أبحاث

الأمة، كمستوى للتحليل في العلاقات الدولية

العدد 137- 138

يُعنى “مستوى التحليل” بمنطلقات أو مداخل التفسير في العلاقات الدولية (المداخل الكلية أو الجزئية) التي تُفهمَ وتُفسَّر في إطارها تلك العلاقاتُ. من ناحية أخرى، يتيح الاهتمام بمستوى التحليل المجالَ أمام المعالجة النسقية الناظمة للعناصر والوحدات في العلاقات الدولية؛ لأن إدراك وجود مستويات أعلى وأدنى للرؤية يمهد للحديث عن نسقٍ إجمالي من المنظورات يقدم رؤيةً متكاملة لا يزال باحثو العلاقات الدولية يسعون في الوصول إليها. وفي هذا الإطار يمكن القول بأن الفضل يعود إلى مفهوم “مستوى التحليل” في طرح مطلب “التحليل الشامل أو التكاملي” في دراسة العلاقات الدولية.

يعرَّف “مستوى التحليل” – لدى بعض الباحثين- باعتباره يتعلق “بكيفية تحديد الأنماط المختلفة للمواقع أو المناطق (locations) التي قد تكمن فيها (أو تنبثق منها) مصادر تفسير الظواهر التي يمكن ملاحظتها، وكيفية التعامل البحثي معها([1]). وبصرف النظر عن تعدد التعريفات، فالمتفَقُ عليه بين الباحثين المعنيين أن الوظيفة الأساسية لمستوى التحليل هي تفسير الظواهر. كذلك قد يختلف باحثو العلاقات الدولية في تحديد مستويات التحليل إلا أنه يمكن القول بوجود نزوع عام نحو إدراج مشكلة مستوى التحليل بين أحد اتجاهين: مستوى تحليل كلي أو ماكرو (أبرزه الاتجاه المعنيّ بالتركيز على النظام الدولي)، ومستوى تحليل جزئي أو مايكرو (أبرزه الاتجاه المعنيّ بالتركيز على الدولة أو على الفرد خاصة صانعي القرارات الأساسية). تحت هذين الاتجاهين تم التركيز في أدبيات العلاقات الدولية على مستويات عدة أشهرها الدولة القومية، والنظام العالمي وبينهما الأنظمة الإقليمية الفرعية([2]).

بيد أن العديد ممن بحثوا مشكلة مستويات التحليل على المستوى النظري أبرزوا مسألة مهمة مؤداها أن المستويات الثلاثة الشائعة للتحليل، والتي استقطبت جلَّ اهتمام باحثي العلاقات الدولية حتى الآن، ليست بالضرورة هي كل مستويات التحليل؛ فقد تتوقف المسألة على المعيار المستخدم لتحديد مستوى التحليل. على سبيل المثال فالتحديد الثلاثي السابق (النظام الدولي، والدولة، وبينهما النظام الإقليمي) يقوم على معيار بعينه؛ هو طبيعة وحدات التحليل؛ بينما يختلف الأمر إذا ما اعتبرنا معيارًا مختلفًا مثل “ديناميات التفاعل بين الوحدات“، حينئذ يمكن النظر إلى “عملية” التفاعل process كمستوى من مستويات التحليل المعتبرة. كذلك يمكن تبنّي مستويات أخرى للتحليل إذا أخذنا في الاعتبار الاقترابات، حيث المدخل الأنطولوجي ينتج قائمة مختلفة من مستويات التحليل عن المدخل الإبستومولوجي([3])، الأمر الذي يمكن بيانه لاحقًا.

لقد شهدت دراسات العلاقات الدولية مراجعاتٍ عديدةً في العقود السابقة، بعضها راجع لتحولات فكرية أيديولوجية مثل فكر مدرسة التبعية والاقترابات النسوية، وبعضها الآخر راجع لتحولات منهجية (من أبرزها التحول من الاقترابات القانونية والمؤسسية إلى الاقترابات السلوكية والمناهج الكمية)، وبعضها الآخر موضوعي مثل النزوع المطّرد نحو رفض اعتبار “الدولة” محور التحليل والوحدة الأساسية في العلاقات الدولية، والتحول إلى اعتبار “الفرد” و”المنظمات الدولية” وغيرها من الفواعل الدولية متغيرات مهمة في التحليل؛ مما أسهم في بناء نظريات جديدة في العلاقات الدولية، مثل نظرية صنع القرار، وإدخال الدراسات النفسية والسلوكية في علم العلاقات الدولية…([4]).

اللافت للانتباه في كثير من تلك المراجعات أمران: أولهما- أن الدولة- القومية ذات السيادة قد نالت بوصفها محور التحليل في علم العلاقات الدولية التقليدي الجانب الأكبر من النقد والمراجعة. والثاني- أن تلك المراجعات الفكرية والعلمية قد استندت إلى تحولات أو تغيرات في الواقع الدولي المعاصر بدت ملامحها منذ العقد السابع من القرن الماضي، حين أشار ديفيد سينجر – في لهجة أقرب إلى النبوءة العلمية التي شهدت تحقُّقا مطردًا- بقوله: “إن النظام الدولي حافل بمؤشرات كثيرة لتغيرات غير متوقعة، لعل أهمها أن الأشكال (أو الكيانات) المؤسسية القائمة قد تتخذ خصائص جديدة، وأن كيانات أخرى قد تظهر لتأخذ مكانها. وفي الواقع فإن انعدام كفاءة المؤسسة اللازم لأداء الوظائف قد يؤدي إلى تحولها أو انهيارها. وهكذا نرى تدهورًا مطّردًا وربما اختفاءً نهائيًا للدولة- القومية كفاعل مهمًّ في النظام السياسي الدولي([5]).

لقد كان لبعض مفكري العالم الثالث ودارسيه إسهاماتهم في نقد النظرية التقليدية للعلاقات الدولية بمرتكزاتها القائمة على محورية الدولة- القومية، والنظامِ الدولي القائم على علاقات الدول ذات السيادة ومفاهيم القوة، والمصلحة القومية، بيد أن النقد الأساسَ للنظرية التقليدية للعلاقات الدولية جاء من داخل المدرسة الغربية ذاتها. والملاحظ أن الدافع الأساسيَّ لهذا النقد إنما ينبع من حدوث فجوة أو تفاوت متزايد بين تلك النظرية وتطورات الواقع الدولي المعاصر وظواهره المستحدثة، مثل: نفوذ الشركات الدولية العملاقة عابرة القارات، وظاهرة التجمعات الإقليمية التي تتجاوز مفهوم “سيادة الدول” التقليدي باتجاه تطوير مركزية وسلطة إقليمية فوق-قومية، خاصة في ظل التجربة النامية للوحدة الأوروبية منذ ستينيات القرن الماضي، والتي أنتجت ما يعرف بظاهرة “ما فوق القومية” Pan Nationalism. وهنا يبرز التساؤل: لماذا كان إسهام الفكر الإسلامي في نقد نظرية العلاقات الدولية ومفاهيمها هو الأضعف، برغم الفجوات الواسعة وتعدد عناصر عدم الملاءمة بين ركائز هذا التراث الغربي والفكر والواقع الإسلامي على السواء؟

على المستوى النظري والفكري، يمكن تفسير ما سبق بحلول رابطتي القومية والوطنية المستوردتين من الغرب (المهيمن حضاريًا) منذ أكثر من قرن كمنافسٍ شرس لمفاهيم الأخوّة والوحدة الإسلامية التي حكمت الوعي الإسلامي دون منافس لقرون طويلة. وفي هذا السياق تموضعت القومية كبديل لرابطة العقيدة. ورغم ذلك فقد استمر الصراع الفكري بين تلك المفاهيم في صعودٍ وهبوطٍ عبر منعطفات مهمة مثل: عجز الدول القومية عن إنجاز التنمية المستقلة، وظاهرة الإحياء الإسلامي في الربع الأخير من القرن الماضي.

أما على المستوى الواقعي فقد أثبتت الدولة-القومية والنظام الدولي القائم عليها قدرًا أكبر بكثير من عدم الملاءمة في المنطقة، وأنتجت عددًا كبيرًا من الأزمات؛ بدءًا من الصراعات الإقليمية الناجمة عن خلق أطرٍ جغرافية للخلاف والشقاق بين البلدان الإسلامية (مشكلات الحدود على سبيل المثال) حتى في إطار الوعاء الثقافي والإقليمي الواحد، مرورًا بزرْعِ دولة إسرائيل في قلب العالم الإسلامي بزعم خلق وطنٍ قومي لليهود، وحتى تفاعل ديناميات التشرذم والتفكك الداخلي باسم النزعة القومية داخل الكيانات القطرية، ناهيك عن التعقيدات الاجتماعية والسياسية الناشئة عن التعايش بين الأنساق التقليدية للولاء (القبائل والعشائر) وبين إطار الدولة القومية أو القطرية، وانتهاء بوضعية الاستضعاف والتدني التي فُرضت هيكليًّا على مجموعة البلدان الإسلامية والعربية في إطار المنظومة الدولية الاقتصادية والسياسية القائمة.. وأخيرًا الانتهاك المطّرد والمتعاظم لسيادة الدولة (آخر مزايا القومية) في العالم الإسلامي باسم العولمة الاقتصادية والثقافية…

وفي المحصلة لقد ارتبطت نظرية الدولة القومية ومنظومة العلاقات الدولية القائمة على أساسها بقدرٍ هائل من التعقيدات والإشكالات الفكرية والواقعية في العالم الإسلامي، أقلُّ ما توصف به هو عدم الملاءمة الفكرية والعملية التي يحملها ذلك النسق في التعبير عن واقع ومدركات ملايين من البشر الذين يعيشون خارج إطار الغرب الذي نشأ في أحضانه مفهوم القومية([6]). ولا تقتصر ظاهرة عدم الملاءمة هذه على العالم الإسلامي، بل تظهر بصورة أكثر حدة في مناطق وثقافات أخرى فقدت ظاهرة الدولة- القومية والحدود السيادية فيها كل قيمة ومعنًى، مثل: أفريقيا جنوب الصحراء.. إن قضية عدم الملاءمة الواقعية والمفاهيمية هذه تثير على الفور تساؤلاً مهما على صعيد الملاحظة والتحليل العلمي للظواهر: إلى أيَّ حدًّ يصبح ذلك المفهوم غير المعبِّر (أو غير الملائم) واقعيًا وفكريًا مؤهَّلاً أو صالحًا لتفسير ذلك الواقع وتفاعلاته؟ والإجابة المنصِفة هنا مؤداها أنه إذا لم تكن الدولة- القومية ونظمها الإقليمية والدولية صالحة كلية كأساس لتفسير الظواهر، فإنها على الأقل غير كافية لتفسير كل الظواهر في كل المناطق؛ ومن ثم يحتاج الأمر للبحث عن مستويات أخرى بديلة أو مكمِّلة للتحليل والتفسير.

على ضوء الحيثيات السابقة، وفي إطار محاولة تقديم إسهام أكاديميًّ من منظور إسلامي للبحث في العلاقات الدولية، يأتي طرح مفهوم ونسق “الأمة” كأحد مستويات التحليل والتفسير التي – وإن لم تدّعِ أنها مصدر وحيد لتفسير التفاعلات والعلاقات الدولية- إلا أنها تكمل المصادر القائمة وتقدم مصادر إضافية مفيدة لتفسير تلك التفاعلات، ليس في إطار العالم الإسلامي فحسب بل في إطارٍ عالمي يتسم بالعمومية.

في هذا المقال محاولة لطرح وتقديم مفهوم “الأمة كمستوى للتحليل في العلاقات الدولية”، وتتناول الصفحات التالية محاولة لتحقيق عدة أغراض: أولاً- تأصيل المفهوم وتعريفه، ثانيًا- تحديد أبعاد المفهوم كمستوى للتحليل، ثالثًا- تطبيق المفهوم وتوظيفه كأداة مفيدة وصالحة لتفسير العديد من التفاعلات الدولية. وملحق بهذا المقال محاولة للتعرف على أبعاد النظرية القرآنية في نشأة وتطور وعلاقات الأمم.

أولاً- مفهوم الأمة وأبعاده:

الأمة – كمفهومٍ- هي أحد الإسهامات الإسلامية الأصيلة في رصد ظاهرة الاجتماع الإنساني والتطور التاريخي/الحضاري للجماعات الإنسانية. فمفهوم الأمة هو تصور قدمه الإسلام لوصف مستوى أو نموذج معين للوجود الجمعي. ورغم أن مصدر هذا المفهوم إسلاميٌّ إلا أنه لم يُعْنَ فقط بوصف الأمة الإسلامية بل بتقديم تصور عامًّ مجرد للجماعة/الأمة في التاريخ الإنساني إسلاميّ أو غير إسلاميّ.

يستمد هذا المفهوم بنيته الأساسية وأكثر معانيه انفتاحًا وثراءً من النصِّ القرآني؛ بحيث يمكن القول إن المصادر الأخرى لم تُضف إليه سوى أبعاد محدودة نظرية أو تكميلية، وترجع أهم تلك الإضافات إلى التطبيق النبويّ كما سيرد في هذا المقال لاحقًا، بينما نجد المعالجات الفكرية الكثيرة في الأدبيات الإسلامية قد جردت المفهوم من عموميته وقابلياته للتطبيق وضّيقته بشكل محكم ليقتصر على رصد مواصفات وعمليات حالة وحيدة له هي الأمة الإسلامية([7]).

لقد كان الخطاب القرآني في العموم هو المصدر الذي أسس المفهوم وحدد أبعاده، والمسئول عن بنائه في الذهنية والثقافة الإسلامية أو إعادة إنتاجه في وعي ملايين البشر الذين عملوا بعد ذلك على تجسيده واقعًا بصور مختلفة. ورغم ذلك فعلاقة المفهوم بالواقع لا تتسم بالبساطة بحيث يمكن صياغتها في علاقة سببية مفادها أن “المفهوم هو مصدر تشكيل هذا الواقع” (إسلاميًّا على الأقل)؛ ذلك أن الخطاب القرآني يقدم مفهوم الأمة كذلك بوصفه تعبيرًا عن ظاهرة إنسانية عامة، وهو يستقرئ في ذلك العديد من التجارب البشرية عبر العصور والثقافات والتجارب المختلفة؛ إسلامية وغير إسلامية ، دينية وغير دينية.

يمكن أن نميز داخل الطرح القرآني لمفهوم الأمة بين ثلاثة أنساق متباينة: الأول- يتناول الأمة كمفهوم عامًّ يصف ويرصد الظاهرة، والثاني- يقدم نظرية للتطور التاريخي الإنساني وسُننه على مستوى تشكيلاته الجماعية الكبرى، بل إن التشكيل الاجتماعي الحضاري الأساسي من المنظور القرآني هو “الأمة”. أما النسق الثالث فهو نسق خاصّ يتناول الحالة الإسلامية تحديدًا والخصائص القياسية أو المعيارية للأمة الإسلامية.

وبرغم الصلة العضوية بين المفهوم والنظرية (التي يشكل المفهوم أداة بنائها الرئيسية) إلا أن ثمة اختلافًا مهمًّا بين البنائين؛ فالمفهوم القرآني للأمة يتسم بالعمومية والتجريد والحياد الذي يجعله قابلاً للتعامل مع مختلف نماذج تلك الظاهرة، أما النظرية القرآنية لنشأة وحركة وصيرورة الأمم فهي ذات طابع ديني معياري يلعب فيه متغير الدين والإيمان (بل صحيح الدين والإيمان بالخالق والرسالات السماوية) دورًا جوهريًّا في ترتيب وبناء منظومته. بينما يزيد البعد المعياري بشدة في النسق القياسي للأمة الإسلامية.. ما يعنينا في هذا السياق هو المفهوم وتحديد عناصره، والذي نرى أن أهم ما يميزه هو طابعه العام المجرَّد الذي يزوده بقدرات تحليلية هائلة. غير أننا سنشير – في عجالة في نهاية المقال- إلى نظرية القرآن الكريم في تفسير التطور التاريخي للجماعة الإنسانية “من منظور الأمة” من باب الاستفادة مما تقدمه من طروحات تتعلق بعلاقات الأمم المختلفة؛ مما قد يفيد في سياق بناء نظرية إسلامية للعلاقات الدولية. أما خصائص النسق المثالي للأمة الإسلامية والتي استقطبت جانبًا كبيرًا من الفكر الإسلامي فلا مجال لتناولها في هذا المقام([8]).

الأبعاد التأسيسية لـ”مفهوم” الأمة

“الأمة” – في الطرح القرآني- هي أحد مستويات الوجود الجماعي إلى جانب مستويات ونماذج أخرى تختلف من حيث الحجم أو أسس الارتباط وقواعده، مثل: “القوم”، ” الشيعة”، “الحزب”، “الملأ”.

ويتناول النصُّ القرآني الكريم مفهومَ “الأمة” بمستويات عدة: أوسعها المستوى الجمعي الوجودي الذي ينصرف إلى وصف كل فصيل من فصائل وأنواع الكائنات الحية المخلوقة التي تحظى – كما يخبر القرآن- بأنماط ذاتية خافية علينا من الوعي بحقيقة الخلق ووحدة الخالق: } وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ { ( الأنعام: 38). كما يستخدم القرآن الكريم مفهوم “الأمة” على مستوى مجازيًّ ضيق: }إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً {(النحل: 120) ليشير إلى ذروة الفاعلية الفردية التي تقوم مقام الجماعة. وكلا الاستخدامين السابقين هما على سبيل الاستثناء بينما يبقى أكثر الاستخدام القرآني شيوعًا لمفهوم الأمة عند المستوى الجمعي الإنساني لتشير “الأمة” إلى جماعة من البشر لها أبعاد وخصائص معينة.

أبعاد وعناصر مفهوم الأمة

يتشكل مفهوم الأمة تأسيسيًّا – من واقع الخطاب القرآني- من الأبعاد الأربعة التالية:

أ- الجماعة هي المادة الحية للأمة؛ فمركز الثقل في الأمة هو الجماعة وليس المؤسَّسة أو الدولة أو الفرد. ويمنح التصور القرآني الجماعة/الأمة شخصية اعتبارية متكاملة ونوعًا من المسئولية الجماعية التي لا تَجُبُّ في الوقت نفسه محوريةَ الفرد والمسئولية الفردية([9]).

إن تحديد مركز الثقل الحيوي للأمة في الجماعة يجعل قضية التبلور النظامي (أو المؤسسي) عنصرًا غير ضروري في تشكيل الأمة؛ بمعنى أن الأمة قد تتواجد بغير هذا الكيان. إلا أن ذلك لا يعني أن التبلور المؤسسي والنظمي غير مؤثر؛ فالقرآن يوضح – في سرده لتاريخ ومصائر الأمم- الدور المهمَّ الذي تلعبه النخب العليا (مستوى صانعي القرار أو مراكز النفوذ والقوة) في الجماعة في توجيه وتحديد مسارات الأمم نحو الإصلاح أو الفساد والطغيان. وعليه، يمكن القول إن التبلور المؤسسي للجماعة إنما يدفع إلى مزيد من التكامل كأمة؛ لأنه يوفر للجماعة الإرادة السياسية التي تجسد وحدتها وتعبر عنها وتوجه حركتها بشكل أكثر تبلورًا.

بالمنهج (العقيدة ونمط السلوك): هو بمثابة الرابطة التي تجمع أجزاء هذه الجماعة وأفرادها في وحدة؛ فيعد في النهاية المسئولَ عن تحديد هذه الجماعة وتشكيلها. وينصرف معنى المنهج إلى تكامل وفاعلية عنصرين مهمين: أولهمامعتقد أو منظومة اعتقادية، والثاني- طريقة حياة أو سلوك تعكس تلك المنظومة. أما المعتقد أو المنظومة الاعتقادية فقد يكون دينًا سماويًا أو عبادة وثنية([10])، أو تقاليد وأفكار موروثة عن السلف، وقد يكون شريعة أو مذهبًا إصلاحيًّا بعينه. وكل من تلك الأنساق الاعتقادية تحدد السلوك أو طريقة الحياة. ومما قد يشير بشكل رمزي إلى محورية بُعد المنهج أو طريقة الحياة في تشكيل الأمة أن القرآن الكريم قد استخدم في بعض الحالات مفهوم “الأمة” ذاته بشكل مجازيًّ مرادفًا لطريقة ومنهج الحياة؛ يقول سبحانه: } بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ {43/22} وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ { (آيتا 22 و23 من سورة الزخرف) حيث يفسر المفسرون: “على أمة” هنا بأنه: “على طريقة، وهي الطريقة التي تُؤم”([11]).

جـ- الوظيفة/الدور: ويعني هذا البعد وجود التزام من الجماعة إزاء معتقدها وطريقتها المثلى في الحياة. ويتعلق هذا البُعد بالسلوك الخارجي للجماعة إزاء البيئة المحيطة بها وما يرد من هذه البيئة من مدخلات أو تحديات أو مثيرات تمس منهج الأمة أو طريقتها المثلى من أمم أخرى أو أطراف أخرى تحمل رؤى مغايرة. ولا يتعين أن يكون التحدي أو المثير الخارجي تهديدًا فعليًّا مباشرًا بل قد يكون محضَ وجود “الآخر” وما يترتب عليه من مقارنة أو غواية أو تحدًّ. ويقع التزام الأمة إزاء معتقدها ومنهجها -كما يتضح من استعراض تاريخ الأمم وسيرتها في النص القرآني كذلك- بين أحد مستويات ثلاثة:

أولها- تحقيق التكامل أو الظهور والتبلور الوجودي الفعلي للأمة في الواقع.

والمهمة الثانية– هي الدفاع أو الذود عن العقيدة أو الطريقة المثلى للحياة. وقد أورد القرآن الكريم بجلاءٍ نماذجَ شتى لهذا النهج خاصة لدى الأمم الوثنية والضالة إزاء ظهور رسل يحملون عقيدة سماوية تتحدَّى منهجهم في الاعتقاد والحياة، مثلاً حجة قوم فرعون في مواجهة موسى: } قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى{([12]).

وثالثًا– التحرك الإيجابي لنشر الدعوة أو المنهج؛ وهو أحد السمات الأساسية للرسالات السماوية والحركات الإصلاحية: } وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{([13]).

وجدير بالذكر أن المنهج الدفاعي في حفظ مثاليات وطريقة حياة أمة ما لا يعني بالضرورة نزوعًا سلميًّا أو قدراً أقل من العنف، كما أن المنهج الانتشاري أو الإيجابي في تحقيق مثاليات الأمة حفظا أو دعوة لا يقترن بالضرورة بالعنف، بل العكس؛ فكافة التحركات الدفاعية للأمم الوثنية في التصدي لتهديد الرسالات والدعوات السماوية اقترنت بالعدوان والعنف بينما ارتبط منهج نشر الدعوات السماوية بالإقناع والعمل السلمي غالبًا.

د- بُعد الزمن أو الحد التاريخي للأمة. إن “الأمة” بأبعادها السابقة ليست ظاهرة مفتوحة تاريخيًا بل يحدها إطار زمني يفصل بينها وبين ما يليها من أمم، وإن شاركوها في خصيصة أو أكثر مثل الالتزام العقيدي أو منهج الحياة. ولقد أوضح النص القرآني هذا البعد أو المكون الزمني للأمة بغير لبس: } وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ {([14])، } مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ{([15]). والإطار الزمني لا تحدده سنوات بعينها بل يتحدد بناء على العنصر الوظيفي السابق وهو مدى نجاح أو فشل كل جماعة أو جيل في إنجاز مهمته أو رسالته، ولعل هذا ما دعا القرآنَ الكريمَ إلى جمع الرسل المبعوثين بالشرائع السماوية الحية والكبرى من أبناء إبراهيم في أمة واحدة بالنظر إلى طبيعة مهمتهم ودورهم المتكامل في تبليغ رسالة التوحيد الأم رغم تعدد شرائعها: يقول في وصفهم } تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون {([16]). لقد أوضحت هذه الآية أهمية البعد الزمني المحدَّد بإنجاز الوظيفة في تشكيل مفهوم “الأمة”، والذي يقيد ويخصص ما ورد في النصِّ القرآني من معانٍ عامّة للأمة.

إن الزمن في تشكيل مفهوم “الأمة” لا يبدو قصير الأمد أو محدودًا، ولكنه يبدو متراكمًا على نحو تقتضيه مهمة تحقيق التكامل الذاتي للأمة من خلال مهماتها التأسيسية أو الدفاعية أو الدعوية؛ مما يحتاج إلى تكامل وتعاقب الجهود عبر أجيال. ومن ثم تبدو البيئة الزمنية لمفهوم “الأمة” متوافقة مع الأجل الزمني المتوسط، ليس بالقصير الخاطف وليس بالبعيد الممتد. ولا غضاضة في الاستدلال على أهمية البُعد الزمني هنا من الإشارة إلى استخدام القرآن للأمة في موضع آخر استثنائي كمرادف للزمن (كما استخدم من قبل مرادفًا للمنهج)، ذلك كما ورد في سورة يوسف: }وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ{([17])؛ حيث قيل في تفسير معنى لفظة “الأمة” هنا إنها تشير إلى “جماعة من الزمان مجتمعة”([18]).

انطلاقًا من مجمل العناصر السابقة يمكن تعريف “الأمة” باعتبارها “جماعة من البشر يربطها الانتماء والولاء لمنهج معين قد يشمل تصوّرًا عقديًّا أو طريقة حياةٍ وسلوك أو كليهما معًا، وتسعى هذه الجماعة -عبر فضاءٍ غير محدَّد من التحركات والسلوكيات الداخلية والخارجية- إلى إنجاز وظائف الدفاع عن تلك العقيدة وذلك المنهج أو إظهاره أو نشره في إطار زمني معين”.

وفق هذا التعريف، فإن العناصر الجغرافية والمؤسسية لا تعد ضمن الأبعاد التكوينية الضرورية لمفهوم “الأمة”، لكن ذلك لا يعني استبعادها كنتيجة أو هدف نهائي لتحقيق اكتمال مثاليات الأمة في الواقع.

إن الأمة بهذا المفهوم هي كيان عقدي وحضاري: “عقدي” من منطلق التفافها حول فكرة أو تصور معين للحياة قد يكون دينيًّا سماويًّا وقد يكون وضعيًّا (لدى الأمم غير المؤمنة)، وهي “حضارية” بالضرورة كنتيجة لمكوّن الفعل والسعي والإنجاز الضروري لتحقيق تكاملها الوجودي؛ مما ينتج أثره في الواقع حروبًا وسلامًا ومدنية ونظمًا ..إلخ.

ثانيًا- “الأمة” كمستوى للتحليل في العلاقات الدولية:

لا تشير الأمة إلى كيان اجتماعي/جغرافي/سياسي كالدولة-القومية، بل إلى كيان اجتماعي/ثقافي/حضاري؛ ومن ثم فالمدخل – في تحديد هذا المستوى من مستويات التحليل- هو مدخل إبستومولوجي وليس أنطولوجيًّا؛ حيث المتغيِّر الأساسي والمحوري هنا هو العقيدة بوصفها إحدى الديناميات المعترف بها في العلاقات الدولية، وذلك في مقابل متغير أو دينامية “القومية” لدى الدولة([19]).

العقيدة والأمة: إذا كان العنصر الثقافي متمثلاً في الثقافة المشتركة، والأساطير، والرموز القومية، والولاء..إلخ، يمثل أحد عناصر بناء القومية، فإنه يمثل في “الأمة” العنصر الجوهري الذي يفوق – ويتجاوز في بعض الحالات- روابطَ الجنس والعرقية والانتماءات القرابية والأولية. ويتمثل العنصر الثقافي لدى “الأمة” في العقيدة؛ حيث العقيدة هنا بمعنى نسق القيم والأفكار والمعتقدات المتعلقة بتفسير ورؤية الكون والعالم والمجتمع وعلاقة الإنسان بكلًّ من تلك الأبعاد ودوره فيه وأهدافه. وتؤدي العقيدة وظيفة مهمة في تشكيل “الأمة”؛ هي خلق قاعدة مشتركة من الأفكار والتفسيرات والتعريفات ومنظومة القيم والأهداف ونسق الولاءات؛ لتربط تلك القاعدة المشتركة بين مجموعة من البشر غير القريبين جغرافيًّا أو لغويًّا أو عرقيًّا.

تستند قوة العقيدة في خلق الانتماء والولاء؛ ومن ثم بناء الجماعة، إلى الأثر الراديكالي الذي تُحدِثه على مستوى الفرد وبنائه الداخلي ونمط ولاءاته. ذلك أن بناء القاعدة الثقافية المشتركة لجماعة من البشر على أسس عقدية يبدأ بعملية تحول ثقافي وجوهري في الشخصية الفردية؛ فالانتماء النشِط لجماعة عقيدية أو التحول العقيدي قد يقترن بعملية إحلال ثقافي كامل في الفرد لا تشمل فقط منظومته القيمية ومرجعياته واتجاه ولاءاته، بل أحيانا ذاكرته التاريخية ذاتها. على سبيل المثال فالتحول العقيدي من أي شخص إلى الإسلام يستبدل ذاكرته التاريخية الأصلية -مهما كانت- بتاريخٍ بديلٍ يحتل فيه تاريخ نشأة الإسلام وجهاد المسلمين الأُوّل ضد المشركين، ثم تاريخ الفتوح الإسلامية، وأحداث الحروب الصليبية وسقوط الأندلس وسقوط فلسطين (أي تاريخ الأمة) محل ذاكرته التاريخية الأصلية. وهكذا بينما يحتاج تغيير الوطن والجنسية إلى سنواتٍ وربما أجيالٍ لحدوث عملية إحلال موازٍ في الولاءات، فإن الانتماء العقيدي يؤدي إلى تغيير كامل ورضائي (وسريع نسبيًا في الوقت نفسه) للمنظومة الثقافية للفرد. ليس ذلك فحسب بل يقترن ذلك أيضًا بتعبير خارجي يتمثل في أنساق سلوكية أو بناءات تنظيمية أو أنماط معينة للممارسة.

وتؤدي عملية إعادة إنتاج ونقل المنظومة الثقافية والأنساق السلوكية المعبِّرة عنها على مستوى الأفراد، تؤدي تراكميًّا إلى إيجاد القاعدة المشتركة لتلك الجماعة العقيدية الناشطة (الأمة)، بل قد تصل تلك العملية في بعض الحالات بأعضاء تلك الجماعات إلى نموذج أقرب للتنميط (حالة بعض الجماعات الإسلامية الجهادية على سبيل المثال).

في إطار التعريف الواسع – السابقة الإشارة إليه- للعقيدة، فإن الجماعة الدينية لا تمثل سوى أحد أنماط “الأمة” وليس الشكل الوحيد لها. فقد تنصرف العقيدة هنا إلى أيديولوجية علمانية؛ مثل: النازية أو الصهيونية (في رافدها العلماني) أو الشيوعية، إذا اقترنت بالتزام ولائي وسلوكي أو تنظيمي من قبل الجماعة. وقد تتمثل العقيدة في حالةٍ من الولاء الثقافي العام لنمط حياة أو مجموعة من الأفكار المتفق عليها بشأن أسس التعايش البشري وقواعد التعامل الإنساني المحض، كما هو الحال في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. وبرغم ذلك فإن الدين في أغلب الحالات يلعب دورًا مهمًّا في تشكيل عقيدة الأمة؛ سواء كمصدر مباشر لتلك العقيدة، أو كمصدر ثقافي غير مباشر يسهم في إيجاد ثقافة وقيم واتجاهات مشتركة على النحو الذي لعبته العقيدة الأرثوذوكسية إلى جانب الأصل السلافي في بناء الروابط الثقافية العميقة بين الروس وبعض شعوب البلقان قبل وأثناء وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

ووفقًا لمعيار العقيدة أو المنظومة العقيدية التي تقوم عليها الأمة يمكن القول بتعدد أنماط الأمة، ويمكن تحديد أنماط ثلاثة لها: الأمة القائمة على أساس ديني خالص وتعد إسرائيل النموذج الأمثل لها، وهناك الأمة القائمة على أسس أيديولوجية ويشكل الاتحاد السوفيتي وكتلته الشيوعية نموذجا لها، وأخيرًا الأمة التي تقوم على أساس حضاري يجمع بين عدة روافد ومكونات فكرية، ويمثل الكيان الأوروبي الموحَّد قيد التكوين نموذجًا معاصرًا لها، كما تمثل الدولة الإسلامية التاريخية نموذجًا تاريخيًا أمثل لها. ولا شك أن أقوى تلك النماذج هو النموذج الديني نظراً لقوة وازع الدين، بينما يعد النموذج الأيديولوجي الأقل قدرة على الاستمرار بسبب تعقيد البناء الأيديولوجي مما يجعله ذا طابع نخبوي يقوى فيه الالتزام والولاء العقيدي لدى النخبة المثقفة أو الحاكمة ذات الوعي الأكثر نضجًا بينما ينخفض لدى الجماهير. أما النموذج الحضاري فهو اتجاه وَسَط لكنه يتميز بسريان القيم المشتركة بين النخبة والجماهير من خلال الثقافة العامة بما يخلق أساسًا أكبر للارتباط والاستمرارية، كما يعد انفتاحه وقبوله للغير وللأفكار المتجددة وقدرته على التكيف من أهم عناصر حيويته واستمراره.

في المحصلة يمكن القول بأن العقيدة تلعب دورًا محوريًّا في تشكيل الأمة بحيث يمكن تعريف الأمة باعتبارها جماعة ناشطة عقيديًّا غائية؛ بمعنى أنها تسعى لتحقيق أهداف أو رسالة بعينها، وهي قد تتخطى حدود الدول والجغرافيات؛ فتنتج مجموعة من التفاعلات داخل الحدود السياسية أو خارجها وعبرها لتعبر بذلك عن ظاهرة عالمية.

مصادر تشكيل الأمة: رغم أهمية العقيدة ومحوريتها في تشكيل الأمة (الجماعة العقيدية الناشطة) إلا أن العقيدة بالمفهوم المتسع السابقة الإشارة إليه (بمعنى تصور الجماعة للوجود ولمهمتها) تكون هي والأمة محصلة لمجموعة من المصادر الخطابية والتاريخية والبشرية تشكل في النهاية ظاهرة “الأمة”. من هذه العوامل:

  • · أولاً- خطابات أو نصوص عقيدية وفكرية مؤسِّسة (مقدّسة وغير مقدّسة). أحيانًا قد تضيق هذه النصوص وتنحصر في مصدر أو عدد قليل من المصادر مثل الدور الذي قام به القرآن والسُّنة لدى الأمة الإسلامية، وقد تتسع وتتعدد مشاربها كما هو الحال لدى الجماعة الأوروبية قيد التكوين، والتي أسهمت في تشكيلها خطابات دينية مثل العهدين القديم والجديد ومصادر علمانية مثل أفكار التحول في عصر النهضة والفلسفات المادية ووثائق حقوق الإنسان وتراث الفكر الليبرالي الفردي والفكر الاجتماعي والقومي على مدى التاريخ الحديث.
  • ثانيًا- التاريخ المشترك أو الذاكرة التاريخية المشتركة ولو في حدودها الدنيا. وهذه الذاكرة قد تشمل مراحل تاريخية واسعة أو محدودة غير أنها مفصلية. فلدى الأمة الإسلامية هناك تاريخ نشوء الإسلام وبناء وتوسع الدولة الإسلامية ثم المواجهة مع الغرب الصليبي والتتار..إلخ، وفي العصر الحديث تجيء معاناة المسلمين من الاستعمار الغربي ثم التحالف الغربي ضد العالم الإسلامي بدعوى تبنّيه للإرهاب وما يقترن بذلك من خطابات إدانة وسياسات للهيمنة والضغط؛ لتخلق تاريخًا مشتركًا جديدًا بين المسلمين يسهم في تكريس شعورهم بالانتماء والولاء لكيان جماعي واحد. في المقابل تأتي المواجهات الإسلامية- المسيحية في عهد الروم البيزنطيين ثم في العصور الوسيطة وحتى مستهل العصور الحديثة في شرق أوروبا وإعادة إحياء تلك المواجهات سواءً في قضية ما يسمى بمواجهة الإرهاب الإسلامي الأصولي أو الصراع من أجل دمج المهاجرين المسلمين ثقافيًّا في أوروبا كأحد مرتكزات تشكيل الأمة الأوروبية المتجاوزة للقومية، مثل تلك المواجهات – سواء كانت حقيقية أو مفتعلة- يتم توظيفها كآلية من آليات توحيد المشاعر والأهداف والولاءات في عملية الاندماج الأوروبي. على هذا النحو أيضًا لعبت مراحل التاريخ اليهودي القديم وتاريخ الشتات، والاضطهاد الأوروبي، وعمليات بناء الدولة، دورَها في تكريس بناء الأمة اليهودية المعاصرة سواء على أسس علمانية صهيونية أو دينية.
  • إلى جانب المصدرين السابقين اللذين يصبان في التكوين الثقافي للأمة، هناك مصادر أخرى فرعية أو تكميلية مهمة؛ مثل: التمازج البشري والعرقي، وعمليات الهجرة الفردية والجماعية كما هو الحال في العالم الإسلامي. قد تلعب اللغة أيضًا دورًا مهمًّا وإن لم يكن محوريًّا في بناء الأمة خاصة على مستوى “الإنتلجنسيا” التي تقود عملية الدمج وبناء الولاءات؛ مثل الدور الذي تلعبه اللغة العربية في الثقافة العربية والإسلامية، والدور الذي تلعبه اللغات الأوروبية الكبرى كالإنجليزية والفرنسية والألمانية وعمليات الترجمة النشطة فيما بينها في بناء الثقافة الأوروبية الواحدة. وأخيرًا هناك طريقة الحياة والتي تتقارب أنماطها إلى حد كبير كمحصلة لكل العوامل السابقة أو لبعضها؛ ففي العالم الإسلامي ولدى الأمة اليهودية في أصقاع الأرض المختلفة ورغم تنوع الثقافات والعرقيات بشدة إلا أن العديد من الممارسات توفر حدًّا أدنى من طريقة الحياة المشتركة؛ مثل الصلوات والضوابط والقيود الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على منظومة الحدود (الحلال والحرام)، وطريقة الزواج ومنظومة الأحوال الشخصية، والأعياد وشعائر الحج والصيام..إلخ.

الأمة ومسارها التاريخي:

تحمل الأمم في مساراتها نوعًا من الصيرورة التاريخية عبر مراحل أو حالات لكل منها أهدافها وغاياتها. أولى تلك المراحل هي بناء الذات، ذلك البناء الذي يبدأ ببلورة جوهرها العقيدي وينتهي ببناء هيكلها السياسي؛ بحيث يمكن القول إن “الدولة” (وليس الدولة-القومية) هي أعلى أو أنضج مظاهر التعبير الخارجي عن وجود “الأمة“، ولكنها ليست شرطًا لوجودها.. ثانيًاحالة الدفاع؛ وهي حالة وليست مرحلة؛ لأنها تتخلل كافة مراحل تكون الأمة بدءًا من بلورة أساسها العقيدي إلى حماية تماسكها الجماعي البشري وحتى بلورة قواعدها المؤسّسية، بل يمكن القول إن الدفاع وتحديد أو تمييز الخصوم والأعداء يمثل أحد تكتيكات تكوين اللُّحمة الداخلية للجماعة وتماسكها. ثالثًامرحلة التمدد والهيمنة وتتمثل في نوع من ممارسة علاقات القوة مع الأمم المنافسة كأعلى مراحل ظهور الأمة.

ولا يتسم تاريخ الأمم بالثبات أو الركود بل بالحركة الدائبة والتغير المرتبط بالتحولات الطارئة على الأفكار والعقائد الجماعية. ويؤدي التغير الذي قد يطرأ على العقائد إلى تغير في تعريف حدود الجماعة ونطاق الانتماء واتجاه الولاء؛ ومن ثم التغير في بنية الأمة وحدودها. قد يتحقق ذلك من خلال تطورات داخلية كظهور عقائد فرعية: مثل الأثر الذي خَلَفه ظهور المذاهب البروتستانتية على بنية النظام السياسي والاجتماعي والكنسي الأوروبي، والذي أدَّى إلى تقسيم أوروبا المسيحية الغربية التي عبرت عن نفسها بجلاء كأمةٍ واحدة في الحروب الصليبية إلى جماعتين عقيديتين. ثم لم تلبث أوروبا عبر عمليات معقدة ودامية استغرقت عقودًا من التفاعلات السياسية والفكرية التعاونية والصراعية أن وصلت إلى نظام عقيدي جديد للتعايش هو العلمانية بمختلف المدارس الفكرية المعبرة عنها.

قد يكون التحول في بنية الجماعة العقيدية ناشئًا عن تأثيرات خارجية وافدة؛ على سبيل المثال فقد أدى تعرض الأمة الإسلامية منذ مطلع العصر الحديث للغزو والتأثير الغربي المهيمن ثقافيًّا وسياسيًّا ومنظومته العلمانية، أدى ذلك إلى إحداث خلخلة في منظومة الأمة الإسلامية؛ فقد أنتج هذا التأثير نُخبًا ومجموعات (النخبة العلمانية) ذات عقائد متباينة عن التيار الأساسي ذي المنحى الإسلامي زاد من خطورة هذه النخب وضعها القيادي وسيطرتها على المؤسسة السياسية والثقافية.

إضافة لما سبق فقد أحدث ذلك حالة من التعقيدات الثقافية؛ فبالإضافة إلى الانقسام بين عقيدتين سياسيتين متباينتي المصدر عرفت الكثير من المجتمعات العربية مزجًا بين الرافدين مما أنتج مسوخًا ثقافية ملفّقة عاجزة عن إحداث إنتاج حضاري مثمر. من ناحية أخرى، فإن كلا النظامين الثقافيين طرح على الساحة خطابًا متباينًا سعى إلى تسويقه لدى الجمهور، فبينما استمر التيار الإسلامي في طرح الأمة الإسلامية كإطار للولاء والانتماء قدّم التيار العلمانيّ المسيطر الدولةَ الوطنيةَ والقوميةَ كإطارين بديلين. كما انعكس التنازع بين التيارين في صراع متجدد حول القضايا المصيرية للأمة مثل: صيغ التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية (قضايا التحديث)، بناء العلاقات مع العالم الخارجي خاصة الغرب والعالم الإسلامي، قضية بناء الدولة وموقع الأقليات القومية فيها (مشكلات الأكراد والبربر مثلاً)، وأخيرًا تعريف بعض الأزمات والقضايا المصيرية مثل قضية فلسطين، وما إذا كانت مشكلة شعب (قضية فلسطينية- إسرائيلية) أم مشكلة قومية (عربية- إسرائيلية) أم مشكلة أمة (قضية إسلامية). ولا يزال هذا الانقسام مسئولاً إلى حد كبير عن الكثير من عوامل الاضطراب والشلل والضعف في المنظومة الإسلامية.

والسؤال الذي قد يُطرح الآن هو: ما العلاقة المتوقعة بين الأمة كمستوى للتحليل وبين المستويات الأخرى للتحليل، فضلاً عن وحدات التحليل المعروفة في العلاقات الدولية؟

تشكل أغلب وحدات التحليل المعروفة في دراسات العلاقات الدولية مظاهرَ أو أدواتٍ للتعبير عن الأمة. فالفرد صانع القرار والمنظمات الدولية والإقليمية والشبكات الاقتصادية والسياسية العابرة للحدود وحركات الأموال والأفكار والأيديولوجيات، كلها تصبح ظواهرَ وآلياتِ تعبيرٍ عن “الأمة”. إلا أن الحاجة تبقى ماسّة إلى فحص العلاقة بين الأمة والمستويات الثلاثة الأساسية للتحليل: النظام الدولي، والنظام الإقليمي، والدولة.

يمثل النظام العالمي/الدولي الإطار الحاضن لظاهرة الأمة، وهو إطار تنافسي في الغالب يجمع مختلف الجماعات والوحدات الدولية بين أرجائه؛ ومن ثم فهو يضع في الغالب الحدود أو سقفًا وضوابط لحركة الأمة الواحدة طبقًا لموازين القوة القائمة وأسس التعاون والصراع المتعارف عليها.

في هذا الإطار قد يكون النظام الدولي إطارًا مناسبًا لحركة “الأمة” ونموها بفعل طبيعة القوى المسيطرة عليه وسماتها العقدية والحضارية. فالقرن العشرون – ورغم تتابع النظم الدولية بخصائصها المختلفة من نظام توازن القوى إلى القطبية الثنائية إلى نظام القطب الواحد- إلا أن السمات الحضارية الغالبة على هذا النظام عبر القرن والذي تهيمن عليه القوى الغربية (الأوروبية– الأمريكية) كان ملائمًا لتحقيق أهداف وحركة الأمة اليهودية في مسعاها لتحقيق هدفها الاستراتيجي ببناء دولة في فلسطين، بينما مثلت تلك النظم المتتابعة على اختلافها والتي تسيطر عليها قوة حضارية واحدة مثَّلت قوى ضغط وتشويه هائلة لحركة الأمة الإسلامية. أما فيما يتعلق بطبيعة النظام الدولي فلا شك أن نظامًا دوليًّا أكثر تعددية وانفتاحًا أو تنافسية يكون أنسب لنمو وتعبير الأمم التي يحتضنها ويتيح للعناصر الداخلية إطارًا دوليًّا أقل ضغطًا؛ هكذا كان النظام التعددي التنافسي في العقود الأولى من القرن العشرين أكثر ملاءمة لنمو الجماعة الشيوعية ثم توسعها في أوروبا، كما مثل الإطار الثنائي القطبية مجالاً دوليًّا أكثر ملاءمة لحركة القوى الإسلامية على الصعيد الدولي في ظل ظروف محلية ضاغطة ومقيدة؛ مما وفر أساسًا لنمو الشبكات والحركات الإسلامية وتبلور القيادات التي استمدت عناصر نموها من المهجر أكثر من الداخل الإسلامي؛ بل أسهم ذلك في التأثير على الداخل كما حدث في الثورة الإيرانية. في المقابل فإن النظام الدولي القائم على الأحادية القطبية يشكل في ظل تعاظم قوة القطب الواحد إطارًا دوليًّا غير ملائم للتغييرات والتعبيرات المختلفة عن حركة الأمم التي قد تخالف أو تناقض مرجعية الحضارة المهيمنة والدولة-المركز فيها.

تعد الدولة- القومية في التراث التقليدي للعلاقات الدولية هي الوحدة الأساسية في نظام دولي تمثل القومية إحدى دينامياته وأيديولوجياته المؤسِّسة، بينما يجيء تبلور النظام الإقليمي بمؤسساته وأنماط التعاون المختلفة فيه طورًا أرقى يعكس نوعًا من الاستقرار والتوافق والانسجام بين وحداته الدولية وتطويراً لقدر من المصالح المشتركة لأعضائه. في ظل مفهوم “الأمة” فإن هذا التتابع (الدولة ثم النظام الإقليمي) يكون عكسيًّا؛ فالدولة (الجامعة لشَمْل الأمة) تعد أرقى مظاهر تبلور ونضوج الأمة التي تصل حالة نموها إلى امتلاك إرادة سياسية واحدة تعبر عنها وتوجه أفعالها وتتحدث باسمها في النظام الدولي، بينما يحتل التفاعل النظمي والإقليمي القائم على مفهوم “الأمة” طورًا أدنى لنمو الأمة وإن كان يعكس حالةً للوعي بالذات والتعبير عنها أفضل من وضعية التشتت القُطري.

على هذا النحو كانت الخبرة الإسلامية التي كانت الدولة الواحدة أرقى تعبيراتها عن الأمة. كذلك تمثل أطوار النمو الأوروبي المعاصر نحو كيان حضاري واحد نموذجًا أيضًا؛ إذ يشكل النظام الإقليمي الأوروبي المتطور في ظل عملية الوحدة الأوروبية ما بعد الحرب العالمية الثانية مرحلة نحو الدولة الواحدة، يسير بالتوازي مع تحجيم النوازع القومية التجزيئية وتطوير أيديولوجية أو نظام عقيدي فكري أوروبي مشترك يعتمد على القواسم الحضارية والقيم الإنسانية المشتركة (الديمقراطية، الحريات، المنطلقات المسيحية للحضارة، مرجعية الإنسان والعقل..إلخ).

وهنا ينبغي الإشارة إلى أن الارتقاء في متوالية المأْسَسة ( النظام الإقليمي، الدولة) هذه – وإن كان شرطًا لفاعلية الأمة- إلا أنه ليس شرطَ وجودٍ لها، فقد توجَد الأمة وتعبر عن نفسها بأشكال عديدة غير مؤسسية؛ مثل: حركات التطوع للدفاع عن أجزاء من الأمة تواجه اعتداءً معينًا، كما حدث من قبل المسلمين إبان حرب فلسطين والغزو السوفيتي لأفغانستان وفي الشيشان والبوسنة وكوسوفا والعراق. لكن رغم ذلك تبقى تلك التعبيرات المشتتة عشوائية.

وتشير السوابق التاريخية إلى وجود أنماط توافقية لعلاقة الأمة وكل من الدولة والنظام الإقليمي، لعل أهمها نمط “المركز والمحيط”، فقد تشكل الأمة إطارًا يقع في مركزه دولة نواة رائدة (أو مركزية). عرفنا هذا النمط في الماضي في قلب التاريخ الإسلامي من حيث وجود دولة مركزية تقود حركة الأمة، وفي التاريخ المعاصر قد تشكل الصلة بين الحوض الحضاري الغربي و”الولايات المتحدة كمركز” نموذجًا معاصرًا لمعادلة “المحيط والمركز” في الأمة.

على خلفية ما سبق يمكن القول إن مفهوم الأمة لا يتعارض مع مؤسسة الدولة، ولكن مع أنواع معينة للدول على رأسها الدولة- القومية؛ فالقاعدة الفكرية أو المفهوم الذي تقوم على أساسه الدولة- الأمة يختلف ويتنافس مع المفهوم الذي تقوم عليه الدولة-القومية. ويتجلى هذا التناقض في العديد من الوقائع التاريخية؛ لقد كان نمو الفكرة والحركات القومية أحد أهم العوامل التي أدت إلى تفكيك الدول المعبِّرة عن فكرة “الأمة”، مثلما حدث في الدولة العثمانية؛ حيث قادت حركة التتريك القومية والحركات المقابلة لها من أسفل إلى تفريغ الدولة من أساسها الفكري والأخلاقي ومقومات وجودها وأسس الولاء الشعبي والجماعي لها؛ مما جعلها عرضة للانهيار. كذلك لعبت القومية وما أفرزته من دول نفسَ الدور الهدام في تحطيم الإمبراطورية النمساوية- المجرية التي ورثت الإمبراطورية الرومانية المقدّسة في الاحتضان والتعبير السياسي عن الجماعة المسيحية الكاثوليكية.

مزايا ومشكلات توظيف الأمة كمستوى لتحليل في العلاقات الدولية:

في خضم المسارات والمراحل السابقة مارست “الأمة” أنماطًا لا حصر لها من التفاعلات الدولية، وأشكالاً عديدة من التعاون والصراع، وأدوارًا مهمة في تشكيل وتغيير الخريطة السياسية الإقليمية والعالمية سواء في التاريخ القديم أو الوسيط أو الحديث. ففي هذا الإطار يمكن تفسير نشأة العديد من الدول؛ سواء على النمط الإمبراطوري مثل الدولة الإسلامية في القرن الأول الهجري (السابع الميلادي)، والإمبراطورية الرومانية المقدَّسة في العصور الأوروبية الوسيطة، أو على النمط القُطري الضيق في العصر الحديث؛ وقد مثلت دولتا باكستان وإسرائيل على سبيل المثال لا الحصر نموذجين لفعل العقيدة في بناء وتشكيل جماعة تسعى لبناء دولة.

وعلى صعيد خريطة التعاون والصراع في العلاقات الدولية كانت “الأمم” مبعثًا للعديد من الحروب والتحالفات مثل الحروب التي حركتها الفتوح الإسلامية، والمواجهات بين العالم الإسلامي والصليبيين، والحروب الدينية في أوروبا في القرن السابع عشر، والمواجهات العديدة إبان الحرب الباردة بين الشيوعية والغرب الرأسمالي، وأخيرًا تصاعد أجواء الصراع الدولي بين العالم الإسلامي والغرب المسيحي منذ وقائع الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما اكتنفها من جدالات ثقافية وفكرية.

من الطرح السابق يمكن أن نزعم أن علم العلاقات الدولية بتجاهله مفهوم (الأمة) كمستوى من مستويات التحليل يفتقر إلى مصدر مهم لتفسير جانب من العلاقات والتفاعلات الدولية، يمكن أن يستفيد كثيرًا بتوظيفه كما يخسر بتغييبه عن التحليل. ويرجع ذلك إلى العديد من الأسباب:

أولها- أن علم العلاقات الدولية التقليدي يُعنى بشكل كبير بالجانب المؤسَّسي أو النظامي؛ حيث أغلب الكيانات أو الوحدات محل التحليل هي وحدات مؤسسية أو نظامية (الدولة، المنظمات، الشركات متعددة الجنسيات، النظم الإقليمية أو النظام الدولي)، أما دراساته النفسية والسلوكية للأفراد والجماعات فقد نمت كمداخل خادمة ومكملة لهذا الجانب التنظيمي مثل دراسة صنع القرار. وعكسَ هذا الاتجاهُ في مجمله تأثراً بالواقع الأوروبي والغربي ومستوى تطوره الحالي الذي تعد “المؤسسية” أهم إنجازاته.. ويمكن – بمقولة أخرى- القول إن هذا الاقتراب التحليلي يعكس انحيازًا أيضًا لمرحلة معينة من مراحل نمو الكيانات الدولية؛ هي مرحلة اكتمال ونضج تلك الكيانات بينما تبقى مرحلة ما قبل النضج والتبلور -أي حركة ونضال الكيانات نحو التبلور في السياق الدولي- مرحلةً غائبة رغم أنها دون شك تترك أثرًا كبيرًا على التفاعلات الدولية وتحرك جانبًا لا بأس به منها.

إن منظومة علم العلاقات الدولية المعاصرة على سبيل المثال قد تُعنَى برصد أدوار الدول الكبرى وأسبابها في تفجير الحرب العالمية الأولى، كما قد تُعنَى برصد أدوار الدول والمنظمات في حروب البلقان أو الحرب على أفغانستان والعراق، ولكنها غير مؤهلة لدراسة الحركة الدائبة للجماعة الصربية للتبلور والتشكل والصراعات الخلفية (الجماعية/الثقافية) في المنطقة بين الجماعات العرقية– الدينية كالألبان والأتراك والقوقاز المسلمين من جانب والسلافيين- الأورثوذكس من جانب آخر، ودور ذلك في تفجير عدد كبير من الحروب والصراعات الإقليمية والدولية في الماضي والمستقبل.. كذلك يفتقر علم العلاقات الدولية التقليدي إلى مؤهِّلات دراسة التشكل والنمو التنظيمي والفكري والبشري للجماعات الإسلامية الجهادية الساعية لإحياء الأمة والخلافة الإسلامية من خلال المنهج الجهادي، والذي قادها إلى إعلان الحرب على الولايات المتحدة.

من جانب آخر لا يمتلك هذا العلم لمقومات تؤهِّله لدراسة التطورات العقدية لدى بعض الجماعات المسيحية الإنجيلية (المسيحية الصهيونية) التي جعلتها تعرِّف المسلمين كعدوًّ لها وتنضم في جماعة واحدة (أمة) مع الرافد الديني من المشروع الصهيوني- اليهودي؛ مما أنتج في النهاية أولى حروب القرن العشرين (الحرب المسلحة على أفغانستان وعلى العراق، والحرب الباردة بين العالميْن الإسلامي والغربي) تحت شعار الحرب على الإرهاب. في هذا الإطار فإن طرح مستوى الأمة (الجماعة العقيدية الناشطة) يغطي جانبًا مهمًّا في مجال العلاقات الدولية مثل مراحل التكون الطويلة للكيانات، والأزمات الدولية السابقة على ظهورها.

“الأمة” كمستوى للتحليل تلقي الضوء على فاعل مهم تم تجاهله في الأدبيات التقليدية للعلاقات الدولية المعاصرة؛ وهو الجماعة، وعلى دينامية مهمة من ديناميات العلاقات الدولية هي العقائد. وقد تجلت في السنوات الأخيرة أهمية العقائد الدينية والجماعات في صياغة العلاقات الدولية بشكلٍ أثبت علم العلاقات الدولية فقرًا في معالجته. فالعقائد والديانات برز دورها بشكل صريح (مقابل مفهوم “المصلحة القومية”) كدوافع للحركة الدولية ومصادر لصياغة الخطاب السياسي الدولي، وهو دور برز – بشكل خاص- منذ الحادي عشر من سبتمبر2001. كما برز في الوقت نفسه الدور المتزايد للجماعات والحركات عبر القومية الملتفة حول أفكار وعقائد معينة في بناء وتحريك التفاعلات الدولية؛ مثل: حركات الخضر، والبيئة، وحقوق الإنسان، والجماعات المناهضة للعولمة، والجماعات الأصولية والدينية السلمية أو العنيفة في العالم.

إن “الأمة” – كمستوى للتحليل- تتيح أيضًا للباحث التركيز على مناطق بينية تربط – أكثر مما تجزئ- العديد من عناصر التحليل في العلاقات الدولية، خلافًا لغيرها من المستويات التقليدية للتحليل التي تركز على بُعد بعينه لا تغادره إلى ما سواه؛ مما يخلق مشكلة يعترف بها العديد من أساتذة العلاقات الدولية؛ وهي مشكلة الربط بين المستويات المختلفة للتحليل والجمع بينها في تحليل واحد([20]). فالتركيز على الجماعات العقيدية الناشطة (الأمم) كمستوى للتحليل يمكن أن يجمع في صعيدٍ واحد كلاً من الفرد والدولة والنظم الإقليمية والنظام الدولي باعتبار جميعها مظاهر أو تعبيراتٍ خارجيةً عن الأمم أو الجماعات العقيدية النشطة، كما قد يجمع عناصر أخرى كالعقائد والتنظيمات والتحالفات، ويربط بشكل عضوي بين التطورات الداخلية والدولية.

من المنظور الأكاديمي – وانطلاقاً من الحالة الراهنة لعلم العلاقات الدولية التي تخضع لعملية كبرى من المراجعة وإعادة التقييم – ترى الدكتورة نادية مصطفى “أن مفهوم الأمة يتجاوز الرؤى التي تركز على الفواعل من غير الدول – دون إسقاط دور الدول- وهي الرؤى التي برزت في ظل مراجعة ونقد منظومة الدولة- القومية. يتجاوز مفهوم الأمة بعلاقته بمستويات التحليل الثلاثة (التي تعاقبت المنظورات الغربية المهيمنة على العلاقات الدولية في التركيز عليها) كلاًّ من تلك المنظورات على حدة وعلى النحو الذي يؤكد مصداقيته في تشخيص وتفسير التفاعلات الدولية في أي مرحلة من مراحل تطور العلاقات الدولية؛ سواء تلك التي شهدت بروز الدولة-القومية أو التي شهدت بروز فواعل أخرى من غير الدول، وهو الأمر الذي يتسق معرفيًّا وأنطولوجيًّا مع حقيقة الظاهرة الدولية كونَها ظاهرة معقدة الأبعاد والمضامين؛ بحيث لا يلغي بُعْدٌ منها الآخر.. كذلك يحمل مفهوم الأمة نفس تلك الميزة (المتعلقة بتجاوز الانحياز لبعد واحد) فيما يتعلق بمضمون ومحتوى التفاعلات موضع الدراسة والتحليل، فهو لا يقتصر على التركيز على أي من الأبعاد السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية دون غيرها على غرار عديد من المنظورات الغربية التي تعاقبت على علم العلاقات الدولية؛ ذلك أن مفهوم الأمة بعلاقته بالمستويات الثلاثة إنما يفرد مكانًا لأنماط التفاعلات المختلفة التي يشارك فيها الأفراد والجماعات وليس فقط صانعي القرارات ومنفذيها من الدبلوماسيين أو العسكريين أو رجال الأعمال.. وخلاصة ما سبق أن مستوى تحليل الأمة يمكنه أن يحتفظ بمصداقيةٍ أكثرَ استمرارًا في فهم ودراسة العلاقات الدولية مهما تعاقبت على واقع العلاقات الدولية المتغيرات التي تعطي أولوية الاهتمام بفاعل دون آخر أو بمجال ومضمون دون غيره؛ لأنه يستوعب بدرجة أكبر ما يمكن أن نسميه بطبائع الظاهرة الدولية (والإنسانية عمومًا) من تعقيد وتداخل المتغيرات والأبعاد خلافًا للمنـزع الذي يحكم المعرفة الغربية من انحياز بين فترة وأخرى إلى تغليب عنصر أو متغيِّر وحيدٍ يعكس غالبًا مصلحة القوى المهيمنة على الواقع أو الفكر أو العلم. إن مستوى “الأمة” في تحليل العلاقات الدولية يقدم في المحصلة استجابات للعديد من التحديات التي تفرزها حالة مراجعة العلم الراهنة والتي تدفع للقول بأن علم العلاقات الدولية – بل وعلم السياسة بصفة عامة – يمر بأزمة نتيجة مراجعات النسق وما يتفرع عنها من دلالات بالنسبة للفواعل والقضايا والمنهاجيات؛ وهي المراجعة التي تقع في صميم المرحلة الراهنة من تطور العلم؛ ففي ظل كل ما هو مستحدث تحت عنوان إعادة تعريف السياسي أو إعادة النظر في حدود العلم ونطاقه وموضوعاته تبرز الحاجة قوية إلى منظورات حضارية أخرى – إلى جانب المنظورات الغربية السائدة – لتحقيق عالمية العلم والنظرية”([21]) (انتهى الاقتباس).

والخلاصة التي ننتهي إليها من العرض السابق أنه برغم المشكلات التي يثيرها مفهوم الأمة (كغيره من المفاهيم) إلا أنه يحمل -كمفهوم تحليلي في نطاق العلاقات الدولية – العديدَ من المزايا؛ فهو بتركيزه على حركة الجماعة ودور العقيدة (أيًّا كانت) يصبح مفهومًا أكثر مرونة يتجنب كثيرًا من مؤثرات الانحياز السابقة النابعة من خبرة وأدبيات الدولة- القومية؛ إذ هو يلقي بدائرة الضوء – كما سبق أن أشرنا- على منطقة بينيّة تتجاوز الطابع المؤسسي إلى الكيان الإنساني الاجتماعي المعبّر عنه، كما تتجاوز الخطاب الرسمي الذي يكون -في العادة- خطابًا مضللاً وزائفًا إلى تحليل العقيدة المسيطرة والخطابات المؤثرة، كما أن هذا التحليل يتجاوز الانحياز إلى المنظور الماكرو أو المايكرو كون “الأمة” تجمع في أبعادها بين التعبير على المستويين.. مفهوم “الأمة” يتجاوز أيضًا بعض التصورات المثالية في العلاقات الدولية مثل مفهوم “المصلحة القومية” الخالصة و”الرشادة” المطلقة، بتركيزه على العقيدة الجماعية التي تجمع في طياتها بين الحسابات الرشيدة والأبعاد القيمية- الوجدانية. بهذه المزايا جميعها تقدم “الأمة كمستوى للتحليل” أداة نافعة لدراسة بعض الظواهر التي تبدو المقولات والتفسيرات التقليدية في العلاقات الدولية عاجزة عن تفسيرها بكفاءة.

مشكلات المفهوم: لا شك أن “الأمة” -كسائر المفاهيم المستخدمة في التحليل- تثير العديد من المشكلات مثلما تطرح العديد من المزايا: أولى تلك المشكلات هي تحديد ما يدخل في نطاق المفهوم من كيانات وتصرفات وأفعال؛ فإذا كانت الدولة- القومية والنظم الإقليمية والدولية لها أبعادها المؤسسية أو النظامية التي تتيح رصد الظاهرة وتفاعلاتها، فإن الطابع غير المحدّد مؤسسيًّا لظاهرة “الأمة”، والذي يجمع معًا العديدَ من الأطراف والفاعلين والتصرفات بدءًا من الفرد والحركات والمنظمات إلى الدول والتظاهرات وحركات الأموال والتأثيرات الثقافية والسياسية العابرة للحدود تثير تساؤلاً مهمًّا هو: كيف يمكن تحديد وتفسير مجموعة متباينة من الوقائع والتصرفات التي تصدر عن فاعلين مختلفين بأنها تعبر عن الأمة؟

وللإجابة عن هذا التساؤل يمكن اقتراح معيار من ثلاثة عناصر يمكن التعرف من خلاله على ما يدخل في نطاق “أمةٍ” معينة أو يخرج عنها، هذه العناصر هي: أولاً- المرجعية (الثابتة أو شبه الثابتة)، وأشهر صورها وأكثرها شيوعًا المرجعية النّصية؛ سواء كانت نصوصًا مقدَّسة أو وضعية تحظَى بقَبولٍ ليس محلاً للنقاش، وثانيًا- الخطاب العقيدي الداخلي؛ بمعنى ذلك الخطاب غير الدعائي وغير الموجّه للخارج، وهو خطاب تأويلي يقدم قراءة تاريخية للنص أو للمرجعية على ضوء الواقع وطبيعة المشكلات والتحديات القائمة، ثالثًا- الأهداف الاستراتيجية، وتشكل المحصلة العملية للتفاعل بين الإطار المرجعي والقراءة التأويلية التي تقوم بها النخبة من جهة والواقع ومشكلاته من جهة أخرى؛ لتنتهي بتحديد أهداف الجماعة في مرحلة معينة. فإذا توافقت العناصر الثلاثة بصفة عامة لدى مجموعة من الفاعلين (بصرف النظر عن بعض الاختلافات الجزئية) أمكن القول باندراجهم في أمة واحدة، وإذا اختلفت أو تناقضت فإنها تعبر عن أمم مختلفة أومتصارعة.

من بين المشكلات التي يثيرها مفهوم “الأمة” كونه مفهومًا يستمد أبعاده ورؤاه من إحدى الثقافات الفرعية في العالم؛ وهي الثقافة الإسلامية التي عُنيَت بفحص المفهوم وتأصيله. وقد يثير هذا قضية الانحياز وقصور المفهوم على الظواهر النابعة من الثقافة الإسلامية وعدم ملاءمتها للظواهر النابعة من بيئات أخرى! وهذه الحجة مردود عليها. فالدولة-القومية كظاهرة ومادةٍ للدراسة والبحث والتركيز هي ظاهرة غربية ظهرت في حيز الواقع وحيز البحث في الغرب ولا تزال، بل يمكن القول إنه لولا سيطرة الفكر الغربي في مجال الأكاديميا لأُلقي الضوء على الإخفاق الذريع لهذا المفهوم على مستوى الواقع والدراسة؛ فإطار الدولة-القومية عاجز عن البقاء الأنطولوجي في بعض المناطق كأفريقيا التي تكاد الحدود فيها ومؤسسات الدولة تكون إطارًا زائفًا تستتر تحته ظواهر تقليدية، ثم هي على المستوى المعرفي تواجه تحديًا وصراعًا شرسًا في بلدان العالم الإسلامي؛ حيث يُرى هذا المفهوم باعتباره مناقضًا للتصورات الإسلامية عن الجماعة المحققة لمثالياتها الدينية. بل إن التطورات الواقعية وبعض الوجهات الفكرية المعاصرة في الغرب ذاته تنحِّي هذا المفهوم جانبًا سواء في إطار عمليات وظواهر العولمة أو بناء كيانات حضارية (الوحدة الأوروبية تتجاوز الدولة-القومية التي تبدو أكثر وأكثر أنها أصبحت نظامًا تاريخيًّا ينتمي إلى الماضي).

يثير مفهوم “الأمة” إشكالية أخرى تتعلق بالصعوبة التي يمكن أن يجدها الباحث أحيانًا في التمييز بين ما يدخل في نطاق “الأمة” وما يدخل في نطاق كيانات أخرى كالجماعة القومية، ولا يظهر هذا الالتباس في كل الحالات بل في حالات بعينها؛ على سبيل المثال فمفهوم الأمة – ككيان يجسد العلاقة العضوية بين عنصري الجماعة/العقيدة- يلتبس في نموذج “الجماعة اليهودية” مع مفهوم القومية؛ حيث الجماعة اليهودية تجسِّد عناصر أربعة: الجماعة، والعقيدة، والعرق، والأرض، ويبرز هذا الاختلاطُ كذلك في “النموذج النازي الألماني” الذي طوَّر من الوطنية أو القومية تصوّرًا عقديًّا شبه متكامل، فجمع كالمثل اليهودي بين العناصر الأربعة بما فيها الجماعة/العقيدة. بيد أن هذه النماذج التي طورت من مفهومها الخاص بالهوية القومية تصورًا عقيديًّا تظل في النهاية نماذج نادرة لا يقاس عليها. لكن عنصر اللبس المشار إليه يقتضي درجة أكبر من الوعي بعناصر تشكيل الجماعات، ويطرح فكرة أن “الأمة” مفهوم أوسع قد يحتوي نماذج أخرى.

على صعيد التوظيف والمآل السياسي لتطبيق المفهوم قد يثير مفهوم “الأمة” لدى التعامل السطحي المبسّط معه إشكاليةً خطيرة؛ إذ يبدو الاستخدام الأولي المبسّط لمفهوم “الأمة” قرينًا الى حد كبير بمفهوم الصراع؛ حيث إن رؤية العالم كجماعات ذات بُنى عقدية خاصة ومتميزة تثير على الفور مفهوم التفاعل الصراعي بين تلك الكيانات؛ مما يقترب بالتصور العام للعالم نحو طرح صامويل هانتجتون حول صراع الحضارات.. وللرد على هذا المأخذ في “اقتراب الأمة” تجب الإشارة الى أهمية التخلي عن التعامل المسّيس والسطحيّ الذي شاع في السنوات الأخيرة بفضل تسيّس المدرسة الأكاديمية الأمريكية ونزوعها المستمر نحو أدلجة العلوم على نحوٍ فجًّ لم يسبق أن شهدته الجماعة العلمية من قبل، خاصة مع تنامي النـزعة اليمينية الأمريكية المحافظة والاتجاه الإمبريالي الأمريكي على النحو الذي شهدناه في العقدين الماضيين من خلال مؤلفي “نهاية التاريخ” لفوكوياما و”صراع الحضارات” لصمويل هانتجتون والجدالات التي ثارت حولهما.

يقتضي التعامل مع مفهوم “الأمة” الوعيَ بطبيعته المركّبة كمفهوم يصف جماعة إنسانية تاريخية وما تحمله من ثقافة متعددة المشارب ومتطورة.. في هذا الإطار يمكن القول بأن تحديد المنحى الصراعي أو التعاوني المقترن بالأمة والعلاقة بين الأمم يتوقف على مجموعة من العوامل والأبعاد المركبة؛ منها:

1-    طبيعة “العقيدة” الأممية؛ أي مدى انفتاحها أو انغلاقها؛ حيث العقائد المغلقة تكون أكثر نزوعًا للصراع.

2-  تحليل البُنية العقدية للجماعة وموقفها من الآخر؛ وهنا يتعين التمييز بين مستويين: الأول– هو المرجعية العقدية (حال وجودها) كالكتاب الـمُنَـزَّل أو النصّ المقدّس مثلاً: وهو المستوى الأكثر خطورة حال تبنيه موقفًا عدائيًّا نهائيًّا من الآخر. المستوى الثاني– هو الخطابات الوسيطة والتأويلية: وينصرف هذا العنصر إلى تلك العملية الحيوية الحضارية النشطة لإنتاج الثقافة في الجماعة. ولا يقل هذا العنصر خطورة عن الأول من حيث تأثيره الحالّ؛ فالخطاب التأويلي مسئول عن طرح الرؤى والتفسيرات – المهيمنة في لحظة تاريخيةٍ ما- للمرجعية، إلى حدِّ أنه قد يتطابق في تصورات العامة والجماعة مع المرجعية ذاتها.. وفي بعض الأمم التي تكون فيها المرجعية ضعيفةً أو مشتتةَ المصادر كالنموذج الأوروبي الوحدوي يكون الخطاب التأويلي الوسيط هو المكوّن الوحيد لعقيدة الجماعة وفكرها. بيد أن أهم ما يميز الخطاب التأويلي كونه تاريخيًا متغيرًا أو قابلاً للتغيير وإعادة الإنتاج رغم ما قد يبدو عليه في بعض النماذج التاريخية (مثل النموذج اليهودي، والطرح السلفي الإسلامي) من صلابة وقداسة تتطابق مع المرجعية ذاتها.. ويعد هذا الخطاب بهيمنته على تفسير المرجعية، المسئولَ عن تقديم رؤية متسامحة أو متعصبة تجاه الآخر؛ ومن ثم عن تفعيل قوى وآليات الصراع أو أسباب التعايش بين الأمم (نموذج لذلك الطرح الإنجيلي الصهيوني، والمدرسة الجهادية السلفية)..

رغم ذلك فإن القانون الذي يحكم الخطاب التأويلي رغم خطورته التاريخية الآنية هو قانون “التغير”، بيد أن تغيره يظل رهنًا بمدى الحيوية الثقافية والحضارية للجماعة.. ويمكن القول إنه كلما كانت هناك مفارقة وشقة واسعة بين المرجعية وخطاب التأويل حرك ذلك الدافعية نحو إعادة التأويل وبناء خطابات وسيطة جديدة لدى الأجيال المختلفة.

3-  طبيعة الجماعة وبخاصة مدى انفتاحها أو انغلاقها. والانفتاح هنا ينصرف إلى معان عديدة؛ منها العضوي (إمكانية الدخول إليها والانضمام لها)، ومنها التاريخي (مدى اختلاطها تاريخيًّا بجماعات عرقية وإثنية وثقافية أخرى مثلاً)، ومنها الواقعي السلوكي (أي مدى الاختلاط والتعايش الواقعي الجغرافي والديموجرافي). ومن البديهي القول بأن الجماعات المنفتحة تكون أقل نزوعًا للصراع من الجماعات المنغلقة.

4-    الطور التاريخي والمؤسّسي للأمة: فقد أشرنا سلفًا إلى وجود أطوار ونماذج وحالات مختلفة للأمة.

والشاهد تاريخيًّا أن أيًّا من تلك الوضعيات التاريخية تفرض منطقها الوجودي الخاص شريكًا للعقيدة في تحديد نَزَعَات الصراع أو التعايش مع الآخر؛ على سبيل المثال فإن انضواء “الأمة” في الشكل المؤسسي للدولة يضيف إلى المنظومة العقيدية منظومة المصالح وحسابات توازن القوى العالمي ونمط التحالفات، فيصبح ضمن موجّهات الحركة والسلوك نحو التعاون أو الصراع، بل إن منطق الدولة قد يعلو أحيانًا عن منطق “الأمة” حتى وإن كان الأخير مصدر شرعيتها (على سبيل المثال: الصراعات بين الدول والحواضر الإسلامية في فترات من التاريخ الإسلامي) وفي تلك الحالة تنفصل “الأمة” مرة أخرى عن الدولة وتمارس تعبيراتها التحتية غير الرسمية وغير المؤسسية المعتادة.

الوظيفة التحليلية لمفهوم الأمة: نماذج لاستخدام المفهوم في الوصف والتفسير والتنبؤ

إذا كانت الوظيفة الأساسية لمستوى التحليل هي التفسير، فإنه يقوم كذلك بوظائف الوصف والتنبؤ. وتنبع فرادة استخدام مفهوم الأمة في الوصف من قدرة هذا المفهوم على الربط أو الجمع بين عدد كبير من التصرفات والأفعال الدولية؛ سواء على مستوى رأسي يتعلق برصد سلوكيات فاعل دولي معين أو عدد محدود من الفاعلين على مدى تاريخي ممتد، أو على مستوى أفقي يتعلق بسلوكيات وأفعال عدد كبير من الفاعلين في فترة تاريخية محدودة. يهدف هذا المنحى الوصفي لبناء اتجاهات عامة لسلوك هؤلاء الفاعلين الدوليين لا تقف عند تصرفات أو أفعال منفردة، بل تضمها إلى جملة من التصرفات الأخرى التي يمكن تفسيرها على ضوء منظومة أهداف “الأمة” المحددة سابقًا؛ سواء بناء الأمة أو الدفاع عنها أو تمددها وهيمنتها على غيرها من الأمم.

في هذا الإطار يمكن القول بأن القدرة التفسيرية للأمة كمستوى للتحليل تبرز بصفة خاصة في حالتين أو ظرفين: الأول إيجابي يتعلق بالعمليات الرامية إلى بناء الأمة وما ينتج عنها ويرتبط بها من تصرفات دولية من قبل فاعلين مختلفين: دول ومنظمات وأفراد وحركات ..إلخ، وكذلك عمليات التضامن أو التعايش والدعم المتبادل بين أمم متقاربة ثقافيًا. يرتبط المجال الآخر للتفسير بمراحل التماسّ بين الأمم وما ينتج عنها من احتكاك أو تصارع نتيجة للتناقض بين أسس البناء والثقافة والأهداف.

من النماذج التي تبرز القيمة التفسيرية لمفهوم “الأمة” في العلاقات الدولية تحليل وتفسير الدور المحوري لكلًّ من بريطانيا ثم الولايات المتحدة في إنشاء إسرائيل والدفاع عنها ومواقفهما في الصراع العربي- الإسرائيلي؛ فالتفسير التقليدي الشائع لهذا الدور يستند إلى مفهوم “المصلحة القومية” بما تنطوي عليه من عناصر الرشادة والعقلانية مستبعدًا أية اعتبارات ثقافية أو عاطفية، وهو يردُّ ذلك الموقف إلى “الصلة بين الرأسمالية الغربية والبرجوازية اليهودية وإدراك الدول الإمبريالية التوسعية في أوروبا أن توطين اليهود في فلسطين يؤدي خدمات جليلة لمصالحها في الشرق”([22]). مثل هذا التفسير يبدو قاصرًا إلى حد كبير في ضوء العديد من الحقائق التاريخية التي يظهرها البحث والقراءة المتعمقة لتطورات موقفي البلدين؛ فالدور البريطاني والأمريكي في دعم إسرائيل نشأةً واستمرارًا لم يقتصر فحسب على السياسيين الرسميين الذين تبوأوا مناصب صنع القرار وتمثّلوا المصلحة القومية لبلادهم وأهدافها التوسعية؛ مثل: دزرائيلي، وبالمرستون، وبلفور، وترومان، وانتهاء بريجان وبوش، وإنما ارتكز على قاعدة واسعة وممتدة أكثر قِدمًا وأعمق جذورًا وتأثيرًا في أوساط المجتمع المدني، تشمل أفرادًا ومؤسساتٍ وجمعياتٍ ومستكشفين وكنسيين ..إلخ، تبنَّت هدف إنشاء إسرائيل وروّجت له، وموّلت مراحل عديدة للاستيطان اليهودي في فلسطين، وضغطت على الحكومات أو أنتجت هؤلاء الساسة الذين تبّنوا تلك السياسة رسميًا([23]).

ويبرز هذا الدور أهمية “التحليل الثقافي” الذي يقود في نطاق العلاقات الدولية إلى منظور الجماعة العقيدية أو الأمة؛ فالتحليل – من هذا المنظور- يلفت الانتباه إلى أهمية إدراج الصهيونية المسيحية أو “صهيونية الأغيار” في المنظومة العامة للحركة الصهيوينة العامة والداعمة لإسرائيل والتي سبق دورها تاريخيًّا وَفَاقَ في كثير من الأحيان في أهميته دورَ الصهيونية اليهودية، وهو منظور يقتضي الاهتمام بتحليل الخطاب الداخلي للصهيونية المسيحية والعلاقات البينية لرافدي الصهيونية.

ويؤدي هذا المنظور (منظور الأمة كمستوى للتحليل) إلى توصيف وفهم وتقييم جِدّ مختلف للصراع العربي- الصهيوني.. ولعل ما يثبت قيمة هذا المنظور أنه يقدم تفسيرًا أكثر قبولاً لظاهرةٍ طالما أعيت المحللين العرب والتي تتمثل في الانحياز الساحق من الرأي العام الأمريكي والبريطاني (وكذا في بعض البلاد التي تسودها العقيدة الإنجيلية) للموقف الإسرائيلي، وهو انحياز يصعب تفسيره بالقول الشائع حول سطوة اليهود على الإعلام الغربي! بينما يمكن فهمه في ضوء وجود ثقافة وعقيدة عامة مساندة تتقبل وتستوعب الخطاب الإسرائيلي والمساند لإسرائيل. وقد أفصحت قضية الاندماج العضوي بين الصهيونية المسيحية والصهيونية اليهودية عن نفسها بصورة صريحة دون تأويل في مطلع الألفية الجديدة مع تولي المحافظين الجدد السلطة في الولايات المتحدة والذين جعلوا من أهداف ورفاهة دولة إسرائيل – وليس مجرد الحفاظ على وجودها – أحد أهم أهداف السياسة الكونية الأمريكية في مطلع القرن الحادي والعشرين.

بناءً على ما سبق يمكن القول إن مفهوم الأمة يمتلك قدرة تنبؤية كبيرة كمستوى للتحليل، تنبع من قدرته على رصد اتجاهات السلوك في العلاقات الدولية وتفسيرها في إطار منظومة الأهداف؛ مما ينبئ بمسارات التوافق والصراع. على سبيل المثال، فإن المتتبع للحركة الدائبة في الحوض الحضاري الإسلامي – منذ مرحلة الاستعمار وما أعقبه من استقلالٍ سياسي وتبعية شاملة – تلك الحركة الدائبة نحو البحث عن هوية وتعريف للذات، ومحاولات للبناء والترميم الداخلي على أسس مختلفة، وجهود وأفكار للوحدة، وخطابات أيديولوجية تتعلق بمجمل المشكلات السابقة (الهوية، الوحدة، النهضة) يمكنه أن يتنبأ بفترة قادمة من عدم الاستقرار في المحيط الإسلامي المرتبط بحالة التكامل الذاتي وعملية إعادة بناء الأمة. وإذا أضيف للمشهد السابق قراءة متزامنة لخصائص الطور التاريخي للأمة الصهيونية ببلوغها مرحلة الهيمنة والتمدد مدعومة بامتداداتها في الأصولية الإنجيلية المتسيدة دوليًّا، وعلى ضوء الموقع الذي اختارته لبناء دولتها في القلب الحضاري الإسلامي بما يخلق نوعًا من المعادلة الصفرية مع الأمة الإسلامية، فإن المشهد العام لا يمكن أن يُنبِئ إلا بقدر هائل من عدم الاستقرار الدولي والصراعات العنيفة على المدى المنظور في المنطقة الإسلامية عمومًا والشرق الأوسط على وجه الخصوص، ربما تمتد تلك الصراعات لتشمل القرن الحالي بأسره.

رابعًا- أبعاد النظرية الإسلامية في نشأة وتطور الأمم:

لا يعني الحديث عن نظرية أو فكر “إسلامي” إضفاء قداسة من أيِّ نوع على ذلك البناء الفكري وإن استُنبط من مصادر مقدَّسة؛ ذلك أن مجرد الحديث عن أية معالجة بشرية للنصوص أو المرجعيات ينقل البحث على الفور إلى مناط الاجتهاد والتأويل ومجال تعدد واختلاف النظر. في هذا الإطار يقدم هذا المقال في ختامه محاولةً لاستنباط أبعاد النظرية أو التصور الإسلامي لنشأة وتطور وعلاقات الأمم كما ورد في القرآن الكريم بشكل أساسي. بيد أننا – وقبل ذلك- سنشير إلى خبرة مهمّة في التاريخ والأصول الإسلامية تتعلق ببناء الأمة نفسها بعناصرها الأربعة السابقة الإشارة إليها، وعلى رأسها ثنائية الجماعة- العقيدة؛ هذه الخبرة هي الخبرة النبوية.

تحمل الخبرة النبوية حشدًا تطبيقيًّا هائلاً لتلك القواعد عبر تجربة حية ومتكاملة لتأسيس الأمة في الواقع الإسلامي، يزيد من قيمتها كونها خبرةً موثقة لها مصادرها المروية والمكتوبة. لكن هذه التجربة لها أيضًا إضافاتها النظرية المهمة التي تعود إلى التصدي لمشكلات الواقع الحي في تأسيس أمة بتعقيداته المختلفة والتفاعل الإيجابي الحي مع تلك المشكلات؛ مما يفتح الباب أمام الإسهام الحضاري للجماعة في بناء الأمة وخصائصها من خلال منهج الاجتهاد في مواجهة مشكلات الواقع. ولعل أهم ما تقدمه الخبرة النبوية من إضافات يتعلق بإشكالية بناء الأمة في ظل التنوع والتعدد الثقافي والعقيدي (تعدد الأديان والعقائد)، وهي إشكالية حية ومتجددة تواجه كافة الأمم دون استثناء تقريبًا. لقد أدى الطرح النبوي لهذه المشكلة إلى نقلة نوعية في التاريخ الإسلامي هي نقل مفهوم الأمة من مفهوم “ديني” إلى مفهوم “حضاري” يتعامل مع تعدد الأديان وتداخل الأقوام، ويخلق قاعدة مشتركة للتماسك الحضاري إلى جانب التماسك العقدي بين الأغلبية. تتضح الخبرةُ النبويّة في بناء الأمة الحضارية بشكلٍ متكامل من خلال تحليل “صحيفة المدينة”([24])؛ إحدى أهم وثائق العهد النبوي والتي تتمثل في الأبعاد التالية:

1- إن الأمة في أرقى صورها هي كيان جمعي يتشكل بصورة واعية في صورة عَقد اجتماعي يتضمن نسقًا من الحقوق والالتزامات المتبادلة بين أطرافه.

2- الأطراف الأصلية لبناء الأمة ثلاثة: هم الجماعة كشخصية اعتبارية مستقلة، والفرد أو الأفراد وهم الوحدات الأساسية لهذه الجماعة (توجد وحدات فرعية في شكل الجماعات والمؤسسات الثانوية التي تفرزها الجماعة)، وهناك المرجعية الدينية التي يحتكم إليها هذا العقد الاجتماعي بطرفيه.

3- الجماعة هي مركز السلطة التي يتنازل لها الأفراد عن بعض حقوق السيادة الكاملة على أنفسهم في مقابل حفظ سائر الحقوق المدنية والانتماء لكيان جمعي يضمن لهم القوة. فالحاكم لم يكن طرفًا في هذا العقد الاجتماعي/ السياسي.. وموقع الرسول r في هذا العقد -كما يستشف من الوثائق الثلاث خاصة دستور المدينة- هو كونه ممثلَ المرجعية الدينية (أو صاحب الشرع) وليس الحاكم. “هذا كتاب من محمد النبـي([25]).. لقد تناولت الوثيقة قضية السلطة في المجتمع إلا أنها وضعت عقدة النظام والسلطة في يد الجماعة([26]): “وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا – المثقل بالديون- بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل”، “وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدوانًا أو فسادًا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان والدَ أحدهم”، “وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض”، “وأن سِلْم المؤمنين واحدة”، “لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا عن سواء وعدل بينهم”، “وأن المؤمنين يبـيء بعضهم عن بعض فيما نال دماءهم في سبيل الله”.. وعليه فإن عملية التنازل عن السلطة الفردية والقبلية التي اتُّفق عليها بموجب تلك الصحيفة لم تسلم لفرد أو نخبة بعينها، وإنما لجماعة المؤمنين بشكل أصيل، وقد تجلى ذلك في مجموعة من الحقوق والاختصاصات المهمة التي كانت موضعًا للتنازل؛ مثل: حق القصاص، سلطة ردع الاعتداء بين أفراد المجتمع، حق إبرام الاتفاقات مع الجماعات الخارجية، واختصاص شن الحرب.

4- تأكيد قيمة ومسئولية الفرد إلى جانب الجماعة في بناء الأمة: وهو مبدأ مستحدث شديد الخطورة في مجتمع عشائرى اعتاد تذويب الأفراد وجودًا ومسئوليةً في بنية الجماعة (بمعنى أدق الجماعات الفرعية)، وعدم ظهور الكيان الفردي إلا في حالة التمرد ومفارقة تلك الجماعة الأولية؛ حيث يفقد آنذاك جل حقوقه عليها.. لقد تجلت تلك القيمة المستحدثة للفرد من خلال نسقٍ من الحقوق والمسئوليات الفردية مثل: التأكيد على مسئولية الفرد الجنائية عن أفعاله، وهي قفزة غير مسبوقة، وتنحية دور العشيرة في هذا السياق إلا من ضمان المسئولية المادية (التعويض أو الفداء)، وهناك إقرار المساواة بين أفراد الجماعة في الدماء، والمساواة في الشخصية القانونية (التي تجلت آنذاك في حق الإجارة: “وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم“..) وقد التزمت الجماعة بضمان تلك الحقوق للأفراد في مقابل التزام الأفراد جميعًا بنظام الجماعة الداخلي وتعهداتها والتزاماتها الخارجية.

برغم هذه القفزة النوعية على صعيد تأكيد قيمة الفرد إلا أن تجربة نشأة الأمة في مطلع الإسلام أكدت -في الوقت نفسه- احترامَ التكوينات الاجتماعية والمؤسسات التي يفرزها الاجتماع البشري؛ مثل: الأسرة، والعشيرة، مع تحديد دورها بحيث لا تنازع التكوين الجماعيَّ الأصلي (الأمة) دورَه، ولا تقضي على دور الفرد. وقد عنيت الوثائق المنشئة للأمة بتوظيف تلك البناءات الاجتماعية الفرعية بما يخدم ثنائية الفرد/الأمة بشكل إيجابي (مثل تأكيد المسئولية المدنية للعشيرة عن تصرفات أعضائها في الفداء والعَقْل بما يؤدي إلى حفظ الحقوق).

5-  إن المرجعية العليا والنهائية في تقرير الحقوق وفضّ المنازعات بين أفراد العقْد هي للعقيدة: وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مردَّه إلى الله وإلى محمد”، “وإنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردّه إلى الله وإلى محمد رسول الله“.

6-  من أخطر المشكلات التي عالجها النموذج الإسلامي/النبوي في بناء الأمة قضية موقع الأقلية من الأمة. لقد طرح هذا النموذج حلاً تاريخيًّا فذًّا لتلك المشكلة الواقعية؛ حيث يصعب -إن لم يكن مستحيلاً- وجود أمة خالصة تجتمع وتتوافق فيها كافة العناصر. قام الحلُّ النبويّ على الاعتراف بمنظومة تجمع بين قبول “الوحدة والتعدد” في بناء الأمة وتشكيل مفهومها. فهناك “الأمة القلب” التي تستوفي كل عناصر البناء الجمعي: “المؤمنون أمة واحدة من دون الناس“، ولكن هناك أيضًا أهل الكتاب الذين يعيشون مع المؤمنين ويشاركونهم الوطنَ وجانبًا من الإيمان، وهنا أقرت “صحيفة المدينة” بمبدأ تعدد مستويات الأمة؛ فاستوعبت هؤلاء في مفهوم أوسع للأمة حيث هم “أمة مع المؤمنين“. ترتب على ذلك الوضعِ إقرارُ نفس الحقوق الفردية والجماعية التي أُقِرَّت لآحاد المؤمنين وجماعاتهم الفرعية للأقلية من أبناء الوطن الواحد، مع تأكيد التزام الأقلية بسياسة وسيادة الأغلبية خاصة فيما يتصل بعلاقات الأمة الخارجية. تجلَّى ذلك في العديد من القضايا الشائكة؛ مثل قضية الحرب حيث ميزت الخبرة النبوية بين الحرب دفاعًا عن الوطن المشترك بما يلزم الجميع أقلية وأغلبية: “وأن بينهم النصر على من دهم يثرب“، وبين قضية الجهاد الديني الذي يشكل مكانة محورية لدى المسلمين؛ وهو مسئولية جماعة المؤمنين. ومن بين تلك المسائل الخضوع لسيادة الجماعة في العلاقات الخارجية بعدم مسالمة أعداء الأغلبية أو نصرهم: “إلا من حارب في الدين”، “لا تجار قريش ولا من نصرها“. وعدم الدخول في حروب وعداءات بشكل منفرد: “وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد“.

والخلاصة التي ننتهي إليها أن الخبرة النبويّة قدمت إضافات قيمة جدًّا على الصعيد التطبيقي لبناء الأمة؛ من حيث ترجمة المفهوم القرآني عملاً ومواجهة المشكلات التطبيقية وحلها لبناء الأمة، وعلى صعيد نسج العلاقات والبنى الداخلية على أرض الواقع سواء ما يتصل بمنظومة علاقات الفرد والجماعات الأولية بالجماعة الكبرى (الأمة) أو بمنظومة العلاقات بين الأقلية والأغلبية.

(ملحق)

النظرية القرآنية في نشأة وتطور الأمم

تقع النظرية القرآنية ضمن “النظريات الدينية”؛ وهو ما يطبعها بسمات جوهرية يتعين الوعي بها:

1- إن الحقيقة الأساسية التي تنطلق منها هي وجود الخالق الأعلى؛ ومن ثم فإن العلاقات المحورية في النظرة الدينية هي العلاقة بين الله والإنسان، أما سائر العلاقات فهي فرعية يتعين النظر لها من مدى انبثاقها عن نسق علاقة الألوهية والطاعة وتعبيرها عن قيمها.

2-إن الإطار الزمكاني الذي تغطيه النظريةُ الدينية هو إطار أوسع من نطاق التاريخ الإنساني فهو إطار فوق تاريخي يمتد إلى ما قبل الخلق (قضية وجود الخالق، والميثاق أو العهد الغليظ الذي علق به البشر، وخلق الفطرة، ومرحلة الجنة والخروج وتحديد مهمة الإنسان في الأرض)، كما يشمل ما بعد التاريخ (البعث والحساب وإما الجنة أو النار)؛ وهنا فإن تاريخ البشر – ومنه تاريخ العلاقات الدولية- إنما يقع بين هذين الحدين ويرتبط بهما ليس ارتباطًا موقعيًّا أو مرحليًّا بل ارتباطًا موضوعيًّا وشرطيًّا؛ حيث إن مدى استيعاب العلاقات الدنيوية (فردية وجماعية) للشروط والتعاهدات والدروس التي انطوت عليها محنة الخلق الأول والخروج من الجنة هو مِعوَل تحديد مكانة الأفراد والجماعات في المرحلة الثالثة والأخيرة. وإذا ما نحن نظرنا لمدلول هذا الوضع في إطار التاريخ والعلاقات الإنسانية وحدها (المرحلة الثانية) فإن مرحلتي الماقبل والمابعد تلعبان دورًا كبيرًا ومؤثرًا عند الجماعات التي تستوعب وتؤمن بهذا الطرح الوجودي؛ لأن هاتين المرحلتين تسهمان إسهامًا كبيرًا في تحديد الأهداف، والقيم ومعايير السلوك الإنساني، كما أن هذا الإيمان – وهذه مسألة مهمة في مجال العلاقات الدولية- يدخل في الحسابات الرشيدة للمكسب والخسارة وتكلفة الفعل الإنساني وعوائده.

3- إن العلاقات الدولية – من هذا المنظور- هي رصد حركة وتفاعلات الجماعات وعلاقاتها البينية في المرحلة الإنسانية الثانية وفق المنظور الإسلامي (والديني) للوجود. وهي مسألة مهمة على النحو الذي سنراه في النظرية القرآنية.

4- إن الحديث عن نظرية قرآنية لحركة البشر لا يعفي المسلمين من مطلب النظر واستنباط سُنن وقواعد ودروس ونظريات التاريخ. فما عنيت به هذه النظرية إنما هو بناء نسق من العقائد والسلوكيات التي تهدف للهداية والإصلاح وتوجيه وإرشاد البشر؛ وصولاً إلى أفضل الأوضاع في المرحلة الثالثة. أما النظريات التحليلية والتفسيرية للتجارب الدنيوية فقد تُركت للجهد البشري كإحدى مهماته.

ملامح النظرية القرآنية:

من أهم ملامح النظرية القرآنية لنشأة وتطور الأمم:

1- أن المساواة والوحدة هي القاعدة التي انبثق عنها الوجود البشري ابتداءً؛ فقد كان الناس أمة واحدة عند بدء الخليقة تتوفر لهم وتجمعهم الأبعاد الأربعة للأمة المشار لها سابقًا.

2- أن الاختلاف والتنوع هما من أهم سُنن وقواعد الوجود البشري. فالاختلاف هو إحدى الحتميات المرتبطة بوجود الإنسان وطبيعته المفطور عليها. والتنوع ابن الاختلاف؛ بمعنى أن ظاهرة التنوع البشري هي النتيجة الطبيعية المترتبة على اختلاف البشر في الرأي والأفكار والأماكن. وكلٌّ من الاختلاف والتنوع هما المسئولان عن التطور التاريخي الثاني في تاريخ الوجود الجماعي للإنسان؛ وهو الانقسام من أمة إنسانية واحدة إلى أمم شتى: }وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ{([27])، } وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {11/118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {([28]).

3- نزلت الأديان السماوية من أجل حلّ الخلافات التي نمت بين البشر في مختلف أمور حياتهم، ومنها ما يمسّ القضايا الوجودية والحياتية، وإعادة ربطها مرة أخرى بتوجيه إلهي صحيح، بكل من المرحلة الأولى والأخيرة من الوجود الإنساني، بعيدًا عن تأويلات البشر واجتهاداتهم المتباينة: } كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ {([29])، }وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ {([30]).

4- الطبيعة البشرية النازعة للاختلاف والتناحر والصراع بين الأمم قد دخلت في علاقة جدلية، ليس فقط مع النـزعة البشرية للتجمع أو الاجتماع، وإنما مع التوجيه الإلهي ذاته؛ لقد أدى موقف البشر من الأديان والرسل ما بين القبول والشك والاختلاف إلى انقسام البشر بين أمم مؤمنة وأخرى كافرة: }تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {([31]). : }ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ{([32]).

بل إن نزعة الصراع والانقسام امتدت إلى أتباع الرسالات والأديان السماوية ذاتها؛ نتيجة الاختلاف في فهمها وتأويلها أو محاولة ليّ عنق النصوص لخدمة أهواء ومصالح دنيوية معينة مما قاد إلى انحرافهم بالأديان التي نزلت لتوحيدهم، وأدى إلى مزيد من الانقسام وظهور أمم من داخل أمم: } كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ{([33]).

5– إن تاريخ الاجتماع البشري وحركته قد شهد نقلة نوعية نتيجة ظهور نمط جديد من تفاعلاته مع الإرادة الإلهية؛ بدخوله مرحلة الأديان الكبرى. فقد قامت تلك الأديان على قاعدتين أساسيتين: الأولى- هي الاعتراف بالاختلاف بين البشر والعمل على ترشيده بل جعله قوة إيجابية في حياة الإنسان وفي علاقته الأصلية بالخالق، في سياق الهدف الأعلى للحياة البشرية (حسن العبادة بما يؤدي إلى النجاح في المرحلة البشرية الثالثة: ما بعد الحياة)، الأمر الثاني- هو خلق إطارات وحدة وسياقات أممية أكبر تنهي حالة التشرذم في ظل حالة “أهل القرى” والأقوام السابقة، مما حقق وجودًا عبر-قومي وعبر-قاري للأمم لأول مرة في التاريخ ومثَّلَ خطوةً كبيرة نحو وحدة العالم مرة أخرى. بل إن هذا التطور النوعي يوجِد الأساس لوحدة إنسانية أشمل تقوم على أساس وحدة أصل الأديان الثلاثة وركائزها رغم اختلاف شرائعها وطقوسها.

لقد عبرت الآيات القرآنية عن هذا التطور النوعي في العديد من الآيات؛ فوجهت النظرَ إلى طبيعة وهدف الاختلاف المحمود وحدوده بين الأمم الثلاث الدينية الكبرى: كونه يهدف إلى امتحان وابتلاء كل أمة فيما خصها به من شرائع، وإلى خلق قاعدة للتنافس الحميد بين الأمم في إرضاء الخالق (استباق الخيرات): } لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {([34]) وعن قاعدة الاتفاق والوحدة بين الأمم الناشئة على أسس سماوية يقول سبحانه وتعالى: } قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ{([35])، وقال: } وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ {([36]).

6- تؤكد النصوص القرآنية على قواعد مهمة للتعايش بين أبناء الأمم العقيدية الكبرى؛ أهمها التأكيد على القواسم المشتركة، وتجنب إثارة الجدل حول الخلافات العقيدية كمنهج عقيم لن يؤدي إلا إلى مزيد من التناحر، مع العمل على إقامة العلاقة والمعاملات بين هذه الأمم وأفرادها على قاعدة “العدل” كقيمة دينية وإنسانية غير مختلف عليها يقول (تعالى): } وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ {([37]).

لكن رسالة السلام والوحدة هذه بين الأمم الثلاث الكبرى في العالم والقادرة على جلب السلام للبشر ككل تظل مرهونة بقدرة تلك الأمم على استيعاب المضمون البنَّاء للاختلاف والحدّ من العناصر الهدمية فيه، كما تتوقف على السيطرة على نوازع الصراع والتناحر البشرية الكامنة.

خاتمــة:

كان ما سبق محاولة لطرح “مفهوم الأمة” في سياق جديد، هو سياق العلم بدلاً من سياق الفكر، محاولة للخروج من أسر استخدامه الطويل كحالة معينة لجماعة معينة (الأمة الإسلامية) إلى توظيفه كأداة لفهم بعض أبعاد ظاهرة الجماعة –بصفة عامة في الوجود الإنساني- وتفاعلاتها في نطاق العلاقات الدولية.. وتود الباحثة أن تؤكد على العديد من النقاط المهمّة:

1-   إن هناك قابلياتٍ واسعة لدى عديد من المفاهيم الإسلامية لهذا الاستخدام والتوظيف؛ إما كمفاهيم أصلية جديدة وبِكْر في نطاق العلوم الاجتماعية، أو كمفاهيم ضابطة تُحِدث تعديلات أساسية في مفاهيم علمية ومنهجية وسياسية رائجة.

2-   إن شرط هذا التعامل الجديد مع بعض المفاهيم الإسلامية هو التمييز بين المفهوم والنظرية؛ باعتبار الأول هو وحدة بناء النظرية وأداتها وهو القابل للتجريد والاستخدام المنهاجي، كذلك التمييز بين الأبعاد الوظيفية والأبعاد الثقافية للمفهوم.

3-   إن المُشْكِل الأساسي في التعامل والتوظيف العلمي للمفاهيم الإسلامية هو عدم التمييز بين المصادر الثابتة من جانب والمصادر النسبية التاريخية لاستنباط المفاهيم من جانب آخر، بين الأصول من ناحية والخطابات التأويلية التاريخية التي تتعامل مع المفهوم من منطلق قراءة تاريخية وتحديات معينة. فالمصادر الأخيرة هي مصادر ثانوية تفرض قيودًا كبيرة تفرغ المفهومَ الأصلي من زخمه وثرائه وتصادرُه لصالح تاريخ بعينه، بينما تطرح المصادر الخالصة (وهي دائمًا مناط الاجتهاد) معينًا لا نهاية له للاستنباط والتفاعل الحي مع الواقع.

4-   إن المنحى المستخدم في هذه المقالة هو إحدى الوسائل الضرورية للثقافة الإسلامية وسائر الثقافات غير الغربية لإنهاء حالة العزلة والتهميش التي فرضتها عليها المركزية الغربية في مجال المعارف والعلوم. إنها السبيل لتأكيد الطابع الإنساني للتراث الفكري والعلمي وإنهاء حالة الاحتكار والتمركز على الذات في المعارف والبحوث الإنسانية المعاصرة؛ وذلك بمبادرة ذاتية من الثقافات (الأخرى) للاندماج في التراث “الإنساني” المشكوك حتى الآن في نزاهة تمثيله للخبرة والتراث الإنساني العام.

الهوامش

(1) Barry Buzan, The Level of Analysis Problem in The International Relations Reconsidered, (in): Ken Booth and Steve Smith (eds.), International Relations Theory Today, Pennsylvania State University Press, 1995. p.199.

(2) see:, Ronald J. Yalem., The Level –of- Analysis: Problem Reconsidered, Year Book of World Affairs, 1977.

(3) Buzan, Op.Cit, p:203.

(4) انظر الإشارة إلى ذلك في: جيمس دورتي وروبرت بالتسغراف، النظريات المتضاربة في العلاقات الدولية، ترجمة د.وليد عبد الحي (الكويت: دار كاظمة للنشر والترجمة والتوزيع، 1406هـ- 1985 م) ص 19.

(5) David Singer, The Level of Analysis Problem in The International Relations, World Politics, Vol. 14, No. 1, 1961.

(6) يرى عبد الله العروي أن هناك تناقضا جوهريًا بين المنظور الإسلامي والديني عمومًا وبين نظرية الدولة لأن المفهوم الديني يفرض على الدولة هدفًا من خارجها أو أعلى منها، بينما تفترض نظرية الدولة –التي جسد هيجل تصورها المثالي- أن تكون الدولة هي المنبع النهائي لقيمها وأهدافها، انظر: عبد الله العروي، مفهوم الدولة ( الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 1983) ص ص 11- 32.

(7) انظر المسح القيم لمفهوم الأمة لدى كتابات المفكرين الإسلاميين في: د. سيد عمر، “حول مفهوم الأمة في قرن: نقد تراكمي مقارن” في الأمة في قرن: عدد خاص من أمتي في العالم.. حولية قضايا العالم الإسلامي 1420-1423هـ/2000-2001م، الكتاب الأول (القاهرة: مكتبة الشروق،1423هـ/2002م) ص ص 61-130. ورغم قصر تناولها للمفهوم على الحالة الإسلامية أيضًا تقدم د. منى أبو الفضل دراسة نادرة وقيمة للمفهوم كمفهوم قابل للتوظيف في العلوم السياسية بما يقتضيه ذلك من التجريد التأصيل النظري وإشكاليات ذلك منهجيا انظر: د. منى أبو الفضل، الأمة القطب: نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1982).

(8) حول خصائص الأمة الإسلامية كنمط مثالي مجرد يقاس عليه انظر: د. منى أبو الفضل، الأمة القطب: نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام ، سلسلة قضايا الفكر الإسلامي –رقم 14 (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1417هـ/1996م).

(9) يقول تعالى: (وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (القصص: 75) وهو ما يعني أن مسئولية الأمة تمتد ليس فقط في الحياة الدنيا بل في الآخرة. وحول نفس المعنى لحشر الأمم جماعة يوم الدين بما يعني نوعًا من إقرار المسئولية الجماعية انظر مثلاً: آيات النمل (83-84)، النساء (41).

(10) يستخدم النص القرآني لفظ “الأمة” للتعبير عن كل جماعة لها معتقد معين وإن كان وثنيًّا، مثال ذلك قوله تعالى: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 108).

(11) انظر تفسير محمد فريد وجدي لآيتين من سورة الزخرف في المصحف المفسّر بتفسير محمد فريد وجدي، (القاهرة: دار المعارف، د.ت)، ص 649.

(12) آية 63 من سورة طه.

(13) آية 104 من سورة آل عمران.

(14) آية 34 من سورة الأعراف، وآية 49 من سورة يونس.

(15) آية 93 من سورة النحل.

(16) آية 134 من سورة البقرة.

(17) آية 45 من سورة يوسف.

(18) انظر تفسير محمد فريد وجدي للآية على هامش المصحف المفسّر، مرجع سابق، ص 310.

(19) حول محورية العقيدة في بناء مفهوم “الأمة” في مقابل الإقليم في منظور القومية انظر: فتحي عثمان، دولة الفكرة التي أقامها رسول الإسلام عقب الهجرة ( القاهرة: مكتبة وهبة، د.ت) ص ص 18-19. وانظر أيضًا: د. منى أبو الفضل، الأمة القطب: نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام، مرجع سابق، ص 15 وما بعدها.

(20) Yalem, Op. Cit. p324.

(21) تعليق للأستاذة الدكتورة نادية مصطفى، على هامش مراجعة هذا البحث اتفق على تضمينه في البحث لارتباطه بصميم الموضوع.

(22) د. أمين عبد الله محمود، مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، عالم المعرفة، فبراير/شباط 1984 (الكويت:

(23) حول تلك الجهود وأهميتها انظر: المرجع السابق، ص ص 17-45. وانظر أيضًا: سمير مرقس، “اليمين الديني الأمريكي: المسيرة من التأثير القاعدي إلى المشاركة في السلطة”، في: د. نادية مصطفى وآخرون (تحرير)، السياسة الأمريكية تجاه الإسلام والمسلمين : بين الأبعاد الثقافية والحضارية والأبعاد الاستراتيجية ، سلسلة برنامج حوار الحضارات (القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة، 2002) ص ص 149-176، بالإشارة إلى ص ص 168- 173. وانظر أيضًا: عمر كيلاني، “المنشأ الأوروبي للصهيونية ومراحل تهويدها”، في صحيفة الحياة اللندنية، الخميس 25 كانون أول (ديسمبر) 2002، ص 15 (قضايا وتحقيقات).

(24) اعتمد هذا البحث على نص الصحيفة الوارد في: عون الشريف قاسم، نشأة الدولة الإسلامية على عهد رسول الله r: دراسة في وثائق العهد النبوي (القاهرة- بيروت: دار الكتب الإسلامية- دار الكتاب المصري،- دار الكتاب اللبناني، الطبعة الثانية، 1401هـ، 1981م) ص ص 283-287.

(25) المرجع السابق.

(26) المرجع السابق. و يبيء: من أبأت القاتل بالقتيل، إذا قتلته به.

(27) آية 19 من سورة يونس.

(28) الآيتان 118و119 من سورة هود.

(29) آية 213 من سورة البقرة.

(30) آية 47 من سورة يونس.

(31) آية 63 من سورة النحل.

(32) آية 44 من سورة المؤمنون.

(33) آية 213 من سورة البقرة.

(34) آية 48 من سورة المائدة. وانظر أيضًا آية 93 من سورة النحل.

(35) آية 64 من سورة آل عمران.

(36) آية 34 من سورة الحج.

(37) آية 15 من سورة الشورى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر