أبحاث

أزمة المنهج في البحث العلمي

The Dilemma of Method in Scientific Research

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد؛ فإن البحث العلمي هو أساس تقدم المجتمعات والدول، وبقدر ما تحرزه فيه من سبق وجودة بقدر ما تتبوأ مكانتها وتتخذ مكانها بين الدول. وهو أيضًا أحد المعايير المهمة لتصنيف الجامعات، وهو كذلك العمود الفِقَري للأستاذ الجامعي.

وإذا كان البحث العلمي يقوم على أركان ثلاثة هي: الموضوع، والمنهج، والشكل؛ فإن المنهج في الحقيقة هو الميزة الفاصلة بين ما يُعدُّ بحثًا علميًّا وما لا يُعدُّ كذلك.

ومن هنا تأتي أهمية تسليط الضوء على المنهج في البحث الفقهي المعاصر. وفي الحقيقة فإن المنهج في هذا التخصص الدقيق والمهم يمرُّ بأزمة في وقتنا الحاضر، يلمسها كلُّ باحث جاد وكلُّ مهتم برصد الحركة العلمية من المعنيين بها إعدادًا وإشرافًا ومناقشةً وتحكيمًا وتقييمًا ونشرًا.

ومن خلال ما منَّ الله c عليَّ به من التمرُّس بالعمل البحثي لسنوات طويلة تربو على ربع قرن، ونشر ما يزيد عن ثلاثين بحثًا علميًّا ودراسةً متخصصةً، وخبرة متكاثرة بحمد الله في مجال التحكيم العلمي من خلال تحكيم وفحص أكثر من أربعمائة بحث لأكثر من عشرين مجلة علمية، ونحو خمسة عشر مؤتمرًا دوليًّا، وعدد من الجامعات، فضلاً عن عضوية هيئات تحرير ولجان علمية، وفضلًا عن الإشراف والمناقشة لعدد من رسائل الماجستير والدكتوراه- فقد رأيتُ أن أكثر ما يؤخذ على كثير من البحوث الفقهية التي تُقدَّم للحصول على درجات علمية أو للنشر بالمجلات العلمية أو المشاركة بالمؤتمرات الدولية أو للترقية أو للدعم أو لغير ذلك من الأغراض إنما هو خلل في المنهج.

ولذلك فقد أدركتُ أن لدينا أزمة حقيقية في المنهج في البحث الفقهي المعاصر، تحتاج إلى رصد دقيق لمواطن الخلل.

ولذلك كان هذا البحث.

مشكلة البحث وأهدافه:

تتمثل مشكلة البحث في السؤال التالي:

ما هي مواطن الخلل المنهجي في البحث الفقهي المعاصر؟

وبناءً على هذا السؤال الذي يمثل إشكالية البحث يمكن تحديد الأهداف التي يتغياها البحث في هدف رئيس، هو: بيان مواطن الخلل المنهجي في البحث الفقهي المعاصر.

مع هدف آخر فرعي، وهو التعريف بالمنهج، وبالبحث الفقهي.

الدراسات السابقة:

في الحقيقة الكلام عن منهج البحث في الدراسات الفقهية خصوصًا، والدراسات الإسلامية عمومًا حظي بعدد كبير من الدراسات، وكثير منها كان مميَّزًا، وسأسوق فيما يلي أهم تلك الدراسات:

  • كيف تكتب بحثًا أو رسالة؟ «دراسة منهجية لكتابة الأبحاث وإعداد رسائل الماجستير والدكتوراه»، لأستاذنا المرحوم الدكتور/ أحمد شلبي، مطبوع في مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة، الطبعة الأولى سنة 1952م. تحدث فيه عن الرسالة وعناصر نجاحها، ومشكلات ما قبل الكتابة، وكتابة الرسالة وهيئتها، والمناقشة والنتيجة، مع ملخص لعلامات الترقيم.
  • لمحات في المكتبة والبحث والمصادر، للدكتور/ محمد عجاج الخطيب، طبع سنة 1389هـ/ 1969م. تحدث فيه عن المكتبات، وعن البحث وأصوله بجميع مراحله، وأهم المصادر والمراجع في العلوم الإسلامية.
  • كتابة البحث العلمي ومصادر الدراسات الإسلامية، للدكتور/ عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان، مطبوع في دار الشروق بجدة، وكانت طبعته الأولى سنة 1398هـ/ 1978م. تحدث في قسمه الأول عن كتابة البحث العلمي بمراحلها، وفي القسم الثاني عن مدوَّنات الدراسات الإسلامية.
  • منهج البحث في العلوم الإسلامية، لأستاذنا المرحوم الدكتور/ محمد الدسوقي، مطبوع في دار الأوزاعي ببيروت سنة 1404هـ/ 1984م. تحدث فيه عن مناهج البحث العلمي ومراحل إعداده، ثم تحدث عن دعائم منهج البحث في العلوم الإسلامية، ومنهج البحث في التفسير، وفي السنة، وفي أصول الفقه، وفي الفقه، وفي علم الكلام. وهو من الكتب الجيدة والمهمة.
  • أزمة البحث العلمي في العالم العربي، للدكتور/ عبدالفتاح خضر (أستاذ القانون الجنائي والمحامي بالنقض)، بدون ناشر ولا تاريخ، لكن يبدو أنه نشر في تسعينيات القرن الماضي. تحدث فيه عن مشكلة ضعف البحث العلمي بصفة عامة في العالم العربي، وقدم مقترحات لعلاجها.
  • أضواء على البحث والمصادر، للدكتور/ عبدالرحمن عميرة، مطبوع في دار الجيل في بيروت سنة 1406هـ/ 1986م. تحدث فيه عن العلم في الإسلام، والبحوث الجامعية وأنواعها، وخطوات الباحث في البحث، وتحقيق المخطوطات وكيفيته، والمكتبة وتاريخها، والمراجع والمصادر في العلوم الشرعية والعربية.
  • أزمة المنهج في الدراسات الفقهية المعاصرة، لأستاذنا المرحوم الدكتور/ محمد كمال الدين إمام، مطبوع بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي سنة 1989م. قدم فيه عرضًا تاريخيًّا تحليليًّا لأزمة المنهج في الفقه الإسلامي المعاصر التي من مظاهرها استبعاد التشريع الإسلامي عن التطبيق، وابتعاد الفقه الإسلامي عن الحياة، وحاول بيان سبل اجتياز هذه الأزمة مقترحًا مخرجين: الأول: فتح باب الاجتهاد، والثاني: تقنين أحكام الشريعة.
  • البحث الفقهي: طبيعته، خصائصه، أصوله، مصادره، مع المصطلحات الفقهية في المذاهب الأربعة، للدكتور/ إسماعيل سالم عبدالعال، مطبوع في مكتبة الأسدي بمكة المكرمة سنة 1429هـ/ 2008م، وأول طبعة له كانت سنة 1412هـ/ 1991م. تحدث فيه عن الأسس العامة للبحث الجيد من اختيار موضوعه وعنوانه والإعداد له وكتابته، وبيَّن منهج البحث في الفقه من حيث أصوله، ومناهج الفقهاء في ترتيب الموضوعات الفقهية، والمصادر المعتمدة، ثم المصطلحات الفقهية في المذاهب الأربعة. وهو من الكتب المهمة.
  • منهج البحث في الفقه الإسلامي: خصائصه ونقائصه، للدكتور/ عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان، مطبوع بالمكتبة المكية في مكة ودار ابن حزم في بيروت سنة 1416هـ/ 1996م. عرض فيه لخصائص البحث الفقهي وطرق تخريج الأحاديث والاقتباس من المصادر الفقهية، وتكلم عن نقائص البحث الفقهي، وذكر جملة من المبادئ والقواعد العامة، وتحدث عن إعداد خطة البحث الفقهي وأهمية الدراية بالمصطلحات الفقهية وغير ذلك مما هو متصل بذلك. وهو كتاب جيد.
  • مناهج البحث العلمي «دليل الطالب في كتابة الأبحاث والرسائل العلمية»، للدكتور/ عبدالله محمد الشريف، مطبوع في مكتبة الشعاع بالإسكندرية سنة 1996م. عرض فيه لمفهوم البحث العلمي، وخطوات إعداده، واستخدام المكتبات والمراجع في كتابة البحث، ووسائل تجميع المعلومات، والإجراءات الفنية في كتابة الأبحاث.
  • البحث العلمي: حقيقته ومصادره ومادته ومناهجه وكتابته وطباعته ومناقشته، للدكتور/ عبدالعزيز عبدالرحمن الربيعة، طبع سنة 1418هـ/ 1998م. تحدث فيه عن جميع مراحل إعداد البحث العلمي من اختيار عنوانه حتى مناقشته.
  • أصول كتابة البحث العلمي وتحقيق المخطوطات، للدكتور/ يوسف المرعشلي، مطبوع في دار المعرفة في بيروت سنة 1424هـ/ 2003م. تحدث فيه عن كتابة البحث العلمي ومراحله، وتحقيق المخطوطات ومراحله.
  • منهج البحث بين التنظير والتطبيق مع دليل عملي لكتابة البحوث والرسائل العلمية، للدكتور/ حامد طاهر، مطبوع في مكتبة نهضة مصر سنة 2008م. وتناول في أغلب الكتاب علم المنهج قديمًا وحديثًا، ثم عرض فيما لا يتجاوز ثلاثين صفحة لكيفية كتابة البحث العلمي.
  • أسس التوثيق «نحو نظرية عربية في التوثيق»، للدكتور/ عزت السيد أحمد، مطبوع في دار الفكر الفلسفي بدمشق سنة 2011م. تحدث فيه عن أصول التوثيق وضوابطه ومعاييره.
  • منهج البحث في التراث الفقهي «دراسة في كيفية توثيق الآراء الفقهية»، للدكتور/ الناجي لمين، مطبوع في دار الكلمة بمصر سنة 1432هـ/ 2011م. تناول فيه مصادر المذاهب الفقهية الأربعة وبعض اصطلاحاتها.
  • منهج البحث العلمي وكتابة الرسائل العلمية، للدكتور/ موفَّق عبدالقادر، مطبوع بدار التوحيد بالرياض سنة 1432هـ/ 2011م. عرض فيه لأنواع المناهج، ثم تحدث عن جودة البحث وعوامل نجاحه، وخطة البحث، وعناصر تقويمه، وضوابط الرسائل الجامعية.
  • البحث الفقهي ومصادره، للدكتور/ قحطان عبدالرحمن الدوري، مطبوع في مكتبة كتاب- ناشرون في بيروت سنة 2012م. عرض فيه لأهم مصادر البحث الفقهي المطبوعة، وأصول البحث.
  • كتابة البحث العلمي مبادئ ونظرات وتجارب، للدكتور/ عبدالله سليم الرشيد، طبع المؤلف سنة 1442هـ/ 2020م. تحدث فيه عن كيفية كتابة البحث في مراحله المختلفة.

تلك الدراسات كلها عرضت لمنهج البحث العلمي في العلوم الإسلامية، بعضها فصَّل وبعضها أوجز، بعضها خصَّ البحث الفقهي بالبيان وبعضها عمَّم، لكنني في دراستي هذه لا أعرض لمنهج البحث وأسرده سردًا، كتلك الدراسات، إنما أركز دراستي على مواطن الخلل المنهجي، من خلال البحث الفقهي المعاصر الذي ينشر في العقدين الأخيرين؛ محاولًا تسليط الضوء عليها، وتنبيه الباحثين إليها؛ للرقي بالبحث الفقهي المعاصر وتلافي أوجه القصور المنهجي فيه.

خطة البحث:

رأيت أن أتناول أزمة المنهج في البحث الفقهي المعاصر من خلال تقسيم البحث إلى مقدمة وتمهيد وخمسة مباحث، ثم خاتمة بالنتائج، وثَبَتٍ بمراجع البحث يليه فهرس الموضوعات، وذلك على النحو التالي:

المقدمة، بينتُ فيها أهمية الموضوع وأسباب الكتابة فيه، وذكرتُ مشكلة البحث وأهدافه، وعرضتُ لأهم ما وقفتُ عليه من الدراسات السابقة، مبينًا ما تنفرد به دراستي عنها وما تضيفه إليها، ثم ذكرتُ خطةَ البحث، ومنهجَه وإجراءاتِه التي اتبعتُها.

التمهيد: التعريف بالمنهج والبحث الفقهي.

المبحث الأول: مواطن الخلل في أدبيات البحث.

المبحث الثاني: مواطن الخلل في خطة البحث وتقسيماته.

المبحث الثالث: مواطن الخلل في العزو والتوثيق.

المبحث الرابع: مواطن الخلل في رعاية مصطلحات المذاهب.

المبحث الخامس: مواطن الخلل في رعاية قواعد اللغة والإملاء.

الخاتمة.

مراجع البحث.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر