين الإسلاميين إليه، بل إن هذا التساؤل لم يطرح في إطار تحد الغرب أو خصامه، بل في سياق الرغبة في التفاعل الخلاق معه، والاستفادة من عطائه الحضاري، تحت لافتة أن “الحكمة ضالة المؤمن فأنّى وجدها فهو أولى بها”. وهذا المعنى تجسد بجلاء في أعمال فكرية عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، كتب رفاعة رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وخير الدين التونسي وأديب اسحق.

وقد كان هؤلاء يفكرون في سؤال النهضة وأشباهها في وقت واحد تقريبا، وهي مسألة يصفها عزت قرني في كتابه المهم الذي وسمه بـ “العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة” بقوله: “كان أهل المغرب، وأهل المشرق، وأهل مصر بينهما، يفكرون جميعا في الأمور نفسها، وأمامهم المشكلات نفسها، والحلول ستكون لهم جميعا. فهذا الفتى المصري، وذلك السياسي الذي اتخذ تونس موطنا ووطن، وهذا السوري المتأجج حماسة، وذلك الأفغاني الذي يذهب بين الحجاز ومصر ويثير في نفوس المتكلمين بالعربية في مصر والشام وغيرهما نفس ردود الأفعال. هؤلاء جميعا كانوا يتحدثون عن الشيء نفسه، ولكن بطرق متباينة، وإلى حدود مختلفة”(1).

لكن أتباع الحركة الإسلامية، التي بذلت جهدا ملموسا في سبيل نقل الأفكار إلى الواقع، لم يتبعوا ما أنتجه رواد النهضة العربية الحديثة، بل تنكروا له، متصورين إياه أو أغلبه لا يعبر عن أصالتنا، إنما هو مجرد خليط بين ما لدينا وما أفرزته الحضارة الغربية، وأنه يعبر في جزء كبير منه عن استلاب حيال الغرب، يبدأ بالإعجاب به وينتهي بالانسحاق أمامه، والتسليم بكل شروطه، والتماهي مع أطروحاته، والوقوع في فخ مركزيته، التي لا ترى أن هناك شيئا ولا أحدا خارجه.

وإنكار إجابات هؤلاء الرواد على سؤال النهضة وتجاهل جهدهم أو القدح فيه مهّد الطريق لإعادة طرح السؤال نفسه على يد الحركيين الإسلاميين، الذين تبلور وجودهم وبدأ بقيام جماعة الإخوان المسلمين في مصر على يد الشيخ حسن البنا عام 1928، لكن الردود جاءت هذه المرة مختلفة، حيث حاولت أن تحقق قطيعة معرفية وشعورية مع الغرب بأفكاره وطرائق عيشه، ثم انزلقت إلى تنفيذ هذه القطيعة مع المجتمع الإسلامي نفسه على يد فرق متطرفة ومتشددة رمت المختلفين معها بالفسق والكفر والجاهلية، وناصبت الجميع العداء، وادعت أنها “الفرقة الناجية”، ثم سلكت طريق العنف الرمزي والمادي من أجل إجبار الآخرين على الانضمام إليها، ومواجهة السلطات الحاكمة لإسقاطها وإقامة “الدولة الإسلامية” على أنقاضها.

واليوم تراجع بعض هذه الحركات نفسها، فكرا وعملا، وتتجه فيه أخرى إلى مزيد من الوسطية والاعتدال، ومن ثم يعاد طرح سؤال النهضة مرة جديدة، وفي سياق مختلف، يرد فيه الاعتبار للكثير مما أنتجه رواد النهضة العربية – الإسلامية الحديثة، لاسيما مع ذوبان الكثير من الفواصل والحدود بين “الإسلاميين” وغيرهم من القوى الفكرية والسياسية التي تموج بها الساحة، الأمر الذي تبلور في الحوار القومي – الإسلامي، واقتراب بعض المفكرين الإسلاميين من الليبرالية، وفتح الباب أمام حوار عالمي بين الأديان والحضارات.

وهذه المراجعة التي تتوازي مع استمرار الجهد القديم في سبيل بلوغ النهضة تجعل من الضروري إعادة إنتاج المسائل العادية في تاريخ الفكر والفقه الإسلامي بطريقة جديدة، والتي انطوت علي قيم واتجاهات راسخة وضرورية، تشكل إطارا مهما للحركة والفعل باسم الإسلام ومن أجله.

أولا: مفتاح الحديث الإسلامي عن النهضة ونظائرها:

يتجسد مفتاح الحديث الإسلامي عن قيم الانطلاق حول مسألة مركزية وهي “الاجتهاد”(2)، إذ لولا فتح بابه، والشعور بوجوده وضرورة استمراره وتجدده وتعمقه ما كان يمكن الحديث عن نهضة بعد قعود، وصحوة بعد نوم، وتجديد بعد تجميد، وإحياء بعد احتضار.

والاجتهاد لغة هو “بذل الوسع في طلب المقصود”، واصطلاحا هو “استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له ظن بقضية أو حكم فقهي”، والاجتهاد يرومه غير المقلد الذي “يأخذ بمذهب غيره دون دليل”. وقد اتكأ الاجتهاد في البداية على القياس على القرآن الكريم والسنة النبوية، ثم أخد خطوة إلى الأمام بإضافة “الإجماع” إلي ما يستند عليه، وهي نقلة نوعية في نظر الفقهاء ترفع عن الاجتهاد الظن، وتزيل عنه الخطأ، وتمنحه العصمة، حال اتفاق المسلمين جميعا عليه.

لكن الاجتهاد لم يلبث أن ضاق على يد بعض الفقهاء، ليصبح من اختصاص أولئك الذين لهم الحق في تقرير أحكام يأخذ بها غيرهم. وقد بلغ الاجتهاد ذروته مع أصحاب المذاهب الأربعة، مالك بن أنس وأبو حنيفة النعمان وأحمد بن حنبل والشافعي، الذين أدلوا في كل المسائل المعروضة عليهم بآراء تعتمد على القرآن والسنة والقياس والاستحسان والاستصلاح والاستصحاب … الخ، فاتحين باب الاجتهاد على مصراعيه. لكن الذين جاءوا بعدهم وقفوا عندهم، ولم يفعلوا شيئا سوى تقليدهم، أو تقدموا خطوة قليلة من خلال انتاج الفتوى في مسائل عصرية اعتمادا على فقه المذاهب الأربعة، الذين وعوه عن ظهر قلب.

وقد ظهرت آراء على مدار التاريخ الإسلامي تنادي بغلق باب الاجتهاد لسببين رئيسيين، الأول هو أن الاجتهاد كان لازما في عهد الرسول حيث كان صلى الله عليه وسلم حاضرا، ينزل عليه الوحي بآيات الله، وينطق بالأحاديث، وأمامه الناس يسألونه فيجيب. وبعد انقضاء هذا العهد لم يعد للاجتهاد مكانا، لأن المخول به قد انتقل إلى بارئه. والثاني أن الاجتهاد يصح حين تصح الذمم، وتطهر الضمائر، وتسلم العقائد، ويكثر الصالحون، ويبطل إذا عم الفساد، وخربت الذمم، وضعف اليقين. ففي عهد الفساد تزداد الشبهات التي ينبغي للحاكم أن يدرأها عند إقامة الحدود، وتكثر فيه الضرورات التي عليه أن يقدرها عند توقيع العقاب، وبذا يصبح هو المسؤول عن وضع الحد، ودرء الشبهات، وليس لغيره هذا الحق(3).

لكن مثل هذا الرأي لم يسمع له طويلا، واقتنعت الأغلبية بضرورة إبقاء باب الاجتهاد مفتوحا، أسوة بالرسول الكريم، الذي اجتهد فيما لا نص فيه، وصحابته الذين اتبعوا خطاه في هذه الناحية(4). ولم يرق للمتكلمين الذين اعتقدوا أن الإنسان لا يصل بالتقليد إلى إيمان منج. ثم شهدت القرون المتعاقبة من سعوا إلى كسر الجمود والخروج على التقليد، متخففين مما أنتجه من سبقهم، وذاهبين مباشرة إلى النص القرآني والحديث الصحيح، ومن بين هؤلاء ابن تيمية المتوفي سنة 728 هـ، والسيوطي المتوفي سنة 911 هـ، الذي لقب بمجدد عصره، وكان يعتقد في أن كل عصر لابد له من مجدد في فقه الدين.

ويقوم الاجتهاد في رأي الفقهاء القدامى على دعامتين، الأولى هي القياس، والثانية هي المصالح المرسلة(5). والقياس هو أحد المداخل الأساسية للاجتهاد في نظر كثيرين من الفقهاء، وفي مقدمتهم الإمام القرافي، حيث جادوا بنموذج متكامل الأسس والمقومات لكيفية اتخاذ هذا الأسلوب قاعدة للسياسة الشرعية، عبر أمور ثلاثة، هي:

أ – جوهر منهاج القياس هو تبدل الأحكام، وتغير العمل بها، بتبدل الأحوال والأزمان، دورانا لتلك الأحكام حسب تبدل مناطها.

ب – ضيق الحال يستوجب التوسعة، ويضفي المشروعية في حال الضرورة والاضطرار على الأحكام الشرعية في المجالات كافة.

ج – الأخذ بمسألة تغير العادات والأعراف، وهذا يعد من قبيل تغير مناط الحكم بما علق على استيفائه من عادات وتقاليد وأعراف.

ومن هنا فإن الاجتهاد المتكئ على القياس يدور حول تبدل الأحكام وتغير العمل بها بتغير الأحوال والأزمان حسب تغير مناطها، وكذلك تغير الأعراف والعادات.

ويرى الإمام أبو حامد الغزالي أن الاجتهاد يختلف عن القياس في أن الأول أعم من الثاني، لأنه قد يكون بالنظر في العموميات، ودقائق الألفاظ، وسائر طرق الأدلة سوى القياس، وبهذا يكون الاجتهاد شاملا القياس وليس العكس. ويحدد الغزالي شروط الاجتهاد في عدة ركائز هي الإسلام والعدالة ومعرفة آيات الأحكام في القرآن الكريم، ومعرفة الأحاديث المتعلقة بالأحكام، ومعرفة الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، ومعرفة مسائل الإجماع، وعلم أصول الفقه، ومعرفة لسان العرب. ولخص الشاطبي هذه الشروط في فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والتمكن من الاستنباط بناء على هذا الفهم(6).

وتستدعي حيازة فلسفة الاجتهاد، كما يقول الجويني “نخل الشريعة من مطلعها إلى مقطعها، وتتبع مصادرها ومواردها، واختصاص معاقدها وقواعدها، وإنعام النظر في أصولها وفصولها، ومعرفة فروعها وينبوعها، والاحتواء على مداركها ومسالكها، واستبانة كلياتها وجزئياتها، والاطلاع على معالمها ومناظمها، والإحاطة بمبدئها ومنشئها، وطرق تشعبها وترتبها، ومساقها ومذاقها، وسبب اتفاق العلماء وإطباقها، وعلى اختلافها وافتراقها”(7).

أما المصالح المرسلة فهي أوسع من القياس، لأن كل قياس يراعي المصلحة، لكن ليس كل مراعاة للمصلحة  تمر حتما بالقياس. وهذا النوع من الاجتهاد ينصرف إلى وجود حكم شرعي لما لا نص فيه، ويقوم بالأساس على فهم روح الدين ومقصده. فالله سبحانه وتعالى بعث رسله لتحصيل مصالح عباده في الآخرة والدنيا، ومن ثم فإننا حين نجد مصلحة يغلب على الظن أنها مطلوبة للشرع.

ويحدد الفقهاء مراتب المجتهدين في ثلاث، الأولي هي مرتبة المجتهد المطلق، وهو الذي يستنبط الأحكام من القرآن والسنة مباشرة، والثانية هي مرتبة مجتهد المذهب وهو من يستنبط من قواعد إمام مذهبه، أما الثالثة فهي مرتبة مجتهد الفتوى وهو المقتدر على الترجيح في أقوال إمام مذهبه(8).

وهناك من يتوسع في معنى الاجتهاد ليجعل منه منطقا نقديا وتجاوزيا للماضوية، إذ ينظر إلي التراث ليس للاستغراق فيه، والانغلاق عليه، أو الاكتفاء به، والانقطاع له، بل يستلهمه ويهضمه ويستوعبه ويتجاوزه، من دون إهماله ورفضه وممارسة قطيعة معه. وهذا الطور من الاجتهاد يتحرر من الفهم الأحادي للمعرفة الدينية والشرعية والفكرية بمفاهيمها وتصوراتها وأصولها، ويتخلص من الفهم الجامد الذي ينفر من التطور والتغير والتجدد، ويعترف بحق الآخرين في الاختلاف، مقرا بمبدأ التعدد والتنوع في الرأي، ومتكيفا مع هذا من دون مجافاة ولا ممانعة ولا مصادمة. ويقوم كل هذا على مبدأ إعمال العقل، ومنحه أقصى درجات الفاعلية لاستفراغ الوسع، وبذل أعلى مستويات الجهد الفكري والعلمي والمنهجي(9)، وفتح الباب أمام جميع الناس ليتدبروا في آيات الله وشريعته.

ويعبر الإمام محمد عبده عن هذا الأمر بقوله: “رفع الإسلام بكتابه المنزل ما كان قد وضعه رؤساء الأديان من الحجْر على عقول المتدينين في فهم الكتب السماوية، استئثارا من أولئك الرؤساء بحق الفهم لأنفسهم، وضنا به على كل من لم يلبس لباسهم، ولم يسلك مسلكهم لنيل تلك الرتبة المقدسة، ففرضوا على العام، أو أباحوا لهم أن يقرءوا قطعا من تلك الكتب، لكن على شريطة ألا يفهموها ولا أن يطيلوا أنظارهم إلى ما ترمي إليه، ثم غالوا في ذلك فحرموا أنفسهم أيضا مزية الفهم إلا قليلا، ورموا عقولهم بالقصور عن إدراك ما جاء في الشرائع والنبوات، ووقفوا بالناس عند تلاوة الألفاظ تعبدا بالأصوات والحروف، فذهبوا بحكمة الإرسال.. وجاء القرآن يلبسهم عار ما فعلوا.. وبهذا التفريغ ونحوه، وبالدعوة العامة إلى الفهم وتمحيص الألباب للتفقه واليقين، مما هو منتشر في القرآن العزيز، فرض الإسلام على كل ذي دين أن يأخذ بحظه من علم ما أودع الله في كتبه، وما قرره في شرعه، وجعل الناس في ذلك سواء بعد استيفاء الشرط بإعداد ما لابد منه للفهم، وهو سهل المنال على الجمهور الأعظم، من المتدينين، لا تختص به طبقة من الطبقات، ولا يحتكر مزيته وقت من الأوقات”(10).

وهناك من يذهب إلى مد الاجتهاد إلى درجة “الإبداع” حتى ولو بدا هذا في نظر كثيرين نوعا من “الابتداع” و”الإحداث في الدين”، حيث يعتبر من لوازم الإبداع الإعراض عن المعلومات التراثية المتوارثة المألوفة، أو عدم تقبلها إلا بعد إخضاعها للنقد الصارم، فلا تقبل إلا ببرهان مبين، وكذلك عدم الجمود أو التحجر أو شدة التمسك برأي مسبق، بسبب عوامل غير حقانية، وغير موضوعية”(11).

بل هناك من يدعو إلى إزاحة الاجتهاد تماما، وإيجاد أصل آخر للشرع يحل محله وهو الحكمة، لأنها أهم وأشمل منه، وهي وحدها التي تكفل للإسلام أن يرد على تحدياته. وهنا يقول جمال البنا: “يعجب الإنسان كيف فات على الأئمة الأعلام أن يجعلوا من الحكمة أصلا من أصول الإسلام، ومصدرا من مصادر الفقه، بعد أن ذكر القرآن الكريم الحكمة مرارا وتكرارا، وقرنها بالكتاب.. وأغلب الظن أن الفقهاء عزفوا عن الاعتراف بأصل ومصدر مفتوح، غير محدد، وغير منضبط، يسمح بالانفتاح والتعددية، وهي صفات يضيق بها الفقهاء عادة، لأنها تفتح عليهم بابا لا يمكنهم التحكم فيه”(12).

ويحاول البنا أن يستلهم معنى الحكمة من القرآن الكريم فيراها هي:”العقل الخير، والقيم العليا، والعلم الهادي، الذي يستبعد الخرافة، ويحول دون أن يضل المؤمنون”، ثم يفصِّلها في ضرورة أن ينهل المسلمون من كل ما يصل إليهم من علوم وفنون وفلسفة دون حرج، لأن القرآن يحض على هذا، والواقع يفرض ذلك(13)، خاصة في ظل الثورة المعرفية التي شهدها العصر الحديث. لكن هذه الرؤية ليست جديدة تماما قياسا إلى ما ورد في شروط الفقهاء لمن يتصدى للاجتهاد، حيث جعلوا الاطلاع على علوم العصر ومجريات الواقع شرطا مهما للقيام بهذه المهمة.

وفي كل الأحوال فإن دواعي وضرورات الاجتهاد قائمة ومتجددة ودائمة، ومنها خلود الشريعة الإسلامية لكونها خاتمة الرسالات السماوية، مما يحتم الاجتهاد المستمر، لمواكبة أي جديد يقع، وأي طاريء يطرأ، وأي حاجة تظهر. ويزيد من هذا الأمر أن الإسلام دين للعالمين، بما يفرض الاجتهاد لواقع يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والأعراف والتقاليد. كما أن طروء البدع على أحكام الشرع، زيادة أو نقصا، بتقدم السنين، تستلزم وجود حركة اجتهاد دائبة لإزالة هذه البدع، والتصدي للمبتدعين، وتذكير الناس بجوهر الإسلام، وحقيقة شريعته وأحكامه. وتناهي نصوص الأحكام الشرعية ولا نهائية المشكلات التي تترى في الواقع المعيش، توجب السعي إلى استنباط فروع فقهية جديدة تضبط حركة الحياة بالشرع(14). وإذا أوجبت الحياة المتدفقة بلا هوادة ظهور دواعي أخرى، فإن الاجتهاد يجب أن يتجدد لمواكبتها.

ومهما كان الخلاف حول نطاق الاجتهاد ضِيقا واتساعا، تخصصا أو مشاعا، فإنه في كل الأحوال ضرورة لأي حديث يقال، وأي تصور يبنى، وأي تصرف في سبيل التجديد والإحياء والنهضة والإصلاح.

ثانيا: نظائر النهضة: إطار قيمي ومفاهيمي:

1 – الإحياء: استنهاض الأرض والدين والمعرفة والسياسة:

ارتبط الإحياء في الفقه الإسلامي بعملية إستصلاح الأرض الموات وزراعتها، استنادا إلى حديث شريف يقول: “من أحيا أرضا مواتا فهي له”. فالمسلم الذي يضع يده على أرض بوار لا يملكها أحد يصبح هو مالكها إن زرعها. ومعظم الفقهاء لا يشترطون إذنا من الحاكم لمن يقدم على هذه الخطوة، لكن أبا حنيفة يذهب إلى أنه لا تجوز زراعة الأرض الميتة من دون إذن ولي الأمر.

وأعطى الإمام أبو حامد الغزالي كلمة الإحياء معناها الديني، العقدى والفقهي، حين وضع مؤلفه ذائع الصيت “إحياء علوم الدين” الذي يعد أهم كتبه على الإطلاق، ولذا نسخ على ضخامته أكثر من مائتين وخمسين مرة قبل اختراع الطباعة، وترجم إلى العديد من اللغات الحية، وقدمت له عدة شروح، ولخص زيادة على ست وعشرين مرة. ويحتوي الكتاب على معارف كثيرة في العقيدة والفقه والتصوف والفلسفة، “وهو يتأسس على كلمة الإخلاص لله بالتوحيد، والإخلاص للدين بالرجوع إلى حظيرته، والعمل بجوهره(15)، ويحاول فيه مؤلفه أن يصحح الكثير من المسائل التي تناولها سابقوه من الفقهاء وعلماء الدين، بحل ما عقدوه، وكشف ما أجملوه، وترتيب ما بددوه، ونظم ما فرقوه، وإيجاز ما طولوه، وضبط ما قرروه، وحذف ما كرروه، وإثبات ما حرروه، وتحقيق أمور غامضة استعصت على الأفهام.

وينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام الأول عن  العبادات وتناول فيه الغزالي العلم وقضاياه، والعقيدة وقواعدها، والطهارة وأسرارها، وأركان الإسلام ومغزاها، وآداب تلاوة القرآن، والأذكار والدعوات، وأوراد الليل. والثاني عن العادات وشمل آداب الأكل والنكاح والكسب والمعاش والألفة والصحبة والعزلة والسفر والسماع والوجد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوجه الحلال والحرام والشبهات، وأخلاق النبوة. والثالث عن المهلكات وتطرق فيه إلى أوضاع القلب، ورياضة النفس، وآفات اللسان، وكسر شهوتي البطن والفرج، وذم الغضب والحسد والحقد والبخل وحب المال والجاه والرياء والكبر والعجب والغرور والدنيا بأسرها. والرابع عن المنجيات وبيّن فيه حقيقة التوبة، وفضل الصبر والشكر، وطبيعة الخوف والرجاء، وأوضاع الفقر والزهد، وأحوال السائلين والسالكين، وقضية التوحيد والتوكل، والمحبة والشوق والأنس والرضا، والنية والإخلاص والصدق، والمراقبة والمحاسبة، والتفكر، وذكر ما بعد الموت.

وهذا الشمول الذي سيطر على كتاب الغزالي انتقل إلى الكثيرين ممن جاءوا بعده، فاستخدموا لفظ “الإحياء” مرارا وتكرارا كلما اعتقدوا أن الناس قد انصرفوا عن “الدين الصحيح”، وأن العقيدة قد خالطتها شوائب وجرحتها ألوان عدة من الشرك الخفي، واللهو الظاهر. وارتبط الإحياء هنا بمسألة العودة إلى الدين في صورته النقية التي كان عليها وقت نزول الوحي وتكليف محمد r بالرسالة. وقدم العديد من علماء الإسلام وفقهائه المحدثين مثل هذا التصور، من أمثال محمد بن عبد الوهاب ورشيد رضا.

ثم أخذ المفهوم بعدا جديا وعميقا بالحديث عن “إحياء التراث”، من خلال التعريف به، و”تحويله من ركام مخطوطات وأوراق صفراء إلى طاقة فاعلة وسارية في كيان الأمة، تؤثر وتدفع تقدمها وتطورها”(16). وانطلق المنشغلون بهذه القضية من عدة اعتبارات تتمثل في أن التراث ينطوي على إيجابيات لا يمكن نكرانها، منها انبثاقه عن مصدر إلهي، وعمقه الزمني، وقابليته للتجديد والتنقية، وقبوله للعالمية، وسعته وشموله، ونزعته الإنسانية، وقدرته على تبيان الفكر الإسلامي في شتى مراحله، وإعجاب غير المسلمين به، وكونه جهدا بشريا يجب احترامه(17).

وهذا التقدير قاد كثيرون إلى بذل جهود ملموسة في العناية بهذه المسألة، وبدأت العملية في منتصف القرن التاسع عشر على يد رفاعة الطهطاوي (1801 – 1873) الذي وضع لبنة مشروع مصري لإحياء التراث العربي، وإثر هذا شرعت مطبعة بولاق منذ سنة 1857 تقدم الأعمال الفكرية التي اقترح الطهطاوي وتلاميذه تحقيقها ونشرها على الناس. ثم أسس الإمام محمد عبده (1849 – 1905) “جمعية إحياء العلوم العربية” التي وظفت جهدها وطاقتها في إحياء التراث. وفي سنة 1910 رصد “مجلس النظار” المصري ميزانية لتمويل مشروع أعده أحمد زكي لإحياء التراث، بدأ بطباعة كتاب “نهاية الأرب في فنون العرب” للنويري لكنه لم يلبث أن تعثر(18).

وتم تكوين لجنة لإحياء التراث بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر، ومركز لإحياء التراث بالهيئة المصرية العامة للكتاب، ولجنة للتراث بمجمع البحوث الإسلامية، ومركز للتراث بمكتبة الإسكندرية. ونشأت هيئات للتراث في بلاد عربية شتى، منها المملكة العربية السعودية والإمارات. وتوازى مع ذلك جهود فردية لتحقيق التراث ونشره، سواء بدور النشر الحكومية أو الخاصة، وظهرت سلاسل تعنى بهذا الأمر، مثل سلسلة “الذخائر” التي تصدرها الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة. ولم يقتصر الأمر على كتب التراث الدينية والأدبية والعلمية، بل امتد إلى الحفاظ على الموروث الشعبي بمختلف أشكاله الفنية والإنتاجية.

ويعطي عالم السياسة حامد ربيع قضية إحياء التراث بعدا أكثر عمقا حين يقوم بتشريح معناها ومبناها، واصلا الماضي بالحاضر، ومعولا على التراث في بناء مستقبل الأمة العربية – الإسلامية، حيث يعتبر أن إحياء التراث لا يعني نشر بعض أمهات الكتب في الفلسفة أو الفقه، بل السير في مسالك متعددة تبدأ من طبيعة وحقيقة التصور العلمي لوظيفة ذلك الإحياء. وتتوزع وتتنوع هذه الوظيفة بين تصورات ثلاثة كل منها يعكس منهاجية مستقلة، برغم أن أيا منها لا يستطيع في النهاية إلا أن يأتي ليكمل التصور الآخر، فالإحياء قد يقتصر على الوظيفة اللغوية، وقد يتعدى ذلك إلى الوظيفة التاريخية، ولكنه قد يرتفع إلى مستوى الوظيفة السياسية، ليساهم في خلق التكامل القومي، وربط الحركة الآنية في مختلف نماذجها بالوظيفة التاريخية والحضارية للمجتمع، والحفاظ على الوعي الجمعي للأمة، والمساهمة في بناء الدولة العصرية، وتعزيز دور الدين كمؤثر في التعامل الدولي(19).

وقد حرص “الإسلاميون” على التفرقة بين حركة الإحياء في التراث العربي – الإسلامي ونظيرتها في الحضارة الغربية المعاصرة. فالغرب لا يميز في نظرته للتراث بين الدين وبقية الإرث الإنساني الذي خلفه الإغريق والرومان الأقدمون، ولا بين ما نزل به الوحي وبين ما أنتجه البشر في تاريخهم المديد.  وعلماء النهضة في أوروبا سعوا إلى توثيق علاقتهم الفكرية والنفسية بتراث اليونان والرومان الوثني، متجاوزين تاريخ النصرانية والكنيسة، التي ساهمت في تزكية الفساد والاستبداد والظلامية التي لفّت القارة العجوز طيلة القرون الوسطى، فلما وصلنا إلى القرن العشرين كانت أوروبا يسيطر عليها العبث وفقدان اليقين الديني، مما عزل الأجيال الصاعدة عن المسيحية. أما تراث الإسلام فعلى العكس من هذا تماما، لأنه مرتبط بالدين واليقين، ويشكل جزءا أصيلا من الهوية الثقافية للأمة، والتي من دونها تضمحل وتتفكك ذاتيا(20).

ومسألة إحياء التراث كانت، ولا تزال، إحدى المسائل الأساسية التي يدور حولها جدل بين العرب والمسلمين المعاصرين، من مختلف التيارات الفكرية. فهاهو أحد رموز الليبراليين العرب يتساءل: ماذا نحن العرب المعاصرون فاعلون للتوفيق بين أصيل موروث، وجديد معاصر؟ ثم يجيب: “أحسب أن الطريق أمامنا واضح، وهو طريق تربوي من الأساس. فما علينا إلا أن نربي ناشئتنا على أن يحتفظوا بميراثهم في تدريب الإرادة الماضية، وفي التطلع والمغامرة، ثم يضيفون إلى ذلك تدريبا آخر على النظر العقلي، والبحث النظري”. وتتأسس هذه الرؤية على اعتبار أن “التاريخ العربي هو كالنهر دفاق المياه، وتظل للنهر هويته منذ ألوف السنين، برغم جريان مائه وتبدله، يوما بعد يوم، بل لحظة في إثر لحظة، والذي يحفظ للنهر هويته هو التزامه مجرى واحدا، وهكذا نريد لحياتنا أن تكون: نحفظ لهذا الإطار الأساس العام، ووجهة النظر الرئيسية، ثم نجدد المضمون، الذي يملأ ذلك الإطار، أو الذي يشغل تلك الوجهة من النظر، كلما جاءت العصور المتوالية بحضارات متعاقبة، لكل حضارة منها مضمونها الجديد”(21).

وقد امتد الأمر إلى الحديث عن “الإحياء الحضاري” أو استعادة التقاليد العربية – الإسلامية” بحثا عن سبل النهوض العربي في الماضي، واكتشاف سر قوة وتميز الحضارة الإسلامية، عبر المزاوجة بين الإحياء الديني والنضال الحضاري، واستحضار الإطار القيمي والأخلاقي الذي كان يحكم حركة وممارسات العرب وقت ازدهار حضارتهم، واستلهام نظم الضبط الاجتماعي التي كانت سائدة وقتها(22).

لكن المعنى لبس لبوسا سياسيا واجتماعيا مع ظهور الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، التي أطلقت عليها بعض الأدبيات الأجنبية Islamic Revival،(23) حيث أخذت حركة الإحياء طابعا جماهيريا بنزول روادها إلى الشارع، يدعون الناس للانضمام إليهم، ويقدمون الإسلام كنظام شامل للدنيا والآخرة. وقد راهنت جماعة الإخوان المسلمين، كبرى الحركات الإسلامية في القرن العشرين والعمود الفقري لتيار الإحياء، على الجماهير الغفيرة منذ أول لحظة لانطلاقها على يد مؤسسها الشيخ حسن البنا عام 1928، واعتبرت هذا الأمر هو صلب استراتيجيتها للتمدد وحيازة القوة(24).

واتسمت حركة الإحياء الإسلامي في العصر الحديث بسمات عدة(25)، حيث الدعوة إلى شمولية الإسلام لكل جوانب الحياة، فهناك الاقتصاد الإسلامي، والسياسة الإسلامية، والثقافة الإسلامية، وأسلمة المعرفة …الخ، وهناك سعي دؤوب إلى إعادة بعث الأمة عبر التحويل الجماعي لها إلى الإسلام حسب الصيغة التي فهمها رواد الإحياء، من خلال تأويلهم للنص وقراءتهم لممارسات الرعيل الأول ومضمون التراث بشتى علومه، وهناك أيضا رفض للخلاص الفردي، وتأكيد على الروح الجماعية للإسلام، وهناك رغبة ظاهرة في مد جسور التعاون والتضامن بين مختلف “الجماعات الإسلامية” في الأقطار الإسلامية، اتكاء على تمتع تيار الإحياء بالانتشار السريع والمستمر في مختلف الأرجاء، وتعدد المراكز والهيئات التي تدعو إليه.

وتعددت الآراء حول الأسباب التي أدت إلى ظهور تيار الإحياء. فهناك من أرجعها إلى الصدمة الحضارية التي أصابت هؤلاء جراء احتكاكهم بالغرب في لحظة توهجه وهيمنته ونزعته الاستعمارية الحديثة التي بدأت باحتلال الفرنسيين لمصر سنة 1798، وشعورهم بأن سبب فقدان المسلمين لموقعهم ومكانتهم هو ابتعادهم عن الدين، ومن ثم فإن العودة إليه، أو إحياء ما كان عليه المسلمون الأوائل هي الطريق المثلى لاستعادة المجد الإسلامي الضائع. وهناك من عزا هذه الظاهرة إلى الفجيعة التي انتابت قطاع من المسلمين لانهيار “الخلافة العثمانية” عام 1924، فهبوا إلى نجدة أمة كانت شمس حضارتها تتوارى خلف جبال من الغيوم الداكنة، وحسبوا أن الإنقاذ يقوم على أكتاف السياسة وينزع إلى المقاومة المسلحة، وتناسى أغلبهم شروط الحضارة، ومحددات النهضة، كما فهمها المسلمون الأوائل، وإعداد العدة كما أعدوها.

واختلفت هذه الأسباب باختلاف الخلفيات الأيديولوجية لمن اهتموا بتعليل الظاهرة وتفسيرها، فالماركسيون العرب ركزوا على العوامل الاقتصادية المرتبطة بالفقر والتخلف، إلى جانب قيام الثورة الإيرانية عام 1979. ولم ينكر الليبراليون أثر الاقتصاد في نشوء هذه الظاهرة، لكنهم ركزوا على الجوانب الثقافية والسياسية، ليلتقوا مع الكثير مما طرحه الباحثون وقدمته دوائر الاستشراق الغربي في هذا الشأن، حول الطبيعة المركبة للإسلام والتي لا تقتصر على المسائل الروحية، بل تمتد إلى تنظيم أمور الدنيا، وكذلك مجموعة الأزمات المتلاحقة التي مر بها العالم الإسلامي في القرن الأخير(26).

ويجمل المفكر الاجتماعي نبيل عبد الفتاح هذه العوامل(27)، في محاولة صياغة الدولة القومية، ابتداء من عهد محمد علي باشا، وإدخال عناصر ثقافية وأبنية وافدة إلى البنيان التقليدي، مما أوجد صراعا بين الوافد والموروث. وقد زاد التناحر بين هذين الاتجاهين نتيجة وجود جذور أزمة الهوية وتحديد الأنا الجمعي في مواجهة الآخر، أي الغرب الرأسمالي، وتصدع الإجماع الوطني حول شكل النظام السياسي، والنموذج الحضاري، نتيجة بروز صوت من عادوا من البعثات التي أرسلت إلى أوروبا، ودخولهم في مواجهة صريحة مع التقليديين. كما أن عمليات التغريب المتزايدة التي صاحبت نموذج التنمية، والتي أدت إلى استشراء النزعة الإستهلاكية على النمط الغربي مع شيوع الفساد السياسي والاجتماعي والأخلاقي، بما خلق حال من التذمر لدى قطاعات اجتماعية عدة، وجدت في كل ما يجري من تفسخ وانحلال مرده إلى الابتعاد عن الدين. ويزيد على كل هذا خصوصية الإسلام نفسه، الذي ينظوي على عمق عقائدي ونسق أخلاقي وقيمي، إلى جانب مفاهيم وقواعد لمشروع دنيوي، يتميز بالمرونة والقابلية للتعامل مع الظروف والمتغيرات التاريخية والمجتمعية.

ولحظة البداية لهذا الإحياء اتسعت كثيرا بفعل ظروف استجدت، ومنها هزيمة العرب في حرب يونيو 1967، وتراجع مشروعات الوحدة على أساس قومي إلى أدنى حد متاح، وفشل نخب ما بعد الاستقلال في بناء دول عربية قوية، مرهوبة الجانب بالنسبة للخارج، ويتمتع مواطنوها بحياة كريمة، في ظل نجاحها في توفير حد الكفاية للجميع. فعندها اعتقد الإسلاميون أن مشروعهم الإحيائي هو الأولى بالرعاية، لأنه القادر على أن يخرج الأمة بأسرها من كبوتها، خاصة مع ضعف تيار الليبراليين العرب، حتى بعد الدفعة، المادية والمعنوية، التي دفعها إلى شرايينه اهتمام الغرب بلبرلة العالم الإسلامي، عقب حدث 11 سبتمبر الرهيب.

2 – الإصلاح: ترميم الشروخ الاجتماعية وتطهير الذمم:

يعني الإصلاح لغة، إزالة الفساد عن الشيء، وتوفيق الإنسان إلى ما يوافقه ويحقق مصلحته. وفي الأرض يكمن إصلاحها في تحويل الجدباء منها إلى صالحة للزراعة، أما “الإصلاح الزراعي” فانطوى في التجارب الاشتراكية على تقييد الملكية الزراعية، بحيث لا تتجاوز حدا معينا، مع تعويض من نزعت ملكية بعض أرضه أو كلها تعويضا عادلا ومناسبا، ثم تنظيم العلاقات الاقتصادية الخاصة بالزراعة وأحوالها.

ومن الناحية السياسية، لم يزد معجم بلاكويل للعلوم السياسية في تعريفه للإصلاح على القول بإنه: “مصطلح واسع الانتشار، يطلق على التحسينات، أو على إلغاء سوء التصرف والعيوب. وُيترك للمؤرخين تقرير ما إذا كانت الإصلاحات قد حسنت الأمور بالفعل من عدمه. وعلى كل فإن الإجابات لابد أن تكون ذاتية غير موضوعية، على أنه لا يمكن إنكار حدوث تغييرات كبيرة في بعض العهود. وفي بريطانيا تقترن برامج الإصلاح بالحكومة الليبرالية قبل 1914، وحكومة العمال بعد 1945 وتقترن في الولايات المتحدة برئاستي فرانكلين روزفلت وليندون جونسون”(28).

أما بالنسبة للناحية الدينية فقد شهدت أوروبا حركة إصلاح كبيرة، تمثلت في ثورة مارتن لوثر على الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر الميلادي، والتي انطلقت شرارتها منذ لحظة زيارته كنيسة روما، ورؤيته الفساد يضرب في جنباتها(29). ورمت هذه الثورة في البداية إلى تصحيح ما إعوج، فطرح لوثر ستة وتسعين مطلبا لعملية الإصلاح هذه،  لكن حركته لم تلبث أن تحولت إلى حركة عقائدية كاملة، تنافس الكاثوليكية، وتخصم من رصيدها، وتتحداها، عرفت باسم “البروتستانتية”، التي أخذت تنتشر في معظم ألمانيا، واكتسحت الدول الاسكندنافية، وصارت لها جيوب في فرنسا، وأطلقت على نفسها في إنجلترا باسم “الكنيسة المشيخية”، ثم بدأت أعداد تابعيها تتزايد في أوروبا الشرقية.

وقد انصرف الإصلاح البروتستانتي إلى نواح علمية وفلسفية واجتماعية وسياسية، حتى صار يشكل الحد الفاصل بين العصور الوسطى والزمن الحديث في أوروبا، لاسيما مع فصم الارتباط بين الإرسطية والمسيحية، والإقبال على العلم الجديد، الذي يساعد الإنسان على استعادة مجده ومعرفته. وجاء كالفن خليفة لوثر ليرفع من شأن الفلكيين ويعتبرهم الأقرب إلي عقل الله، وقال قولته الشهيرة: “إن آيات سفر التكوين، والمزمور التاسع عشر، ليست صياغات علمية، ولكنها عبارات أدبية تناسب غير العلماء”. وفي الجانب الديني قامت البروتستانتية على إلغاء الوساطة بين الإنسان وربه، وأقرت بحق الفرد في أن يقرأ الإنجيل ويفهمه دون مساعدة من رجل دين، فيصير الشخص هو قس نفسه، بل هو البابا ذاته.

وعلى التوازي ظهرت جماعات إصلاحية أخرى، مثل  حركة إرازموس، الذي سبق لوثر في أفكاره، لكنه لم يبلغ مبلغه في معاداة الكنيسة الكاثوليكية حرصا على وحدة العالم المسيحي، بل دعاها إلى العودة إلى صفاء المنابع المسيحية الأولى التي تنشغل بمبحث الأخلاق. وجاء المصلحون الراديكاليون، فدعوا إلى الفصل التام بين الكنيسة والدولة، وانقسم هؤلاء إلى اتجاهات عدة، فبعضهم دعا إلى تجديد العماد والانتظام في جماعات صغيرة على طريقة الحواريين الذين كانوا يلتفون حول السيد المسيح عليه السلام، مثل الإخوة السويسريين Swiss Brothers وجماعة الهتارايت Hutterites والمينونايت Mennonites. وهناك الروحانيون مثل كاسبر شفنكفيلد وسباستيان فرانك وتوماس مينزر وأندرياس كارلستات الذين نادوا بأن تكون الصلاة لله مباشرة دون المرور بالقساوسة. ويوجد العقليون الذي دعوا إلى إعمال العقل في تدبر الإنجيل، ورفضوا بعض المسائل العقدية مثل ألوهية المسيح والفداء.

وفي القرآن الكريم ارتبط مصطلح “الإصلاح” بثلاث قضايا الأولى هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما عبرت عنه الآية الكريمة التي تقول: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(30). والثانية هي إحلال السلام والمودة بين الناس أو “إصلاح ذات البين”، وهو ما تظهره الآية: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(31).

وفصّل الإمام عبد الحليم محمود في هاتين الناحيتين، من دون أن يذكر ذلك مباشرة، في كتابه “منهج الإصلاح الإسلامي في المجتمع”(32) حيث انطلق من أن هناك دعوة دائمة إلى الإصلاح، وهناك من يعمل في سبيله، من أجل تحقيق النهضة، ليتناول العناصر التي يقوم عليها الإصلاح الإسلامي في الأسرة والمدرسة والجامعات والمجتمع الكبير، ويحددها من حيث الجوهر والمقدمات والثمار في العلم والعبادة والجهاد والرحمة.

أما الثالثة فتتعلق بتولية الأكفأ، تطبيقا للحديث النبوي الذي يقول فيه r: “من ولي من أمر أمتي شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، قد خان الله ورسوله”. ومفهوم الصلاحية لدى أغلب الفقهاء يرتبط بالكفاءة، أي أن يتم الاستعمال في كل موضع أكفأ من يقدر عليه. ولعل ما جاد به ابن تيمية في هذا الشأن يكون مفيدا ودالا، إذ يقر بأن الأصلح في كل ولاية بحسبها. فالقوي لإمارة الجند حتى ولو كان فاسقا، فقوته للمسلمين وفسقه على نفسه. والتقيّ لإمامة الصلاة حتى ولو كان ضعيفا، فتقواه للمسلمين وضعفه على نفسه(33).

وكانت فكرة الإصلاح محور اهتمام رواد النهضة الإسلامية الحديثة، خاصة لدى جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، وقبلهما محمد بن عبد الوهاب. وهؤلاء هم رموز تيار لم ينقطع عطاؤه في تاريخ الإسلام الحديث والمعاصر. وهناك سمات أربع لفكر الإصلاح العربي – الإسلامي(34)، أولها أن فكر الإصلاح الذي نشأ عند العرب والمسلمين حديثا لم ينفك عن بنية المعرفة المجتمعية القائمة والمتجددة بعمقها وأغوارها. وثانيها أن هذا الفكر قد تشعب إلى شعبتين، إحداهما اعتمدت على الذات والموروث الثقافي، والأخرى انطلقت من موروثها لكنها تأثرت بما لدى الغير، أو بالوافد الثقافي. والثالثة أن هاتين الشعبتين لم يخرجا عن الخصوصية العربية في طبعها ونموذجها، رغم الاختلاف الظاهري بينهما.

أما الرابعة فإن حركة الإصلاح العربية لم تختلف عن نظيرتها الأوروبية فحسب، بل أيضا اختلفت عن حركة الإصلاح التي قامت بها طائفة العقليين من المصلحين الهنود، الذين كان همهم الأول منصرفا إلى الحركة الثقافية، وإلى التوفيق بين الإسلام وبين مطالب المدنية الأوروبية الحديثة. وإن كانت الحركتان قد اتفقتا على أن الإسلام دين عام وعالمي يناسب كافة الناس، ويلائم جميع العصور والثقافات(35).

وانصب جهد ابن عبد الوهاب علي تخليص العقيدة الإسلامية مما شابها وخالطها وحاول أن يعكر صفوها، وإعادتها إلى أصلها الذي يكمن ويدور حول “التوحيد”. وتطلب منه هذا أن يحارب البدع والطقوس الغريبة التي دخلت على المسلمين في زمن حكم العثمانيين، فلا أصنام ولا أوثان ولا عبادة آباء وأجداد ولا رجال دين أو أولياء. لكن هذا الإصلاح القائم على تصحيح العقيدة، قابله دفاع شديد وراسخ عن مبدأ الأخذ بالحديث والاعتماد عليه كليًّا مهما كانت درجة صحته، ضد نزعة بقية الفقهاء الآخذين بالرأي والاجتهاد(36).

أما الأفعاني فقد شغل نفسه بسبل النهوض بالواقع الاجتماعي للعالم الإسلامي، أكثر من اهتمامه بالمسائل العقدية، وكان يقرن النصر بتحقيق الإصلاح السياسي والإصلاح الديني في آن، ورأى أن كلا منهما مكمل للآخر.

وعلى النقيض من هذا اقتنع محمد عبده بأن الإصلاح الديني والعلمي والتربوي يمكن أن يتم بمعزل عن الإصلاح السياسي، ومال إلى أن إصلاح الفرد والمجتمع مكمنه في إصلاح المؤسسات التربوية كالأزهر والمدارس والمساجد وجمعية التقارب بين الأديان. وبينما كان الأفغاني سياسيا ومفكرا ثوريا، لا يقبل الحلول الوسط، وينظر إلى الشعوب الإسلامية من غانا إلى فرغانة باعتبارها كتلة واحدة متكاملة، كان عبده يردد: “خلقت لكي أكون مدرسا”.

لقد كان الأفغاني يؤمن بأن الإصلاح يمكن تحصيله في التو، شرط العمل من أجل بلوغه، أما الثاني فرأى أن الإصلاح عملية متدرجة، تتحقق بعد مدة، ولذا هادن الاستعمار الإنجليزي، خارجا على ثورية أستاذه الذي نادى بالكفاح ضد الاحتلال. وخالف عبده الزعيم أحمد عرابي الرأي حول التحول إلى الحكم النيابي الدستوري، محبذا البدء بالتربية والتعليم لتكوين رجال قادرين على القيام بأعباء الحكم النيابي، وتعويد الناس على البحث في المصالح العامة، بما يقود في نهاية المطاف إلى حمل الحكام على العدل والإصلاح(37).

وبلور عبده، بشكل أكثر جلاء، رؤيته المنحازة إلى التدرج في الإصلاح في طلبه من الأفغاني، وهما في باريس عام 1883، أن يذهبا سويا إلى مكان غير خاضع لسلطان دولة تعرقل مشروعهما الإصلاحي، ليؤسسا مدرسة للزعماء، يختارا تلاميذها من الأقطار الإسلامية، ويقوما بتربيتهم لمدة معينة، يصبحوا بعدها مؤهلين لقيادة الإصلاح في بلدانهم(38). لكن الأفغاني، الذي كان متعجلا، رفض هذه الفكرة “الطوباوية”، والتي أعيد إنتاجها، بشكل مختلف، ولمقصد مغاير، داخل الحركة الإسلامية، وهي تتأسس على تأويل ذاتي لحدث الهجرة النبوية الشريفة، ينزعه من سياقه التاريخي والاجتماعي.

وما بين الأفغاني وعبده من اختلاف في تقدير زمنية الإصلاح، يعود في نظر العقاد إلى “اختلاف الفطرة والاستعداد بين هذين الإمامين العظيمين، فأحدهما خلق للتعليم والتهذيب، والآخر خلق للدعوة والحركة في مجال العمل السياسي والثورة الأممية”(39). وربما وزعت الفطرة كلا منهما على مسلك مغاير للآخر، فالأفغاني يعوِّل على الجماعة، وينادي بالثورة، ويمارس السياسة من أوسع أبوابها، ويقطع بعدم التعاون مع المستعمر، أما عبده فيعوِّل على الفرد، ويسعى إلى تأجيج العاطفة الدينية، ويتوخى التربية سبيلا إلى بلوغ الهدف ويكره على التوازي السياسة، فيستعيذ بالله من “ساس ويسوس”، ولا يرفض التعاون مع المستعمر إن كانت المصلحة تقتضي ذلك.

ويرى المفكر الجزائري مالك بن نبي أن الوضع الأفضل يقتضي المزاوجة بين أفكار الأفغاني وعبده، ويقول: “لو استطاعت المدرسة الإصلاحية أن تقوم بتركيب أفكارها وتجميع عناصرها بحيث توحد بين أفكار الأصول التي ذهب إليها الشيخ محمد عبده، وبين الآراء السياسية والاجتماعية التي نادى بها السيد جمال الدين الأفغاني، لكان هذا سيؤدي حتما إلى طريق أفضل من مجرد مبادئ إصلاح العقيدة”(40).

وقد تحقق هذا مع عبد الرحمن الكواكبي الذي اتبع في آن عدة أساليب في الإصلاح، تراوحت بين الميل إلى القوة والثورة والاقتناع بالهدوء والانتظار وبينهما التدرج في الإصلاح عبر تجهيز الرأي العام لقبول التغيير والإيمان بضرورته. وآمن الكواكبي أن الإصلاح الديني هو الأصل والمنشأ لأي عملية إصلاح، سياسية أو اجتماعية، لأن الاستبداد يبدأ في نظره دينيا ثم يمتد إلى المجالات الأخرى، وأن الدين إن صلح تصلح السياسة وغيرها. ولا يعني هذا أن الكواكبي قد نادى بإرجاء الإصلاح السياسي حتى يتم إصلاح الدين، بل دعا إلى أن يتم الاثنان في وقت واحد. وزاوج الكواكبي بين الفكر والممارسة، فأنتج العديد من الكتب في مطلعها “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” وكوّن جمعية “أم القرى”،  ووضع خطة ثورية لقلب نظام الحكم العثماني المطلق في بلاد العرب وإقامة حكم قومي على أساس الشورى، يقف على أكتاف “جمعية حكماء” تحرض الجماهير على المقاومة(41).

وسار عبد الحميد بن باديس في الجزائر على الدرب نفسه، حيث لعب دورا سياسيا مهما في سبيل استقلال وطنه، جنبا إلى جنب مع دوره التربوي، وسلك الطريقين بغية الحفاظ على هوية بلاده، التي كانت فرنسا تسعى إلى مسخها وإزالة أصولها، ودمجها في الجمهورية الفرنسية.

فابن باديس ركز طيلة حياته على محاربة البدع، وتجديد الدين بربط الفروع بالأصول، والتربية والتعليم، وإعداد “القادة القرآنيين”، وكان يتفق مع محمد عبده في ضرورة أن ينطلق الإصلاح من التغيير النفسي، إذ يقول: “إن الذي توجه إليه الاهتمام الأعظم في تربية أنفسنا وتربية غيرنا هو تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق، فالباطن أساس الظاهر”. وكان في الوقت نفسه يتفق مع الأفغاني في ثوريته، بعد أن ضاق ذرعا بالاستعمار، وانتابه خوف شديد على هوية الجزائر، وهاهو يقسم: “والله لو وجدت عشرة من عقلاء الأمة الجزائرية يوافقونني على إعلان الثورة لأعلنتها”(42).

وجاءت الجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، لتراكم على هذين المسلكين، فاختلفت بين نهج “الإخوان المسلمين” الذي يؤمن بالتدرج، ونهج “الجماعة الإسلامية” و”تنظيم الجهاد”، الذي يسعى إلى القفز إلى السلطة مباشرة. لكن الاختلاف حول “التدرج” و”القفز” لا يمثل لدى هذه الجماعات طريقة لدفع السلطة الموجودة إلى تبني الإصلاح، حسبما كان يرمي الأفغاني ومحمد عبده، لكنه يعني، ودون مواربة، اختلاف حول طريقة إزاحة هذه السلطة أو الحل محلها، سواء باستخدام الآليات السليمة المتاحة، والتي دفعت الإخوان المسلمين في مصر ليقدموا مبادرة للإصلاح السياسي، أو من خلال الانقلاب المسلح، كما يحاول تنظيم الجهاد، وغيره من التنظيمات الإسلامية الراديكالية.

فالإخوان حين يتوسلون بالدعوة أو التربية الأخلاقية، فإنهم يقصدون بذلك تهيئة المجتمع لقبول حكمهم. والجماعات الإسلامية الراديكالية، على ما بينها من أوجه للاتفاق والاختلاف(43)، لم تكن تقصد، حين حملت السلاح ضد النظم الحاكمة، الضغط على السلطة القائمة كي تصلح الأوضاع المتردية، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، بل على النقيض تماما، فهذا الإصلاح لا يصب في مصلحتها، لأنه يعني تقوية شوكة النظم القائمة في مواجهتها، ومن ثم كان مقصدها هو إسقاط النظم واغتنام نفوذها وفرصها ومكانتها. لكن ربما تغيرت هذه الاستراتيجية مع انتهاء المواجهة المسلحة لصالح النظم، وتيقن بعض فصائل الحركة الإسلامية من أن طريق العنف لن يجدي كثيرًا ضد حكم مدجج بركائز القوة المادية والمعنوية، ومن ثم راح “الإسلاميون” يطالبون بالديمقراطية، اعتمادا على أنها الوسيلة الأقل تكلفة والأكثر أمنًا، لهم في السعي للوصول إلى السلطة.

وفي السياق العام المعاصر، اعتني العالم العربي بقضية “الإصلاح” عناية كبيرة ردا على الضغوط الأمريكية التي انبنت على ربط واشنطن في لحظة ما بعد حدث 11 سبتمبر بين “الإرهاب” و”الاستبداد”. ودار جدل واسع حول هذه المسألة، وعلى غزارته، انتظم السجال الفكري العربي حول قضية الإصلاح السياسي في ثلاثة مسارات أساسية، ليست منبتة الصلة عن بعضها البعض، بل إن كلا منها يكمل الآخر، أو يفسره، أو يجلي غموضه. الأول هو زمنية الإصلاح،  حيث تناقش العرب حول ما إذا كان من الضروري حرق مراحل الإصلاح أم يجب التدرج فيه. والثاني هو اتجاه الإصلاح لمعرفة ما إذا كانت المسيرة يجب أن تبدأ من القمة لإصلاح “الحكام” أم من القاع لإصلاح الشعوب. والثالث هو جهة الإصلاح، بمعنى ما إذا كان سيتم بيدنا أم بيد عمرو، “الجماهير”، وما إذا كان رفض ما لدى الغير فرصة سانحة لنقد الذات العربية، لتحصينها ضد الاستغزاء(44).

ويتواصل جهد المثقفين والباحثين والخبراء والحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني ورموز المعارضة من أجل تحصيل إصلاح حقيقي وشامل، يضمن تداول السلطة وانتقالها بشكل سلمي، بعد أن تختفي كل القوانين الاستثنائية والسالبة للحريات العامة، حرية التفكير والتعبير والتدبير، وتتحرر النقابات العمالية والمهنية، والجمعيات الأهلية، من قبضة السلطة الغاشمة، والقوانين الظالمة، وتضع جمعية تأسيسية دستورا جديدا، فيشرف القضاء على الانتخابات، وتتساوى فرص المتنافسين السياسيين، ولا يحكم رئيس أكثر من مدتين، ولا يورث حكم، وتختفي كل ألوان القهر والجور، وكل أشكال الزيف والتلاعب والتحريف، وكل أنواع التمييز على أساس الطبقة والمهنة والدين ولون البشرة والموقف السياسي، وكل الأسوار التي تحجز الغلابة عن المترفين.

وهناك من يدعو إلى تغيير السياق العام الذي يحيط بالعمليات والسلوكيات السياسية والاقتصادية(45)، بحيث يتم الانتقال من الاعتماد التام على السلطة إلى تحمل المسؤولية الفردية في مجال صنع مختلف القرارات، والانتقال من الإحجام إلى الانخراط، ومن الانعزال الثقافي إلى التفاعل الاجتماعي الخلاق، ومن المعارضة المطلقة الحدية إلى تبني منظورات تعاونية تقبل الاختلاف، ومن ثنائية الخطأ والصواب إلى التفاهم حول الحلول الوسط، وتبديد مناخ اليأس والقدرية المغلوطة وصولا إلى الثقة بالذات وبذل الجهد من أجل تحديد المصير، والانتقال من الشك المفرط إلى الثبات النسبي والثقة الفعالة، ومن السرية والانغلاق إلى الشفافية والانفتاح، ومن الخضوع القسري إلى الانضباط الذاتي.

وبالطبع فإن القائمين على أمر الأنظمة الرسمية العربية يضيقون ذرعا بمصطلح “الإصلاح”، ولذا حاولوا خلال القمة العربية التي انعقدت بتونس عام 2004 استبداله أو التعمية عليه باستدعاء كلمتي “تحديث” و”تطوير” من التاريخ الثقافي والسياسي غير البعيد، واستخدامها في البيانات والتصريحات الرسمية، ثم انتقل القول إلى الفعل، بانقضاض السلطات العربية على أغلب الاستجابات التي كانت قد أبدتها حيال المطالبة بالإصلاح، وإعادة احتلالها المساحات التي كانت قد انحسر عنها الاستبداد قليلا. لكن كل هذا لم يطمر مصطلح “الإصلاح” ولم يخرس ألسنة المتمسكين به، والمدافعين عنه.

3 – التجديد: تطور مستمر وتجاوز للزمكان تفرضه رسالة عالمية %D

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر