أبحاث

الحرية في الإسلام: الردة بين حرية العقيدة والخروج على الجماعة

العدد 132

أ‌) تمهيد:

ما ثمة شك أنه لا يمكن فصل قضية الحرية الدينية بصفة خاصة عن مبدأ الحرية بصفة عامة، كما أن الاستبداد بكل صوره – دينية كانت أو سياسية – ليس بمعزل عن حالة التردي الحضاري التي وصل إليها العالم الإسلامي العربي منه على وجه الخصوص؛ ومن ثم فلا غرو أن يطرح جيل الرواد السؤال الجوهري: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟(1) وهو سؤال يطرحه العقل العربي من زمن ليس بالقليل، ويلخّص المشكلة الحضارية التي مازالت تؤرقه منذ أن أفاق على هدير الحضارة الغربية في بداية التلاقي والتعارف أثناء الاستعمار الغربي. من حينها والعقل المسلم يسعى جاهدًا لتلمس طريق النهضة والخروج من ظلمات التيه. وقد حمل رواد النهضة على عاتقهم التعاطي مع هذه المشكلة الحضارية وقدموا محاولات فكرية ومعرفية جادة، وقد مثلت هذه المحاولات حوارًا فكريًا وجدالاً معرفيًا لم يُستثمر الكثير من كنوزه حتى الآن. لقد حفل التراث الإسلامي بجهود متنوعة ومتعددة من قبل جيل الرواد للخروج من نفق المشكلة الحضارية: خذ مثلاً على ذلك “عبد الرحمن الكواكبي” في كتابيه “طبائع الاستبداد” و”أم القرى”؛ حيث حلل فيهما بأسلوب جدلي أسباب التخلف ومساحاته، وأكد على حتمية الحرية كحل للنهوض من السبات العميق، كما برز ذلك جليًا في جهود جمال الدين الأفغاني ورفاعة الطهطاوي، وفي “العروة الوثقى” ودعوتها للتفريق بين السياسي والمعرفي في الحضارة الغربية، وضرورة الأخذ بأسباب التقدم الغربي، وعلى رأسها الحرية، ناهيك عن محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا، وتفسير المنار وتقصيه الجوانب السياسية والنفسية والاجتماعية في هداية القرآن، إلى جانب سجالات الأستاذ الإمام مع المستشرقين، وكفاحه لإصلاح التعليم الديني والخروج من ضيق الجمود والتقليد إلى رحابة حرية الاجتهاد والتجديد، ثم واصل طه حسين وقاسم أمين ولطفي السيد مسيرة تنوير العقل العربي المسلم، وتحريره من مكبلات يربطها بالدين عمدًا أو جهلاً.

ب‌) هدف البحث:

يتركز هدف البحث في نقطتين أساسيتين:

أولاً: تأكيد على حرية الفكر في الإسلام بصفة عامة.

ثانيًا: إثبات حرية العقيدة بصفة خاصة.

نحاول فيما يتعلق بالنقطة الأولى التأصيل لحرية الفكر في الإسلام، مستدلين على ذلك بشواهد وأدلة من النصوص الدينية، وبوقائع تاريخية من بداية تأسيس دولة الإسلام، ثم نتطرق لقضية نحسبها من الأهمية بمكان، ونخالها لا تنفصل عن مبدأ الحرية، ألا وهي مفهوم العبودية، ودور الإنسان في الكون، ومدى سلطته عليه. وفيما يخص النقطة الثانية فسنحاول إثبات أن الإسلام لا يعارض حرية العقيدة، بل يحث عليها ويعتبرها أحد مبادئه الرئيسة، ونعني هنا بحرية العقيدة حرية الإنسان في أن يدين بأي دين، وأن يبدل دينه أيًا كان، وفي أو وقت، طالما أن ذلك كان نابعًا عن قناعة شخصية، وغير مرتبط بأهداف سياسية من شأنها تهديد السلام الاجتماعي. ويهدف البحث هنا إلى إثبات أن عقوبة قتل المرتد عقوبة سياسية بحتة ليس لها علاقة بحرية العقيدة، وأنها عقوبة من باب التعزير، أي أنها يمكن أن تعطل أو تستبدل بأخرى وفق ما يراه المشرع، وبما يتناسب مع ظروف الزمان والمكان.

ونحب في هذا المقام أن نؤكد – وبشدة – على أن محاولتنا لتقرير حرية العقيدة بهذا المفهوم، ونفي عقوبة الردة كحد شرعي، لا يهدف، ولا يجب أن يُفهم على أنه دعوة لترك الإسلام – والعياذ بالله -، كما قد يتبادر إلى الذهن، جراء القراءة السريعة، وعدم التأني في الحكم على الأمور، والقفز إلى النتائج؛ فثمة بون شاسع بين تقرير أمر والدعوة إليه، فإباحة الشرع للطلاق مثلاً لا تعني دعوته إليه، كما أن منح المشرع المرأة حق الخلع – وهو أيضا شكل من أشكال الحرية – لا يدل على دعوة الزوجات إلى الانفصال عن أزواجهن. كل ذلك لا يخرج عن نطاق إثبات حريات للإنسان، وإطلاق يده فيها باعتباره حرًا مكلفًا مسؤولاً عن أفعاله، مستعدًا لتحمل تبعاتها، ومن هنا فإن هذا البحث هو محاولة للمشاركة بإدلاء الدلو في قضية تشغل الفكر الإسلامي كثيرًا، وتمثل مدخلاً للطعن فيه، واتهامه بمعاداة حق أصيل من حقوق الإنسان، وهو حرية العقيدة وتبديل الدين.

ج‌) منهج البحث:

منهج البحث هو المنهج الاستقرائي في تجميع النصوص وآراء العلماء، والمنهج التحليلي في قراءتهما، بمعنى أننا سنستحضر آراء الرواد في حرية الفكر في الإسلام، وبالأخص حرية العقيدة، ونحللها مستقرئين منها، ومستدلين بها على ما نذهب إليه. ونأخذ على ذلك من جيل الرواد الأستاذ الإمام محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا، كمثال على محاولة تحرير العقل العربي الإسلامي فكريًا، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الدينية التي تبدو للبعض وكأنها ثوابت لا تتغير مع تغير الزمان والمكان(2)، قضايا تُربط – دون إخضاعها للفكر المتأني وإعمال العقل فيها – بالعقائد التي لا مجال فيها لتبديل أو تغيير. وجاء اختيارنا للشيخين الكبيرين من منطلق الإعجاب بفكرهما، والاعتزاز به، كفكر مستنير منير في معالجة القضايا الدينية، فمدرسة محمد عبده هي مدرسة الاستنارة الحقيقية، ومدرسة الاجتهاد والتجديد، كما أن الشيخين قد قدما مثالاً يحتذى به في الفكر الحر، وحرية الاجتهاد، كما يقوم تفسيرهما الشهير بتفسير المنار على الاجتهاد العقلي الحر، وينبذ التقليد الأعمى.

لقد رحل الشيخان ولا يزال مشروعهما الفكري الإصلاحي التجديدي حاضرًا تستدعيه الأمة بقوة بكل طوائفها، ولا زال فكرهما متجددًا كأنما كان يخاطب عصرنا، ولا نزال نحيا في إطار المشروع الفكري للأستاذ الإمام، وأنه جاء في وقت مناسب؛ حيث كانت الأمة تعاني من فكرين متضادين؛ فكر الجمود والتقليد، وفكر التغريب، والعلمانية الشمولية، فجاء فكر الإمام محمد عبده فكرًا وسطيًا يمثل منهج الإسلام الصحيح، دين الوسطية.

أولاً: تأكيد على حرية الفكر في الإسلام بصفة عامة:

1- قيمة الحرية في الفكر الإسلامي:

إن مبدأ الحرية هو ركيزة أساسية في الفكر الإسلامي المستنير؛ حيث جاء الإسلام محررًا للإنسان بكل جوانب الحرية، بداية من تحريره من الرق(3)، ثم تحرير العقل البشري من أوهام الخرافات والأساطير، وصولاً إلى ترسيخ مبدأ حرية الفكر وما تشمله من حرية العقيدة، أضف إلى ذلك الحرية العلمية المتمثلة في حرية الاجتهاد، وإثابة كل مجتهد أصاب أم أخطأ، ثم الحرية السياسية في حرية اختيار الحاكم ونقده وتقويمه(4). ويقول علماء الأصول إن مناط الثواب والعقاب في الإسلام هو الحرية والعقل والإرادة، حتى أن رائد المذهب الحنفي، ومرجعية الاتجاه المسمى بالسلفي ابن تيمية يؤكد بكل وضوح أن العقل مناط التكليف، والاستطاعة شرط فيه(5)، وركن الاستطاعة هذا يقتضي حرية الإنسان في اختيار فعله مما يترتب عليه مسؤوليته عنه؛ ومن ثم كانت حرية الفكر في الإسلام غاية شرعية، وكان تحرير العقل العربي المسلم هدف رسالة الإسلام السمحة، وركنًا من أركانها ركين.

2- الحرية في واقع الإسلام:

الأمثلة على تطبيق حرية الفكر في واقع الإسلام أكثر من أن تُعد، وما كان أمر رسول الله r بتغيير المنكر(6) كل حسب استطاعته إلا تأكيدًا على مبدأ حرية النقد وحرية التعبير، كما أن مراجعات الصحابة للرسول في كثير من الأمور الدنيوية ونزوله على رأيهم لا تخرج عن إرادته لتأسيس حرية الفكر. بالإضافة إلى أن دعوة الخليفتين الراشدين الأولين إلى تقويمهما بالنصح والإرشاد هي دليل ساطع على ترسيخ مبدأ حرية الرأي والنقد والتعبير، حيث قال أبو بكر”إن أسأت فقوموني” وقال عمر فيما روى ابن أبي شيبة في المصنف عن حذيفة بن اليمان: “من رأى منكم في اعوجاجًا فليقومني”، وقبل هذا وذاك يرسي الحبيب صلوات الله وسلامه عليه مبدأ حرية التعبير بكلمات خالدة لا تحتاج في فهمها إلى تأويل، فيقول: “إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم: فقد تُودع منهم” (رواه أحمد)، أي لا خير فيهم ولا أهلية لهم، وقال أيضا: “سيد الشهداء حمزة، ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”(7).

وها هو عمر بن الخطاب – وهو الخليفة بما عرف عنه من قوة وشجاعة – يضيق ذرعًا ببلال بن رباح وآخرين خالفوه في توزيع أراضي الفتوحات، وأرادوها قسمة بينهم، على غرار ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر، بينما أراد الخليفة أن يأخذ خراجها فقط، كي تبقى للأجيال القادمة من المسلمين، فما كان من عمر الخليفة بعد أن ألح عليه بلال ورفاقه في الطلب إلا أن قال: “اللهم اكفني بلال وذويه”(8). ويستفاد من تلك القصة مبدآن للحرية، وهما حرية النقاش والمراجعة من الأفراد مع الحاكم دون أن يلحق بهم ضررًا أو أذى، وكذلك حرية إعمال العقل في أفعاله وأوامره r التي صدرت عنه بوصفه قائدًا سياسيًا، لا بوصفه نبيًا مبلغًا لوحي إلهي، وهو ما فعله الخليفة الراشد – بكل ما يحتويه النعت من معاني – في تعاطيه مع تقسيم الرسول r لأرض خيبر بين المسلمين كإجراء إداري قد يناسب وقتًا ولا يناسب آخر، وهذا المبدأ في التعامل مع السنة النبوية ومع القرآن الكريم(9) من الأهمية بمكان وسنعود إليه لاحقًا عند مناقشتنا لقضية الردة.

3- الحرية عند الفقهاء:

ليس أدل على إقرار الإسلام لحرية الإنسان والحفاظ على حقوقه، من التصنيف الفقهي للحقوق إلى حق الله وحق العبد، وأن الله تعالى يسامح في حقه، ولا يسامح في حق العبد، فمن ترك فريضة الصلاة أو الصوم مثلاً، فقد أخطأ في حق الله، وحسابه عليه جل شأنه، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له برحمته التي سبقت غضبه. أما من ارتكب مظلمة في حق إنسان، فلا ينتظر غفران الله، إلا بعد أن يؤدي حق من ظلمه، أو يعفو عنه ذلك المظلوم. يا له من مبدأ سامي يظهر الترسيخ الإلهي لمبدأ حرية الإنسان حتى مع خالقه، فالمولى عز وجل يؤكد أن من ظُلم فهو صاحب حق، له هو فقط حرية التصرف فيه. ما أحوجنا إلى ترسيخ هذه المبادئ، والنظر إلى روح التشريع ومقاصده، لا لصيغه وأشكاله.

ويؤكد العلامة يوسف القرضاوي على دور الحرية في الإبداع الفكري، وعلى خطر استبداد الأفكار وقمعها، فيقول: “وفي جو الحرية تظهر الأفكار في النور، فيمكن لأهل العلم مناقشتها، وتسليط أضواء النقد عليها، فتثبت وتبقي، أو تختفي وتذهب، أو تعدل وتهذب، بدل أن تظل في ظلام السراديب التحتية، تلقن بلا مناقشة، وتطرح بلا معارضة، وتفاقم وتستفحل يومًا بعد يوم، حتى يفاجأ الناس بها، وقد شبت عن الطوق، ولم يشهدوا قبل ذلك ولادتها ولا طفولتها(10)“.

وحسبنا هنا كلمات قالها محمد قطب عن علاج الطغيان بالحرية: “إنما علاج الطغيان أن ننشأ شعبًا مؤمنًا يقدر الحرية التي ينادي بها الدين ويحرص عليها، فيصد الحاكم عن الظلم، ويقف به عند حده المرسوم. ولست أحسب أن نظامًا يهدف إلى ذلك مثل النظام الذي جعل من واجب الشعب تقويم الحاكم الظالم. فيقول الرسول r: “من رأى منكم منكرًا فليغيره ..” ويقول r: “إن من أعظم الجهاد عند الله كلمة عدل عند إمام جائر?(11)“. وفي هذا السياق يقول حسن صعب: “المسلمون الواعون حقيقة الله على أنها حرية، وحقيقة الإنسان على أنها حرية، وحقيقة الإسلام على أنه حرية، وحقيقة حكم الإسلام على أنه حكم الحرية، والملتزمون بهذه الحقيقة […] هم رواد حرية العرب وتقدمهم، ورواد حرية الإنسان وتقدمه(12)“.

4- الرواد وحرية الفكر:

لا غرو بعد ما تقدم أن يكون تحرير العقل المسلم أحد المقاصد الرئيسية للرواد؛ ولذا نجدهم قد كرسوا حياتهم في محاربة الاستبداد وفي الدفاع عن الحرية بكل جوانبها وأشكالها. ونضرب هنا مثلاً برائدين من رواد التنوير الديني: الأستاذ الإمام محمد عبده، يليه – في الكيف لا في الدرجة – تلميذه محمد رشيد رضا. تظهر حرية الفكر عند الشيخين بكل وضوح في إعمالهما العقل في الأحكام الشرعية، وتقسيمها إلى تلك التي صدرت عن رسول الله r على وجه التبليغ عن رب العزة، فتضاف إلى العقائد أو الأحكام الثابتة، وتلك التي صدرت عنه على وجه الإرشاد والتوجيه بوصفه قائدًا سياسيًا، لا نبيًا مبلغ وحي، ويضرب الشيخان(13) أمثلة عديدة من السنة القولية والفعلية على الصنف الثاني، ويقرران بكل وضوح أن تلك الإرشادات لا تسمى واجبًا ولا مندوبًا، كما يضع الشيخان الضوابط القطعية بين ما قاله الرسول رأيًا وإرشادًا، وما قاله تشريعًا(14). إن للأستاذ الإمام – بصفة خاصة – سبحًا طويلاً في محاربة الجمود والتقليد وكل ما يقف في وجه الإبداع بكافة صوره الدينية والدنيوية، كما نراه يناضل ضد ما رسخ في الأذهان من آراء من قالوا أن “المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة، حتى يقف الفكر، وتجمد العقول”(15). ويقرر الأستاذ الإمام بكل شجاعة أن الجمود العقلي والتقليد المنتشرين في كثير من المسلمين لا يمتان للإسلام بصلة، وأن جل ما نراه “الآن مما تسميه العامة إسلامًا فهو ليس بإسلام، وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج، ومن الأقوال قليلاً منها حرفت عن معانيها، ووصل الناس بما عرض لدينهم من البدع والخرافات إلى الجمود الذي ذكرته وعدّوه دينًا، نعوذ بالله منهم ومما يفترون على الله ودينه”(16).

ولنتأمل معًا أمر الشيخين بإطلاق العنان للعقل في البحث والحكم على كل ما يعترضه في الحياة بحرية مطلقة، يقول الشيخان: “مقتضى الفطرة أن يستعمل الإنسان عقله في كل ما يعرض له في حياته ويتبع فيه ما يظهر له بعد النظر والبحث أنه الحق الذي باتباعه خيره ومنفعته العاجلة والآجلة وكماله الإنساني”، ثم يحثا على مواصلة البحث ويحملان على التقليد كعائق للفكر فيقولان: “ومن مقتضى الفطرة أن يبحث الإنسان دائمًا ويطلب زيادة العلم بهذه الأمور، ولا يصده عن هذا الصراط المستقيم شيء كالتقليد والغرور بما هو عليه”، ثم يفندان شبهة معطلي الفكر بحجة قصور العقل على التمييز بين الحق والباطل، فيقولان: “وشبهتهم على ترك صراط الفطرة أن عقولهم قاصرة عن التمييز بين الحق والباطل والخير والشر، وأنهم اتبعوا من بلغهم من آبائهم ومعاشرهم أنهم كانوا أقدر منهم على معرفة ذلك وبيانه، والحق الواقع أنهم لا يعلمون حقيقة ما كان عليه أولئك الزعماء […] وإنما يتبعون ما وجدوا عليه آبائهم من الثقة بزعماء عصرهم ولو كان آباؤهم وزعماؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون، ومن قطع على نفسه طريق النظر، وكفر نعمة العقل، لا يمكن إقامة الحجة عليه”(17).

هذا وناهيك عن طلاقة حرية الأستاذ الإمام الفكرية في التعامل مع التراث الإسلامي وهو ينفي قيام الحروب بين المسلمين بسبب العقيدة، فالكل حر في اعتقاد ما يشاء، وما كان مبعث حروب الخوارج مثلاً إكراه طرف على اعتناق مبدأ الطرف الآخر، بل “أشعلتها الآراء السياسية في طريقة حكم الأمة، ولم يقتتل هؤلاء مع الخلفاء لأجل أن ينصروا عقيدة ، ولكن لأجل أن يغيروا شكل حكومة. وما كان من حرب بين الأمويين والهاشميين فهو حرب على الخلافة، وهي بالسياسة أشبه، بل هي أصل السياسة(18)“. وهكذا نرى أن النظر العقلي القائم على مبدأ حرية الفكر هو عند محمد عبده الأصل الأول للإسلام ووسيلة الإسلام الصحيح، بل إنه يذهب إلى أكثر من ذلك ويرى تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض(19).

إنها الشجاعة العلمية، وحرية الفكر اللتان وصلتا بالشيخ رشيد رضا أن يقرر – سائرًا على نهج أستاذه الإمام – جواز خطأ الأنبياء في آرائهم، ويسوق على ذلك كثيرًا من الأمثلة، مستدلاً بأقوال للرسول r نفسه منها: “إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله”، ويخلص بذلك إلى نتيجة أن المسلمين متفقون على “جواز وقوع الخطأ من الرسل عليهم السلام في الرأي والاجتهاد، ولكن الله تعالى لا يقرهم على خطأ في اجتهاد يتعلق بالتشريع كمصالح الأمة”(20). والأمثلة على معاتبة الله تعالى لنبيه على اجتهاد معين، أو على مراجعة الصحابة لرأيه r ونزوله على رأيهم تملأ كتب التاريخ والسير. ولا يفوتنا التذكير بمحاربة الشيخ وأستاذه لعقيدة الجبر لإيمانهما الراسخ بأن نفي الحرية عن الإنسان، هو نفي لمسؤوليته عن أفعاله مما يفقد مبدأ الثواب والعقاب مغزاه، ويؤكد على أن “الجبر من أسباب ضعف المسلمين”(21)، وهذا تشخيص دقيق للداء ووصف للدواء، وهو الحرية الفكرية كطريق للنهضة البشرية عامة، والإسلامية خاصة. كما أن للشيخين في تفنيد دعوى انتشار الإسلام بالسيف، والإكراه على دخول الإسلام بما يتنافى مع مبدأ الحرية باعًا طويلاً(22)؛ فالشيخان يؤكدان أن الجهاد الإسلامي كان في حقيقة الحال حربًا في سبيل حرية الاعتقاد، سواء كان بالنسبة للمسلمين أو غيرهم، وتحريرًا للجماهير والشعوب المسترَقة والمستعبَدة من أغلال الجهالة والطغيان، وأن الدعوة لا تكون بالسيف والسنان، ولكن بالحجة والبرهان، وأنه “إذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن ويعتدي على المؤمنين فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الأرواح ولا لأجل الطمع في الكسب”، كما ينقل محمد رشيد رضا عن شيخه الأستاذ الإمام نفيًا واضحًا صريحًا محججًا لدعوى نسخ الآيات التي تدعو إلى السلم بآية سورة التوبة المعروفة بآية السيف(23). وأخيرًا وليس أخرًا نذكر بالتعاطي المستنير للشيخين في تفسيرهما لمبدأ الشورى في الإسلام بوصفه أحد أركان الحكم الذي لا يقوم نظام دولة بغيره، ويضربان على تطبيق هذا المبدأ أمثلة من حياة الرسول r مع أصحابه، وضرورة أن يستشيرهم حتى لو أدى نزوله على رأيهم إلى نتائج سلبية، وفي إقرارهما على مبدأ الشورى بين النبي وأصحابه تأكيد واضح على التفرقة بين الديني الموحى، والسياسي القائم على التجربة والخبرة(24).

بمثل هذا المبدأ في حرية الفكر عند التعامل مع التراث الإسلامي، لا بغيره، نستطيع أن نفرق بين الغث والسمين، بين الديني والسياسي، بين ما هو من الدين وما هو من العادات والتقاليد، تلك الثنائيات التي أدى الخلط بينها إلى التقاتل والتناحر والتكفير باسم الدين، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في كبوة الأمة، وردتها الحضارية؛ فإن كانت هناك ردة تستلزم العقاب، فهي تلك الردة الحضارية التي أغفلنا أسبابها وغرقنا في نتائجها، وبدلاً من أن نبحث عن مخرج منها شغلنا أنفسنا، نتيجة هذا الخلط، بأمور لا ترقى إلى وصف قضايا، مثل تطويل اللحية، وتقصير الجلباب، وختم الصلاة جهرًا أو قصرًا، وحقيقة الجان وسلطته على الإنسان، أمور كبلت العقل الإسلامي وأعاقت نموه.

ونود أن ننبه أننا هنا معنيون بالتأصيل لمبدأ الحرية في الإسلام في إطارها النظري؛ لأننا نتفق مع كل ناقد لغياب الحرية الحقيقية في الواقع العربي الإسلامي، سواء في العصر الحديث، أو في عصور كثيرة من الحكم المسمى بالإسلامي، وهدفنا هنا فيما يتعلق بالحرية بمفهومها العام هو تبرئة دين الإسلام مما لصق به من تهم المعاداة لحرية الفرد وترسيخه لمبدأ العبودية والطاعة العمياء للخليفة أو للحاكم انطلاقًا من مبدأ “اسمعوا وأطيعوا” ذلك المبدأ الذي دفع سوء فهمه – عن عمد أو جهل – أبا جعفر المنصور أن يقول: “أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده؛ وحارسه على ماله؛ أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه؛ فقد جعلني الله عليه قفلا، إن شاء أن يفتحني فتحنى لإعطائكم وقسم أرزاقكم؛ فإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني”(25). ومع إقرارنا بأن الأمة العربية الإسلامية وواقعها يشهدان بتغليب القوة على الحق، وبتفسير النصوص الدينية بما يوافق الهوى والمصلحة، إلا أنه لا يجب ربط هذا بالدين فذلك راجع – كما يقول الأستاذ الإمام محمد عبده – إلى “وقوع الدين في أيدي من لا يفهمه أو يفهمه ويغلو فيه أو لا يغلو فيه ولكن لم يمتزج حبه بقلبه، أو امتزج بقلبه حب الدين ولكن ضاقت سعة عقله عن تصريفه تصريف الأنبياء أنفسهم أو الخيرة من تبعتهم”(26)، ويقول في موقف آخر مؤكدًا بُعد حكام المسلمين عن مبادئ دينهم، وناعيًا الإسلام لخذلان أهله له: “واشتغل المسلمون بعضهم ببعض زمنًا وانحرفوا عن طريق الدين أزمانًا، فوقف وقفة القائد خذله الأنصار وكاد يتزحزح إلى ما وراء”(27). وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن حرية العقيدة، نشير إلى قضية هامة، هي في نظرنا وثيقة الصلة بحرية الإنسان.

5- الإنسان وسلطته في الكون:

يُلاحظ على الفكر الإسلامي إجمالاً اختزاله لعلاقة الإنسان بربه فقط في العبودية(28)، بمعنى الطاعة والإذعان دون نقاش؛ حيث نظر الفقهاء للعلاقة بين العبد وخالقه من أسفل إلى أعلى، أي أنهم انشغلوا بكيفية إرضاء العبد لربه، أكثر بكثير من اهتمامهم بكيفية إسعاد الله لعبده، مما أثر سلبًا على مفهومهم للحرية. تلك القضية هي التي أراد الفقيه القانوني عبد الرزاق السنهوري أن ينبه بخطورتها، عندما كان يقرر بلغة القانون الحديث “أن مسائل القانون العام لم تحظ من الفقهاء المسلمين بنفس العناية التي بذلوها لمسائل القانون الخاص […] وأن القواعد المنظمة لحرية الأفراد وحقوقهم العامة تناولتها كتب الفقه الإسلامي بطريقة استطرادية دون أن تضع لها نظريات عامة تناسب أهميتها العلمية. ودراستها تحتاج إلى بحوث ومؤلفات خاصة تدخل في نطاق دراسة سلطة التشريع”(29). ونحن نرى أن حرية العقل البشري تتحدد بتحديد دوره في الكون، وأن قول الله جل وعلا: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا)(30) هو دليل بيّن على مركزية الإنسان في الكون، هذا إلى جانب آيات الاستخلاف، وندعو إلى تفسير ينطلق من نظرية المقاصد(31) لكلمة “أمانة” التي تعني في نظرنا المسؤولية عن إدارة الكون، تلك المسؤولية التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال على قوتها، ولكن الإنسان قبلها رغم ثقلها؛ لأنه قادر على تحملها وإدارتها بما وهبه الله من نعمة العقل، يدلل على ذلك تسخير الله لكل ما في السماوات والأرض للإنسان ليكون تحت تصرفه؛ حيث يقول تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)(32). بناءً على هذا الفهم يتضح أن الإنسان هو محور الكون، وأن كل الشرائع هدفها تحقيق مصلحته وسعادته، وفي هذا دليل على أن الإسلام يعلي من قيمة الإنسان، ومن ثم من قيمة الدنيا التي يحيا فيها هذا الإنسان، الأمر الذي ينفي تفرد الحضارة الغربية بالإعلاء من قيمة الإنسان وحقوقه. ولو انطلق فقه الأصول من هذا المبدأ، لتغير مساره كلية، بحيث كان الإنسان هو المحور، بدلاً من الحكم الشرعي، الذي اعتبر الإنسان محكومًا عليه لا حاكمًا، ولتغيرت بالتبعية نظرة المتكلمين إلى مفهوم إرادة الإنسان وحريته ومفهوم القضاء والقدر، تلك المفاهيم التي أدى عدم وضوح رؤيتها إلى الاستسلام والتواكل والقعود إيمانًا بالجبر.

ثانيًا: إثبات حرية العقيدة بصفة خاصة:

بيّنا في تقديم هذه النقطة أننا نعني بحرية العقيدة في هذا المقام حرية أن يدين الإنسان بأي دين يختاره، وأن يبدله متى شاء، شريطة أن يكون هذا التبديل مبنيًا على قناعة شخصية بحتة، دون أن يتضمن ذلك أهدافًا سياسية، وخروجًا على الجماعة، وعدوانًا على سلام الدولة الاجتماعي، الأمر الذي من شأنه أن يتسبب في فصم عرى المجتمع، وتقويض أركانه. وسنحاول فيما يلي إثبات أن عقوبة المرتد عن دين الإسلام، الثابتة تاريخيًا، والمعروفة بحد الردة، ليست حدًا شرعيًا، وإنما تصرفًا سياسيًا.

1- الردة:

الردة في اصطلاح الفقهاء هي الكفر بعد الإسلام عن وعي واختيار، وهي فعل منبوذ ومستبشع، بنص القرآن والسنة، وإجماع المسلمين. إلا أن حكم الردة قد أثار خلافات كثيرة بين فقهاء المسلمين، ودار الخلاف حول مسألتين أساسيتين: هل الردة جريمة عقدية تندرج عقوبتها تحت الحدود التي لا مناص من تطبيقها، أم هي جريمة سياسية بمثابة الخروج على نظام الدولة؛ ومن ثم فعقوبتها تعزيرية في سلطة الحاكم؟(33) بمعنى هل الردة خروج عن الإسلام، أم خروج عليه؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه فيما يلي.

1-1- عقوبة الردة:

الرأي السائد الذي يتناقله جل الفقهاء في عقوبة الردة هو القتل إما كفرًا أو حدًا. يؤيد ذلك في التراث ما جاء في كتاب “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” لابن رشد؛ حيث ذكر في عرض – قل ودل – الآراء المختلفة في عقوبة المرتد تحت عنوان “باب في حكم المرتد”. يقول ابن رشد: “والمرتد إذا ظُفر به قبل أن يُحارب: فاتفقوا على أنه يُقتل الرجل لقوله عليه الصلاة والسلام ?من بدل دينه فاقتلوه?(34)، واختلفوا في قتل المرأة وهل تستتاب قبل أن تقتل؟ فقال الجمهور: تقتل المرأة. وقال أبو حنيفة: لا تُقتل وشبهها بالكافرة الأصلية، والجمهور اعتمدوا العموم الوارد في ذلك. وشذ قوم فقالوا: تقتل وإن رجعت إلى الإسلام. وأما الاستتابة فإن مالكًا شرط في قتله ذلك على ما رواه عن عمر. وقال قوم: لا تقبل توبته. وأما إذا حارب المرتد ثم ظهر عليه فإنه يُقتل بالحرابة ولا يُستتاب كانت حرابته بدار الإسلام أو بعد أن لحق بدار الحرب إلا أن يُسلم. وأما إذا أسلم المرتد المحارب بعد أن أُخذ أو قبل أن يُؤخَذ فإنه يُختَلَف في حكمه، فإن كانت حرابته في دار الحرب فهو عند مالك كالحربي يسلم لا تبعة عليه في شيء مما فعل في حال ارتداده. وأما إن كانت حرابته في دار الإسلام، فإنه يسقط إسلامه عند حكم الحرابة خاصة، وحكمه فيما جنى حكم المرتد إذا جنى في ردته في دار الإسلام ثم أسلم. وقد اختلف أصحاب مالك فيه فقال: حكمه حكم المرتد مَن اعتبرَ يوم الجناية: وقال: حكمه حكم المسلم مَن اعتبرَ يوم الحكم”(35).

كما ينحو منحى القول بقتل المرتد على العموم حديثاً غالب المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، وعلى رأسها الأزهر الشريف؛ حيث ورد في “بيان للناس من الأزهر الشريف” ما يلي: “والنوع الثاني من كفر العقيدة كفر سبقه إيمان ويسمى ردة، والواجب حيال المرتد استتابته على النحو الموضح في كتب الفقه، فإن تاب وإلا قتل حدًا أو كفرًا على خلاف في ذلك”(36).

يُلاحظ في المسائل المتداخلة في الاقتباس الأول أنها تربط دائمًا بين الردة والمحاربة، كما أن الحكم فيها يدور حول ما إذا كان قد قُبض على المرتد قبل أن يحارب، أو بعد أن حارب. وهذا الربط وتعدد أحوال المرتد ذو أهمية كبيرة، وله دلالة بالغة في الحكم على المرتد؛ لأنه يدع مجالاً لإعمال العقل في حالات المرتد المختلفة، ويحث على البحث عن علة الحكم، في حين خلص الاقتباس الثاني إلى الحكم دون قيود، ودون أن يبين ملابسات الارتداد، أو يتطرق إلى دوافعه ونتائجه، الأمر الذي يعطى انطباعًا بأن الحكم بقتل المرتد ثابت وقطعي، بينما ينحصر الخلاف فقط فيما كان هذا القتل كفرًا أو حدًا.

2- القرآن الكريم وقتل المرتد:

من المبادئ المتفق عليها في الإسلام أن القرآن والسنة الصحيحة هما المصدران الرئيسيان للتشريع. فإذا نظرنا إلى المصدر الأول والأهم للتشريع، وهو القرآن الكريم، نجده قد ذكر الردة في مواقع عدة إما باللفظ أو بالمعنى، ومن أمثلة ورود الردة باللفظ قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(37). أما تعبير القرآن عن الردة بالمعنى فجاء في سياق ذم الكفر بعد الإيمان حيث يقول جل شأنه: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(38)، ويقول أيضا: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ((39).

إن المتأمل لهذه الآيات وغيرها مما نزل في شأن الردة يجدها صريحة في أن عقوبة المرتد أخروية، لا دنيوية. بل إن الحق سبحانه وتعالى يؤكد فوق ذلك كله على عدم الإكراه في العقيدة حين يقول: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(40). نحن ممن يرى(41) أن هذه الآية الكريمة تمثل إرساءً لمبدأ إسلامي أصيل لا يتجزأ، وهو حرية العقيدة، وحرية الإنسان في أن يدين بأي دين يراه، إما ابتداءً، أو ردة، وحسابه على الله، ولكن الأكثرية ترى أن الإكراه المنهي عنه في الآية هو الإكراه على الدخول في الإسلام، وان الآية ليس لها علاقة بالردة، وهو رأي ورد في جل التفاسير المشهورة، وإن كان ابن كثير قد ذكر في “تفسير القرآن العظيم”، من بين ما ذكر من روايات كثيرة في أسباب نزول هذه الآية، أنها نزلت في ابنين لأحد الأنصار يقال له الحصيني كانا قد تنصرا على أيدي تجار من الشام، وأرادا أن يرحلا معهم، فاستأذن أبوهما النبي في إكراههما على الإسلام، فنهاه ثم نزلت الآية مؤيدة لهذا النهي. ويفهم هنا من عبارة “تنصرا” أي أنهما ارتدا عن الإسلام إلى النصرانية. كما أن الطبري يذكر في “جامع البيان في تفسير القرآن” مفسرًا لهذه الآية روايات عدة منها أن ابني الأنصاري هددا بالتنصر، أي أن كفرهما لم يكن ابتداءً.

ومن منظورنا فإن القول الفصل في هذا الخلاف هو قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(42)؛ فإن التعبير بالفعل هنا يدل على التحول من حالة إلى أخرى، إما من الكفر إلى الإيمان أو من الإيمان إلى الكفر؛ نظرًا لأن صيغة الآية اللغوية هي من البساطة والوضوح بما لا يحتاج إلى تأويل لإعطائها معنى آخر، ونعتقد أن عدم تفسير هذه الآية على هذا النحو يرجع إلى ما كان من بعض المفسرين من اتخاذ الحكم قبل التفسير، ثم محاولة تفسير النص بما يتناسب مع الحكم المأخوذ سلفًا. يقول نصر فريد واصل مفتي مصر السابق في تفسيره لنصوص حرية الاختيار في القرآن وخاصة هذه الآية: “الاختيار المقصود في النصوص اختيار البداية.. فالدخول في الإسلام يكون برغبة واختيار، ولكن الخروج منه يختلف ولا يقر عليه، وليس له الحق في ذلك؛ لأنه دخل غير مكره، فيستتاب ثم يعاقب بالحد الذي اتفق عليه الفقهاء؛ حماية للجماعة المسلمة”، ويضيف واصل أن “العقيدة الإسلامية عقد بين الإنسان وبين ربه، لا يجوز بحال أن ينقض هذا العقد، وأن أي نقض له يعتبر تعديا على حق الله عز وجل يستوجب العقوبة”(43). ونحن إذ نتفق مع رأي العالم الجليل أن العقيدة علاقة خاصة بين الإنسان وربه، يمكن تشبيهها بالعقد، نؤكد أن نقض هذا التعاقد هو بالفعل كما يقول الشيخ اعتداء على حق الله، ولكن عقوبته في سلطة الله وحده، إلا إذا ارتبط نقض هذا التعاقد بالاعتداء على حق جماعة المسلمين، وبتهديد أمن دولتهم، ففي هذه الحالة يكون للسلطة المسؤولة عن هذه الجماعة الحق في إنزال العقوبة المناسبة؛ لأن الأمر قد خرج من حق الله إلى حق العبد الذي لا يجوز التنازل عنه كما ذكرنا سابقًا في بيان قيمة الحرية عند الفقهاء.

ننتقل الآن إلى بيان رأي الشيخين محمد عبده ورشيد رضا في عقوبة المرتد. عندما سئل محمد رشيد رضا عن حرية الدين وقتل المرتد، قرر بكل وضوح مفتيًا بعدم جواز قتل المرتد المسالم فقال: “ليس في القرآن أمر بقتل المرتد، بل فيه ما يدل على عدم قتل المرتدين المسالمين الذين لا يحاربون المسلمين ولا يخرجون عن طاعة الحكومة(44)“. بل على العكس من ذلك يظهر بوضوح في تفسير المنار لقوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(45) إيمان الشيخين أن القرآن الكريم يؤكد حرية المعتقد وينفي أي شبهة إكراه؛ فبعد أن تطرق الشيخان للروايات الواردة في أسباب نزول الآية، ركزا على أنها وردت في ذلك الأنصاري وولديه اللذين تهودا وأرادا الخروج مع بني النضير، بعد أن أجلاهم الرسول r عن المدينة، وكان أبوهما قد أراد إكراههما على الدخول في الإسلام، فنهاه الرسول عن ذلك ونزلت الآية.

ونرى أن الفيصل في تفسير الشيخين لهذه الآية هو قولهما أنها مدنية وليست مكية دون شك؛ لأن الأقوال لا تخرج عن أن غزوة بني النضير كانت في السنة الثالثة أو الرابعة للهجرة؛ بمعنى أن هذه الآية الكريمة قد نزلت بعد أن اعتز الإسلام، وثبت أقدامه في المدينة، وبعد أن أُذن بالقتال بالفعل من قبل ذلك في غزوة بدر؛ أي أن الإسلام ونبيه كانا ساعتها من القوة التي تمكنهم من قتل كل المرتدين، لو كان قتلهم حدًا واجبًا(46). هذا ويؤكد الشيخان أن قوله تعالى: “لا إكراه في الدين” هو “قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام وركن عظيم من أركان سياسته”(47). وجاء في تفسير الشيخين لقوله تعالى: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً)(48)، ما نصه: “وفي الآية من الأحكام […] أن المرتدين لا يقتلون إذا كانوا مسالمين لا يقاتلون، ولا يوجد في القرآن نص بقتل المرتد فيجعل ناسخًا لقوله تعالى? فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم? الخ”(49). وهنا يبرز بوضوح إعمال عقل الشيخين في النص القرآني، بهدف استخراج الأحكام من النصوص، في ضوء أسباب النزول، وبمراجعة الوقائع المروية في سياق نزول الآيات، دون التسليم الحرفي بها، وهو المنهج الذي نحييه، وننادي بتطبيقه. ورد في الاقتباس السابق مباشرة ذكر سريع لمصطلح النسخ، ما يفهم منه إمكانية نسخ آية لأخرى؛ ولأهمية قضية النسخ في هذا المقام سنتعرض لها لاحقًا بشيء من التفصيل.

3- السنة النبوية وقتل المرتد:

تبين مما سبق أن القرآن الكريم لا يذكر – صراحة ولا ضمنًا – عقوبة دنيوية للردة عن الإسلام، ولكن من يرون عقوبة المرتد في الدنيا يعتمدون على ورود العقوبة صراحة في السنة القولية؛ حيث قال رسول الله‏ r: “لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث ‏ ‏الثيب ‏الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة”(50). وهنا نرى بوضوح أن الرسول r قد ربط ترك الدين بالخروج على الجماعة؛ أي أن الخروج على الجماعة هو شرط للعقوبة المنصوص عليها في الحديث. أما القول بأن “الخروج من جماعة المسلمين ليس وصفًا مؤسسًا يحترز به عن المرتد الذي لم يخرج من جماعة المسلمين، بل هو وصف كاشف مبين لحقيقته عند ردته”(51)، فهو قول مردود لما فيه من تأويل لا حاجة له لعبارة واضحة الدلالة. يؤكد ذلك ورود الحديث في سنن النسائي بلفظ آخر وبعبارة زائدة توضح سبب عقوبة المرتد: “‏لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال زان ‏‏محصن ‏ ‏فيرجم ورجل يقتل مسلما متعمدا ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله عز وجل ورسوله فيقتل أو يصلب أو ‏ ‏ينفى من الأرض”(52). وهذا دليل ساطع على أن عقوبة الردة المشهورة تتساوى مع حد الحرابة المعروف الذي تتعدد عقوبته، فتشمل النفي من الأرض، أي أن عقوبة المحارب ليست هي القتل دائمًا(53). ومن الجدير بالذكر أن الفقيه القانوني محمد سليم العوا لم يذكر هذا الحديث إطلاقًا عندما كان يثبت أن عقوبة الردة ليست حدًا شرعيًا، ولكنها حكم تعزيري، يندرج تحت سلطة الحاكم، واكتفي بالإشارة القصيرة إلى هذا الحديث قائلاً أنه يتحدث “عن المحارب لا عن المرتد كما يفهم من رواية مجملة له”(54)، مما يؤكد أن هذا الحديث لا يصلح للاستلال على عقوبة المرتد جراء تبديل دينه، بل هو دليل بين على أن عقوبة الردة المذكورة فيه، هي عقوبة للخروج عن الجماعة فقط لا غير.

نستخلص مما سبق أن قدامى فقهاء المسلمين كانوا يرون في ترك الدين المنصوص عليه في الحديث ما يمكن تسميته الآن بالخيانة العظمى، وهي الجريمة التي كانت تعاقب في كل الدساتير بالقتل، ومازالت هذه العقوبة سارية إلا في الدول التي ألغت عقوبة الإعدام، بمعنى أن ما كان يشغل بال الفقهاء هو النتائج السياسية المترتبة على الردة وليس حرية العقيدة، أي أنهم كانوا يعالجون قضية أخرى غير حرية العقيدة، وأن حكمهم بالعقاب منصب على الخروج على الجماعة ومرتبط به، غير منفك عنه، وليس بتغيير الدين. وفي هذا الإطار لابد أن تفهم حروب الردة التي خاضها الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه(55). ومن الجدير بالثناء في هذا الصدد ما قام به العلواني من ذكر أسماء كل من أمر الرسول r بقتلهم لارتدادهم عن الإسلام، ثم أكد أنهم جميعًا جمعوا إلى ردتهم جرمًا يوجب القتل؛ أي أن قتلهم لم يكن لعلة الردة وحدها(56).

ثم يقدم لنا الأستاذ الإمام محمد عبده وتلميذه رشيد رضا دليلاً آخر – فوق كل ما سبق – على أن الحرابة والخروج على الجماعة هما السببان في الأمر بقتل المرتد الثابت في السنة، حيث يعلق الشيخان على أمر السنة النبوية بقتل المرتد، فيقولان: “نعم ثبت في الحديث الصحيح الأمر بقتل من بدل دينه وعليه الجمهور، وفي نسخ القرآن بالسنة الخلاف المشهور. ويؤيد الحديث عمل الصحابة. وقد يقال أن قتالهم للمرتدين في أول خلافة أبي بكر كان بالاجتهاد فإنهم قاتلوا من تركوا الدين بالمرة كطي وأسد، وقاتلوا من منع الزكاة من تميم وهوازن، لأن الذين ارتدوا صاروا إلى عادة الجاهلية حربا لكل أحد لم يعاهدوه على ترك الحرب. والذين منعوا الزكاة كانوا مفرقين لجماعة الإسلام ناثرين لنظامهم، والرجل الواحد إذا منع الزكاة لا يقتل عند الجمهور(57)“. أضف إلى ذلك أن الرسول استنكر قتل امرأة مرتدة في فتح مكة معللاً ذلك بأنها ما كانت لتقاتل، مما يدل على أن علة قتل المرتد هي الحرابة، ولذا لا يقول أبو حنيفة بقتل المرأة المرتدة، هذا إلي جانب الخلاف المشهور حول الصبي الذي نشأ مسلمًا ثم اختار دينًا غير الإسلام بعد بلوغه سن التكليف، هل يعتبر مرتدًا أم لا؟ وهنا خالف الشافعي الجمهور، ورأى أن فترة ما قبل البلوغ ليست مرحلة تكليف حتى يُعتد بها في الحكم؛ ومن ثم فلا يعتبر من ارتد عن الإسلام بعد بلوغه مرتدًا يستوجب العقوبة(58). كل هذا الخلاف يؤكد أن عقوبة المرتد ليست حدًا، وإلا ما ثار حولها خلاف كهذا؛ فلم يرد إلينا خلاف حول حد السرقة أو الزنا مثلاً، كما أنها لو كانت حدًا ما عفا الرسول r عند فتح مكة عمن توعدهم بالقتل مثل عبد الله بن أبي السرح كاتب الوحي الذي ارتد وشفع فيه عثمان، ولا شفاعة في الحدود.

أما الحديث الآخر الذي يعول عليه القائلون بوجوب قتل المرتد في كل حال، فهو قول الرسول r: “من بدل دينه فاقتلوه”(59). أفرد العلواني لدراسة هذا الحديث صفحات مطولة، وأثبت أن هذا الحديث حديث آحاد، والاعتماد على حديث الآحاد في التشريع فيه من الخلاف ما فيه(60). فوق ذلك لا بد من فهم هذا الحديث في ضوء الحديث السابق الذي يجعل الخروج على الجماعة شرطًا في عقوبة المرتد. وهو ما يراه الشيخ بن بيه من أن حديث “من بدل دينه فاقتلوه” يُحمل على حديث “التارك لدينه المفارق للجماعة” من باب حمل المطلق على المقيد(61). كما أن ميل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب إلى سجن المرتد ولو مدى الحياة بما يفهم منه استتابته طيلة عمره يدل على أن عقوبة المرتد ليست حدًا وإلا ما تركه عمر بن الخطاب(62)، كما أنه لا يفهم من موقف عمر أنه عطل الحد فقط، ولم يلغه، مثلما فعل مع حد السرقة في عام المجاعة، لأن دواعي تعطيل حد السرقة غير متوفرة بالمرة في موقفه من المرتد حيث كان من القوة التي تسمح له بتطبيق الحد. إن موقف عمر رضي الله عنه يدور بين أمرين: إما أنه لم ير أن عقوبة قتل المرتد حتمية في كل حال، بل يمكن إسقاطها أو تأجيلها، إذا دعت لذلك ضرورة مثل حالة الحرب، أو قرب المرتدين من المشركين ومخافة فتنتهم، قياسًا على قول النبي r: “لا تقطع الأيدي في الغزو”(63)، تجنبًا لأن ينضم السارق إلى العدو. أو أن عمر قد نظر إلى حديث “من بدل دينه فاقتلوه” على أنه صدر من رسول الله بوصفه إمامًا ورئيسًا للدولة، فهو بمثابة أحد قرارات السلطة التنفيذية، ومن قبيل تصرفات السياسة الشرعية، وليس تشريعًا أو وحيًا أو تبليغًا عن الله ملزم للأمة على الدوام؛ ومن ثم يكون أمر المرتد داخل ضمن صلاحيات الحاكم والمشرع وسلطاته إن شاء عاقبه وإلا فلا.

فيما يتعلق بهذا الحديث أجاب الشيخ رشيد رضا ردًا على سؤال عن تنافي قوله r: “من بدل دينه فاقتلوه” مع مبدأ عدم اضطهاد الإسلام أحدًا لعقيدته فقال: “بأن المرتد من مشركي العرب كان يعود إلى محاربة المسلمين، وأن بعض اليهود كان يصد الناس عن الإسلام بإظهار الدخول فيه ثم بإظهار الارتداد عنه ليقبل قوله بالطعن فيه”(64)، وهذا هو ما أشار إليه المولى عز وجل بقوله: (وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(65). وهنا يربط الشيخ مجددًا الردة بالحرابة، والخروج على الجماعة، ومثل هذا الخروج يرفضه أي تشريع كوني. ويخلص الشيخ رشيد رضا إلى ضرورة الجمع بين الأحاديث الواردة في قتل المرتد “وبين قاعدة التسامح والحرية في الإسلام”(66)، كما أشار إلى اختلاف الفقهاء القائلين بقتل المرتد “في بعض مسائله، كالمرتد ذي المنعة في قومه وغيره”، وذكر قول أبي حنيفة بعدم قتل المرأة إذا ارتدت، ثم نقل رأيًا معتبرًا للشيخ صالح اليافعي عندما كان يرد على دعوى الدكتور محمد توفيق صدقي بوجوب قتل المرتد على الإطلاق؛ حيث ذكر اليافعي قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(67) وقوله جل شأنه: (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)(68) وأنكر وجوب قتل المرتد بالإطلاق وأكد على أنه “لو منع الإمام عن قتل المرتد لمصلحة كمهادنة ومعاهدة ومأمنة بشروط ألجئ إليها، لا يجوز قتله، فقتل المرتد قد يختلف حكمه باختلاف الحالات”(69).

ويرى الفقيه القانوني محمد سليم العوا أن “السنة الصحيحة ليس فيها حديث واحد يثبت به توقيع النبي r لعقوبة على المرتد. والحديث الناطق بقتل المرتد ليس على عمومه، ولفظه – في ضوء ما أحاط بمسألة الردة من القرآن – يصرف عن الوجوب إلى الإباحة التي تنقل الجريمة وعقوبتها من نطاق جرائم الحدود إلى نطاق جرائم التعزير”(70). كما يذكر العوا وقائع ردة في عهد الرسول r جماعية وفردية لم يعاقب عليها، ويشير كذلك إلى اختلافات الصحابة في حكم المرتد من حيث القتل والسجن والاستتابة ومدتها(71)، مما ينفي اعتبار قتل المرتد حدًا إسلاميًا، وإلا ما وقع فيه اختلاف. كما أنه لابد من الإشارة إلى قاعدة فقهية، وهي أن الحدود مكفرات للذنب؛ ومن ثم فإن قتل المرتد ليس حدًا؛ لأن قتل الكافر لا يُكفر عنه جرمه؛ فالله تعالى: (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا)(72)، وليس من المعقول أن يرتد إنسان عن دين الله، ثم يقام عليه الحد في الدنيا، فيعتق من العذاب الأكبر يوم القيامة. وللعوا أيضًا رأي سديد في أسلوب التعامل مع المرتدين المجاهرين رأينا أن ننقله هنا لوجاهته: “والواجب على الدولة أن تتيح للعلماء مناقشة هؤلاء وكشف شبهاتهم والرد على اعتراضاتهم المجملة والمفصلة، وأن تتيح لهم فرصة العودة إلى الجماعة والبقاء في إطار الملة. فإن أبوا تدخل النظام الجنائي لمحاسبتهم عن جريمة فتنة المؤمنين في دينهم – بعد كشف شبهاتهم – وهذه المحاسبة تتم في حدود نظام “التعزير” الذي هو نظام جنائي يوفر للدولة مكنة فرض العقوبات للأفعال الضارة بنظام المجتمع حماية له وتمكينا لقيمه(73)“.

لا نعلم أن هناك خلاف بين علماء الدين على أن الكفر هو أعظم ذنب، لا يدانيه ذنب آخر، كما أنه لا يدخل في دائرة المغفرة الإلهية؛ حيث يقول رب العزة تبارك وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا)(74). ولكن المولى عز وجل قد ذكر عقوبات دنيوية صريحة واضحة لذنوب أقل من الكفر مثل الزنا والسرقة(75). ويؤخذ من ذلك أنه لو كان للردة حد وعقوبة دنيوية لذكرها الله تعالى في كتابه العزيز؛ لأن عدم ذكرها يتعارض مع مبدأ العدل الإلهي، ناهيك عن ذكر الله الواضح لعقوبة الردة في الدار الآخرة كما سبق بيانه. ويبقى من واجب أولي الأمر والمشرعين بمساعدة الفقهاء التفرقة بين من بدل دينه لقناعة شخصية، نتيجة لغزو ثقافي مثلاً، هز عقيدته، وزعزع إيمانه، وجعل بينه وبين هدى الله حجابًا، دون أي أهداف سياسية، وبين من بدل دينه بغرض الخروج على الجماعة، أو على الدولة ونظامها بالمفهوم الحديث، وما يترتب على ذلك من تهديد للسلام الاجتماعي.

إن كثيرًا من علماء المسلمين على قناعة بحرية العقيدة، ولكنهم لا يصرحون بهذا؛ مخافة أن يفهم ذلك على أنه دعوة منهم للكفر، وترك الإسلام، ونحن هنا إذ نشكر لهؤلاء غيرتهم على الدين وخوفهم عليه، ندعوهم إلى النظر إلى القضية من زاوية أخرى، لا من زاوية احتمالية ترك المسلمين للإسلام فقط، بل من زاوية فتح الباب أمام غير المسلمين من أجل اعتناق الإسلام، فمن واقع حياتنا في الغرب نرى ونسمع ونتصور أن كثيرين يودون خوض تجربة الإسلام، ولكن يمنعهم عن ذلك فزعهم من عقوبة رجوعهم عن رأيهم في حالة ما لم يتشبع قلبهم بالدين الإسلامي، فمن الصعب على أي إنسان أن يسلك طريقًا وهو يعلم أنه ليس له منه عودة، وأن عقوبة الانحراف عن هذا الطريق هي الموت؛ ومن ثم فإننا لا نتفق مع الرأي القائل “أن من دخله (أي الإسلام) بإرادته الحرة لم يجز له الخروج منه، فمن أراد الإسلام فليؤمن به على هذا الشرط”(76)، كما نعارض غلق باب الاجتهاد حول حكم المرتد عن الإسلام من المسلمين ابتداءً، وعدم طرح هذه القضية للجدل الفقهي باعتبارها حدًا مسلَّمًا به كما يؤخذ من مقولة: “وأما المسلمون القدماء فلا وجه للاعتراض على عقوبة المرتد منهم”(77). إننا لا نريد إسلام النفاق، ولا مسلمين بالاسم فقط، ونقول لمن يخشى ويحذر من خطورة تحول الكثيرين عن الإسلام، إذا قلنا بنفي حد الردة، ونسألهم عمن هو الأخطر على الإسلام وأهله: من يبطن عكس ما يظهر، ويكيد للإسلام المكائد في الخفاء، ويدس السم في العسل، وهو في مأمن ومنعة من الحذر والحيطة لما يعلنه من إسلامه، أم من كشف عن نياته، وشبهاته ضد الإسلام، ورغبته في التحول عنه، فأعطى الفرصة للرد عليه، واتقاء شره، وأفسح المجال لتفنيد شبهاته؟ ولله در من قال: اللهم اكفني شر أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم(78).

وخلاصة الأمر أن الردة التي يعاقب عليها الإسلام ليس لها علاقة بحرية العقيدة؛ لأن الخروج على الدولة، وليس تبديل الدين، هو ما يستلزم العقاب؛ ومن ثم فإن أي ردة عن الإسلام، غير مرتبطة بأهداف ونتائج سياسية، لا عقاب لها في الدنيا من قبل البشر، كما أن الخروج على الدولة، وأركانها، ونظامها الاجتماعي الإسلامي، عن طريق الردة، لا يجب بالضرورة عقابه بالقتل؛ حيث أن هذا الخروج يمثل جريمة سياسية تخضع عقوبتها لتقدير الحاكم حسب الزمان والمكان والأحوال. ولعل من المناسب الآن الإشارة إلى قضية النسخ.

4- نسخ القرآن بالسنة:

قضية النسخ بصفة عامة من القضايا الهامة، والمثيرة للخلاف بشدة؛ فعلماء المسلمين غير متفقين من الأساس فيما يتعلق بالقرآن إذا كانت هناك آيات تنسخ أخرى أم لا. ولكل فريق أدلته وحججه التي لا يتسع المجال لذكرها. إلا إن القول بالنسخ – على ما يقدمه من حلول لقضايا جوهرية في الإسلام – لا يخلو من مشاكل، وهو سلاح ذو حدين. نأخذ مثالا على خطورة التسليم المطلق بمبدأ النسخ أن التيار المتشدد يرى دائما أن الأية المعروفة بآية السيف – بغض النظر عن الاختلاف في تحديدها – ناسخة لكل الآيات التي تأمر بمسالمة غير المسلمين المسالمين، وحسن معاملتهم وبرهم(79)؛ ومن ثم يتخذ هذا التيار من الآيات التي تحض على القتال أساسًا في التعامل مع الآخر، دون النظر فيما يكمن وراء هذه الآيات من مغزى. إلا أن الاتجاه القائل بنفي العقل في التعامل مع قضية النسخ يجد ما يؤيده في التراث الإسلامي المعتبر؛ فها هو أبو حامد الغزالي ينفي أن يكون للعقل دورًا في تحديد الناسخ والمنسوخ، ويعتمد في ذلك فقط على النقل، فيقول: “اعلم أنه إذا تناقض نصان فالناسخ هو المتأخر، ولا يعرف تأخره بدليل العقل ولا بقياس الشرع، بل بمجرد النقل”(80). بناءً على ذلك فربما يكون من الحكمة عدم التعويل على قضية النسخ، والأجدر التركيز على أسباب النزول فيما يتعلق بالقرآن، وأسباب الورود فيما يتعلق بالسنة كقاعدة أساسية في فهم معنى النص المقدس ومغزاه، والقاعدة الأصولية التي ترتبط بأسباب النزول ارتباطًا جوهريًا هي علة الحكم؛ بمعنى أن العلة تدور مع المعلول ثبوتًا وعدمًا. انطلاقا من هاتين القاعدتين يمكن الوصول إلى تفسير عصري ومتجدد للنص المقدس من كتاب وسنة(81).

وما يعنينا في هذا المقام هو إمكانية نسخ القرآن الكريم بالسنة النبوية. ثمة اتفاق بين علماء الأصول على أن السنة النبوية مبينة للقرآن مفسرة له، كما أن من يقولون بالنسخ مجمعون على إمكانية نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة، ولكن الخلاف في جواز نسخ القرآن بالسنة(82). في هذا السياق ينفي الإمام الشافعي أن تكون السنة ناسخة للقرآن فيقول: “وأبان الله لهم أنه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب. وأن السنة لا ناسخة للكتاب، وإنما هي تبع للكتاب، بمثل ما نزل نصًا؛ ومفسرة معنى ما أنزل الله منه جملاً(83)“. كما يستدل الشافعي على ذلك بقوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(84)، حيث يخبرنا الله جل جلاله “أنه فرض على نبيه اتباع ما يوحى إليه، ولم يجعل له تبديله من تلقاء نفسه”(85)؛ فالله تعالى هو المزيل المثبت لما يشاء وليس لأحد من خلقه هذه الميزة؛ فهو القائل: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ”(86)، “مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(87)“.

أما الهمذاني فيورد أراء عدة تشهد بوقوع نسخ للقرآن بالسنة مستدلاً بآيات قرآنية كثيرة مثل قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ)(88)، وكذلك (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ)(89)؛ حيث نُسخت آية الميراث بقوله r: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، كما نُسخت الآية الثانية بنهيه r عن قطع يد سارق الغنم، وإن كثرت طالما لم يأوها المراح، أو سارق التمر الذي لم يأوه الجرين(90). كما ذهب الغزالي أيضا مذهب الهمذاني في القول بجواز نسخ السنة للقرآن، واستدل تقريباً بنفس الأمثلة، كما أورد رأي الشافعي في عدم جواز ذلك(91). إلا أن المتأمل في هذه الوقائع المذكورة عند الهمذاني أو الغزالي يجد أنها لا تندرج تحت النسخ بمعنى رفع الحكم، ولا تعدو أن تكون إلا من باب تخصيص العام من جانبه صلي الله عليه وسلم، وهو ما يمثل أحد وظائف السنة النبوية، من تبيان للنص القرآني، وتحديد لمقصوده، عن طريق تفصيل المجمل، وتوضيح المشكل، وتقييد المطلق(92).

لقد حاولنا فيما سبق إثبات أن عقوبة الردة الثابتة بالسنة القولية لا تمثل حدًا من حدود الدين، ولا تشريعًا سماويًا، ونظرنا إليها باعتبارها خروجًا على الإسلام، وعلى جماعته، وإعلان حرب على الدولة. وفيما سنتعرض لقضية هامة أخرى، نحسبها فاصلة حاسمة في الإجابة على تساؤلات عدة، تتعلق بالأحكام الشرعية الصادرة عن النبي r، ألا وهي قضية الديني والسياسي.

5- الأحكام الدينية بين السياسي والشرعي – نحو فهم عصري للنص التشريعي:

إن التعامل مع النص التشريعي في أمس الحاجة لترسيخ مبادئ هرمينوطيقية (تفسيرية – تأويلية) تساعد في التفرقة بين السياسي والديني التشريعي. هذا التعامل العقلاني المبني على حرية الفكر فيما يتعلق بالأحكام الشرعية من شأنه أن يحسم الخلاف، وينهي الصراع الناتج عن الخلط بين الديني والسياسي. هذه التفرقة الملحة فطن إليها محمد رشيد رضا مستلهمًا روح الشيخ الأستاذ الإمام المستنيرة، فقال في معرض فتواه عن الحكومة والدستور: “أحكام الإسلام قسمان: أحكام دينية جاء بها الوحي وأحكام دنيوية جاء ببعضها الوحي إرشادًا وتعليمًا ووكل سائرها إلى أهل الشورى من أولي المكانة والرأي الذين عبر عنهم القرآن العزيز بأولي الأمر، فهم الذين يضعون برأيهم واجتهادهم ما تحتاج إليه الأمة لإقامة المصالح ودرء المفاسد التي تختلف باختلاف الزمان والمكان”(93). كما عبر القرضاوي عن هذا المنهج في التعامل مع النص المقدس وفي سنة الرسول r وأصحابه وخلفائه فقال: “نريد أن نفهم النصوص الجزئية في إطار المقاصد الكلية، وأن نفرق بين الأحكام الدائمة والأحكام الوقتية، وبين ما قاله الرسول أو فعله بوصفه إمامًا من باب السياسة الشرعية الملائمة لزمنه وبيئته وظروف قومه، وما قاله أو فعله ليكون شرعًا عامًا ودائمًا للأمة إلى يوم القيامة”(94). لقد كان تعطيل هذه المبادئ، وما ترتب عليه من عدم نظر كثير من الفقهاء إلى النهي والمنع النبوي، وإلى عمل الخلفاء الراشدين، على أنه قد يكون من الأمور السياسية التي يبت فيها الإمام بحسب مقتضيات الظروف والأحوال، سببًا في أن أعيتهم الحيلة في البحث عن الحكم الشرعي، وما كان أغناهم عن ذلك(95).

وجدير بالتنويه في هذا المقام أن تصرفات السياسة العادلة التي ننادي بالتفرقة بينها وبين العقائد، هي من الشريعة، ويؤكد ابن القيم ذلك فيقول: “ومن له ذوق في الشريعة، واطلاع على كمالها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد […] تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها”(96). ومن ثم فليس هدف التفرقة المنشودة التقليل من شأن السياسة؛ فبدونها لا تقوم دولة، بل هدفها هو ضرورة فهم ما فعله النبي r من باب السياسة الشرعية على أنه تابع للمصلحة، ومقيد بها زمانا ومكانا(97)، أي يثبت بثبوتها وينعدم بعدمها، وليس له علاقة بالعقائد الثابتة على الدوام.

بناءً على ذلك يجب البحث عن المقصود من النص النبوي في غير التعبديات، وعما يحمل من علة وغاية، هما سبب الحكم، يبقى ببقائهما ويزول بزوالهما، وهو ما فعله المؤرخ العظيم ابن خلدون في مقدمته عندما لم يقف عند لفظ(98) حديث الرسول r “الأئمة من قريش”(99)، بل نظر إلى مقصود الشارع منه وخلص إلى أن الرسول راعى ما كان لقريش في عصره من عصبية، وقوة، تقوم عليهما الخلافة، والعلة هنا دفع التنازع، بمعنى أن يكون القائم بأمور المسلمين من قوم أولي عصبية ليسمع لهم غيرهم(100). ورغم أن الشيخ القرضاوي يضَّعِف هذا الحديث ويشكك في ثبوته(101)، إلا أنه يؤيد ما ذهب إليه ابن خلدون في تحليل علة هذا الحديث، ويرى أن مفهوم العصبية التي أشار إليها ابن خلدون وهي التي يستند إليها الحاكم قد تغير في عصرنا إلى فكرة المساندة الشعبية المتمثلة في الأغلبية التي تختار حاكمها بحرية(102).

هذه التفرقة بين الديني والسياسي كانت تمثل لرشيد رضا قاعدة أساسية في الحكم على قضية الردة، وأمر النبي بقتل المرتد؛ حيث أكد أن ذلك الأمر بالقتل كان من قبيل التصرفات السياسية لنبي الرحمة r؛ أي ليس أمرًا دينيًا مبنيًا على وحي يجب إتباعه تعبداً، فيقول الشيخ: “فالظاهر أن الأمر في الحديث بقتل المرتد كان لمنع المشركين وكيد الماكرين من اليهود، فهو لأسباب قضت بها سياسة ذلك العصر التي تسمى في عرف أهل عصرنا سياسة عرفية عسكرية لا لاضطهاد بعض الناس في دينهم”. ثم يستدل بوقائع تاريخية من تصرفاته r بأن المرتد من الأطفال لا يقتل لعدم تصور المحاربة والقتال منه، فيقول: “ألم تر أن بعض المسلمين أرادوا أن يكرهوا أولادهم المتهودين على الإسلام، فمنعهم النبي r بوحي من الله عن ذلك، حتى عند جلاء بني النضير والإسلام في أوج قوته، وفي ذلك نزلت آية (لا إكراه في الدين)(103) كما نقل الشيخ تشبيه شيخ الإسلام في الأستانة المرتد بالفار من العسكرية(104)، وهذا التشبيه ينظر إلى الردة من منظور سياسي لا ديني. مبدأ التفرقة هذا يمثل نفس المنهج الذي اتبعه الشيخ محمد عبده عند تفسيره لقوله تعالى: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(105)؛ حيث أشار إلى مغزى الأمر السياسي للرسول r بقتل المرتد فقال إن “النبي r ما أمر بقتل المرتد إلا لتخويف أولئك الذين كانوا يدبرون المكايد لإرجاع الناس عن الإسلام بالتشكيك فيه، لأن مثل هذه المكايد إذا لم يكن لها أثر في نفوس الأقوياء من الصحابة الذين عرفوا الحق ووصلوا فيه إلى عين اليقين، فإنها قد تخدع الضعفاء الذين يدخلون في الإسلام لتفضيله على الوثنية في الجملة قبل أن تطمئن قلوبهم بالإيمان كالذين كانوا يعرفون بالمؤلفة قلوبهم”(106).

مغزى الأمر السياسي هذا الذي نظر إليه الأستاذ الإمام في تفسيره للآية السابقة يمثل جوهر نظرية مقاصد الشريعة، وهي “الغايات التي تهدف إليها النصوص من الأوامر والنواهي والإباحات”، ولذلك يُطلق على المقاصد حكمة الشريعة، أي الغاية من وراء الحكم(107). ومن ثم فإن مراعاة قصد الشارع من الأمور المهمة في الاجتهاد وهو ما فعله الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في عام الرمادة، من عدم تطبيق حد السرقة لما اشتدت المجاعة. ولذا يرى الشاطبي أن العلم بمقاصد الشريعة هو الشرط الأول الواجب توفره في المجتهد وجعل هذا الشرط سابقًا للشرط الذي وضعه غيره من الأصوليين، وهو التمكن من الاستنباط القائم على المعرفة بمصادر التشريع(108). ويؤخذ من ذلك أن البحث عن علة الأحكام الشرعية وغاياتها هو أعلى درجات الاجتهاد الذي لا يختلف كثيرًا عن الجهاد، فالاجتهاد هو لون من الجهاد العلمي، بينما الجهاد نوع من الاجتهاد العملي، فالعلاقة بينهما إذن وثيقة لا تنفصل(109). فالواجب علينا هنا أن نعي أن الشريعة – من حيث جانبها التشريعي المعاملاتي – متطورة ومتغيرة، بحسب الزمان والمكان والأحوال والعادات، أما من حيث جانبها العقدي الإيماني فهي ثابتة لا تتغير، بمعنى أن العقيدة ثابتة والشريعة متغيرة. ولنا في هذا الصدد مطلبان رئيسيان من أهل العلم، نراهما من الضرورة والنفع بمكان.

6- مطالب ملحة:

1) إن السنة النبوية – بكل أنواعها من قولية وفعلية وتقريرية – تحتاج إلى دراسات مستقلة خاصة فيما يتعلق بمتونها؛ لأن علماء المسلمين لهم سبح طويل في دراسة السند، وعلوم الجرح والتعديل الخ. إلا أن دراسة المتون في ضوء اتفاقها مع النص القرآني، لم تلق حتى الآن ما تستحقه من اهتمام. وكما يقول العلواني أنه لو حظي علم مقاييس نقد المتون بنفس الاهتمام الذي حظي به علم الإسناد، ولو سادت قواعد منهجية معرفية قرآنية لدراسة مثل هذه القضايا الكبرى لتجنبنا كثيرًا من الاختراق الثقافي(110). إننا بحاجة لعلم تفسير السنة كمقابل لعلوم تفسير القرآن، علم يُراعى فيه – من بين ما يُراعى – التركيز على أسباب الورود كمقابل لأسباب النزول. نحتاج إلى بناء متواصل على الدراسات الخاصة بمراجعة التراث الفقهي، وبكيفية التعامل مع السنة النبوية، ونحيي هنا دراسة الشيخ القرضاوي في هذا المجال، والتي يقول فيها: “والواجب على أهل العلم في عصرنا: أن يراجعوا تراثنا الفقهي في ضوء علم الحديث الموصول بالفقه وأصوله، بعقلية بصيرة نافذة، وينظر في الأحكام التي أسست على أحاديث ضعيفة، فمن المجمع عليه أن الحديث الضعيف لا يؤسس حكما، ولا يبنى عليه تكليف حلال أو حرام. وهذه المراجعة العلمية الفاحصة من ثقات أهل العلم، ستكشف لنا عن أحكام في قضايا تشريعية واجتماعية مهمة لا سند لها إلا الضعاف من الأحاديث”(111).

2) لا يجوز رفض حرية العقيدة المتأصلة في الإسلام بدعوى أنها مطلب غربي، وأحد حقوق الإنسان المنصوص عليها في المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(112)، وبذريعة أن هذا الإعلان بدعة غربية، وصناعة مستوردة، وأن طريق نهضة الشرق العربي المسلم، واستعادة شرفه لا يكون “إلا في الرفض العنيد الصارم الحازم، للأفكار، والمبادئ، والعقائد (المستوردة من الخارج) – لأنها لا تتفق ومنهجه في الحياة، وطريقته في العيش، ورسالته في دنيا الناس(113)“. وفي هذا الصدد يقول الأستاذ الأمام أن “سماحة الإسلام وسعة حلمه للعلم أباحت للمسلمين أن يرسلوا أولادهم ليأخذوا العلم في المدارس الرسمية وغير الرسمية عن أساتذة فيهم المسلم وغير المسلم، أو عن أساتذة كلهم غير مسلمين، بل في مدارس لم تبن إلا لترويج دين غير دين الإسلام”(114). لا بد من الوقوف في وجه من أسماهم الشيخ القرضاوي بالظاهريين الجدد، وعاب عليهم رفضهم استيراد النظم الإدارية من غير المسلمين بدعوة أنها بدعة تقود إلى النار. إنهم يرون الديمقراطية شرًا يجب مقاومته، والقرار بالأكثرية وتكوين الأحزاب بدعة غربية، ويضخمون من بعض الآداب مثل النقاب وكأنها من أركان الإسلام، ويقفون عند حرفية فهم النصوص وتفسيرها، ولا ينظرون إلى ما وراء النص من علل ومقاصد(115). علينا أن ننطلق من قول الرسول r: “‏الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها”(116). فكم كان أسوتنا الحسنة يمدح أحلافًا جاهلية كحلف المطيبين، وحلف الفضول، وكم كان يتمثل بأبيات شعر جاهلية مثل قوله أن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.

ونحن هنا نتساءل بدورنا، لماذا لا تكون حقوق الإنسان، بما فيها حرية العقيدة بكافة أشكالها، ضالة المؤمن، ومطلبه، طالما أنها لا تتعارض مع ثوابت الدين، بالإضافة أن لها ما يؤيدها، ويدعمها في جوهر الدين، ومقاصده، وكذلك في تاريخ أصحابه المستنيرين المنيرين؟ ونحن إذ نقرر ذلك، إلا أننا لسنا ممن يشترط في كل تجديد، أن يكون له أصل يبرره في التاريخ الإسلامي، ولكننا نفضل البحث عن هذا الأصل، فإن لم يوجد فالأمر متروك للعقل في تحديد ما يراه متفقًا مع مصلحة الإنسان؛ فالأصل في الأشياء الحل. ولكن الخوف، كل الخوف، أن يتملكنا العناد والمكابرة، متخيلين أننا بذلك نزود عن هويتنا؛ فما كانت هويتنا أبدًا الجمود والتخلف والوقوف في وجه التطور، ونرجو ألا تكون، كما أنه من العبث أن ننضم إلى صفوف دعاة التجمد باسم الدفاع عن الدين والهوية. وفي ختام هذا البحث لابد من كلمة ضرورية.

7- كلمة ضرورية:

إن ما نطالب به من حرية فكرية في جميع مجالات العلم والحياة، بما يتضمنه ذلك من حرية العقيدة، يحتاج إلى مناخ مناسب، وبيئة ملائمة، حتى تنمو فيهما شجرة الحرية. هذا المناخ لابد من توفره في الأسرة أولاً، بين الوالدين وأبنائهم، عن طريق النقاش الحر، وتربية النشء على حرية التعبير عن الرأي، ثم يأتي دور المؤسسة التعليمية، بداية من المدرسة، وصولاً إلى الجامعة، فلا بد من إعادة النظر في المناهج الدراسية بحيث تتاح الفرصة للطلاب في التعبير عن أرائهم في حرية تامة، بما لا يخرج عن حدود الأدب، كما أن تأهيل المعلم والأستاذ الجامعي على أسلوب الأخذ والعطاء في الدرس من الضروريات التي لا غنى عنها؛ فالعملية التعليمية ليست طريقًا ذا اتجاه واحد، بل هي أخذ وعطاء، وتكامل بين طرفيها المعلم والمتعلم، ولو لم تكن المؤسسة التعليمية هي معمل تفريخ العقول المفكرة، فمن يكون؟ كما أن إطلاق حرية البحث العلمي هو حلقة رئيسية في هذه السلسلة، فتقييد الباحثين والأساتذة بالرقابة، وبفصلهم من الجامعة إذا قالوا شططا، يكرس لفكرة الجمود، ويرهب غيرهم من محاولة الاجتهاد والتجديد، ويرسخ مبدأ التقليد. نحن نطالب بحرية مطلقة في البحث العلمي، والاجتهاد الديني، ولو كانت نتائجهمـا يرفضهـا العقل والمنطق – وهو أمر وارد – ففي ذلك إثارة للفكر والتناظر والتفنيد، الأمر الذي يعود بالمنفعة العامة على المجتمع. ولا يفوتنا التذكير بدور الدولة في تهيئة مناخ الحرية السياسية كمكمل هام للمنظومة السابقة، مع ضرورة الربط بين الفكر والممارسة، فكثير هو الكلام عن الديمقراطية ونظرياتها، وقليلة هي ممارستها، ربما لأن من يتحدث عنها لم يعتدها؛ ومن ثم فالحاجة ماسة إلى تنشئة الأجيال القادمة على ممارسة الحرية العملية قبل النظرية.

والله من وراء القصد.

الهوامش

(1) استعرنا صيغة السؤال من عنوان كتاب للأمير شكيب أرسلان بنفس الصيغة، وينصح بقراءته لما فيه من تحليل لردة المسلمين الحضارية من منظور ديني، وهو من منشورات دار مكتبة الحياة ببيروت.

(2) للمزيد حول الثابت والمتطور في الفقه ومرونة الشريعة الإسلامية وضرورة الاجتهاد انظر: يوسف القرضاوي، بينات الحل الإسلامي، وشبهات العلمانيين والمتغربين، ط2، مكتبة وهبة 1993، ص 72-81.

(3) للمزيد حول معالجة الإسلام لظاهرة الرق والتحرير التدريجي للأرقاء بهدف المساواة بين البشر راجع فصل “الإسلام والرق” من كتاب “شبهات حول الإسلام” لمحمد قطب، ط 21، دار الشروق، القاهرة 1992، ص 37-63.

(4) للمزيد حول ترسيخ الإسلام للحريات راجع: راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1993.

(5) قارن: أحمد بن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، تحقيق محمد رشاد سالم، دار الكنوز الأدبية، الرياض 1391 ه-، ج 9، ص 20.

(6) يمكن استنباط مبدأ الفصل بين السلطات من حديث الأمر بتغيير المنكر، فمن يستطيع تغيير المنكر باليد هو السلطة التشريعية والقضائية تليهما السلطة التنفيذية، أما تغيير المنكر باللسان فهو دور السلطة الرابعة وهي الصحافة.

(7) للمزيد حول هذه الوقائع التاريخية، وثبت مراجعها، ودورها في السياسة، والأحاديث وتخريجها راجع: يوسف القرضاوي: الدين والسياسة، تأصيل ورد شبهات، ط 1، دار الشروق، القاهرة 2007، ص 80 وما بعدها، وكذلك ص 97.

(8) انظر موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة، المغنى، ط 1، دار الفكر، بيروت 1985، ج 2، ص 575.

(9) حيث ورد في القرآن في شأن تقسيم الغنيمة آية صريحة تقول: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (سورة الأنفال رقم 8، آية 41). وهنا يظهر بجلاء مبدأ حرية الفكر في التعاطي مع النص القرآني.

(10) يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، ط 2، دار الوفاء ودار الصحوة، القاهرة 1992، ص 145.

(11) محمد قطب، شبهات حول الإسلام، ص 183.

(12) حسن صعب، إسلام الحرية لا إسلام العبودية، ط 3، دار العلم للملايين، بيروت 1981، ص 130.

(13) قمنا بالربط بين آراء الشيخين محمد عبده ورشيد رضا في التفسير انطلاقا من أن رشيد رضا قد جمع دروس أستاذه محمد عبده في تفسير القرآن التي كان يلقيها في الجامع الأزهر، وأضاف إليها من نفسه. وبعد وفاة شيخه تابع رضا هذا التفسير الذي أطلق عليه اسم “المنار”، إلى أن توفي قبل إتمامه، حيث انتهى إلى الآية 53 من سورة يوسف، وانتهى التفسير بما أتمه الشيخ رضا إلى 12 مجلداً. وهذا التفسير يعتبر خلاصة فكر أستاذه الشيخ محمد عبده، وآخر ما انتهى إليه الشيخ محمد رشيد رضا وأغلب ما فيه من أفكار تعود إليه باعتبار أنه الجامع والمدون له، إلا أنه يصعب وضع حد فاصل بين ما قاله كل منهما خاصة في الجزء الخاص بمحمد عبده الذي ينتهي بالآية 126 من سورة النساء.

(14) راجع في ذلك: فتاوى الإمام محمد رشيد رضا، جمعها وحققها صلاح الدين المنجد ويوسف ق خوري، ط1، دار الكتاب الجديد، بيروت 1970، ج 5، ص 2035-2038.

(15) محمد عبده، الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، ط 3، دار الحداثة، بيروت 1988، ص 136.

(16) المرجع السابق، نفس الصفحة. وللمزيد حول جمود المسلمين وخطره على اللغة والمجتمع والعقيدة أنظر نفس الكتاب ص 133-156.

(17) راجع في ذلك كله: محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار، دار المعرفة، بيروت 1993، ج 5، ص 323 وما بعدها.

(18) محمد عبده، الإسلام والنصرانية، ص 17. رغم قناعتنا بتحليل الشيخ الجليل لدوافع حروب الخوارج، إلا أننا لا ننفى بشكل مطلق أن تكون الخلافات الدينية البحتة أحد أسبابها، فالخوارج لم يكونوا يجيروا المسلم حتى يعلن لهم كفره؛ لينعم بما للكافر من حق الجوار.

(19) قارن المرجع السابق، ص 69 وما بعدها.

(20) فتاوى الإمام محمد رشيد رضا، ج 5، ص 2039 وما بعدها.

(21) فتاوى الإمام محمد رشيد رضا، ج 2، ص 743، ولمطالعة رأي الشيخين في القضاء والقدر وأعمال الإنسان وما يتعلق بها من مذاهب أنظر نفس الجزء ص 732-747، وكذلك ج 1، ص 312 وما بعدها.

(22) راجع في ذلك: فتاوى الإمام محمد رشيد رضا، ج 3، ص 890-898؛ و محمد عبده، رسالة التوحيد، تحقيق محمود أبو رية، ط 2، دار المعارف، القاهرة 1966، ص 165-175.

(23) راجع في ذلك كله: تفسير المنار، ج 2، ص 215 وما بعدها، وفي قضية الجهاد بصفة عامة أنظر نفس الجزء، ص 207-216.

(24) أنظر: تفسير المنار، ج 4، ص 198-206.

(25) أحمد بن عبد ربه، العقد الفريد، تحقيق محمد سعيد العريان، دار الفكر (بدون تاريخ) ج 4، ص 161. وحول نقد هذه المقولة وأمثالها في مفهوم الخلافة أنظر: علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم – بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام، ط 3، مطبعة مصر، القاهرة 1925، ص 4 وما بعدها. يلاحظ أن عبد الرازق أورد أداة الشرط في آخر العبارة المذكورة بلفظ “وإن”، وليس “فإن”، وهو أنسب للسياق.

(26) محمد عبده، رسالة التوحيد، ص 118.

(27) المرجع السابق، ص 173.

(28) للمزيد عن الإفراط في مفهوم العبودية وما يؤدي إليه من تعطيل للعقل الاجتهادي انظر نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، سينا للنشر، القاهرة 1992، ص 80 وما بعدها.

(29) عبد الرزاق أحمد السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، تحقيق نادية عبد الرزاق السنهوري، مراجعة وتعليقات وتقديم توفيق محمد الشاوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب،  القاهرة 1989، ص 59 وما بعدها.

(30) سورة الأحزاب رقم 33، آية 72.

(31) نقصد بنظرية المقاصد هنا مقاصد الشريعة التي صاغها إجمالاً أبو حامد الغزالي في “المستصفى من علم الأصول”، حيث تطرق إلى تخريج مناط الحكم واستنباطه، وإلى كون العلة مؤثرة في الحكم (انظر ج 2، ص 285-287، و380-383)، ثم أصل لهذه النظرية، وقعدها أبو إسحاق الشاطبي في “الموافقات في أصول الشريعة”، حيث تعرض بالتفصيل إلى مقصود الشارع من الأحكام، وأفرد القسم الثالث من كتابه كاملاً للحديث عن المقاصد. (انظر بيانات الكتابين على الترتيب: حاشية سفلية 80، 108).

(32) سورة لقمان رقم 31، آية 20.

(33) قارن: الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ص 48.

(34) نقلنا النص كما هو مع حذف الأسئلة والعناوين قبل كل مسألة بهدف انسيابية النص.

(35) ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، ط 1، دار الجيل، بيروت، مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة 1989، ج 2، ص 724 وما بعدها.

(36) بيان للناس من الأزهر الشريف، القاهرة 1984، ج 1، ص 140.

(37) سورة البقرة رقم 2، آية 217.

(38) سورة آل عمران رقم 3، آية 86.

(39) سورة آل عمران رقم 3، آية 90.

(40) سورة البقرة رقم 2، آية 256.

(41) قارن على سبيل المثال: الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ص 44 وما بعدها.

(42) سورة الكهف رقم 18، آية 29.

(43) جاء ذلك في ندوة “حد الردة.. إشكالات وإجابات” التي نظمها القسم الشرعي بشبكة “إسلام أون لاين.نت” بالاشتراك مع اللجنة الثقافية بنقابة الصحفيين بالقاهرة في 10/9/2007، ويمكن مراجعة ذلك تحت الرابط التالي:

http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1189064835412&pagename=Zone-Arabic-Shariah%2FSRALayout

(44) فتاوى الإمام محمد رشيد رضا، ج 4، ص 1539.

(45) سورة البقرة رقم 2، آية 256.

(46) قارن: رشيد رضا، تفسير المنار، ج 3، ص 35-37.

(47) المرجع السابق، ص 39.

(48) سورة النساء رقم 4، آية 90. سقطت في أصل الفتوى المتعلقة بهذه الآية كلمة “عليهم”. أنظر: فتاوى الإمام محمد رشيد رضا، ج 4، ص 1539.

(49) رشيد رضا، تفسير المنار، ج 5، ص 327.

(50) صحيح مسلم بشرح النووي برقم 3175.

(51) بيان للناس من الأزهر الشريف، ص 253.

(52) سنن النسائي برقم 4662.

(53) قارن حد الحرابة الوارد في سورة المائدة رقم 5، آية 33.

(54) انظر: محمد سليم العوا، الحق في التعبير، ط 2، دار الشروق، القاهرة 2003، ص 68 وما بعدها.

(55) قارن: طه جابر العلواني، لا إكراه في الدين، إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم، ط 2، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة 2006، ص 149.

(56) انظر المرجع السابق، ص 106-109.

(57) رشيد رضا، تفسير المنار، ج5، ص 327؛ وانظر أيضا ج 4، ص 1540.

(58) انظر: الغنوشي، الحريات العامة في الإسلام، ص 49-51.

(59) رواه البخاري برقم 6411.

(60) قارن: العلواني، لا إكراه في الدين، ص 123-144. لا نريد هنا الدخول في قضية العمل بأحاديث الآحاد؛ فالعمل بها ثابت في عقوبة شارب الخمر. ولكننا نميل على العموم إلى نهج نظرية المقاصد، والبحث عن علة الحكم الشرعي، ودورانها مع معلولها.

(61) انظر تعقيب بن بيه على كتاب العلواني “لا إكراه في الدين” في نفس الكتاب، ص 190.

(62) للمزيد من موقف عمر بن الخطاب من المرتد أنظر: المرجع السابق، ص 122 وما بعدها.

(63) ورد في سنن الترمذي تحت رقم 1370.

(64) فتاوى الإمام محمد رشيد رضا، ج 4، ص 1541 وما بعدها.

(65) سورة آل عمران رقم 3، آية 72.

(66) فتاوى الإمام محمد رشيد رضا، ج 4، ص 1542، وكذلك ج 2، ص 576 وما بعدها.

(67) سورة البقرة رقم 2، آية 256.

(68) سورة الكهف رقم 18، آية 29.

(69) فتاوى الإمام محمد رشيد رضا، ج 4، ص 1543.

(70) العوا، الحق في التعبير، ص 69.

(71) للمزيد عن موقف العوا من الردة راجع الفصل الخاص بذلك في كتابه: في أصول النظام الجنائي في الإسلام، الطبعة الثانية، دار المعارف، القاهرة 1983، ص 151-170.

(72) سورة النساء رقم 4، آية 116.

(73) العوا، الحق في التعبير، ص 71 وما بعدها.

(74) سورة النساء رقم 4، آية 116.

(75) انظر سورة النور رقم 24، آية 2؛ و سورة المائدة رقم 5، آية 38.

(76) يوسف القرضاوي، بينات الحل الإسلامي، ص 227. وإن كان سياق حديث الشيخ القرضاوي هنا يشير إلى أنه يتحدث عن الخروج عن الجماعة وهو ما نرفضه، ولكن لا نتفق في عقوبته حدًا، إلا أن الشيخ الجليل لا يصرح بذلك.

(77) المرجع السابق، نفس الصفحة.

(78) هذا قول مأثور ينسب أحيانًا لعمر بن الخطاب، أو لعلى بن أبي طالب رضوان الله عليهما، وينسب كذلك للإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، ويكفى منه حكمته ومغزاه، بغض النظر عن قائله.

(79) هذا ما نفاه محمد عبده ورشيد رضا نفيًا قاطعًا كما بينا سابقًا في بياننا لدور الرواد في حرية الفكر. أنظر حاشية سفلية رقم 23.

(80) أبو حامد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، تقديم وضبط وتعليق إبراهيم محمد رمضان، دار الأرقم بن أبي الأرقم، بيروت (بدون تاريخ)، ج 1، ص 381.

(81) للمزيد حول إشكالية النسخ ومخاطره، انظر: نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص – دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، ط 5، الدار البيضاء، 2000، ص 117.

(82) انظر: أبو بكر بن حازم الهمذاني، الاعتبار في بيان الناسخ والمنسوخ من الآثار، ط 1، حمص 1966، ص 26.

(83) محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق محمد سيد كيلاني، ط 1، مصطفى البابي الحلبي، 1969، ص 55.

(84) سورة يونس رقم 10، آية 15.

(85) الشافعي، الرسالة، ص 55، وللمزيد عن الناسخ والمنسوخ انظر أيضًا نفس المرجع، ص 98-125.

(86) سورة الرعد رقم 13، آية 39.

(87) سورة البقرة رقم 2، آية 106، وانظر كذلك الشافعي، الرسالة، ص 55 وما بعدها.

(88) سورة النساء رقم 4، آية 11.

(89) سورة المائدة رقم 5، آية 38.

(90) راجع: الهمذاني، الاعتبار في الناسخ والمنسوخ، ص 27 وما بعدها.

(91) قارن: الغزالي، المستصفى، ج 1، ص 369-373.

(92) للمزيد حول مفهوم السنة النبوية ووظائفها انظر: بيان للناس من الأزهر الشريف، القاهرة 1984، ج 1، ص 67-78.

(93) فتاوى محمد رشيد رضا، ج 3، ص 807.

(94) يوسف القرضاوي، السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، ط 2، مكتبة وهبة، القاهرة 2005، ص 26.

(95) للمزيد حول إشكالية الخلط بين الديني والسياسي وعواقبه، انظر: المرجع السابق، ص 139-151.

(96) ابن القيم الجوزية ، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ، تحقيق محمد جميل أحمد، المؤسسة السعودية بمصر 1961، ص 4.

(97) للمزيد حول التفرقة بين التصرفات السياسية والشرائع العامة انظر: المرجع السابق، ص 14-27.

(98) للمزيد حول خطورة الفهم المعجمي للسنة وبعديها الزماني والمكاني انظر: يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع السنة النبوية؟ ط 4، دار الشروق، القاهرة 2006، ص 16- 18.

(99) للمزيد حول تخريج هذا الحديث، وحظه من الصحة، ووروده بالمعنى دون اللفظ، وأثره في نظام الحكم في الإسلام انظر: القرضاوي، دراسة في فقه مقاصد الشريعة – بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية، دار الشروق، ط 1، القاهرة 2006، ص 171 وما بعدها، وكذلك القرضاوي، الدين والسياسة، ص 226-228. لا يعنينا هنا صحة هذه الحديث من ضعفه؛ فنحن لا نوظفه كدليل في نظام الحكم، ولكن نستعين به كمثال على التعامل العقلاني مع النص التشريعي، والبحث عن علة الأحكام الشرعية.

(100)  انظر: مقدمة ابن خلدون، تحقيق على عبد الواحد وافي، ط 3، نهضة مصر، القاهرة 1981، ج 2، ص 583-587.

(101) قارن: القرضاوي، الدين والسياسة، ص 226-228.

(102) قارن: القرضاوي، دراسة في فقه مقاصد الشريعة، ص 170 وما بعدها.

(103) فتاوى الإمام محمد رشيد رضا، ج 4، ص 1542، وراجع كذلك ج 2، ص 576 وما بعدها.

(104) المرجع السابق، ص 1544.

(105) سورة آل عمران رقم 3، آية 72.

(106) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج 3، ص 334.

(107) يوسف القرضاوي، دراسة في فقه مقاصد الشريعة، ص 20 وما بعدها.

(108) قارن: أبو إسحاق الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق الشيخ عبد الله دراز، المكتبة التجارية الكبرى – القاهرة (بدون تاريخ)، ج 4، ص 105-107.

(109) انظر: يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية مع نظرات تحليلية في الاجتهاد المعاصر، دار القلم للنشر والتوزيع، ط 3، الكويت 1999، ص 5.

(110) قارن: العلواني، لا إكراه في الدين، ص 72 وما بعدها.

(111) يوسف القرضاوي: كيف نتعامل مع السنة النبوية؟ ص 74.

(112) اعتُمد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بموجب قرار الجمعية العامة رقم 217 أ (د-3) المؤرخ في 10 ديسمبر 1948، وتنص المادة 18 على أنه “لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين. ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرًا أم مع الجماعة.” انظر الموقع الإليكتروني للأمم المتحدة (www.un.org).

(113) هذا من بين ما ذكره محمد جميل أحمد في بداية مقدمته لكتاب “الطرق الحكمية” سالف الذكر.

(114) محمد عبده، الإسلام والنصرانية، ص 153.

(115) انظر: يوسف القرضاوي، دراسة في فقه مقاصد الشريعة، ص 45 وما بعدها.

(116) ورد في سنن الترمزي برقم 2611، وفي سنن ابن ماجة برقم 4159.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر