Uncategorized

كلمة التحرير : خيرية الأمة الإسلامية

عنـدمـا يكون الحديث عن الصفات والشمــائل التي يتحلى بهـا الإنســان, على مستوى الأفـراد أو الجمـاعـات, فإن هنـاك حـدودا فارقــة بين «الصفــات واللصيقــة» وبين «الصفات المكتسبة» .. فـإن يكون الإنســان طويلا أو قصـيراً .. أسـود أو أبيـض أو أصفـر .. مرســل الشــعر أو أجـعده .. عربَّيـا أو أعجميَّــا .. شـرقيَّــا أو غـربيَّـا .. ومن سكـان الشمـال أو الجنوب .. إلخ .. إلخ .. فهـي جميعهــا ــ وأمثالهــا ــ «صفات لصيقـة» لا يتفاضـل قيهـا أو بهـا إنســان عن إنســان أو أمـة عن أمـة, لأنهــا صفـات جبلّيّة وطبيعيـة, لا دخـل للإنســان في الاتصــاف بهــا, ولا حيلــة لــة في تغييرهــا, حتى إذا أراد لهـا التغيير.

ولذلك, فليــس من العــدل ولا مـن الحكمــة أن يتفاضــل الناس بهـذا النوع من الصفـات, وإلا كـان ذلك تكليفًـا للنـاس بما لا يطـاق, وبمـا لا يستطيعون إليــه سبيلا }لاَ يُكَــلــفُ اللهُ نَفْسًــا إِلاً وُسْعَهَــا {(البقـرة : 286).

أمــا الصفــات التي يتــم فيهــا وبهــا التفــاضل بين النــاس, فهي «الصفــات المكتسبــة» التي يخضع اكتســابهــا, والتفـــاوت في درجــاتهــا لـلإرادات والطمـوحـات والقــدرات والمهــارات, وذلـك من مثـل «الإيمــان» و «التقـوى» و «محاسـن الأخلاق» و «البراعـة في العلوم والفنون والآداب» وفي «المهـارات» التي تضع العلـوم والفنـون ففي الممـارسـات والتطبيقــات .. فبهــذه «الصفــات المكتســبة» يتمـــايز النــاس, أفـرادا وجماعـات, ويتفاضلـون ويتســابقـون على درجـات سلم «الخيريّـة»؛ لأن اكتســاب هذه الصفــات والتســابق في ميـادينهـا هو ممـا يستطيعـه الكـافـة, بحسب ما لديهـم من عزائـم وإرادات وقــدرات ومهــارات, وبقـدر مــا يبذلــون في ذلك من مجهـودات وتضحيات.

ولهـذه الحقيقة البدهيــة, وجدنـا العـدل الإلهـي يحـدثنــا عن أن التكــريم ــ تكـريم الخالق ــ سبحـانه وتعـالى ــ إنمـا كـان لمطلق بني آدم .. «فالخلق» صفـة لصيقـة بجميع بنـى آدم, والنفخ فيهـم من رح الله ــ وهـو ســر التكـريـم ــ عـام يســتوى فيــه الجميع, وكذلك «التسخير» الإلهي لكل قوى الطبيعـة للإنســان ــ مطلــق الإنســان ــ هو من القضـاء الحتـم الذي شـاءتـه الحكمــة الإلهيـــة : }وَلَقَـدْ كَـرَّمْنَــا بَنِـي ءَادَمَ وَحَمَلْنَــاهُـمْ فِي الْـبَرَّ والْبَحْـرِ وَرَزَقْنَــاهُـمْ مِنَ الطَّيَّبَاتَ وَفَضَّلْنَاهُـمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً {(الإســراء : 70).

وتحت خـذا التكـريـم العــام يــأتى التفــاضل و التفـاوت والتمــايـز في الصفـات الإنســانية المكتسـبـة, ومنهـا «التقـوى» و «العلـم» ــ مثلا ــ فيقـول الله ســبحــانه وتعـالى : }يَا أَيُّهَـا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُـمْ مِنَ ذَكَـرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَــاكُــمْ شَـعُوبًا وَقَبَـائِلَ لِتعَارَفُوا إنَّ أَكْـرَمَكُــمْ عِنْـدِ اللهِ أَتْقَاكُــم إِنَّ اللَّـــهَ عَلِيــمٌ خَبِـيرٌ {(الحجـرات :13) فالخلق مـن ذكــر وأنثي, وتقســيم الخلائق إلى شــعوب وقبــائل, هـي من الصفــات اللصيقــة .. أما التفـاضل بالتقــوى فهو ممـا يكتسبــه الإنســان, وتتفـاوت فيه الدرجــات والقـدرات .. وكذلك الحال مع «العلــم» }قُل هَلْ يَسْتَوي الَّذِينَ يَعْلَمُــونَ وَالَّذيِنَ لاَ يَعْلَمُـــونَ إنَّمَـا يَتَذَكَّــرُ أُولُو الأَلْبَـابِ {(الزمر:9).

خيريـة مشــروطــة :

ولهــذه الحقيقــة من حقــائق العــدل الإلهـي, كــان حديث القــرآن الكــريم عن خيريـة الأمـة الإسـلاميـة, وعن أنهـا خير أمـة أخـرجت للنــاس, حديثًــا عن «خيريـة مشـروطـة» باكتســاب هذه الأمـة المجمـوعـة من «الصفـات المكتسبــة», تتوقف خيرتهـا ومقـادير هـذه الخيريـة, على ما حصّلت هـذه الأمــة مـن هـذه الصفـات, وليس حديثـا عن « خيريـة مطلقـة », تدعيهــا هذه الأمــة بحكــم العرق أو الجنس أو اللون أو الميــراث أو التــاريخ, أو أيــة صفــة من «الصفــات اللصـيقـة» التي لا فضل لها في تحديد معـايير الخيريـة ودرجاتهـا ..

وإذا نحن ذهبنــا إلى الســياق القـرآنـي, الذي تحدث عن خيريــة الأمــة الإســلاميـة, وتميـزهـا بهـذه الخيريـة عن غيـرهــا من الأمم, نجـد مصـداق هذا المنهــاج الذي تحـدثنــا عنــه وحـددنــاه .. ففي هـذا الســياق ــ الذي تحـدثت فيــه آيـات ســورة آل عمــران : 102 ــ 110 عن هـذه الخيريـة ــ نجـدهـا مشـروطــة باكتســاب هذه الأمـة الإســلاميــة, وتحقيقهــا وتطبيقهــا للعـديد مـن القيم والمبــادىء والشــروط .. وذلك من مثل :

1 ــ أن تكون هذه الأمـة «أمـة مؤمنـة» جــامعــة في إيمانهــا كل أركــان الإيمــان ــ الإيمــان بـالله, واليـوم الآخـر, وبدين الله الواحــد, وبســـائر الكتـب والنبــوات والرسـالات ــ وذلك حتى لا تكـون هـذه الخيريـة مجـرد «منــافع» دنيـويـة, يحسّنهــا العقــل المجــرد مـن الشــرع, بعيــداً عن الانتمــاء لخـالق الخير وواهبـه للإنسـان.

2 ــ وأن ترتقـى هـذه الأمـة ــ كي تحقق الخيريـة على غيرهـا من الأمم ــ على سـلم الإيمــان, فتحقق مســـتوى «التقـوى», التي هي الضميـر الحي المؤمن, الذي يتقى ويتجنـــب كــل مــا يغضــب مــولاه .. وللخيريــة في هـذا المســتوى درجــات أعلاهــا أن نتقي الله حـق تقــاتــه }اتَّقُـوا اللَّـــهَ حَقَّ تُقَـاتِــه {(أل عمـران : 102) وأدناهــا أن نتقي الله قــدر المســتطــاع }فَـاتَّقُـوا اللهَ مَـا اسْتَطَعْتُـمْ {(التغابن : 16) وللاسـتطاعـة هـي الأخـرى درجـات يتفـاوت في طلبهــا وتحقيقهــا المتقـون ..

3 ــ وأن لا تكــون هــذه التقــوى مقصــورة على ذات الفــرد التقي, لأن الإســلام دين الجمــاعـة, وكثير من فـرائضــه وتكــاليفــه جمــاعيـة واجتمــاعيـة, لا تتأتى ولا تُقــام إلا في وطن وأمـة وجماعـة واجتمــاع, حتى أن رهبانيــة الإســلام العـزلــة الفـرديــة التي تبتغي الخــلاص الفــردي عن طــريق إدارة الظهــر للجمــاعـــة والمجمــوع .. وبذبـك كـانت خيريــة الأمــة الإســلاميــة مرهـونـة بتحقيق فريضــة التــآلف والألفــة والاتحــاد والاعتصــام بحبل الله.

4 ــ أمــا الشــرط الرابع لخيريـة الأمــة الإســلاميــة, فإنـه شـرط عـام يشمــل سائر فرائض العمــل الاجتمــاعي العـام .. إنــه شـرط أن تكون هذه الأمــة آمـرة بالمعـروف ناهيـة عـن المنكـر .. مغـيرّة للمنكــر إذا وقع ..

ــ فإقامــة العــدل ــ مع الـذات ومع الآخــر ــ حتى لو كنــا تكــرهــه, أو حتى نحاربـه ..

ــ وإشــاعـة منهــاج الوسـطية الإســلامية الجــامعة, في الفكــر والتطبيق ــ ..

ــ وإقـامــة الشــورى ــ في الأســرة .. والمجتمــع .. والدولـة ــ ..

ــ والتكــافل الاجتمــاعي, الذي يحقق عـدالـــة التــوازن, والتوازن العــادل بين شــرائح المجتمع الإســلامــي وطبقـاته, حتى تكون الأمــة كالجــسد الواحــد, إذا اشتكـى منــه عضــو تداعـى لــه ســائر الأعضــاء بالسهــر والحمّى.

ــ وتحقيق قيمــة الحـريــة ــ المضبوطــة بضوابــط الشــريعــة الإلهيــة ــ في مختلف ميادين الحياة ــ الفكـريـة والعلميــة ــ ..

ــ والجهــاد لنصــرة المظلومـين وتحرير المستضعفين في الأرض ..

ــ والتســابق على طـريق الخـيرات التي تحقق سعــادة الناس في الدنيا والآخـرة ..

كـل هـذه الفـرائض الاجتمــاعيـــة ــ وأمثالهــا ــ وهـي بعض مـن التكـاليف التي وضعهـا الإسلام تحت الفريضــة العـامـة والجـامعـة : «الأمــر بالمعــروف والنهـي عن المنكــر» هي الــتي أناطهــا بكــل المكلفين ــ رجـالا ونســاء ــ }وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُـمْ أَوَلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ يِــالْمَعْــرُوفِ وَيَنْهَــوْنَ عَنِ الْمُنْكَــر وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُــونَ الزَّكَــاة وَيُطِيعُونَ اللَّـــهَ وَرَسُـــولَةُ أُولَئِــكَ سَيَرْحَـمُهُــم اللهُ إنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيـمٌ {(التوبـة : 71).

وبإقامــة هـذه الفـرائض الاجتمــاعيــة, والاتصــاف بثمـراتهــا, تتحقق خـيريـة الأمــة الإســلاميــة .. بل إن غيبــة هـذه الفـرائض الاجتمــاعيـة وصفــاتهــا يسلب من النــاس حتى معنى «الأمــة ــ الجمـاعـة» .. وليس فقط صفـة «الخيريــة» .. لأنهــم يكـونون عنـدئذ مجــرد «أفـراد» مبعـثرين وليســوا «أمـة» من الأمـم ! ..

عن ذلك كلـخ تحـدث القـرآن الكــريم, عنـدمــا عرض لخيريـة الأمــة الإســلاميــة, وشــروط هـذه الخيريـة, وصفـات الأمـة التي هي خير أمـة أُخرجت للناس .. فقـال :

}يَا أَيُّهَـا الَّذينَ ءَامَنُـوا اتَّقُوا اللَّـــهَ حَقَّ تُقَـاتِـهِ ولاَ تَمُــــونُنَّ إلاَّ وَأَنْتُــمْ مُسْلِمُــون(102) وَاعْتَصِمُــوا بحَبْــل اللهِ جَمِيعًــا وَلاَ تَفَرَّقُـوا وَاذْكُـرُوا نِعْمَــة اللهَ عَلَيْكُــمْ إذْ كُنْتُـمْ أَعْـدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قٌلٌوبكُــمْ فَأَصْبَحْتُــمْ بِنِعْمَتِـهِ إخْـوَانًـا وَكُنْتُــمْ عَلى شَفَــا حُفْـرَةٍ مِنَ النَّــارِ فَأَنْقَذَكُــمْ مِنْهَــا كَذَلِـكَ يُبَيَّنُ اللهُ لَكُــمْ ءَايَاتِهَ لَعَلَّكُــمْ تَهْتَـدُونَ (103) وَلْتَكُـنْ مِنْكُــمْ أُمَّــةٌ يَـدْعُــونَ إِلَى الْخَيْـر وَيَــأْمُـروُنَ بالْمَعْـرُوغِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَــر وَأُولَئِــكَ هُـــمُ الْمُفْلِحُـــونَ (104) وَلاَ تَكُـونُــوا كَالَّذيِنَ تَفَرَّقُــوا وَاخْتَلَفُــوا مِنْ بَعْـدِ مَـا جَــاءَهُـمُ الْبَيَّنَــاتُ وَأُلَئِكَ لَهُــمْ عَـذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَــوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوةٌ وَتَسْــوَدُ وَجُوةٌ فَأَمَّـا الَّذِينَ اسْســوَدَّتْ وُجُوهُهُـمْ أَكَفَرْتُــمْ بَعْدَ إيَمــانِكُــمْ فَذُوقُوا الْعَـذاب بمَا كُنْتُــمْ تَكْفُــرُونَ (106) وَأَمَّـــا الَّـذيِنَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُــمْ فَفِي رَحْمَــةِ اللهَ فِيهَـا خَـالِدُونَ (107) تِلْكَ ءَايَـاتُ اللهِ نَتْلُوهَـا عَلَيْكَ بالْحَقَّ وَمَـا فِي السَّمَـواتِ وَمَـا فِــي الأَرْضِ وَإلَى الله تُـرْجَعُ الأُمُـورُ (109) كُنْتُـمْ خَـيْـرَ أُمَّــةٍ أُخْـرجَتْ لِلنَّـاسِ تَـأْمُـرُونَ بالْمَعْـرُوف وتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَــرِ وَتُؤمِنــونَ باللَّــهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْـلُ الْكِتَـابِ لَكــانَ خَــيْـراً لَهُــمْ مِنْهُــمُ والْمُؤْمِنُــونَ وَأَكْــثرُهُـمُ الْفَاسِــــقُون {(آل عمـران : 102 ــ 110)

فجمــاع الصفــات التي تحقق خيريـة الأمــة الإســلاميــة ــ إذا أردنـا تكثيفهــا ــ هي :

1 ــ الإيمــان .. الذي هـو الشــرط في حفظ الأعمــال من الإحباط ..

2 ــ والعمــل الصالح .. الذي تنتدرج كل شعبه وتكاليفه وفرائضـه تحت فريضـة الأمـر بالمعـروف والنهـي عن المنكــر }كُنْتُــمْ خَــيْـرَ أُمَّــةٍ أُخْــرجَتْ لِلنَّــاسِ تَــأْمُـرُونَ بــالْمَعْــرُوفِ وَتَنْهَــوْنَ عَنِ الْمُنْكَـــرِ وَتُؤْمِنُـونَ بالله {..

وجميع شـروط هـذه الخيريـة وصفـاتهـا ومؤهلاتهــا «مكتســبـة», وأبواب ميادينهــا مفتوحــة أمــام سـائر عبــاد الله .. وليست صفــات «لصيقـة» ولا هي حكـر على من يتسمَّوْن بأسمــاء المسلمين, ويـدّعـون أنهـم مســلمون ــ ففــارق بين أن يكـون النـاس مجــرد مسلمـين, وبيـن أن يكـونوا الأمــة الإســلاميــة التي هي خــير أمــة أخــرجت للناس .. بل إن الآيــة تقـول : }وَلَوْ ءَامَنَ أَهْـلُ الْكِتَــابِ لَكَــانَ خَـــيْـرًا لَهُـم {.. فـأبواب الخيريـة مفتوحــة أمـام المجتمــع ! .. وهـي مـوجــودة أمــام الذين أوصــدوهــا باختيــارهـم عنـدمــا كفــروا بالتـوحيد .. وفـرقـوا بـين الرســل .. وكتبـوا الكتاب بــأيديهــم ثـم قــالوا هو من عند الله .. وعنـدمــا }كَـانُـوا لاَ يَتَنَــاهَـوْنَ عَنْ مُنْكَـرٍ فَعَلُوهُ لَبئْسَ مَـا كَـانُوا يَفْعَلُونَ  {(المـائـدة : 79).

التعـريف بالمصطلحــات :

ولأن هـذا هو الموقف القـرآنـي من خيـريـة الأمــة الإســلاميـة .. وتلك صفاتهــا وشــروطهـا, كـان لزامــا تحرير مضـامين المصطلحــات في هـذا المبحث ..

مصطلحــات.

1 ــ الأمــة …

2 ــ والخير …

3 ــ والمعـروف …

4 ــ والمنكــر …

5 ــ والفــارق بـين «الأمـر .. والنهـي» وبين «التغيير» ..

ــ ولأن شـروط تكـوين «الأمــة» هـي الأخــرى شــروط « مكتســبة », وليست « لصيقـة » كالعرق والجنس واللون ــ كـان مهنـاهــا ومفهـومهــا ــ في العربيــة ــ لغــة القـرآن الكـريـم ــ وفي الإســلام ــ مفهـوما مفتوحــة أبوابـه لكــل مـن يكتسب الشـروط والصفــات التي يطلق مصطلــح «الأمــة» على المكتســبين لهــا والمتصفــين بهـا .. وكــان تحقيق معنى هــذه الأمــة مســتمراً دائمــاً وأبـدًا ..

فالأمـــة ــ كمــا يقــول الراغب الأصفهــاني ]502 هــ ــ 1108م [  : هي « كـل جمـاعـة يجمعهــا أمـر مـا, إمـا دين واحـد, أو زمـان واحـد, أو مكــان واحـد, سواء كان ذلك الأمـر الجـامع تسخيراً أو أختيـاراً }وَمَــا مِنْ دَابَّــةٍ فِي الأَرضِ وَلاَ طَـائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَـاحَيْــهِ إِلاَّ أُمَــمٌ أَمْثَالُـكُــمْ  {(الأنعــام : 38) أي كل نوع منهــا على طريقــة قد ســخـرهــا الله عليهــا بالطبع .. }كَــانَ النَّــاسُ أُمَّـةً وَاحِـدَةً {(البقـرة : 213) صنفًـا واحـدًا وعلى طريقــة واحــدة .. }وَلَوْ شَــاءَ اللَّــهُ اَجَعَلَكُــمْ أُمَّـــةً وَاحِــدَةً {(المـائـدة : 48) أي في الإيمـان .. }وَلْتَكُنْ مِنْكُــمْ أُمَّــةٌ يّدعُــزنَ إِلَى الْخَيْـرِ {(آل عمــران : 104) أي جمـاعـة يتخيرون العلم والعمــل الصــالح يكـونـون أســوة لغيرهـم .. }إنَّـا وَجَــدْنَا ءَابَاءَنَت عَلَى أُمَّـةٍ {(الزخــرف : 23) أي على ديـن مجتمع .. }وَادَّكَـرَ بَعْـدَ أُمَّــةٍ {(يوسف : 45) أي بعـد حـين, أي بعـد انقضــاء أهـل عصـر أو أهـل دين ..}إنَّ إبْـرَاهِيــمَ كَـانَ أُمَّــةً قَانِتـاً لِلَّـــه {(النحـل : 120) أي قـائمــاً مقـام جمـاعة في عبـادة الله »(1).

ونحن نلاحظ أن جـوامــع الأمــة, وإن صــدرت عن التســـخير الإلهي في «الحيوان» و

«الزمـان», فإنهــا كــانت دائمــا اختياريـة مكتسبــة في عـالم الإنســان .. وهـذا ملحظ هــام لــه دلالتــه في كـون الخيريـة ــ خيريـة الأمــة الإســلاميــة ــ هي ثمـرة للشــروط والصفــات المكتسبــة, المفتوحــة أبواب ميادينهـا أمــام كـافـة الناس .. ومن ثم فإن هذه الخيريـة لا علاقــة لهــا بالصفــاتاللصيقــة, ولا بالاحتكــار النـابع من أوهـام «العنصــريــة» الـتي ســادت هـذا المفهـوم خـارج إطـار الإســلام !.

هـذا عن مصطلح الأمـة ..

ــ أمــا مصطلح «الخـير» ــ والخيـريـة ــ فـإنـه ــ كمــا يقـول الراغـب الأثفهـاني ـ : « ضــربان :

1 ــ خــير مطلق, وهو أن يكـون مرغـوبـا فيــه بكـل حــال وعنـد كـل أحـد .. كالعقــل مثلا, والعـدل, والفضـل, والشـيء النافع ..

2 ــ وخــير مقيـد, وهو مــا يكـون خيـرا لواحـد شــرًّا لآخــر, كـالمــال الذي ربمــا يكـون خـيراً لزيـد وشــرًّا لعمـرو, ولذلك وصفـه الله تعــالى بــالأمريـن فقــال في موضــع : }إنْ تَـــرَكَ خَيْـــــرًا » (البقــرة : 180) وقـــال في موضــع آخـر :}أَيَحْسَــبُونَ أَنَّمَــا نُمِــدُّهُـمْ بـهِ مِنْ مَـالِ وَبَيِنَ(55) نُسَـارِعُ لَهُــمْ فِي الْخَبْرَاتِ  {(المؤمنون : 56)(2).

ــ أمــا مصطلح «المعــروف» فهـو عنـد الراغـب الأصفهــاني «اســم لكـل فعل يُعـرف بالعقـل أو الشــرع حُسنه».

ــ ويقابلــه «المنكــر» : الذي يُنكــر بالعقــل والشــرع معـا(3)…

رؤيــة حضــاريـة للخيرية :

ولقـد كـان الأمــام محمـد عبده ]1265 ــ 1323هــ ـــ 1849 ــ 1905م  [من أكثــر المفســرين المجتهديـن الذيـن وقفـوا وقفـات هبقــريـة وواعيـة أمــام هـذه الآيـات التي تحـدثت عن صفـات الخيريـة في الأمــة الإســلاميــة, مفصلا في الآفـاق والمقـاصـد الحضــاريـة ــ العصــريـة والمستقبلية ــ التي تجعل هـذه الخيـريـة ســـبيلاً بلإقـلاع الحضــاري, الذي يعتق المسلميـن وينقذهـم من المأزق الذي يأخـذ منهــم بالخناق ..

ـــ فهــو يعــرّف «الخــير» ــ المـراد في هـذه الآيــات ـــ بأنه « الإســلام, الذي هو دين الله على لســان جميــع الأنبيـاء لجميـع الأمــم, وهـو الإخلاص لله تعــالى, والرجـوع عن الهـوى إلى حكـم الله, وهذا مطلــوب منــا بحكـم جعلنـا أمــة وســطًا وشهـداء على النـاس .. »

ــ « وخــير أمــة أخـرجت للنــاس .. مقـيـد بكـوننا نأمــر بالمعــروف وننهـى عن المنكــر »(4).

فليست كـل قـوة محمـودة .. وبيس كـل تمكـين في الأرض يكــون خــيراً ــ بهـذا المعنـى الإســلامي للخـير والخيريـة ــ}أَوَلَـمْ يَسِيـرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَـانَ عَـاقِبَةُ الَّذيِنَ مِنْ قَبْلِهِـمْ كَـانُوا أَشَـدَّ مِنْهُــمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَـرُوهَـا أَكْثَرَ مِمَّـا عَمَرُوهَـا وَجَـاءَتْهُـمْ رُسُلُهُـمْ بالْبَيَّنَـاتِ فَمَـا كَـانَ اللهُ لِبَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَـانُوا أَنْفُسَهُــمْ يَظْلِمُــونَ {(الــروم :9) }وَلَقَــدْ كَــذَّبَ أَصْحَــابُ الْحِجْـرِ الْمُـرْسَــلِينَ(80) وَءَاتَيْنَـاهُـمْ ءَايَـاتِنَـا فَكَــانُــوا عَنْهَـا مُعْـرضِينَ (81) وَكَـانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجبَالِ بُيُوتًـا ءَامِنِينَ (82) فَـــأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَــةُ مُصْيحِينَ (83) فَمَــا أَغْنَى عَنْهُــمْ مَـا كَـانُـوا يَكْسِـبُونَ  {(الحجـرات : 80 ــ 84) }وَنَـادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِــهِ قَــاَ يَـاقَـوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْــكُ مِصْــرَ وَهـذِهِ الأَنْهَــارُ تَجْــرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِــرُونَ(51)أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَـذَا الَّذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَــادُ يُيِينُ {(الزخـرف : 51 , 52).

فهنــاك « مفـاهيـم فرعـونيــة » للخيـريـة, لا علاقــة لهــا بالمفهـوم الإســلامـي لهذه الخـيريـة .. ةالذي يجب أن يرتكــز على إقـامة الفــرائض التس تجمعهــا فريضــة الأمــر بــالمعــروف والنهــي عن المنكــر }الَّذيَنَ إِنْ مَكَّنَّــاهُــمْ فِي الأَرْضِ أَقَـــامُـوا الصَّــلاَةَ وَءَاتَوُا الزَّكَــاةَ وَأَمــرُوا بِالْمَعْــرُوفِ وَنَهَـوْا عَنِ الْمُنْكَــرِ {(الحج : 41)

ــ ولقــد جــاء تعـريف الإمـام محمــد عبـده لمصطلحــي «المعــروف» و «المنكــر» قريبًـا من تعـريف الراغب الأصفهــاني لهمــا ..

« فالمعــروف : عنــد إطلاقــه يـراد بــه مـا عرفتــه العقــول والطبــاع السليمــة. والمنكــر ضـده, وهــو مــا أنكــرتــه العقــول والطبــاع السليمــة, وإنمــا المـرشــد إليــه, مع ســلامــة الفطـرة, كتــاب الله وســنة رســولـه المنقــولــه بالتواتر والعمــل, وهو ما لا يسـع أحــد جهـله, ولا يكون المسلم مسلمــا إلا بــه »(5).

ــ ولقــد وقف الإمـام محمــد عبـده وقفــة ذكيــة أمــام اختلاف المفســرين في معنى « من » في آيـة }وَلْتَكُنْ مِنْكُــمْ أُمَّـةٌ يَـدْعُونَ إِلَى الْخَيْـر وَيَـأْمُـرُونَ بالْمَعْـرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَـن الْمُنْكَــرِ وَأُولَئِــكَ هُــمُ الْمُفْلِحُون {وهل معنى « من » هو « البيــان » فتكـون الخيـريـة لكــل الأمــة وعـامتهــا ؟ وتكون فرائض الدعــوة إلى الخيــر ــ الإســلام ــ والأمــر بالمعــروف والنهـي عن المنكــر واجبـة على كـل آحـاد الأمــة ؟؟ ..

أم أن معـنى « مـن » هو « التبعيض », فتكـون فريضــة الدعــوة إلى الخيـر ــ الإســلام ــ والأمــر بالمعـروف والنهــى عـن المنكــر خـاصــة بفئــة بعينهــا, هي «الأمــة الخــاصـة» التي تتكــون من الصفــوة والنخبـــة والقيـــادات التي تختارهــا ــ لهـذه المهمــة ــ الأمـة العــامـة ؟؟ ..

لقـد وقف الأستـاذ الإمــام الشيخ محمـد عبده وقفــة ذكيــة أمــام هـذا الاختلاف الشهير بين المفسـرين لمعنى « من » في هذه الآيــة .. وانتهـى ــ بعـد الشـرح والتفصيل ــ إلى الرأى الذي يجمع بين المفســرين.

فنحن ــ بــإزاء جمـاعـة المسلمين ــ أمـام أمتين, أو أمـة ذات مســتويين :

1 ــ المستوى العـام للأمـة العـامــة .. والدعـوة إلى الخــير ــ الإســـلام ــ والأمــر بــالمعــروف والنهـي عـن المنكــر ــ مثلهــا كمثــل الإيمــان بـالله ــ فريضــة على كـل واحـد من أفـراد هذه الأمــة, بحســب المقــدرة والاســتطـاعـة والإمكـانات التي لدى كل فرد من الأفـراد.

2ــ والمستـوى الخـاص للأمــة الخـاصــة, ذات المؤهلات الأعـلى والقـدرات الأكــبر في النهـوض بهــذه الفريضــة .. واختيــار هـذه الأمــة الخـاصــة وانتخـابهــا ــ وكذلك مراقبتهــا ومحــاسبتهــا وتغييرهـا ــ هي فرائض واجبــة على الأمــة الإسلاميــة بالمعنى الشــامل والعـام ..

وفي هـذا التفســير الجـامع يقـول الأستاذ الإمــام :

« وإذا كــان كــل فــرد من أفــراد المسلمين مكلفًـا بالدعــوة إلى الخير والأمـر بــالمعـروف والنهـي عن المنكــر بمقتضــى الوجـه الأول في تفسير الآيــة ــ ]على أن« مـن » بيــانيــة [فــإنهــم مكلفــون بمقتضـى الوجـه الثــني ]على أن « مـن » للتبعيض [أن يختــاروا أمــة منهــم تقــوم بهــذا العمــل لأجــل أن تتقنــه وتقــدر على تنفيـذه .. فإقأمـة هذه الأمــة الخـاصــة فرض عين يجب على كل مكلــف أن يشــترك فيــه مــع الآخـرين, ولا مشقــة في هـذا علينــا, فـإنـه يتيســر لأهـل كـل قريـة أن يجتمعـوا ويختـاروا واحـدا منهــم أو أكثــر, أن يختاروا جماعـة يصح أن يطلق عليهـم لفظ الأمـة, ويعملـو ما تعملــه بالاتحـاد والقـوة ليتولـوا إقـامــة هذه الفريضــة فيهــا, كمــا يجب ذلك في كل مجتمع إسلامي, ســواء كـان في الحواضـر أو البوادي, فــإن معنى الأمــة يدخــل فيــه معنــى الارتبــاط والوحــدة التي تجعــل أفـرادهــا على اختلاف وظــائفهــم وأعمــالهم, حتى في إقـامــة هذه الفريضــة عنـد تشــعب الأعمــال فيهــا, كـأنهــم شخص واحـد.

وهـذه الأمــة يدخـل في عملهــا الأمــور العـامـة التي هي من شـأن الحكــام, وأمـور العلــم وطــرق إفــادتــه ونشــره, وتقـرير الأحكــام, وأمـور العــامــة الشــخصية, ويشــترط فيهــا العلــم بذلك, ولذلك جعلت أمــة, وفي معنـى الأمــة القـوة و الاتحــاد, وهـذه الأمـور لا تتـم إلا بالقـوة والاتحــاد .. وأعمــال هذه الأمــة لا تتـم إلا بأمـور كثيـرة, منهـا :

1 ــ العلــم التـام بما يـدعـون إليـه ..

2 ــ والعلـم بحــال من توجــه إليهــم الدعــوة ..

3 ــ ومنـاشيء علم التــاريخ العـام ..

4 ــ وعلم تقـويـم البلدان ..

5 ــ وعلم النفس ..

6 ــ وعلم الأخلاق ..

7 ــ وعلم السياســة ..

8 ــ والعلم بالفنون والعلوم ..

9 ــ ومعـرفـة الملل والنحـل ..

10 ــ وعـلم بلغــات الأمم التي تراد دعـوتهــا ..

ثم إن كون الأمــة الخــاصــة منتخبــة من الأمــة العــامــة يقتضــي أن تكون للعــامــة رقـابــة وسيطـرة على الخـاصــة, تحـاســبهــا على تفريطهــا, ولا تعيــد انتخــاب من يقصــر في عملــه لمثلــه, فالأمـــة الصغــرى المنتخَبــة (بفتح الخـاء) تكون مسيــطـرة على أفـراد الأمــة الكـبرى المنتخِبــة (بكســر الخـاء) وهـذه تكــون مســيطـرة على الأمــة الصغـرى, وبهــذا يكون المســلمـون في تكــافل وتضـامن .. فههنا فريضتـان :

إحـداهمــا : على جميع المسلمـين .. والثــانيــة : على الأمــة التي يختــارونهــا للدعــوة.

ولا يفهــم معنــى هـذا حـق الفهــم إلا بفهــم لفظ الأمــة وليس معنـاه « الجمــاعــة » كمــا قيل, وإلا لمــا اختــير هـذا اللفظ. والصـواب أن الأمـة أخص من الجمــاعـة, فهي الجمــاعـة والمؤلفــة من أفــراد لهــم رابطــة تضمهــم ووحـدة يكـونون بهــا كــالأعضــاء في بنيـة الشخص, والمـراد بكون المؤمنين كــافــة مخــاطبين بتكـوين هـذه الأمــة لهـذا العمــل هـو أن يكون لكـل فرد منهـم إرادة وعمــل في إيجــادهــا وإشــعـارهــا ومـراقبــة ســيرهـا بحيب الاستطــاعـة, حتى إذا رأوا منهــا خطــأ أو انحــرافًــا أو رجعــوهــا إلى الصـواب.

وقـد كـان المسلمون في الصـدر الأول, لاســيمــا زمـن أبى بكــر ]51 ق هــ ـــ 13هـــ 573 ــ 634م) وعمـر (40 ق هـ ــ 23هــ ــــ 584 ــ 644م) على هـذا النهـج من المـراقبــة للقـائميــن بالأعمــال العـامــة, حتى كــان الصعلــوك من رعــاة الإبل يـأمر مثل عمـر بـن الخطاب ــ وهـو أمــير المؤمنين ــ وينهــاه فيمــا يرى أنــه الصــواب, ولا يــدع فالخلفــاء على نزاهتهــم و فضلهــم ليســوا بمعـصومين وقـد صرح عمــر بخطئــه ورجع عن رأيــة غير مرة .. »(6).

وبهـذا التفســير الجـامع لمعــاني حــرف « مـن » ــ البيـــان .. والتبعيض ــ تكـون أعبــاء الخيريـة وتكـاليفهـا, وكذلـك ثمـراتهــا وفضـائلهــا عـامــة في الأمــة الإســلاميــة, بـالمعنى العــام للأمــة, وبــالمعنــى الخـــاص المتمثـل في الصفـوة والنخبــة والريــادات والقيـادات, فلا تكـون الحيريـة حكــرا على فريق دون غيـره من الفرقـاء ..

وعلى حـين اتجـه بعــض المفســريـن لهـذه الآيــات القــرآنيــة ــ آيــات الصفــات والشــروط المحققـة لخيريـة الأمـة الإســلاميــة ــ إلى تضييق نطــاق مـن تحـب عليهــم فريضــة الأمـر بالمـعروف والنهـى عـن المنكـر ــ مـن باب آخــر ــ فأخـرجـوا من هـذا النطــاق من كـات غــير مؤتمــر بــالمعـروف ومنتــه عن المنكـر .. ومن كـان غـير آمـن على نفســه إذا هـو أمــر بالمعــروف ونهـى عن المنكــر .. رأينــا الاسـتاذ الإمــام يرفض هـذا الاتجـاه, ويؤكـد على وجــوب هــذه الفريضــة الجـامعــة على المؤمنـين بالإســلام .. فيقــول ــ متعجبًـا من هـذا الرأى ــ :

« ومن عجب أن بعض الناس اشترطـوا لهذه الفريضــة ــ (الأمـر بالمعــروف والنهـى عن المنكــر) ــ شــرطـاً لم يـأذن بـه الله ولم ينزلـه في كتـابه, وهو أنـه لا يأمــر وينهـى إلا من كـان مؤتمـراً ومنتهيًـا.

ويشـــترط بعضهــم للوجـوب شــرطــا آخـر, وهـو الأمـن على النفس, وكــان ينبغـي أن يقـولــوا : على الآمـر بــالمعــروف والنــاهي عن المنكــر أن يـدعــو بالحكمــة والموعظــة الحسـنة حتى لا ينفـر النـاس, أو لا يحملهـم على إيذائـه, فـإن الله يقــول : إنــه لا نجــاة للنــاس إلا بالتواصـي بالحق والتواصـي بالصـبر, ولم يشــترط في ذلك شـرطًا.

إن الله تعــالى أمـر النــاس بالتواصــي بــالحق والدعــوة إلى الخــير, وأمـرهــم أن يعــدوا لذلك عـدتـه ويعـرفــوا سبلــه, وهى مبســوطـة في السنـة .. فهـذه هـي الحكمـة, وبهــا تجب القـدوة}قُــلْ إِنْ كُنْتُــمْ تُحِبُّونَ اللَّـــهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبْكُــمُ اللهُ {(آل عمـران : 31) وإنــا لن نكَــون متبعين له حتى نـأمـر بالمعـروف وننهـى عن المنكــر على سنتـه وطـريقتـه »(7).

كذلك يرفض الأســتاذ الإمــام محمــد عبـده الآراء تذهب إلى تضييق نطــاق التكليف بهـذه الفريضــة الجـامعـة لشـروط الخـيريـة وصفـاتهــا, عن طـريق اشــتراط «قــدرات متمــيزة» فيمــن يقــوم بهــا .. وينبــه الأســـتاذ الإمــام على أن ذلك إنمــا حـدث لأصحــاب هـذا الـرأى من الخلط بين « الأمـر » بــالمعــروف و « النهــي » عـن المنكــر, وبيـن « التغـيير » للمنكــر .. فالتغيير هـو الذي يحتــاج إلى شــروط وقـدرات وإمكــانـات وتخصصــات, لأنـه « تغييـر » للمنكــر بعـد وقـوعــه, فهـو « فعـل » يقتلــع « واقعــا » .. أمـا « الأمــر والنهــى » فـإنهمــا فريضــة عـامـة وشــاملة وشــاملـة لكـل آحــاد المؤمنـين, ولجمــاعتهــم على الســـواء .. وهمــا تنبيــه وتحــذيـر لحيلولــة دون تجســد المنكــر في الواقــع والتطبيق ..

ينبـه الأستــاذ الإمــام على هـذه الحقيقــة, فيقــول :

« وهنــا يخلــطـون .. بين النهـي عن المنكــر وتغيــير المنكــر الذي جــاء في حـديث : « مـن رأى منكــن منكــراً فليغــيرة … » ــ رواه مســلم والــترمـذي والنســائي ــ وهـذا شــئ آخـر غــير النهـى البتـة, فـإن النهـي عن الشــئ إنمــا يكـون قبل فعلــه, وإلا كــان رفعًــا للـواقـع أو تحصيلاً للحــاصل, فــإذا رأيت شــخصًــا يغش الســمن مثلاً وجب عليــك تغــيير ذلك ومنعــه بـالفعــل إن اســتطعت, فــالقــدرة والاستطــاعـة هنــا مشــروطـة بالنص, فإن لم تقــدر على ذلك وجب عليــك التغــيير بالســان, وهو غيـر خــاص بنهـي الغـاش ووعــظـه, بل يـدخــل فيـه رفـع أمـره إلى الحــاكـم الـذي يمنعـه بقــدرة فوق قـدرتـك. أمـا التغــيير بالقـلب فهـو عبــارة عن مقت الفاعـل وعـدم الرضى بفعلـه, وللنهـى طـرق كثــيرة وأســاليب متـعـددة, ولكـل مقــام مقـال.

نعـم, إن دعــوة الأمـة غيـرهـا من الأمم إلى الخـير الذي هـي عليــه لا يُطالَبُ بهــا كـل فـرد بـالفعل, إذ لا يستطيع كل فـرد ذلك, وإنمـا يجب على كـل فـرد أن يجعـل ذلك نصب عينيــه حتى إذا عـنّ لــه بــأن لقـي أحـدا مـن أفــراد تلك الأمــم دعــاه, لا أنـــه ينقطع لذلك ويســافـر لأجــله, وإنمــا يقــوم بهــذا طــائفــة يعـدون لــه عـدته, وســائر الأفـراد يقـومـون به عنــد الاستطــاعـة, فهـو يشــبه فريضــة الحج, وهي فرض عين ولكن على المستطيع.

وفـريضــة الأمــر بـالمعــروف والنهـى عن المنكـر آكــد من فريضـة الحج, ولم يشـترط فيهــا الاستطــاعـة لأنهــا مستطـاعـة دائمـاً ..

وجملـــة القـول, أن الدعــوة إلى الخـير على كـل مســلم .. وكـون هـذا حفـاظـاً للأمــة وحـرزًا ظـاهـر, فـإن النـاس إذا تركـوا دعـوة الخيـر, وسكت بعضهـم لبعض على ارتكــاب المنكــرات خـرجـوا عن معنـى الأمـة, وكـانوا أفـذاذًا متفـرقين لا جامعــة لهـم .. فلا بـد للمــرء في حفظ نفيســه ومن معــه من الأمـر بــالمعـروف والنهـي عن المنكـر لاسيمــا أمهــات المنكــرات المفســدة للاجتمــاع كـالكـذب والخيــانــة والحســد والغش, فهـذا ليس من فروض الكفـايـة التي يتوكـل فيهـا الناس كصلاة الجنـازة .. ولكنــه إذا رأى منكــراً وجب عليــه أن ينهـى عنه ولا ينتظأر غيره .. »(8).

هكـذا تجلت فريضــة الأمـر بالمعـروف والنهــى عن المنكــر, فريضــة جــامعــة لصفات الخيريـة في الأمـة الإسـلاميـة, وهي فريضـة يتوجـه التكـليف الإســلامي بهــا إلى الكـافــة, لأن شــروطهــا وصفــاتهــا مكتسبـة مفتوحــة أبـواب ميــادينهــا أمــام أصحــاب العــزائم والإرادات مـن كـل الأجنســاس والطبقــات .. وليست حكـرًا على سـلالة أو جنس أو لـون أو طبقــة, كحــال الصفـات اللصيقـة, التي هـي جبلّيـة لا مجـال فيهــا للاجتهـاد والتغيير.

وهـكذا رأينـاهـا في التصـور الحضـاري للإمــام محمـد عبده معــبرة عن خلاصــة « مشـروع للنهضــة » تصــلح بــه الأمــة آخــرهـا, كمـا سبق وأصلحت به أولهــا .. وليست مجـرد صـورة تقليـديـة للحض العبــادات الفرديــة, كمــا تصــورهــا ويصــورهــا نفـــر مـن أهـل الجمــود والتقليـد ! ..

إنهــا إقــامــة النظــام الإســلامــي المؤمن, والعــادل والشــامـل, المحقق للأمــانـة التي حملهــا الإنســان الخليفــة لله ســبحـانه وتعــالى ,, أمــانــة العمـران المـؤمن لهـذا الوجـود.

فبإقـامـــة « العمــران المـؤمـن » تتحقق خيريــة الأمــة الإســلاميــة, ذلـك الذي يتحقق فيــه وبـه انتمـاء الأمــة إلى بارئهــا, ســبحـانـه وتعــالى, متطلعــة أرواحهــا إلى مصـدر الــروح الإلهــي الذي منــه كــان الشــرف والتشــريف والتكــريــم والتفضـيل للإنســان حتى على الملائكـة المقربين .

وبقيــام هـذا « العمــران المؤمــن » على « التقـوى » التي هـي الثمـرة الطيبــة لفـريضــة الأمـر بــالمعــروف والنهـى عـن المنكــر, تتحقق خيريـة الأمـة الإســلاميـة, عنـدمــا تثمــر هـذه الفريضـــة « النظــام العـام .. والآداب العـامـــة » فتكــون الخيـريــة ــ في كلمــات قليلــة ــ هي الأمــانـة التي عـرضهــا الله سبحــانه وتعــالى على الســموات والأرض والجبــال فــأبين أن يحملنهــا وأشفق منهــا وحملهــا الإنســان !..

ــ إن العــدل اســم مـن أسمــاء الله ــ سبحــانـه وتعــالى ــ وعلى موازين العـدل قـامت عوالم السمـوات والأرضين.

ــ وفي الاجتمــاع الإنسـاني, جـاءت الشــريعــة الإلهيــة عـدلاً كلهــا .. وحكمــة كلهــا ..

ـ وذلـك, جعل الله للخـيريـة في الأمـم والشــعـوب والحضــارات معــايــير, غـير خـاضعـة للمحـابـاة . ولا للميراث .. ولا للادعــاء }لَيْسَ بِـأَمَـانِيَّكُــمْ وَلاَ أَمَـانيَّ أَهْلِ الْكّتِـابِ مَنْ يَعْمَـلْ سُــوءًا يُجْزَ بـهِ وَلاَ يَجــدْ لَـهُ مِنْ دُونِ اللـهِ وَليًّـا وَلاَ نَصِيراً {(النســاء : 123) }وَإنَّــا أَوْإيَّـاكُــمْ لَعَلَى هُـدًى أَوْ فِي ضَلاَل مُبـين {(ســبأ : 24) }وَإنْ تَتَوَلَّوْا يَسْـتَيْـدِلْ قَوْمًــا غَيْـرَكُــمْ ثُـمَّ لاَ يَكُـونُـوا أَمْثَـالكُــم  {(محمـد : 38).

أمــا الذين يجعـلون من الخـيريـة ميـراثًــا عـن الآبــاء والأجـداد ــ مع التخـلي عن شــروطهـا وصفـاتهـا ومؤهلاتهـا ـــ فـإنهــم أشــبه مـا يكونون بــاللصوص الذين يــأكلون الــترتث ـكــلاً لمــا .. أو الـذين لا يــرون في تـاريخهــم الحضــاري أكـثــر من « أكفــان للمـوتى »! طــامعين في معــاندة السـنن الإلهيــة الحـاكمـة لأســباب التقـدم والتخلف والنهــوض والانحطـاط }قَـدْ خَلَــتْ مِنْ قَبْلِكُــمْ سُــنَنٌ فَسِــيرُوا فِي الأَرْضِ فَــانْظُــروا كَيْـفَ كَــانَ عَـاقِبَــة الْمُكَــذّبــنَ(137) هَـذَا بَيَــانٌ لِلنَّـــاسِ وَهُــدًى وَمَوْعِظَــةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهنُــوا وَلاَ تحْـزَنُــوا وَأَنْتُــمُ الأَعْلَــوْنَ إنْ كُنْتُــمْ مُؤْمِنِينَ (139) إنْ يَمْسَسْكُــمْ قَرْحٌ فَقَــدْ مَـسَّ الْقَوْمَ قَـرْحٌ مِثْلُــهُ وَتِلْـكَ الأيَّــامُ نُـدَاولُهَــا بَيْـنَ النَّــاس وَلِيَعْلَـمَ اللَّــهُ الَّذيِنَ ءَامَنُـوا وَيَتَّخِـذَ مِنْمُــمْ شُــهَـدَاءَ وَاللَّــهُ لاَ يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ (140) وَليُمحَّضَ اللَّـهُ الَّذيِــنَ ءَامَنُــوا وَيَمْحَــق الْكَــافِرينَ (141) أَمْ حَسِبْتُـَاءَ وَاللَّــهُ لاَ يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ (140) وَليُمحَّضَ اللَّـهُ الَّذيِــنَ ءَامَنُــوا وَيَمْحَــق الْكَــافِرينَ (141) أَمْ حَسِبْتُـمْ أَنْ تَـدْخُلُوا الْجَنَّـةَ وَلَمَّـا يَعْلَـمِ اللَّــهُ الَّذيِنَ جَــاهَـدُوا مِنْكُــمْ وَيَعْلَــمَ الصَّابِرِينَ {(آل عمــران : 37 ــ 42).

فــأبواب الحيريــة مفتوحــة على مصــاريعهــا أمــــام الأفــراد والأمــم والشــعوب .. وشـــروطهــا وصفــاتهـا ومؤهلاتهــا هـي نعـم إلهيـة متـاحـة للراغـبين العــاملين في مختلف الميــادين ..

وإلا فــإن الذين فضـل الله آبــاءهـم على العـالمين, يمكن أن يكـونوا الأذلة الملعونين أينمــا ثقفــوا إلا بحــبل من الله, الذي لا تحــابي عدالتــه أحـدًا من العـالمين.

***

الهـوامــش

(1) الراغـب الأصفهـاني : المفـرادات في غريب القـرآن, القـاهـرة : دار التحرير, 1991م.

(2) المصـدر السـابق ــ مصطلح « الخيـر ».

(3) المصــدر السـابق. مصطلح « المعـروف » .. و « المنكــر ».

(4) الإمــام محمـد عبـده ( الأعمــال الكـاملـة) جــ 5, ص 54, 55 دراسـة وتحقيق : د. محمـد عمــارة. القــاهـرة : دار الشــروق 1993م.

(5) المصـدر الســابق : جـ5 ص 54.

(6) المصـدر الســابق : جـ5 ص 59 ــ 65.

(7) المصــدر الســابق : جـ5 ص 56, 57.

            (8) المصـدر السـابق : جـ5 ص 57 ــ 59.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر