أبحاث

وسطية الفتوى : رؤية منهجية

العدد 130

يمكن أن نلخص أهداف إسلام أون لاين . نت في أنه موقع يهدف بصورة أصيلة لأن يكون المسلم محافظا على أساسيات دينه، ولا يتهاون في أدائها، وذلك من خلال مجموعة من الأقسام المتخصصة، وأركز هنا على القسم الشرعي الذي يضم النطاق الشرعي، والدعوي والتزكوي، وكل واحد من هذه النطاقات يقدم رؤية شرعية ضابطة وحاكمة للمسلم سواء كان في سؤاله الشرعي، أو سلوكه الرباني الإيماني، أو في احتكاكه بالآخرين، ويخدم على ذلك نخبة من علماء الاجتماع والطب، والنفس، وكذلك يهتم بالطفولة والأبناء، ويقدم للمسلم الأخبار المحيطة والعاجلة التي تهمه في العالم الإسلامي كله .

كما يقدم الموقع الحلول الشرعية للنوازل العصرية فيقدم الحكم الفقهي للمسألة بصورة متوازنة عبر الفتاوى التي ينتجها الأفراد العاملين بالقسم، أو ما تقدمه المجامع من قرارات، أو خلاصة الندوات المتخصصة، ويدرك إسلام أون لاين . نت أنه لا يقدم الرأي النهائي في الموضوعات المستجدة، ولكنه يقدم آخر ما وصل إليه العلماء في المسألة.

رسالة النطاق الشرعي بإسلام أون لاين . نت وأهدافه وقيمه الحاكمة:

تتلخص رسالة النطاق الشرعي في “إرشاد الناس إلى العبودية لله وفق رؤية معاصرة مستندة إلى الشرع”، وقد يظن البعض أن هذه الرؤية المعاصرة عبارة عن ضابط يتحكم في الشرع، كلا وإنما هي محاولة فهم الواقع المعاصر، وتقديمه في قالب إسلامي، فالرؤية المعاصرة لا تنفصم عن الشرع كأصل يضبط قالبها، ويبلور محتواها، وفق أهداف معينة، وقيم محكمة.

وأهدافه التي تتبلور في إيجاد مسلم معاصر يتفاعل مع الأحداث اليومية، بقلب حي يتق الله تعالى، وبصيرة بالحكم الشرعي الوسطي في المسألة المطروحة، مع الاهتمام بمجموعة من القيم الحاكمة التي تتبلور في شرعية المرجعية، والواقعية في المعالجة، وعالمية الخطاب، وإنسانية الطرح.

ولقد تميز الموقع بأنه يقدم الفتوى بطريقة تعتمد على الوسطية كمنهج في تقديم الفتوى للجمهور، وهذه الوسطية مع الأسس الحاكمة والقيم الضابطة تمثل ضابطا مهما تميز به إسلام أون لاين . نت .

ونعني بالوسطية في تقديم الفتوى التوازن بين الثبات والتغير، بين الحركة والسكون، وهي التي تأخذ بالعزائم دون التجافي عن الرخص في مواطنها.

وهي التي تطبق الثوابت دون إهمال للمتغيرات، تتعامل مع تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع، تقيم وزنا للزمان، تفرق بين المتماثلات والمتباينات؛ إعمالا للحاجات وللمصالح وعموم البلوى والغلبة وعسر الاحتراز.

ونعني بالوسطية هنا – أيضا- المقارنة بين الكليّ والجزئيّ، والموازنة بين المقاصد والفروع، والربط بين النصوص ومعتبرات المصالح في الفتاوى والآراء؛ فلا شطط ولا وكس.

وللتدليل على مفهوم الوسطية في الفتوى نقتطف من الموافقات القطوف التالية إذ يقول الشاطبي: “المفتى البالغ ذِروة الدرجة هو الذي يَحمِلُ الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور؛ فلا يذهب بهم مذهبَ الشِّدَّة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.

والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة؛ فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلفِ الحملُ على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين.

وأيضا: فإن هذا المذهب كان المفهومَ من شأن رسول الله r وأصحابه الأكرمين، وقد رد عليه الصلاة والسلام التبتل. وقال لمعاذ لمَّا أطال بالناس في الصلاة: (أفتان أنت يا مُعاذ؟)(1). وقال: (إن منكم مُنَفِّرين).

وقال: (سَدِّدوا وقارِبوا واغدُوا ورُوحوا وشيءُ من الدُّلْجة والقصدَ القصدَ تَبلُغُوا) (2)، وقال: (عَلَيْكُم مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فإنَّ اللهَ لا يمَلُّ حتى تمَلُّوا). وقال: (أَحَبُّ العَمَلِ إِلَى اللهِ مَا دَاومَ عَلَيْهِ صَاحِبُه وإِنْ قَلَّ)(3) ورد عليهم الوصال، وكثير من هذا.

وأيضا: فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق. أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا.

لأن المستفتي إذا ذُهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة وهو مشاهد.

وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة.

والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلكة، والأدلة كثيرة”(4).

مرتكزات وسطية الفتوى في إسلام أون لاين . نت :

وتقوم وسطية الفتوى على أربع ركائز:

أولا- قاعدة تغير الفتوى بتغير الجهات الأربعة (الزمان والمكان والأحوال والأشخاص):

وكان عمر -رضي الله عنه- ممن له نصيب في تأصيل هذه القاعدة؛ فمن ذلك أنه لم يعط المؤلفة قلوبهم مع ورود ذلك في القرآن، ورأى أن عز الإسلام موجب لحرمانهم.

وكذلك إلغاؤه للنفي في حد الزاني البكر خوفا من فتنة المحدود والتحاقه بدار الكفر؛ لأن إيمان الناس يضعف مع الزمن.

ومن ذلك أمر عثمان بالتقاط ضالة الإبل، مع ورود النهي عن هذا الفعل؛ وذلك لما رأى من فساد الأخلاق وخراب الذمم، وورّث تماضر الأسدية لمّا طلقها عبد الرحمن في مرض موته..

وأمير المؤمنين علي – رضي الله عنه- يضمن الصناع بعد أن كانت يد الصانع أمانة قائلا: (لا يُصلح الناس إلا ذاك).

وقد وردت هذه القاعدة في مجلة الأحكام العدلية بعنوان: (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان).

غير أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها؛ فالمأمورات والمنهيات المعلومة من الدين بالضرورة لا تخضع لقاعدة التغير بسبب الزمان.

فالذي يتغير هو الأحكام الاجتهادية، وأما القطعيات من الأحكام فلا تتغير؛ فلا يمكن أن تتغير المواريث بدعوى أن المرأة أصبح لها شأن، ولا يمكن أن يتغير تحريم ربا النسيئة في بلاد الإسلام، ولا تحريم أكل الميتة والخنزير.

وتغير الفتوى لا يكون إلا لترجح مصلحة شرعية لم تكن راجحة في وقت من الأوقات، أو لدرء مفسدة حادثة لم تكن قائمة في زمن من الأزمنة.

والأمثلة في المذاهب كثيرة، منها ما نقله ابن عابدين في حاشيته من أن المتقدمين من فقهاء المذهب يرون بطلان الإجارة على الطاعات، ولكن جاء المتأخرون، وصححوها على تعليم القرآن، ثم جاء من بعدهم وصححوها على الأذان والإمامة، وذلك للضرورة، والحفاظ على تعليم القرآن وإقامة الشعائر.

وفي مذهب الأحناف أيضا أن المرأة إذا قبضت معجل المهر، فعليها اتباع زوجها حيث شاء، ثم جاء المتأخرون وأفتوا بخلاف ذلك، ورأوا بأن المرأة لا تجبر على السفر مع زوجها إلى مكان إذا لم يكن وطنا لها وذلك لفساد الزمان والأخلاق(5).

وقد التزم إسلام أون لاين . نت هذه القاعدة فكانت الفتاوى مرتبطة بهذه القاعدة لا سيما في فتاوى البنك المؤقت التي تتميز بشيء من الخصوصية والسرية، ولا يطلع عليها سوى صاحبها فبالتالي لا تثبت الفتوى على حال واحد، وإنما تتغير بتغير الأشخاص فلكلٍ فتوى تخصه وتراعي البيئات، فالعرف في ليبيا يختلف عنه في مصر عنه في العراق، فعندما تقول فتاة: إنها تمت قراءة الفاتحة عليها فنراعي هنا أن المقصود في مصر مقدمة الخطبة، وفي ليبيا تم عقد قرانها، وفي العراق هناك حالة وفاة تمت بالفعل، فهنا لا بد أن يراعي العاملون في الموقع هذه الأعراف، كما أن ما يفتى به قبل الجريمة لا يفتى به بعدها، وأن البيئة بعرفها تلعب دورا كبيرا فالإمام الشافعي – رحمه الله – غير فقهه في القديم (العراق) لفقه جديد عندما زار مصر مفعلا بذلك دور العرف.

ثانيا- قاعدة العرف:

وهذا أصل هام من أصول الفتوى، نطق به العلماء؛ حيث قال ابن عابدين: “ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما بظاهر الرواية ويتركا العرف”(6).

وقال الإمام القرافي في حديثه عن العرف: “وعلى هذا القانون تُراعى الفتاوى على طول الأيام؛ فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك؛ بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجرِه على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأجره عليه، وأفته به دون بلدك والمقرر في كتبك؛ فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات؛ فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحا مستغنية عن النيّة”(7).

وليس هناك كلام أبين في الدلالة على العرف من هذا الكلام، فلا يحكم الإنسان على الناس بما علم من عرف بيئته، ولكن يسألهم عن بيئتهم.

ثالثا: قاعدة النظر في المآلات:

ومما يصب في جداول المصلحة ويسير في دربها قاعدة النظر في المآلات في الأقوال والأفعال، وقد نص الشاطبي على أن المفتي عليه أن ينظر في مآل فتواه، وقد فصل الإمام الشاطبي في هذا الأمر، ورأى أن المفتي عليه أن يتمهل، وأن ينظر ما يؤول الأمر في فتواه؛ فقد يكون هناك شيء مشروع لجلب منفعة، أو لدرء مفسدة، ولكنه له مآل على خلاف ما قصد، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك.

وتأصيل ذلك قوله تعالى: ]وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[ (الأنعام: 108)،  وقوله r: “لولا قومك حديث عهد بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم”(8).

وقوله في تعليل انصرافه عن قتل المنافقين: أخاف أن يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه”(9).

والصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يفهمون مقصد الشارع، ويتصرفون وفقا لهذا الفهم؛ فهذا أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- يترك تغريب الزاني البكر مع وروده في الحديث؛ حيث قضى r بجلده مائة وتغريبه سنة؛ وذلك لما وجد أن التغريب قد يؤدي إلى مفسدة أكبر، وهى اللحاق بأرض العدو، وقال: “لا أغرب مسلما”.

وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: “كفى بالنفي فتنة”.

وأيضا فإن عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- لمّا تولى الملك أجّل تطبيق بعض أحكام الشريعة، فلمّا استعجله ابنه في ذلك أجابه بقوله: “أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعونه جملة، ويكون من ذا فتنة”(10).

وهذا الإمام ابن تيمية -رحمه الله- حين رأى صاحبا له يكلمه عن التتار يشربون الخمر، وأنه واجب عليه أن ينهاهم، فقال له: “إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذّرية وأخذ الأموال فدعهم”(11).

رابعا- قاعدة تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع:

وتحقيقُ المناط في الأنواع، واتفاقُ الناس عليه في الجملة مما يشهد له كثير من الأدلة، من ذلك: ما ورد عن ابن سيرين أنه قال: كان أبو بكر يُخافِت، وكان عمرُ يَجهر -يعني في الصلاة- فقيل لأبي بكر: كيف تفعل؟ قال: أناجي ربِّي وأتضرع إليه، وقيل لعمر: كيف تفعل؟ قال: أوقِظُ الوَسْنانَ، وأطردُ الشَّيطان، وأُرضي الرحمن. فقيل لأبي بكر: ارفعْ شيئا، وقيل لعمر: اخْفِض شيئا.

وفي الصحيح أن ناسا جاؤوا إلى النبي r فقالوا: إنا نجدُ في أنفسنا ما يتعاظم أحدُنا أن يتكلَّمَ به. قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريحُ الإيمان.

وقال عليّ: “حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يُكذَّبَ اللهُ ورسوله؟”؛ فجعل إلقاء العلم مقيدا؛ فَرُبَّ مسألةٍ تصلُح لقوم دون قوم، وقد قالوا في الرَّباني: إنه الذي يُعلِّمُ بصغارِ العلم قبل كِباره؛ فهذا الترتيب من ذلك.

وقد فرَّع العلماء على هذا الأصل؛ كما قالوا في قوله تعالى ]إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ (المائدة: 33).

إن الآية تقتضي مطلق التخيير، ثم رأوا أنه مقيَّدُ بالاجتهاد؛ فالقتل في موضع، والصلب في موضع، والقطع في موضع، والنفي في موضع، وكذلك التخيير في الأسارى من المَنِّ والفداء.

وكذلك جاء في الشَّريعة الأمرُ بالنِّكاحِ وعَدُّوه من السُّنن، ولكن قسَّموه إلى الأحكام الخمسة(12).

ونستطيع أن نلخص منهج تقديم الفتوى في الموقع في النقاط التالية:

أولا- التحرر من العصبية المذهبية، والتقليد غير العلمي  للمتقدمين أو المتأخرين:

فالموقع لا يعتمد مذهبا فقهيا واحدًا في كل فتاويه؛ فليست الفتاوى التي تصدر عنه تعبر عن المذهب الشافعي وحده ولا الحنفي دون غيره؛ بل يأخذ من المذاهب كلها، ولا يقف عند مذاهب أهل السنة بل يأخذ من الفقه الإباضي والزيدي والظاهري وغيره.

وهو أيضا لا يقف عند فقهاء بلد بعينه؛ فيأخذ من فقهاء مصر والشام والمغرب والخليج بل يمتد ليشمل الفقهاء في بلاد الهند وغيرهم الذين يعيشون في أمريكا وأوربا وغيرها حسب حاجة السؤال.

يقول فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي في مقدمة كتابه (فتاوى معاصرة): “حسْب العالِم المستقل في هذا الموقف أمور:

( أ ) ألا يلتزم رأيًا في قضية بدون دليل قوي، سالم من معارض معتبر، ولا يكون كبعض الناس الذين ينصرون رأيًا معينًا لأنه قول فلان، أو مذهب فلان، دون نظر إلى دليل أو برهان، مع أن الله تعالى يقول: ]قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين[ ولا يسمى العلم علمًا إذا كان ناشئًا من غير دليل.

ولقد قال الإمام علي -كرّم الله وجهه-: (لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله).

( ب ) أن يكون قادرًا على الترجيح بين الأقوال المختلفة، والآراء المتعارضة بالموازنة بين أدلتها، والنظر في مستنداتها من النقل والعقل؛ ليختار منها ما كان أسعد بنصوص الشرع، وأقرب إلى مقاصده، وأولى بإقامة مصالح الخلق التي نزلت لتحقيقها شريعة الخالق.

وهذا أمر ليس بالعسير على من ملك وسائله من دراسة العربية وعلومها، وفهم المقاصد الكلية للشريعة، بجانب الاطلاع على كتب التفسير والحديث والمقارنة.

( ج ) أن يكون أهلا للاجتهاد الجزئي: أي الاجتهاد في مسألة معينة من المسائل وإن لم يكن فيها حكم للمتقدمين؛ بحيث يستطيع أن يعطيها حكمها بإدخالها تحت عموم نص ثابت، أو بقياسها على مسألة مشابهة منصوص على حكمها، أو بإدراجها تحت الاستحسان أو المصالح المرسلة، أو غير ذلك من الاعتبارات والمآخذ الشرعية.

والقول بتجزئة الاجتهاد هو الصحيح الذي اتفق عليه المحققون.

ومن أبين العبارات في ذلك ما قاله ابن القيم: (الاجتهاد حالة)”(13).

ثانيا- تغليب روح التيسير والتخفيف على التشديد والتعسير:

الدين الإسلامي ليس معقدا، ولا ينحو للتصعيب على الناس،  بل إن التيسير عليهم أهم مبادئه، والتبسيط أهم مقاصده.

فالدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، والتشديد يجيده كل أحد، وإنما العلم رخصة من ثقة، وبهذا تضافرت الأدلة من القرآن والسنة، والتيسير مبدأ أصيل في الشريعة الإسلامية، ومقصد أعلى من مقاصد التشريع الإسلامي؛ فما من حكم من الأحكام الشرعية العملية إلا والتيسير لحمته وسداه، والذي يتأمل التشريع الإسلامي يوقن بهذه الحقيقة يقينا لا يخالطه شك ولا ريب، وقد قال ابن تيمية رحمه الله: “ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ولا ييسر آمِرٌ على مأموريه ويرفع عنهم ما لا يطيقونه إلا والله تعالى أعظم تيسيرا على مأموريه وأعظم رفعا لما لا يطيقونه عنهم، وكل من تدبر الشرائع لا سيما شريعة محمد r وجد هذا فيها أظهر من الشمس”(14).

وقد دلَّتْ النصوص من الكتاب والسُّنَّة أن التيسير والتخفيف أَحَبُّ إلى الله تعالى ورسوله r.

يقول الله تعالى: ]يُرِيدُ اللهُ بِكُم اليُسْرَ ولا يُريدُ بِكُم العُسْرَ) (البقرة: 185).

ويقول سبحانه: ]يُريدُ الُله أن يُخَفِّفَ عَنْكم وخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا[ (النساء: 28).

ويقول عز وجل: ]ما يُريدُ اللهُ لِيَجعلَ عَليْكُم مِّنْ حَرَجٍ[ (المائدة: 6).

ويقول الرسول الكريم r: “خَيرُ دينِكم أَيْسرُه”(15).

وتقول عائشة: “ما خُيِّرَ رسول الله r بين أمرين إلاَّ أَخَذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإذا كان إثمًا كان أبعد الناس عنه”(16).

ويقول r: “إن الله يُحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه، كما يَكره أن تُؤْتَى معصيته”(17).

ويتأكد ترجيح الرُّخْصة واختيار التيسير إذا ظهرت الحاجة إليها؛ لضعف أو مرض أو شيخوخة أو لشدَّة مَشَقَّة، أو غير ذلك من المُرَجِّحات.

روى جابر بن عبد الله قال: “كان رسول الله r في سفر؛ فرأى زحامًا ورجلا قد ظُلِّل عليه، فقال: (ما هذا؟)، فقالوا: صائم، فقال: (ليس من البِرِّ الصيام في السَّفَر)”(18). أما إذا لم يكن في السفر مثل هذه المشقة فيجوز له أن يصوم، بدليل ما رَوَتْه عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبيِّ r: “أأصوم في السفر؟”، وكان كثير الصيام، فقال: “إن شئتَ فصُمْ، وإن شِئْتَ فأفطِرْ”(19).

وكان الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يقول بشأن الصوم والفِطْر للمسافر، واختلاف الفقهاء: أيهما أفضل، كان يقول: أفضلهما أيسرهما عليه وهذا قول مقبول، فمِنَ الناس مَن يكون الصوم مع الناس أهون عليه من أن يَقضي بعد ذلك والناس مُفطِرون، وغيره بعكسه، فما كان أيسر عليه فهو الأفضل في حَقِّه.

ودعا r إلى تعجيل الفُطور وتأخير السحور، تيسيرًا على الصائم.

ونجد كثيرًا من الفقهاء في بعض الأحكام التي تختلف فيها الأنظار يُرَجِّحون منها ما يكون أيسر على الناس، وخصوصًا في أبواب المعاملات، وقد اشتهرتْ عنهم هذه العبارة: “هذا القول أرفق بالناس”!(20).

ثالثا- مخاطبة الناس بلغة عصرهم التي يفهمون، متجنبين وعورة المصطلحات الصعبة، وخشونة الألفاظ الغريبة، متوخين السهولة والدقة:

وقد جاء عن الإمام علي: “حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون. أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟”.

وقال تعالى: ]وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ (إبراهيم: 4).

ولكل عصر لسان أو لغة تميزه وتعبر عن وجهته؛ فلا بد لمن يريد التحدث إلى الناس في عصرنا أن يفهم لغتهم ويحدثهم بها.

ولا أعني باللغة مجرد ألفاظ يعبر بها قوم عن أغراضهم، بل ما هو أعمق من ذلك، مما يتصل بخصائص التفكير، وطرائق الفهم والإفهام.

ولغة عصرنا تتطلب عدة أشياء، يجب على المفتي أن يراعيها:

( أ ) أن يعتمد على مخاطبة العقول بالمنطق، لا على إثارة العواطف بالمبالغات؛ فمعجزة الإسلام الكبرى معجزة عقلية هي القرآن الذي تحدى الله به، ولم يتحد بالخوارق مع وقوعها للنبي r ولم تعرف البشرية دينًا يحترم العقل والعلم كما يحترمه الإسلام.

( ب ) أن يدع التكلف والتقعر في استخدام العبارات والأساليب؛ حيث إن جمهور المستفتين ليسوا في مستوى واحد من الثقافة والفكر؛ فمنهم الأستاذ الكبير، ومنهم الطالب الصغير، ومنهم التاجر، ومنهم العامل، وكلهم يجب أن يفهم ويعي، وإفهام المستويات المتفاوتة أمر صعب.

(ج) أن يذكر الحكم مقرونًا بحكمته وعلته، مربوطًا بالفلسفة العامة للإسلام؛ وهذه هي طريقة القرآن والسنة.

فالقرآن حين يفتي في المحيض -وقد سألوا عنه- يقول: ]وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ[ (البقرة: 222).

فأمر النبي r أن يبين لهم أن علة الحكم -وهو الأذى- مقدمة للحكم نفسه، وهو الاعتزال.

وفي تقسيم الفيء بيّن الفئات المستحقة له، ومنهم اليتامى والمساكين وابن السبيل، يذكر الله تعالى الحكمة في ذلك فيقول: ]مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[ (الحشر: 7).

أي حتى لا يكون المال متداولا بين طبقة الأغنياء وحدهم، ويحرم منه سائر الطبقات؛ فهذا مصدر الشرور، وهو أبرز خصائص الرأسمالية الطاغية.

حتى العبادات الشعائرية يأمر بها القرآن مقرونة بعلل وأحكام تقبلها الفطر السليمة، والعقول الرشيدة(21).

رابعا- الإعراض عما لا ينفع الناس:

فأسئلة الناس لا تنتهي، وكثير منهم يسأل مسائل أصبحت في ذمة التاريخ، ولم يعد لها وجود في الواقع الآن؛ فربما ينغمس الناس في المعاصي إلى آذانهم، ولا يسألون عنها، ويسألون عن التافه من الأمور التي لا صلة لهم بواقعهم ولا مستقبلهم، ومن بين هذه المسائل الألغاز الفقهية التي ربما تكون لها فائدة لتدريب طلاب العلم لكنها لا تفيد السائل العادي الذي يريد فتوى لمسألة واقعة بالفعل.

أما الأسئلة التي يريد بها أصحابها المراء والجدل، أو التعالم والتفاصح، أو امتحان المفتي وتعجيزه، أو الخوض فيما لا يحسنونه، وإثارة الأحقاد والفتن بين الناس، أو نحو ذلك؛ فلا تدخل في مجال الفتوى التي يحتاج إليها الناس. ومما قاله في ذلك الإمام شهاب الدين القرافي:

“ينبغي للمفتي إذا جاءته فتيا في شأن رسول الله r، أو فيما يتعلق بالربوبية، يسأل فيها عن أمور لا تصلح لذلك السائل لكونه من العوام الجُلف، أو يسأل عن المعضلات، ودقائق الديانات، ومتشابه الآيات والأمور التي لا يخوض فيها إلا كبار العلماء، ويعلم أن الباعث له على ذلك إنما هو الفراغ والفضول والتصدي لما لا يصلح له، فلا يجيبه أصلا. ويظهر له الإنكار على مثل هذا، ويقول له: اشتغل بما يعنيك من السؤال عن صلاتك وأمور معاملاتك، ولا تخُض فيما عساه يهلكك، لعدم استعدادك له.

وإن كان الباعث له شبهة عرضت له؛ فينبغي أن يقبل عليه، ويتلطف به في إزالتها عنه بما يصل إليه عقله؛ فهداية الخلق فرض على من سُئل.

قال: والأحسن أن يكون البيان له باللفظ دون الكتابة؛ فإن اللسان يُفهِم ما لا يُفهِم القلم؛ لأنه حي، والقلم موات. فإن الخلق عباد الله، وأقربهم إليه أنفعهم لعباده، ولا سيما في أمر الدين وما يرجع إلى العقائد”(22).

خامسا- الاعتدال بين المتحللين والمتزمتين:

ومنهج إسلام أون لاين . نت الوسطي يعني التزام روح التوسط دائمًا، والاعتدال بين التفريط والإفراط.. بين الذين يريدون أن يتحللوا من عرى الأحكام الثابتة بدعوى مسايرة التطور من المتعبدين بكل جديد، والذين يريدون أن يظل كل ما كان على ما كان من الفتاوى والأقاويل والاعتبارات، تقديسًا منهم لكل قديم.

يقول الإمام ابن القيم:

“لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا مما يعلم أن الأمر فيه كذلك، مما نص الله ورسوله على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهته.

وأما ما وجده في كتابه الذي تلقاه عمن قلده دينه، فليس له أن يشهد على الله ورسوله به، ويقرّ الناس بذلك، ولا علم له بحكم الله ورسوله.

قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا، أو حرم الله كذا، فيقول الله له: كذبت. لم أحل كذا، ولم أحرمه.

وثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب أن رسول الله r قال: (وإذا حاصرت حصنًا فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ورسوله، فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟ ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك)”(23).

ويقول الإمام مالك:

“لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا الذين يقتدى بهم، ويعول الإسلام عليهم أن يقولوا: هذا حلال، وهذا حرام، ولكن يقول: أنا أكره كذا، وأحب كذا. وأما حلال وحرام فهذا الافتراء على الله، أما سمعت قول الله تعالى: ]قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ.. [ الآية؛ لأن الحلال ما أحلّه الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله”(24).

سادسا- إعطاء الفتوى حقها من الشرح والإيضاح:

وعندنا الفتاوى قسمان:  قسم يرسل من خلال الفتاوى المباشرة التي يفتي فيه المفتي من الذاكرة دون بحث ولا تدقيق ولا توثيق؛ لأنها فتاوى مباشرة ينتظرها المستفتي في نفس الوقت الذي يرسلها فيه، وهذه نكتفي فيها ببيان الحكم الشرعي دون الدخول في التفاصيل والتدليل، وغالبا ما تكون مسائل مطروقة بسيطة غير معقدة.

أما القسم الثاني فهو الذي يرسل عبر الموقع، وتكون الإجابة عنها خلال عدة أيام، وهذا لا بد فيه من التوضيح والتفصيل وذكر الآراء الفقهية المعتبرة والترجيح بينها.

ويقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:

“والحق أني أعتبر نفسي عند إجابة السائلين مفتيًا، ومعلمًا، ومصلحًا، وطبيبًا، ومرشدًا.

وهذا يقتضي أن أبسط بعض الإجابات وأوسعها شرحًا وتحليلا، حتى يتعلم الجاهل، ويتنبه الغافل، ويقتنع المتشكك، ويثبت المتردد، وينهزم المكابر، ويزداد العالم علمًا، والمؤمن إيمانًا.

ولا بأس أن أسجل أهم الخطوات التي كنت أتبعها في الشرح والبيان….:

( أ ) أن الفتوى لا معنى لها إذا لم يذكر معها دليلها، بل جمال الفتوى وروحها الدليل كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد يحوج الأمر إلى مناقشة أدلة المخالفين عند اللزوم في المسائل الهامة ليسلم ذهن السائل من تشويش المعارضات.

( ب ) ثم إن ذكر الحكمة والعلة أمر لا يستغنى عنه، وخصوصًا في عصرنا، كما بيّنا ذلك من قبل. وإلقاء الفتوى ساذجة مجردة من حكمة التشريع، وسر التحليل والتحريم يجعلها جافة، غير مستساغة لدى كثير من العقول، بخلاف ما إذا عرفت سرها وعلة حكمها، وقد قيل: إذا عرف السبب بطل العجب.

( ج ) ومما أجده نافعًا في أحوال كثيرة: المقارنة أو الموازنة بين موقف الإسلام في القضية المسئول عنها، وموقف غيره من الأديان أو المذاهب والفلسفات.

( د ) ومن خطتي كذلك التمهيد للحكم المستغرب بما يجعله مقبولا لدى السائلين، وقد ذكر ابن القيم أن الحكم إذا كان مما لم تألفه النفوس، وإنما ألفت خلافه؛ فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما يكون مؤذنًا به، كالدليل عليه، والمقدمة بين يديه(25).

( هـ ) ومما يحتاج إليه المفتي كثيرًا ربط الحكم المسئول عنه بغيره من أحكام الإسلام؛ حتى تتضح عدالته، وتتبين روعته؛ فإن أخذ الحكم منفصلا عن غيره قد لا يعطي الصورة المضيئة لعدل الإسلام، ومحاسن شرعه.

( و ) وقد يحتاج المفتي في بعض الأحيان إلى ترك الإجابة عن سؤال السائل؛ لعدم أهميته.. مثل سؤال بعضهم عن القرآن: أهو مخلوق أم غير مخلوق؟.

فهذا سؤال لا وزن له في هذا العصر، ولا حاجة إلى إثارته، وقد مضى زمن أصاب المسلمين من ورائه شر مستطير، ومحنة عظيمة وأوذي فيها علماء المسلمين وخيارهم، وعلى رأسهم إمام السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه.

فإحياء هذه المشكلة التاريخية لا معنى له، ولا جدوى منه، إلا إهدار الطاقات الفكرية للأمة في جدل بيزنطي كما يقولون.

فكان الأولى بالسائل عن هذا أن يسأل عن وجه إعجاز القرآن -مثلا- ليقنع غير المسلمين بأنه من عند الله، وأنه تنزيل من حكيم حميد.

أو يسأل عن بعض قصص القرآن، ليأخذ منها العظة، ويلتمس العبرة والذكرى له، ولكل من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.

أو يسأل عن شيء من أحكام القرآن وتشريعه، ليرى فيه عدل الله بين عباده، ورحمته ]وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ[ (المائدة: 50)”(26).

سابعا- المعالجة النفسية للسائل حتى لا يتلقى أوامر الله بجفاء وغلظة:

فلا بد من هذه المعالجة النفسية للمستفتي؛ فلا يقف دور المفتي عند التحريم والتحليل فقط، ولسان حاله يقول للناس: (هذا هو الدين؛ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)! ولكن لا بد من التذكير ببركة اتباع الحلال والوقوف عند حرمات الله فلا يقترب منها ولا يتعداها، وليعلم أنه ما ترك شيئا لله إلا أبدله الله خيرا منه، وأن رزقه قد كتب وهو في بطن أمه كما أخبر النبي r “إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح. فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة”(27).

إن دائرة الحلال قد ضاقت على الناس في هذا الوقت، والأصل فيها أنها متسعة كما أرادها الله. ودائرة الحرام قد اتسعت، والأصل فيها أنها ضيقة كما أرادها الله. ولكن الإنسان عبث في هذه الموازين، وقلب هذه الفطرة فأصبح الشاب الذي يتخرج في الجامعة أمامه أكثر من فرصة للعمل في الحرام، ولا يكاد يجد فرصة واحدة للعمل في الحلال، فهو يسأل عن العمل في البنوك الربوية والفنادق السياحية التي تقدم الخمور والقمار والميسر ووسائل الإعلام الماجنة والقروض الربوية المحرمة وغير ذلك الكثير، وكلما لاحت أمامه فرصة للخروج من طابور العاطلين إذا به يصطدم بالشرع حيث لا يجيز له العمل في هذه الأماكن؛ لأن الشريعة كلما حرمت شيئا سدت جميع النوافذ الموصلة إليه.

والمفتي مطالب تجاه هؤلاء الشباب أن يمهد لهذا كله بزرع الثقة في الله في قلوب المستفتين حتى لا ينفروا من الشرع، ويقدِموا على الحرام، خاصة أنه في كثير من الأوقات لا يستطيع أن يقدم البديل الشرعي المناسب؛ لأن هذا البديل ترفضه الأنظمة والقوانين التي يعيش فيها السائل؛ فكل البنوك الربوية بغير استثناء لا تعرف في قوانينها ولا أنظمتها المرابحة ولا المشاركة ولا المضاربة ولا غيرها من البدائل الشرعية للقرض الربوي، وبالتالي فذكر هذه البدائل عبث الآن في أنظمة لا تأخذ بها ولا تعترف بأهميتها، وبالتالي فإن عجزنا على أن نقدم له البديل الحلال فلا أقل من أن نحثه على الصبر والأخذ بالعزيمة حتى يجعل الله له من بعد عسر يسرا.

ثامنا- البحث عن البديل الحلال ما أمكن فلا نكتفي بأن نحرم على الناس ما يسألون عنه ولكننا نبين لهم البديل الحلال ما أمكن:

ودائرة الحلال في الفقه الإسلامي أوسع وأرحب بكثير من دائرة الحرام؛ إذ الأصل في الأشياء الإباحة، ومن آداب المفتي البحث عن البديل الحلال ليقدمه بعد الحكم بالتحريم حتى يذهب الحرج عن الناس ويذهب عنهم العنت والمشقة؛ فمن الفتاوى ما يحرّم على المستفتى أمرًا كان يظن إباحته، أو يريدها ويتمناها لحاجة إليه، أو تعلقه به؛ فينبغي هنا أن يدل على البديل الحلال، مادمنا قد سددنا في وجهه طريق الحرام. وما من شيء حرمه الله إلا وفيما أحله ما يغني عنه.

فمن سألنا عن إيداع المال في المصارف (البنوك) بالفوائد الربوية منعناه منها حتى لا يأذن بحرب من الله ورسوله، ودللناه على المضاربة المشروعة، وهي أن يشترك اثنان أو جماعة في تجارة أو صناعة، بعضهم بالمال، وبعضهم بالخبرة والجهد، ويتقاسمون الربح أو الخسارة على حسب ما يتفقون.

ومن سأل عن الاستخارة بفتح الكتاب، أو الخط على الرمل، أو نحو ذلك.. بيّنا له حرمته، ودللناه على الاستخارة الشرعية، وهي صلاة ركعتين، يعقبها بالدعاء المأثور المعروف.

ومن سأل عن صيام يوم الجمعة بيّنا له كراهة إفراده، ودللناه على استحباب صوم يومي الاثنين والخميس، أو الثلاثة الأيام البيض من كل شهر.

ومن سأل عن صرف الزكاة في بناء مسجد في بلاد عامرة بالمساجد، بيّنا له الحكم ودللناه على مصارف أهم منه للأمة؛ مثل: نشر الدعوة الإسلامية، والوعي الإسلامي ومقاومة المخططات الصليبية واليهودية والشيوعية لطرد الإسلام من الحياة. فهذا هو مصرف (في سبيل الله) في عصرنا، وهكذا حين نحرم شيئًا أو نمنع من شيء، ندل على بديل مثله أو خير منه.

وما حرم الله شيئًا يضطر الناس إليه، أو يحتاجون إليه حاجة حقيقية، بل لو اضطروا إلى الحرام لعاد حلالا، فإنما أحل الله الطيبات وحرم الخبائث.

ولهذا لا يوجد حرام ممنوع إلا وله في الواقع بديل مباح بيقين.

وهذا ما ينبغي للمفتي أن يرشد إليه ويدل عليه؛ فذلك من فقهه ونصحه، قال العلامة ابن القيم: “وهذا لا يأتي إلا من عالم ناصح مشفق، قد تاجر الله، وعامله بعلمه؛ فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء، يحمي العليل عما يضره، ويصف له ما ينفعه؛ فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان”(28).

وفي الصحيح عن النبي r أنه قال: “ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم”.

وهذا شأن خلفاء الرسل وورثتهم من بعدهم، وكان شيخ الإسلام يتحرى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهرًا فيها.

وقد منع النبي r بلالا أن يشتري صاعًا من التمر الجيد بصاعين من الرديء – سدًا للذريعة إلى الربا في أي صورة من صوره – ثم أمره أن يبيع الرديء الذي عنده بالدراهم، ثم يشتري بالدراهم الجيد الذي يريده؛ فمنعه من المحظور، وأرشده إلى المباح.

مزايا الإفتاء عن طريق الإنترنت:

ومما يزيد من أهمية الفتوى في شئون الدين في عصرنا وجود كثير من النوازل والقضايا التي لم يكن للسلف علم بها، لعدم حدوثها في زمانهم، وضيق وقت كثير من الناس عن محاولة القراءة في كتب السلف مما عُلم للسلف رأي فيه، يضاف إلى هذا شيوع التخصص الدقيق في هذا العصر، واقتصار عامة الناس على ما يمس تخصصاتهم الدقيقة حتى بالنسبة للمثقفين ثقافة شرعية، تاركين المجال فيما لا يدخل في تخصصهم الدقيق لأهل الذكر في ذلك، إيثارا للسلامة والأمن من الخوض في دروب قد لا يكون لهم سابق عهد بها، ولا يملكون آلية الإبحار في محيطها اللجب.

ولما كانت السرعة هي طابع العصر، واعتماد كثير من الناس في شرق الدنيا وغربها على الإنترنت، كوسيلة سهلة ميسورة للتواصل، كانت الفتوى عن طريق الإنترنت هي المتعينة بالنسبة لقطاع كبير من المسلمين، ولقد كان للمواقع الإسلامية المختلفة وخاصة موقع “إسلام أون لاين.نت” دور هام في تلقي كثير من أسئلة المستفتين في شتى أمور الشريعة، والإجابة عنها، وإشباع حاجة المستفتين فيما سألوا عنه، وهذا يبرز ما للفتوى على الإنترنت من جوانب إيجابية، وإن كانت لا تحجب جوانب أخرى هي في جانب السلب.

ويمكن تقسيم مزايا الإنترنت من حيث الإفادة منها إلى : مزايا للمستفتي، ومزايا للمفتي ومزايا لعملية الإفتاء نفسها.

مزايا الإفتاء على الإنترنت للمستفتي :

– يتيح طرح السؤال عن طريق الإنترنت للمستفتي بذل وسعه في طرح أبعاد القضية المطلوب الفتوى فيها، وتداعيات هذه القضية على الشأن الخاص أو العام، واستفراغ ما عنده في صياغة المسألة، بحيث لا يدع جانبا من جوانبها من وجهة نظره إلا وعرضه، ومثل هذا قد لا يتاح له عن طريق اللقاء المباشر بين المفتي والمستفتي، أو عن طريق الوسائل الأخرى، لضيق الوقت غالبا عن سماع أو تلقي هذه التفصيلات من قبل المفتي، أو الرغبة في الاختصار من قبل وسائل الإعلام التي تأخذ على عاتقها الإجابة عن أسئلة المستفتين.

– سرعة إيصال المسألة التي يستفتى فيها وسرعة إيصال الجواب عنها، ويسر ذلك على المستفتي والمفتي، وإن تباعدت المسافات بينهما، ومثل هذا لا يتيحه عرض المسألة عن طريق الرسالة البريدية أو عن طريق الفاكس أو المكالمة التليفونية، أو عن طريق التلفاز أو الراديو أو الوسائل الأخرى المسموعة أو المقروءة أو المرئية.

– ما توفره الفتوى عن طريق المواقع المختلفة من إحالات على فتاوى سابقة فيها إفاضة في معالجة المسألة المطلوب الفتوى فيها، مما يتيح للسائل نوعا من الثقافة الشرعية في موضع مسألته، قد لا تتيحه الوسائل الأخرى المقروءة أو المسموعة أو المرئية.

– توفر الفتوى عن طريق الإنترنت وسيلة لا يتحرج منها المستفتي عند طرح مسألته رجلا كان أو امرأة، ويمكنه حفظها عمن لا يريد إطلاعه عليها، وهذا لا تتيحه الوسائل الأخرى.

– تتيح الفتوى عن طريق الإنترنت تصنيف الفتاوى بنوعها، بحيث يكون لصاحب مسألة ما أن يطلع على الجواب عن نظير مسألته إن وجد لها نظيرا، وإلا سأل عن حكم ما لم يجد له نظيرا، كما يتيح له التعرف على أحكام كثير من النوازل، فيكون له بذلك ثقافة شرعية مبسطة قد لا تتيحها له بنفس اليسر المصادر التي استقيت منها هذه الأحكام.

– تعد الفتوى عن طريق الإنترنت البديل المشروع المتاح لكثير من الناس، بعد أن بدأ البعض يتخذ الفتوى طريقا للاسترزاق، والذي بمقتضاه صنف المستفتون صنفين: صنف قادر على دفع نفقات الفتوى، فيكون له الحق في طرح مسألته أيا كان الوقت الذي يستغرقه السؤال والجواب عنه، وصنف غير قادر على دفع هذه النفقات، وهذا الصنف إن لم تتح له وسيلة مشروعة ميسرة في مقدوره لعرض مسألته ومعرفة الجواب عنها، حرم من معرفة الحكم الشرعي فيها، ولا تتاح له وسيلة هي في مقدوره تحقق له حاجته في معرفة الحكم الشرعي باستفاضة مثل الإنترنت.

– أن الإنترنت يتيح للمستفتي أن يرسل فتاواه واستفساراته لعدد كبير من العلماء، وعدم التقيد بشيخ واحد، أو حتى علماء بلدة واحدة .

– أن الإرسال عن طريق الإنترنت يحافظ على خصوصية وسرية المعلومات، فلا يشترط أن يكتب السائل اسمه الحقيقي، بل له ألا يكتب اسمه بالمرة، كما أن من عوامل المساعدة على السرية أنه ربما يكون في إنجلترا ويرسل لأية دولة عربية – مثلا-، مما يجعل معرفته في عالم النت شيئا شبه مستحيل.

– أن السائل لا يتحرج أن يكتب ما يريد، لأنه ليس أمام الشيخ، فإن كان صادقا في معرفته للفتوى، فإنه سيكتب كل ما يريد، بخلاف من يريد تزوير الحقائق، لينال فتوى “على المقاس”.

– أنه يمكن له مراجعة المفتي ومعاودة الإرسال له مرة أخرى، مستفسرا وموضحا له بعض ما غمض عليه .

– أن الفتوى تجيء له مكتوبة، وفي ذلك نوع من التوثيق الحديث، بخلاف الفتوى الشفهية التي ربما يتنكر لها  المفتي، أو يتنكر المستفتي لما قد يقوله .

– أن الفتوى على الإنترنت تتيح للسائل أن يقوم بدور متفاعل مع المفتي، فيمكن له الاطلاع على عدد من الفتاوى الأخرى، وأن يستفسر الشيخ عن قرب أو بعد ما اطلعه عليه من فتاوى في مقابل فتواه.

– أنها تتيح لبعض المناطق التي تفتقر إلى المفتين، كبعض دول شرق آسيا، وبعض المناطق في الدول الأوربية وغيرها الاتصال المباشر بالشيوخ، كتابة وصوتا وصورة، حسب طبيعة قالب الفتوى .

– إمكانية الرجوع إلى أعلام المفتين كأشخاص، أو مراسلة المجامع الفقهية ودور الإفتاء المتعددة والهيئات الفقهية في الجامعات وغيرها، مما يوسع رقعة اتصال السائل بالمفتين، أشخاصا وهيئات .

– يمثل الإنترنت مرجعية  ثابتة– في الغالب – للرجوع للفتاوى، بحيث يمكن معاودة الاطلاع من حين لآخر، بخلاف الفضائيات – مثلا -، فإن المتابعة لا تكون إلا وقت إذاعة الحلقة، لكن الإنترنت تسجل فيه الفتاوى، ويمكن الرجوع إليها في أي وقت، وكأنها كتاب فتاوى إلكتروني.

– الاطلاع على فتاوى بعض العلماء لم يكن من المستطاع الرجوع إليها، مع تباعد البلدان، والكتاب كوسيلة لابد من معرفة دور النشر، وتوافر النسخ، وهناك بعض الدور لا تنشر ما تنتجه في بعض الدول، فبالتالي يكون هناك صعوبة للحصول على الفتاوى في بعض البلاد، لكن الآن يمكن من يعيش بمصر أو الكويت أن يطلع على فتاوى المغرب العربي والعكس، وأن العالم العربي يمكن أن يحصل على فتاوى فقهاء أوربا وأمريكا والعكس، وهكذا .

– أن الفتاوى أتاحت للناس الاطلاع على مدارس ومناهج في الإفتاء، وأن رجوع المستفتي لمدرسة واحدة أو شيخ واحد لم يعد موجودا، وهذا مما يثري عملية الإفتاء، ويشير إلى دور المستفتي في عملية الإفتاء، كما أشار إلى أهميتها بعض العلماء كالآمدي وغيره .

– أنها أزالت الكسل عمن لم يكن مهتما بمعرفة الفتوى، لكن عنده قابلية لأن يعرف، غير أنه لا يقبل أن يبذل جهدا، فأضحى دخول الفتاوى كل بيت أمرا ممكنا ويسيرا .

– أن الفتوى الالكترونية أضحت مرجعا للأقليات المسلمة في أنحاء العالم، فأضحت الفتوى تمنع – في بعض الأحيان – خلافا قد يقع بين الأقليات المسلمة وغيرها، مما جعل الفتوى الالكترونية تساعد على التقريب .

– أن الفتوى الالكترونية تجعل الجمهور يختار المرجعية له، فساعدت على ألا تقتصر المرجعية على الرسمية منها، بل ثقة الناس في المفتي ومعرفتهم  بورعه وتقواه، وحسن صناعته للفتوى هي الأساس في اختيار المرجعية، سواء أكان مفتيا معينا من قبل الحكومات أو كان مستقلا، وهذا يعيد للأمة القدرة على اختيار مرجعياتها الشرعية، بعيدا عن السلطات التي ربما تحسن الاختيار أو تخفق فيه .

مزايا الإفتاء على الإنترنت للمفتي:

و كما كان للإفتاء على الإنترنت مزايا تتعلق بالمستفتي، فإن هناك مزايا تتعلق بالمفتي، ومن ذلك :

– طرح السؤال والجواب عنه عن طريق الإنترنت يمكِّن المفتي من الاطلاع على تفاصيل السؤال مكتوبا، بحيث إذا أراد الوقوف على السؤال المرة تلو الأخرى لم يفتقر إلى إعادة السؤال من المستفتي، وكذلك الحال بالنسبة للمستفتي فإنه إذا أراد أن يطلع على الفتوى أو يطلع غيره عليها لم يحتج إلى المفتي في كل مرة ليكرر عليه نفس الفتوى، ومثل هذا وإن كان متاحا عن طريق الوسائل المكتوبة الأخرى غير الإنترنت، إلا أنها ليست في مثل يسره وسهولته.

– من المعروف أن أكثر الفتاوى التي تَرِدْ عن طريق وسائل الإعلام المقروءة أو المسموعة أو المرئية غير الإنترنت فتاوى مغرضة أراد بها أصحابها عرض الحياة الدنيا، والأمثلة الواقعية على هذا أكثر من أن تحصي، كما أن نماذج هذه الفتاوى أصبحت معلومة حتى لعوام المسلمين، والفتوى عن طريق الإنترنت ليست بهذه المثابة، فإن أكثر من يتولون الجواب على أسئلة المستفتين لا ينتهجون ذلك، ومن يتولون الإشراف على هذه المواقع لا يسمحون بتبعيتها؛ لأن الإنترنت لا يتبع دولة معينة، حتى لا يتم تسييس الفتاوى به؛ رغبة في عرض زائل. ولذا فإن الأصل في الفتاوى التي ترد بمواقع الإنترنت الموضوعية والحيدة وعدم الانحياز، والبعد عن الغلو والتطرف واسترضاء الآخرين.

– أن الإنترنت ساعد في اختصار الزمن في إصدار ونشر فتاوى الأمة، فقد ساهم الإنترنت في سهولة التواصل بين العلماء في فترة وجيزة، بحيث يمكن لهم التوصل لرأي جماعي للأمة في القضايا المستجدة .

– أن الإنترنت لم يعد مرجعية للسائل بينه وبين المفتي، بل أضحى مرجعية للعلماء والشيوخ وطلاب العلم، بحيث يمكن اطلاع الشيوخ على فتاوى بعضهم البعض، مما يثري الفكر الفقهي فيما يخص الفتاوى .

– أن الإنترنت أحيا ما كان يعرف في طلب العلم بـ “المراسلات”، كما كان يقوم بها ابن عرفة وغيره، بين الشيوخ والعلماء، وأضحى من اليسير المراجعة العلمية، وتحقيق مبدأ الشورى في اجتهادات المفتين .

– أن الإنترنت يساعد على تصحيح الأخطاء التي يقع فيها المفتون، وبدلا من أن يدور المفتي ليعلن خطأه، يمكن خلال دقائق معدودة أن يصوب الفتوى في مكانها .

– أن فتاوى الإنترنت حدَّت كثيرا من التعصب المذهبي، وجعلت الفتاوى المبنية على الفقه المقارن أكثر انتشارا، وأعلت من شأن الدليل الشرعي على رأي الرجال.

– أن شبكة الإنترنت قدمت للناس مفتين جددا، وأتاحت لكثير من المفتين التلاحم مع الجمهور بشكل أكبر .

– أن الإنترنت أتاح للمفتين الفرصة في التروي والتمهل في إجابة الفتوى، مما يثقل الوزن الفقهي في الفتاوى، فيمكن للمفتي ألا يجيب في نفس الوقت، كما هو شأن بعض صور إجابة الفتوى، على أن ترسل للسائل بعد يومين أو ثلاثة أو أسبوع أو أقل أو أكثر، وهذا يساعد على تقليل الخطأ في الفتوى، بحيث يمكن للمفتي أن يرجع للمراجع والمصادر، وأن يعرض الفتوى على غيره من إخوانه العلماء وأن يطمئن إلى فتواه .

مزايا لعملية الإفتاء:

وهناك مزايا تتعلق بعملية الإفتاء ذاتها، ومن ذلك :

– أن الإنترنت ساعد على إعادة أهمية الفتوى ودورها في المجتمع، وأن الناس بكل طوائفهم الآن يعودون إلى المشايخ والأساتذة لمعرفة الفتوى والحكم الشرعي، ومع ظهور مرجعيات متعددة، كأن يكون للمعاملات المالية بعض المفتين، وللسياسة الشرعية بعض المفتين، إلا أن ترسيخ العودة للفتوى أضحى حاجة اجتماعية محمودة، مع بعض الملاحظات التي لا تنقص من أهمية المرجعية الشرعية للناس جميعا باختلاف طبقاتهم ومستوياتهم الاجتماعية والتعليمية وغيرها .

– أن الإنترنت ساعد على قيام الناس بنشر الفتاوى، والقيام بالدور الدعوي للفتوى، وأنه من خلال البريد الالكتروني والمجموعات البريدية أضحى انتشار الفتوى في الأوساط الثقافية أمرا هاما .

– أن الإنترنت أتاح للفتوى الانتشار بأشكال مختلفة، وفي قوالب متعددة، كالفتوى المكتوبة على هيئة سؤال وجواب، أو مسموعة أو مرئية، أو من خلال عمل تحقيق أو حوار أو غيرها من الأشكال.

– أنه تم تبادل الأدوار بين الفتوى الورقية والفتوى الالكترونية، فأضحت الفتوى الورقية تدخل على الإنترنت، والفتوى الالكترونية تطبع ورقا وتوزع وتعلق في المساجد وغيرها.

– أن الإنترنت ساعد في صناعة الفتوى فيما يتعلق بالعلوم الاجتماعية وغيرها، فتوافر المعلومات في العلوم السياسية والاقتصادية، ومعرفة الجديد في هذه العلوم ساعد المفتين في صناعة الفتوى، إذ لا يمكن معرفة الفتوى الاجتماعية إلا من خلال الرجوع إلى قدر من المعلومات الاجتماعية لتصور المسألة وتكييفها بشكل صحيح، وصنعت تلاحما بين فقهاء الشريعة وعلماء الأمة في المجالات الأخرى المتخصصة. وغير ذلك من مزايا الإفتاء على الإنترنت .

عوائق على طريق الإفتاء عن طريق الإنترنت:

لا شك أن عملية الإفتاء على الإنترنت ليست كلها مزايا؛ فهناك بعض المشكلات والعوائق التي تقابلها ومنها:

1-  بعض الأسئلة تحتاج إلى استيضاح من المستفتي في بعض الجوانب قبل الجواب عنها، وهذا وإن كان يتيحه الالتقاء المباشر بين المفتي والمستفتي عن طريق الهاتف أو الحضور أو نحوهما، إلا أنه لا يتيحه الاتصال عبر الإنترنت، ولهذا فلا يجد المفتي أمامه إلا أن يجيب عدة إجابات عن نفس السؤال وفقا لما يحتمله، وهذا يطيل من الجواب، ويثقل على المفتي ويضيع الكثير من الوقت والجهد عليه في سؤال واحد. أو أنه أي المفتي يعيد السؤال للمستفتي مرة أخرى للاستيضاح.

2- قد يستغل البعض استتار شخصه عن طريق هذه الوسيلة، فيعمد إلى طرح أسئلة لا يفتقر إلى معرفة الجواب عنها، وإنما يقصد من طرحها أمرا آخر، ولذا فإنه ترد أحيانا أسئلة من بعض المستفتين لا يراد بها الجواب عن حكم شرعي يجهله السائل، وإنما يراد بها الجواب عن سؤال في مسابقة رصد لها جائزة، أو الإجابة عن جزئية في بحث علمي يعده السائل، ولا يريد أن يحمل نفسه عناء البحث في الكتب الحاوية لمحتواه، أو اختبار المفتي من بعض المتنطعين الجهال، لمعرفة مذهبه الفكري أو ميوله أو معتقده، أو لعقد مقارنة بين ما يفتي به وما يفتي به غيره، أو لمحاولة تخطئته إن أفتى بمذهب غير الذي يقلده السائل، أو نحو ذلك مما حدث ويحدث غالبا.

3- استغلال بعض المستفتين سهولة طرح المسألة وجهالة أشخاصهم، لطرح المسألة عدة مرات على عدة مفتين، علّ السائل يجد عند أحدهم ما تهوى نفسه فيلتزم به، وهذا يضيع الكثير من الوقت والجهد على المفتين، وغالبا ما يكون الجواب عند جميعهم واحد.

4-  ورود أسئلة المستفتين ناقصة في بعض أجزائها، إما لعدم إجادتهم استخدام الإنترنت، أو لعدم مراجعتهم ما كتبوه في أسئلتهم، ومثل هذا النقص يؤثر في الجواب عن السؤال؛ لأنه لما كان الحكم على الشيء فرعا عن تصوره، فإن التصور الخاطئ لا ينتج إلا حكما خاطئا كذلك.

5-  بعض الأسئلة الواردة تكون من القصور والاختصار، أحيانا، بحيث لا تعطي تصورا واضحا لدى من يجيب عنها، ولذا فإن الإنترنت أحيانا لا تكون هي الوسيلة المناسبة للجواب عن مثل هذه الأسئلة.

6-  من المعروف تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، فما يكون سائغا من الفتاوى في زمان أو مكان معينين لا يكون بهذه المثابة في غيرهما، وما يكون سائغا في حال أو لشخص معين لا يكون كذلك في حال غيره، أو لشخص آخر. وأسئلة المستفتين عن طريق الإنترنت ترِد مجردة، لا يُعرف منها أحيانا شخص المستفتي إن كان مريضا أو مسافرا أو يقيم بين مسلمين أو بين كفار، كما لا يعرف منها ظروف البيئة التي يعيش فيها، ولا حاله إن كان به ما يقتضي الترخص أو لا، وكل هذا يضع المفتي في حيرة أحيانا بحيث لا يجد أمامه إلا أن يجيب عن السؤال وفقا لهذه الاحتمالات التي تستوحى من السؤال.

7-   من المعاملات ما يشيع في بلد بعينه دون غيره، أو يكون له مسمى يختلف مسماه في بلد آخر، أو يكون له قواعد أو نظم يطبق بها في بلد بخلاف تلك التي يطبق بها في بلد آخر، وكثيرا ما يفتقر المفتي إلى استيضاح ذلك من قبل السائل، حتى يكون الجواب واقعا على التكييف الشرعي للمسألة وفقا لما تصوره المفتي.

8-   بعض الأسئلة الواردة عبر الإنترنت تكون من الوضوح والبدهية المعرفية، بحيث لا يسع أدنى المثقفين ثقافة عامة أن يجهلها، وربما كانت سهولة إيصال السؤال عن طريق الإنترنت مدعاة لمثل هذه الأسئلة التي لا يمكن لأحد أن يسأل عنها لو كلفه إيصالها إلى من يستفتيه بعض النفقات.

9-   ترد بعض الأسئلة في صيغة قصة مطولة، كأنما أراد صاحبها أن ينفث عن نفسه ويوصل بثه وما يعتمل في نفسه إلى غيره ليستريح، ثم لا تنتهي قصته بسؤال بل بنصح له أو لغيره، أو قد تنتهي بسؤال لا يفتقر إيصاله إلى كل هذه المطولة، وفي هذا إضاعة للجهد في القراءة والتركيز ومحاولة معرفة المطلوب من هذا العرض المسهب.

10-   عدم الاحتكاك المباشر بين المفتي والمستفتي ربما يؤدي إلى عدم فهم السؤال بشكل كامل، صحيح يستطيع المفتي أن يراجع المستفتي، لكنه لن يصل إلى درجة المباشرة، ويظهر هذا بصورة أعمق في فتاوى الطلاق والأحوال الشخصية؛ وفتاوى الشركات والمعاملات المالية المستحدثة؛ وغير ذلك .

وبالرغم من تخوف عدد غير قليل من سلبيات الإنترنت فيما يخص الفتاوى الشرعية، إلا أننا نرى أن هذا التخوف سيزول مع الزمن، حين يقوم كل فريق بعرض بضاعته، وأن نترك للأمة أن تقوم بدورها في معرفة المرجعيات الحقيقية، وأن يشارك الناس – في حدود مايخصهم – في اختيار المرجعيات الشرعية التي يطمأن إليها،  و نستشف ذلك من قوله تعالى : ]فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ[ (الرعـد: 17)، فإن الخطأ

لا يصمد أمام الصواب، وأن الفاسد لا يقف أمام الصالح، فسرعان ما يزول الهش، ويبقى الحق صامدا، ” كما أن الزبد لا يثبت مع الماء، ولا مع الذهب ونحوه مما يسبك في النار، بل يذهب ويضمحل”(29).

الهوامش

(1) البخاري كتاب الأذان باب من شكا إمامه إذا طول ح 664، مسلم كتاب الصلاة باب القراءة في العشاء  ح 709 .

(2) البخاري كتاب الرقاق  باب القصد والمداومة على العمل  ح 5982.

(3) مسلم كتاب الصيام باب صيام النبي في غير رمضان ح 1958 .

(4) الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي  4/ 213- 215 المكتبة التوفيقية .

(5) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم، دار الكتب العلمية، 3/ 38 – 45.

(6) رد المحتار على الدر المختار في شرح تنوير الأبصار المعروف بـ (حاشية ابن عابدين) دار الكتب العلمية، 3/ 434.

(7) أنوار البروق في أنواع الفروق 1/ 176- 177.

(8) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب ما ينهى عن دعوة الجاهلية، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما.

(9) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه.

(10) الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي 4/ 160 – 161.

(11) الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4/ 465.

(12) من بحث قدمه فضيلة الشيخ عبدالله بن بيه لمؤتمر الوسطية الذي عقد في الكويت 2005 بعنوان معايير وسطية الفتوى .

(13) إعلام الموقعين 4/ 166، البحر المحيط 6/ 490، ومقدمة كتاب فتاوى معاصرة لفضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي.

(14) درء تعارض العقل والنقل: 8/473-474بتحقيق محمد رشاد سالم دار الكنوز الأدبية. الرياض391.

(15) (رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، والطبراني عن محجن بن الأدرع، والطبراني أيضًا عن عمران بن حصين، والطبراني في الأوسط، وابن عدي والضياء عن أنس “صحيح الجامع الصغير: 3309”)، “أحب الأديان إلى الله الحنيفية السَّمْحة” (رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والطبراني عن ابن عباس ).

(16) (مُتَّ‍فَقٌ عليه، كما في اللؤلؤ والمرجان”1502″).

(17) (رواه أحمد وابن حِبَّان والبيهقي في الشُّعَب عن ابن عمر “صحيح الجامع الصغير: 1886”).

(18) (مُتَّفَقٌ عليه – اللؤلؤ والمرجان “681”).

(19) (مُتَّفَقٌ عليه – المصدر نفسه “684”).

(20) من فقه الأولويات للدكتور يوسف القرضاوي

(21) مقدمة كتاب فتاوى معاصرة الجزء الأول.

(22) الأحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام للقرافي بتحقيق عبد الفتاح أبي غدة ص- 282، 283، وينظر مقدمة كتاب فتاوى معاصرة الجزء الأول باختصار وتصرف.

(23) إعلام الموقعين ج- 4 ص 134، والحديث رواه مسلم في صحيحه كتاب الجهاد والسير باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته برقم 3261.

(24) مقدمة كتاب فتاوى معاصرة الجزء الأول باختصار وتصرف.

(25) (انظر: إعلام الموقعين ج- 4 ص 163، 164).

(26) مقدمة كتاب فتاوى معاصرة باختصار وتصرف.

(27) رواه البخاري كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة ج 4 ص 78، ومسلم كتاب القدر باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله ج 16 ص189،190، 191 وأضاف ” في ذلك ” قبل كلمتي علقة ومضغة، والترمذي كتاب القدر عن رسول الله باب ما جاء أن الأعمال بالخواتيم ج 4 ص 446.

(28) انظر: إعلام الموقعين ج- 4 /122.

(29) راجع تفسير الآية في ابن كثير وغيره .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر