عرض ونقد كتب

قراءة في كتاب “نحو تفعيل مقاصد الشريعة الإسلامية” للدكتور جمال الدين عطية

العدد 163

تمهيد:

قد لا أغالي إن قلت إن الواقع المعاصر يشهد صحوة حقيقية على مستوى الاهتمام بالفكر المقاصدي، حيث أصبح الكل يهرع إلى مقاصد الشريعة، وينهل من مقاصد الشريعة، ويكتب في مقاصد الشريعة، ويوظف مقاصد الشريعة، ويتكلم عن مقاصد الشريعة؛ لما في مقاصد الشريعة من بيان حقيقة الشريعة، وإنما الأمور بمقاصدها، والحقائق بجواهرها، وشرف الوسائل بشرف غاياتها.

ولذلك أصبحت الصحوة المقاصدية في عصرنا واقعا معاشا لا يقبل الجدال، إلى درجة يمكن القول معها إن هذا العصر عصر المقاصد، إذ أصبحنا نعيش زخمًا هائلاً من البحوث والمؤلفات، والمقالات والندوات، والمحاضرات والملتقيات، حول الشريعة ومقاصد الشريعة.

ولا شك أن العلم في أي مجال كيف كان نوعه بغض النظر عن انتمائه الأيديولوجي والابستمولوجي؛ كونه شرعيا أو غير شرعي: أول ما يبدأ؛ يبدأ ضعيفا ثم يصير إلى مرحلة الفتوة والقوة، ثم يؤول إلى مرحلة الضعف والشيخوخة من جديد.

وذلك يكون من خلال كثرة الحشو لمسائل دخيلة غير منخولة، لا تتجانس وطبيعة العلم المبحوث، وما أجمل صنيع الإمام الغزالي حينما سمى أحد كتبه بالمستصفى والآخر بالمنخول، لقد كان – رحمه الله- عبقريا حتى في اختيار عناوين مصنفاته، فكتابه الأول المستصفى يشير إلى أن غيره من الكتب غير مستصفى فاحتاج إلى أن يصفى فكان لأجل ذلك (المستصفى)، وكتابه الثاني وهو المنخول يشير فيه إلى أن غيره مدخول غير منخول فاحتاج إلى نخله من المسائل المحشوة فيه فكان لأجل ذلك (المنخول).

فالمعنى من هذا كله إذن أن هذا التراث المقاصدي هو الآخر يحتاج إلى مستصفى يصفيه ومنخول ينخل عنه المدخول المختلط به من غير جنسه.

ولما كانت عنايتنا بالفكر المقاصدي منذ وقت مبكر ولازلت لحدود الساعة – بحمد الله- حيث نشتغل في موضوع النخل بالذات، وكان أمر تصفية التراث المقاصدي يتطلب أولا الإلمام به إذ لا نقد بغير معرفة، ولا جديد من غير قديم، وهل يعرف الجديد جديدا إلا بعد معرفة القديم؟ كان من أجل ذلك كله اهتمامنا بأعلام الفكر المقاصدي قديما وحديثا.

ولما علمت أن مجلة المسلم المعاصر قد خصصت للدكتور جمال الدين عطية – رحمه الله تعالى- بعدد خاص، لم يقع بين عيني سوى مؤلفه الفريد: (نحو تفعيل مقاصد الشريعة)، فقررت أن أشارك بقراءة علمية في هذا الكتاب أقسمها إلى قسمين:

أحدها: ذاتي حقيقي سميته بالقراءة الوصفية الاستكشافية: وهو الذي يشكل نواة هذه القراءة ولبها وجوهرها، أقدم من خلاله للقراء الكرام تصورًا عامًا عن الكتاب محاولا تلخيص ما ينبغي تلخيصه من أهم القضايا فتكون هذه القراءة في حقيقة الأمر اختصارًا من جهة لمن لم يسبق له أن قرأ الكتاب، ودعوة من جهة أخرى للباحثين في الفكر الإسلامي عمومًا والفكر المقاصدي خصوصا إلى قراءة هذا الكتاب.

وثاني هذين القسمين سميته قراءة نقدية للكتاب: وهو مجرد قسم عرضي لم يأت مني بالذات ولا بالأصالة، وإنما عرض لي بعد قراءة الكتاب، حيث سجلت بعض الجوانب النقدية للكتاب في آخر هذا البحث، وهو أمر محمود قي قراءة الكتب، بل ومطلوب جدًا خاصة ونحن نتحدث عن النخل والتصفية على غرار صنيع الغزالي -رحمه الله-.

مقدمة:

يتعبر كتاب: (نحو تفعيل مقاصد الشريعة) لمؤلفه: الدكتور جمال الدين عطية من أهم وأشهر الكتب المعاصرة في مجال الفكر المقاصدي، وذلك لأهمية موضوع الكتاب وجدته من جهة، وسعة اطلاع باحثه على الفكر والعلوم الإنسانية والقضايا المعاصرة من جهة أخرى.

يقع الكتاب في ثمانية وأربعين ومائتي صفحة، صدَّره وقدَّمه للباحث الدكتور علي جمعة، وخلاصة ما جاء في هذا التصدير تقديم المصّدر نظرة تاريخية موجزة حول المقاصد منذ الجويني وانتهاء بصاحب الكتاب، مشيدًا بالمؤلف، وأهمية الكتاب وجدة موضوعه.

يهدف المؤلف من خلال هذا الكتاب الموسوم بــ: (نحو تفعيل مقاصد الشريعة) إلى وضع أسس تفعيل مقاصد الشريعة بما يتناسب مع مقتضيات العصر، بخاصة وأن هذا العلم قد قطع أشواطًا من حيث التأصيل على الأقل منذ الجويني حتى الشاطبي من المتقدمين، والطاهر بن عاشور حتى يومنا هذا من المعاصرين، لذلك يحاول المؤلف من خلال هذا الكتاب الاعتناء بجانب التفعيل المقاصدي، وإعطائه أهمية خاصة.

وبما أن التفعيل لا يمكن أن يكون في غياب التأصيل، إذ المرحلة التنـزيلية التفعيلية تستلزم استحضار المرحلة التأصيلية، ولا يمكن أن تكون هذه في غياب تلك، فإن الباحث لم يتناول الموضوع من جانب التفعيل فقط، بل جمع بين التأصيل والتفعيل فجاء الموضوع منتظمًا في فصول ثلاث، كان الأول في القضايا المحورية، والثاني في تصور جديد للمقاصد، والثالث في تفعيل المقاصد في الحياة الفقهية. فماذا عن المحور الأول إذن؟

أولا

القراءة الوصفية الاستكشافية

المحور الأول: قضايا محورية:

موضوع هذا الفصل كعنوانه تماما: (قضايا محورية)، والمحور والمحورية في علم الهندسة تعني الخط المستقيم الموصل بين قطبي الدائرة، بمعنى مركزيته وأساسيته، وقد بان إذن أن المؤلف سيتناول من خلال هذا الفصل القضايا الكبرى التي تشغل الفكر المقاصدي، وقد حاول أن يقاربها من خلال مباحث أربعة: فكان الأول في بيان دور العقل والتجربة والفطرة في إثبات المقاصد، والثاني في ترتيب المقاصد، والثالث في ترتيب الوسائل، والرابع في تحديد الوسائل.

المبحث الأول: دور العقل والفطرة والتجربة في إثبات المقاصد:

يشير الباحث في مطلع هذا المبحث إلى أن دور العقل والفطرة والتجربة في إثبات المقاصد مسألة ترجع إلى مبحث طرق الكشف عن المقاصد، وكان الإمام الشاطبي في نهاية كتاب المقاصد أول من طرقها، وبقدر ما يشيد الباحث بما أبدعه الشاطبي في هذا المجال يرى أن البحث المقاصدي تجاهل أهمية العقل ودوره في تقدير المصالح وإثباتها.

 ويعرج الباحث في هذا السياق على ما كتبه ابن سينا في النجاة، والجويني في البرهان، والعز في قواعد الأحكام، وابن تيمية وابن القيم وغيرهم من الأعلام الكبار، وقد نقل عنهم نصوصًا طويلة مفادها أن للعقل والفطرة والتجربة أهمية كبيرة في إدراك المصالح وإثباتها، الأمر الذي تجاهله الكثير من الباحثين في الفكر المقاصدي، وكان الأجرأ على طرق هذا الموضوع وتناوله – يقول المؤلف- هو الدكتور أحمد الريسوني، وربما الطاهر بن عاشور ونور الدين الخادمي وعبد المجيد النجار وغيرهم، من خلال بعض الإشارات والتلميحات، لكن الدكتور أحمد الريسوني بشكل أوضح وأدق.

ورغم أن المؤلف عنون هذا المبحث بأهمية العقل والفطرة والتجربة في إثبات المقاصد، إلا أن حديثه عن العقل في إدراك المقاصد شكَّل أضعاف حديثه عن الفطرة والتجربة، وذلك لأن غرض المؤلف بشكل أساس هو مقاربة إشكالية التحسين والتقبيح العقليين بين الاتجاه الأشعري والمعتزلي في علاقتها بما أسماه بمنطقة الفراغ التشريعي؛ وتناهي النصوص ولا تناهي الوقائع، لذلك يقترح الباحث للتوفيق بين النظرة الأشعرية والمعتزلية، أن تعطى للعقل مساحة أكبر في تقدير المصالح من التي يسمح بها التصور الأشعري، ودون تلك التي يصل إليها العقل المعتزلي، وهكذا يكون المفكر العربي لا يلغي النقل لصالح العقل، مع تقديره قيمة العقل في فهم النقل، وكأنه بذلك قد سلك المنحى الماتوريدي الذي كان وسطًا بين الفكر الأشعري والمعتزلي في إعمال العقل.

المبحث الثاني: ترتيب المقاصد فيما بينها:

من دور العقل والفطرة والتجربة في إثبات المقاصد إلى ترتيب هذه المقاصد، ينتقل بنا الباحث في تسلسل منهجي ومنطقي، فإذا كنا قد استطعنا إثباث المقاصد بطرقها المعروفة عند أهل هذا الفن، وهي ما تحدث عنها أبو اسحق الشاطبي وما أضافه الباحث، أعني العقل والفطرة والتجربة، فيبقى إذن الإشكال المطروح هو كيف نرتب هذه المصالح وما المعيار الضابط في ذلك؟

من أجل حل هذه الإشكالات يحاول الباحث أن يقدم لنا صيغة نهائية لترتيب الضروريات، أو الكليات الخمس، وإشكالية الترتيب هذه تجر الباحث طوعًا أو كرهًا إلى إشكالية الحصر، أهي خمس أم ست؟

وبما أن الباحث -كما أشار في مقدمة البحث- قد أكثر من النقول في هذا الكتاب، الأمر الذي يتطلب منا أن نستقري هذه الأقوال ونجمع الأشباه والنظائر قصد الاختصار، وبإجالة النظر فيما أتى به الباحث في هذا المبحث، نجد أن إشكالية الترتيب في علاقتها بإشكالية الحصر تتمحور حول أعلام ثلاث وهم:

1: الغزالي ويرتبها على الشكل التالي: الدين ثم النفس ثم العقل ثم النسل ثم المال.

2: ابن السبكي ويرتبها: الدين ثم النفس ثم العقل ثم النسل ثم المال والعرض.

 3: الآمدي ويرتبها: الدين ثم النفس ثم النسل ثم العقل ثم المال.

وهؤلاء الأعلام الثلاث يعتبرون أئمة في حصر الضروريات وترتيبها، فأما الغزالي والآمدي فقد اشتهرا بالترتيب، غير أن الآمدي قد قدَّم تعليلاً لترتيبه في تقديم النسل على العقل كون النسل أصل للعقل وليس العكس، وأما الغزالي فقد رتبها ولم يذكر تعليلاً لذلك، الأمر الذي جعل الباحث يطمئن إلى ترتيب الآمدي.

وأما ابن السبكي فقد اشتهر بزيادة العِرض وذكر أنه في مرتبة واحدة مع المال، أي أنه لا يتقدم عليه ولا يتأخر، فهما متساويا المرتبة، وأما باقي الضروريات فهي مرتبة عنده على الشكل الذي ذكرنا.

وجدير بالذكر ههنا أن كل مذاهب الترتيب اتفقوا على تقديم الدين فالنفس، وتأخير المال، وخلافهم إنما كان في النسل والعقل أيهما يقدم؟ وزيادة العِرض أم الاكتفاء بالنسل؟.

وجدير بالذكر أيضًا أن ابن السبكي حينما زاد العِرض، فإنه لا يعني به ذلك المفهوم الذي يرجع إلى النسل ويندرج تحته وإنما يعني به (الكرامة) أو قل: (إنسانية الإنسان)، فيكون بهذا المعنى؛ سب الإنسان نيل من عرضه، وكذا اغتيابه أو الكذب عليه وكذلك قذفه، فإذن العرض بما هو كرامة الإنسان يتضمن جزئيات لا تندرج ضمن كلي النسل.

وهؤلاء هم أعلام الترتيب والحصر وأئمته كما ذكرنا، وأما ما سواهم، فإما أنهم لم يلتزموا ترتيبًا معينًا، كالرازي في المحصول والشاطبي في الموافقات مثلاً من المتقدمين، أو أنهم قلدوا أحد هؤلاء في الترتيب والحصر كالطاهر ابن عاشور ومن جاء بعده من المعاصرين.

من ترتيب المقاصد فيما بينها إلى ترتيب الوسائل؟ وهو المبحث الثالث فماذا عنه؟

ينطلق الباحث أولاً في هذا المبحث مما كتبه الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في مقاصد الشريعة حول ثلاثية الوازع الجبلي والديني والسلطاني في تحقيق المصالح ودرء المفاسد، مركزًا على أن الوازع الجبلي له أهمية كبيرة في تحصيل المنافع ودرء المقابح، وذلك بما أودعه الله في الإنسان من شهوة الأكل والشرب لحفظ النفس، وشهوة الفرج لحفظ النسل، وكل هذا جلبًا، وأما دفعًا فبما أودعه في الإنسان من المخاوف لاتقاء الشرور والمفاسد وعدم الإلقاء باليد إلى التهلكة.

 لكن الباحث يشير إلى أن الوازع الجبلي قد يخرج عن التوسط والاعتدال في تقدير المصالح والمفاسد فيتجاوزه إلى الظلم والشطط وإلحاق الضرر بالنفس أو بالغير، لذلك يتدخل الوازع الديني لرد الأمور إلى نصابها وإقامة الحق والتوسط والعدل وإعطاء كل ذي حق حقه، لكن قد لا ينضبط المكلفون إلى هذا الوازع الديني وهنا لا بد أن يتدخل الوازع السلطاني لإقامة الوازع الديني لتحقيق المصلحة والعدل امتثالاً لمقولة عثمان t: (يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، صدق رضي الله عنه.

ثم ينتقل بنا الباحث إلى مسألة شغلت الفكر المقاصدي، وهي إشكالية تصنيف الضروريات والحاجيات والتحسينات ضمن المقاصد، مؤكدًا على أن هذه المراتب من الوسائل لا من المقاصد، ولعله أول من قلب هذه اليقينيات المسلمات فيما نعلم، وليقين الباحث بما توصل إليه جعل هذا الذي توصل إليه عنوانًا للمطلب الثاني من المبحث الثالث الذي سماه:

مرتبة الضروريات والحاجيات والتحسينات تتعلق بالوسائل لا بالمقاصد:

ويشرح الباحث لنا بأسلوب بسيط وبما هو عند الأصوليين أنفسهم، لماذا كانت هذه المراتب الثلاث من الوسائل دون المقاصد؟ فيقول: الأكل والشرب واللباس مثلاً يعتبره الأصوليون أمرًا ضروريًا، غير أنه ليس مقصدًا في ذاته وإنما هو مجرد وسيلة وأما المقصد فهو حفظ النفس، لكنك ترى أنهم يجعلونه ضروريًا فاتضح أن مرتبة الضروريات من الوسائل لا من المقاصد، وبهذه الطريقة وبنفس المنهجية في التمثيل يتحدث المؤلف على مرتبة الحاجيات والتحسينات، والنتيجة التي انتهى إليها الباحث أن مرتبة الضروريات والحاجيات والتحسينات من الوسائل لا من المقاصد.

ولتأكيد ما توصل إليه الباحث من خلال تاريخ المقاصد يشير إلى أن هذا الاستعمال كان واضحًا عند الأصوليين كالعز بن عبد السلام، إذ كان يستعمل الضروريات بهذا المعنى، أما عند الشاطبي فالأمر أوضح، ولعل تصفحًا سريعًا في الموافقات كفيل ليبين لك هذا الاستعمال في عشرات الأمثلة والنصوص، ومن المعاصرين يشير الباحث إلى أن الدكتور يوسف العالم قد سلك نفس المنهج في تصنيف المراتب الثلاث، أعني الضروريات والحاجيات والتحسينات ضمن الوسائل لا المقاصد.

من ترتيب الوسائل إلى حصرها:

بعد أن بيّن الباحث بالأدلة الكافية الشافية على أن هذه المراتب الثلاث المتقدمة من الوسائل لا من المقاصد، انتقل بنا إلى حصر هذه المراتب على غرار حصر المقاصد، وكما أن موضوع المقاصد أعني (الخمس أو الست)، التي سبق بيانها طرح إشكالية الحصر فكذلك موضوع الوسائل طرح عند الباحث إشكالية الحصر أيضًا، فكان التساؤل على الشكل الآتي:

 هل المراتب ثلاث أم خمس؟ وهو المطلب الثالث فماذا عنه؟

بما أن هذا المطلب جعله الباحث على شكل سؤال: (هل…؟) فطبيعي منهجيًا ومنطقيًا أن الذي يأتي بعد الإشكال هو الفرضية، فكانت على الشكل التالي: المراتب إما ثلاث أو خمس. وهذه الفرضية تنقسم بدورها إلى فرضيتين: الأولى: المراتب خمس، والثانية: المراتب ثلاث، وكل فرضية إذا صحت في ذاتها فإنها تستلزم بطلان الأخرى ضرورة فلا بد من الترجيح.

ولتصحيح أحد الفرضيتين وإبطال الأخرى سلك الباحث في ذلك منهج السبر والتقسيم المعروف عند الأصوليين، الذي يقوم على النفي والإثبات.

من أجل ذلك ينقل الباحث عن الإمام البوطي أنه ذكر أن المراتب خمس لا ثلاث: ويحصرها الإمام في: ( الضرورة والحاجة والمنفعة والزينة والفضول)، ثم بدأ الباحث يسبر هذه الخمس ويقسمها؛ فذكر أن الضرورة والحاجة معروفة عند الأصوليين، وأما المنفعة فيشير الباحث إلى أنها بمعنى الحاجة عند الأصوليين فرجعت إليها، وأما الزينة فهي التحسينات عند الأصوليين، وأما الفضول بمفهوم البوطي بما هو اعتداء وتجاوز في نيل الحظوظ فباطل في شريعتنا، فإذن ينتهي الباحث من خلال النفي والإثبات إلى أن المراتب ثلاث لا خمس، وهي المراتب التي يشير الباحث أن حصرها عند إمام المقاصد الشاطبي -رحمه الله- قطعي، فآل أمر التقسيم الخماسي إذن إلى ثلاثي.

من حصر الوسائل في ثلاث إلى:

 معيار اعتبار حكم معين أو وسيلة معينة في مرتبة الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات وذلك هو المطلب الرابع من هذا المبحث فماذا عنه؟.

إذًا سبق بيان أن المراتب ثلاث لا خمس، وأنها من الوسائل لا من المقاصد، يبقى الإشكال الوارد بعد ذلك هو ما معيار اعتبار الشيء ضروريًا أم حاجيًا أم تحسينيًا؟

من أجل ذلك يقترح الباحث المعيار الشكلي والمعيار الموضوعي أو الجمع بين المعيار الشكلي والموضوعي معًا.

فأما المعيار الشكلي فيعني عند الباحث اعتماد الحكم الشرعي كآلية لتصنيف الضروري والحاجي والتحسيني، فإذا كان أمرًا أو نهيًا مشددًا في طلبه كان واجبًا أو محرمًا ويتعلق الأمر بالضروري، وإن كان أمرًا أو نهيًا غير مشدد في طلبه، كان مندوبًا أو مكروهًا ويتعلق الأمر بالحاجي، وإن كان مباحًا تعلق الأمر بالتحسيني.

وأما المعيار الموضوعي عند الباحث فيعني: النظر إلى درجة وقوة المصلحة والمفسدة المترتبة عن الحكم الشرعي، فإن كان أهمها كان ضروريًا وإن قليل الأهمية فهو تحسيني وبينهم تكمن رتبة الحاجي.

والمعيار الثالث هو الجمع بين الأمرين.

بعد تحديد معنى كل من المعيار الشكلي والموضوعي، يرجع الباحث إلى أئمة المقاصد ليرى على ما كان تعويلهم من المعيارين؟ أعَلَى المعيار الشكلي؟ أم على المعيار الموضوعي؟ أم جمعا بينهما.

يبدأ الباحث في هذا السياق بالعز ابن عبد السلام ملاحظًا من خلال جملة من الاستقراءات أنه تارة يعتمد المعيار الشكلي وتارة يعتمد المعيار الموضوعي وتارة يجمع بينهما.

فتارة يتحدث عن أهمية الواجبات في ترتيب المصالح، فيكون أخذ بالمعيار الشكلي، وتارة يتحدث عن تعظيم الأوامر بناء على عظم مصالحها، وتعظيم المحرمات بناء على عظم كبائرها، فيكون قد أخذ بالمعيار الموضوعي، وتارة أخرى يتحدث عن مصالح الأحكام الواجبة والمندوبة والمباحة، ومفاسد اقتحام الأحكام المكروهة والمحرمة، فيكون قد جمع بين المعيارين.

وإذا كان العز -رحمه الله- حسب رأي الباحث لا يعتمد مجرد الصيغة في بيان هل الحكم يتعلق بالوجوب أم مجرد الندب أو الإباحة بل لا بد من النظر في المصالح والمفاسد المترتبة، بمعنى أهمية المعيار الموضوعي، فإن الشاطبي – يشير الباحث- أنه قد أضاف آلية أخرى يمكن أن تدخل في المعيار الموضوعي وهي التمييز بين ما كان بالقصد الأول وما كان بالقصد الثاني، فما كان بالقصد الأول فلا شك أنه يصنف ضمن الضروريات ولا بد، أما ما كان بالقصد الثاني فينظر هل يلزم من عدمه عدم الضروري فإن كان كذلك ارتقى إلى رتبة الضروري، وإن لم يلزم من عدمه عدم الضروري عُد مكملاً وجعل في مرتبة الحاجي أو التحسيني بحسب أهميته بالنسبة للضروري.

لكن الباحث يشير إلى أن هذه الآلية تؤدي بنا إلى الدور وهو محال عند المناطقة، بمعنى أن الذي نبحث عنه هو معرفة الضروري من الحاجي من التحسيني، فكيف نحاكمه إلى الضروري ونحن لم نعرفه بعد؟ هذا محال، والحقيقة – بحكم احتكاكنا المتواضع مع الموافقات- أن الباحث حاكم الشاطبي في تقسيم المقاصد إلى المعايير التي وضعها هو أعني الباحث.

 في حين إن الشاطبي في سياق الحديث عن المقاصد الأصلية والتابعة، أو الأولى والثانية، لم يقصد إلى بيان معايير اعتبار رتبة الضروري من الحاجي من التحسيني، وإنما قصد بيان معنى المقاصد الأصلية والتابعة، وجاء حديثه عن المعايير بالعرض لا بالذات، ولذلك ينبغي أن نحاكمه بهذا الاعتبار، وإذا لم يتحرر محل النـزاع ارتفعت المناظرة كما يقول المناطقة.

والأقرب إلى الصواب – والله أعلم- أن يقال: إن الشاطبي جازم أن ما كان بالقصد الأول ضروري كقوله تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)(1) لأن الصلاة لا يمكن أن تكون بدون سعي، فهو إذن ضروري قطعًا عند الشاطبي، أما قوله تعالى بعدها: (وَذَرُوا الْبَيْعَ)(2) فهذا الذي اختلف فيه أهو ضروري لأنه لا يتأتى السعي إلا به فيكون في درجة وجوب السعي، أم هو مجرد تكميلي، فيكون حاجيًا أو تحسينيًا، وبناء على اختلافهم في رتبته اختلفوا في البيع والنكاح المنعقد وقت النداء للجمعة.

 وبهذا لا يكون الأمر مؤديًا إلى الدور المحال كما قال الباحث – رحمه الله-، ويكون الشاطبي حقًا قد أضاف آلية جديدة.

أما العلامة الطاهر بن عاشور فيشير الباحث إلى أنه أخذ بالمعيار الموضوعي.

 وينتهي الباحث إلى أن الأسلم والأحكم هو الأخذ بالمعيار الموضوعي حيث لا نص ولا إجماع ولا قياس.

ويختم الباحث هذا المبحث بأمثلة تطبيقية وهي المطلب الخامس وكان مما جاء فيها:

مثال الطهارة: ينتقد الباحث تصنيف الأصوليين كابن الجويني والشاطبي الطهارة وإزالة النجاسة ضمن مجرد التحسينيات التكميليات، دون تمييز بين مطلق الطهارة وتقيدها بالصلاة كالوضوء والاغتسال وكذلك مطلق ستر العورة دون تقييدها بالصلاة.

وقد أجد مع الباحث لمسألة الطهارة تخريجًا للأصوليين كونها في مرتبة التحسينيات إطلاقًا، لكنهم عند تقييدها بالصلاة ربما جعلوها من الضروريات كما تلمح الكثير من نصوصهم في هذا السياق، لكن الذي لم أجد لها تخريجًا ولا جوابًا كافيًا شافيًا، هو تصنيف ستر العورة ضمن التحسينيات، أليس ستر العورة ضروريًا من الضروريات؟ أليس انكشاف العورات مما تأنفه العقول الراجحات وتترتب عليه المفاسد الكبريات؟ أليس ما ينـزل بالأمة اليوم من ويلات ونكسات ونكبات إنما هو بانكشاف العورات تبرجًا وسفورًا؟

ذلك السؤال الذي رجوت لو أن الباحث طرقه بشيء من التحليل والتفصيل فرحمه الله رحمة واسعة على ما أعطى.

المبحث الرابع: نسبية تحديد الوسائل وتسكينها في المراتب بحسب الزمان والمكان والأشخاص:

هذا المبحث في الحقيقة يتداخل كثيرًا مع معايير تحديد كون الشيء ضروريًا أو حاجيًا أو تحسينيًا، فإذا كانت هذه المراتب الثلاث هي الكليات التي ترجع إليها جميع التصنيفات، فإنها لا تكون على وزن واحد في الرتبة الواحدة، فإذا أخذنا الضروري مثلاً، وجدنا له مكملات ومتممات كثيرة تفوق الحصر، ومكمل الضروري حاجي، ومكمل الحاجي تحسيني، ومكمل المكمل مكمل، أي أن التحسيني مكمل للضروري، مما يدل إلى المراتب الثلاث شبكة معقدة جدًا، فاتضحت نسبيتها.

هذا عن المراتب في نفسها.

وأما عن الأحكام المتعلقة بها، فإذا جئنا إلى المباح الذي هو أقل الأحكام درجة وخطورة في ترتيب المصالح والمفاسد، فإننا نجد الباحث ههنا يشير إلى كلام نفيس للشاطبي وهو أن المباح لا يكون مباحًا إلا في ذاته، ولا تتعلق به المصالح والمفاسد إلا من حيث هو مجرد، أما إذا وضعنا المباح في السياقات والقرائن فإن المباح تعتريه أحكام أربعة: فيكون مباحًا بالجزء واجبًا أو مندوبًا بالكل، ومباحًا بالجزء مكروهًا أو محرمًا بالكل، بحسب ما يفضي إليه من المصالح والمفاسد، بمعنى تأثره بالسياق الزماني والمكاني والشخصي، وهذا الذي يريد أن يقوله الباحث من خلال هذا الفصل؛ أعني نسبية هذه الوسائل لتعلقها بمتغيرات ثلاث وهي الزمان والمكان والإنسان.

الأمر الذي ينتهي بالباحث إلى الإقرار بتاريخية حصر الضروريات في مصالح العباد الخمس أو الست، كما تقرر عند الأصوليين القدماء، أي؛ من مجرد حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، إلى الإقرار بالحرية، والحق في التعبير والشغل والمسكن والعلاج واللائحة طويلة عند الباحث.

لذلك يرى الباحث ضرورة تسكين الوسائل على المراتب الثلاث، بمعنى الإبقاء على الضروريات والحاجيات والتحسينيات، كمراتب ثلاث، وسيلات لا غائيات، مع التوسع داخلها في الكليات، فنضيف تحت كل مرتبة قدرًا مهمًا من الكليات، فندرج تحت الضروريات مثلاً كلية الأمن والحرية والكرامة والعدل والحق في المشاركة السياسية والحق في الشغل، إلى ما غير ذلك من الكليات التي تندرج تحت رتب الضروري.

وهكذا نتعامل مع الحاجي والتحسيني، وقد ضرب لذلك مجموعة من الأمثلة كالغذاء والمسكن والعلم، مبينًا أن كل هذه المسائل يلحقها من الوسائل التي تحفظ بها ما هو في مرتبة الضروري وما هو في مرتبة الحاجي وما هو في مرتبة التحسيني.

الفصل الثاني: تصور جديد للمقاصد

بعد أن عرض الباحث مسائل المقاصد ودرسها دراسة تصنيفية نقدية يعرض ههنا في هذا الفصل الثاني إلى تصوره في خصوص الفكر المقاصدي، وقد أغنانا عن وصفه أو البحث له عن لقب، فقد ذكر أنه تصور جديد للمقاصد، وقد تناوله في مباحث ثلاث كان الأول في: حصر الضروريات في خمس، والثاني في: أنواع المقاصد ومراتبها، والثالث في: من الكليات الخمس إلى المجالات الأربع.

فأما المبحث الأول فلما كان شديد الارتباط بالمبحث الثاني من الفصل الأول المتعلق بترتيب الضروريات، فقد سبق تلخيص أهم قضاياه فراجعه هنالك. وقد بان لنا خلال مقارنة هذا المبحث مع ذلك أنه كان جديرًا بالباحث أن يجمع المبحثين في مبحث واحد وذلك لتكرار نفس النصوص من جهة، ولوحدة الموضوع وهو الضروريات أو المقاصد من جهة أخرى.

على أنه مما هو جدير بالذكر أن الجديد الذي أتى به الباحث في خصوص هذا المبحث أنه إذ عرض تصور الأصوليين لحصر المقاصد مبينًا موقفه من ذلك، فإنه نقل إلى جانب ذلك مجموعة من النصوص عن كل من ابن تيمية وابن عاشور حول بعض الكليات والمقاصد العامة التي يمكن أن نتجاوز بها في نظر الباحث مسألة الضروريات الخمس أو الست كما سبق وأن حصرها الأصوليون، إلى ما يسمى بالمقاصد العليا أو الكلية كما سيأتي بيانها، وذلك كمسألة السياسة الشرعية، ومقصد الوحدة، ومقصد صون العقيدة، ومقصد بناء العمران، ومقصد الصلاح الفردي والجماعي، ومقصد المساواة والفطرة والسماحة (…) وكأنه بذلك يمهد للمبحث الثالث الذي وضع له عنوان: من الكليات الخمس إلى المجالات الأربع، واقفًا إلى جانب الكثير من المفكرين المقاصديين المعاصرين كالشيخ محمد الغزالي والدكتور أحمد الخمليشي والدكتور يوسف القرضاوي والدكتور أحمد الريسوني وغيرهم، في ضرورة تجاوز مسألة ضيق حصر الضروريات في خمس أو ست باعتباره اجتهادًا من اجتهادات أبي حامد الغزالي -رحمه الله-، إلى سعة المقاصد العالية. لكن قبل أن نقفز إلى المبحث الثالث ماذا عن المبحث الثاني؟

المبحث الثاني: أنواع المقاصد ومراتبها:

عرض الباحث في هذا المبحث إلى بيان أنواع المقاصد ومراتبها، وقد كان للباحث تقسيمًا خاصًا، إذ لم يعتمد التقسيم الموضوعي للمقاصد، أي باعتبار موضوعها؛ من حيث مصدرها وقوتها في ذاتها، وعمومها وخصوصها إلى غير ذلك، مما هو شهير عند رواد الفكر المقاصدي المعاصر كالدكتور أحمد الريسوني، بل اعتمد تقسيمه الإجمالي فجاءت مقسمة مرتبة عنده على الشكل الآتي:

1: مقاصد الخلق.

2: مقاصد الشريعة العالية.

3: مقاصد الشريعة الكلية.

4: مقاصد الشريعة الخاصة.

5: مقاصد الشريعة الجزئية.

6: مقاصد المكلفين.

ومن خلال رسم توضيحي وجدنا أنه يجعل مقاصد الخلق ومقاصد الشرع أو الشريعة في مرتبة واحدة، ويقسم مقاصد الخلق إلى تقيسمات ثلاث وهي : (المقاصد الأصلية، المقاصد التابعة، مقاصد المكلفين).

ويقسم مقاصد الشرع إلى: المقاصد الكلية أو العامة بتعبير البعض، المقاصد الخاصة، المقاصد الجزئية.

فأما من حيث مقاصد الخلق وهي المطلب الأول في هذا المبحث:

فيميز الباحث مع الشاطبي بين نوعين من المقاصد؛ مقاصد الأمر التكويني ومقاصد الأمر التكليفي، نمثل لذلك بما جاء عنده بما يلي:

فخلق السماوات والأرض والكائنات وتسخير الجبال والمياه كل هذا يدخل في القصد الخلقي، أي إرادة الشارع من الخلق.

وأما القصد التكليفي وهو المراد بالمقاصد إذا أطلقت، وهو قصده من الأوامر والنواهي، بمعنى المصالح والمفاسد.

وقد يجتمع القصد الخلقي مع التكليفي عند الباحث كقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(3) فيكون التعارف قصدًا خلقيًا فطريًا كونيًا في الإنسان، يكون أيضًا قصدًا تكليفيًا مرادًا للشارع بالتشريع، بمعنى أن المكلف مكلف بالتعارف لأنه ضروري لقضاء المصالح والأغراض.

المطلب الثاني: المقاصد العالية للشريعة والمفاهيم التأسيسية:

ويسميها البعض المقاصد العامة، وهي المقاصد المجردة التي تجمع أبوابًا كثيرة، فهي مقاصد أجناس المصالح لا أنواعها أو أفرادها، وهذه المقاصد معروفة مشتهرة عند الأصوليين كما يشير الباحث، وإن كانوا لم يسموها بهذه التسمية لكنها شهيرة عندهم بمعناها، وذلك؛ كمقصد التيسير ورفع الحرج، ومقصد الاستخلاف وإقامة العدل والبر، ولعل القرآن الكريم قد تعرض لبيان هذه المقاصد، إذ بيّن المقصد من بعثة الرسل وإنـزال الكتب، كالتوحيد وعمارة الأرض، وإقامة العدل، وتنـزيل الرحمة، والتربية والتـزكية، وغيرها من المقاصد.

ويشير الباحث إلى أن العلامة الطاهر بن عاشور من المعاصرين قد اهتم ببيان هذا النوع من أنواع المقاصد مبينًا أنه لا يختص بمجال دون مجال، ولذلك كان عامًا ومنه كان حديثه عن سماحة الشريعة وعدلها، وعن مصالح الفرد والمجتمع وغير ذلك مما تحدث عنه في كتاب المقاصد.

ثم يعرض الباحث تصوره الجديد لمفهوم المقاصد العالية فيرى أن المقاصد العالية تتمثل في تحقيق عبادة الله والاستخلاف في أرضه، من خلال الإيمان ومقتضياته، والعمل الصالح المحقق لسعادة الدارين.

وفي نقطة أخيرة يشير الباحث إلى أن هذه المقاصد العالية لما كانت بهذا المستوى من التجريد توشك أن تختلط بالقواعد، ويشيد في هذا السياق بمحاولتين ناجحتين لاستخراج قواعد المقاصد إحداهما للدكتور أحمد الريسوني من خلال الموافقات والاعتصام، والثانية للدكتور إسماعيل الحسني من خلال كتاب مقاصد الشريعة عند الطاهر ابن عاشور. ونضيف ههنا ثالثًا ربما لم يقف عليه الباحث أو لم يصل إلى يده وهو يؤلف هذا الكتاب، وهو قواعد المقاصد عند الشاطبي للدكتور نجيب الكيلاني، وهو كتاب مخصص بأكمله لاستخراج قواعد المقاصد ودراستها.

ويقدم الباحث في هذا السياق جملة من المقاصد العامة عند كل من الشاطبي والطاهر بن عاشور، بالنسبة للإمام نذكر مثلاً: وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل، المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، الضروري أصل للحاجي والتحسيني إلى غير ذلك.

وبالنسبة للعلامة نذكر: حكم الشريعة وعللها راجع إلى الصلاح العام للأفراد والمجتمع، انبناء المقاصد على الفطرة، السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدهما، ونكتفي بهذا القدر ففيه كفاية.

من المقاصد العالية إلى المقاصد الكلية وهو المطلب الثالث:

بعد أن أبان الباحث عن معنى المقاصد العالية ينتقل بنا إلى المقاصد الكلية، والمقاصد الكلية عند الباحث هي الضروريات الخمس أو الست على اختلاف في حصرها كما مر، وهي بهذا -يقول الباحث- هي أكثر انضباطًا وأقل تجريدًا من المقاصد العالية.

ولا شك أن بحث هذه المقاصد يثير الكثير من الإشكالات التي سبق للباحث أن ناقشها، في مباحث سبقت.

إلى جانب ما ذكر الباحث في ثنايا هذا الكتاب يشير إلى مسائل أخرى يضيفها إلى ما سبق، وهي المقاصد الأصلية والتابعة، والمقاصد والوسائل،ومراتب الضروري والحاجي والتحسيني، والمقاصد الكلية والقواعد، والمقاصد الكلية والقوانين.

فأما المقاصد الأصلية فهي المقاصد الأولى للحكم أو التي تأتي في الدرجة الأولى، وأما المقاصد التابعة فهي المقاصد التي تأتي في المرتبة الثانية، ومثال ذلك النكاح فإنه مشروع للتناسل بالقصد الأول، ويليه الاستمتاع بجمال المرأة ومالها وحسبها، وكل هذه المقاصد تابعة.

وجدير بالذكر أن الباحث في خصوص المقاصد الأصلية والتابعة مدين للشاطبي، إذ هو أول من تحدث عن هذه الأقسام وبسط القول فيها في كتاب المقاصد من الموافقات، وأحسب أن هذه الإشارات والتلميحات كافيات لأنتقل بعد هذا للمقاصد والوسائل، فماذا عنها؟

فأما المقاصد فهي التي تكون مصالح في ذاتها، وأما الوسائل فهي التي تفضي إلى المقاصد. ويشير الباحث في هذا السياق إلى أن الوسيلة لا يمكن أن تتحول إلى مقصد في ذاتها، كالأكل مثلا وسيلة لإقامة النفس، ولا يمكن أن يكون الأكل مقصدًا في ذاته.

إلى جانب هذا يمكن في نظر الباحث أن تتسلسل الوسائل للوصول إلى المقصد الأعظم، وذلك كتعليم الأحكام فإنه وسيلة لمعرفتها للالتزام بها، لتحصيل الطاعات لنيل الثواب وهو المقصد الأعظم.

وأما فيما يخص التمييز بين المقاصد والقواعد والقوانين، فيميز بينهم الباحث باختصار كون القواعد لها تعلق بالأحكام، وأما المقاصد فلها تعلق بحِكَم وغايات تلك الأحكام، فهما كالوسيلة مع المقصد. وقد يمكن أن يجتمع في الأمر الواحد كونه قاعدة ومقصدًا في الوقت نفسه، وذلك كرفع الحرج مثلاً مقصد باعتباره غاية، وقاعدة لأن عليه تقوم الكثير من الأحكام الفقهية كرفع المشاق، وإثبات الرخص.

وفيما يخص الفرق بين المقاصد والقوانين فلم يطل الباحث كثير كلام في خصوص هذه النقطة، وإنما أشار إلى أن هذا الأمر لازال في حاجة إلى مزيد من البحث والدراسة.

من المقاصد الكلية إلى المقاصد الخاصة وهو المطلب الرابع:

تعني المقاصد الخاصة عند الباحث المقاصد التي تكون خاصة بباب معين من أبواب الشريعة، ولعل هذا القسم -كما يذكر الباحث- قد لقي عناية واهتمامًا مبكرًا من قبل الأعلام الذين اهتموا بهذا النوع من المقاصد، ويذكر الباحث في هذا السياق، الحكيم الترمذي في القرن الثالث من خلال كتابه الصلاة ومقاصدها وأسرار الحج، وكذلك الغزالي خاصة في الإحياء حيث إنه مليئ بالأسرار المتعلقة بأبواب الشريعة عبادات ومعاملات، وقد ذكر الباحث للإمام الغزالي حول النكاح باعتباره بابًا من أبواب الشريعة جملة من الأسرار والحكم، ومما جاء عنه نذكر على سبيل المثال أن من أسرار النكاح: موافقة محبة الله بتحصيل الولد، وطلب محبة رسول الله rفي التكثير من مباهاته، والتحصن من الشيطان، وترويح النفس، إلى غير ذلك من المقاصد، ثم بيَّن الباحث عناية العلماء بهذا الجانب ونقل نصوصًا كثيرة، ولا فائدة من التطويل إذا اتضح المعنى.

ثم عرض الباحث بعد ذلك للمقاصد الجزئية في مطلب خامس مختصر:

ويقصد بها الحكم المقصودة من النصوص الجزئية، ولعل الباحث ههنا كان مدينًا للأستاذ علال الفاسي حيث إنه اهتم بهذا النوع أيما اهتمام حتى إن تعريفه جاء على وفقه، لكن الغريب أنه لم يذكره حتى بإشارة في الهامش، وإنما اكتفى بالإحالة في هذا السياق على كتاب الإحياء للغزالي، وحجة الله البالغة لولي الله الدهلوي، ونظرية المقاصد عند الطاهر بن عاشور لإسماعيل الحسني، وعلل الشرائع للشيخ الشيعي الجعفري الصدوق ابن بابويه.

وأما مقاصد المكلفين فقد ختم بها في مطلب خامس وباختصار أكثر:

حيث ابتدأه بتعريف المصلحة عند الإمام الغزالي، كونها تعود على المكلف لأن الله غني عن المصالح والمنافع، ويرى الباحث أن هذا التعريف هو الأصل والمنطلق الذي بنى عليه الشاطبي ما كتب في مقاصد المكلف.

المبحث الثالث: من الكليات الخمس إلى المجالات الأربعة:

يعرض الباحث في هذا المبحث تصورًا جديدًا للمقاصد، وذلك من خلال انتقاله من الكليات الخمس إلى أربعة وعشرين مقصدًا موزعة على أربعة مجالات، وهي مجال الفرد ومجال الأسرة، ومجال الأمة، ومجال الإنسانية.

وقبل أن يعرض الباحث هذا التصور، يقف أولاً مع مصطلح النسل، ذلك لأن هذا المصطلح شغل أهمية كبيرة في الفكر المقاصدي نظرًا لتطوره وتداخله مع الكثير من المفاهيم والمصلحات إما ترادفًا أو تباينًا، مثل مصطلح النسب والبضع والعِرض، مشيرًا إلى اختلاف الأصوليين في استعمال هذه المصطلحات، الأمر الذي يطرح التساؤل الآتي: هل اختلاف الأصوليين في استعمال هذه المصطلحات يرجع إلى مجرد خلاف لفظي أم إلى خلاف اصطلاحي معنوي؟، فبينما نجد الغزالي يعبر بالنسل فإن الرازي قد تابع البيضاوي في التعبير بالنسب، وعبَّر كل من القرافي والطوفي وابن السبكي والشوكاني وغيرهم بالعِرض، الأمر الذي يخرج هذه المصطلحات من نطاق الترادف للنسل إلى نطاق التباين، ونكون بالتالي أمام كلي سادس هو العِرض كما اصطلح عليه البعض كابن السبكي مثلاً.

وللخروج من هذا الإشكال فإن العلامة الطاهر بن عاشور يقترح جعل العِرض في مرتبة الحاجيات مع إبقاء النسل على مرتبة الضروريات فيرتفع الإشكال، وقد تابعه على ذلك الدكتور أحمد الريسوني، لكن الباحث لرفع هذا الإشكال يقترح أمرًا آخر وهو الخروج من ضيق الكليات الخمس أو الست إلى سعة المجالات الأربع فماذا عنها إذًا؟

المجال الأول: مقاصد الشريعة فيما يخص الفرد:

وملخص هذا المجال هو بيان كيف تُحفظ للفرد مقاصده، وقد بيّن الباحث أن مقاصد الفرد لا تحفظ إلا بأمور خمس مرتبة بحسبه على الشكل التالي:

1: حفظ نفس الفرد.

2: حفظ عقل الفرد.

3: حفظ تدين الفرد مميزا في هذا السياق بين الدين والتدين.

4: حفظ عِرض الفرد.

5: حفظ مال الفرد.

وأما فيما يخص مقاصد الشريعة في مجال الأسرة، فقد رأى أن هذه المقاصد لا تتأتى إلا بجملة من المقاصد مرتبة على الشكل التالي:

1: تنظيم العلاقة بين الجنسين عن طريق سن الزواج والتعدد والطلاق إذا اقتضى الأمر ذلك.

2: حفظ النسل (النوع) عن طريق الترغيب في الزواج، وتحريم اللواط والاختصاء، وغير ذلك من المحرمات التي تسهم في إنهاء النوع البشري.

3: تحقيق السكن والمودة والرحمة.

4: حفظ النسب: وهو في هذا سياق غير حفظ النسل، إذ قد يكون النسل محفوظًا لكن النسب غير محفوظ بأن يكون ابن زنا مثلاً، ولذلك حرّم الشارع في هذا السياق الزنا والتبني، ووضع الأحكام الخاصة بالعدة.

5: حفظ التدين في الأسرة.

6: تنظيم الجانب المؤسسي للأسرة من خلال حقوق وواجبات متبادلة.

7: تنظيم الجانب المالي للأسرة.

وأما فيما يخص مقاصد الشريعة فيما يخص الأمة، فيرى أنها تحفظ من خلال مقاصد مرتبة على النحو الآتي:

1: التنظيم المؤسسي للأمة: عن طريق فرض قوانين مستقاة من قواعد الشريعة وأحكامها.

2: إقامة العدل.

3: حفظ الدين والأخلاق.

4: التعاون والتضامن والتكافل.

5: نشر العلم وحفظ عقل الأمة.

6: عمارة الأرض وحفظ ثروة الأمة.

وأما فيما يخص المجال الأخير المتعلق بمقاصد الشريعة فيما يخص الإنسانية، فيرى أنه يحفظ من خلال المقاصد التالية:

1: التعارف والتعاون والتكامل.

2: تحقيق الخلافة العامة للإنسان في الأرض.

3: تحقيق السلام العالمي القائم على العدل.

4: الحماية الدولية لحقوق الإنسان

5: نشر دعوة الإسلام.

الفصل الثالث: تفعيل المقاصد

لعل هذا الفصل عند الباحث هو أساس الموضوع، وهو غايته وزبدته وقد ضمنه في خمسة مباحث: كان الأول في الصورة الحالية لاستخدامات المقاصد، والثاني في الاجتهاد المقاصدي، والثالث في التنظير الفقهي، والرابع في العقلية المقاصدية للفرد والجماعة والأخير في مستقبل المقاصد.

المبحث الأول: الصورة الحالية لاستخدامات المقاصد

وقد بيّن -رحمه الله تعالى- من خلال هذا المبحث فوائد التأليف في المقاصد الشرعية خاصة منها الجزئية أو ما يعرف بعلل الشرائع والأحكام، فبيَّن أن من جملة هذه الفوائد ما يلي:

1: بيان كمال الشريعة الإسلامية.

2: الاطمئنان على الإيمان.

3: أن يعرف المؤمن مشروعية ما يعمل.

4: ردع المشككين خصوصًا في باب الغيبيات ببيان الحكم والغايات.

5: بيان موافقة الأحاديث الصحيحة للمصالح الشرعية.

6: الترجيح بالمقاصد عند تعارض الأدلة.

7: منع التحايل على الدين باسم المصالح المتوهمة بإثبات المصالح الشرعية الحقيقية المعتبرة.

8: فتح الذرائع لجلب المصالح وسدها لدرء المفاسد.

9: أخذ النصوص والأحكام مع مقاصدهما فإنه أدعى لقبولهما.

10: الجمع بين الكليات العامة والأدلة الخاصة، إذ كل جزئي صحيح في ذاته يندرج تحت كلي معين.

11: النظر إلى المآلات، واستشراف المصالح والغايات قبل الجواب عن السؤالات وذلك في باب الاجتهاد.

12: التوسع والتجديد في باب الوسائل مادامت العبرة بالمقاصد دون الخروج عن حدود الشرع طبعًا.

13: التقريب بين المذاهب وإزالة الخلاف وذلك لما هي عليه هذه المقاصد من القطع القاطع لأوجه الخلاف.

المبحث الثاني: الاجتهاد المقاصدي:

الاجتهاد المقاصدي بحسب الباحث من حيث التنظير عبارة عن توظيف المقاصد الشرعية بما هو علم مستقل أو على الأقل مبحث مستقل داخل علم المقاصد في العملية الاجتهادية.

هذا على مستوى التعريف النظري للاجتهاد المقاصدي، والباحث هنا مدين لكل من الدكتور نور الدين الخادمي والدكتور أحمد الريسوني، وبقدر ما يشيد بهما في هذا المجال تجده مستشكلاً حقيقة الاجتهاد المقاصدي في مجال الإعمال.

فإذا كان الاجتهاد المقاصدي على مستوى التنظير هو إعمال المقاصد، فإننا أثناء التنـزيل لا نتلمس هذا المفهوم، وغاية ما نرى في واقع الأمر نماذج وأمثلة من الاستصلاح والاستحسان والذرائع وغير ذلك من الأصول، فإذن آل أمر الاجتهاد المقاصدي إلى الاجتهاد الأصولي.

فالحاصل أن الذي يريد أن يخلص إليه الباحث أن القول بوجود الاجتهاد المقاصدي في غاية الصعوبة، لعدم توافق ثنائية التنظير والتنـزيل، فالمفهوم شيء والأمثلة التطبيقية شيء آخر، لذلك يقترح الباحث بعض الأمثلة لتوافق التعريف مع التمثيل، أو التنظير مع التنـزيل، فيقترح المثال التالي:

فبدل أن نقول بقياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار، ونكون نتحدث بذلك عن اجتهاد قياسي أصولي محض، نقول: ثبت بالقطع أن المحافظة على العقل مقصد ضروري، ولذلك فإن إلحاق الضرر بهذا المقصد محرم أيًا كان نوع هذا الضرر سواء بالسكر أو بغيره، فيكون ضرب الإنسان على رأسه بما يفسد عقله محرمًا أيضًا، وعلى العموم يكون كل ما أدى إلى هدم هذا المقصد محرمًا.

وبهذا التمثيل يكون المؤلف قد قارب ما بين المفهوم والتمثيل، ويكون بذلك قد أعطى المنهج الأقوم لما ينبغي أن يكون عليه الاجتهاد المقاصدي، بحيث أن هذا المثال بما فيه من إبداع موجِه لدراسة بأكملها.

ويخلص الباحث أن الاجتهاد المقاصدي، بالصورة التي عرضها والتي يتحدث بها كل من الدكتور أحمد الريسوني ونور الدين الخادمي، لا يمكن أن يطلق عليها اسم اجتهاد مقاصدي، فما هي في الحقيقة إلا مصالح المرسلة، مشيرًا إلى أن البحث في هذا الموضوع يفتقد الآليات الجادة لاستخدام المقاصد في العملية الاجتهادية معترفًا في الآن نفسه أنه خطوة على الطريق على أية حال.

المبحث الثالث: التنظير الفقهي:

يشير الباحث في مطلع هذا المبحث إلى الإرهاصات الأولى لمسألة التنظير الفقهي، مؤكدا أن النظرية الفقهية تطورت هي الأخرى مع غيرها من النظريات، كالنظرية الأخلاقية مع الشيخ عبد الله دراز، والنظرية الجنائية لدى عبد القادر عودة، والنظرية الحقوقية مع عبد الرزاق السنهوري، والنظرية الاقتصادية مع محمد باقر الصدر، إلى النظرية الفقهية التي كانت إرهاصاتها الأولى مع إسماعيل الفاروقي من خلال أسلمة العلوم وحسن الترابي في تجديد أصول الفقه، ثم عبد المجيد النجار في فقه التدين.

فماذا تعني النظرية الفقهية عند الباحث إذن:

النظرية الفقهية: هي التصور المجرد الجامع للقواعد العامة الضابطة للأحكام الفرعية والجزئية.

وبناء على هذا المفهوم الذي قدمه الباحث للنظرية الفقهية فإنه يرى أن مظان البحث عن النظريات الفقهية لا تقتصر فقط على كتب الفقه، بل لا بد من البحث عنها في كتب أصول الفقه والكلام والفلسفة والسياسة الشرعية والأحكام السلطانية والحسبة والفروق والأشباه والنظائر وتخريج الفروع على الأصول ومقاصد الشريعة واختلاف الفقهاء وغير ذلك.

ولاجتناب أي لبس بين النظرية الفقهية والقاعدة الفقهية والنظام الفقهي، ينقل لنا الباحث تمييز سعيد رحيمان بين هذا الثلاثي، حيث جعل القاعدة بمعنى الحكم الكلي، والنظرية مجموعة الأحكام الناظمة للموضوع الواحد، والنظام الفقهي هيكل يتألف من مجموعة من الأحكام منتظمة في أبواب معينة بحسب المجال الذي تنتمي إليه.

وبهذا التسلسل مفهومًا وبناءً، فإن أول ما يمكن أن يصل إليه الفقيه من حيث التجريد هو القاعدة الفقهية لأنها مجرد حكم كلي واحد، ثم نظم الحكم إلى الحكم فتأليف النظرية، ثم جمع هذه المجموعات للأحكام فتأليف الهيكل الفقهي، هذا الهيكل إذا استطعنا أن نصل إليه فهو الكفيل في بيان روح الشريعة ومقاصدها عند الباحث، ومن ثم جاء بحث الباحث في النظرية الفقهية بما هي موصلة لبيان مقاصد الشريعة وأسرارها.

ولانبناء النظرية على القاعدة -كما أشرنا- يتعرض الباحث لبيان معنى القاعدة كونها تحتل مرتبة وسطى بين الفرع الفقهي والأصل الكلي، فالكتاب مثلاً هو أصل كلي، وحكم الصلاة الذي ورد في الكتاب الوجوب عبارة عن حكم فقهي، والواسطة بين الأصل والفرع هي القاعدة وهي كون الصلاة مأمور بها، وكل أمر يفيد الوجوب.

وفي نقطة ثانية تتعلق بمسألة التنظير يخصص الباحث فقرة لبيان منهج الشيخ محمد باقر الصدر الشيعي في مجال التنظير، ومركز ما جاء به الباحث في هذا السياق بيان أهمية التفسير الواقعي الموضوعي، قوامه أن يأتي المفسر بالمواضيع والإشكالات والمساءلات ثم يطرحها على القرآن وهو يجيب فيبدع نوعًا من التواصل مع القرآن.

فالفقر والشغل مثلاً باعتبارهما موضوعان اجتماعيان شغلا اهتمام الكثير من الباحثين والمصلحين والمناضلين والحقوقيين والسياسيين، بناء على التفسير الموضوعي الذي يقدمه الإمام فإن المفسر ههنا يعرض نازلته وهي الفقر أو الشغل على القرآن ثم يستقرئ الآي استقراءً تامًا مستعينًا بكتب التفسير في بيان ما استشكل من معاني الآي، ثم يسجل بعد ذلك الباحث كل ما قدم الله تعالى في القرآن الكريم حول الموضوع من أسباب ومظاهر وحلول، وهكذا تدرس جميع المواضيع بنفس المنهج والطريقة.

هذا على مستوى التفسير، وأما فيما يخص الأحكام فإن الباحث يرى أن منهج الإمام يقوم على استقراء أحكام الموضوع المدروس قصد بناء حكم كلي يعين على تأسيس النظرية.

وفي نقطة ثالثة يعرض الباحث لمسألة أسلمة العلوم الإنسانية عند الفاروقي:

من خلال هذه الفقرة تناول الباحث الجوانب المتممة لما أسس له الإمام محمد باقر الصدر في النظرية الموضوعية، فإذا كان الأول قد دعا إلى تفسير موضوعي تواصلي مع القرآن أو استقراء أحكام موضوعية بناء على النظرية العامة، فإن الفاروقي في نظر الباحث ركَّز على أسلمة العلوم في الواقع المعاصر، وذلك لما بات من الواضح من أهمية العلوم الإنسانية ومركزيتها في الفكر الإسلامي، ولذلك فإن الأسلمة عند الفاروقي تقوم على الإحاطة الشمولية بالعلوم الإنسانية ثم إخضاعها للنظرة الإسلامية ثم القيام بنقدها عن طريق إخراج ما لا دخل له في الموضوع المدروس، وفي هذه النقطة يلتقي الفاروقي مع الصدر وهي الوحدة الموضوعية في أسلمة العلوم.

وفي نقطة رابعة يقدم الباحث رؤيته المنهجية التنظيرية مقترحًا ضرورة إعادة كتابة التراث على النحو الآتي:

1: استقراء المقاصد الشرعية.

2: الإلمام بالعلوم الحديثة إنسانية كانت أو غير إنسانية.

3: التزام الوحدة الموضوعية بحيث تصنف المقاصد بحسب الموضوع مع تأسيس نظريات مقاصدية عامة.

وفي نقطة خامسة:مختصرة يشير الباحث إلى علاقة النظريات بالعلوم الشرعية مبينًا أنها علاقة تكامل من جهة وتداخل من جهة أخرى.

وفي نقطة سادسة:يعرض الباحث لبيان انطباعاته حول سمات الكتابات المعاصرة في النظريات لخصها في أمور أربع:

1: التحديث عن طريق اختيار موضوع من الحياة المعاشة المعاصرة ومحاولة معرفة وجهة نظر الإسلام فيها.

 2: المقارنة من خلال بيان آراء العلماء في خصوص الموضوع قديمًا وحديثًا، سواء تعلق الأمر بعلماء متخصصين أم غير متخصصين، لأن الغرض هو المقارنة وليس الانتقاء.

 3: التنظير: وذلك ببيان التعريفات والشروط والأركان وغير ذلك.

4: التطوير: وفي خصوص مسألة التطوير يرى الباحث أنها لم تحظ بالعناية التي حظيت بها الأمور الثلاث الأول، وفي هذا السياق يشيد الباحث بعمل العلامة الطاهر بن عاشور في مقاصد الشريعة الإسلامية، معتبرًا إياه نقلة نوعية تطويرية لعلم المقاصد الشرعية خصوصًا بعد العز والشاطبي، ولمثل ذلك فليتنافس المتنافسون كذا يشير الباحث.

وفي نقطة سابعة وأخيرة:يعرض الباحث نظرته المستقبلية حيث يرى أن الدراسات المعاصرة تسير حثيثًا لتبين حكم الإسلام في كافة جوانب الحياة المعاصرة، بنيانًا مؤسسًا على نظريات خاصة بكل فرع من فروع المعرفة التي تهتم بهذه الجوانب وذلك من خلال خطوات خمس:

1: المسح: ويعني بذلك أنه ينبغي لهذه الدراسات المعاصرة أن لا تغلب جانبًا على جانب، حيث بات من الملحوظ أن جانب المعاملات المالية في الدراسات المعاصرة حظي باهتمام كبير جدًا، بينما الجانب السياسي والعلوم السياسية لازال يفتقر إلى هذا النوع من الاهتمام(4)، فالمسح عند الباحث إذن يعني تغطية جميع جوانب العصر بالبحث وهذا الذي دعى إليه ونبه عليه أمر حسن جدًا.

2: التقييم: في مسألة التقييم يشير الباحث إلى ضرورة تقييم المنتجات والمؤلفات، قصد استكشاف الصالح منها من غير الصالح.

3: التأليف الجامعي: ويقوم على تأليف كتاب يهتم بفرع معين من فروع الشريعة جامعة لكل مذاهب والآراء مرجحًا بينها .

4: الأعمال المساعدة: وذلك مثل العمل على تحقيق بعض الكتب ونشرها وإنجاز بعض الموسوعات المعجمية والمفهرسة، واستقراء القواعد وحصرها إلى غير ذلك من الأعمال المساعدة المفيدة.

5: التقنين: وهي مرحلة تأتي بعد التقييم، والتقنين بحسب الباحث يقوم على ثلاث مرتكزات أولها النـزول إلى الواقع بقصد معرفة متطلباته وحاجاته العملية، ثم تأتي مرحلة اختيار الأحكام المناسبة لهذا الواقع، ثم أخيرا صياغة هذه الأحكام في صورة قوانين قابلة للتطبيق والتنـزيل على الواقع.

المبحث الرابع: العقلية المقاصدية للفرد والجماعة:

بعد أن أبان الباحث المقاصدي -في مباحث سالفة- أهمية المقاصد في الجانب الفقهي من حيث التنظير والتجديد والاجتهاد، يوجه الأنظار إلى مسألة أخرى من الاستثمار المقاصدي وذلك فيما يتعلق بالفرد والجماعة من حيث العقلية المفكرة، فماذا عن خصوص هذه المسألة؟

فيما يخص النقطة المتعلقة بالعقلية الفردية يعرج الباحث على كلام كل من الدكتور إسماعيل الحسني، والدكتور عمر عبيد حسنة، والدكتور أحمد الريسوني، وخلاصة ما نقل عن هؤلاء أن المقاصد الكلية منها دون الحِكَم الجزئية ينبغي أن تكون المرشد الموجه للعملية الفكرية، وذلك من خلال استشراف المآل عن طريق فقه الواقع، فالمقاصد إذن تقوي الأنظار وتسدد الأفكار.

وأما فيما يتعلق بالعقلية المقاصدية لدى الجماعة فقد جعل الباحث ههنا كلامه متمحورًا حول مسألة السياسة الشرعية باعتبارها ضرورة اجتماعية وحضارية، ولا يمكنها أن تنضبط إلا بالمقاصد الشرعية، ولعل الجهل بمقاصد الشريعة في خصوص السياسة الشرعية في نظر الباحث يكون أكبر جريمة في حق المجتمع، إذ بها قيام حياة الأمة فردًا وجماعة، ومن ههنا وبالاهتداء بمقاصد الشريعة ذاتها أجمعت الأمة على ضرورة تنصيب الإمام.

المبحث الخامس: مستقبل المقاصد، علم مستقل أم وسيط تطوير للأصول؟

لعل هذا الموضوع قد شغل الساحة الفكرية للباحثين في المقاصد الشرعية، ولازال الباحثون يكتبون فيه لحدود الساعة، وكان آخر ما كتب في هذا الباب القواعد الأساس لعلم المقاصد للدكتور أحمد الريسوني بيّن فيه استقلالية علم المقاصد استقلالية تامة.

نرجع إلى الباحث لنرى وجهة أخرى من النظر، وقبل أن يقدم لنا الباحث وجهته الخاصة في خصوص المسألة عرج كعادته المنهجية في هذا الكتاب على تاريخ نشأة القول باستقلالية المقاصد، مشيرًا في هذا السياق إلى أن العلامة الطاهر بن عاشور أول من طرق هذا الموضوع داعيًا إلى تأسيس علم قطعي يحمل اسم علم (مقاصد الشريعة)، ومتجاوزًا بذلك علم الأصول لأنه لا يحقق القطع المنشود.

ثم توالت الكتابات من بعده بين مؤيد ويمثل لذلك بالدكتور أحمد الريسوني، ودارس ابن عاشور والدكتور إسماعيل الحسني، ومعارض كالدكتور نور الدين الخادمي، وبين من جاء وسطًا، كالشيخ عبد الله دراز الذي دعا إلى أن تكون علمًا وركنًا في علم.

إلى جانب هذا يشير الباحث إلى أن الإرهاصات الأولى لهذه المسألة قد ظهرت منذ وقت مبكر خاصة مع الجويني والعز، لكن الشيخ ابن عاشور عبر عنها صراحة وأبان عنها فصاحة لا تلميحًا أو إشارة.

وإذا جئنا إلى رأي الباحث نجد أنه كان صريحًا –رحمه الله- في رفضه فكرة الاستقلالية، ويرجع السبب في ذلك عنده إلى ما ذكر في مبحث الاجتهاد المقاصدي كون هذه المقاصد لم ترقى بعد من حيث التفعيل إلى المستوى المطلوب، لعدم تجانس الأمثلة التطبيقية مع الأصول النظرية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يرى الباحث أن استقلالية علم المقاصد يعود بالضرر على المقاصد والأصول معًا، ولذلك يبقى الباحث متمسكًا بكون المقاصد جزءًا ومبحثًا من علم الأصول وبهذا يختم الباحث مباحث الكتاب.

خاتمة البحث:

وأما خاتمة البحث فقد ذيلها بعبارات التواضع مذكرًا بما ذكره في مقدمة البحث أنه لم يغط الموضوع من كل جوانبه –ومن ذا الذي يغطي الموضوع من كل جوانبه؟! رحم الله تواضعه- بمعنى لم يحقق شرط المسح بتعبيره في ثنايا الكتاب، وأن احتمال الخطأ وارد عليه، وتصحيحه مطلوب، ثم وضع بعض المقترحات لتكون مشروعًا علميًا لمن أراد العمل وتشييد صرح الأمة مثل: نظرية المقاصد عند الغزالي، نظرية المقاصد عند ابن تيمية، نظرية المقاصد عند ابن القيم، نظرية المقاصد عند العز بن عبد السلام، وغيرها من المقترحات.

القراءة النقدية للكتاب

وأبدأ هذه القراءة النقدية من خاتمة القراءة الوصفية الاستكشافية نفسها فأقول:

من خلال القراءة الوصفية المتواضعة للكتاب؛ نلاحظ أن الباحث قد لامس الكثير من المسائل التي كانت تحتاج إلى مساءلة وتدقيق وتمحيص علميين، وإني أشيد في هذا السياق بجدة الباحث ورؤيته النقدية في أمور ثلاث: وهي:

أولا:وضعه معياري الشكل والمضمون في تصنيف الحكم ضمن الضروري أو الحاجي أو التحسيني.

وثانيا:رؤيته النقدية للاجتهاد المقاصدي المعاصر مع تقديم البدائل المناسبة بالأمثلة الكافية الشافية.

وثالثا:بيانه الشافي لمسألة التنظير والتنظير الفقهي، وأهمية انفتاح الفكر المقاصدي على المجالات العلمية الواقعية الأخرى من خلال الجمع بين الموضوعية عند محمد باقر الصدر وأسلمة العلوم عند الفاروقي.

والاقتصار على هذه الأمور الثلاث لا يعني أنه لم يفد في غيرها من المسائل، بلى وكلا، وإنما المقصود أن هذه الجوانب الثلاث قد أبدع فيها أيما إبداع، وأعجبت بها باعتباري قارئًا أيما إعجاب، وجوانب التجديد واضحة من خلالها.

وسيرًا على نهج الباحث في النقد والتقويم، وأخذًا بوصيته في ختام البحث بضرورة تصحيح ما بان أنه غير صحيح، نختم هذه القراءة الوصفية الاستكشافية، بقراءة نقدية مختصرة لبعض آراء الباحث واجتهاداته أكتفي فيها بمسائل خمس: من الفصل الأول ثلاثا، ومن الثاني اثنتين لا أزيد عليها:

أولا: فيما يخص الفصل الأول قضايا محورية:

المسألة الأولى في المبحث الأول من القضايا المحورية:ذكر الباحث في هذا المبحث وجود فراغ تشريعي -بتعبير الباحث- نقلاً عن المعاصرين من الباحثين في الفكر الإسلامي، وهذا الاصطلاح يكاد يغزو كتب الفكر الإسلامي المعاصر.

ونشير في هذا السياق أن هذه المسألة ليست بدعًا من الوسائل، بل مسألة قديمة بقدم الأصول ذاتها، وقد لقيت عناية من الأصوليين قديمًا لكنهم تناولوها باصطلاح آخر فقالوا: هل يجوز أن تخلو واقعة عن حكم الله؟ وقد انتهى الأصوليون عن بكرة أبيهم، إلا من شذ منهم، إلى أن كل واقعة إلا ويوجد حكم الله فيها، وإنما المطلوب من أهل الاجتهاد بذل الوسع واستفراغ الجهد في طلب الحكم المناسب للواقع، ومن بحث وجد.

وبعد هذا: فإذا لم يبق هنالك مجال للقول بوجود فراغ تشريعي بتعبير المعاصرين أو خلو واقعة من حكم الله بتعبير الأصوليين، والاعتذار بتناهي النصوص ولا تناهي الوقائع، بل في النصوص من العموميات والمطلقات، والقياسات المستنبطات ما تسع الواقع المتوقع، وانظروا إلى الفقه الحنيف كم خرج من الفروع (الأرأيتية) بناء على دليل القياس، بل حتى باب السياسة الشرعية وهو باب واسع الاجتهاد، نجده مناطًا بالعدل، مقيدًا بالحق، واستصلاح الخلق.

وها أنا أنقل للقراء الكرام كلامًا من بحر الزركشي يروي الغليل ويشفي الغليل، حيث كتب يقول نقلاً عن ابن سريج: (وليس في الدنيا شيء يخلو من إطلاق أو حظر أو إيجاب؛ لأن جميع ما على الأرض من مطعم أو مشرب أو ملبس أو منكح أو حكم بين متشاجرين أو غيره لا يخلو من حكم ويستحيل في العقول غير ذلك، وهذا مما لا خلاف فيه أعلمه، وإنما الخلاف كيف دلائل حلاله وحرامه؟)(5) وبالذي قال الإمام الزركشي نقول والحمد لله رب العالمين.

المسألة الثانية في المطلب الثالث من المبحث الثالث: هل المراتب ثلاث أم خمس؟:

 نقل الباحث هنا في حصر المراتب في ثلاث كلامًا للشيخ البوطي نقلاً عن الدكتور علي جمعة، حيث قسمها إلى خمس سبق ذكرها في هذه القراءة لا بأس من التذكير بها وهي: الضرورة والحاجة والمنفعة والزينة والفضول، وهذا كلام حسن، لكن من باب التدقيق العلمي أننا لا ننتقل إلى المعاصرين حتى نستقري ما كتبه المتقدمون، وإذا رجعنا إلى المتقدمين نجد أن الجويني قد بيَّن أنها خمس أيضًا لكن بتعبيره لا بتعبير البوطي، ونحن نوردها للقارئ ههنا لمزيد من البيان:

قال رحمه الله: الباب الثالث: في تقاسيم العلل والأصول ونحن نقسمها خمسة أقسام:

أحدها: ما يعقل معناه وهو أصل ويؤول المعنى المعقول منه إلى أمر ضروري.

 والثاني: ما يتعلق بالحاجة العامة ولا ينتهي إلى حد الضرورة.

والثالث: ما لا يتعلق بضرورة حاقة ولا حاجة عامة ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة أو في نفي نقيض لها ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارة الحدث وإزالة الخبث.

والرابع: ما لا يستند إلى حاجة وضرورة وتحصيل المقصود فيه مندوب إليه.

والخامس من الأصول: ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلاً ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على مكرمة وهذا يندر تصويره جدا(6).

وبعد السبر والتقسيم بيّن أن القسم الرابع يرجع عند النظر إلى الثالث، والقسم الخامس متعذر وجوده أو عسير جدًا فخرج من القسمة، فبقي الحصر ثلاثيًا إذن، وهو الضروريات والحاجيات والتحسينات.

وقد ذكرت هذه التذييلة وفاء للإمام الجويني -رحمه الله تعالى- حيث يرجع إليه الفضل في تأسيس هذه المراتب الثلاث، وإنما مجهود من بعده كتلميذه الغزالي وغيره كان تشذيبها وبيانها، ولكن يبقى هو مؤسسها ورائدها بلا نـزاع، ولذلك استغربت من باحث كبير وناقد فاحص مثل الدكتور جمال الدين عطية أنه لم يشر إلى الجويني في هذا السياق ولا بكلمة واحدة، وإنما كان حقه أن تعقد له فقرة خاصة بكاملها حين الحديث عن هذه المراتب الثلاث.

المسألة الثالثة: في المبحث الربع:ذكر الباحث نسبية تحديد الوسائل، ويقصد بالوسائل -كما بيّنا في هذه القراءة- الوسائل الضرورية والحاجية والتحسينية، وهي كليات عند الأصوليين قطعية، وقد بنى الباحث قوله بنسبية الوسائل على كون هذه الوسائل متداخلة فيما بينها، ثم إنها في نفسها مراتب ودرجات، والحقيقة أنها واضحة قطعية لا نسبية فيها، ونمثل ذلك بمثال مقرب للأفهام مزيل للإشكال:

 فالصلاة مثلاً، باعتبارها وسيلة لحفظ الدين، أمر ضروري، فهي إذن وسيلة ضرورية، بمعنى أن فعل الصلاة ضروري، ولأنها لاتتأتى إلا بالطهارة كانت الطهارة مكمل حاجي، ولأن الطِيب مستحب كان مكملاً تحسينيا، ومن خلال هذا التمثيل لا أرى أن هنالك مجالاً للقول بالنسبية، فكل في موضعه، الصلاة ضرورية، والطهارة حاجية، والتطيب تحسيني، وتظهر قطعية هذه المراتب الثلاث لا نسبيتها، وحينما تتعارض هذه المراتب الثلاث مثلاً فيما بينها، أيها نقدم؟

وذلك مثلاً إذا فرضنا أن مسلما أخذه العدو وسجنه وحبسه، بحيث لا يستطيع أن يتطهر لا من حدث ولا من خبث، وهو مأمور بالصلاة لأنها أمر ضروري، فهنا تعارض الضروري الذي هو أداء الصلاة بالطهارة التي هي أمر حاجي، فنقدم الضروري على الحاجي ونقول للرجل يجب عليك أن تصلي وإن لم تتوضأ، وإن لم تستقبل القبلة. وبهذا تظهر صرامة المراتب الثلاث وقطعيتها لا نسبيتها، وهكذا نقول في سائر الأمثلة فلم يبق هنالك مجال للقول بنسبية المراتب الثلاث إذن.

ثانيا: فيما يخص الفصل الثاني: تصور جديد لعلم المقاصد

أولا: مسألة تقسيم الباحث لأنواع المقاصد وبيان مراتبها:وذلك من خلال تقسيمه المقاصد إلى مقاصد الخلق ومقاصد الشرع، وتقسيم كل قسم على حدة، ونشير إلى أن الباحث من خلال هذا التقسيم قد رمى بالمقاصد إلى ضرب من التعقيد أحيانًا والخلط أحايين أخرى، حيث جعل مقاصد المكلف ضمن مقاصد الخلق، وهي ليست كذلك في حقيقة الأمر، ولو أن الباحث اكتفى بالتقسيم المتداول المعروف لكان أسلم وأحكم وهو تقسيم مسبوك في غاية الدقة والإحكام.

فقد قسموا المقاصد باعتبار مصدرها إلى مقاصد للشارع ومقاصد للمكلف.

وباعتبار قوتها في ذاتها إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات.

وإلى مقاصد أصلية وتابعة.

وباعتبار العموم والخصوص إلى مقاصد عامة وخاصة وجزئية.

وباعتبار القطع والظن إلى مقاصد قطعية وظنية ووهمية.

وهكذا قسموها بناء على الموضوع، فجاء التقسيم في أبهى صورة وأسهل منال.

هذا وإن الباحث قد أغرب حينما ميّز بين المقاصد العامة أو العالية وهي المقاصد المجردة التي تسع جميع الأبواب والمجالات -باصطلاح الباحث- والمقاصد الكلية وهي عنده مقاصد حفظ الدين والنفس…، معتبرًا هذه المقاصد أنواع متغايرة، والحقيقة خلاف ذلك تمامًا وهذا ما تنقضه نصوص المتقدمين صراحة، لا عند الجويني أو الغزالي ولا العز أو الشاطبي مما أكثر النقول عنهم، وعلى سبيل المثال فإن الشاطبي يستعمل كل هذه المقاصد بمعنى واحد، وإنما يشترط لذلك شروطًا ثلاثا متى توفرت كانت المقصد كليًا عامًا عاليًا مجردًا وهي الإطراد والثباث والحاكمية(7).

فالحاصل أن اعتماد التقسيم المتداول بين الباحثين هو الأسلم والأحكم والأسهل، وبه ننصح القراء والباحثين في الفكر المقاصدي.

وأختم بمسألة تتعلق بالمبحث الثالث من هذا الفصل والذي عنونه بـ: من الكليات الخمس إلى المجلات الأربع وهي الفرد والأسرة والأمة والإنسانية:

من خلال قراءتي لهذا المبحث في نسقه التكاملي مع باقي المباحث أرى أن هذا المبحث لم يكن فيه الباحث موفقًا إلى حد كبير، وأختصر الكلام في نقطة مهمة وتتعلق بالانتقال من الكليات الخمس وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال إلى المجالات الأربع، وذلك أن الباحث حاول أن ينقل المقاصد من مجال الضيق إلى مجال السعة، فوقع فيما كان يخشاه، فبالميزان الحسابي الرياضي كليات خمس أكثر عددًا من مجالات أربع، وبالميزان العلمي المقاصدي نجد أن الباحث أخذ تصورًا عن الكليات الخمس مخالفًا للتصور الذي وضعه الأصوليون، ولو أن الباحث تناول الكليات الخمس بالتصور الأصولي لوجد نفسه في غنى عن هذه المجالات الأربع، وأضرب لذلك مثالاً حتى يتضح المقال:

فالدين مثلاً من حيث هو واجب الحفظ؛ لا ينظر إليه الأصوليون كونه متعلقًا بزمان أو مكان أوفرد معين، بل حفظه يعم الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فالدين ينبغي أن يحفظ لزيد وعمر، وينبغي أن يحفظ داخل أسرة بكر وسعد، وفي جماعة سلمان وسليم، وفي مدينة فاس والرباط، وفي دولة المغرب ومصر، وفي العالم كله، هذا من حيث المكان والشخص، وأما من حيث الزمان فينبغي أن يحفظ زمن الخلفاء والتابعين وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

فحفظ الدين إذن من حيث هو كلية من الكليات الخمس ليس له انتماء زماني أو مكاني أو شخصي أو عرقي؛ فهو فوق الزمان والمكان والأشخاص، ولو أخذ الباحث -رحمه الله- بعدد حروف كلمات ما دون في هذا الكتاب وغيره من الكتب- بهذا المعنى الأصلي لحفظ الدين، لوجد أن حفظ الدين موجودًا عند حديثه عن الفرد والأسرة والأمة والإنسانية، وما بعد هذه المجالات الأربع من غير حصر لا بزمان ولا بمكان ولا بشخص، وقس على هذا باقي الكليات الخمس.

وهذه المسألة شغلت الفكر المقاصدي المعاصر بشكل كبير جدًا، ومرجع الأمر فيها إلى تحديد معنى حفظ الكليات عند الأصوليين، إذ لو تحدد بالمعنى المذكور عندهم لما بقي مجال لاقتراح هذه المجالات الأربع، وهذا الأمر يتطلب بسطًا أوسع من هذا المقام ربما يجود به الجواد في مقال خاص، أكتفي بهذا القدر إذن.

أستغفر الله رب العالمين لي ولهذا الباحث الذي صاحبته وصاحبني طيلة هذه القراءة الماتعة التي جادت علي بأنوار من المعارف ودعتني إلى مزيد تعزيزها، فرحمه الله رحمة واسعة وجمعنى به والمسلمين أجمعين في الفردوس الأعلى، آمين والحمد لله رب العالمين.

* * *

قائمة المصادر والمراجع

* القرآن الكريم.

1(الكتاب المقروء: نحو تفعيل مقاصد الشريعة الإسلامية لمؤلفه الدكتور الأستاذ جمال الدين عطية، نشر المعهد العالمي للفكر الاسلامي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق- سورية، الطبعة الأولى: رجب 1422هـ/ شتنبر 2001م.

2(البحر المحيط في أصول الفقه لأبي عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي دار النشر: دار الكتبي، الطبعة الأولى: 1414هـ – 1994م.

3) البرهان في أصول الفقه لعبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، أبو المعالي، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين، تحقيق: صلاح بن محمد بن عويضة، دار النشر: دار الكتب العلمية بيروت – لبنان، الطبعة: الطبعة الأولى 1418 هـ – 1997م.

4) الموافقات لإبراهيم بن موسى الشاطبي تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار النشر: دار ابن عفان الطبعة: الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.

الهوامش

1) سورة الجمعة: الآية:9.

2) سورة الجمعة: الآية 9.

3) سورة الحجرات: الآية: 13.

4) قد يصح هذا الكلام الذي ذكره الباحث إذا حكمنا تاريخ تأليف هذا الكتاب أما بتحكيم يومنا هذا الذي نعيش فيه فالأمر خلاف ذلك إذ قد زاد الاقبال على الجانب السياسي في علاقته بالفكر المقاصدي بشكل كبير جدا، نشير في هذا السياق إلى ما كتب الدكتور أحمد الريسوني، من مؤلفات من مثل: الشورى في معركة البناء، فقه الثورة، فقه الاحتجاج، وكذلك اهتمامات الدكتور المصري وصفي عاشور، والدكتور نور الدين الخادمي أضف إلى ذلك كتابات ومؤلفات الدكتور يوسف القرضاوي، كل هذه المؤشرات والمعطيات تجعلنا نطمئن إلى أن الاهتمام بالمجال السياسي في هذه اللحظة التاريخية يضاهي الاهتمام بالمعاملات المالية، وعليه ينبغي للقارئ الذي يقرأ الكتاب أن يقرأه بناء على التاريخ الذي ألف فيه، لأنه كتاب واقعي والواقع يتغير ولا ينضبط كما هو معروف.

5) البحر المحيط في أصول الفقه: 1/217.

6) البرهان في أصول الفقه: 2/78-80.

7) راجعها مفصلة في الموافقات: 110.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر