أبحاث

السنة مصدرا للتشريع، ومنهج الاحتجاج بها

العدد 58

في إطار فاعليات ندوة ((السنة النبوية ومنهجها في بناء المعرفة والحضارة)) التي عقدت ضمن المؤتمر السابع للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن: في ذي القعدة 1409 / يوليو 1989م، قدم م. محمد سعيد رمضان البوطي.. هذا البحث المهم عن ((السنة مصدراً للتشريع، ومنهج الاحتجاج بها)).. حرص خلاله على بيان المعاني الخاصة بالوحي والسنة، والحجية. كما قسم فيه تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم وحدد أنواع السنة ومنهج الاحتجاج بها..

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فسيسير هذا البحث -بعون الله- وفق الخطة التالية:

  1. مدخل: ويتضمن بيان معنى الوحي، ودوره الذي لابد منه في تكميل عملية المعرفة، كما يقوم الضياء بدوره الذي لابد منه في تكميل عملية الابصار.
  2. السنة وحجيتها: ويتضمن بيان معنى السنة، وبيان أن حجيتها ظل لحجية القرآن، مع مناقشة الشبهات التي قد تحوم حول هذه الحقيقة.
  3. تقسيم تصرفات النبي عليه الصلاة والسلام وتصنيفها: ويتناول هذا التقيم بيان التصرفات التالية وشرحها:

أ) التصرفات الجبلية..

ب) التصرفات التي تبث بالدليل الصحيح أنها من خصوصياته عليه الصلاة والسلام

جـ) التصرفات الصادرة عنه بوصف كونه رئيس دولة.

د) التصرفات التي تصدر عنه بوصف كونه قاضياً بين الناس..

هـ) التصرفات التي تصدر عنه بوصف كونه نبياً يبلغ الوحي عن الله.

  1. منهج الاحتجاج بالسنة على ضوء هذه الأنواع: وفيه نوضح أن النوعين الأول والثاني، لا ينطويان على أي دلالة تشريعية للناس..  أما الثالث والرابع فمصدر تشريعي طبق منهج خاص نفصل القول فيه.. وأما الخامس فتقوم حجيته على وجوب اتباعه بشكل حرفي ودائم على أساس من قواعد تفسير النصوص.
  2. أنواع السنة من حيث درجة القوة أو الضعف فيها: ويتضمن بيان الحديث المتواتر، والآحاد بأنواعه المختلفة.
  3. منهج الاحتجاج بالسنة على ضوء هذه الأنواع: ويتضمن بيان أن المبادئ الاعتقادية التي يكفر جاحدها، هي التي تستند إلى الخبر المتواتر، وأن الأحكام العملية يكفي لثبوت وجوب العمل بها، الخبر الآحاد إن توافرت فيه شروط الصحة.. كما يتضمن بيان أن التكليف يتجه إلى إعمال الفكر والنظر، لا إلى النتائج الاعتقادية التي لا خيار للإنسان فيها، مع مناقشة القول الشائع:«حرية الاعتقاد».
  4. اجتهاد رسول الله.. وموقعه من السنة: هل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجتهد؟.. واذا كان له ذلك فهل تدخل تصرفاته الاجتهادية في معنى السنة؟..  واذا اجتهد فهل يمكن أن يخطئ في اجتهاده؟ وهل تؤثر ذلك – على القول به
    -في عصمته صلى الله عليه وسلم؟ ويتضمن هذا البند جوابا مفصلا عن ذلك كله.

المدخل

من المعلوم أن السنة النبوية إنما تستقي أهميتها وتأخذ سلطتها من كونها وحيا، وإن كان غير متلو، أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم فهي والقرآن الكريم يصدران عن مشكاة واحدة، هي الوحي.

فما هو الوحي؟

لن نحمل أنفسنا – ونحن بصدد الإجابة على هذا السؤال – على فتح ملف الحديث في الوحي – تحليله باعتباره ظاهرة، وعرض مذاهب الباحثين الغربيين فيه، ومناقشة هذه المذاهب. فإن هذا كله يقصينا عن دائرة بحثنا، ويحيل مدخلنا هذا له إلى موضوع مستقل برأسه.

ولكنا نكتفي بمحصول ذلك كله، وهو التعريف الذي لا بديل عنه ولا مناص منه، على ضوء الأحداث والوثائق المعتمدة في حياة محمد صلى الله عليه وسلم، هذا التعريف هو:((تلقي النبي صلى الله عليه وسلم لحقيقة إخبارية أو إنشائية، خارجة عن كيانه، وليس له من سبيل إلى دفعها عنه أو جلبها اليه))1.

الوحي الحقيقة كلية:

أجل، فإن التعريف الذي ذكرناه، يؤكد أن الوحي معنى كلي يتمثل في حقيقة واحدة لا تقبل أي تجزؤ انفصالي، هي مجموع القرآن الكريم والسنة. كل ما في الأمر أحدهما، وهو القرآن الكريم، وحي متلو أفرغ في قوالب لفظية من لدن مصدر الوحي ذاته، وأن الثاني، وهو السنة، وحي غير متلو أبرزه رسول الله إلى الناس بألفاظ من عنده.

ومن ثم فإن أي محاولة استغناء بأحدهما عن الثاني، أو اصطناع ترجيح وأفضلية ذاتية لواحد منهما على الآخر، لا تعدو أن تكون عملية عبث وتشويه تلحق كلا منهما.

الوحي شرط لابد منه في استكمال عملية المعرفة:

مما لا شك فيه أن المعرفة الصحيحة هي الشرط الأساسي للسلوك، أي لتعامل الإنسان مع الكون والحياة. ذلك لأن أي عمل يباشره الإنسان، إنما يندفع إليه بعامل غاية يهدف اليها، ولا تزدهر الأهداف الغاية للأعمال إلا إثر معرفة تنشأ في ساحة الذهن.

وهكذا، فإن المعرفة هي منطلق السلوك في حياة الإنسان، غير أنه من الضرورى جداً أن تكون المعرفة صحيحة، حتى لا يتنكب السلوك بصاحبه عن الهدف المرسوم. ولكى تكون المعرفة صحيحة مطابقة للواقع، لابد أن تكون منضبطة بمنهج، أى بميزان يحدد معالم الطريق إلى المعرفة الصحيحة، ويمنع الانجراف في تيار المتاهات والملابسات الخاطئة.

والحديث عن هذا المنهج وأحكامه طويل الذيل، ولكن الذي يهمنا منه -في هذا المقام- أن نذكر بأن موضوع المعرفة عندما يكون مسألة خاضعة للتجربة والمشاهدة، فإن المنهج إليها لابد أن يكون محصوراً في التجربة والمشاهدة. ولكن عندما يكون موضوعها المطروح للبحث مسألة غيبية، كأن تكون عائدة إلى ماض سحيق، أو متوقعة الحصول في المستقبل البعيد، فإن المنهج إلى معرفة هذه المسألة أحد طريقين:

أولهما، وهو الأصل والمنطلق، الوقوف على الخبر اليقيني الصادق المتصل بالمصدر الموثوق به ثقة علمية، والذي يمكن أن يكشف عن خبيئة تلك المسألة.

ثانيهما،(وهو سبيل فرعي، ينتج في ظروف محددة وضمن شروط معينة) الاعتماد على قانون التلازم أى تتبع المستلزمات العقلية التي لابد أن تنتج عن فرضية غيبية ما، فيما لو قدرنا أنها واقعة وصحيحة.

وأنما نريد أن نلقي مزيداً من الضوء على الطريق الأساسي الأول، الذي هو الخبر اليقيني.. ونحن، بعد أن تكامل إيماننا بوجود الله عز وجل، لا نشك في أنه هو مصدر الخبر اليقيني الصحيح، لكل معضلة كونية مدفونة في غياهب الغيب الماضي أو المستقبل. ومن ثم فلا مندوحة لنا -في طريق معاناتنا من أجل المعرفة – من أن نصغي جيداً إلى ما يقوله هذا الصانع، معرفاً بمصنوعاته ومنبهاً إلى كل ما هو جدير بالمعرفة عنها. الشأن في ذلك شأن أي جهاز أنتجته شركة ما، من حيث أنه لابد لمن يريد أن يقتنى هذا الجهاز ويعلم شيئا عن دخائله، من الرجوع إلى ذلك الكتيب الاخبارى ((الكتالوج)) الذي يتحدث بلسان صانعي ذلك الجهاز عن طبيعته وفوائده وطريقة استعماله وصيانته.

وهكذا، فإن المعرفة العلمية الصحيحة لقصة هذا الكون، كما هي متوقعة على العقل الإنساني المدرك، متوقعة في الوقت ذاته على بلاغات اخبارية ترد الينا، عبر قناة علمية دقيقة من صانع هذا الكون، تكشف السجاف عن مكنون كثير من مغيباته. وغني عن البيان أن المعرفة لا تتحقق إلا اذا ألقح العقل الانسانى هذه البلاغات فلا يغنى واحد منهما عن الآخر على طريق معرفة الغيوب الكونية، مهما حاول الإنسان وجاهد..

وإنه لشيء مذهل أن تصل الدقة القرآنية في تصوير هذه الحقيقة المنهجية والتعبير عنها،إلى درجة أن يعبر القرآن الكريم عن الوحي الذي يتضمن هذه البلاغات التعليمية بالنور.. النور الذي تتوقف عليه رؤية العقل وتبصره قضايا الغيب، بحيث إذا عدم هذا النور – الذي هو الشرط الأساسي لرؤية العقل – لم يكن أمامه مناص من أن يخب في ظلام دامس على غير هدى، فعن هذا المعنى يعبر البيان الإلهي قائلا:

((… قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم))2

والقرآن الكريم، من خلال هذا التعبير، ينبهنا إلى أن قانون الإدراك العقلي الصحيح، هو ذاته قانون الرؤية البصرية الصحيحة. فكما أن وجود النور المكافئ للقوة المبصرة في العين، شرط لابد منه في رؤية الأشياء على حقيقتها، وهو يتمثل في ضياء الوحي الإلهي الذي أنزله الله على رسله وأنبيائه.

وبوسعنا الآن أن نعلم مصدر الضعف في علم الفلسفة ومواقف الفلاسفة اليونانيين وكل من نسج على مناولهم إلى يومنا هذا، إنه يتمثل في أن هذا العالم يحاول، على أيدي رجاله، تحميل العقل وحده مهمة حل سائر الألغاز الكونية، دون أي اعتماد على شريحة خبر علمى صادر من صانع الكون ذاته، ليستضئ به العقل في طريق معاناته التي حمل عليها.

فشأن هؤلاء الفلاسفة شأن من أنتفق نفقاً مظلماً، ثم حملق عينيه وأكرههما على أن تأتياه بالصور الحقيقية لكل ما حوله، زاعماً أن ضياء عينيه يغنيه عن أى ضياء رديف.

إذن، فالوحي ضياء لابد منه على طريق المعرفة:

أجل، تلك هي النتيجة التي لا مناص منها، غير أن الوحي إنما يؤدي مهمته هذه ضمن دائرة اختصاصاته التي يرسمها منهج المعرفة فالمسائل المادية الخاضعة للتجربة والمشاهدة لا يبرز للوحي الإلهي، على طريق معرفتها، أي دور. وهذا بعض مظاهر كون الإسلام دين الفطرة حقا.

أرأيت إلى المشاهد الكونية التي تقع تحت بصر الإنسان وحواسه، إن الوحي الإلهي لا يزيد على أن يدفعك إلى استكشاف أسرارها وسبر أغوارها بما منحه إياك من وسائل المعرفة التي هي هنا تدور على محور التجربة والمشاهدة، ويحرج العقل الإنساني، إذ يفضل التأدب مع خبر الله عز وجل، ولكنه يزيد بطبعه وما جبل عليه أن يكتشف الحقيقة بسعيه المباشر !..

حتى اذا حان وقت الحديث عن قصة النشأة الأولى، والنشأة الثانية للكون والإنسان، وأنباء الرحلة الإنسانية الماضية والآتية، أخبر القرآن بذلك تفصيلا ووضع النقاط فيها على الحروف. إذ لا غنى للعقل عن ذلك، مهما كان دقيق الإدراك حاد النظر والوعي. وما أشبه حاجة العقل الإنساني إلى هذه الأنباء الصادرة من صانع الكون، بحاجة العقل الآليإلى شرائح المعلومات الوافية تغذية بها، كي يضمها ويتفاعل معها، ثم تجني منه ثمارها التي تريد.

وقد أوضحنا أن الوحي ينقسم إلى متلو هو القرآن، وغير متلو وهو السنة. وكل منهما يكمل الآخر، وإن كان الأول أساساً ومصدراً للثاني، غير أن حديثنا هنا ينحصر في الوحي غير المتلو، أي السنة، طبق المنهج الذي رسمناه وألزمنا أنفسنا به في مقدمة هذا البحث.

السنة ومصدر حجيتها

معنى السنة في اللغة والاصطلاح: تطلق السنة في اللغة على ما قد يتخذه الانسان لنفسه أو لغيره من طريقة في السلوك، محمودة كانت أو مذمومة. وهو المعنى المراد من ((السنن))في قوله تعالى ((قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين))3 وهو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام:((من سن في الاسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شئ، ومن سن في الاسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شئ))4

ومما يجدر بالملاحظة أن ((السنة)) لا يعبر بها في اللغة عن الطريق الحسي الذي يمشي عليه الناس في الأرض،وإنما يعبر بها عن الطريقة المعنوية التي ترادف المبدأ والمنهاج5.

أما ((السنة))في الشريعة الإسلامية. فلها معنيان اثنان: أولهما اصطلاح فقهي يعرف بين الفقهاء، والثاني اصطلاح أصولي يتعارف عليه علماء أصول الفقه أما معناها عند الفقهاء، فهو كل حكم شرعي يترتب على فعله الثواب دون أن يستلزم الإعراض عنه أي وزر أو عقاب. وهو أحد الأحكام التكليفية الخمسة.

وأما معناها عند الأصوليين، فهو كل ما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو تقرير. وجرى الخلاف في زيادة ((الوصف)) فمن اقتصر على الثلاثة كان دليله أن الصفات أمور خلقية لا دخل لها في التشريع والتكليف. ومن أدخلها في التعريف كان دليله أن من الصفات ما هو راجع إلى الأخلاق، كالحلم والصبر والجود. ومعلوم أن للمراس والسبل التربوية سبيلاً إلى امكان التحلي بهما.

وعلى هذا، فالسنة في مصطلح الأصوليين تشمل سائر الأحكام، مما كان دليله قولاً أو فعلاً أو تقريراً، نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على حين أنها لا تشمل في اصطلاح الفقهاء إلا حكماً واحداً من الأحكام التكليفية كما ذكرنا.

على أن علماء الشريعة الإسلامية قد يطلقون ((السنة)) على الطريقة التي أثرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن خلفائه الراشدين وصحابته الكرام،في مختلف شؤون الحياة. ويقابلها بهذا المعنى ((البدعة)). وهي كل ما ابتدع في الدين، مما لم يعهد في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، ولا في عهد خلفائه الراشدين فتكون ((السنة)) بهذا المعنى أقرب إلى مدلولها اللغوي، العام من اصطلاحها الشرعي الخاص6.

مصدر حجية السنة:

يقرر كثير من العلماء أن حجة السنة تأتي في الدرجة الثانية، فالقرآن حجة متقدمة في المنزلة عليها.

واستشكل بعضهم أن هذا الترتيب يتنافي مع ما هو ثابت من أن أكثر السنة إنما جاء بياناً لأكثر ما في القرآن. وهذا يعني أن السنة قاضية على القرآن !..

كما استشكلوا أن هذا الترتيب، لو صح، لوجب على الباحث أن يترك السنة ويأخذ بظاهر القرآن، كلما رأى تعارضاً بين نص من القرآن وسنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.. وهو خلاف ما يقرره علماء الأصول في باب البيان وباب التعارض والترجيح.

ولعل مصدر هذا الإشكال العبارة الدائرة على ألسنة كثير من هؤلاء العلماء: وهي أن مرتبة السنة متأخرة عن مرتبة القرآن.

وهذه العبارة وإن كانت صحيحة من حيث المعنى المراد منها،إلا أنها قد توهم بعض الناس معنى آخر غير مراد.

إن المعنى السليم الذي تدل عليه هذه العبارة، هو أن مصادر الشريعة الإسلامية ليست في حقيقتها إلا فروعاً من أصل رئيسي واحد هو القرآن الكريم.. فهو المصدر الوحيد لهذه الشريعة الغراء. بمعنى أنه ليس للناس الأخذ بأحكام الله عز وجل المترتبة عليهم،إلا من القرآن الكريم وحده. ثم أن الأخذ منه أنما يكون بالخضوع لأوامره ونواهيه المباشرة، وعلى هذا فلابد من الرجوع إلى الموازين التي أمر بالرجوع إليها، وأولها السنة، ثم الإجماع، ثم القياس،… الخ.

فالأخذ بالسنة ليس في حقيقته إلا أخذا بالقرآن الكريم.. ومن ثم فان العراض عن السنة لا يمكن إلا أن يكون إعراضا عن القرآن الكريم. وقد أطال الامام الشافعى، رحمه الله، في بيان هذا المعنى في كتابه الرسالة7.

وعلى هذا يتبوأ القرآن الكريم المرتبة الأولى بين مصادر التشريع، ذلك لأنه هو الذي أعطى المصادر الأخرى قيمتها وحجيتها. وهذا يعنى أن تفاوت الرتبة اعتبارى مجرد، فلا إشكال في قولنا: إن السنة قاضية – من حيث البيان – على كثير من نصوص القرآن الكريم. لأن هذا القضاء إنما تم بقرار من القرآن الكريم نفسه. ألم يقل الله عز وجل:((… وأنزلنا اليك الذكر اتبين للناس ما نزل اليهم…))8

والنتيجة أنه لا يستلزم من هذا الترتيب إهمال السنة، كلما قام مظهر تعارض بينها وبين القرآن الكريم. ذلك لأن التعارض الحقيقي بين القرآن الكريم والسنة الصحيحة منفي بالدليل العقلي الذي لا إشكال فيه. فيؤول التعارض، إن وجد،إلى مظهر يوهم ذلك، أو يبدو ذلك في حالة لم يتم التأكيد فيها من ثبوت السنة وصحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما القول في حجية السنة، فقد بات من الكلام البدهي المكرور. ولا نحسب إلا أن أدلة حجيتها القاطعة معروفة بالبداهة لكل مسلم صادق في إسلامه. وكيف يرتاب في حجية السنة من يصدق قول الله عز وجل ((من يطع الرسول فقد أطاع الله…))9 ، وقوله عز وجل ((… وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا…)) 10، وقوله سبحانه ((.. وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم…))11 ،إلى آخر ما هنالك من الآيات القاطعة في الدلالة على أن السنة ترجمان القرآن الكريم وشرحه الذي لا ينفك منه.

ومع هذا فانك لتعجب إذ ترى في الناس من يتظاهر بالإيمان بكتاب الله تعالى  والغيرة على ما فيه من شرعة وأحكام، غير أنه لا يريد – مع ذلك – أن يضبط نفسه وعقله بهذا الذي أمر القرآن الكريم بضبط أنفسنا وعقولنا به، من إتباع سنة المصطفي صلى الله عليه وسلم، مصطنعاً لنفسه ما يشاء من الحجج والأسباب !..

أننا لا نستطيع إلا أن نرتاب في أمر هؤلاء الناس الذين قرروا إطلاق أنفسهم من ربقة القرآن الكريم وأحكامه، قبل أن يقرروا إطلاقها من مقتضيات السنة وأحكامها. ولكن شق عليهم أن يواجهوا الناس بخروجهم على القرآن الكريم وتعليماته، فأضافوا إلى القرآن الكريم ما لا مضمون له إلا ما تهواه أنفسهم ويتفق مع رغائبهم وأغراضهم.. وكان غرضهم الوحيد من ذلك هو أن يبعدوا السنة عن طريقهم، ويقطعوا ما بينها وبين القرآن الكريم من علاقة التفسير والتكامل والبيان.

وقد سبقهم إلى ذلك – في عصور سالفة – بعض الزنادقة والمارقين. فما كان حالهم في الظهور والافتضاح إلا شرا ممن جاهروا بالكفر والعصيان ومحاربة كتاب الله عز وجل. وغدت الأمة الإسلامية تتقى شرهم أكثر مما تتقى مجاهرة الكافر بكفره والفاسق بفسقه.

ويفر هؤلاء الناس من ملزمات الآيات التي ذكرناها آنفا،إلى القول بأنهم لا يشكون بمكانة السنة بحد ذاتها، وضرورة التمسك بها،إلا أن الزمن، في نظرهم، قد تقادم عليها، فتسلل اليها الكثير من الأباطيل والأكاذيب، حتى التبس الصحيح منها الضعيف وبالموضوع، واختلف العلماء في ذلك اختلافا كبيرا، فلم يبق بين أيدى الناس اليوم سنة يطمئن المسلم في الاعتماد عليها.

وإنك لتتبين من هذا الاعتذار الذي يتعلقون به، أن كفرهم بالقرآن ليس أقل من كفرهم بسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام. إذ لو صدق برهانهم الذي يتمسكون به، لعاد ذلك بالنقض البين على قول الله عز وجل ((… وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم…))12

ولكان من أبرز مستلزمات برهانهم هذا، أن الله عز وجل قد عهد للناس في بيان معاني القرآن إلى نبراس لم يدم ضياؤه إلا مدة يسيرة من الزمن. إذ سرعان ما انطفأ النبراس وعاد الغموض يغشى كتاب الله تعالى . فبقي هكذا غامضا يعوزه البيان، ويؤول تكليف الله عباده فهم القرآن والعمل به إلى عبث بين، كما تؤول القدرة الربانية التي كان عليها أن تحمي نبراس السنة من الانطفاء،إلى ضعف ينتزه عنه الأقوياء من الناس، فضلاً عن رب العالمين عز وجل.

وهكذا، فإن كل من اعتذر عن العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لابد أن يلتزم بهذه النتيجة التي تعود بالنقض على الإيمان بالله وكتابه، سواء أقر لسانه بهذا النقض أم لا، وتنبه إلى ذلك أم لا !..

على أن الواقع الذي يدركه كل متبصر وحر، نقيض هذا التصوير تماماً. فما حفظ شئ – بعد كتاب الله تعالى – من التلاعب والعبث، كالسنة النبوية المطهرة. وما قام للعلماء جهد أشبه بالمعجزة الخارقة، كجهدهم في تحصين السنة النبوية ضمن دروع واقية منسوجة من فن مصطلح الحديث وضوابط الجرح والتعديل. ولئن دل ركام الأحاديث الموضوعة والباطلة التي تركت منثورة خارج هذا الحصن على شئ، فانما يدل على مدى صفاء ونقاء ما قد بقى محفوظا في داخله. ثم أن تصنيفهم لهذا الذي شملته طرق وقاية الرواية وقواعد الإسناد إلى متواتر وآحاد، وتقسيمهم الآحاد إلى صحيح وحسن ومتفاوت في الحسن، إنما هو مظهر آخر من مظاهر الدقة المتناهية في سبيل حماية السنة المطهرة، من هذا الذي يشتهي المبطلون أن تتلبس السنّة المحمدية به.

فثبت بذلك أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه، ومن أبرز ما يصدق ذلك البيان الذي قيضه الله تعالى له، قد وصل الينا صافياً من الشوائب مكلوءاً بعناية الله، وذلك بتسخير من شرفهم الله بخدمته وحمايته، ولم يعف عليه الزمن كما قالوا، ولم يلتبس بشئ من الباطل كما توهموا أو أوهموا.

ولا مطمح في أي فائدة من إيقاظ هؤلاء الناس من غيهم، بذكر الأحاديث الصحيحة التي تحذر من نبذ السنة النبوية والتفريق بينها وبين القرآن، مثل قوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع،((… وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنة رسوله))13 وكقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود والترمزى:((يوشك رجل منكم متكئاً على أريكته يحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه،إلا وإن ما حرم رسول الله مثل الذي حرم الله))- أقول: لا مطمح في أى فائدة من وراء التذكير، بمثل هذين الحديثين – وأمثالهما كثير – اذ لا يبعد أن يتنطع أحدهم، كما تخوف ابن مسعود رضي الله عنه، فيقول: إن الاستدلال بالسنة على حجية السنة مصادرة على المطلوب، ودور ينأى عنه المنطق !. يقول هذا وهو لا يدري أن هذا التنطع منه يفرض عليه أن ينبذ كل ما قد وصل الينا من الدين عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مقدمة ذلك القرآن، فإن قرآنية القرآن لم تثبت لدينا إلا بواسطة إخباره عليه الصلاة والسلام بذلك !..

وربما أمعن أحدهم في تنطعه وازداد تصنعا للعلم، بمضغ عبارات، مثل قوله: إن أكثر ما وصل الينا من السنة إنما وقف من قوة الدلالة عند حدود الظن، لأنه قد انتهي الينا عن طريق خبر الآحاد، وأن الظن لا يغني من الحق شيئا.

والجواب الذي يجب أن لا يغيب عن ذهن أى عالم متبصر بهذا الدين، هو أن الدليل القطعى قد توفر على أن المسلمين متعبدون، فيما يتعلق بالتكاليف والأحكام السلوكية، بالدلائل الظنية التي ينطوى عليها خبر الآحاد. فقد ثبت بطرق كثيرة بلغت مبلغ التواتر المعنوى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث آحاد الصحابة إلى البلاد والقبائل المختلفة لتعليم المسلمين أحكام دينهم، ومعلوم أن الواحد – مهما كان موثوقا – معرض للخطأ والنسيان. فخبره لا يعلو على درجة الظن، ومع ذلك فقد تكرر من النبي عليه الصلاة والسلام إرسال هؤلاء الآحاد إلى الجهات المختلفة لتعليم الناس أحكام الحلال والحرام، وتكليفه الناس اتباع اخباراتهم واعتمادها، فكان ذلك دليلا قاطعا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلزم أصحابه باتباع الأدلة الظنية في نطاق الأحكام العملية. وهذا الدليل هو أساس ما التقت عليه كلمة الفقهاء جميعا من أن خبر الآحاد إذا صح اسناده ومتنه وجب العمل به، وإن كانت دلالته ظنية. ونحن لا نعلم في ذلك خلافا بين أئمة المسلمين14.

اذن، فقد آل الاحتجاج لنبذ السنة، بأنها لا تفيد أكثر من الظن، وأن الظن لا يغنى من الحق شيئاً – آل الاحتجاج بهذا القول إلى تنطع ممجوج، أقيم على ركام من الجهل بالفرق بين المبادئ الاعتقادية التي لا يغني فيها الظن، والأحكام الفقهية الاجتهادية التي يكفي فيها الدليل الظني، ولو عقل هؤلاء الناس لعلموا أن القرآن نفسه، وأن كان قطعي الثبوت، لا ترقى دلالته في كثير من نصوصه – لا سيما تلك التي تتناول الأحكام العملية – فوق درجة الظن.

أقسام تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم

من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر من الناس، ومن ثم فقد اتصف بالصفات والطبائع البشرية التي فطر الله الإنسان عليها، حاشا ما قد يطرأ على الإنسان من الصفات الجانحة أو العاهات المشينة أو الأمراض المنفرة.

اذن، فهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج النساء ويتعرض لأسباب الرضا والغضب.. إلخ، وهذا ما يجعلنا على يقين بأن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم وأعماله، ليست كلها تشريعا، وأن كان الكثير منها يمثل تشريعا وأحكاما.

ولكن، كيف السبيل إلى تمييز هذا عن ذاك، وما القاعدة التي ينبغى أن تتبع في ذلك؟

بوسعنا أن نلخص الاجابة على هذا السؤال بما يلي:

قلنا إن السنة إما أن تكون قولاً أو فعلاً أو تقريراً. فأما الأقوال فلا ريب في أنها مبرأة من هذا اللبس، لأنها لا تأتي إلا في قالب إخبار أو أمر أو نهي فأما الإخبار فخارج عن نطاق التكاليف الشرعية كما هو معلوم. وأما الأمر والنهي فإن كلا منهما نص في الدلالة على حكم شرعي، وهو آيل إلى أحد الأحكام التكليفية الخمسة. وأن كانت هذه الأحكام تتنوع في ثلاثة أقسام.

وأنما يتصور وقوع اللبس في كل من الأفعال والاقرارات.

ولنبدأ بوضع خارطة هذا التقسيم أمامنا أجمالا، ثم نعود إليها بالبيان والتفصيل: تنقسم أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأقسام التالية: القسم الأول: ما يدخل سلطان الهولجس النفسية، كالحركات العفوية وبعض حركات الأعضاء التي تكون استجابة لطائفة من الغرائز النفسية.

القسم الثانى: ما يدخل تحت سلطان الجبلة البشرية، كالقيام والقعود وأصل الأكل والشرب، وأصل النوم واليقظة، أى بقطع النظر عن الكيفيات والهيئات المتعلقة بها.

القسم الثالث: ما قام الدليل الخارجي على أنه من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، كوصاله في الصوم، وعدم أخذه الصدقات من الناس، وجمعه أكثر من أربع نسوة في عصمته.

القسم الرابع: كل ما عدا ذلك، ويدخل فيه هيآت وكيفيات الأفعال الجبلية. أما أوامره ونواهيه المتفرعة عن أقواله فتتنوع حسب تنوع شخصيته بصدد هذه الأوامر والنواهي. وتنقسم شخصيته من خلال تصرفاته هذه إلى الأقسام الثلاثة التالية.

– شخصية نبي يبلغ عن الله عز وجل.

– شخصية رئيس دولة وقائد أمة.

– شخصية قاض يفصل بين الناس في خصوماتهم.

فإذا تبينا ذلك التقسيم في أفعاله صلى الله عليه وسلم. وهذا التقسيم في الأوامر والنواهي من أقواله، فلنعد إلى ذلك بشئ من التفصيل.

القيمة الشرعية لأفعاله صلى الله عليه وسلم:

نقول بكلمة جامعة: كل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم الداخلة في الأنواع الثلاثة الأولى، لا تحمل أى دلالة تشريعية تدفع إلى أى خطاب تكليفي، أى أننا لسنا متعبدين من لدن الله عز وجل بالتأسي به في شيء منها. يقول الامام السيكي في جمع الجوامع وشارحه المحلي ما نصه:

((وما كان من أفعاله جبليا أو بيانا أو مخصصا به، فواضح أن البيان دليل في حقنا وغيره لسنا متعبدين به))15.

والمراد بقوله لسنا متعبدين به إن الأفعال الجبلية وما كان في حكمها، لا يتعلق بها أى خطاب تكليفي من الشارع الحكيم جلا جلاله. وليست ممارسة النبي صلى الله عليه وسلم لها إلا بدافع قاسم مشترك بيننا وبينه،إلا وهو سلطان الغريزة البشرية ومقتضياتها.

ولعل تعبير الجلال المحلي بقوله ((… لسنا متعبدين به)) أدق من تعبير بعض الأصوليين بقولهم ((… أنه يدل على الاباحة))16. ذلك لأن الاباحة من الاحكام التكليفية الخمسة على الصحيح. ولا ينافيه أن مداره على التخيير… وإنما يستنبط حكم الاباحة من مثل قوله تعالى ((… وكلوا واشربوا ولا تسرفوا))17 فإن الدلالة عليها جاءت من صيغة الأمر التي هي إحدى طرق التعبير عن الحكم التكليفي. ومعنى التكليف فيها ضرورة خضوع المخاطبين لما دل عليه هذا الخطاب التكليفي من معرفة أو تناول الطعام والشراب من المباح، فليس لأحد من الناس أن يصطنع التقرب إلى الله بإمتناعه عن تناولهما، أو بالتضييق على نفسه في تناول ما يحتاج اليه منهما.. وفرق كبير بين نص تشريعي سيق مساق البيان لحكم شرعي، وعمل جبلي سبق إليه النبي صلى الله عليه وسلم بدافع من محض بشريته. نعم لا يخلو ما قد يصدر عنه صلى الله عليه وسلم من الأعمال الجبلية، عن الدلالة اللزومية على أن هذه الأفعال مما لا حرج فيه، لأنها لو كانت محل استنكار من الشارع لما تلبس بها المعصوم صلى الله عليه وسلم.

ولعل الإمام الشاطبي من خير من فرق بين ما يدخل تحت حكم الإباحة التي هي حكم تكليفي على الصحيح، وما يدخل تحت البراءة الأصلية، فلا يتعلق به أى معنى تكليفي18.

والخلاصة أن كل ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد النبوة من الأفعال الجبلية والحركات التي تستجيب للغرائز البشرية، ليست لها من دلالة تزيد على ما كان يصدر عنه من مثل تلك الأفعال والحركات قبل نبوته. غاية ما يمكن أن تدل عليها أنها مما لا حرج فيه، ومما لا يطوله النهي والمنع، وأنه باق على البراءة الأصلية.

بقي القول أن هذا الكلام يثير إشكإلا خلاصته أن الله عز وجل يقول:((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة..))19 ومعناه بالإتفاق أنه صلى الله عليه وسلم جدير به أن يكون قدوة لنا في كل الشؤون والتصرفات والأعمال، فقد خلت إذن الأنواع الثلاثة من أعماله صلى الله عليه وسلم، في مقتضى الخطاب التكليفي، بحيث ينسحب عليها حكم الندب على أقل تقدير.إلا أن الأفعال الخاصة به خرجت عن عموم هذا الاقتضاء، اعتمادا على أدلة استثنائية ثابتة.أخرجتها عن عموم ما يجدر الإقتداء به صلى الله عليه وسلم. فبقي النوعان الأولان على ما يقتضيه الأصل، وهو طلب الأقتداء. والجواب أن ما يفعله الانسان تقربا – من حيث مصدر الأجر الذي أنيط به – نوعان: الأول قربات مطلوبة لذاتها، وأنما يثبت الأجر على القيام بها لما يترتب عليها من مصالح تعود إلى حقوق العباد أو حقوق الله. وليس فعل النبي عليه الصلاة والسلام إلا إرشاد لأمته إلى هذا المعنى.

أما النوع الثاني، فأفعال لا تنطوي بحد ذاتها على أي تقرب، فهي غير مطلوبة لذاتها ولا لشيء قد يترتب عليها. ولكن لما واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم، أو صدرت منه لطبع خاص به أو لرغبة شخصية لديه، كان تأسي الناس به في تلك الأفعال من مظاهر محبتهم له، فإن من أبرز ثمرات الحب ولوع المحب بتقليد محبوبه واقتداء به في كل شيء. ومن ثم فقد كان لهم على ذلك أجر المحبة لا أجر تلك الأعمال بحد ذاتها.

وقد أوضح المحقق البناني هذا الفرق في حاشيته على جمع الجوامع بقوله:((فإن قيل يرد عليه أن ظاهرة أنه لا خلاف في عدم تعبدنا بالجبلي، مع أنه قيل بندبه. وبه جزم الزركشي، فقال: أما الجبلي فللندب لاستحباب التأسي به، أن المخصص به قد يتعبد به كالضحى، فإن وجوبها مخصوص به مع ندبها لنا – قلت: أما الأول فيمكن الجواب عنه باحتمال أن المراد بندبه أن يثاب عليه لقصد التأسي به لا على نفس الفعل الذي الكلام فيه))20.

أقول: وعلى هذا يحمل ما كان يحرص عليه بعض الصحابة، من أمثال عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما، من تقليده عليه الصلاة والسلام في كثير من أعماله الجبلية. فقد كان الذي يدفعه إلى ذلك شدة حبه النبي عليه الصلاة والسلام. فهو مثاب على هذا الدافع المحمود لا على ممارسة أفعال جبلية لا تنطوي – بحد ذاتها – على أي مقصد شرعي.

أما النوع الرابع وهوسائر تصرفاته وأعماله الأخرى عليه الصلاة والسلام، فهي جميعا تدخل في القربات الذانية. والقربات قدر مشترك بين الندب والوجوب، فتنصرف إلى ما تدل عليه القرائن منهما.

ثم أن هذه الأفعال تنقسم بدورها إلى ما يكون بياناً لنص قرآني- مجمل أو غامض – كصلاته صلى الله عليه وسلم وصومه وحجه وكثير من نسكه.. وإلى ما يعد من الملحقات التي ألحقتها السنة بما نص عليه القرآن، مثاله وضوؤه صلى الله عليه وسلم بنبيذ التمر، فإنه متردد بين أن يكون من المسكر الذي حرمه الله تعالى أو من الطيب الذي أباح الله تعالى استعماله وشربه. فكان عمل النبي عليه الصلاة والسلام إلحاقا لهذا الشراب المتردد بين الطرفين بالطيب الذي لا حرج فيه،إذا لم يكن قد بلغ حد الإسكار.. وكزيادة التغريب على جلد الزاني، وكشرائه المربد الذي بناه مسجداً من اليتيمين القاصرين، وافتدائه أسرى غزوة بدر بالمال…

ويدخل في القسم الرابع هذا تلك الكيفيات المعينة التي ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام، كان يمارس بها أفعاله الجبلية التي سبق بيان كونها خارجة عن نطاق الدلالة التشريعية، كأكله باليمنى، وكنومه على الشق الأيمن، وشربه الماء قاعداً في أعم الأحوال، وكاتقائه الاتكاء عند الطعام والشراب، فإن الدليل قاض بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يلازم كيفية بذاتها في قيامة بهذه الأعمال إلا لمعنى تعبدي فيها أعلمه الله وحيا أو تنبه إليها اجتهاداً.

أنواع القيمة الشرعية لتصرفات النبي صلى الله عليه وسلم:

قلنا – ونحن نجمل أقسام تصرفاته التي تشملها أوامره ونواهية وسائر ما يعد تقرباً من تصرفاته – إنها تنعكس عن أقسام ثلاثة لشخصيته صلى الله عليه وسلم، هي كونه نبياً مبلغاً عن الله، وكونه رئيس دولة، وكونه قاضياً بين الناس… وقد آن أن نفصل القول في هذه الجوانب الثلاثة لشخصيته صلى الله عليه وسلم.

إن مما لا شك فيه أن النبوة هي الصبغة العامة المتسعة لكل تصرفاته وأحواله صلى الله عليه وسلم. غير أن الله عز وجل قضى أن تكون هذه النبوة أصلاً تتفرع عنه ثلاثة جوانب متكاملة، هي أركان المجتمع الإنساني السليم. هذه الجوانب الثلاثة يقتضيها تنوع المجتمع واختلاف أحواله وظروفه.

أما شخصيته نبياً يبلغ عن الله عز وجل، فتبرز وتتجلى في كل ما يبلغه عن الله من أحكام الحلال والحرام وأنواع الواجبات والمكروهات، مما لا حاجة فيه إلى حكم أمام قضاء قاض.. كالصلاة والصوم والحج والزكاة والنواهي المختلفة وقضايا الأخلاق. وتعد مهمة الفتيا – التي هي وظيفة العلماء من بعده صلى الله عليه وسلم – إمتداد لهذه الحقيقة التبليغية عن الله عز وجل،إلا أن تبليغ النبي كان عن الله مباشرة، والفتيا تكون عن كتاب الله تعالى  بواسطة رسوله المبلغ وسنته المبينة.وما يتضمنه كل منهما من الأحكام شيء واحد21.

وأما شخصيته عليه الصلاة والسلام إماماً ورئيسا للأمة، فتتجلى من خلال ممارسته الأحكام الشرعية المتعلقة بأسباب ومصالح لا يجوز أن يقدرها وينظر فيها إلا الامام الأعلى للمسلمين، كإعلان الحرب وإنهائها، وإبرام المعاهدات وقتال البغاة وتنفيذ الحدود وتوزيع الاقطاعات. فهذه الأمور وأمثالها إنما يمارسها رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفويض من الله تعالى  له، بوصفه إماماً أعلى للمسلمين ينظر في مصالحهم ويسوس حولهم.

وأما شخصيته صلى الله عليه وسلم قاضياً بين الناس، فتتجلى في إبرامه بين المتخاصمين حسب ما يظهر كل منهما من القرائن والبينات والحجاج، كالتمليك بحق الشفعة، وفسخ الأنكحة والعقود عندما تحقق ذلك، وكالحجر، والتطليق بسبب الاعسار، وتحديد النفقة.. الخ. فالنبي صلى الله عليه وسلم، عندما يقضي في هذه الأمور لا يعتمد فيها على تبليغ حرفي يأتيه من الله، ولكن يعتمد على صلاحيات قضائية متعه الله بها، بموجب قواعد وتعليمات كلية بصره بها.

فتلك هي أقسام تصرفاته صلى الله عليه وسلم، وتلك هي الجوانب الثلاثة لشخصيته عليه الصلاة والسلام.

منهج الاحتجاج بالسنة على ضوء هذه الأنواع:

يغيب عن جمهرة من الباحثين أن معنى التقيد بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف باختلاف الجوانب الثلاثة من شخصيته عليه الصلاة والسلام. وربما تصوروا أن اتباع السنة إنما يتحقق دائماً بالتمسك الحرفي بكل ما جاء عن رسول الله دون التفات إلى أي تنوع أو ملابسات. غير أن الأمر ليس كذلك. وهذا ما نريد أن نوضحه هنا بإيجاز:

1- الجانب التبليغي من شخصية النبي عليه الصلاة والسلام:

وقد عرفنا قبل قليل مظهر هذا الجانب، ووقفنا على أمثلة لها. فلنعلم الآن أن كل ما رسمه لنا رسول الله من الأحكام على وجه التبليغ عن الله عز وجل، يعد تشريعاً ثابتاً متقرراً في حق سائر المكلفين على اختلافهم إلى يوم الدين، دونما حاجة إلى حكم إمام أو قضاء قاض، بل لا يملك أحد أن يغير أو يبدل منه شيئا، مهما كانت سلطة وسلطانه، ويدخل في إطار هذه الأحكام أكثر التعليمات وجل المبادئ والالتزامات التي بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام.

2- الجانب القيادي من شخصية النبي عليه الصلاة والسلام:

وقد علمنا أن هذا الجانب يتمثل في كل ما أبرمه عليه الصلاة والسلام، بوصف كونه إماماً أعلى للمسلمين، بتفويض من الله ومبايعة من المسلمين. فلنعلم أن هذه الطائفة من الأحكام، تعد أحكاماً شرعية نافذة في الناس الذين شملهم حكمه وعاشوا في ظله مثل قضائه في الأسرى وإبرامه المعاهدات وسياسته في الأعطيات، ومعنى هذا أن على من تول الإمامة من بعده صلى الله عليه وسلم أن يتقيد بما تقتضيه المصلحة العامة للمسلمين عند الوقوف على هذه الطائفة من الأحكام، على أن يخرج عن الحدود المرسومة للصلاحيات التي خوله الشارع التحرك في دائرتها. فان رأى المصلحة في اتباع رسول الله بحرفية تلك الأحكام أو بعضها، التزم بها، وإن رأى المصلحة تقتضي الأخذ بوجوه أخرى، ضمن الحدود العامة المرسومة تبليغاً، كان عليه أن يغير فيها حسب مقتضى المصلحة.

ومن الأمثلة التطبيقية على ذلك، المعاهدة التي أبرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين ويهود خيبر، بعد أن وضعت الحرب أوزارها ونصر الله المسلمين، فقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام، بوصف كونه إماماً للمسلمين، أن يستجيب لرغبة اليهود فيبقيهم على الأرض التي كانوا يعملون فيها، على أنها ملك للمسلمين وعلى أن يعملوا فيها كما كانوا، ببعض ما قد يخرج منها.. ثم تولى الخلافة من بعده أبو بكر رضى الله عنه، فرأى أن يبقي هذه المعاهدة على حالها. ثم جاء من بعده عمر رضى الله عنه، فوقعت أحداث جعلته يرى، نظرا لما تقتضيه المصلحة، إلغاء هذه المعاهدة، وأن يخرج اليهود من خيبر22.

وربما وقف بعض أولي التفكير السطحي على عمل عمر هذا، فظن أن عمر بلغت به الجرأة أن أوقف السنة النبوية ورجح عليها إتباع المصلحة كما يظن ذلك ثلة من الباحثين السطحيين اليوم. ولكن الأمر – كما قد علمنا – ليس كذلك، بل أنه يكون متنكبا عن إتباع السنة لو تقيد بها بالسنة لهذه الطائفة من الأحكام تقيداً حرفياً بكل الأحوال.

ثم إن معظم الأحكام التي تندرج في هذا الجانب من شخصيته صلى الله عليه وسلم معروف ومحل اتفاق. وهو باختصار كل ما يتعلق بسياسة السلم والحرب وتوزيع الاقطاعات والغنائم وتنسيق العلاقات بين المسلمين وغيرهم. وتسمى هذه الأحاكم بأحكام الإمامة والسياسة الشرعية.

إلا أن ثمة بعض الأحكام التي ظلت محل خلاف، أتندرج في أحكام التبليغ أم في أحكام الإمامة والسياسة الشرعية. من ذلك حكمه صلى الله عليه وسلم بأن كل من أحيا أرضا ميتة فهي له23 فقد ذهب أبو حنيفة إلى أن النبي إنما أعلن ذلك بوصف كونه إماماً للمسلمين ومن ثم فلا يسرى هذا الحكم على سائر الناس، وبالنسبة لسائر الأراضي الموات من بعده، بل لابد من استئذان الإمام الأعلى في ذلك في كل عصر. وذهب الشافعي ومالك إلى أنه عليه الصلاة والسلام إنما أعلن ذلك مبلغاً عن الله، أي بوصف كونه رسولاً يبلغ ما قد أوحي إليه. فعلى هذا سيسرى الحكم بذلك مطلقا إلى يوم القيامة، دون أن يكون للحكام صلاحية في توفيقه أو إلغائه.

3 – الجانب القضائي من شخصية النبي عليه الصلاة والسلام:

ويتمثل هذا الجانب في كل ما قد أبرمه عليه الصلاة والسلام، بوصف كونه قاضياً بين الناس، كتمليكه بموجب حق الشفعة، وفسخ الأنكحة والعقود.. فلا يجوز القضاء بمثل ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأقضية وأمثالها،إذا استجد منها شيء،إلا بعد أن ينظر فيه من قد أسندت عهدة القضاء إليه من بعده، على ضوء ما يتوفر من البيانات وقرائن الأحوال، فربما قضى بمثل ما قضى به النبي تماماً، وربما خالف نظراً لاختلاف سير البيانات ومقتضياتها.

ثم أن الأحكام القضائية – كأحكام الإمامة – منها ما هو محل اتفاق بين العلماء، كالأمثلة التي ذكرناها، ومنها ما وقع فيها الخلاف: أهي من أحكام التبليغ أم من أحكام القضاء.إذ لم تستبن فيه الدلائل بشكل جلي.

ومما وقع فيه الخلاف قضاؤه صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة، لما شكت أن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيها وولدها الكفاية. فقد قال لها:((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) فقد ذهب جماعة من الفقهاء، ومنهم الإمام مالك،إلى أن هذا حكم تبليغي أخبرها به عن الله عز وجل بوصف كونه رسولا. فعلى هذا يجوز الفتوى بأن كل ظفر بحقه أو بجنس حقه أو بما يقوم مقامه من غير جنسه، مع امتناع من عليه الحق من الوفاء، جاز له أخذه دون توسط القضاء.. وقال الشافعي وآخرون: بل هو تصرف في هذه المسألة بحكم كونه قاضيا، معتمدا على موازين القضاء وبيناته. وعليه فليس لمن ظفر بحقه أن يأخذه عنوة إلا بعد قضاء القاضي بذلك.

فهذه خلاصة عن منهج الاحتجاج بالسنة النبوية على ضوء هذه الجوانب الثلاثة من شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، التبليغية والقيادية والقضائية.

ومن المهم أن نتذكر ثانية، بأن الأحكام المتنوعة المتفرعة عن هذه الجوانب المختلفة، تنبثق في مجموعها من مصدر لا ثاني له هو نبوته صلى الله عليه وسلم التي يتلقى بموجبها سائر التعليمات والأحكام..

فالخطوط العريضة لسياسة الأحكام الخاضعة للسياسة الشرعية والمبادئ العامة التي تهيمن عليها، إنما تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياً وأنبأ بها الناس تبليغاً، وكذلك القواعد العامة لسياسة القضاء مما يتعلق ببيان القرائن وقيمة البيانات وأصول الحجاج ثابتة بموجب أحكام تبليغية.إلا أن جزيئات الأحكام الخاضعة للسياسة الشرعية أو الأحكام القضائية، ذات مرونة مردها إلى ما يراه إمام المسلمين، أو القاضي المعتمد من قبل أمام المسلمين.

أنواع السنة من حيث درجة القوة والضعف فيها

يقسم علماء الشريعة الإسلامية السنة من حيث السند، أو من حيث درجة القوة والضعف فيها إلى قسمين رئيسين: السنة المتواترة والسنة الآحاد.

فالسنة المتواترة ما كان سندها متصلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الإكمال، بحيث رواها جمع يمتنع في العادة أن يتفق أفراده على الكذب لكثرة عددهم، وذلك من مبدأ التلقي عن النبي عليه الصلاة والسلام إلى العصر الذي تم فيه التدوين. فإن لم يدون، فإلى أن يصل إلينا.

وأما السنة الآحاد، فهي كل ما لم يكن سندها متواترا، بأن كان دون درجة التواتر التي عرفناها، ثم إن السنة الآحاد تنقسم إلى ما ثبت بطريق صحيح وما ثبت بطريق حسن، وما كان ضعيف الثبوت، وللضعيف أنواع كثيرة.

أما الموضوع كذبا وافتراء، فهو غير داخل في أصل المقسم، حتى يندرج في الأقسام. ولكن العلماء دأبوا على جعله قسما من أقسام الحديث، إلحاقاً، ونظرا ً إلى التسمية التي يسميه بها الواضعون أو الواهمون.

ولنعرف أقسام الحديث الآحاد تعريفاً موجزاً:

أعلى أقسام الحديث الآحاد قوة،الصحيح، وهو كل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل العدل الضابط عن مثله من أول السند إلى منتهاه دون شذوذ ولا علة. يلي هذا القسم الحديث الحسن، وهو الحديث الصحيح ذاته، على أن يكون رجاله أقل درجة في الوثوق من رجال الصحيح، دون أن ينزل أحد منهم عن درجة العدالة والضبط.

أما الضعيف فهو كل ما فقد منه بشرط من شروط الصحيح، بأن انتفت العدالة من الرواة أو من أحدهم، أو بأن كان في السند انقطاع أو ارسال، أو كان في متنه شذوذ… وهو كما قلنا ينقسم إلى أنواع كثيرة لا داعي إلى سردها أو شرحها في هذا المقام.

أما الموضوع، فهو المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ما يحتج به من هذه الأنواع

الاحتجاج بالسنة، لا يخلو من أحد معنيين.

احتجاج إيمان واعتقاد.

أو احتجاج عمل وتطبيق.

أما الاحتجاج بالسنة في الإيمان والاعتقاد، فلابد أن تكون السنة التي يحتج بها لذلك سنة متواترة، وأن تكون ذات دلالة واضحة لا تخضع لاحتمال التأويل.

فإن كانت كذلك، وجب الاعتقاد بمضمونها، ذلك لأن الخبر المتواتر يأخذ حكم الثبوت القطعي، فإن كان واضح الدلالة أيضاً يأخذ حكم الفهم القطعي أيضاً.

وموقف العقل من مثل هذا الخبر هو القبول والاذعان، أيا كان هذا العقل، وأيا كان صاحبه ومهما كانت نحلته، فإن العقل الإنساني لا يرتاب في صحة خبر إمتد إليه ابتداء من مصدره، عن طريق جموع غفيرة متصلة، أى دون انقطاع في ابتدائه أو وسطه أو نهايته، بل أن العقل لا يملك أى أختيار في شأن مثل هذا الخبر، إذ هو منقاد بطبعه إلى الجزم به.

إننا نوقن جميعاً بأحداث تاريخية كبرى وقعت منذ قرون، كما نؤمن بوجود آثار وبلدان في جهات من الأرض، كوقعة القادسية، والثورة النفسية، وتحفة تاج محل، دون أن يكون لنا أي برهان علمي على ذلك إلا الخبر المتواتر.

أما إن كانت السنة منقولة الينا بطريق الآحاد، فلا تتكون منه حجة ملزمة في نطاق الاعتقاد، بحيث يقع الإنسان في طائلة الكفر إن هو لم يجزم بمضمون خبر صحيح لم يرق في سنده إلى درجة التواتر.. بل يسعه أن لا يجزم به دون أن يخدش ذلك سلامة إيمانه وإسلامه، وإن كان ذلك يخدش عدالته ويستوجب فسقه.

دليل ذلك أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. ما في ذلك ريب ولا خلاف. والاعتقاد الذي هو بمعنى اليقين انفعال قسري وليس فعلا اختيارا. فإن وجد العقل أمامه ما يحمله على الانفعال واليقين بأمر ما، اصطبغ بذلك اليقين لا محالة، دون أن يكون له في ذلك أى اختيار. وإن لم يجد أمامه ما يحمله على ذلك الانفعال واليقين، لم يجد بدا من الوقوف عند درجة الريبة أو الظن، دون أن يكون له في ذلك أيضاً أي إرادة أو اختيار. فان أجبرت العقل مع ذلك بالجزم واليقين دون أن تأتيه بموجبات اليقين، فقد حملت العقل ما لا يطبق، ودين الله مبرأ من ذلك.

ومن هنا كان التكليف الإلهي متجهاًإلى توجيه الفكر وإعماله في إدلة الاعتقاد، إذ هو الشئ الذي يتمكن الإنسان من عمله، ما لم يكن متجهاً إلى الاعتقاد مباشرة، فإنه مما لا يدخل في الطوق والاختيار24.

وإذا تأملت في هذا الذي نقول، اتضح لك مدى تهافت القول بحرية الاعتقاد، تلك الكلمة القدسية في أذهان كثير من الباحثين والكاتبين اليوم، والتي يعدونها مطلبا من أهم المطالب الإنسانية في عصر الحرية !.. فمن هو ذلك الذي يستطيع أن يتحكم في عقله فيكون حرا فيما يحب أن يوقن به وما لا يحب؟

فان تعجبت من هذا الكلام متسائلا: إذن فما معنى وجوب الإيمان بالله وحرمة الجحود به وتعرض الجاحدين لمقت الله وعقابه؟ قلنا:

إن وجوب الإيمان إنما ينصب على المقدمات الاختيارية التي هي التأمل والنظر بفكر متحرر، لا على النتائج الحتمية التي لا قبل للإنسان بجلبها غليه أو ردها عنه. فإذا قلنا إن الإيمان بالله واجب على كل بالغ راشد، فمعنى ذلك أن من المحتم في حقه أن يستعمل عقله وسائر طاقاته الفكرية للنظر في ذاته وفي الكون الذي حوله، ثم في هذا القرآن الذي أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم…. ولا ريب أن كل من قام بهذا الواجب وموضوعية هُدي إلى الحق، ورأى الله تعالى ملء هذا الكون بعين بصيرته. فتأتي العقيدة عندئذ نتيجة حتمية لمقدمات اختيارية، هي مناط التكليف الرباني.

والعقاب الذي أعده الله للجاحدين، إنما استحقوه باعراضهم الاختياري لا بعقائدهم الانفعالية. مصداق ذلك قول الله تعالى ((ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها، إنا من المجرمين منتقمون))25 أوهم استحقوه باستكبارهم على الحق الذي استيقنوه سرا ولكنهم أبوا أن يذعنوا له جهرا. مصداق ذلك قول الله تعالى :((وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا))..26

وأما الاحتجاج بالسنة في العمل والتطبيق، فيكفي لوجوب الأخذ بها أن تكون السنة صحيحة وإن كانت آحادا، أي وإن كانت ظنية الثبوت.

غير أن كثيرا من العلماء، اشترطوا للعمل بخبر الآحاد، إضافة إلى اشتراط توفر الصحة فيه، أن لا يكون مما يستوجب غير ما داع إلى نقله متواترا، ومثاله أنفراد واحد أو أثنين بنقل خبر عن قتل خطيب على المنبر يوم الجمعة، فمثل هذا الخبر اذا أنفرد بنقله واحد أو أثنان أو ثلاثة، لا يرقى إلى درجة الظن الموجب للعمل به، بل هو خبر كاذب كما قال ابن الحاجب27.

والدليل على وجوب العمل بخبر الآحاد: يتلخص فيما يلي:

أولاً: ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إرساله آحاد الصحابة إلى البلاد والقبائل المختلفة، ليبلغوا أهل تلك البقاع أحكام الشريعة الإسلامية وكيفية الأخذ بها، وقد علمنا أن العقل يظل يفرض احتمال السهو والغلط والنسيان في حق أولئك الآحاد،إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام كأن يأمر أهل تلك البلاد، مع ذلك، باتباع ما يرشدهم اليه هؤلاء الآحاد المنتشرون في تلك الأصقاع، مبعوثين منه صلى الله عليه وسلم. فكأنه يقول لهم بذلك: حيثما أخبركم هؤلاء بشئ من أمور دينكم مما يدخل في نطاق التطبيقات السلوكية، وظننتم صدق كلامهم، فواجبكم تطبيق ذلك والأخذ به.28

ثانيا: قول الله تعالى ((وما أتاكم الرسول فخذوه..))29 وقد علمنا أن ((ما)) من أدوات العموم، فهي تشمل كل ما نقل الينا صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان بطريق أو آحاد. ومثله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع:((إلا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع))، وهذا الأمر يتضمن بوضوح أمر كل مبلغ بتنفيذ ما قد يبلغه عنه صلى الله عليه وسلم، سواء بلغه عنه شاهد واحد، كما يدل عليه ظاهر الأمر، أو بلغه أكثر من شاهد واحد. فالحكم في الحالين كليهما سواء.

ثالثا: ليس بين ظنية خبر الآحاد، وقطعية وجوب العمل به أى تناف كما قد يتوهم بعض الباحثين، إذ الظن والقطع هنا غير واردين على محل واحد، كما هو ظاهر من التأمل في كل من الدليلين: الأول والثاني.

إن منبعث الظن هو واقع المخبر عنه من حيث أن واقعه مطابق فعلا لكلام المخبر أم لا، ومدى احتمال المطابقة وعدمها، أما مبعث القطع فهو حكم الله عز وجل الوارد الينا عن طريق رسوله متواترا يبعث على اليقين والجزم، ولا تنافي في أن يحكم الله تعالى  بوجوب العمل بمقتضى الظن.

نعم، كان التنافي وارداً لو أن الأمر توجه إلى الإنسان بضرورة أن يستيقن خبرا جاءه عن طريق ظني.إذ أن اليقين والظن بأمر واحد يردان هنا على محل هو اليقين العقلي، وهذا ما لا يمكن تحققه.

وقد يحتج من ينكر قطعية وجوب العمل بخبر الآحاد، بمثل ما روي في الصحيح من رد عمر بن الخطاب حديث أبي موسى الأشعري في الاستئذان، ورده حديث فاطمة بنت قيس في سكنى المبتوتة، ورد عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه30.

والجواب أن رد عمر وعائشة، ليس من حيث أن الحديث نقل لكل منهما بطريق آحاد، إذ إن كلا منهما – كبقية الصحابة – قبل أحاديث الآحاد وعمل بمقتضاها. فقد ثبت أن عمر قضى أن الديه للعاقلة، ولم يورث المرأة من ديه زوجها، فأخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديه زوجها، فرجع اليه عمر31.

ولكن السبب في رد عمر أبا موسى الأشعرى عندما أخبره بحديث الاستئذان، هو مجرد حب التثبت، بدليل أنه لما رجع مع أبي سعيد الخدري وشهد له، قال عمر، أما إنى لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كل فقد آل الأمر إلى قبول عمر للحديث آحادا، فالقصة بمجملها حجة على المنكر لا له. أما سبب رده لحديث فاطمة بنت قيس، فهو ما يدل عليه قوله:((لا ندع كتاب ربنا، وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت)) ونحن إنما نقول بوجوب العمل بخبر الآحاد، إن توافرت فيه مقومات الصحة من ضبط الرواه وعدالتهم. أرأيت لو أن أحد رجال الحديث أتهم راويا فيما روى، أليس كذلك مضعفا للأخذ به؟ فعمر رضي الله عنه أولى بأن يتوقف في العمل بحديث ما لاستبعاده أو الشك في ضبط راويه.

ومن هذا القبيل رد عائشة لحديث ابن عمر السابق. إذ هي رأت فيه – حسب اجتهادها – معارضة لصريح قوله تعالى:((ولا تزر وازرة وزر أخرى..))32 فقد رجحت الأخذ بصريح القرآن على الخبر المظنون.

والخلاصة أن مثل هذه الأسباب لا يتنافي مع قاعدة العمل بخبر الآحاد، ولا يعد خدشاً لها بحال.

أما ما دون الحديث الصحيح – والحسن في حكمه – فلا يحتج به في الأحكام ولكن يجوز الاحتجاج به في فضائل الأعمال التي استقرت فضيلتها بأدلة ثابتة، بشرط أن لا يكون الضعف شديدا في الحديث، وبشرط أن لا يعتقد راوي الحديث أو المجتمع به صحة ذلك الحديث.

اجتهاد رسول الله وموقعه من السنة

الاجتهاد هو بذل الجهد في سبيل الحصول على شيء ما وهو في اصطلاح علماء الشرعية الإسلامية بذل الجهد في سبيل معرفة حكم عملي لم يتوفر عليه دليل قاطع.

فهل كان للنبى عليه الصلاة والسلام أن يجتهد في بعض الأحيان لمعرفة هذا النوع من الأحكام؟.. أم أنه كان يؤيد بالوحي دائما، فلم تكن ثمة حاجة تدعوه إلى النظر والاجتهاد؟

ذهب أكثر المعتزلة وبعض المتكلمين إلى أنه، صلى الله عليه وسلم، لم يكن له أن يجهد، لأنه كان مؤيدا بالوحى، ولأن المجتهد يعتمد على الظنون، والظن يحتمل الخطأ، والخطأ غير جائز في حق النبي عليه الصلاة والسلام. وربما استدلوا أيضاً بقوله تعالى :((وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى))33.

وذهب كثير من الحنفية إلى أنه لم يكن يجوز له الاجتهاد في أمر ما،إلا بعد أن ينتظر نزول الوحي ببيان حكمه، ثم لا ينزل في ذلك شيء34.

أما الجمهور فقد اتفقت كلمتهم على أنه، صلى الله عليه وسلم، كان يجتهد اذا اقتضى الأمر، إذ هو أولى بالاجتهاد،عند الحاجة، من سائر العلماء الذين توفرت لديهم مقومات الاجتهاد وشروطه، كيف لا وهذه المقومات والشروط متكاملة لديه على أتم وجه !..

أما الدعوى بأن الوحي يغنيه عن الاجتهاد، فذلك صحيح فيما لو ثبت أن الوحي لم يكن ينفك عنه بحال من الأحوال وأنه كان ينجده بالبيان كلما وقعت مشكلة أو طرحت عليه مسألة. ومن المعلوم أن الشابت نقيضه. فكثير ما كان يسأل عن أمور وتمر به أيام كثيرة قبل أن يتلقى وحياً يجيب على ما سئل عنه. وكثيرا ما كان يقع في مشكلات ومحرجات، كحادثة الافك، دون أن ينجده الوحي آنذاك بأي شيء.

وأما قوله عز وجل ((وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى))35.

فإنما المعنىّ به هنا القرآن، وذلك لأن الآية رد على من زعم أن القرآن كلام مفتأت من عند النبي صلى الله عليه وسلم.. ولو سلمت الدلالة فيها على ما زعموا، لاقتضى أن يكون معناها: إنه لا ينطق بشئ من عنده، وإنما هو الوحى دائما. والواقع المتفق عليه يشهد بعكس هذا، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يتكلم في كثير من الأحيان على سجيته وبسائق من طبيعته البشرية وفطرته الإنسانية. ثم إن الواقع أكبر على أنه، عليه الصلاة والسلام، كان يجتهد في كثير من الحالات، فمن ذلك افتداؤه أسرى بدر بالمال… واذنه للمنافقين بالتخلف عنه في غزوة تبوك.. واعراضه عن عبد الله بن أم مكتوم في سبيل مواصلة الحوار مع بعض المشركين من زعماء مكة.. وإنما فعل النبي ذلك كله – كما ورد في الصحيح – دون وحي.. وليس أدل على ذلك من العتاب الذي نزل عليه إثر كل تصرف من هذه التصرفات الثلاثة.

ولسنا الآن بصدد الاطالة في أدلة حجية اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ومناقشة هذه الأدلة وإنما قصدنا أن نبني على هذا الذي دهبت إليه جماهير العلماء السؤال التإلى.

أيمكن أن يتعرض النبي لما يمكن أن يتعرض له سائر المجتهدين من الخطأ في الاجتهاد، أم اجتهاداته كلها تأتي دائما موافقة للحق الثابت في علم الله عز وجل؟

الصحيح أنه إن قلنا بجواز اجتهاده عليه الصلاة والسلام، فلا بد من القول بجواز وقوعه في الخطأ، وذلك لضرورة أن هذا الاحتمال من مستلزمات الاجتهاد. غير أنه مما لا ريب فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يقر على الخطأ، بل لابد أن ينزل الوحي ليرده إلى ما هو الحق الثابت في علم الله عز وجل.

أما قلة من الباحثين، فذهبوا إلى أن الخطأ ممنوع عليه. فهو وإن اجتهد، لا يمكن أن يلم في إجتهاده بأى خطأ، وبذلك قال الإمامان الرازي والبيضاوي. قال الإسنوى في شرحه علي المنهاج للبيضاوى:

(والذي جزم به المصنف من كونه لا يخطئ اجتهاده، قال الامام: إنه الحق. واختار الإمدى وابن الحاجب أنه يجوز عليه الخطأ بشرط أن لا يقر عليه. ونقله الآمدي عن أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث)36.

قلت: وهو الراجح أيضاً عند الحنفية، كما نص على ذلك كل من البزدوي والسرخسي في أصول كل منهما، فقد نص كل منهما على أنه، صلى الله عليه وسلم، إن اجتهد لا يقر على الخطأ.. وهذا يعني أن الخطأ في أول الأمر ممكن، ولكن سرعان ما يعود عنه،بتنبيه الله عز وجل له37 فعلي هذا المعنى لابد أن ينزل قول البزدوى فيما بعد: فاذا كان كذلك، كان اجتهاده ورأيه صوابا بلا شبهة.

هذا، وقد يستعظم بعضهم نسبة الخطأ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، متوهمين أن الخطأ هو الإثم أو النحراف عن الجادة، أو نحو ذلك مما ينافي العصمة الثابتة للأنبياء.

غير أن المقصود بالخطأ هنا، عدم مطابقة اجتهاده لما هو الكمال الثابت في علم الله تعالى ، وهو يتنافي مع عصمته صلى الله عليه وسلم. بل هو مأجور عليه. ثم إن الناس مكلفون باتباعه في ذلك، ما لم ينزل عليه وحي يصرفه إلى حكم آخر، شأنه شأن الحاكم إذا اجتهد. ولعمري كيف تكون الطاعة التي هي مناط أجر ومثوبة من الله وجل من موجبات الاخلال بالعصمة. أم كيف تكون مما لا يليق بمكانته عليه الصلاة والسلام؟

والنتيجة التي ننتهي اليها هي أن أقوال النبي وأعماله الاجتهادية، داخله في سنته، فلها من الحجية ما لعموم سنته صلى الله عليه وسلم، ويجب على الناس العمل بمقتضاها. فان نزل عليه صلى الله عليه وسلم وحي يحوله عن اجتهاده الذي ارتآه إلى غيره، فلابد أن يبلغ أصحابه بذلك، وعلى الناس حينئذ العمل بالجديد الذي وجههم اليه. فهم قي الحالين كليهما يأخذون تعاليمهم من النبي عليه الصلاة والسلام

وهذا يعني أن تصرفات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى الله عز وجل، خاضعة لإمكان التصويب وعدمه، أما بالنسبة للناس فلا تخضع إلا لوصف الصحة، وليس لهم الاقتداء والإتباع.

ولكن قد يرد هنا السؤال التالي:

ما الحكمة في أن يتنكب النبي صلى الله عليه وسلم في اجتهاده عن الحق الثابت في علم الله تعالى ، مع أن الله قادر على أن يلهمه الحق منذ البداية، أفليس ذلك أقرب إلى معنى العصمة، وأليق برفيع مكانته عند الله وعباده، من أن يترك يتخبط في الاجتهاد كأي إنسان آخر، حتى اذا انتهي من اجتهاده إلى قرار وأعلنه في أصحابه، نزل الوحي يرده إلى الحق أو إلى الأكمل؟

والجواب أن أقرب هذين الوجهين دلالة على نبوته، هو أكرمهما في حقه وأليقهما بعصمته، وسبحان من جعل في مظهر كل تصرف من تصرفاته صلى الله عليه وسلم دليلا ناطقا بنبوته.

وانظر.. أرأيت لو أن النبي عليه الصلاة والسلام كلما فكر واجتهد، بعيدا عن الوحي وتعاليمه، هدي إلى الكمال الثابت في علم الله عز وجل، لضاعت معالم نبوته في غمار إلهاماته الصائبة دائما، وذلك في نظر كثير من الناس على أقل تقدير، ولحلل المبطلون نبوته بأنها ليست أكثر من صفائه الفكري وفراسته الصائبة، مستندين إلى أفكاره واجتهاداته التي تأتى كلها في ذروة المطابقة للحكمة والحكم الرباني، ولما ظهر لمعنى الوحي أى وصف متميز.

فكان في جليل حكمة الله تعالى  وتدبيره، أن يقطع وحيه عن المصطفي عليه الصلاة والسلام، في أوقات لعله يكون بأمس الحاجة إلى تلقي الوحي فيها، كي تظهر للناس بشريته، وليتجلي لهم أمانته على الوحي، وأنه ليس في مقدوره، وليس شعورا داخليا يساوره، فلو لم يكن في أدلة نبوته إلا هذا الدليل وحده، لكفي برهانا قاطعا على نبوته وصدقه، وإن المنصف المتأمل ليبصر في مواقفه الاجتهادية هذه، مصداق قول الله تعالى:

((قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله، أفلا تعقلون))38.

ولقد ظل رسول الله يكرر النصيحة لمتبناه زيد بن حارثة، أن ينهي خصومته مع زوجته زينب ويصلح ما بينه وبينها، متكتما على ما أخبره الله به من أن زيداً سيطلق زوجه، وأنه صلى الله عليه وسلم سيؤمر بالزواج منها، تأكيداً لبطلان أحكام التبني وآثاره الجاهلية، حتى نزل عليه قول الله عز وجل:

((وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله، وتخفي في نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه، فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها، لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا، وكان أمر الله مفعولا))39.

فأي دليل ينطق بأن القرآن الكريم كلام الله تعالى ، وأن محمد صلى الله عليه وسلم ليس إلا أمين الله تعالى  لعباده على هذا الكلام، أقوى من هذا الدليل البين القاطع؟

تقول عائشة رضي الله عنها: لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله تعالى  لكتم ((وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشي الناس والله أحق أن تخشاه))40.

نسأله تعالى  أن يشرفنا باتباع سنة حبيبه المصطفي عليه الصلاة والسلام، وأن يختم حياتنا بأحب الأعمال إليه، وأن يجعلنا يوم القيامة من الواردين حوضه، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الهوامش

  1. ذكرنا في كتابنا فقه السيرة هذا التعريف او نحوه، في ختام تحليل مفصل لظاهرة الوحي، مع مناقشة وافية للمذاهب الغربية المختلفة التي أبرزت اهتمام الغربيين بالوحي من حيث هو ظاهرة برزت في حياة محمد عليه الصلاة والسلام…
  2. المائدة: 15 ، 16
  3. آل عمران: 137.
  4. رواه أبو داود والترمذي.
  5. ابن منظور، لسان العرب، مادة (سنن).
  6. الشاطبي، الموافقات: 4/4.
  7. الإمام الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد شاكر، صـ 78 وما بعدها.
  8. النحل: 44
  9. النساء: 80.
  10. الحشر: 7.
  11. النحل: 44.
  12. النحل: 44.
  13. رواه مسلم وغيره.
  14. الغزالي، المستصفي: 1/146. البخاري، كشف الأسرار على أصول البزدوي: 2/370 وما بعدها.
  15. جمع الجوامع، شرح المحلي: 2/66، الطبعة الأميرية.
  16. الآمدي، الأحكام: 1/89 وأبو اسحاق الشيرازي مع شرح الشيخ يحيى بن الشيخ آمان، اللمع: 389 السرخسي، الأصول، 2/86.
  17. الأعراف: 31.
  18. الشاطبي، الموافقات: 2/108 ، 1/161.
  19. الأحزاب: 21.
  20. البناني على جمع الجوامع: 2/66، ط أميرية.
  21. الحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، القرافي، صـ 23 ، 24 ، وكتاب الفروق له أيضاً: 1/205.
  22. أنظر خبر هذه الاتفاقية وتفصيلها في صحيحي البخاري ومسلم.
  23. رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
  24. رواه البخاري ومسلم.
  25. الغزالي، المستصفي: 1/86 ط بولاق. الدكتور عبدالكريم عثمان، نظرية التكليف، صـ 62 ، 77 وما بعدها.
  26. السجدة: 22.
  27. النمل: 14.
  28. ابن الحاجب، شرح المختصر: 2/75، ط بولاق.
  29. الغزالي، المستصفي 1/146 ط بولاق، ويلحق الحديث الحسن بالصحيح في هذا الصدد.
  30. الحشر: 7.
  31. حديث رد عائشة لخبر ابن عمر أخرجه في التيسير عن الستة إلا ابي داود. وأخرجه ابن حجر في تلخيص الحبير بلفظ «ببكاء أهله عليه» وقال هذا حديث متفق عليه.
  32. رواه الشافعي في كتاب  اختلاف الحديث ص 19 ، 20 على هامش الأم ج 7.
  33. فاطر: 18.
  34. النجم: 3.
  35. البزدوي، كشف الأسرار: 3/361 ، 362.
  36. النجم: 3 ، 4.
  37. الأسنوي: السول في شرح المنهاج: 4/357.
  38. السرخسي، الأصول: 2/95 وأصول البزدوي على هامش كشف الأسرار: 3/210.
  39. يونس: 16.
  40. الأحزاب: 37.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر