نقد الفكر الغربي

قصور المناهج الغربية في معالجة قضايا الإنسان: نظرة نقدية إلى المنهج البنيوي

العدد 59

مقدمــة :

تواجه العلوم الإِنسانية عند تصديها لقضايا الإِنسان مشكلة أساسية تتمثل فى اختيار المنهج الملائم لدراسة الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية والتاريخية .. وتبدو المشكلة أكثر حدة فى المجال البحثى المحلى حيث مازالت المناهج التقليدية سائدة أو حيث يغيب المنهج تماما. زتنشأ مشكلة اختيار المنهج من أجل تطبيقه فى المجال الإِنسانى عن مجموعة من العوامل, نذكر أهمها :

1 ـــ تعقيد الظاهرة الإِنسانية لقلة تكرارها وتغيرها ثم اتصالها بالإِنسان, مما يجعلها تختلف عن الواقعة الطبيعية وتتميز عنها, ولا تخضع لما له من ظروف وشروط.

2 ـــ سعى الباحث الاجتماعى فى أغلب الأحيان إلى تحقيق أكبـر قدر من الموضوعية, وهو مطلب صعب أن لم يكن مستحيلا, فى حالات معينة. وفى سعيه هذا يحاول الباحث أن يخضع مجال بحثه لما تخضع له الظاهرة الطبيعية من خطوات وإجــراءات, فيحاول إخضـاع الظاهرة الإِنسانية للتجارب والقياس من أجل التوصل إلى توازن يعممها على المجتمع بأكمله. وقد يتخذ هذا شكل تجميع أكبر قدر من البيانات بواسطة أدوات تقليدية, ثم إخضاعها للتحليل الإِحصائى, ويفسرها فى ضوء نظرية معينة أو غياب أى نظرية.

3 ـــ قد لا يعطى الباحث فى المجال الإِنسانى أهمية كبيرة إلى جانب المنهجى للبحث. وقد يرجع ذلك إلى افتقاد المعلومات الكافية حول مناهج البحث الموجودة فى التراث الماضى والمعاصر, وكيفية الإِفادة منها فى طرح المشاكل ودراستها بشكل منظم.

وفى الواقع إن المنهج غير عصب البحث فى المجال الإِنسانى, ابتداء من تحديد المشكلة التى ستصبح موضعا للدراسة, مرورا بخطوات عديدة تتضمن اختيار المنحى, ووضع الافتراضات, واستخدام الأدوات, والتــوصل إلى النتائــج, وفهمها, وتفسيرها, وانتهاء باستشراف المستقبل.

وانطلاقا من اعتقاد راسخ فى أهمية دور المنهج فى حياتنا, سواء فى شكل منهج للتفكير فى الحياة اليومية, أو البحوث النظرية, أو اتخذ شكل المناهج الإِمبريقية فى العلوم الطبيعية, أو كان له طابعه الخاص المتلام مع طبيعة العلوم الإِنسانية, انطلاقا من هذا نحاول الانفتاح على المناهج الأساسية التى ظهرت فى المجال البحثى العالمى.

ونهدف من وراء ذلك إلى معرفة إمكانية الإِفادة من هذه المناهج من خلال كشف إيجابياتها وسلبياتها, والحدود التى تقف عندها, والمواضع التى تغطيها, وتلك التى تعجز عن تغطيتها. إن تقييمنا لهذه المناهج من خلال نظرة نقدية يبعد عنها الاتهام بالتخلف عن مسايرة العصر, وذلك إذا ما انعزلنا وحاولنا تجاهل ما هو موجود على الساحة.

مناهج البحث فى المجال الإِنسانى

يهمنا قبل أن نتناول المنهج البنيوى الذى اخترنا دراسته, أن نعرض لاتجاهين بارزين تمخضت عنها مناهج البحث فى المجال الإِنسانى, وهما الاتجاه الوضعى والاتجاه الفنومنولوجى.

ويقوم الاتجاه الوضعى Positivism على وَحدة المنهج بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والإِنسانية. وبناء على هذا يصر هذا الاتجاه على ضرورة تطبيق مناهج البحث المستخدمة فى العلوم الطبيعية على العلوم الإِنسانية, وبقدر تطبيق تلك المناهج بقدر ما تعتبر هذه العلوم مستقلة.

وإذا كان الاتجاه الوضعى أو الوضعية بدأ مع كونت Conpte ودور كايم Durkrim, وبوانكاريه Poincare وفنجشتين ومــل وماخ, فقد امتد وتشكل فى مدارس معاصرة أطلــق عليهــا الـوضعيــات المدثــة Neo – Positivism. وتطورت هذه الاتجاهات فى عدة تطورات بادئة من دائرة فينا مع الوضعية المنطقية المكونة من شليك وكارناب وورسمان وفيجل ونوارث وفون ميزس وآخرين, منتهية بالوضعيات المحدثة أو التجريبية المنطقية مع راشنباخ وهميل وناجل مربر دجمان وآخرين.

ويتفاوت تأييد الاتجاهات الوضعية للمبادئ المشتركة التى تجمع بينها. فمنها ما يؤيد بصفة خاصة على النزعة الفيزيائية التى ترد العلم إلى تقريرات تعبر عن وقائع قابلة للملاحظة بشكل مباشر. ومنها ما يؤكد على النزعة الذرائعية التى تنظر إلى الفكر باعتباره ذريعة أو وسيلة للوصول الى الهدف. ومنها ما يؤكد على النظرو الطبيعية التى ترى أن العلوم الإِنسانية لها نفس أهداف ومناهج العلوم الطبيعية.

وقد وجهت الوضعية المحدثة نقدها إلى التأويلات الدينية للعالم وإلى الميتافزيقا بهدف إقامة موقف تجريبى يخلو من الافتراضات الدينية والميتافزيقية. ومن هنا ابتعادها على أى اتجاه تأملى, ورفض أى نظرية أو فلسفة, والتركيز على ما يقبل الحل علميا ويفيد عمليا.

وقد تعرض هذا الاتجاه لتيار نقدى يتراوح بين التأييد والمعارضة. فمما لا شك فيه أن للوضعية جانبها الإِيجابى, المتمثل فى رفض المسائل الخاطئة والنظر غلى الظواهر الإِنسانية كموضوعات محايدة تحكمها قوانين عامة. إلا أن تحديد الوضعيين للمهام العلمية للنظرية فى التفسير الاجتماعى انصب على النظرية بشكل عام دون تطبيق مباشر على موضوعات العلوم الاجتماعية والإِنسانية. فقد كان منطلقهم الأساسى هو اشتراك مجموعتى العلوم الطبيعية والاجتماعية فى نفس المنهج, وبالتالى لم يروا ضرورة لمناقشة النظرية الاجتماعية بمعزل عن النظرية الفيزيائية. فما يقال عن الأخيرة ينطبق بطريقة بعدية على الأولى. ومن هنا إغفالهم لمناقشة النظرية الاجتماعية فى سياقها الخاص(1).

وفى محاولة الوضعيين كى يصبحوا علميين تبنوا كافة أساليب البحث العلمية, وادعوا صلاحيتها لدراسة السلــوك الإِنسانى. ومن هنا استخدتمهم للملاحظة والتجربة والطرق الاحصائية كـأدوات رئيسية فى متناول البحث. إلا أن الاعتماد الكامل على المعطيات data كــمصدر للمعرفة يؤدى إلى إفقارها, ولن يتوقف عدد الفروض التى يتعين على الباحث اختبارها عند حدود معينة. ويضاف إلى ذلك صعوبة إجراء التجربة فى المجال البشرى, ذلك أن الشخص الذى تجرى عليه التجربة يقوم بدوره بتصميم للتجربة, مثلة فى ذلك مثل الشخص القائم عليها, بحيث نجد أن كل محاولة تجريبية تصبح فريدة. فيؤدى ذلك بالتالى إلى استبعاد الطرق الإحصائية المقنَّنة. وإذا حاول القائم على التجربة منع المستجيبين من وضعتصوراتهم الخاصة, فإن الموقف يصبح بالتالى غير صالح للدراسة. ذلك أن الباحث لم يعد يطبق تجربة على بشر, إذ أنه بتدخله فى الموقف استبعد العنصر الإِنسانى(2).

وقد أغفل المنظور الوضعى جانبا هاما من الدراسات الإِنسانية هو موضوع التفاعل. فقد أدت الطريقة  التجريبية فى البحوث الاجتماعية والنفسية إلى ترك مسائل هامة فى قيمتها بالنسبة لفهم النشاط الاجتماعى. فإذا كان المنهج العلمى فى العلوم الطبيعية يقنع بإيجاد علاقات فى صورة قوانين, ومن اهتمام بما يتم أثناء تفاعل هذه العلاقات, فإن ذلك من الأمور الجوهرية فى العلوم الاجتماعية .. كيف تحدث العلاقات ؟ وكيف يتم التغير ؟ وما هى العمليات التى جرت حتى حدث ما حدث ؟ هذه أسئلة جوهرية فى الدراسات الاجتماعية والنفسية(3).

أمــا الاتجاه الفنومنولوجـــى Phenomenology, وقد لقب للوحدة المنهجية بين العلوم الطبيعية والإِنسانية, فإنه يستبعد العلم الطبيعى كمثل أعلى للفهم العقلى للواقع. وقد رأى الفنومنولوجيون أن منخجهم قادر على التوصل إلى أساس المشاكل وتـفسير نشأتها ومعاهــا. وتفسيرهم هذا ينأى عن التفسير الموجود فى العلم الطبيعى, إذ أنهم بيدأون من الخبرات الواقعية استنادا إلى ما هو أساسى ورئيسى فى هذه الخبرات, دون الاعتماد على أى افتراضات جامدة أو تحيز ميتافيزيقى.

ويعتبر الاتجاه الفنومنولوجى منهجا للتحليل الفلسفى أكثر منه مدرسة أو نظاما بالمعنى التقليدى. فالقول بأنها مدرسة يعنى وجود قواعد ومبادئ ثابتة تسمح لها بالإِجابة بوضوح على السؤال : ما هى الفنومنولوجيا. بينما فى الواقع أن الفلاسفة الفنومنولوجيين تميزوا بتفردهم. ونستطيع أن نقول بشكل عام إن هذا الاتجاه نما وتبلور على يد كل من دلتاى وهوسرل وشوتز, ثم تطور لدى فلاسفة وجوديين من أمثال سارتر وميرلدبونتى.

ويتجه الفنومنولوجيـون إلى المجال الإِنسانى, إلى الفرد وأفعاله والمعنى الذى يضفيه على تلك الأفعال. ومن هنا كان موضوع بحثهم هو الفاعل, ومن ثَم فقد اتجهوا إلى تأويل وفهم دوافع وغايات الأفراد, دون إغفال العلاقات التى تنشأ بينهم.

وقد تمثل الهدف الأول للفنومنولوجيا فى توسيع وتعميق الخبرة المباشرة, وذلك عن طريق الاهتمام بالظواهر بشكل أكثر عمقا من النزعة الجريبية التقليدية, وذلك مع مراعاه الاستبعاد التام للتصورات والأحكام المسبقة, أى الأنماط المعتادة للتفكير.

وقد لهتم المنهج الفنومنولوجى يبحث الظواهر المحددة جنبا إلى جنب مع الماهيات العامة. ويضع المنهج الفنومنولوجـى خطوات ثلاث ورئيسية لمعالجة الظواهر المحددة هى : الطور الحدسى, والطور التحليلى, والطور الوضعى(4). ويقوم الطور الحدسى بالتركيز على الموضوع دون الاندماج فيه, حتى لا يفقد النظرة النقدية إليه. وتعتمد هذه العملية على ملاحظة الظاهرة, وأحيانا المقارنة بينها وبين الظواهر الأخرى المرتبطة, بهدف تسجيل التشابهات والاختلافات, توصلا إلى إدراك تميز الظاهرة موضوع الدراسة عن غيرها.

ولا ينفصل التحليل الفنومنولوجى عن كل من الحدس والوصف. ولا يهتم ذلك التحليل بشكل أساسى بالتعبيرات اللغوية, مثلما يفعل التحليل المنطقى, وإن كان أحيانا يبدأ من بعض الجمل المتميزة محاولا تحديد معناها وما يشوبها من غموض. إلا أن هذا يعتبر تحليلا مبدئيا, إعداد لدراسة الظاهرة التى تشير إليها التعبيرات, فالتحليل الفنومنولوجى هو تحليل للظواهر نفسـها وليست التعبيرات التى تشير إليـها.

وتصاحب خطوة التحليل خطوة أخرى هامة هى الوصف. ويؤسس الوصف الفنومنولوجى على تصنيف الظواهر. ويفترض إطـارا مكونا من قــوائم للمجموعات, وعلى الوصف أن يحدد مكان الظاهرة بالنسبة لنسق من المجموعات موحودة من قبل. ويتميز الـوصف الفنومنولوجى بأنه انتقائى, ومن هنا فهو يجبرنـا على التركيــز على الخصائص الجوهرية, والتجريـد مـن الخصائص العرضية غير الجوهرية, ومن هنا يتضمن الوصف الاهتمام بالماهيات.

ولهذا المنهج جوانبه الإِيجابية المتمثلة فى فى النظرة الحدسية, وفى تعميق الخبرة, عن طريق إبراز عوامل كثيرا ما تهمل, وفى الإِصرار على النظرة إلى الوقائع والوفاء لها. حتى قبيل التفكير فيها.

وقد تعرض الاتجاه الفنومنولوجى للنقد من جانب العديد من فلاسفة العلم. فنجد أن ناجل يعتبره طريقة جيدة لتوليد فروض مقترحـة من أصل تفسير الأفعال الاجتماعية, إلا أنه لا يرقى, فى رأيه, إلى أن يكون طريقة للتثبيت من هذه الفروض. ذلك أن هذا المنهج لا يقدم بذاته أى معيار للتأكد من صدق الحدوس والفروض الخاصة بالأفعال الإِنسانية(5).

ويرى أبـل أن منهج الفهم الذى يتبناه الفنومنولوجيون يقوم على تطبيق الخبرة المباشرة على السلوك الملاحظ, أى أننا نستخدم بهذا الشكل المعرفة الموجودة لدينا من قبل. وهذا فى رأيه لا يصلح كوسيلة للكشف, وإنما على أكثر تقدير يصلح كوسيلة لتأكيد ما كنا نعرفه من قبل(6). كما يعتقد بوبر أيضا أن الفنومنولوجيا باهتمامها بدراسة الظواهر عن طريق الوسائل الحدسية والتحليلية والوصفية لم تأتى بجديد فى تاريخ الفكر, وأن ما يميزها فقط هو الطابع القصدى للدراسة, والتحدى الواعى للمنهج الطبيعى(7).

وتـأتى البنيوية  Structuralism كـى تواجـه التحدى الذى مازال قائما, والمتمثل فى منهج ملائم لدراسة العلوم الإِنسانية, فتحاول إلى حد كبير حل التعارض القائم بين الاتجاهين السابق عرضهما.

المنهج النبوى

وقد اخترنا فى هذه الدراسة أن نعالج المنهج البنيوى أو البنيوية, فمما لا شك فيه أى البنوية فرضت نفسها على الفكر العربى المعاصر بطريقة أو بأخرى فى السنوات الأخيرة, وأصبح لها خصومها وأنصارها وآثارها اللافتة فى مجالات العلوم الإِنسانية المختلفة(8). وقد أثـبت بالفعــل المنهج البنيوى خصوبة فى مجالات عدة, فهو يمثل مرحلة ضرورية من مراحل سير العلوم الإِنسانية فى إطار السياق المعرفى والمنهجى الغربى. وقد حقق نجاحا نسبيا فى كثير من الميادين ( علم الاجتماع والانثروبوجيا مع كلود ليفـى ستروس Strauss, وعلــم النفس مع جاك لاكان Lacan, وعلم اللغة مع De Saussure وتشومسكــــى Chomskey, والثقافية مع ميشيل فوكوه Foucauit, والأدب مع رولان بات Barthes, والمذاهب السياسيــــة (الماركسية) مع لـــوى التــوسير Althusser ). ويشير هذا النجاح إلى قدرة البنيويــة على بث العقلانيـــة Rationalism فى كثير من المجالات التى لم تكن عرفت من قبل مثل هذا التنظيم الفكرى. كما أن البنيات التى اقترحها علماء من أمثال ليفى ستروس تكلفت بتفسير عديد من الظواهر قياسا إلى المناهج العلمية السابقة.

وإذا كنا قد توقفنا فى دراسات سابقة(9) عند مفهوم (البنية ) Structure وشرحناها تفصيلا, فإننا نكتفى حاليا بالقول بأنها تلك الطريقة التى يتم من خلالها التبادل فى قطاع من المجتمع أو عبر المجتمع له, فلم تعد الوقائع الاجتماعية أشياء كما لم تعد أفكارا وإنما أصبحت بنيات. ويقول ليفى ستروس فى أحد الفصول الهامة من كتاب ( الأنثروبولوجيا البنيوية ) : (( اذا كان النشاط اللاشعورى أو اللاواعى للعقل يقوم على فرض الشكل على المضمون, وإذا كانت هذه الأشكال لا تتغير بالنسبة لكافة العقول سواء فى الماضى أو فى الحاضر, بالنسبة للعقول البدائيــة أو المتحضرة, فإنه يكفينا أن نصل إلى البنية اللاشعورية أو اللاواعية الواقعة خلف كل نظام وكل عرف أو تقليد, كى نحقق التفسير السليم للأنظمة أو الأعراف أو التقاليد الأخرى, بشرط أن نمضى فى التحليل إلى أقصى مداه ))(10).

إن البنيوية فى الواقع ما هى إلا منهج يضم كل الظواهر الاجتماعية, فيهتم بالعلاقات بين الظواهر أكثر من اهتمامه بطبيعة الظواهر نفسها, كما يهتم بالإِنسان التى تدخل فيه هذه العلاقات. وعندما بيحث البنيويون الشءَ أو ذاك فإنهم لا يتوقفون عند المعنى التجريبى الذى يصنعه الواقع بين أيدينا والذى يؤدى إلى إدراك العلاقات المادية التى تحقق الترابط بين عناصر المجموعة الواحدة, بل يهدفون ـــ أولا وقبل كل شئ ـــ إلى الكشف عن (( النسق العقلى الذى يزودنا بتفسير للعمليات الجارية فى نظاق مجموعــة بعينها(11).

ويحدث فى بعض الأحيان نوع من الخلط بين المنهج البنيوى ( البنيوية ) وبين الوظيفية البنائية كما يعبر عنها رادكليف براون Radcliffe Browm وتالكوت بارسونـز وآخرين, بينما فى واقع الأمر أن المنهجين مختلفان كل الاختلاف. فعلى حين يتجه المنهج البنيوى إلى النظر إلى الظواهر من خلال أداء العقل الإِنسانى على أساس أن العقل الإِنسانى يتعامل مع مواد ثقافية وطبيعة فى سياق تاريخى واثنوجرافى معين, تهتم الوظيفة البنائية بإقامة أشكال إمبريقية مشتقة من الوقائع الملاحظة, ويقتصر عليها.

ويتمثل الاختلاف الثانى فى موقف كل منهج إزاء البنية أو النسق. فيعنى المنهج البنيوى بالتوصل إلى البنية النفسية أو الاجتماعية .. الخ, وتوجد هذه البنية لا فى الوقائع ذاتها وإنما فيما وراءها. كما يهتم بتحليل الظواهر دون الاكتفاء بتسجيلها وملاحظتها, وفى تحليلها هذا يستهدف كشف الموضوع الكامن وراء الظواهر, أى نسق العلاقات أو البنيات المباطنة فى الظواهر الملاحظة. بينما تكتفى الوظيفة البنائية بالوقوف عند الموقف الإِمبريقى, فهى لا تقول بوجود ماهية أو واقع فيما وراء الظواهر الملاحظة, ولذا تكتفى بتسجيل وحصر وتصنيف الوقائــع الاجتماعية, من أجل الوصول إلى القوانين العامة. ومن هنا نجدها تتحدث عن أشياء مختلفة عما يطرحه المنهج البنيوى, وتسعى إلى إقامة نماذج وأشكال إمبريقية دون الوظيفة البنائية على التوصل إلى النسق من خلال المتاح من المعطيات الامبريقية, ولا تدعى وجود نسق من العلاقات الكامنة.

ويزيد تباعد المنهج البنيوى عن الوظيفة البنائية إذا نظرنا إلى موقف كل منها من النماذج. فالمنهج البنائى يعتبر النماذج واقعا, ولكن دون أن يوجد له مقابل واقعى فى الملاحظة. وكى نصل إلى النموذج المحدد للواقع الحقيقى يتعين ـــ فى رأى البنيوية ـــ أن نتعالى عن الواقع المحسوس, حيث أن الواقع الحقيقى يكون عادة مختبئا ويتعين كشفه عن طريق الذهاب إلى المستويات عميقة. أما الوظيفة البنائية فإنها تنظر إلى النماذج باعتبارها تجريدات للواقع ذاته, دون الحاجة إلى التعالى أو الذهاب إلى مستويات عميقة.

وقد ارتبطت البنيوية منذ البداية باللغة, فهى تدين بمنهجها للغة التى أصبحت مثالا يحتذى من جانب سائر العلوم الإِنسانية. ذلك أن النموذج الفنومنولوجى اللغوى يتمثل فى مبادئ أربعة أساسية هى :

1 ـــ لا يهتم علـــم الأصوات ( أو الفنومنولوجيا ) بـدراسة الظواهر اللغوية الشعورية, بل يدرس البنية السلفية اللاشعورية.

2 ـــ لا يدرس علــم الأصوات الحدود باعتبارها منفصلة, وإنما يــدرس العلاقات القائمة بينها.

3 ـــ تؤلف هذه العلاقات الضرورية نسقا صارما محكما.

4 ـــ لا يسير هذا العلم على منهج تجريبى انطلاقا من وقائع ملاحظة, بل يسير على منهج استنباطى انطلاقا من نموذج قد تم تركيبه مما يسمح له بالوصول إلى قوانين عامة(12).

ولم يتردد ليفى ستروس فى تطبيق هذا النموذج الفومنولوجــى على الوقائـــع الاجتماعية. فتمثلت خصائص المنهج فى التأكيد على الكلية أو الشمول حيث تقوم الدراسة على مستوى كلى Macro – level وليس على مستوى جزئى Micro – level, وعلى التأكيد على أولوية الكل على الأجزاء. ثم يتم تفسير الكل والأجزاء عن طريق العلاقات القائمة بين الأجزاء وارتباطهـا بالكـل. وتتمثل أهم خاصية للمنهج فى محاولة دراسة هذه الشبكة المعقدة التى تجمع عناصر الكل توصلا إلى البنيات العميقة, وذلك من خلال نماذج يتم تشكيلها.

ويرى لفى ستروس أن علينا أن ندير ظهورنا لكل ما هو معاش, من أجل التوصل إلى فهم الواقع. وبناء على ذلك رفض كلا من الفنومنولوجيا والوجودية, نظرا لأن كلا منها تسلم بوجود استمرار أو اتصال بين المعاش والواقعى(13). بينما من جهة أخرى, تحدث ليفى ستروس عن علوم ثلاث أثيره على نفسه, أو ما أسماه معشوقاتع الثلاث, وفى (( الجيولوجيـا والماركسـية والتحليل النفسى ))(14).

ويحاول هذا المنهج حل مشكلة العلوم الاجتماعية بشكل عام والصراع بين الاتجاهات المثالية والوصفية بشكل خاص. لذا تتميز البحوث التى تتبنى هذا المنهج بالتأكيد على العلاقات بين الظواهر على مستوى مجرد للغاية, ودون إغفال الواقع. فتقوم التعميمات على الملاحظات التجريبية وعلى أسلوب المقارنة والاعتماد على القوانين التحول, مع رفض قوانين السببية.

وقد بنى فوكوه موقفه على رفض النزعة الإِنسانية Humanism, وهكذا يختفى من فلسفة الإِنسان المؤثر فى التاريخ, الواعى بما يفعل. فالإِنسان لم يظهر إلا من فترة وحيزة واكتشاف ظهوره يؤذن بنهايته القريبة, وموقعه المركزى فى صميم الفكر الغربى ليس إلا وهما. وهكذا نجد أن الإِنسان قد أزيــح من مكانـه وألقى على هامـش الأشياء ومورست عليه الضغوط حتى درجة ضياعه. فيقول فوكوه : (( ليس الإِنسان بالتأكيد إلا نوعا من التمزق فى نسق الأشياء … ليس الإِنسان إلا اختراعا حديث العهد, وهيئة لا يزيد عمرها عن مئتى سنة … إنه مجرد ثنية أو انعطافة فى طوايا معرفتنا ))(15).

الموقف من العلوم الإِنسانية

وقد تميزت نظرة قطبى البنيوية ليفى ستروس وفوكوه إزاء العلوم الإِجتماعية والإِنسانية. فقد وجد ليفى ستروس أن وظيفة العلوم الإِجتماعية والإِنسانية تقع فى منتصف الطريق بين التفسير والتنبؤ, كما لو كانت عاجزة عن الاتجاه بتصميم نحو أحدهما. ولا يعنى هذا فى رأيه أن هذه العلوم تخلو من الفائدة سواء على المستوى النظرى أو العملى, وإنما يعنى فقط أن فائدتها تقاس فى ضوء عمليتى التفسير والتنبؤ. ومن هنا فإن لهذه العلوم وضعها الخاص والفريد, وتتركز فى هذا الوضع مهمة العلوم الإِنسانية, التى يحددها ليفى ستروس فى العبارة التالية : هذه العلوم لا تفسر إلى النهاية أو نادرا ما تقوم بذلك, كما إنها لا تتنبأ بدرجـة عاليــة مـن التأكيد(16).

أما فوكوه فقد أصدر حكمه بالإِعدام على العلوم الانسانية جميعا بما فيها علم النفس وعلم الإِجتماع وعلم التاريخ والإِنثروبولوجيا …. الخ, ومن هنا فإن رفض الدخــول فى المشكلات المنهجية الخاصة بالعلوم الإِنسانية, مما طالما دار حوله نقاش أهل تلك العلوم : أتراها تقوم على التفسير أم على الفهم, هل تستمد نموذجها من الرياضيات أم من علم الأحياء ؟ هل يمكن أن يقوم فى نطاق تلك العلوم اتجاه منطقى صورى محض ؟ … الخ(17).

وبالرغم من ذلك فقد كرس فوكوه صفحات طويلة من كتاب (( الألفاظ والأشياء )) للحديث عن شكل أو صورة العلوم الإِنسانية وذلك انطلاقا من افتراض يقوم على أن العلوم الإِنسانية لم ترث مجالا محدداً لها من قبل كما لم يتحدد أمالها المسار المعرفى التى يتعين عليها أن تقطعه(18).

واختلف كل من ليفى ستروس وفوكوه حول الصعوبة التى تعزى إلى العلوم الإِنسانية. فقد أرجع ليفى ستروس الصعوبة القائمة فى تلك العلوم إلى أن مختلف أنساقها لا تقع على نفس المستوى من الناحية المنطقية, كما أن المستويات التى ترتبط بها متعددة ومعقدة, وكثيرا ما تكون تعريفاتها غير دقيقة. وتتخذ بعض هذه العلوم موضعات دراسة هى عبارة عن كيانات تجريبية تتميز بكونها من العموميات ومن الكليات des realia et des tota, مثلا المجتمعات التى بكونها واقعية ومحددة فى مكان وزمان معين وفى الوقت تخضع للدراسة فى كليتها. وكمثال على ذلك الأنثوبولوجيا ( الأنثرونولوجيا ) والتاريخ. وترتبط علوم أخرى بكيانات لا تقل واقعية, إلا أنها تهتم بمظهر معين, مثلا اللغويات تدرس اللغات, والقانون يدرس الأشغال القانونية, وعلم الاقتصاد يهتم بأنساق الإِنتاج والتبادل وعلم السياسية يدرس الأنظمة ذات الشكل المحددة(19).

أما فوكوه فيرى أن العلوم الإِنسانية تعيش دائما عالة على العلوم الاستنباطية, والعلوم التجريبية, والفكر الفلسفى, فضلا عن أنها كثيرا ما تصطنع من المفاهيم والنماذج ما هو مستعار من البيولوجيا, والاقتصاد وعلوم اللغة, فليس بدعا أن نرى فوكوه ينبهنا إلى صعوبة تحديد وضع أو موقع ثابت لها فى إطار التصنيف المعاصر للعلوم. وليس السبب فى صعوبة العلوم الإِنسانية (( المزعومة )) يرجع إلى تعقيد موضوعاتها وكثافته, أو اتصافها بطابع ميتافيزيقى, أو استنادها إلى موجود زئبقى لا يكف عن العلو على نفسه, بل السبب هو تعقد التنظيم الاستمولوجى الذى توحد فى إطاره من جهة, وطبيعة العلاقة الثابتة التى تربطها بالأبعاد المكونة لصميم مجالها من جهة أخرى(20).

ينظر إذن فوكوه إلى العالم باعتباره متضمنا لثلاث جوانب للمعرفة, يشمل أولها الرياضيات والطبيعة, ويشمل ثانيها علوم اللغة والحياة وإنتاج الثروة وتوزيعها, ويشمل ثالثها التأمل الفلسفى. ويذهب فوكوه إلى أن العلوم الإِنسانية تمثل مكان المفاصل الواقعة بين هذه الجوانب(21).

يظهر إذن الفارق بين كل من ليفى ستروس وفوكوه فى نظرتهما إلى العلوم الإِنسانية … ففي حين أن ليفى ستروس قد أقام تعارضا بين الفيزياء وعلم الأحياء من ناحية, والعلوم الإِنسانية من ناحية أخرى, بحجة أن هذه العلوم الأخيرة لا تستحق لقب (( العلم )) بنفس الدرجة وعلى نفس المستوى, مؤكدا ـــ فى الوقت نفسه ـــ أن فى إمكان كل من علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الارتقاء إلى مستوى الوضع العلمى, إذا نجحا فى تجاوز عماء الظواهر من أجل الوصول إلى النظام الكامن من خلفها, نجد أن فوكوه ـــ على العكس من ذلك ـــ قد ظل متمسكا بفكرته القائلة بأن العلوم الإِنسانية لا يمكن أن تعد مجرد علوم زائفة, بل هى ليست من العلوم فى الشئ … ولا يقف فوكوه عند هذا الحد وإنما يقرر أيضا أن تلك المعرفة الجديدة التى ظهرت بظهور الإِنسان ـــ فى القرن التاسع عشر ـــ إنما هى بعينها التى سوف تجهز عليه ! وآية ذلك أن الفرد الذى كان من قبل موزعا بين علم الفيزياء وعلم الأحياء ( البيولوجيا ), لن يلبث أن يفقد ذلك القدر الضئيل من الهوية الذى بقى له, بسبب توزعه بين فروع مختلفة من المعرفة : ألا وهى علم النفس, وعلم الاجتماع, والأنثروبولوجيا, والتحليل النفسـى(22).

تقيم المنهج البنيوى

فإذا أردنا أن نقيّم المنهج البنيوى فسوف نجد ناحية إيجابية تتمثل فى الاهتمام بالجوهر, فلم يكتف المنهج البنيوى بما يدور على السطح وإنما بحث عن البنيات العميقة الكائنة وراء الظواهر الملاحظة. إلا أن عيب البنيوية أنها ببحثها عن البنيات العميقة الكامنة وراء السطح الظاهر أغفلت ـــ عن قصد أو بدون قصد ـــ الواقع.

والتسائل هو : كيف تكون البنية متطابقة مع الواقع وفى الوقت نفسه صادرة عن الذهن أو العقل البشرى الذى يصفه ليفى ستروس بأنه يظل باستمرار متطابقا مع نفسه, مساويا لذاته, إن ليفى ستروس يرفض إعطاء الصدارة للعامل الاجتماعى على العامل العقلى لأنه يرى أن النشاط الذهنى, لدى الإِنسان, ليس مجرد انعكاس للتنظيم الواقعى للمجتمع, ولكنه حين يرد البنيات إلى هذا النشاط الذهنى, فقد يكون من حقنا أن نتساءل : ماذا عسى أن يكون نمط الوجود الذى يمتلكه هذا الذهن أو العقل, خصوصا وأن لفى ستروس يقول عنه إنه ليس اجتماعيا ولا نفسيا ولا عضويا ؟(23).

نضيف إلى هذا إغفال بعض أقطاب هذا الاتجاه للتراث. فالقاعدة الأساسية فى منهج فوكوه الأركيولوجى, على سبيل المثال, فى التخلى نهائيا عن مزاعم (( الاستمرارية )) القائمة على مفاهيم غامضة من أمثـال (( التراث )) و (( التأثــــــــــر )) و (( الترقى )) و (( التطور )) … الخ(24) فمما لا شك فيه أن هذا مرفوض دينيا حيث يوجد باستمرار اتصال فى التاريخ وحيث يمثل الإِسلام والتراث الإِسلامى القاعدة والمنطلق لمختلف جوانب الحياة.

يقودنا هذا إلى تقييم نظرة المنهج البنيوى للتاريخ. فقد التقى فوكوه مع ليفى ستروس فى إنكار لإِمكانية قيام علم التاريخ بعقلنة مجمل الواقع. يقول ليفى ستروس :

(( إذا ما أراد علم التاريخ أن يكون ذا دلابة ومغزى, فإنه عليه أن يختار مناطق محلية يمارس دوره فيها … ذلك أن التاريخ الكلى يجيد نفسه بنفسه. إن حصيلة إنتاجه تعادل الصفر(25). إن التاريخ بالنسبة له هو أيضا عبارة عن مجموعة أشياء متنافرة ذات علاقات متقطعة. يقول (( لا يمكن ضمان الاستمرارية التاريخية المزعومة إلا بواسطة تخطيطات احتيالية ))(26).

إن الانقطاع أو القطيعة بين مراحل التاريخ التى يؤمن بها فوكوه تجعله يرى أن كل مستوى من مستويات الواقع ينمو ويتطور بشكل مستقل عن المستويات الأخرى. ويقول فوكوه : (( ينبغى أن نتخلص من هذه الفكرة القائلة بوجود رابطة تحليلية أو ضرورية بين العامل الأخلاقى والبنى الاجتماعية أو الاقتصادية والسياسية ))(27). إن هذا التمييز بين صعيد المعرفة وصعيد الواقع وعدم إقامة علاقة سببية بينهما يحيلنا إلى التمييز الأرسطى الذى ينظر إلى التاريخ بصفته محلا للفوضى المطلقة للعالم الأرضى, حيث يستحيل استنتاج أى معنى ذى دلالة … إن فوكوه يجزئ الواقع إلى جملة من الشرائح والقطع التى توضع تحت التحليل. وكل متوالية من الشرائح لها إيقاعها الخاص وانقطاعاتها الدالة بغض النظر عن السياق العام(28).

لقد أبى فوكوه إلا أن يأخذ بفكرة (( المجال الاستمولوجى )) التى كانت تنطوى منذ البداية على مبدأ الانفصال, دون أن يسمح للتاريخ ولا للمعقولية بأى موضع يمكن أن تشغلاه أو أن تستقرا فيه ! وهكذا كان حتما على فكوه أن يضحى بالتاريخ لحساب (( البنية )) وأن يستغنى عن العقل فى سبيل استبقاء (( النظام )) ! والظاهر أن هذه الفلسفة الجديدة التى كان فوكوه حريصا أشد الحرص على تثبيت دعائمها, هى التى أوحت إليه برفض كل ماض الفلسفة, وقطع كل صلة بتاريخ الفكر, من خلال تلك المزاعم العريضة المتكررة عن وجود (( تصدعات )) وانفصالات و (( هوات )) غير معبـورة بين العصور الثقافيــة المختلفة(29).

وشفرات المعرفة عند فوكوه, تلك التى ركزت على العقيدة والفلسفة والعلم كاشفة عن تغير أدوار رجال الدين والمحامين والقضاة والأطباء, هى شكل متطور من أفكار شان سيمون الذى يمكن أن يعده فوكوه واحدا من المفكرين الأول العظام لما يسميه (( حقبة الإِنسان )). ولأن فوكوه يتوقع نهاية هذه الحقبة, بوصفها (( نهاية التاريخ )) أو نهاية مرحلة الإِنسان, فان وسائل الإِعلام تصوره على أنه نذير بالنهاية, ولكنه لا يقصد نهاية الإِنسانية بإطلاق, بل نهاية نظراتنا السائدة عن العالم, أى (( العلمية )) المتجزأة, تلك النظرات التى يحاول هو نفسه أن يتجاوزها(30).

يقودنا هذا إلى مناقشة مقولة غياب الإِنسان أو موته التى يعتقد البعض أن المنهج قد طرحها. ويقوم هذا الاعتقاد على أن البنيوية, مع مفكرين من أمثال فوكوه, قد حكمت بالموت على الفلسفة والتاريخ, وهذا ولا شك سيضمن حكما بالموت على الإِنسان صانع الحضارات والتاريخ.

والفليسوف الوجودى جون بـول سارتر, على سبيل المثال, وجه انتقادا حادا إلى البنيوية باعتبارها تتباعد عن الوجود الإِنسانى وتتنكر للشرط الأساسى لهذا الوجود, وهو الحرية. فالمدخل البنيوى فى رأى سارتر مدان لأنه يمسخ البشر فى موضوعات ثابتة لا زمان لها, ولا ترتبط بغيرها من البشر أو الأشياء إلا بمجرد روابط شكلية موضوعية لا زمان لها. ويقول سارتر : (( إن العالم يقع فى الخارج … كما لا يقع اللغة أو الثقافة فى الفرد … بل الفرد موجود يوجد فى ثقافته وفى لغته, أى داخل مجموعة خاصة من الشروط ))(31).

ويقع الجدل عند سارتر بين البشر وظروفهم المحيطة, وبينهم وبين العمليات التى يمارسون خلالها فعلهم الواعى إزاء هذه الظروف. أما الجدال ـــ عند ليفى ستروس ـــ فيقع بين البشر بوصفهم موجودات اجتماعية وبوصفهم حوامل لا واعية لنظام كلى ( نابع من أنبعة لم تكتشف بعد )(32).

ويأخذ الكثيرون غلى فكوه أنه قد تورط فى ضرب من (( الوضعية المنطقية )), فانتهى إلى القضاء على الإِنسان باسم اللغة التى فطن هو نفسه إلى شبحها الرهيب الذى يجثم غلى صدور أهل القـرن العشرين(33).

وفى الواقع إن مقولة غياب الإِنسان فى المنهج البنيوى هى مقولة خلاقية إلى حد كــبير. فيعتقــد البــعض أن عـــالمِ الأنثروبولوجيا ليفى ستروس قد نجح فى خلق تصور جديد لإِنسان عالمى, ليس هو إنسان الغرب ولا هو إنسان الشرق, وإنما هو الإِنسان المتحرر من كل أشكال العنصرية. ففى التفكير السابق على المنطق Prelogique يكتشف منطق المحسوس أو علم الملموس اللذان لا غنى عنهما فى أى ثقافة إنسانية, وهو منطق لا تقل أهميته عن طرائقنا الحسابية الحديثة, وهن اجتهاداتنا للتنبؤ بالمستقبل. كما اكتشف ليفى ستروس منطق الطقوس والأساطير, وهو ذو أهمية خاصة فى فهم وتفسير العالم(34).

إن القول بموت الإِنسان ( أو اختفاء الذات ) ليس مجرد تعبير عن استمولوجية جديدة تحرص على وحدة المقال العلمى, وتهتم باستبعاد مفهون (( الإِنسان )) الذى طالما أثار البلبلة فى نطاق (( اللغة )), وإنما هو فى الحقيقة, أو بالأحرى, تعبير أيديولوجى عن نزوع الإِنسان المعاصر نحو التخلى عن النشاط ( أو العقل ) فى إطار ذلك المجتمع التكنوقراطى الذى أصبح (( يخطط )) له كل شئ(35).

أو هو الغائب الحاضر, كما يتضح من العرض الذى قدمناه, فإن مدخلنا إلى العلوم الإِنسانية لابد أن يرتكـز, وبوضوح, على مقولة وجود الإِنسان. فالإِسلام جعل الإِنسان خليفة الله على الأرض, وسخر له الكون وكافة الكائنات فيه, كما كرمه بالعقل. ومن أهمية إبراز مكانة العلوم الإِنسانية بين العلوم الاخرى. كما يتعين أن تعالج العلوم الإِنسانية قضايا الإِنسان من مدخل أن الإِنسان هو مركز المجتمع, ومن ورائه الكون كله.

خاتمة

لغد أبى الإنسان منذ الأزل أن يتقبل الواقع على ما هو عليه أو الاستسلام لظواهر الطبيعة والخضوع لها. وإنما أراد الإِنسان أن تتخذ العلاقة بينه وبين الكون شكل الحوار والجدل. ومن هنا فقد استحدث المناهج التى عن طريقها يستطيع أن يدرس كل ما يحيط به من ظواهر, طبيعية كانت أم إنسانية.

وتنبع أهمية طرح ومناقشة المناهج المستخدمة فى مجال العلوم الإِنسانية إلى أن الدارس والباحث فى قضايا الإِنسان يحتاج إلى خبرة من سبقوه من منظرين وباحثين, ووجهات نظرهم. وإذا كان تقييم المناهج القائمة يظهر كثيرا من السلبيات فإنه يكشف أيضا عن وجود بعض الإِيجابيات. وتأتى المحاولة التى عرضناها داخل هذا الإِطار.

مما لا شك فيه أن التصدى لمعالجة قضايا الإِنسان فى عالمنا المعاصر ليس بالموضوع السهل أو الميسر, ومن هنا الصعوبة التى تقابل الباحثين فى هذا المجال. لذا فإن محاولة ربط الإِنسان ببعض الثوابت كالتراث الدينى أو القيم تكون خطوة على الطريق الرامى الى حل الأزمة الحالية فى العلوم الإِنسانية.

***

الهوامش و المراجع

(*) دكتور فى فلسفة العلوم الإِنسانية. خبير بالمركز القومى للبحوث الإِجتماعية والجنائية.

(1)  علا مصطفى أنور. التفسير فى العلوم الاجتماعية. دراسة فى للتوزيع والنشر, 1988. ص 192.

(2)  C.W . Churman. On the Unification of the Social Scieces. Proceedings of the 4th International Conference on the Unity of the Sclences.

New York, 1975. PP. 101 – 110, P. 102.

(3)  حامد عمار. المنهج العلمى فى دراسة المجتمع. القاهرة, معهد الدراسات العربية, 1960. ص 49.

(4) H. Spiegelberg. The Phenomcenological Movement. A Historical Introductuon. The Hague, Martinus Nijhoff, 1969 p. 666 – 672.

(5) E. Nagel. On The Method of Verstehen as The sole Method of Phiosophy in M. Natanson ( ed. ) Phenomenology and the Social Sclencees. Vol.I. Evanton, North Western Univ. Press., 1973. PP. 262 – 265.

(6) T. Abel. Opration Called Verstehen in H. Feigh and M. Brodbeck (eds.), Readings in the Philosojlry of Sclence. New York, Appleton Century Crofts Unc., 1953 .PP. 684 – 85.

(7) K. Popper. Poverty of Historicism. London, Routlege and Kegan Paul, 1957. P. 20.

(8)  أديت كيرزويل. عصر البنيوية. من ليفى شتراوس إلى فوكوه. ترجمة جابر هصفور. بغداد, آفاق عربية, 1985 ص 5.

(9)  أنظر علا مصطفى أنور. التفسير فى العلوم الاجتماعية. دراسة فى فلسفة العلم. القاهرة دار الثقافة للنشر والتوزيع 1988. وأيضا علا مصطفى أنور المنهج فى العلوم الإِنسانية. المسلم المعـــاصر, العـــددان الخامس والخمسون والسادس والخمسون, يناير ـــ يونيــــو 1990 ص 115 ـــ 133.

(10)   C.Lѐvi – Strawss. Anthropologie Structurale P.28, Citѐ par S. Thion, Structurologie, Daus Alethia No. 4,Mai 1966, PP 219 – 227, P. 220.

(11)   زكريا إبراهيم. مشكلة البنية. القاهرة, مكتبة مصر, 1976, ص 33.

(12)   المرجع السابق ص 10.

(13)   المرجع السابق ص 9.

(14)   أحمد أبو زيد. البناء والبنائية : دراسة فى المفهومات. المجلة الاجتماعية القومية, المجلد السابع والعشرون, العدد الثانى, مايو 1990. ص 97 ـــ 131, ص 120.

(15)   فوكوه. الكلمات والأشياء, 1966, ص 15 فى : فرنسوادوس. عالم فوكوه الفيلسوف الملتزم, أو رجل اختراق الحواجز والحدود. المنار. العدد الثانى السنة الأولى, فبراير 1985, ص 142 ـــ 189, ص 153.

(16) C.Lѐvi – Strauss. Critѐres Scientifiques dans les disciplines et Humaines. Alethia. NO Mai 1988 PP 189 – 212, P. 196.

(17)   زكريا إبراهيم. مرجع سابق ص 155.

(18) Michel Foucault. Les Most et les Choses. Paris, Gallimard, 1966, P. 355.

(19) C. Levi – Strauss. Critѐres Scientiflques dans les Disciplines Sociales et Humaines, OP. Cit. P. 196 – 197.

(20)   زكريا إبراهيم. مرجع سابق ص 155.

(21)   أديث كيرزويل. مرجع سابق 224.

(22)   زكريا إبراهيم. مرجع سابق ص 157 ـــ 158.

(23)   المرجع السابق ص 96.

(24)   المرجع السابق 163.

(25)   كاود ليفى ستروس. الفكر المتوحش 1962 ص 339 ـــ 342. فى فرنسوا دوس مرجع السابق ص 157.

(26)   المصدر السابق ص 351 فى فرنسوا دوس. مرجع السابق ص 157.

(27)   فوكوه. مقابلة. لونوفيل أوسبرقاتور 1/ 6/ 84. فى فرنسوا دوس مرجع السابق ص 158.

(28)   فرنسوا دوس. مرجع السابق ص 158.

(29)   زكريا إبراهيم. مرجع سابق ص 149.

(30)   أديث كيرزويل. مرجع السابق ص 212.

(31)   Vertrsteaten. Levi – Strawss de la Twntation du Nѐant. P 81 dans ؛ أديث كيرزويل, مرجع السابق ص 36.

(32)   كيرزويل. مرجع سابق, نفس الصفحة.

(33)   زكريا إبراهيم مرجع سابق ص 167.

(34)   عبد الوهاب جعفر. البنيوية فى الإِنثروبولوجيا وموقف سارتر منها. القاهرة. دار المعارف, 1980, ص 230.

(35)   زكريا إبراهيم. مرجع سابق ص 160 ـــ 161.

(36)   فرنسوا دوس. مرجع سابق ص 165.

زكريا إبراهيم. مرجع سابق ص 168.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر