أبحاث

نظام العقل (العاقلة) في الفقه الإسلامي المعاصر

The System of Responsibility for Paying Blood Money (Al-Aql) in the Contemporary Islamic Jurisprudence العدد 129

مقدمة المحرر:

تحتاج العودة إلى الفقه الجنائي الإسلامي نظرة جديدة إلى تراث الفقه الإسلامي يتناول أنظمته وقواعده، ومن بين هذه الأنظمة نظام دية على العاقلة وهو نظام يتعلق بالنصوص الشرعية وتحقيق مقاصد الشريعة في التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الإسلامي، ويقدم البحث نظرة مقاصدية جديدة لنظام الدية على العاقلة وكيفية تطبيقها في قوانين الدول الإسلامية المعاصرة.

(1) طبيعة حكم التعاقل:

العقل مذهب الجمهور؛ فالعاقلة عند جمهور الفقهاء تحمل الدية على سبيل الوجوب في الأحوال وبالشروط التي بينوها. على أن ذلك لا يعني أن باب البحث في موضوع العاقلة قد أوصد بحيث لا تبدو اليوم حاجة لإعادة الخوض فيه، ذلك أنه مع التسليم بصحة مذهب الجمهور فثمة سؤال يمكن طرحه وتلزم الإجابة عليه، وهو: ما طبيعة حكم التعاقل؟ أهو حكم عام وثابت يجب إعماله شرعًا في كل زمان ومكان، أم هو حكم يرتهن بظروف وأوضاع معينة ويدور معها وجودًا وعدمًا؟ إن كانت الأولى فقد انحسم الأمر وانقطع الخلاف، وإن كانت الثانية وجب تحديد الظروف والأوضاع التي يدور حكم العقل عليها.

وجمهور الفقهاء على أن حكم التعاقل معلل، فهو يدور على النصرة. فكل من ينتصر بغيره يعقل عنه إذا جنى. وليس في كتاب الله ذكر للعاقلة، بل إن نصوصه العامة والخاصة تؤدي إلى إيجاب الدية على الجاني وحده(1). وإنما تجد العاقلة سندها في السنة، ويتمثل هذا السند في قول الرسول وفعله ثم في فعل الصحابة من بعده. وعلى الرغم من ذلك فليس في الفقه إجماع على طبيعة حكم التعاقل. بل إن من الفقهاء من يصرح بجواز امتناع العقل في دار الإسلام وبتحميل الجاني الدية في ماله. ومن الحق أن نقرر بأن الرعيل الأول من فقهاء المذاهب المعتمدة لم يقولوا بذلك وإنما قال به بعض المتأخرين والمحدثين.

فقد صرح الشيخ محمود شلتوت في بعض ما كتب بأن تحميل الرسول ﷺ للعاقلة بالدية لم يكن تشريعا عامًا ملتزمًا في جميع الأزمنة والأمكنة دون نظر إلى الأحوال والاعتبارات، وإنما كان إقرارًا لنظام عربي اقتضاه ما كان بين القبائل من تناصر وتعاون. فقد جاء ﷺ فوجد العرب على نظام خاص في الديات يقضى بتوزيعها على العاقلة بمقتضى ما كان بينهم من التناصر ومسئولية الأسرة عن خطأ الواحد منها فأقره في غير موجب القود وفي غير الثابت بالإقرار، حثًا على التناصر وطلبًا لبقاء الوحدة في الأسرة وإقرارا لهيمنتها على بعضها. واستدل لرأيه بأنه حينما انتقل التناصر من العشيرة والأسرة إلى أهل الديوان جعل عمر العقل على أهل الديوان، ولم يكن ذلك منه تغييرًا لحكم الشرع بل تقريرًا، لأنه عرف أن العشيرة كانت تتحمل بطريق النصرة، فلما صار التناصر بالرايات جعل العقل عليهم. ونقل عن بعض المتأخرين قوله: إن الدية في زمننا هذا لا تكون إلا في مال الجاني، لأن العشائر قد وهت ورحمة التناصر قد رفعت وبيت المال قد انهدم. ونقل كذلك عن صاحب الدر المختار قوله: إن التناصر أصل في هذا الباب، فمتى وجد وجدت العاقلة وإلا فلا، وحيث لا قبيلة ولا تناصر فالدية في بيت المال، فإن عُدِم بيت المال أو لم يكن منتظمًا فالدية في مال الجاني(2). وحاصل هذا الرأي أن التعاقل يفترض التناصر بين الناس ولكنه لا يفرضه، فحيثما تناصر الناس تعاقلوا، أما إذا عدم التناصر بينهم فلا شأن لأحدهم بعقل غيره. ومقتضى هذا الرأي أنه إذا أريد في الوقت الحاضر وضع تقنين لأحكام الشريعة الإسلامية وواجه أولو الأمر مسألة العاقلة فإن عليهم أن يتأملوا أحوال مجتمعهم وأن يقيموا الحكم على أساس ما ينتهي إليه بحثهم، فإن كان مجتمعهم يسوده التناصر عقل المتناصرون عن بعضهم، وإلا وجبت الدية في بيت المال أو في مال الجاني على تفصيل لا أثر له في هذا المقام، وقد يؤدى الأمر إلى إغفال النص على العاقلة كلية دون أن يكون في ذلك خروج على أحكام الشرع. وعلى ذلك فلا ضير شرعًا من إلزام العاقلة بالدية في زمان دون زمان أو في مكان دون مكان مادام الإلزام وعدمه مبناه وجود التناصر في واقع الأمة وعدمه.

(2) وهذا الرأي لا نقره، والصحيح عندنا أنه يجب التمييز بين مبدأ العقل والتنظيم الشرعي لأحكامه. أما المبدأ ذاته، وهو تحميل العاقلة دية الخطأ، فتشريع عام لا يرتهن بزمان ولا بمكان، بل هو ملزم للجماعة الإسلامية في كل زمان ومكان. وأما أحكام العقل، أي تحديد العاقلة وبيان شروط تحملها وتنظيم استيفاء الدية منها، فأمور تقبل الاجتهاد وتخضع لاعتبار الزمان والمكان. وعلى ذلك فالثابت من العقل أصله – ودليله السنة – أما المتغير فأحكامه التفصيلية.

بيان ذلك أن نظام العقل إنما شرع من باب التكافل، والتكافل يفترض التآزر والتناصر، ولذا وجدنا الرأي متفقًا على أن العقل أساسه النصرة. ولا يخلو مجتمع من هذا المعنى، بل إن هذا المعنى وحده هو الذي يشد أفراد النوع الإنساني كافة ويجعل من كل طائفة منهم مجتمعًا(3). وأسباب التناصر شتى، منها ما ينهض على وحدة النسب أو الدم، ومنها ما ينهض على وحدة العقيدة، ومنها ما يقوم على وحدة المهنة أو المكان أو المصلحة بوجه عام. فالتناصر في كل مجتمع واقع لا سبيل إلى جحده، وقد تختلف أسبابه أو تتفاوت درجاته لكنه قائم في كل حال، ولا يتصور زواله إلا بزوال المجتمع ذاته. وإذا كان التعاون أو التناصر حقيقة مفترضة في المجتمعات عامة، فهو سمة المجتمع الإسلامي خاصة، بل هو قوامه. ونرانا في غنى عن إيراد النصوص العامة – في الكتاب والسنة – التي تحض على التعاون والتكافل لأنها أكثر من أن تحصى، بل نرانا في غنى كذلك عن بيان النظم الشرعية التي تفرض التعاون أو تفترضه. ولهذا فنحن نختلف مع من ذهب من المتأخرين والمحدثين إلى أنه إذا عدم التناصر فلا تعاقل؛ فهذا القول – فوق ما فيه من إغراق في التشاؤم – فيه إنكار للواقع وجحد لسنن الاجتماع وتفريط في جنب الشرع بتعطيل أصل من أصوله. والحق أن التعاقل حكم ثابت ودائم لثبات ودوام أساسه وهو التناصر. أما القول بأن الرسول ﷺ وجد العقل قائمًا عند العرب فأقره فلا حجة فيه، لأنه لا يقتضي القول بأنه لو لم يجده ما أمر به. ذلك أن العقل من مكارم الأخلاق، ولو لم يجده ﷺ لأمر المسلمين به، لأنه إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق. فالقضية ليست قضية عرف يمكن أن يتصل وأن ينقطع، وإنما العقل حكم شرعي ينسجم تمامًا مع أصول الإسلام وفروعه، وقد كان العرب يجهلون نظام الزكاة ولم يحل ذلك دون فرضها.

والخلاصة أنه إذا كان مسلَّمًا أن نظام العقل يقوم على التعاون والتناصر، وكان هذا المعنى ثابتًا بحكم الضرورة في كل مجتمع ومفروضًا بحكم الشرع في المجتمع الإسلامي، فإنه يتأدى من ذلك القول حتمًا بأن التعاقل حكم شرعي عام لا يرتهن بزمان ولا بمكان. وذلك هو الجانب الثابت في هذا النظام، أما أحكامه فتقبل التغير والتطور، والحال فيها معتبرة، لأن العقل ليس حكمًا تعبديًا محضًا، وإنما هو حكم معقول المعنى، وقد شرع لتحقيق مقاصد معلومة. ولما كانت المقاصد لا تتغير وكانت أحوال الناس متغيرة فإنه ينبغي أن تتطور أحكام العقل بما يناسب أحوال الناس في كل عصر. ولنا في عمل السلف أسوة، فقد اجتهد عمر بن الخطاب لعصره وطور أحكام العقل بما يتفق مع ما طرأ على حياة الناس من تغير. ولنا في اختلاف الفقهاء عبرة، فاختلافهم في هذا الباب دليل على أنه موضع اجتهاد، وخير الاجتهاد – بل صحيحه – ما كان موافقًا للشرع ومناسبًا لظروف العصر. وإذا أردنا تقنين أحكام الشريعة الإسلامية فما ينبغي للقائمين بهذا العمل أن يغفلوا نظام العقل بدعوى أن أساسه لم يعد له وجود في حياة الناس فذلك ظن خاطئ، بل ينبغي تقنين العقل، لأنه – بغض النظر عن جانب التعبد في العمل به – نظام رائد يوفق على أفضل وجه بين مصالح متباينة، كل منها جدير بالرعاية.

(3) الأساس المختار للعقل:

في الفقه الشرعي ثلاثة آراء في أساس العقل، أحدها أن دية الخطأ تجب على الجاني ابتداء ثم تحملها العاقلة عنه من باب التكافل. والثاني أن العاقلة تحمل الدية مباشرة لما في ذلك من المصلحة؛ فالجاني لو أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله، ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول، فكانت المصلحة أن تحمل العاقلة الدية دفعًا للأمرين. أما الرأي الثالث فيلزم العاقلة بالدية لأنها أخطأت في عدم الضرب على أيدي سفهائها. وعندنا أن الرأي الأول أرجح، وهو ما نرشحه ليكون أساس العقل في التقنين المقترح للشريعة الإسلامية.

أما الرأي الثاني فقد علله أصحابه بأن تضمين العاقلة مخالف لظاهر قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، وأن الأحاديث القاضية بتضمين العاقلة مخصصة لعموم الآية لما في ذلك من المصلحة. ومفاد هذا الرأي أن الدية وزر تحمله العاقلة عن الجاني خروجًا على الأصل، وهو ما لا نسلم به، والصحيح عندنا أن أصول الشريعة تأبى تحميل شخص وزر غيره في أي حال. ولسنا نعتقد أن في نصوص القرآن أو السنة ما يصلح أن يكون سندًا للمخالفين. وإنما نشأ اللبس من اعتبار دية الخطأ وزرًا، وليست كذلك فيما نرى، لأن الوزر لغة هو الحمل الثقيل، ومن معانيه الإثم والذنب، ولا إثم في الخطأ باتفاق. قال تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، وقال ﷺ: “رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”؛ فالجناح مرفوع بنص الآية والإثم مرفوع بمفهوم الحديث. وإنما وجبت الدية في الخطأ باعتبارها بدل متلف، أي تعويضًا للمجني عليه أو ذويه حتى لا تذهب نفسه أو طرفه هدرًا. وإذا كانت العاقلة تحمل دية الخطأ فإنما تحمل تعويضًا وجب على من أخطأ، لا أنها تعاقب من أجل فعله. وليس في الشرع ولا في العقل ما يمنع نقل الالتزام بالتعويض من شخص إلى آخر، أما إيقاع العقاب بشخص من أجل فعل أتاه غيره فعلى خلاف مقتضى العقل، وهو كذلك لا يستقيم مع روح الشريعة بله نصوصها. وتبدو أهمية الخلاف عندما يكون الجاني بلا عاقلة ويكون الأخذ من بيت المال ممتنعًا لسبب ما؛ فعلى الرأي المنتقد لا يجوز إلزام الجاني بشيء، لأن الدية لزمت العاقلة ابتداء فلا يطالب بها غيرهم ولا يؤبه لاعتراضهم. وهذا الرأي ونتيجته قول في مذهب الشافعي ورواية في مذهب أحمد. وقد أشار ابن قدامة إلى هذا الرأي وفنده وهو يوجه الرواية الثانية في مذهبه بقوله: إن الدية تجب على الجاني إذا تعذر حملها عنه لعموم قوله تعالى: ﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾(4)، ولأن قضية هذا الدليل وجوبها على الجاني جبرًا للمحل الذي فوته، وإنما سقطت الدية عن الجاني لقيام العاقلة مقامه في جبر المحل، فإذا لم يؤخذ ذلك منها بقى واجبًا عليه بمقتضى الدليل، ولأن الأمر دائر بين أن يطل دم القتيل وبين إيجاب ديته على المتلف، والأول لا يجوز لأن فيه مخالفة للكتاب والسنة وقياس أصول الشريعة فتعيّن الثاني، ولأن إهدار الدم المضمون لا نظير له وإيجاب الدية على قاتل الخطأ له نظائر. ثم إن القول بوجوب الدية على العاقلة ابتداء ممنوع، وإنما تجب على الجاني ثم تتحملها العاقلة عنه(5).

وأما الرأي الثالث فقيل في توجيهه إن القاتل إنما يقتل بظهر عشيرته فكانوا كالمشاركين له، وكان عليهم أن يضربوا على يده ويكفوا عن الناس شره، فإذا هم لم يفعلوا فقد فرطوا، ومن ثم وجب إلزامهم بالدية زجرًا لهم عن غلبة سفهائهم وحملاً لهم على إحسان مراقبتهم. ووجه التكلف في هذا الرأي ظاهر، ولو صح لكان إلزام العاقلة بدية العمد أولى وأوجب، لأن مظنة اعتزاز العامد بظهر عشيرته أظهر من مظنة اعتزاز المخطئ به، وهذه النتيجة غير مسلمة، لأن النصوص صريحة في أن العاقلة لا تحمل العمد. ولو صح هذا الرأي أيضًا لوجب إلزام العاقلة بضمان كل متلف، نفسًا كان أو طرفًا أو مالاً لاتحاد العلة، وهو غير مسلم، بل المسلم أن العاقلة لا تحمل المال. ولو صح هذا الرأي أخيرًا لوجب أن يكون مستحق الدية بالخيار، إن شاء رجع على الجاني أو على عاقلته لأن كلا منهما أخطأ وعليه جبر خطئه، والمتفق عليه عند الجمهور أنه لا يجوز الرجوع على الجاني مع وجود عاقلته. وهذا كله يؤكد أن العاقلة لا تحمل الدية لخطئها، بل لعلة أخرى.

وعلة العقل كما يراها الجمهور بحق هي النصرة، فقد أَلِف العرب قبل الإسلام أن تهب القبيلة للدفاع عن أبنائها إذا وقع على أحدهم عدوان وأن تحمل عنهم أو معهم إذا ألمَ بهم مكاره، وكان هذا من مكارم الأخلاق التي صرح بها رسول الله ﷺ أنه بعث ليتممها. ولما كان العقل جبرًا للخطأ، وكان الخطأ بالنظر إلى آثاره مكروهًا يتعذر اجتنابه مطلقًا، فإن احتمال العشيرة له يدخل في باب التكافل، وهذا الحكم أليق بشريعة أمرت بالتعاون على البر والتقوى وجعلت هذا التعاون ركيزة من أبرز ركائزها. واعتبار التكافل أساسًا يبنى عليه العقل لا يقتضي أن تكون مسئولية العاقلة عنه ذاتية، لأن الخطأ واقع من الغير لا منها. وهي لا تسأل عن خطأ الغير لتقصير مفترض من جانبها في رقابته وتوجيهه، لأن هذا الافتراض إنما يسوغ – شرعًا وعقلاً – حيث يكون الفاعل في حاجة إلى الرقابة بسبب قصره أو بسبب حالته العقلية أو الجسمية، أو حيث يكون تابعًا لغيره بأتمر بأمره ويخضع في عمله لسلطانه. والرأي متفق على أن العاقلة تحمل في كل حال، سواء كان الفاعل قاصرًا أو بالغًا، مجنونًا أو عاقلاً، زمنًا أو سالمًا، يعمل لمصلحة نفسه أو تحت إمرة غيره، بل إنها تحمل الدية ولو كان الخطأ واقعًا من رئيس العاقلة نفسه. كذلك فإن العاقلة لا تسأل عن فعل الغير من باب تحمل التبعة، أي عملاً بمبدأ الغرم بالغنم، لأن شرط ذلك أن يكون الضرر الموجب للتعويض قد نشأ عن عمل كان الغير يؤديه لمصلحة من يراد تحميله تبعة هذا العمل، بغض النظر عن اقتران هذا العمل بالخطأ أو تجرده منه. والمتفق عليه أن العاقلة لا تحمل الدية إلا إذا ثبت الخطأ في جانب الجاني، وأنها تحملها في كل حال عند ثبوت الخطأ، سواء كان الجاني يعمل لمصلحة العاقلة أو لمصلحة نفسه.

(4) كيف تتحدد العاقلة:

لعل هذه المسألة أدق ما شغل بال المسلم المعاصر وهو يعالج موضوع العقل توطئة لتقنينه. فقد كانت عاقلة الرجل في الجاهلية قبيلته أو بالأدق عصبته. وظل الأمر كذلك بصفة عامة على عهد الرسول، ثم على عهد أبي بكر من بعده. ولما تولى عمر بن الخطاب دونَ الدواوين وجعل العقل على أهل الديوان. واختلف الفقهاء فيما فعل عمر؛ فمنهم من صوَبه، ومنهم من أوّله، ومنهم من أنكره. وأيًا ما كان الأمر فلا خلاف بين جمهور الفقهاء في أن العقل لا يخرج عن جهة من ثلاث، هي الديوان، والعصبة، وبيت المال. وإذا تجاوزنا عن بيت المال على أساس أن الوجوب عليه إنما يكون بصفة احتياطية، أي حيث لا يكون للجاني عاقلة، فإنه يمكن القول بأن العقل ينحصر إما في أهل الديوان أو في العصبات. وهنا تشكل المسألة، لأن الديوان بهيئته المعهودة في زمن عمر غير قائم، وعلى فرض قيامه فهو غير كاف، لاقتصاره على طائفة محدودة من الجناة. والعصبة بدورها لا تحتمل العقل الآن لتفرق الأسر وتوزعها وصعوبة تتبع أفرادها، مما يؤدي إلى قلة عدد المعروفين من عصبة الجاني. فكيف يمكن اليوم تحديد العاقلة في ظل أوضاع اجتماعية متغيرة؟

الرأي عندنا أن الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن الوصول إليها قفزًا أو تحكمًا، بل ينبغي التمهيد لها ببيان جملة القواعد الفقهية التي يبنى العقل عليها.

(5) وأولى هذه القواعد ما سبق ذكره من أن العقل ليس حكمًا تعبديًا محضًا، بل هو حكم معلل، أي معقول المعنى. والمتفق عليه أن العقل مناطه النصرة، فكل من ينتصر به الغير يعقل عنه إذا جنى. ومؤدى ذلك أن العقل لا ينحصر في فئة بعينها على سبيل الدوام والحتم.

وإذا كان قد ارتبط من الناحية التاريخية بالعصبة، فلم يكن ذلك إلا لتحقق المناط فيها، وهو النصرة. فإذا تبدلت أحوال الناس فصاروا يعولون بدرجة أكبر في النصرة على فئة بدلاً من فئة، وجب أن يثبت العقل على الأولى وأن ينحط عن الثانية. وقد يؤول الأمر – نتيجة لتغير أحوال الناس – إلى إيجاب العقل على فئة لم يرد لها في الفقه ذكر. وما ينبغي أن يحمل ذلك على أنه نسخ لحكم شرعي، وإنما هو انتقال به من محل إلى محل هو أكثر مناسبة، وذلك لأن الشرع لم يحدد العاقلة بعينها، بل بمناطها. ولهذا فقد أصاب عمر وصح مذهبه، إذ أدرك بصافي حسه أن دولة النسب والدم قد دالت، وأن دولة العقيدة والمبدأ قد قامت، وأن النصرة لم تعد بالعشيرة، بل بالديوان، فحط العقل عن العشيرة وألزم به أهل الديوان. ولم يطل الزمن بالناس لكي يتحققوا من نفاذ بصيرة عمر، فقد شهدوا بأعينهم أناسًا يقاتلون قومهم دفاعًا عن ديوانهم؛ ففي يوم الجمل وصفين جعل علي بن أبي طالب بإزار كل قبيلة من كان من أهلها ليكونوا هم الذين يقاتلونهم. وتأكد بذلك أن التناصر صار بالديوان فعلاً، أي بالراية أو المبدأ لا بالعصبة أو العشيرة.

(6) ولم يكن عدول عمر عن العصبة إلى الديوان اجتهادًا بغير سند شرعي. وعلى الرغم من أننا لم نعثر فيما أتيح لنا الاطلاع عليه من كتب الفقه على إشارة إلى هذا السند، فإنه يبدو لنا أن عمر اهتدى في رأيه بما أثبته رسول الله ﷺ في الوثيقة التي عرفت بدستور المدينة. فقد جاء بها أن المهاجرين من قريش على ربعتهم – أي على ما كانوا عليه – يتعاقلون بينهم، وأن بني عوف – وهم من أهل المدينة – على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، ومثلهم بنو الحارث بن الخزرج، وبنو ساعدة، وبنو جشم، وبنو النجار، وبنو عمرو بن عوف، وبنو النبيت، وبنو الأوس، وهم من أهل المدينة أيضًا. ويلفت النظر هنا أن الرسول لم يجعل كل الأنصار عاقلة، بل جعل كل قبيلة منهم عاقلة تحمل عمن يجنى من أبنائها، أما المهاجرون فقد عدهم جميعًا عاقلة واحدة رغم انتمائهم إلى أكثر من قبيلة من قريش. وإنما أسقط الرسول اعتبار القبيلة بالنسبة إليهم لأنهم لم يعودوا ينتصرون بها، بل لقد فروا بدينهم منها، وأحل محل القبيلة عامل الهجرة، أي الفرار بالمبدأ والانتصار له. وهو ما تأكد بعد ذلك فيما تلا من غزوات، كغزوة بدر وأحد. ونرى أن هذه الوثيقة هي نواة الديوان، وهي السند الشرعي لاجتهاد عمر رضي الله عنه.

(7) والقاعدة الثانية تتصل بمعنى النصرة. والنصرة التي جعلت أساسًا للعقل عند العرب كان مقصودًا بها النصرة في القتال؛ فقد رأوا أن من يقاتل من أجل غيره أو مع غيره جدير بأن يعقل عنه هذا الغير إذا جنى، لأنه ينصر الغير بنفسه. فلا أقل من أن ينصره الغير بماله. ولهذه العلة وحدها كانت العصبة عاقلة.

وقد بدا لبعض الفقهاء أن عقل العصبة هو لمعنى التوارث بين أفرادها، ولذلك انتقدوا عمل عمر، وقالوا: إن اتحاد الديوان معنى لا يستحق به الميراث فلا يحمل العقل، شأنه شأن الجوار(6). وكأنهم بذلك يريدون القول بأنه لما كان الميراث غنمًا والعقل غرمًا كان على من يغنم أن يغرم. وقياس العقل على الميراث فاسد، ولو صح لوجب العقل على من يرث دون من لا يرث، والمتفق عليه أن من الورثة من لا يلزمه العقل أصلاً، كالصبية والنساء والمجانين والغائبين والفقراء ولو كانوا ورثة فعلاً. ولو صح الرأي المنتقد كذلك لوجب أن يكون نصيب كل وارث في العقل مساويًا لنصيبه في الميراث، والمتفق عليه أن أفراد العاقلة يحملون بقدر ما يطيقون لا بنسبة ما يرثون. ولو صح القياس أخيرًا لكان إلزام الورثة بديون مورثهم المفلس أو المعسر أولى من إلزامهم بعقل جنايته، لأن العقل يلزمهم بخطئه، والدين قد يركبه بغير خطأ، وذلك غير مسلم.

ويتضح من ذلك كله أن من خالفوا عن رأي عمر لم يكن لهم عمق نظره، فقد كانوا جميعًا – هم وعمر – يعلمون أن العصبة عاقلة، وأنهم يتوارثون، وأنهم يقاتلون دفاعًا عن بعضهم، إلا أن عمر أسقط اعتبار التوارث وجعل النصرة بالقتال هي وحدها مناط العقل، أما هم فجعلوا الأمرين معًا مناطه، ولهذا رفضوا اعتبار الديوان عاقلة لتخلف أحد الأمرين فيه. ولا شك في أن رأي عمر أسدَ، لأن التوارث في مقام العقل وصف ملغى على نحو ما بينا.

(8) والسؤال الذي نطرحه اليوم ونسعى للإجابة عنه هو الآتي: هل ينبغي التزام معنى النصرة بالقتال عند تقنين أحكام الشريعة لمجتمع كمجتمعنا؟ وبتعبير آخر: هل النصرة بالقتال علة شرعية يمتنع إحلال غيرها محلها؟

ذلك ما لا نراه، والصحيح عندنا أن قدر اللزوم في الحكم الشرعي هو أن العقل بالنصرة. ولما كانت وجوه النصرة متعددة فليس وجه – في ذاته – أفضل من وجه. وإنما لوليَ الأمر أن يتصفح الوجوه المختلفة وأن يفاضل بينها، وله بعد ذلك أن يبني العقل على ما يراه أوفق بحسب ما يؤدى إليه اجتهاده. وقد ينتهي به الأمر إلى اختيار وجه آخر. أو إلى اختيار وجهين يكون أحدهما أصليًا والآخر احتياطيًا، وقد يفضي ذلك إلى تعدد العواقل واختلاف مراتبها. وللفقه الشرعي في ذلك سابقة؛ فقد جعل الأحناف العقل على أهل الديوان، فإن لم يكن ديوان فعلى العصبة بالنسب، فإن عدموا فعلى العصبة بالسبب، فإن لم يوجدوا فعلى بيت المال. وقد يؤدي ذلك أيضًا إلى إحداث تعديل في شروط العاقلة وطريقة تحميلها واستيفاء الدية منها.

(9) والقاعدة الثالثة أن كثرة العدد شرط في العاقلة، لأن مقدار الدية كبير(7)، وكان الأصل أن يحملها الجاني وحده، وإنما شرع العقل مواساة له وتخفيفًا عنه، ولا يجوز أن يكون ذلك سبيلاً إلى الإثقال على غيره والإجحاف به، إذ لو كان الإجحاف مشروعًا لكان الجاني أحق به، لأنه موجب جنايته وجزاء فعله، فإذا لم يشرع في حقه ففي حق غيره أولى كما يقول الفقهاء(8). والسبيل إلى التوفيق بين الاعتبارين – أي تحميل غير الجاني دون إعانته – هو توزيع الدية على أشخاص كثيرين لكي يقل نصيب كل منهم، وهو ما يقتضي أن تكون العاقلة كبيرة العدد. وقد حرص الفقهاء على تأكيد هذا المعنى، فصرح بعضهم بأنه لا يجوز أن يقل أفراد العاقلة عن عدد معين، حَدوه بسبعمائة في قول وبألف في قول آخر، ورأى بعضهم أنه لا يجوز أن يزيد ما يفرض على كل فرد من العاقلة عن قدر معين، حَدوه بنصف دينار على الموسر وربع دينار على المتوسط، وذهب آخرون إلى أن جملة الواجب على كل فرد من العاقلة لا يجوز أن يزيد على ثلاثة دراهم أو أربعة. وضآلة الواجب تقتضي بالضرورة كثرة المحتملين نظرًا لضخامة الدية.

وهذا الاعتبار – أي كثرة العدد – ملحوظ في العصبة، إذ كانت عصبة الرجل عند العرب هي قبيلته. ولما استبدل عمر العصبة اختار عاقلة راعى فيها كثرة العدد، فكان أهل الديوان هم العاقلة. وكان اختيار العصبة أولاً، ثم الديوان بعد ذلك مناسبًا، لأن إيجاب الدية على كل منهما من شأنه التخفيف عن الجاني دون إثقال على غيره، وكلا الأمرين مطلوب. وإذا تأدى بنا البحث إلى تعذر جعل العصبة الآن عاقلة، وإلى أن الديوان بمفهومه في زمن عمر لا يفي بالحاجة، وإذا خلصنا من ذلك إلى ضرورة التماس عاقلة تناسب أوضاع المجتمع الراهنة، وجب علينا مراعاة أمرين في هذه العاقلة، أحدهما ألا تكون قليلة العدد، وإلا كان التخفيف عن الجاني إرهاقًا لغيره، وهو ممتنع، والثاني ألا يتسع نطاق العاقلة ليشمل المجتمع كله، وإلا آل الأمر عملاً إلى جعل بيت المال عاقلة دائمًا. ورعاية الأمرين معًا تقتضي أن تكون الوحدة الاجتماعية التي يراد جعلها عاقلة في منزلة وسطى من حيث العدد.

(10) عدم صلاحية العصبة لأن تكون اليوم عاقلة:

عصبة الشخص هم أقاربه من جهة الأبوة عن طريق لا تدخل فيه أنثى، كالآباء وإن علوا، والأبناء وإن نزلوا، والإخوة وأبنائهم، والأعمام وأولادهم. ولا اعتبار لقرب الدرجة أو بعدها في ثبوت العصوبة وعدمها. ولهذا فمن الطبيعي أن يكون لكل شخص عصبة وأن تكون هذه العصبة كبيرة العدد. وكان اختيار العصبة في مبدأ الأمر لتكون عاقلة ملائمًا، لأنهم بحكم قرابتهم أسرع الناس إلى الشخص إذا حز به أمر ومواساته إذا ناله مكروه، ولأنهم بحكم كثرتهم لا يرهقون إذا دعا الأمر إلى مواساته بالمال لضآلة ما يفرض على كل منهم. غير أن قيام العصبة بهذا الدور يقتضي أن يكون أفرادها متعارفين من جهة، ومتجاورين من جهة أخرى. وكان الشرطان متوافرين لدى العرب، فقد كانوا حراصا على حفظ أنسابهم وعلى تتبعها لأجيال بعيدة(9)، وكانت ظروف حياتهم تفرض على كل عصبة أن يتماسك أفرادها وأن يعيشوا سويًا في تجمع يأخذ شكل القبيلة، يقيمون معًا ويظعنون معًا، ولا يفارق أحد قبيلته إلا إذا نبذته، وعندئذ يصبح مهدور الدم.

وقد تغيرت ظروف الحياة اليوم وتبدلت أحوال الناس، فلم تعد لهم عناية تذكر بحفظ أنسابهم، وقل منهم من يقوى على مد نسبه إلى أبعد من جده الثاني أو الثالث أو الرابع. كذلك فإن سعى الناس وراء رزقهم دفع الكثير منهم إلى مفارقة أهلهم والنزوح عن موطنهم والمقام بعيدًا عنهم. وقد يظل حبل الوصل ممتدًا لبعض الوقت، غير أنه لا يلبث أن يتراخى شيئًا فشيئًا، وكثيرًا ما ينصرم بعد جيل أو جيلين. وهكذا تقلص حجم العصبة المعلومة من جهة، وضعف الإحساس العام بقيمتها وبوظيفتها الاجتماعية من جهة أخرى، فلم تعد تصلح اليوم لما كانت تصلح له من قبل. ولهذا فإنه يتعذر الاعتماد عليها واعتبارها عاقلة حين يراد تقنين أحكام العقل طبقًا للشريعة الإسلامية(10).

على أن هذا الرأي مبناه واقع حال، وهو واقع نلمسه في أغلب المجتمعات الإسلامية، ومنها مصر. فأما إن وجدت دول مازال للعصبة فيها شأنها القديم، فلا بأس من اعتبارها عاقلة وإيجاب الدية عليها(11).

وإذا استبعدنا العصبة اليوم كعاقلة، وكان العقل حكمًا شرعيًا واجب الاتباع، فإنه يتعين البحث عن بديل يلائم الأوضاع القائمة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.

(11) الديوان عاقلة مناسبة لكنها غير كافية:

أهل الديوان في اصطلاح الفقهاء هم جند السلطان. والأصل في اعتبار الديوان عاقلة فعل عمر كما سلف البيان؛ فقد جعل أهل كل ناحية يدًا وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو، وكان يدون أسماء الجند في دفتر ويجرى على كل منهم عطاء مقابل انقطاعه للقتال. ومن هذا يتضح أن الديوان كان يقتصر على الجند وحدهم، وأن الجند لم يكونوا كلهم أهل ديوان واحد، بل كان لكل مصر ديوانه الخاص، وكان أهل الديوان في كل مصر هم جنده دون من يليهم من الأجناد. وهذا يعني أن الديوان – كعاقلة – كان يتحدد على اعتبارين، أحدهما نوعي، وهو وحدة العمل، والثاني مكاني، وهو وحدة المصر أو الإقليم. ولم يكن الديوان بهذا المعنى موفيًا بالحاجة ومغنيًا عما سواه، لأن في كل مجتمع طوائف أخرى غير الجند يمكن أن يقع من بعضهم ما يوجب الدية، وهو ما يقتضي التفكير فيمن يعقل عنهم. ومن الإنصاف أن نقرر أن عمر بن الخطاب حين جعل الديوان عاقلة فإنه لم يقصد بذلك إلغاء دور العصبة كعاقلة بإطلاق، وإنما الذي شغله كحاكم مسلم هو تحديد من يعقل عن المقاتل إذا نأت به الدار وخرج من أرض الجزيرة حيث أهله، ودَعَتْه ظروف الجهاد إلى الاستقرار في فارس أو في العراق أو في مصر أو في بلاد الشام. وهداه اجتهاده إلى التماس سبب للنصرة في هذه الحال غير نصرة العصبة ليقيم عليه نظام العقل، فكان الديوان. وإذن فلم يكن الديوان عند عمر بديلاً من العصبة في كل حال، وإنما كان بديلاً منها في عين حال. ولم يغب هذا المعنى عن القائلين باعتبار الديوان عاقلة؛ فقد أدركوا منذ البداية أنه عاقلة خاصة، ولهذا فقد سلموا بعدم كفايته، وجعلوا بجانبه عواقل أخرى، على رأسها العصبة، وهي العاقلة التقليدية لدى العرب منذ الجاهلية.

وقد استثمر الأحناف فكرة الديوان بعد ذلك استثمارًا حسنًا فخطوا به خطوة وسّعت من مجال الديوان وحَدَّت من مجال العصبة. ذلك بأنهم لم يجعلوا العقل مقصورًا على ديوان الجند وحده، بل أوجبوه كذلك على كل ديوان أيًا ما كان أهله. جاء في حاشية ابن عابدين: إن كان – الجاني – غازيًا فعاقلته من يرزق من ديوان الغزاة، وإن كان كاتبًا فعاقلته من يرزق من ديوان الكتاب(12). وهذه التوسعة بالغة الدلالة، فقد اختلف بها معنى النصرة اختلافًا عميقًا، إذ لم تعد تقتصر على النجدة في الحرب، بل تجاوزتها إلى ما يكون بين أبناء المهنة الواحدة من تآلف وتعاطف وتضامن. وعبارة الحاشية تجعل للحكم شرطين: أولهما انتماء الجاني لطائفة يمارس أفرادها مهنة واحدة، والثاني أن يكون لكل منهم عطاء في بيت المال. وربما كانت الحكمة من إيجاب الشرط الثاني هي الحرص على ألا يؤدى الاشتراك في العقل إلى اقتطاع جزء من أصل المال الحاضر لأفراد العاقلة، بل يكون ذلك باقتطاع جزء من عطائهم المقرر في بيت المال حتى لا يؤودهم حمل الدية(13). وكأن الأحناف فهموا عن عمر أنه جعل العلة في إيجاب العقل على أهل الديوان مزدوجة، وهي اتحاد المهنة من جهة تحقيقًا لمعنى النصرة، والحصول على عطاء من بيت المال من جهة أخرى تخفيفًا عن أفراد العاقلة.

وعلى الرغم من هذه التوسعة فقد أدرك الأحناف أن الديوان – كعاقلة – لا يغني عن غيره، لأنه لا يستوعب كل حالات العقل، ولهذا فقد سلموا بوجود عواقل أخرى. وإذا كانت القاعدة في مذهبهم أنه إذا كان الجاني من أهل الديوان فعاقلته أهل ديوانه. فإن لم يكن له ديوان عقلت عنه عصبته، فإن لم تكن له عصبة فعاقلته بيت المال، إلا أن هذا لا يعني أن العواقل عندهم تنحصر في هذه الدائرة ولا تعدوها. وإنما الواضح من أقوالهم أن المجال يتسع لمزيد من العواقل، وأن المعتبر في ذلك هو واقع الحال. وقد فهم الأحناف عن عمر ما قصد إليه وإن لم يصرح به، فهموا منه أن العقل لا يرتهن بذات العاقلة، بل بمعنى فيها وهو التناصر، فأوجبوا العقل حيث كان.

وقد أوحى إليهم إيجاب العقل على أهل الديوان بفكرة جديدة فأحسنوا استثمارها، إذ كشف لهم فعل عمر عن سبب جديد من أسباب النصرة، وهو اتحاد المهنة أو الحرفة، فالتقطه بعض فقهائهم ولم ير بأسًا من جعله مناطًا للعقل إذا جرى عرف الناس في مجتمع معين على اعتباره سببًا للنصرة. والفارق الأساسي بين أهل الديوان وأهل الحرفة ينحصر في العطاء، فأهل الديوان لهم عطاء في بيت المال وليس لعامة أهل الحرف عطاء فيه. وقد أدرك الأحناف بعد إنعام النظر أن العطاء في ذاته ليس بعض العلة في إيجاب العقل على أهل الديوان، وأنه إذا كان من شأنه التخفيف عن أفراد العاقلة، فهذا التخفيف يمكن تحقيقه بوسائل أخرى. ولهذا اعتبروا الحصول على العطاء أمرًا عارضًا أو وصفًا ملغي فأغفلوه، واكتفوا في العقل باتحاد المهنة أو الحرفة. جاء في المبسوط للسرخسي أن للتناصر أسبابًا، منها ما يكون بين أهل الديوان، ومنها ما يكون بين العشائر وأهل المحال وأهل الحرف(14). وجاء في فتح القدير أن النصرة كانت بأنواع: بالقرابة والحلف والولاء والعَد(15)، وفي عهد عمر صارت بالديوان فجعلها على أهله اتباعًا للمعنى، ولهذا قالوا: لو كان اليوم قوم تناصرهم بالحرف فعاقلتهم أهل الحرفة، وإن كان بالحلف فأهله(16). وجاء في حاشية ابن عابدين: لا عاقلة للعجم لعدم تناصرهم، وقيل لهم عواقل لأنهم يتناصرون كالأساكفة والصيادين والصرافيين والسراجين(17)، فأهل محلة القاتل وصنعته عاقلته، وكذلك طلبة العلم(18).

وبهذا الفهم العميق لحكمة العقل وعلته أثبت الأحناف حيوية الفقه الشرعي ومرونته، وكان فهمهم هذا عونًا لنا على انتهاج سبيلهم، وعلى محاولة إقامة بناء عصري لنظام العقل.

(12) الضابط المختار لتحديد العاقلة في التقنين المنشود:

لا خلاف بين الفقهاء في أن العقل معلول بالنصرة، وهي تفترض رباطًا جامعًا بين المتناصرين يكون على درجة من القوة يجعلهم يقبلون الحمل طواعية عن أحدهم إذا جنى، أو يسوغ إلزامهم بعقل جنايته إذا ارتكب ما يوجب الدية. وعلى هذا النحو يمكن النظر إلى النصرة الموجبة للعقل من زاويتين: زاوية الواقع وزاوية المندوب أو المستحب. والنصرة المعتبرة في العقل هي نصرة الواقع، لأنها مواساة وصلة، وذلك ما لم يتدخل ولي الأمر فيجعل المندوب منها واجبًا. وعلى هذا يصح القول بأن النصرة المقصودة في هذا الباب هي القائمة فعلاً أو الواجبة شرعًا أو وضعًا. ولا تخلو جماعة من الجماعات من نصرة واقعة أو نصرة واجبة، وإنما الذي يختلف زمانًا ومكانًا هو سبب النصرة ومرتبته بالنسبة إلى غيره.

وقد دلت الخبرة على أن روابط الانتماء – أو أسباب النصرة – تتعدد وتتفاوت في قوتها، وأنها تغير مواقعها على مر الزمن، فلا تثبت على حالها، وإذا ثبتت فلا تحتفظ بقوتها، بل إن منها ما يذوى ويذبل، ومنها ما يخفت ويشحب، ومنها ما يستجد ويطرأ. وليس من سداد الرأي ولا من صواب الفكر – بل إنه مما يجافي العقل والمنطق – التشبث برباط ذَوَى أو ضعف، أو بان عجزه وانقطعت جدواه، والتغاضي في نفس الوقت عن غيره مما تقوَى وتصلب، أو ظهر واشتد عوده، لأن هذا يُحدث بين المبدأ وتطبيقه حالة من الانفصام لا يسأل عنها الإسلام، بل يبوء بإثمها الفكر المنغلق الذي يجهل روح الإسلام وطبيعة أحكامه وخلود مبادئه ومرونة أفكاره وقابليتها للتطور لمواكبة العصر ومتغيراته. ومن المسلم أن المبادئ الكلية لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وإنما وسائل تحقيقها هي وحدها التي تتغير. وإذا جرت سنة قوم على إتباع وسيلة معنية في فترة زمنية محددة لتحقيق مبدأ أو مقصد شرعي، فليس معنى ذلك إلزام المسلمين في عصور تالية أو في مجتمعات أخرى بهذه الوسيلة عينها على سبيل الحتم. ولا ينال من ذلك أن يكون العصر الذي سادت فيه تلك الوسيلة من أزهى عصور التاريخ الإسلامي، بل ولو كان عصر النبوة أو الخلافة الراشدة ذاته.

ولقد كانت القبيلة أو العصبة تعقل عن الجاني في الجاهلية وفي صدر الإسلام، وكانت هي التي تعقل وحدها أيضًا. وكان ذلك مفهومًا، إذ كانت رابطة القبيلة هي أقوى الروابط بين الأفراد؛ فلم يكن ثم شخص لا ينتمي لقبيلة، أو بالأحرى لم يكن ثم شخص معصوم الدم لا ينتمي لقبيلة. ولم تكن القبيلة مجرد مجموع من الناس تجمعهم قرابة، ولكنها كانت جماعة متناصرة. كان يكفى أن يعتدي على فرد منها فيصيح: واعبساه، فإذا القبيلة عن بكرة أبيها قد هبت إلى نجدته ووقفت إلى جانبه وانتصرت له، مظلوما كان أو ظالمًا. ولم تكن القبيلة في مقام العقل تحتمل منافسًا أو بديلاً. غير أن الظروف ما لبثت أن تغيرت فتبدلت كثير من الأوضاع. ذلك أن القبائل بعد الإسلام تفرق كثير من أبنائها في البلاد المفتوحة، ودخل الإسلام بلادًا لا يعتد أهلها بفكرة القبيلة، ولا يحفظون أنسابهم كما يحفظها العرب، وفارق كثير من هؤلاء دينهم واعتنقوا الإسلام فانسلخوا كلية عن عصبتهم المحدودة. ومن هنا طرأت الحاجة – على الأقل خارج الجزيرة العربية – إلى رباط جديد يصلح أساسًا للعقل. وكانت فكرة الديوان هي الرباط المناسب والأساس الجديد. وقد تطورت هذه الفكرة على يد الأحناف على النحو الذي فصلناه.

ونحن اليوم إذ نتصفح أسباب التناصر في المجتمعات الإسلامية المعاصرة يسعنا أن نرصد منها القرابة والجوار ووحدة الإقليم ووحدة العقيدة ورباط المصلحة. ويمكن القول بأن أقوى هذه الأسباب الآن هو المصلحة المشتركة، وضابطها وحدة المهنة أو العمل بوجه عام. فالمتأمل في أحوال المجتمع يدرك بغير عناء أن رباط العمل هو أقوى الروابط بين مختلف الفئات. ولهذا نرى أبناء كل مهنة يتجمعون غالبًا داخل تنظيم واحد للدفاع عن مصالحهم في مواجهة غيرهم، وللتعاون فيما بينهم لمواجهة ظروف الحياة. وقد يطلق على التنظيم اسم نقابة أو اتحاد أو غرفة أو رابطة أو جمعية أو غير ذلك من الأسماء، ويختلف مدى النصرة من تنظيم إلى تنظيم، إلا أن أصل النصرة هو الأساس الذي ينهض عليه كل تنظيم. وتعترف الدساتير المعاصرة بحق العاملين في مجال واحد في إنشاء نقابات أو اتحادات تضمهم. وينص الدستور المصري على هذا الحق صراحة، ويلزم النقابات والاتحادات بمساءلة أعضائها عن سلوكهم في ممارسة نشاطهم كما يلزمها بالدفاع عن حقوقهم وحرياتهم (م56 من دستور مصر الصادر في سنة 1971). وتحرص كل نقابة على رفع مستوى الأداء المهني لأعضائها، وعلى تأديب من يخرج منهم على أصول المهنة وآدابها، وتحرص كذلك – وهوالمهم – على إنشاء صندوق للرعاية الاجتماعية تتكون موارده أساسًا من اشتراكات دورية يؤديها أعضاؤها، وتنفق هذه الموارد فيما يحقق مصالح الأعضاء وذويهم، وذلك بإعانتهم ماليًا إذا حز بهم أمر عارض، ككارثة أو مرض، وبمنحهم معاشًَا دائمًا عند تقاعدهم بسبب العجز الكلي أو الشيخوخة، ومنح ذويهم معاشًا عند وفاتهم. وللدفاع عن حقوق الأعضاء ومصالحهم سبل عدة، منها الاتصال المباشر بالمسئولين عن أمور الدولة، ومنها رفع الدعاوى إلى القضاء مباشرة أو التدخل أمامه في بعض الدعاوى القائمة. ويبلغ الدفاع عن حقوق الأعضاء ومصالحهم ذروته باستخدام أسلوب الإضراب عن العمل. ومن المجتمعات من يعتبر الإضراب حقًا، ومنها من يحظره، ومنها من يقيده. والإضراب بغض النظر عن حكم القانون فيه حقيقة واقعة يلجأ إليه أبناء المهنة الواحدة أو العاملون في جهة واحدة عند يأسهم من الحصول على ما يرونه حقًا لهم، وذلك هو التناصر في أجلى صوره.

ولهذا فنحن نعتقد أن ضابط المهنة مؤهل بطبيعته لأن يكون مناط العقل في مجتمعنا الراهن. ويجب تقديم هذا الضابط على ما عداه، لأن قدر التناصر بالمهنة يفوق قدر التناصر بغيرها نوعًا ومدى. وهذا الضابط يحقق، فضلاً عن ذلك، شرطًا هامًا في العقل لا يحققه سواه، ونعني به كثرة العدد. ويمكن استثمار ضابط المهنة على نحو أفضل إذا صرفناه إلى كل ما يتسع له معناه. وذلك باعتباره متحققًا في حالتين: الأولى عند اتحاد نوع العمل ولو اختلفت الجهة التي يمارسه فيها أربابه، والثانية عند اتحاد الجهة ولو اختلف نوع العمل الذي يمارسه العاملون فيها، لأن العمل في الحالتين هو المعول عليه. كل ما هنالك أنه ينظر إليه من حيث نوعه في حالة، ومن حيث جهة ممارسته في أخرى. وليس في هذه التوسعة تَكَلُف ولا اصطناع، وإنما هو تسجيل لحقيقة الواقع؛ فكل متأمل في أحوال مجتمعنا يدرك أن هناك تناصرًا بين العاملين في مهنة واحدة كالأطباء والمهندسين والمحامين والمحاسبين والتجار، وأن هناك تناصرًا مماثلاً بين العاملين في جهة واحدة كالشركات والمصانع والوزارات والهيئات العامة وإن اختلفت وجوه النشاط التي يباشرها هؤلاء العاملون(19). ولا يخفى أن ضابط المهنة بهذا المفهوم لا يعد ابتكارًا من جانبنا بمعنى الكلمة؛ فهو لا يعدو أن يكون جمعًا بين أهل الديوان وأهل الحرفة، وقد قال بهما الأحناف من قبل.

(13) هل يكفي ضابط المهنة مناطًا للعقل:

الأصل أن كل إنسان يسعى إلى رزقه عن طريق عمل يؤديه ويتكسب منه، ومع ذلك فثم طوائف لا تعمل لكسب رزقها، بل تعتمد في معيشتها على غيرها، إما لاعتبارات اجتماعية أو صحية أو عقلية أو عمرية، كربات البيوت والعاطلين والمساجين والمرضى والمجانين والصغار. ويمكن أن نلحق بهؤلاء طائفة الأجانب الذين يفدون إلى البلاد بقصد السياحة أو الزيارة أو العبور أو التجارة أو طلب العلم. وقد تقع من بعض هؤلاء جريمة توجب العقل، فمن يعقل عنهم؟

يبدو لنا أن هذا السؤال ليست له إجابة واحدة يمكن اعتبارها حاسمة، ولهذا فقد يحسن طرح الاحتمالات العقلية المتصورة للإجابة عنه ثم الموازنة بينها لاختيار أكثرها ملاءمة. وقد يقال إن الدية تلزم الجاني في هذه الأحوال في ماله مادام ليست له عاقلة، وقد يقال: إن عاقلة الجاني في هذه الأحوال هي عاقلة المسئول عن إعالته، وقد يقال أخيرًا إن الدولة – وهي البديل من بيت المال – تتحمل الدية باعتبارها عاقلة. أما الرأي الأول فلا نحبذه، لأن فكرة العقل ما شرعت إلا لتجنبه. ولو أخذ به لأكلت الدية من مال المخطئ إن كان ذا مال، أو لضاعت الدية على مستحقها إن كان الجاني مفلسًا أو معسرًا. وأما الرأي الأخير فلا نميل إليه لما يترتب عليه من إرهاق للخزانة العامة نظرًا لكثرة عدد الطوائف التي يتعين أن تعقل الخزانة عنها. ومن المقرر أن بيت المال في الفقه الشرعي عاقلة احتياطية لا أصلية، واعتباره كذلك يقتضي ألا يلزم بالعقل إلا في أضيق الحدود وفي الأحوال الاستثنائية، وهذا الأمر لا يستقيم مع اتساع دائرة من يراد تحميله تبعة العقل عنهم، فضلاً عن كثرة ما قد يقع منهم من جرائم بالنظر إلى شذوذ أحوال معظمهم. ولما كان بيت المال منوطًا به الإنفاق على المرافق العامة حماية للدولة من الخارج ومحافظة على الأمن في الداخل وتيسيرًا لشئون حياة الناس وصيانة مصالحهم، فينبغي الحرص على موارده وعدم استنزافها عن طريق إنفاقها في أغراض ثانونية كالعقل. يبقى الرأي الثاني، وهو في نظرنا قابل للمناقشة من حيث المبدأ، وإن كان يحتاج مع ذلك إلى ضبط وتحديد.

والرأي الذي نطرحه حلاً لهذه المسألة أنه إذا لم تكن للجاني عاقلة، وكان الجاني معالاً من قبل غيره أو معهودًا به إليه لرعايته، فإن عاقلة هذا الغير تكون عاقلة للجاني أيضًا. أما إذا لم يكن ثم عائل أو راع فإن العقل يكون في بيت المال. ووفقًا لهذا الرأي تكون عاقلة ربة البيت المتزوجة هي عاقلة زوجها، وتكون عاقلة الصغير والمجنون هي عاقلة وليه بحسب الحال. أما العاطلون والسجناء والأجانب الوافدون الذين لا ينتمون إلى عاقلة معلومة فتعقل الدولة عنهم. وقد لا يسلم هذا الرأي من وجوه اعتراض لا نجحدها، لكنا مع ذلك نراه أفضل مما سواه عند مقارنته به، أو بالأحرى نراه أقل الآراء استهدافًا للنقد.

(14) التمييز بين نظام العاقلة وبعض النظم القانونية المعاصرة:

يعرف القانون الوضعي المعاصر نظمًا تشبه العاقلة من بعض الوجوه ولكنها تختلف عنها ولا تغني من وجهة النظر الإسلامية عنها، ونعنى بذلك نظام المسئول عن الحقوق المدنية ونظام التأمين. والجامع بين هذين النظامين من جهة والعاقلة من جهة أخرى أن شخصًا آخر غير الجاني يحمل ماليًا تبعة جريمته فيدفع التعويض للمضرور بدلاً منه.

(15) أولاً: العاقلة والمسئول عن الحقوق المدنية:

المسئول عن الحقوق المدنية في الاصطلاح القانوني هو شخص يلتزم قانونًا بتعويض الضرر الناشئ عن جريمة ارتكبها سواه، وذلك لعلاقة قانونية بينهما يرى القانون من أجلها إلزامه بالتعويض. وقد يكون المسئول عن الحقوق المدنية شخصًا طبيعيًا أو معنويًا، ويصح أن يكون من أشخاص القانون العام. والشخص يُسأل مدنيًا عن فعل غيره في حالتين: الأولى عندما يكون مسئولاً عن مراقبة هذا الغير، والثانية عندما يكون الغير تابعًا له، ثم يقع من هذا أو ذاك خطأ يحدث ضررًا بالآخرين. وقد تكفلت المادتان 173، 174 من القانون المدني المصري ببيان أحكام المسئولية في الحالتين.

ويقترب التنظيم الشرعي للعقل من التنظيم القانوني للمسئول عن الحقوق المدنية، ومع ذلك فإن بينهما فوارق تتعلق بأساس كل منهما ومجاله ومداه. ومن هذه الفوارق:

أولاً: أن التزام العاقلة أساسه التكافل والمساواة، أما التزام المسئول عن الحقوق المدنية فيقوم على خطئه الشخصي. ويترتب على ذلك أنه يكفى لإلزام العاقلة بالدية أن تثبت علاقة الجاني بها، وأن يثبت كذلك خطؤه الذي استوجب الدية، أما المسئول عن الحقوق المدنية فلا يكفي ذلك لثبوت مسئوليته، بل يجب أن يثبت فضلاً عن ذلك أنه قد أخطأ هو أيضًا. وإذا كان صحيحًا أن القانون الوضعي يفترض قيام الخطأ في جانب المسئول عن الحقوق المدنية، ويعفي المضرور من إثبات هذا الخطأ، إلا أن هذا لا يعني أن النتيجة العملية للنظامين واحدة. ذلك أن فرصة المسئول عن الحقوق المدنية في نفي مسئوليته أكبر من فرصة العاقلة؛ فهو يستطيع الخلاص منها إذا نفى خطأ الفاعل أو نفي علاقته به، كما يمكنه الخلاص منها – في كل الأحوال – في قوانين بعض الدول وبالنسبة إلى متولي الرقابة في قوانين دول أخرى(20) إذا نفى خطأه هو، فأثبت أنه قام بواجب الرقابة، أو أثبت أن الضرر كان واقعًا لا محالة ولو قام بهذا الواجب بما ينبغي من العناية. أما العاقلة فلا سبيل أمامها لدفع مسئوليتها إلا أن تنفى علاقتها بالفاعل أصلاً، أو تنفي خطأه الذي أوجب الدية، أما خطؤها هي فلا يجديها نفيه، لأنه لا يدخل ضمن عناصر مسئوليتها، ولهذا فإن ثبوته وانتفاءه سيان.

ثانيًا: أن التزام المسئول عن الحقوق المدنية أوسع نطاقًا من التزام العاقلة؛ فالأول يُسأل عن كل خطأ يقع من الخاضع لرقابته، أو يقع من تابعه في أثناء أو بسبب تأدية عمله، سواء كان هذا الخطأ عمديًا أو غير عمدي، وسواء اعتبر جريمة أو لم يعتبر، وسواء كان محله نفس الغير أو بدنه أو ماله أو أي حق من حقوقه. ويلتزم المسئول عن الحقوق المدنية بتعويض كل ما يترتب على الخطأ من ضرر سواء كان الضرر يسيرًا أو جسيمًا، وسواء كان ماديًا أو معنويًا. أما العاقلة فلا تُسأل شرعًا إلا عن الخطأ غير العمدي، وبشرط أن يتمحض قتلاً أو جرحًا. أما العمد فلا تسأل العاقلة عنه بحال، وفي شبه العمد خلاف؛ فثم من يلحقه بالعمد ومن يجرى عليه حكم الخطأ. ولا شأن للعاقلة بما عدا القتل والجرح مطلقًا، سواء وقع الفعل على مال الغير أو على حريته أو على عرضه أو شرفه واعتباره. كذلك فإن العاقلة لا تحمل غير الدية، ويشترط أن تزيد على الثلث، وفي الثلث خلاف. فما عدا الدية من صور التعويض لا تحمله العاقلة، وما دون الثلث لا تحمله.

ثالثًا: أن طبيعة التزام العاقلة بالدية تختلف عن طبيعة التزام المسئول عن الحقوق المدنية بالتعويض؛ فالعاقلة – في حدود ما تلتزم به شرعًا – تُسأل بصفة أصلية لا احتياطية، وعلى انفراد لا على وجه التضامن. وإذا كانت العاقلة تلتزم من باب التكافل فهذا لا يعني اعتبارها كفيلا يخضع للأحكام المقررة شرعًا أو وضعًا لعقد الكفالة. ويترتب على ذلك جملة نتائج منها:

(1) أن مستحق الدية لا خيار له عند المطالبة بحقه؛ فليس أماه غير مدين واحد، هو العاقلة. فإن أغفلها وطالب الجاني كانت دعواه غير مقبولة. وإن اختصم العاقلة والجاني معًا وجب إخراج الأخير، لأنه لا يلتزم مع العاقلة على وجه التضامن.

(2) أن العاقلة إذا طولبت بالدية فليس لها أن تدفع بوجوب تجريد الجاني من ماله أولاً، بل إنه لا يجوز لها الدفع بوجوب الرجوع عليه أصلاً، ولا المطالبة بإدخاله طرفًا في الدعوى، لأنه ليس مدينًا أصليًا بالدية ولا متضامنًا فيها مع العاقلة.

(3) أن العاقلة إذا أدت الدية إلى مستحقها فليس لها حق الرجوع بها ولا بشيء منها على من كان خطؤه سببًا لوجوبها عليها.

وعلة ما تقدم كله أن الدية وإن وجبت بفعل الجاني نفسه إلا أنها تؤول بحكم الشرع دينًا في ذمة العاقلة وحدها، فلا يجوز تحميل المخطئ بما حطه الشرع عنه ولا إشراكه مع العاقلة في حمله.

أما المسئول عن الحقوق المدنية فلا يلتزم بالتعويض وحده، بل يلتزم به على وجه التضامن مع محدث الضرر. ولهذا فالمضرور بالخيار، إن شاء طالب المسئول وحده، أو محدث الضرر وحده، أو طالبهما معًا. وإذا رفعت الدعوى على المسئول عن الحقوق المدنية جاز له إدخال محدث الضرر طرفًا فيها، وإذا أدى التعويض كان له حق الرجوع على من أحدث الضرر في الحدود التي يكون مسئولاً فيها عن تعويضه.

رابعًا: أن العدد ليس شرطًا في المسئول عن الحقوق المدنية؛ فسبب التزامه يجعله في الأغلب الأعم شخصًا واحدًا، سواء كان طبيعيًا أو معنويًا. وإذا تعدد المسئولون فإنما يكون ذلك استثناء وفي أحوال نادرة. أما العاقلة فالعدد، بل الكثرة، من لوازمها، وذلك لعلة معلومة، هي أنه تحمل من باب التكافل والمواساة، فكان اشتراط العدد مناسبًا، لأنه كلما زاد عدد أفرادها قل ما يحمله كل منهم من غرم الدية. ولهذا لا يصح بحال أن تكون العاقلة شخصًا واحدًا أو أشخاصًا قليلين، وإلا حملوا كل الدية في مالهم، وهذا ينافي علة شرع العاقلة، لأن الضرر لا يزال بالضرر. ولهذا رأينا الفقهاء يشترطون ألا يقل عدد العاقلة عن سبعمائة شخص، وزاد بعضهم فاشترط ألا يقل العدد عن ألف.

(16) ثانيًا: العقل ونظام التأمين:

تنص المادة 747 من القانون المدني المصري على أن التأمين عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه بأن يؤدي إلى المؤمن له، أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه، مبلغًا من المال أو إيرادًا مرتبًا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين بالعقد، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن. وتطرأ حاجة الشخص إلى التأمين حين يتوقع التعرض لخطر يناله في شخصه، كما في التأمين على الحياة أو التأمين من المرض أو من الإصابات، أو يناله في ماله كما في التأمين من الحريق أو السرقة، أو تحسبًا لثبوت مسئوليته هو نفسه عما قد يقع من حوادث ناشئة عن استعمال سيارته أو عن ممارسة مهنته. وفي هذه الأحوال وأمثالها يلجأ الشخص إلى التعاقد مع شركة تأمين يؤدى لها أقساطًا دورية في نظير أن يتقاضى منها، هو أو المستفيد الذي يحدده، عند تحقق الخطر مبلغًا من المال أو أي عوض مالي آخر. ومن هذا يتضح وجه الشبه بين نظام التأمين وفكرة العاقلة، وهو ما صرح به كثير من المحدثين من فقهاء الشريعة والقانون؛ فقد ذهبوا إلى أن التأمين نظام تعاوني تضامني يؤدي إلى تفتيت أضرار المخاطر والمصائب وتوزيعها على مجموع المستأمنين عن طريق التعويض الذي يدفع للمصاب من المال المجموع من حصيلة أقساطهم بدلاً من أن يبقى الضرر على عاتق المصاب وحده(21)، شأنه في ذلك شأن نظام العاقلة.

على أن الشبه الذي لوحظ بين النظامين لا ينفى ما بينهما من فروق جوهرية:

وأول هذه الفروق أن العقل عند جمهور الفقهاء من الأصول المقررة شرعًا بحيث تأثم الأمة إذا تركت العمل به، أما التأمين فهو بالنسبة للجماعة مما يدخل في باب السياسة الشرعية، وهو بالنسبة للأفراد من المباحات، إن شاءوا دخلوا فيه، وإن شاءوا لم يفعلوا. فالعقل من الناحية الشرعية نظام إجباري يستمد أصله من الشرع، والإجبار فيه عام يشمل جماعة المسلمين، فلا يحل لهم تركه، ويشمل أفراد العاقلة فلا يقبل من أحدهم الانسلاخ بإرادته عن عاقلته مادام مناطها متحققًا فيه. أما التأمين فاختياري بالنسبة للجماعة ككل، من حيث مبدأ الأخذ به، والأصل أنه كذلك بالنسبة للأفراد من حيث حريتهم في الدخول فيه، ما لم يجعله المشرع إجباريًا في بعض الأحوال، كما هو الشأن في التأمين ضد حوادث السيارات.

أما ثاني الفروق فيتعلق بالغاية أو الهدف. فالعقل – لكونه تكافلاً ومواساة – يقوم على أساس التبرع، أما التأمين بحسب تنظيمه القانوني الراهن فإنه يهدف بصفة أساسية إلى تحقيق كسب مادي أو توقي خسارة مالية، ولهذا فهو بالنسبة لطرفيه – المؤمن والمؤمن له – من عقود المعاوضة لا من عقود التبرع. ولا ينال من هذا الاختلاف ما قد يسفر عنه نظام التأمين من نتائج يتلاقى بعضها مع نتيجة العقل، وهي تجنيب محدث الضرر عبء الوفاء من ماله الخاص بكل التعويض الجابر للضرر، أو تجنيب المضرور مخاطر ضياع حقه في الحصول على التعويض لجهالة من أحدث الضرر أو لعدم ملاءته؛ فهذه النتيجة أو تلك لا تحجب الفارق الجوهري بين النظامين.

وأما الفرق الثالث فيتصل بمجال كل من النظامين. فنطاق التأمين أرحب كثيرًا من نطاق العقل، لأن المخاطر التي يغطيها التأمين تكاد تستغرق كل ما هو متصور عقلاً، سواء كانت هذه المخاطر بحرية أو جوية أو برية. ويقسم الفقهاء التأمين البري إلى تأمين على الأشخاص وتأمين من الأضرار. ويهدف النوع الأول إلى تأمين الشخص من الأخطار التي تهدد حياته أو سلامة جسمه أو صحته أو قدرته على العمل، ويشتمل على نوعين من التأمين، أحدهما تأمين على الحياة، والآخر تأمين من المرض والإصابات. وأما التأمين من الأضرار فغايته تأمين الشخص مما قد يصيبه في ماله، وهو نوعان: تأمين على الأشياء من الحريق أو التلف أو الهلاك أو السرقة ونحوها، وتأمين من المسئولية، أي من الرجوع على المؤمن له بالتعويض نتيجة لحادث وقع من سيارته أو حريق تسبب فيه، أو ضرر أحدثه في أثناء مزاولة مهنته(22). أما العقل فمجاله محدود على نحو ما بينا، فهو لا يعدو مخاطر القتل الخطأ والجرح الخطأ، ولهذا فالتداخل بين التأمين والعقل لا يحدث إلا في صورة واحدة من صور التأمين، وهي التأمين من المسئولية.

والفرق الرابع أنه في الأحوال التي يقع التداخل فيها بين العقل والتأمين فإن التزام المؤمن – أي شركة التأمين – قبل المضرور أو ورثته يختلف عن التزام العاقلة؛ فقد مر بنا أن العاقلة تعتبر مدينة لمستحق الدية بصفة أصلية، مما يوجب عليها أن يتجه إليها مباشرة للمطالبة بحقه، فلا يجوز له الرجوع على الجاني أصلاً. أما شركة التأمين فلا تلتزم بشيء قِبَل من أصابه الضرر لأنه ليس طرفًا في عقد التأمين، ولأن المؤمن له لم يشترط شيئًا لمصلحته في هذا العقد، وإنما الشرط الذي اشترطه فيه كان لمصلحته هو نفسه. فالخطر المؤمن منه في هذا العقد ليس هو الضرر الذي يصيب المضرور، بل هو الضرر الذي يصيب المؤمن له نتيجة لرجوع المضرور عليه، وهو لا يتحقق بمجرد وقوع الضرر بالمضرور، وإنما يتحقق فحسب لحظة رجوع المضرور على المؤمن له، فعندئذ يستطيع الأخير أن يطالب شركة التأمين بالضمان. وإذا كان القانون يجيز للمضرور أن يرجع بدعوى مباشرة على شركة التأمين، فليس معنى ذلك أن حقه في هذه الدعوى ناشئ عن عقد التأمين، وإنما الحقيقة أنه ناشئ بحكم القانون ذاته(23).

والفرق الخامس أن العدد شرط في العاقلة، أما المؤمن – وهو شركة التأمين – فلا يشترط فيه العدد، بل الأصل أنه شخص واحد من الناحية القانونية، ولو كان شركة مساهمة يملك أسهمها مئات من الأشخاص. وعلى العدد في العاقلة معلومة، ولا وجود لهذه العلة في المؤمن، لأن التزامه ناشئ عن عقد من عقود المعاوضة، وليس مفروضًا عليه من باب التبرع تخفيفًا عن غيره ومواساة له.

(17) الملامح العامة لنظام العقل في التقنين المنشود:

أشرنا من قبل إلى وجوب التفرقة بين مبدأ العقل وأحكامه التفصيلية، وخلصنا إلى أن العقل أصل شرعي يجب التزامه، أما أحكامه التفصيلية ففي محل الاجتهاد. وإذا بدا لنا اليوم عند تقنين أحكام العقل أن ظروف الواقع تملى علينا أو تزين لنا أن نصوغ هذه الأحكام في صورة تختلف في بعض ملامحها أو في كثير من هذه الملامح عما نجده مدونا في كتب الفقه، فليس علينا في ذلك بأس، لأنه ينبغي علينا أن نفرق بين مقاصد الشرع ووسائله؛ فالمقاصد هي الأحكام المقصودة لذاتها، أما الوسائل فهي الأحكام التي شرعت لتحصل غيرها، أي التي بدونها يفوت المقصد أو يتحقق ولكن على غير الوجه المطلوب. وإذا لم تكن الوسيلة متعينة شرعًا فإنه يكفي لقبولها أن تكون مفضية إلى تحقيق المقصد من جهة، وألا تكون مخالفة لقاعدة شرعية من جهة أخرى. أما اتفاقها مع ما جرى عليه السلف أو اختلافها عنه فلا اعتداد به، لأن السوابق التاريخية في هذا المقام تخلو من قوة الإلزام.

وإذا تعددت الوسائل إلى المقصد الواحد وتفاوتت في مدى إفضاء كل منها إليه، وجب تقديم أفضلها، إذ لا يصح العدول عن الأفضل إلى المفضول لغير موجب. أما إذا تساوت في الإفضاء إلى المقصد كان المكلف في سعة من أمره يختار من بينها ما يشاء(24).

وعلى الرغم من أن التفرقة بين المقاصد والوسائل من المسلمات، إلا أنها تغم أحيانًا على البعض، فنراهم يتشبثون بأحكام تجاوزتها ظروف العصر ظنًا منهم أنها من مقاصد الشرع، وهي من وسائله فحسب، وهم بذلك يضيقون على أنفسهم وعلى الناس، ويتيحون الفرصة لمن شاء أن يرمى الشريعة بالجمود.

وهذا الخلط نلمسه في مجالات كثيرة، نجتزئ منها بالقضاء كمثال؛ فقد تصدى كثيرون للكتابة في هذا الموضوع، وزعموا أن ما يقدمونه للناس هو نظام القضاء في الإسلام. ونراهم يبدون حماسًا شديدًا للنظام الذي يفصلون أحكامه على أساس أنه شرع الله. وحين نتأمل ما كتبوا نجد الأمر على خلاف ما زعموا؛ فليس صحيحًا أن للقضاء في الشريعة الإسلامية نظامًا ثابت المعالم واجب الاتباع في كل زمان ومكان. وإنما المسلم أن إقامة العدل بين الخصوم من مقاصد الشرع، أما القضاء فمجرد وسيلة. والفهم الدقيق يوجب القول بأن تنظيم القضاء هو وسيلة الوسيلة. وأفضل الوسائل في هذا الشأن هي التي تمكن القضاء من تحقيق العدل بأيسر سبيل وعلى أفضل وجه. وليس من اللازم أن يكون هذا التنظيم – أو الوسيلة – موافقًا كل الموافقة لما كان عليه الحال عند السلف في أي عصر، ولو كان عصر الخلافة الراشدة. ذلك أن أحوال الناس وظروف حياتهم تختلف باختلاف الزمان والمكان، وما ينبغي أن تكون وسائلهم قاصرة عن مسايرة أحوالهم وواقعهم. وحسبهم أن يكون تنظيمهم للقضاء محققًا لمقصده الشرعي، وهو إقامة العدل. ولهذا فلا ضير عليهم أن يرتبوا المحاكم وفقًا لما يرتأون، وأن يوزعوا القضايا بينها كما يشاءون، وأن ينظموا إجراءات الدعاوى والحكم فيها بما يفضي إلى تحقيق العدل، وهو غاية القضاء. ولا بأس على ولي الأمر وهو بصدد تنظيم الدعوى الجنائية أن ينص على وجوب تحقيقها بواسطة إحدى الجهات قبل رفعها إلى المحكمة، أو يسمح برفعها إليها مباشرة دون تحقيق سابق، ولا عليه كذلك أن يجعل التقاضي على درجة واحدة أو يجعله على درجتين، وأن يكتفي في تشكيل المحكمة بقاض واحد، أو يشترط تشكيلها من عدة قضاة، وأن يقضي بتقديم المتهمين جميعًا إلى نوع من المحاكم، أو يخص فئاتهم بمحاكم خاصة. فهذا كله جائز شرعًا، لأنه من الوسائل التي تجرى المفاضلة بينها لتخير ما يراه وليَّ الأمر أجدى من غيره في تحقيق المقصد الشرعي. أما ما نقرؤه في كثير مما يكتب عن القضاء في الإسلام فهو في حقيقة أمره تاريخ لنظمه اكثر منه بيانًا لأحكامه الشرعية الملزمة.

وإذا كنا قد استطردنا فلا ينبغي الظن بأننا قد بعدنا كثيرًا عما نحن بصدده. ذلك أن الأفكار التي سنطرحها لتنظيم العقل سوف تبدو مختلفة من بعض الوجوه عما هو مدون في كتب الفقه، بل إن الخلاف سيبدو شديد الوضوح في بعض المسائل. وما ينبغي أن يحمل ذلك على أننا نخطِّئ مَن خالفناهم، لأن الجهة منفكة. فإذا كان صحيحًا أننا وإياهم نعالج مقصدًا واحدًا وهو العقل، فإننا نتلمس أفضل وسيلة لتحقيق هذا المقصد في عصرنا نحن، وهو يختلف اختلافًا بينا عن العصر الذي شهدوه واجتهدوا لتلمس وسيلة العقل المناسبة فيه، وعلى أي حال فالأمر في خصوص العقل بالذات يغنينا عن تلمس العذر أصلاً؛ فقد رأينا في الفقه الشرعي من ينكر العقل أساسًا لمخالفته لأصل مقرر، وهو شخصية المسئولية، كما أن في الفقه من جهة أخرى من يرى وقف العمل بأحكامه لتخلف مناطه في زمانه، وهو التناصر بين الناس، وتلك دعوى يسهل على كل أحد أن يثيرها في كل عصر. وإذا كان العقل من الناحية الفقهية دائرًا بين وجوب الأخذ به وجواز اطراحه، فلا بأس علينا إذا نحن ملنا إلى الرأي الأول ثم اجتهدنا فرسمنا له معالم تختلف عن معالمه التقليدية ليكون تنظيمه أكثر ملاءمة لواقعنا.

ولسنا نزعم أننا نقدم مشروعًا للعقل يشتمل على أحكامه التفصيلية جميعًا؛ فهذا يخرج عن المنهج الذي اتبعناه، فضلاً عن أنه يتجاوز الآن طاقتنا حتى لو أردناه. وقد عرضت لنا في أثناء إعداد هذا البحث فروض كثيرة، عنينا ببعضها وأغفلنا الكثير. ومن المحقق أننا لو أطلنا النظر لعرضت لنا مسائل أكثر، ومن المحقق كذلك أن ما فاتنا تصوره يربو كثيرًا على ما تصورناه. ومن هنا كان حرصنا على تجنب الدخول في قلب التفاصيل، والاكتفاء بعرض الأفكار الرئيسية التي تشكل من وجهة نظرنا الملامح العامة لنظام العقل المقترح، راجين أن يكون ما نطرحه جديرًا بالمناقشة والتمحيص.

(18) مجال العقل:

ينحصر العقل عند الفقهاء في طائفة محدودة من الجرائم، هي القتل والجرح، أما ما عداها فضمانه يجري على حكم الأصل في ضمان المتلفات، وهو إلزام الجاني به في ماله. والسائد أن العقل قبل الإسلام كان محصورًا في هذه الدائرة وحدها، فلما جاء الإسلام أقره، ثم فصّل الفقهاء من بعد أحكامه. على أن البعض يرى مع ذلك أن دائرة العقل في الجاهلية كانت اكثر اتساعًا، وأن العرب كانت لديهم عادة حسنة في توزيع المصيبة المالية الناشئة من القتل أو من الحريق أو السرقة ونحوها بغية تخفيف ضررها عن كاهل من لحقته جبرًا لمصابه وإحياءً لحقوق الضحايا في الجنايات، وأن الشرع أقر الفكرة لما فيها من مصلحة مزدوجة، وجعلها إلزامية في جناية القتل والجرح، وتركها اختيارية للمروءات في الكوارث المالية الأخرى وفقًا للتوجيه الشرعي العام في التعاون المنتدب إليه شرعًا(25). وسواء صح هذا الرأي من الوجهة التاريخية أو لم يصح، فالثابت أن الفقه الشرعي حصر العقل في جرائم الدماء وحدها، أي في القتل والجرح، ولم يبسطه على ما عداها، وقد انعقد على هذا إجماع القائلين بالعقل فلم يعرف لهم مخالف.

وليس هناك من ينكر أن المواساة تستحب عند النوائب، وأنها لا تختص بنوع معين منها. غير أنه لما كان العقل مواساة واجبة ومكرمة مفروضة، فإن مما يناسبه عند تحديد نطاقه تجنب الإفراط فيه تعلقًا بأفكار مثالية، فهذا طموح، بل هو جموح قد يعود على أصل الفكرة بالنقض، إذ يخشى أن ينقلب التخفيف عن الجاني إجحافًا بالعاقلة، والقاعدة أن الضرر لا يزال بالضرر. ومن هنا كان الحرص على ألا تحمل العاقلة إلا دية القتل والجرح. على أن ذلك لا يعني بالضرورة ترك الجاني في الأحوال الأخرى دون أن تمتد له يد أو يقدم له عون؛ فالمروءة تقتضي الوقوف بجانبه والحمل عنه أو معه. غير أن هذا الحمل يخرج من مجال الواجبات ليدخل في مجال المندوبات.

ولما كان العقل صلة ومواساة فقد انعقد الإجماع على أن العاقلة لا تحمل عن الجاني إلا إذا كان معذورًا، فإن لم يكن كذلك حمل وحده دية جنايته كاملة في ماله الخاص ولو أجحفت به الدية، بل ولو أكلت كل ماله. وإنما يعذر الجاني إذا وقع منه القتل أو الجرح خطأ، فإن كان الفعل شبه عمد ففيه الخلاف على ما ذكرنا.

وعلى الرغم من اتفاق الجمهور على استبعاد العمد من نطاق العقل، فإننا نتساءل عما إذا كان من الممكن النظر في التسوية بين العمد والخطأ بحيث تتحمل العاقلة دية القتل والجرح الخطأ، وتتحمل كذلك دية العمد فيهما إذا سقط القصاص بما عدا الصلح؟ وعلة السؤال أن العقل إن كان فيه تخفيف عن الجاني بحمل الدية عنه، فإن فيه فضلاً عن ذلك رعاية للمجني عليه أو ذويه بضمان حصولهم على الدية المستحقة لهم وتجنيبهم مخاطر مطل الجاني أو إعساره. وقد صرح بهذا الغرض المزدوج فقهاء كثيرون، قدامى ومحدثون. وإذا كانت العاقلة ترعى جانب المجني عليه عند خطأ الجاني فما ينبغي لها أن تتخلى عنه في حال العمد إذا سقط القصاص بسبب لا دخل له فيه، بل لعل رعايته في هذه الحال أولى. ولا يعترض بأن الأحاديث النبوية صريحة في نفي تحميل العاقلة دية العمد؛ فهذه الأحاديث إن كانت نصًا في نفي الوجوب، فليست نصًا في حظره، مما يصح معه لولي الأمر أن يلزم العاقلة بدية العمد عملاً بما هو مقرر له من الحق في جعل المندوب واجبًا في بعض الأحوال للمصلحة. ويمكن القول – تفاديًا لهذا الاعتراض وتوفيقًا بين الرأيين – بإلزام العاقلة بأداء دية العمد للمجني عليه من مالها رعاية لحقه، على أن يكون لها الرجوع على الجاني بما أدته بدلاً منه، وذلك على أساس أنها أقدر من المجني عليه على استيفاء حقها إما كرهًا – عن طريق القضاء – إن كان الجاني مطولاً، أو عند المسيرة إن كان معسرًا. وقد يزكى هذا النظر أن القتل العمد لا يكثر بخلاف القتل الخطأ، مما يجعل زيادة المئونة على العاقلة في هذه الحال يسيرة.

ويجدر التنبيه هنا إلى أن إلزام العاقلة في حالة عمد الجاني يختلف عن التزامها في حالة خطئه؛ فهي في الحالة الأولى تؤدي الدية إلى المجني عليه نيابة عن الجاني لأنها ليست دينًا في ذمتها، وإنما هي تحل محل الجاني تيسيرًا على المجني عليه في اقتضاء حقه. ولهذا فالمجني عليه بالخيار، إن شاء رجع على العاقلة أو على الجاني. أما في الحالة الثانية فإن العاقلة تؤدي دينًا ثبت في ذمتها أصلاً، وليس لها الرجوع على الجاني بما أدت.

(19) مفهوم الخطأ الموجب للعقل:

الخطأ بوجه عام هو الانحراف عن السلوك الواجب، وهو بهذا المعنى يشمل مطلق الانحراف، مقصودًا وغير مقصود. غير أن الفقهاء لا يصرفون الخطأ في باب الجنايات إلى هذا المعنى الواسع، بل يصرفونه إلى معنى أخص، إذ يقصدون به الصورة المقابلة للعمد.ولا يعني ذلك بالضرورة التسليم بقيام الخطأ كلما انتفى العمد، وإلا كان معنى ذلك أن الإنسان مسئول في كل حال عن النتائج السيئة التي تنشأ عن فعله، إما على وجه العمد أو على وجه الخطأ. وهذا غير صحيح في إطلاقه؛ فثم حال ثالثة يمكن ألا يعزى فيها إلى الإنسان عمد ولا خطأ. ولهذا فإنه إذا كان صحيحًا أن الخطأ ينافى العمد ويناقضه من بعض الوجوه، فالصحيح كذلك أنه ليس بديله الوحيد. فالخطأ ليس عمدًا معكوسًا ولا هو عمد أبتر، وإنما هو فكرة قائمة بذاتها، تتفق مع العمد من وجه وتختلف عنه من وجوه. ويمكن تعريف الخطأ بأنه اتجاه إرادة الشخص إلى إتيان سلوك خطر دون القيام بما يمليه عليه الواجب من التدبر والتحوط. وتعرفه محكمة النقض المصرية بأنه تصرف الشخص تصرفًا لا يتفق والحيطة التي تقضى بها ظروف الحياة العادية، فهو عيب يشوب مسلك الإنسان لا يأتيه الرجل العادي المتبصر الذي أحاطت به ظروف خارجية مماثلة للظروف التي أحاطت بالمسئول(26).

ولا يختلف مفهوم الخطأ في القانون عن مفهومه في الفقه الشرعي، لأن هذا المفهوم ليس حكمًا قانونيًا ولا شرعيًا، وإنما هو محض اجتهاد في فهم الواقع. ومن القواعد المقررة لدى الفقهاء أن كل ما ورد به الشرع مطلقًا ولا ضابط له فيه ولا في اللغة فالمرجع فيه إلى العرف.

ويلاحظ بوجه عام أن الفقهاء على اختلاف مذاهبهم حين تناولوا موضوع الخطأ في باب الجنايات حرصوا – إلى حد الإسراف – على ضرب الأمثلة، ولم يحفلوا كثيرًا بتعريف الخطأ وبيان ضابطه. ولم يشذ منهم عن هذا المسلك حتى فحول الأصوليين. ويلفت النظر عند مطالعة ما كتبه الفقهاء في هذا الموضوع عنايتهم الشديدة عند ضرب المثال بافتراض الواقعة على أكثر من حال، ثم انتهاؤهم بعد ذلك إلى القول بوجوب اختلاف الحكم تبعًا لاختلاف الحال. عرض ابن القيم في زاد المعاد لمسئولية الطبيب، فقسم الأطباء إلى خمسة أقسام: أحدها طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ولم تجن يده، فتولد من فعله المأذون من جهة الشارع ومن جهة من يطبه تلف العضو أو النفس أو ذهاب صفة، فهذا لا ضمان عليه اتفاقًا، فإنها سراية مأذون فيه. والقسم الثاني متطبب جاهل باشرت يده من يطبه فتلف به، فهذا إن علم المجني عليه أنه جاهل لا علم له وأذن له في طبه لم يضمن، وإن ظن المريض أنه طبيب وأذن له في طبه لأجل معرفته ضمن الطبيب ما جنت يده، وكذلك إذا وصف له دواء يستعمله والعليل يظن أنه وصفه لمعرفته وحذقه فتلف، ضمنه. والقسم الثالث طبيب حاذق أذن له وأعطى الصنعة حقها، لكنه أخطأت يده وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفه، فهذا يضمن لأنها جناية خطأ. والقسم الرابع طبيب حاذق ماهر بصناعته اجتهد فوصف للمريض دواء فأخطأ في اجتهاده فقتله، فهذا يضمن بدوره لأنها جناية خطأ. والقسم الخامس طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها فقطع سلعة من رجل أو صبي أو مجنون بغير إذنه أو إذن وليه، فقال أصحابنا يضمن لأنه تولد من فعل غير مأذون فيه، وإن أذن له البالغ أو ولي الصبي والمجنون لم يضمن، ويحتمل ألا يضمن مطلقًا لأنه محسن، وما على المحسنين من سبيل، وأيضًا فإنه إن كان متعديًا فلا أثر لإذن الولي في إسقاط الضمان، وإن لم يكن متعديًا فلا وجه لضمانه(27).

وقد نقلنا هذه الفقرة – على طولها – عن ابن القيم، وهو من كبار فقهاء الحنابلة، باعتبارها مجرد نموذج ومثال. وهو لا يختلف عن غيره من فقهاء المذاهب الأخرى، فكلهم نهج ذات النهج ونسج على نفس المنوال. غير أنه لا ينبغي أن يفهم من ذلك أن الحلول التي انتهى إليها الفقهاء في الفروض التي فرضوها كانت عشوائية لا يحكمها ضابط ولا تجرى على قاعدة، بل الصحيح أنها على تباينها كانت في الأغلب الأعم متناسقة لدخولها دائمًا تحت قاعدة كانت ترد أحيانًا في ثنايا عباراتهم، كقولهم إن الفعل مأذون به شرعًا والمأذون به لا ضمان فيه، أو إن الفعل مما يتعذر الاحتراز منه وما لا يمكن الاحتراز منه لا خطأ فيه بشرط أن يكون أصله مباحًا. ويشيع عندهم استعمال لفظ “التعدي” للدلالة على الخطأ؛ فما لا يصدق عليه هذا الوصف لا ضمان فيه. والتعدي هو مخالفة الواجب، وهو جوهر الخطأ فعلاً. لوام كان الواجب يفرض على كل من يقدم على مباشرة سلوك خطر أن يتدبر فيه ويتبصر عواقبه، وأن يتخذ من التدابير ما يعقمه ويكف عن الآخرين أذاه، أو أن يصدَ نفسه عن إتيانه إن عزَ عليه ذلك، فإنه إذا تحلل الفاعل من هذا الواجب وأتى السلوك بخفة وعدم احتياط، فإن الخطأ يكون قائمًا في جانبه. أما الفرق بين الخطأ والعمد فينحصر في أمرين:

أحدهما عدم اتجاه إرادة المخطئ إلى النتيجة المحظورة، والثاني تخليه عن واجب التدبر والتبصر أو قعوده عن اتخاذ ما كان يلزمه اتخاذه من وسائل التحوط لتجريد سلوكه من أثره الضار أو الخطر.

ونخلص من ذلك إلى أنه لا يكفي لإلزام العاقلة بالدية أن يكون من ينتمي إليها قد تسبب بفعله في قتل المجني عليه أو جرحه، فقد لا يكون ذلك مقترنًا بخطأ من جانبه، بل يجب كذلك أن يثبت وقوع الخطأ منه، إما نتيجة لتخليه عن واجب التدبر والتبصر، أو عن واجب الحفظ والتحوط، وإلا فلا ضمان على عاقلته.

(20) دية شبه العمد:

يتحقق شبه العمد لدى جمهور فقهاء الشريعة حين يتعمد الفاعل الفعل دون النتيجة التي حدثت، أو حين يقصد نتيجة معينة فتقع أخرى أشد جسامة. والرأي متفق على أنه لا قصاص في شبه العمد، وإنما الواجب فيه الدية، ثم الخلاف فيمن يحملها، والرأي متردد بين أن تحملها العاقلة وهو ما يقول به الأكثرون، أو يحملها الجاني في ماله، وهو رأي الأقلين.

ولا ينفرد الفقه الشرعي بفكرة شبه العمد، إذ أن لها نظيرًا في القانون الوضعي يطلق عليها بعض فقهائه مصطلح الجريمة ذات النتيجة التي تجاوزت قصد الجاني، ويسميها آخرون من باب الإيجاز الجريمة المتعدية القصد. ومن تطبيقاتها في قانون العقوبات المصري الضرب المفضي إلى الموت (م236) والضرب المفضي إلى عاهة (م240)؛ ففي هاتين الجريمتين لم يرد الجاني غير المساس بجسم المجني عليه، لكن فعله تمخض عن نتيجة أخرى، هي الموت في الحالة الأولى، والعاهة في الحالة الثانية، وقد حمله القانون تبعة الموت والعاهة، فجعل له عقوبة أشد من عقوبة الضرب البسيط. واختلف فقهاء القانون الوضعي في طبيعة هذه المسئولية مثلما اختلف فيها فقهاء الشريعة، بل كان اختلافهم فيها أشد؛ فمنهم من بني هذه المسئولية على أساس القصد الاحتمالي، ومنهم من رآها مسئولية وسطًا بين العمد والخطأ، ومنهم من عدها مزيجًا من العمد والخطأ، ومنهم من اعتبرها مسئولية عادية أساسها الخطأ بمفهومه العام، ومنهم من أقامها على أساس الخطأ المفترض، ومنهم – أخيرًا – من صرح بأنها صورة من صور المسئولية الموضوعية قائمة على مجرد ارتباط النتيجة بالفعل برباط السببية.

ولما كان الراجح في الفقه الشرعي هو إعطاء شبه العمد حكم الخطأ من حيث من يحمل الدية، وكان هذا الرأي أرفق بالجاني وبالمجني عليه، إذ يلزم العاقلة بالدية، فإننا نراه أولى بالاتباع عند تقنين أحكام العقل.

غير أن ذلك لا يعني أن مجال شبه العمد سيكون مقصورًا على الحالات المحدودة التي نص عليها قانون العقوبات باعتبارها من تطبيقات الجريمة المتعدية القصد، بل ينبغي أن يتسع المجال لكل حالة يرتكب فيها الجاني فعلاً لا يقصد نتيجته فتقع هذه النتيجة، أو يقصد به نتيجة معينة فتقع نتيجة أخرى، سواء كان هذا الفعل معاقبًا عليه بنص صريح في القانون أو غير معاقب عليه. ولا محل للاعتراض هنا بمبدأ الشرعية لأن المراد ليس إنزال العقاب، بل مجرد الإلزام بالدية. ويترتب على ذلك أن من يضرب امرأة حاملاً وهو يجهل حملها، أو يعلَمْه ولكنه احتاط عند ضربها توقيًا لإجهاضها، ولكن الضرب مع ذلك أفضى إلى إجهاضها، فإن ما أتاه الجاني يكون موجبًا لدية الجنين، وتلتزم بها عاقلته، بالرغم من أن القانون المصري لا يعاقب الجاني في هذه الحالة على النتيجة التي أفضى إليها فعله، وهي الإجهاض.

(21) جناية الشخص على نفسه، هل تحمل العاقلة ديتها:

جناية الشخص على نفسه إما أن تكون على حياته أو على سلامة بدنه، وهي في الحالين قد تقع عمدًا أو على وجه الخطأ. والرأي المتفق في الفقه الشرعي على أن من قتل نفسه عمدًا أو جنى على طرفه عمدًا فلا دية له ولا شيء على عاقلته. أما من قتل نفسه أو جنى على طرفه خطأ أو شبه عمد فالجمهور على أنه لا دية له أيضًا، ومع ذلك فهناك من يرى إلزام عاقلته بدفع ديته إلى ورثته. وسند الجمهور في ذلك أن عامر بن الأكوع بارز مرحبا يوم خيبر فرجع سيفه على نفسه فمات، فلم يقض فيه رسول الله ﷺ بدية ولا بغيرها. وأضافوا كذلك أن وجوب الدية إنما كان مواساة للجاني وتخفيفًا عنه، وليس على الجاني ههنا شيء يحتاج إلى الإعانة والمواساة، فلا وجه لإيجابه. وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال عند تقنين أحكام العقل، فلا ينبغي تحميل العاقلة بشيء، سواء كانت وفاة الشخص أو إصابته عمدية من جانبه أو خطئية. ولا يختلف الأمر ولو حدثت الوفاة أو الإصابة في أثناء عمل الشخص لحساب غيره وبسببه. ولا محل للظن بأن في هذا الرأي ظلمًا وقسوة، لأن قوانين التأمينات الاجتماعية المعمول بها تواجه هذه الحالات وأمثالها بحلول تُراعى فيها مقتضيات العدالة.

(22) ما تحمله العاقلة:

القاعدة أن العاقلة لا تحمل غير الدية. وينبني على ذلك انه لا شأن لها بسائر الأعباء أو الآثار المالية التي يقضى بها على الجاني بسبب جريمته، ولو بلغت من الجسامة حدا يستغرق كل ثروته، إلا أن تعينه العاقلة عن طيب نفس كما يقول الفقهاء. ومما يحمله الجاني وحده ولا شأن للعاقلة به ما قد تقضى به المحكمة عليه من غرامة بسبب القتل أو الجرح الخطأ، وهو ما تسمح به النصوص المعمول بها حاليًا في التشريع المصري وفي عامة التشريعات العربية المعاصرة. فهذه الغرامة عقوبة، والأصل في العقوبات أنها شخصية فلا يتحملها غير من قضى عليه بها. وإذا كان النص القرآني قد أوجب الدية في القتل الخطأ، وكانت السنة قد أوجبتها كذلك في الجرح الخطأ، وكان جمهور الفقهاء لم يتحدثوا عن جزاء آخر – غير الدية – للقتل والجرح الخطأ، فذلك لا يعني بالضرورة اعتبار الدية هي كل الواجب فيهما شرعًا، بل يصح لولي الأمر فضلاً عن ذلك أن يعزر الجاني بالغرامة أو بالحبس أو بهما معًا إذا قدر أن المصلحة تقتضي ذلك. وإذا نص ولي الأمر بجانب الدية على غرامة وقضت بها المحكمة على الجاني فإنه يحملها وحده ولا شأن للعاقلة بها.

كذلك فإن العاقلة لا تحمل ما يقضى به على الجاني من رد مصاريف، وما يلزم به من تعويض عما يكون قد أتلفه من مال المجني عليه. فإذا صدم الجاني بسيارته – نتيجة لرعونته – شخصًا يركب دابة أو يحمل متاعًا فقتل الراكب وقتل كذلك دابته أو أتلف متاعه، فإن العاقلة إن حملت عنه دية القتيل فإنها لا تحمل عنه ما يقضى به لورثة المجني عليه من تعويض عن هلاك الدابة أو تلف المتاع، وإنما يلتزم به الجاني وحده.

والخلاصة أن التزام العاقلة ينحصر في الدية وحدها دون ما عداها من الآثار المالية الناجمة عن خطأ الجاني، وإنما يتحمل هو هذه الآثار في ماله سواء كانت من قبيل العقوبة أو التعويض أو من أي قبيل آخر، وسواء كان موسرًا أو معسرًا.

(23) طبيعة الدية شرعًا:

تتردد الدية في النظر الفقهي بين أن تكون عقوبة أو تعويضًا؛ فمن الفقهاء من يذهب إلى أنها عقوبة مقررة للقتل الخطأ والجرح الخطأ. وربما عزز رأيهم هذا أنها مقدرة شرعًا، فهي ثابتة باطراد لا يختلف مقدارها باختلاف المجني عليهم، وإنما الكل فيها سواء، الصغير كالكبير، والعليل كالسليم، والعاقل كالمجنون، والواحد من العامة كأي فرد من الخاصة أو الصفوة. ويرى آخرون أن الدية تعويض يستحق للمجني عليها أو لأوليائه جبرًا للضرر الذي لحقهم من جراء ما ارتكبه الجاني. ولا ينال من ذلك في رأيهم كون الدية مقدرة سلفًا من قبل الشارع وعلى وجه يتسم بالثبات والاطراد؛ فهذا التقدير لا يحيلها بالضرورة عقوبة ولا ينفي عنها طبيعتها التعويضية. ومن الفقهاء من يرى الدية ذات طبيعة مختلطة؛ فهي مزيج من العقوبة والتعويض معًا.

وقد دعانا إلى البحث في طبيعة الدية أن القوانين الوضعية النافذة في أغلب الدول الإسلامية المعاصرة، وإن كانت لا تخص الدية بالذكر في نصوصها، إلا أنها تجيز الحكم بالتعويض لكل من أصابته الجريمة بضرر، أيًا كان نوع الجريمة وأيًا كانت صورة ركنها المعنوي. وقد أطرد العمل نتيجة لذلك على القضاء بالتعويض للمجني عليه أو ورثته في أحوال القتل الخطأ والجرح الخطأ. فهل يصح شرعًا – عند تقنين أحكام العقل – الاكتفاء بالتنظيم القانوني القائم، واعتبار ما يقضى به للمضرور في هذه الأحوال هو الدية التي تحملها العاقلة، أو يقال إن التعويض المنصوص عليه في تلك القوانين وإن اتفق مع الدية في صفة المالية إلا أنه لا يحل محلها ولا يغني عنها لاختلاف طبيعته عن طبيعتها؟ وهذا يقتضي – قبل تقنين أحكام العقل – حسم الخلاف في طبيعة الدية باعتباره أمرًا لازمًا لتحديد مدى ما يستحقه المجني عليه أو أولياء دمه من جهة وما تلتزم به العاقلة من جهة أخرى.

والصحيح لدينا أن الدية والتعويض من قبيل واحد، وأن العلاقة بينهما هي علاقة نوع بجنس، أو خاص بعام. فالدية صورة من صور التعويض مقررة لنوع معين من الجرائم، وهي تؤول إلى المضرور أو ورثته لا إلى خزانة الدولة، وتنفرد من حيث التحمل بها بأحكام خاصة تختلف عما عداها من صور التعويض(28). ولهذا فلا بأس في رأينا من تقنين أحكام العقل دون حاجة إلى استحداث نصوص خاصة بشأن الدية اكتفاء بأحكام التعويض القائمة.

(24) مقدار الدية التي يصح تحميل العاقلة بها:

يذهب جمهور الفقهاء إلى أنه إذا تحقق موجب الدية فإن مقدارها يتحدد بوجه عام على نحو ثابت لا يختلف باختلاف المجني عليهم، ولا باختلاف صورة الركن المعنوي للجريمة التي أوجبت الدية. وكانت الدية على عهد الرسول ﷺ مائة من الإبل، فلما ولى عمر جعلها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق أثنى عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألف شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. أما دية الجراح فتقدر بنسبة معينة من الدية الكاملة، وتختلف هذه النسبة تبعًا لنوع الجرح ومحله ومداه.

ولا خلاف في أنه إذا تراضى ذوو الشأن على دية محددة تزيد أو تقل عما هو مقدر شرعًا فذلك شأنهم، واتفاقهم يلزمهم، لأن مستحق الدية يملك التنازل عنها كلها، فلا بأس إن كان التنازل عن بعضها، ولأن الملتزم بها يستطيع أن يعطي مستحقها فوق ما يلزمه، والزيادة فيها مكرمة يثاب عليها. ولا فرق في حال التراضي بين أن تكون الجريمة قد وقعت عمدًا أو نتيجة خطأ.

وإنما الخلاف فيما إذا ادعى من وجبت له الدية أنها – في حدود المقدرة آنفًا – لا تكفي لجبر الضرر الذي أحدثته الجريمة، وطلب الزيادة فيها بما يجعلها جابرة لهذا الضرر، أو إذا ادعى من وجب عليه أرش الجرح أن الضرر الناجم عنه لا يستأهل ما يراد إلزامه به، فهل يلتزم القاضي في الحالين بالوقوف عند الحد المتعارف عليه شرعًا ولو تبين له صحة ما ادعاه هذا أو ذاك، أو يصح له أن يزيد في مقدار الدية في الحالة الأولى، وأن ينقص من قيمة الأرش في الثانية؟

يقول الشيخ محمد عبده في تفسير المنار إن القرآن أطلق الدية – في آية النساء – وذكرها نكرة، فظاهر ذلك أنه يجزئ منها ما يُرضى أهل المقتول، وهم ورثته، وقال: إن السنة بينت ذلك وحددته على الوجه الذي كان معروفًا مقبولاً عند العرب. ثم عرض للمعاهد والذمي فقال: إن الواجب في قتلهما كالواجب في قتل المؤمن، وإن القرآن نكّر الدية هنا كما نكرها هناك، وظاهره أنه يجزئ كل ما يحصل به التراضي، وأن للعرف العام والخاص حكمه في ذلك، ولا سيما إذا ذكر في عقد الميثاق أن من قتل تكون ديته كذا وكذا، فإن هذا النص اجدر بالتراضي وأقطع لعرق النـزاع. وبيّن الإمام ما طرأ في عهد عمر بن الخطاب من تعديل في مقدار الدية من جهة، وفي دية غير المسلم من جهة أخرى، ثم عقب بقوله: إن ما كان على عهد النبي لم يكن حتمًا، وإن الصحابة علموا أن الأمر في الدية اجتهادي، ومداره على التراضي كما هو ظاهر الآية. وختم كلامه قائلاً: وجملة القول أن الروايات القولية والعملية مختلفة متعارضة، ولذلك اختلف فيها الفقهاء، وظاهر الآية أن أمر الدية منوط بالعرف وبالتراضي، والأقرب أن اختلاف السلف في العمل كان لأجل هذا(29).

وفهم الشيخ محمود شلتوت عن الإمام محمد عبده ما أراد، فعزا إليه أنه يرى أن الأصل في الدية عدم التقدير، وأنها في مقابلة حق الورثة في فقيدهم، ولعله لاختلاف الحقوق وتفاوتها يرى أن تكون الدية على حسب تفاوت حقوق وانتفاع الورثة بالمجني عليه. ثم يفصح هو عن رأيه فيقول صراحة: “أما نظرية اتحاد الدية بالنسبة إلى جميع الناس فهي مبنية على أن الدية في مقابلة الدم فقط، والناس في نظر الشريعة من هذه الحيثية سواء، وهذا لا يمنع الحاكم (يقصد القاضي) من أن يقدر الأضرار التي تصيب الورثة بموت مورثهم، فيحكم بالنظر إليها بما يعوض عليهم ما فاتهم من الانتفاع به”(30).

وعلى هذا النحو ينتهي هذان الفقيهان إلى أن الدية بمفهومها الشرعي تطابق التعويض بمفهومه الوضعي طبيعة وقدرًا؛ فكلاهما مقابل الضرر وجابر له، وكلاهما يقدر بما يكفي لجبر الضرر بغير بخس ولا زيادة. كل ما هنالك أن الدية تقتصر على التعويض الناشئ عن القتل والجرح من جهة، والمستحق من جهة أخرى للمجني عليه أو أوليائه دون غيرهم ممن قد ينالهم ضرر القتل أو الجرح. وينبني على ذلك أنه يجوز للقاضي – في رأينا – إذا اختلف مستحق الدية مع العاقلة حول مقدارها أن يطرحا النزاع على القاضي، وله بعد تحقيق الدعوى أن يقضي بما يراه مناسبًا لجبر الضرر، سواء كان ما يقضي به مساويًا لما هو مدون في كتب الفقه، أو أكثر منه أو أقل.

وإذا كان ما رجحناه هو حاصل رأي الفقيهين الكبيرين، وكان ذلك حسبنا لما لهما من مكانة لا يختلف عليها أهل العلم، فإننا لا نرى مع ذلك بأسًا من تفصيل بعض ما أجملاه لزيادة الإيضاح. فقد كانت الركيزة التي بني عليها الإمام محمد عبده رأيه أن الدية وردت في القرآن منكرة، ثم جاءت السنة فبينت مقدارها على الوجه الذي كان معروفًا ومقبولاً لدى العرب قبيل الإسلام. فالتقدير إذن لم يثبت بالتوقيف، بل كان سنده العرف. ولو كان عرف العرب على غير ما وجده النبي ﷺ لأمضاه. ومادام العرف هو المحكم فينبغي أن يكون المدار عليه حتى لا يحمل قوم على عرف غيرهم، أو يحمل نفس القوم على الاستمساك إلى الأبد بعرف أسلافهم. ذلك أن العرف ليس من سماته الخلود ولا العموم، وإنما هو قابل للتغير، ثم هو يختلف من جماعة إلى جماعة. ولما كانت قوة العرف مستمدة من القبول العام أو الرضا به، فليس من حسن السياسة حمل قوم على عرف غيرهم، ولا الحجر على قوم للثبات على عرفهم، وإنما حسن السياسة يقتضي أخذ كل قوم بعرفهم(31). ومن هنا كان قبول المسلمين في صدر الإسلام للدية بمقاديرها التي ألفوها، وكان تجاوب عمر بن الخطاب مع ما استجد من أوضاع في بعض الأمصار، وذلك بجعله أصناف الدية – أو بدائل الإبل – بحيث تناسب أهل كل مصر. ومن هنا أيضًا كان ما نلمسه من قلق وتململ لدى المعاصرين خشية إلزامهم بمقادير الدية التي كانت سائدة في عصور سابقة، إذ يراها الكثيرون غير مناسبة لأعرافهم. وليس مما تقر به عين الشريعة أن تكون الدية – في نظر المعاصرين – دون حد الكفاية حينا وفوق هذا الحد حينًا آخر، وإنما تقر عينها حين تكون الدية في تقدير الناس جابرة للضرر، لأن هذا وحده هو سبيل العدل(32).

وينبني على ما تقدم أن العاقلة تحمل دية الخطأ التي تجب بفعل الجاني، سواء كانت دية كاملة أو كانت بعض الدية، أي أرشا. وليس من اللازم أن تكون بالقدر المبين في مدونات الفقه، فقد تزيد عنه أو تنقص تبعًا لما يراه القاضي جابرًا للضرر. غير أنها لا تلزم إلا بالتعويض المستحق للمجني عليه أو أوليائه نتيجة للقتل أو للجرح، أما ما يستحق لغيرهم ولو بسبب القتل أو الجرح، أو ما يستحق للمجني عليه أو أوليائه بسبب آخر فلا شأن للعاقلة به.

(25) حدود ما تحمله العاقلة من الدية:

اختلف الفقهاء في مدى ما تحمله العاقلة؛ فمنهم من يرى إلزامها بكل دية وجبت، قَّلت أو كثرت، وأكثرهم على أنها لا تحمل ما دون الثلث، وإنما يحمله الجاني في ماله، فأما إن زادت على الثلث فإنها بأكملها تكون على العاقلة. وربما كان الرأي الأول – وهو قول الشافعي في الجديد – أرفق بالجاني وبالمجني عليه، إلا أنه يخشى أن يؤدي الأخذ به إلى تفريط الجاني وقعوده عن القيام بواجب التدبر والحيطة، اعتمادًا على أن غيره يحمل عنه تبعة خطئه. ولهذا فنحن نرى – توفيقًا بين الاعتبارين – أن تحمل العاقلة من حيث المبدأ كل ما يقضى به من دية، فإذا تبين أن خطأ الجاني جسيم أو تكرر خطؤه، فإنه يحمل الثلث في ماله، سواء كان هذا الثلث هو كل الواجب أو كان الواجب أكثر منه، وللعاقلة أن ترجع عليه بما دفعته في هذه الحدود.

(26) مدى التزام العاقلة بصلح الجاني واعترافه:

اتفق جمهور الفقهاء على أن العاقلة لا تحمل صلحًا ولا اعترافًا، ويعللون ذلك بأن العاقلة إن كانت ملزمة بعقل خطأ الجاني، فذلك مشروط بأن يثبت خطؤه بما ينفي عنه التهمة أو الظنة. وهو متهم بمواطأة من يتصالح معه أو يقر له لكي يمكنه من اغتيال مال العاقلة، وربما كان متفقًا معه على مقاسمته إياه. غير أن هذا الحكم إن ضمن الحفاظ على مال العاقلة فإنه يخل بحقوق أخرى قد تكون أولى بالرعاية؛ فهو من جهة يرهق المجني عليه أو أولياءه، إذ يلجئهم إلى سلوك سبيل القضاء، ويجشمهم عناء إثبات دعواهم للحصول على حكم بالدية المستحقة لهم، وهو من جهة أخرى – ولعلها الأهم – فيه معنى حث الجاني على تضليل العدالة بحمله على الإنكار وعدم الاعتراف بالحقيقة، وقد لا يكون ثم دليل آخر، أو هو ينطوي – في الأقل – على تعطيل الفصل في الدعوى بافتراض وجود أدلة ثبوت أخرى. وقد راعى الفقهاء ذلك، فاستثنوا من القاعدة السابقة الحالة التي تصادق فيها العاقلة على إقرار الجاني، إذ اعتبروها بهذه المصادقة قد ألزمت نفسها بنفسها.

ويمكن القول بوجه علم بأن للعاقلة أن تجيز صلح الجاني، أو تتصالح هي مع المجني عليه أو أوليائه، ولها إذا تبينت من ظروف الدعوى خطأ الجاني أو اطمأنت إلى صدق إقراره أن تأذن له بالاعتراف أمام القضاء إن شاء. وفي هذه الأحوال جميعًا تلتزم العاقلة بما يتم التصالح عليه، كما تلتزم بما يقضى به بناء على اعتراف الجاني. وفيما عدا ذلك تبقى القاعدة على إطلاقها، فلا تلتزم العاقلة بما ينفرد به الجاني من صلح يبرمه أو اعتراف يدلي به، وإنما يلتزم هو بذلك في ماله الخاص.

(27) هل يحمل الجاني مع العاقلة:

المسألة خلافية في الفقه الشرعي؛ فالشافعية والمالكية والحنابلة لا يوجبون على الجاني شيئًا من الدية، بل يجعلونها بأكملها على العاقلة، بدعوى أن الخطأ مرفوع، وأن مقتضى رفعه ألا يحمل الجاني شيئًا من آثاره. أما الأحناف فيرون أن يحمل الجاني مع العاقلة كواحد منها، لأن التخفيف عنه لعذر الخطأ إنما يتحقق في الكل لا في الجزء، وأنه لو جاز أن يكون عذره رغم خطئه مبررًا لإقالته كلية من الحمل، لكانت العاقلة أولى منه بالإقالة، لأن عذرها أظهر، إذ هي لم تخطئ أصلا. ورأى الأحناف في تقديرنا أرجح، لأن الرأي الآخر لا يكتفي باعتبار من أخطأ معذورًا، بل هو في الواقع يثيبه على خطئه، إذ يجعله بسبب هذا الخطأ في وضع أفضل من سائر أفراد عاقلته. ولو أن هذا الخطأ لم يقع منه هو، بل وقع من أحدهم لساء وضعه، إذ يحمل عندئذ كما يحمل الآخرون، مما يعني أنه استفاد بالفعل من خطئه. ويبدو لنا فضلاً عن ذلك أن الرأي المخالف لا يخلو من تناقض؛ فالقائلون به يجيزون تحميل الجاني بالدية إذا كانت في حدود الثلث ولا يوجبون على العاقلة منها شيئًا. ولا يعترض بأن هذا الحكم ثابت بالنص، لأن إقالة الجاني من الحمل مع العاقلة غير ثابتة بصريح النص، ولأنه إذا جاز تحميل المخطئ بالكثير، فتحميله بالقليل أولى وأوجب.

وعلى أي حال فإن التنظيم الذي نقترحه للعاقلة يفترض إسهام كل فرد من أفرادها فيما يجب عليها من ديات، دون نظر إلى شخص من تسبب بخطئه في وجوب هذه الدية. وسوف نعرض لتفصيل هذا التنظيم بعد قليل.

(28) من تحمل عنهم العاقلة:

تحمل العاقلة – طبقًا للتنظيم الذي نقترحه – دية ما يقع من أفرادها، وكذلك ما يقع ممن يعولهم هؤلاء الأفراد شرعًا، أو ممن يسألون عنهم قانونًا. ولما كنا قد رشحنا المهنة أو العمل مناطًا للعقل، فجعلنا العاقلة هي مجموع الأفراد الذين يزاولون مهنة واحدة، أو الذين يعملون معًا في جهة واحدة، فإنه يكفي لانتماء أي شخص إلى العاقلة أن يتوافر فيه هذا المناط، بغض النظر عن دينه أو جنسه أو جنسيته. وعلى ذلك فالعاقلة – طبقًا لما نقترحه – تحمل عن غير المسلم. وعن المرأة وعن الأجنبي المأذون له بالعمل في بلدنا، لأن هؤلاء جميعًا من أفراد العاقلة، يحملون معها فتحمل عنهم. كذلك فإن العاقلة تحمل عن أفرادها، سواء كان من وقع منه الخطأ معلومًا أو مجهولاً.

(29) العقل عن غير المسلم:

يفرق الفقهاء بين الجاني المسلم وغير المسلم؛ فغير المسلم تجب عليه الدية في ماله، ولا يعقل عنه سواه، وقيل تعقل عنه عصبته من أهل دينه، وقيل يعقل عنه أهل الديانات الأخرى. لكن الرأي متفق على أنه لا تعاقل بين مسلم وغير مسلم، وأن بيت المال – بدوره – لا يعقل عن غير المسلمين.

هذه خلاصة رأي السلف في عقل غير المسلمين. ولا بأس من إعادة القول بأن العقل وإن يكن مبدأ إسلاميًا، فإن أحكامه التفصيلية من المجتهدات. وقد راعى الفقهاء في تقرير هذه الأحكام أمرين: أحدهما أن تكون محققة لجملة من المصالح المعتبرة، والآخر أن تكون موافقة لأصول الشرع لا تعارض معها. وعلى هذا الأساس فنحن ننظر إلى ما انتهى إليه السلف في هذا الشأن باعتباره اجتهادًا محكومًا بعوامل الزمان والمكان وبمجمل النظم التي كانت تحدد حقوق أفراد المجتمع وطبيعة العلاقات القائمة بينهم وبين الدولة من جهة، وبينهم هم أنفسهم كأفراد من جهة أخرى.

وقد جرت في نهر الحياة منذ العصور التي أثمرت هذه الاجتهادات مياه كثيرة، فتبدلت أوضاع واستجدت أوضاع تغير معها وجه الحياة. فلم يعد ثمة اليوم ذميون، بل أضحى أبناء البلد الواحد مواطنين لهم بنص الدستور نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات(33). ولم يعد الدين سببًا للتميز بين مواطن ومواطن، وإن ظل الدين مع ذلك حاكمًا لبعض شئون الأفراد ذات الصلة الوثيقة بعقيدتهم. ومن هنا لم يعد للتفرقة بين المسلم وغير المسلم في مجال العقل محل، لأن العقل ليس من الأحكام التعبدية المحضة، بل هو من الأحكام التي قصد بها تحقيق مصالح العباد، وهذه الأحكام – بالنظر إلى طبيعتها – تسرى على كل من توافرت فيه شروطها بغض النظر عن دينه.

ولا ينبغي الظن بأن أحكام أهل الذمة كما وردت في كتب الفقه هي من الثوابت الشرعية. وقد يكون من المناسب في هذا المقام أن نشير إلى نظام كان ينفرد به أهل الذمة، ونعني به الجزية، وهي على خلاف العقل محل إجماع لثبوت حكمها بنصوص قطعية الثبوت والدلالة. وقد كانت الجزية – كما هو معلوم – تفرض على أهل البلاد المفتوحة إذا رفضوا الدخول في الإسلام وآثروا البقاء على دينهم. ولم يكن فرض الجزية عليهم عقابًا لهم لرفضهم الدخول في الإسلام، بل كان مقابلاً لإعفائهم من واجب الدفاع عن البلاد. وكان هذا منطقيًا؛ فلم يكن من الإنصاف – من جهة – حملهم على القتال دفاعًا عن دين لا يؤمنون به، فضلاً عن أن القتال قد يكون ضد أهل دينهم. ولم يكن من سداد الرأي – من جهة أخرى – الاعتماد في القتال على قوم فتحت بلادهم عنوة ولما يدخلوا في دين الفاتحين. غير أنه لما كان الدفاع عن الدولة واجبًا يتحمل به كل من يقيم على أرضها، فقد كان السبيل إلى التوفيق بين الاعتبارات المتعارضة هو أن يوضع الجهاد عن الذميين وأن يدفع القادر منهم على القتال في مقابل ذلك مبلغًا من المال يستعان به في تدبير نفقات الجهاد. ولهذا السبب، وعلى الرغم من قطعية النصوص التي توجب على الذميين أداء الجزية، فقد كانت توضع عمن يشترك منهم في القتال مع المسلمين. وكان هذا فهمًا سليمًا لعلة النص، وإدارة لحكمه مع علته. ولم يكن هذا اجتهادًا فقهيًا محضًا، بل كان كذلك سلوكًا عمليًا في زمن مبكر، هو زمن الخلافة الراشدة.

ذكر الطبري في تاريخه أن سويد ابن مقرن أحد قادة عمر بن الخطاب في بلاد فارس كتب إلى ملك جرجان كتابًا هذا نصه: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من سويد ابن مقرن لرزبان حول بن رزبان وأهل دستان وسائر أهل جرجان: إن لكن الذمة وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حاله. ومن استعنّا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضًا عن جزائه (أي جزيته)، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغير شيئًا من ذلك”(34). وكتب عقبة بن فرقد، عامل عمر عبد الخطاب كتابًا مماثلاُ لأهل أذربيجان هذا نصه: “هذا ما أعطى عقبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان، سهلها وجبلها وحواشيها وشغارها وأهل مللها كلهم، الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ومن حشر منهم (أي شارك في القتال) في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك”(35).

وقد عرضنا لهذا الموضوع لسببين: الأول لكي نثبت أن أحكام أهل الذمة – حتى ما وردت بها نصوص قطعية – هي أحكام معللة، فإذا انتفت العلة لم يثبت الحكم. وهذا ما رأيناه بالنسبة للجزية، وهو ما ينبغي أن يكون أيضًا بالنسبة للعقل. أما السبب الثاني فمترتب على الأول؛ ذلك أن عمر بن الخطاب – كما مرَ بنا – جعل الديوان عاقلة، وألزم جند كل ديوان بالعقل عن بعضهم، لكونهم يتناصرون فيما بينهم. ولما كان الفقه، وكذلك التاريخ، قد أجازا اشتراك أهل الذمة في القتال مع المسلمين بدءًا من عهد عمر نفسه، فلا مناص من اعتبار من يشترك منهم في القتال واحدًا من أهل الديوان يعقل عن غيره ويعقل عنه غيره. وإذن فلم يكن الدين في ذاته حائلاً دون أن يعقل الذمي عن المسلم ولا أن يعقل المسلم عنه مادام كل منهما يستنصر بصاحبه، وإنما كان حكم الفقهاء بحظر التعاقل بينهما مرده إلى اعتقاد خاطئ بامتناع التناصر بينهما شرعًا، وهو اعتقاد يحمل التاريخ في بعض مراحله – وليس صحيح الشرع – تبعته.

وإذا كنا قد رشحنا المهنة أو جهة العمل مناطًا للعقل، وكنا جميعًا في هذا الوطن – مسلمين وغير مسلمين – متساوين في الحقوق الواجبات، وكانت المهنة الواحدة أو جهة العمل الواحدة تتسع لكل من توافرت فيه شروط مزاولة المهنة أو الالتحاق بالعمل أيًا كان دينه أو ملته، ولما كان التناصر بين أبناء المهنة الواحدة وكذلك بين العاملين في جهة واحدة حقيقة يؤكدها الواقع، فلا محل إذن للتردد في اعتبار العاقلة شاملة لكل هؤلاء بغير تمييز. وهذه النتيجة ليست أثرًا لتوافر مناط العقل فحسب – فهذا اعتبار نظري – ولكنها نتيجة تفرضها المصلحة العامة أيضًا. ذلك أن مواساة الجاني وإن كانت هي السبب الأساسي في تشريع العقل، فإن كفالة حق المجني عليه سبب آخر لتشريعه لا يقل عن الأول في أهميته. ولا شك في أن توسيع نطاق العاقلة يكفل حق المجني عليه على نحو أفضل، لأن العاقلة أكثر ملاءة من الجاني في عامة الأحوال. ولو جاز استبعاد غير المسلمين من التعاقل مع المسلمين، فقد يؤدى ذلك إلى إهدار دم المجني عليه إذا كان الجاني غير المسلم معسرًا. ولهذا فإن التقنين المقترح للعقل يجب أن يقرر المساواة في الحكم بين المسلم وغير المسلم(36).

(30) العقل عن الأجنبي:

الأجنبي الذي يوجد في الدولة إما أن يكون قد دخل إليها بطريق مشروع أو غير مشروع. وإذا كان دخوله بطريق مشروع فهو إما أن يكون مأذونًا له بالعمل أو غير مأذون. وإذا ارتكب الأجنبي في أي من هذه الأحوال ما يوجب الدية، فالأصل أن تجب عليه الدية في ماله ما لم تكن له عاقلة تحمل عنه الدية. فإن لم تكن له عاقلة – بأن كان دخوله بطريق غير مشروع أو كان غير مأذون له بالعمل – ولم يتمكن المجني عليه أو أولياؤه من مقاضاته أو من استيفاء الدية منه، سواء لمغادرته البلاد أو لإعساره أو لأي سبب آخر، فإن الدية تجب على الدولة صيانة للدم أن يهدر من جهة، ولأنها المسئولة من جهة أخرى عن السماح للأجنبي بالدخول وبالعمل إن كان دخوله بإذن، وعن تمكينه بنوع بتقصير منها من دخول البلاد إن كان دخوله بطريق غير مشروع، أو من مغادرة البلاد قبل صدور الحكم أو قبل أداء الدية المحكوم بها. وإنما ينتفي الوجوب عن الدولة – كما ذكرنا – إذا كانت للأجنبي عاقلة، كأنه يكون مأذونًا له بالعمل، سواء في سفارة بلده أو في جهة غيرها، فإنه يكون محسوبًا على العاقلة التي يعمل لحسابها، أو منتميًا إلى العاقلة التي تضم من يزاولون مهنته أو التي تضم العاملين في نفس الجهة التي أذن بالعمل فيها.

(31) العقل عند جهالة الجاني:

الأصل أنه لكي تتحمل العاقلة بالدية فإنه يلزم أن يكون الجاني معلومًا وأن يثبت انتماؤه إلى هذه العاقلة. فإن تعذر ذلك وجبت الدية على الدولة حتى لا يذهب دم المجني عليه هدرًا. غير أن جهالة الجاني لا يلزم منها بالضرورة تحميل الدولة في كل حال بالدية. بل يصح في بعض الأحوال، وبالرغم من جهالة شخص الجاني تحميل عاقلة معينة بالدية. ويقع ذلك حين يثبت بالدليل القاطع أن الجريمة وقعت – ولابد – من أحد المنتمين لهذه العاقلة، كأن تكون قد وقعت في وقت أو في مكان لا يتواجد فيه غير أفراد العاقلة، أو تكون قد ارتكبت بوسيلة لا تتاح لغير أفراد العاقلة. ومتى ثبت من ملابسات الواقعة أن القتل أو الجرح ناشئ عن عدوان وقع من غير معين من أفراد عاقلة معينة، فإنه تحمل الدية، سواء كان ظاهر الحال يدل على أن العدوان قد وقع خطأ أو عن عمد. وللعاقلة في حال العمد وعند معرفة الجاني أن ترجع عليه بما دفعته.

وتجدر الإشارة إلى أن تحميل العاقلة عند جهالة الجاني لا ينافي أحكام الشرع، بل ينسجم مع أصوله، إذ يقترب من نظام القسامة. وإذا كان ما نراه لا يستقيم من كل الوجوه مع أحكام القسامة كما هي مفصلة في كتب الفقه، فحسبنا أن الغاية في الحالين واحدة، وهي الحرص على ألا يطل دم إنسان.

(32) صندوق العقل:

إذا قننت أحكام العقل وجب تقرير الشخصية المعنوية للعاقلة لتمكينها من القيام بدورها. وتيسيرًا على العاقلة من جهة، وعلى مستحقي الدية من جهة أخرى، فإنه يحسن – بدلاً من قيام العاقلة بجمع الدية من أفرادها في كل حالة على حدة بعد وقوع موجب العقل – أن تفرض على كل فرد من أفرادها رجلاً كان أو امرأة، مسلمًا أو غير مسلم، مواطنًا أو أجنبيًا، مبلغًا من المال يدفعه بصفة دورية ودون توقف على وقوع الجناية، على أن يراعي في تحديده أن يكون خفيف المئونة باعتباره نوعًا من التكافل والمواساة. ويحسن أن يكون مقدار هذا المبلغ غير موحد بالنسبة لجميع أفراد العاقلة، بل يكون متناسبًا مع دخولهم حتى تكون وطأته على الجميع واحدة. ويجب تمكين العاقلة من تحصيل هذا المبلغ من أعضائها رضاء أو قضاء، لأن التكافل وإن كان بحسب الأصل مندوبًا، فمن حق ولي الأمر أن يجعله واجبًا إذا اقتضت ذلك المصلحة. وتودع حصيلة ما تجمعه العاقلة في صندوق للوفاء بالتزامها قِبَل مستحقي الدية. ويضاف إلى هذا الصندوق المبالغ التي تؤول إلى العاقلة نتيجة رجوعها على الجهة المؤمن لديها إن كان الجاني قد أبرم معها عقد تأمين، أو على المسئول عن الحقوق المدنية بشرط ألا يكون من أفراد العاقلة. ولما كانت العاقلة تتكفل بسداد الدية في كل حال – رعاية لحق المجني عليه أو ذويه – فإنه يجوز لها الرجوع على الجاني في حدود الثلث الذي قد يلزمه، وكذلك في حال عمده إذا سقط القصاص ووجبت الدية. ويجوز لها الرجوع عليه أيضًا – بنسبة معينة – في الأحوال التي يكون خطؤه فيها جسيمًا، أو التي يتكرر فيها خطؤه، وذلك درءًا لإساءة استخدام البعض نظام العقل وحثًا لأفراد العاقلة على التزام الحرص في سلوكهم وعلى الروية والتبصر وضبط النفس. ويمكن أن يكون من موارد هذا الصندوق أيضًا المبالغ التي يتبرع بها القادرون من أفراد العاقلة أو من غيرهم باعتبارها صدقة للغارمين.

وللعاقلة بحسب مدة ملاءتها أن تؤدي الدية إلى مستحقيها دفعة واحدة أو تنجمها، أي تؤديها إليه على أقساط. بل إنه ليس هناك ما يمنع – باعتبار الدية تعويضًا – أن تكون إيرادًا مرتبًا لمدى الحياة إذا قبل مستحق الدية ذلك. ويتحدد مقدار الدية وكيفية أدائه إما رضاء، أي باتفاق بين العاقلة ومستحق الدية، أو قضاء عند اختلافهما.

ويحسن كذلك إلى جانب الصندوق الخاص بكل عاقلة أن يكون هناك صندوق عام تتكون موارده من التركات التي يتوفى أصحابها دون وارث وكذلك من الضوائع، ومن نسبة ضئيلة من صناديق العقل الخاصة يسهم بها كل صندوق، ثم تستكمل موارد الصندوق من الميزانية العامة للدولة، وذلك للوفاء بعقل الحالات التي يقع فيها الالتزام بالدية على عاتق الدولة، وهي التي لا يكون فيها للجاني عاقلة، أو التي يكون فيها الجاني مجهولاً.

(33) تعدد العواقل:

تتعدد العواقل في حالتين: الأولى عندما يكون الجاني منتميًا لأكثر من عاقلة، والأخرى عندما يتعدد الجناة ويكونون منتمين لأكثر من عاقلة. والفرض في الحالين أن الدية المستحقة واحدة.

ولم يكن من الممكن أن تقوم الحالة الأولى في ظل الفقه الشرعي التقليدي، إذ لم يكن من المتصور أن يكون للشخص الواحد غير عاقلة واحدة. وإذا تعددت عواقله فإنها لا تكون جميعًا في مرتبة واحدة، بل تكون إحداها أصلية وما سواها احتياطية. أما طبقًا لما نراه فإن تعدد العواقل مع اتحاد رتبتها محتمل، لأن مناط العقل هو وحدة العمل أو وحدة جهته، ومن الممكن أن يمارس الشخص الواحد أكثر من عمل، أو يمارس العمل الواحد في أكثر من جهة.

والقاعدة في الحالين واحدة، وهي أنه إذا تعددت العواقل وكانت الدية واحدة، فإن العواقل كلها تتساوى في حملها، بمعنى أن كل عاقلة تحمل بقدر ما يحمل غيرها. فإذا كان الجاني أستاذًا في كلية الطب وكانت له عيادة خاصة ثم وقع منه ما يوجب العقل، التزمت كل من عاقلة الجامعة وعاقلة نقابة الأطباء بنصف الدية. ولا عبرة في هذه الحالة بكون الجريمة قد وقعت منه أثناء أو بسبب عمله في الكلية أو في عيادته. بل إنه لا يلزم أصلاً أن تكون جريمته متعلقة بمهنته. ولهذا فالعاقلتان تلتزمان بعقل خطئه إذا كان يقضي إجازته في أحد المصايف وقاد سيارته هناك بطريقة خاطئة نتج عنها وفاة شخص أو إصابته. وإذا تعدد الجناة في قتل خطأ، كعقار أنهار على من فيه فمات البعض وأصيب آخرون، وثبت أن الانهيار كان نتيجة لخطأ المهندس الذي صمم المبنى والمقاول الذي تولى البناء، فإن عاقلة كل منهما تلتزم بنصف الدية. وإذا كان الانهيار نتيجة لخطأ ثلاثة أو أربعة واختلفت عواقلهم، حملت كل عاقلة ثلث الدية أو ربعها بحسب الحال.

(34) وأخيرًا فنحن لا ننكر أن كثيرًا من الأفكار التي طرحناها لم ترد في كتب الفقه التي بين أيدينا، ومع ذلك فقد سوغنا لأنفسنا طرح هذه الأفكار لتكون محلاً للمناقشة، ذلك أن مبدأ العقل هو – وحده – حكم الشرع، أما تنظيم العقل وتقنين أحكامه التفصيلية فيدخل في باب السياسة الشرعية، والمدار فيها على المصلحة بشرط عدم الإخلال بمقصد من مقاصد الشرع أو بأصل من أصوله. ولما كانت وسائل تحقيق المصلحة مما تتفاوت فيه الأنظار، فإن أحكام العقل يمكن أن تختلف باختلاف المجتمعات، كما يمكن أن تتغير في المجتمع الواحد بتغير الزمان وظروف الحال.

 

الهوامش

(1) جاء في بدائع الصنائع ما يلي: الوجوب على القاتل فيما تتحمله العاقلة قول عامة المشايخ، وقال بعضهم: كل الدية في هذا النوع تجب على الكل ابتداءً، القاتل والعاقلة جميعًا. والصحيح هو الأول لقوله تعالى: ﴿وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾، ومعناه: فليحرر وليؤد، وهذا خطاب للقاتل لا للعاقلة، دل على أن الوجوب على القاتل، ولما ذكرنا أن سبب الوجوب هو القتل وأنه وجد من القاتل لا من العاقلة فكان الوجوب عليه لا على العاقلة، وإنما العاقلة تتحمل دية واجبة عليه. بدائع الصنائع الناشر زكريا علي يوسف – القاهرة ج10 ص4666. ونضيف إلى ما ذكره صاحب البدائع أنه لما كان تحرير الرقبة كفارة وكان المتفق عليه أن الكفارة عبادة وأن الملتزم بها أصلاً هو من كان فعله سببًا في وجوبها فإن عطف تسليم الدية على تحرير الرقبة يقتضي أن يكون المخاطب بكلا الأمرين واحدًا وهو القاتل. جاء في المغني: الكفارة لا تجب على غير من وجد منه سببها كسائر الكفارات وكما لو كانت صومًا، ولأن الكفارة شرعت للتفكير عن الجاني ولا يكفر عنه غيره. المغني لابن قدامة ج10 ص498. ومقتضى ذلك أن الدية – كالكفارة – تجب ابتداء على الجاني إلا أنها تنتقل عنه من باب التخفيف إلى عاقلته.

(2) انظر في عرض هذا الرأي: الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ محمود شلتوت ص 335- 336 وص437. وانظر كذلك حاشية ابن عابدين ج6 ص645 و647. وممن ذهب من المحدثين هذا المذهب أيضًا رضوان شافعي المتعافى في كتابه الجنايات المتحدة حيث ذكر في ص209 ما يلي: وتسقط العاقلة في زماننا لعدم التناصر، وإنما العاقلة تكون حيث التناصر، وذلك خاص بالعرب الذين يحفظون أنسابهم، وعلى ذلك كانت تجب الدية أو التعويض في بيت المال إن كان موجودًا وكان منتظمًا، وإلا فالحكم بذلك التعويض في مال القاتل …. ولا يوجد الآن بين المال الشرعي، وإنما تشبهه وزارة المالية وليست عينه، وعلى ذلك يزول الظن بأن المالية هي بيت المال الوارد في كتب الشريعة. ونتيجة ذلك في رأيه استقلال القاتل بدفع التعويض للمدعى بالحق المدني في كل أنواع القتل شرعًا، وهو ما عليه العمل اليوم. وانظر من هذا الرأي أيضًا الدكتور وهبه الزحيلي – نظرية الضمان ص289 – 290.

(3) وقد حرص ابن خلدون على بيان هذا المعنى في مقدمته إذ يقول إن الاجتماع الإنساني ضروري، لأن الله خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء, وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله، إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، فلابد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم، فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف. وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضًا في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه؛ فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم المفترسة، فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة، فلابد من التعاون عليه بأبناء جنسه. وما لم يكن هذا التعاون فلا يصلح له قوت ولا غذاء ولا تتم حياته، ولا يحصل له أيضًا دفاع عن نفسه، فيكون فريسة للحيوانات ويعالجه الهلاك ويبطل نوع البشر. وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسلاح للمدافعة، وتمت حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه. لمزيد من التفصيل انظر مقدمة ابن خلدون طبعة دار الشعب ص39 – 40.

(4) لاحظ أن لفظ مسلمة جاء على البناء المجهور، فلم تحدد الآية من يلتزم بتسليم الدية إلى أهل المجني عليه لتفتح الباب لمختلف الاحتمالات.

(5) المغنى ج9 ص525 – 526.

(6) المغني لابن قدامة – ج9 ص517.

(7) الدية الكاملة مائة من الإبل أو عدلها من غيرها إن كان الجاني من غير أهل الإبل. وجمهور الفقهاء على أنه إن كان الجاني من أهل الشاة كانت الدية بالنسبة إليه ألف شاة، وإن كان من أهل البقر كانت مائتي بقرة، وإن كان من أهل الحلل كانت مائتي حلة، وإن كان من أهل الذهب كانت ألف دينار ذهبي، وإن كان من أهل الورق – أي الفضة – كانت عشرة آلاف درهم عند قوم أثنى عشر ألفا عند آخرين.

واختلف مقدار الدية في مشروعات القوانين التي أعدت في بعض الدول العربية تبعًا لاختلاف عملتها، فجعلت الدية في مشروع وزارة العدل المصرية ثلاثة عشر ألفا وأربعمائة وثلاثين جنيها مصريًا، أما المشروع الليبي فجعاها ألف دينار من الذهب، وجعل زنة الدينار أربعة جرامات وربعا، ونص على أن قيمة الدية تقدر بالعملة المحلية الجارية بحسب السعر الرسمي للذهب الصافي وقت ارتكاب الجريمة. وأخذ مشروع قانون القصاص والدية لدولة الإمارات العربية المتحدة هذا الحكم بنصه. أنا المشروع الكويتي فجعل الدية ثمانية آلاف دينار. وأما المشروع اليمني فقدرها بألف مثقال من الذهب الخالص، أي خمسمائة جنيه من الذهب أبو ولد أو ما يعادل ذلك من العملة الورقية بالسعر القائم وقت التنفيذ. أما القانون السوداني فقدر الدية بمائة من الإبل أو ما يعادل قيمتها من النقود وفق ما يقرره من حين لآخر رئيس القضاة بعد التشاور مع الجهات المختصة. وظاهر من كل ما تقدم ضخامة مقدار الدية.

(8) المغني ج9 ص520.

(9) كان العرب لفرط حرصهم على حفظ أنسابهم يجعلون العصبة طبقات ويطلقون على كل منها اسمًا، وكانوا يبدأون بالعشيرة ثم الفصيلة ثم الفخذ فالبطن فالعمارة فالقبيلة فالشعب. وكانت العشيرة تشمل الإخوة، والفصيلة تشمل أولاد العم، والفخذ يشمل أولاد أبي الجد، والبطن يضم أولاد الجد الرابع، والعمارة تضم أولاد الجد الثاني عشر، والقبيلة تضم أولاد الجد الثالث عشر، والشعب يضم أولاد الجد الرابع عشر. انظر حاشية الدسوقي ج4 ص283.

(10) وقد صرح ابن حزم بأنه إذا جهل العصبة أو تعذر أمرهم لافتراق الناس في البلاد وجبت الدية في بيت المال. المحلى ج11 ص59. ويرى عبد القادر عودة “ج2 ص199” أن العاقلة لا وجود لها الآن إلا في النادر وإذا وجدت فعدد أفرادها قليل لا تتحمل أن يفرض على أفرادها كل الدية، وأن العاقلة كان لها وجود عندما كان الناس يحتفظون بأنسابهم، أما الآن فيندر أن تجد شخصًا يعرف جده الثالث، وإذن فلا محيص من الأخذ بأحد الرأيين اللذين قال بهما الفقهاء من قبل، وهما: إما الرجوع على الجاني بكل الدية وإما الرجوع على بيت المال. ويرى أن الرجوع على الجاني يؤدى إلى إهدار دم المجني عليهم لأن أكثر المتهمين فقراء … والرجوع على بيت المال يرهق الخزانة العامة، ولكنه يحقق المساواة والعدالة ويحقق أغراض الشريعة. ويقترح على الحكومة تدبير أمرها بفرض ضريبة عامة يخصص دخلها لهذا النوع من التعويض وتستطيع كذلك أن تفرض ضريبة خاصة على المتقاضين لهذا الغرض.

(11) ولهذا فقد نص مشروع قانون القصاص والديات الذي أعدته اللجنة المختصة في ليبيا في السبعينات من القرن الماضي على أن العاقلة هم جميع العصبات بالنسبة إلى الجاني. ولعل اللجنة راعت في ذلك تماسك العصبات وحرص الناس هناك على المحافظة على أنسابهم واعتزاز كل منهم بالانتماء إلى قبيلته.

(12) حاشية ابن عابدين ج6 ص641.

(13) وقد أشار السرخسي إلى هذا المعنى بقوله: إن وجوب الدية على العاقلة هو بطريق الصلة، وإيجاب هذه الصلة فيما يصل إليهم بطريق الصلة – ويعني بذلك العطاء من الديوان – أولى من إيجابه في أصول أموالهم. المبسوط ج27 ص126.

(14) المبسوط ج26 ص66.

(15) الحليف: هو الرجل يحالف الآخر على أن يتناصرا على رفع الظلم ويتضافرا على من قصدهما أو قصد أحدهما، ومولى الموالاة هو الذي يوالي رجلاً يجعل له ولاءه ونصرته، والعديد هو الذي لا عشيرة له ينضم إلى عشيرة فيعد نفسه منهم.

(16) فتح القدير ج8 ص403.

(17) الأساكفة جمع إسكاف، وهو صانع الأحذية ومصلحها، والسراج صانع السروج وبائعها والسَرج رحل الدابة، أي ما يوضع على ظهرها للركوب.

(18) حاشية ابن عابدين ج6 ص646. ويلاحظ أن اتحاد المهنة أو الحرفة عند الأحناف لا يكفي بمجرده لإيجاب العقل، بل يشترط كذلك أن يكون بين أهل المهنة أو الحرفة تناصر واقع، وإلا فلا. وهذا ما تفصح عنه عبارة الحاشية، فقد جاء بها أن التناصر أصل في هذا الباب، ومعنى التناصر أنه إذا حزبه أمر قاموا معه في كفايته وتمامه فيه. وفي تنوير البصائر معزيًا للحافظية: والحق أن التناصر فيهم بالحرف، فهو عاقلته فليحفظ، وأقره القهستانى.لكن قرر شيخ مشايخنا الحانوتي أن التناصر منتف الآن لغلبة الحسد والبغض وتمنى كل واحد المكروه لصاحبه، فتنبه. المرجع السابق ص646 – 647.

(19) من هذا الرأي الشيخ مصطفى الزرقا حيث يقول: إن نظام العصبة يقوم على الرابطة القبلية، ولكننا لا نرى فيه الشريعة مانعًا – حيث لا توجد رابطة قبلية في المدن – من إحلال صورة حديثة مناسبة محلها اليوم، كرابطة الحرفة الواحدة والمهنة أو الوظيفة أو الرابطة النقابية، فالإسلام يتقبل مثل هذا البديل حيث تدعو المصلحة وتتحد العلة. نظام التأمين – حقيقته والرأي الشرعي فيه – بيروت 1984 ص114.

(20) انظر في ذلك الوسيط في شرح القانون المدني للسنهوري ج1 ص1044 حاشية رقم 1.

(21) من هذا الرأي مصطفى الزرقا – عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية – مجلة حضارة الإسلام بدمشق سنة 1961 ص33 – 45 وما بعدها أيضًا، والدكتور برهام عطا الله – التأمين وشريعة الإسلام مجلة إدارة قضايا الحكومة 6 سنة 1962 العدد الثالث ص78 وما بعدها. وانظر كذلك في الموضوع الوسيط للسنهوري ج7 المجلد الثاني ص1087 هامش 1، وغريب الجمال – التأمين التجاري والبديل الإسلامي 1979 ص186 وما بعدها.

(22) انظر في تقسيمات التأمين الوسيط للسنهوري – المرجع السابق – ص 1156 وما بعدها.

(23) الوسيط – المرجع السابق ص 1521.

(24) انظر في هذا المعنى: محمد الطاهر بن عاشور – مقاصد الشريعة الإسلامية 1978 ص146 وما بعدها.

(25) مصطفى الزرقا – نظام التأمين – المرجع السابق ص61.

(26) نقض 10/2/1974 مجموعة أحكام محكمة النقض س25 ص236 رقم 54.

(27) زاد المعاد في هدى خير العباد لابن القيم ج3 ص109 – 110. وانظر في تفصيل أحكام راكب الدابة وقائدها وسائقها والفروض المختلفة لما تحدثه الدابة من أضرار المبسوط وبدائع الصنائع في فقه الحنفية ومغنى المحتاج والمهذب في فقه الشافعية وبداية المجتهد وحاشية الدسوقي في فقه المالكية والمغني والشرح الكبير في فقه الحنابلة والمحلى في فقه الظاهرية.

(28) عكس ذلك الشيخ محمد أبو زهرة، فهو يرى أن الدية قصاص في المعنى دون الصورة، أما القصاص معنى وصورة فهو القود. العقوبة ص636. أما الأستاذ عبد القادر عودة فيرى الدية عقوبة أصلية للقتل والجرح في شبه العمد والخطأ وعقوبة بدلية للقصاص إذا امتنع القصاص أو سقط. التشريع الجنائي الإسلامي المرجع السابق ج1 ص668 وج2 ص 261. على أنه يضيف مع ذلك: وأفضل ما يقال أنها عقوبة وتعويض معا. ج1 ص669. ويميل الدكتور محمد سليم العوا إلى اعتبار الدية ذات طبيعة مزدوجة. انظر مؤلفة: في أصول النظام الجنائي الإسلامي الطبعة الخامسة ص359.

(29) تفسير المنار للشيخ محمد عبده ج5 ص332 – 336.

(30) الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ محمود شلتوت ص435 – 436.

(31) وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: ومن الأمثلة في التحديد عكوف الفقهاء على ما صدر في عهد الخلفاء من تحديد مقادير الجزية والخراج والديات وأروش الجنايات مع أن بعض تلك المقادير قد يطرأ عليه نقص القيمة أو الزواج فلا يصلح لأن يبقى عوضًا لما عوض به فيما مضى. ثم يقول: فنحن نوقن أن عادات قوم ليس يحق لها بما هي عادات أن يحمل عليها قوم آخرون في التشريع، ولا أن يحمل عليها أصحابها كذلك. نعم يراعى التشريع حمل أصحابها عليها ماداموا لم يغيروها، لأن التزامهم إياها وإطرادها فيهم يجعلها منـزلة منـزلة الشروط بينهم يحملون عليها في معاملتهم إذا سكتوا عما يضادها. مقاصد الشريعة الإسلامية ص91، 92.

(32) وقد يكون من المناسب هنا أن نشير إلى حكم أصدرته محكمة استئناف أبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة يؤكد صحة ما نذهب إليه، فقد جاء به ما يلي:

“إن تحديد الدية بألف وثمانمائة دينار لا يعتبر مانعًا للمحاكم أن تأمر بتعويضات أكبر منه للأحياء أو الأموات، لأن تقدير التعويضات يعتمد على عناصر معينة تحسبها المحكمة وفقًا لحالة المصاب وظروفه، وقد تكثر أو تقل عن المقدار الثابت المحدد للدية. هذا مع ملاحظة أن الشارع الذي فرض الدية في هذا البلد ذكر في بيان كيفية تحديدها ما يلي:

“يحسب التعويض وفقًا لقواعد الشريعة في تقدير الديات الكلية والجزئية. وحساب التعويض على أساس الدية لا يتأثر به حق المتضرر في تعويض خاص أكبر من مبلغ الدية الذي حددناه بألف وثمانمائة دينار عن فقدان النفس”.

مجموعة الأحكام الصادرة من محاكم الاستئناف والنقض – دولة الإمارات العربية المتحدة 1970 – 1980 – المجلد السادس ص2346 رقم 521 (مجموعة عبد الله راشد).

(33) سقط تعبير أهل الذمة من البناء القانوني في العالم العربي منذ صدور أول دستور عثماني في سنة 1876 مقررًا مبدأ المساواة في جميع الحقوق والواجبات بين جميع مواطني الدولة على اختلاف أديانهم، وصار غير المسلمين شركاء في أوطان المسلمين. فهمي هويدي – مواطنون لا ذميون ص126.

(34) تاريخ الطبري ج5 ص254 نقلاً عن فهمي هويدي – المرجع السابق ص133.

(35) تفسير المنار ج10 ص262 نقلاً عن فهمي هويدي أيضًا – المرجع السابق ص133 – 134.

(36) انظر في توجيه هذا الرأي الدكتور محمد أحمد شحاته – العاقلة ومسئوليتها عن الدية في الفقه الإسلامي 2005 ص300 – 307.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر