أبحاث

التصور الإسلامي لإعداد المعلم

العدد 116

مقــدمــة :

من أكثر التوجهـات البحثية والعملية التي تفرض نفسها على المسيرة العلمية والمجتمعية في المجتمعات المتقدمة، وتلك التي تنشد النهوض الحضاري، التوجه إلى المستقبل، استشرافاً وتخطيطاً وتحسباً. وفي الوقت نفسه فإن من أشد أوجه النقد التي توجه إلى الخطاب التربوى الإسلامي وأكثرها شيوعاً، الانغماس في الماضي، فهل يمكن الحديث عن ((التصور الإسلامي)) في مجال الحديث عن المستقبل بالنسبة لإعداد المعلم؟

للإجابة على التساؤل لا بد لنا

أولاً أن نبين أن الدراسات الحديثة في علوم النفس والتربية في كليات إعداد المعلم تمثل في الغالب والأعم مجموعة نظريات طرحها العقل الغربي استجابة لحاجات ومتغيرات عرفها المجتمع الغربي، وبطبيعة الحال، لم تكن لتمثل نفس ما واجهه المجتمع العربي والإسلامي، ولا وجهة النظرالإسلامية.

إن التفاعل الحضاري أمر مطلوب بطبيعة الحال، وخاصة في عصرنا الحاضر، حيث نجد شعلة الحضارة تمسك بها اليد الغربية، ونحن : سواء اعترفنا بذلك أو لم نعترف، متخلفون عن المجتمعات الغربية.

لكن المشكلة تكمن في أن المربي المسلم حين يدرس أو يستوعب هذه النظريات والتوجهات الغربية المطروحة في الفكر التربوي يقع في وهمــه أنها وحدها القادرة عن الإجابة على كل ما يحفل به الحقل التربوي والنفسي من قضايا ومشكلات، وما يرنو إليه من تطلعات وأحلام، وهذا من شأنه أن يواجه المربي المسلم حاجات المجتمع الذي يعيش فيه ويربى له، ويخطط لمستقبله، بأفكار ونظريات، إن صلح بعضها، فالكثرة منها لا تصلح بحكم المنطق التربوي والنفسي والاجتماعي الذي يؤكد أن ((الاستعارة التربوية)) أمر تحفه المخاطر والانحرافات.

ولذلك فإن من ألزم الواجبات أن الأصالة الإسلامية وتكشف عن أن الذي يدرسه ما هو إلا نظريات قابلة للصواب والخطأ، وليست جميعها حقائق علمية ثابتة، ولا هي الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ذلك أن العلوم الإنسانية ليست لها صفة الثبات التي تعرفها العلوم التجريبية، ولأنها تتصل بالعواطف والمشاعر وأهواء النفس فإنها تختلف. ولأنها تتصل بالعقائد والتقاليد والقيم فإنها تتباين بين مجتمع وآخر، ولما كان المجتمع الإسلامى يقوم على قاعدة الإيمان بالله الواحد ويلتمس في تفسير أحداثه وتحدياته مفهومه الأصيل المستمد من القرآن الكريم، فإن من الخطر تصور أنه محصور في مفاهيم يمكن أن تكون بعيدة عن ذاتيتــــه ومشاعره وبيئته (الجندى، ص 81).

إن العملية التربوية في أمة ليست بضاعة تصدر إلى الخارج أو تستورد إلى الداخل كالمصنوعات أو المواد الخام، وإنما هي لباس يفصل على قامة هذه الشعوب وملامحها القومية وتقاليدها الموروثة وآدابها المفصلة وأهدافها التي تعيش لها وتموت في سبيلها، وإن الشرعية ليست إلا قوانين راقية مهذبة لدعم العقيدة التي يؤمن بها شعب أو بلد وتغذيتها بالاقتناع الفكرى القائم على الثقة والاعتزاز وتسليحها بالدلائل العملية إذا احتيج إليها، ووسيلة لتخليد هذه العقيدة ونقلها سليمة إلى الأجيال القادمة، وأفضل تفسير لنظام التربية هو أنها السعي الحثيث المتواصل، يقوم به الآباء والمربون لتنشئة أبنائهم على الإيمان بالعقيدة التي يؤمنون بها، والنظرة التي ينظرون بها إلى الحياة والكون وتربيتهم تربية من أن يكونوا ورثة صالحين للتراث المدني الذي ورثه هؤلاء الآباء عن الأجداد، مع الصلاحية الكافية للتقدم والتوسع في هذه الثروة (الجندي، ص 152).

كذلك فإن منطق البشر نفسه يقضي أن من يصنع الشئ أعلم الناس به، وهو منطق في غاية البساطة والسلامة، وبه يحتج المؤمنون، فهم بإيمانهم بالله خالقاً فإنهم يســــــــلمون له بالعالمية أيضاً (الســــــبهاني، ص 40)، وهو يقول سبحانه : (أَلايَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(الملك : 14). وإذا كان الأمر كذلك فإن ما يراه الله للإنسان أحق أن يتبع لا ما يراه الإنسان لنفسه : (إِنَّ هَذَاالقُرْآن َيَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ( الإسراء : 9)، ويصبح الإسلام منهج الحياة القيمة : (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة : 5).

من هنا ظل المسلمون مع اجتهادهم في التفكير والتعلم ينظرون إلى الإنسان على أنه المخلوق الذي لا يمكن أن يفهم ويحكم إلا بهداية خالقه، ليس هذا فقط، إنما ينظرون إلى الإنسان على أنه حلقة واحدة من حلقات هذا الوجود، ولا تأخذ مكانها الصحيح إلا على ضوء الهدي الإلهي، ويؤسسون على ذلك أن نظاماً للبشرية غير الذي ارتضاه الله حصراً يفقد الوجود اتساقه وتناغمه، فالشرعية الإسلامية جزء مكمل للقوانين الطبيعية المودعة في الوجود غير العاقل، بل والتي تضبط الجزء اللا إرادي من الوجود الإنساني نفسه، وبغيرها لا يتحقق الاتساق ابداً (السبهاني، ص41، والقرضاوي : الإيمان والحياة، ص78 – 79).

مفهوم (( التصور الإسلامي))، فلابد لنا من أن نميز بين مجالين يتصلان بهذا التصور، أولهما هو : ((الأصول))، أو ((الثوابت))، وثانيهما هو : ((الفروع)) أو ((المتغيرات)).

ونعني بالأصول أو الثوابت ما يتضمنه كل من القرآن الكريم والسنة النبوية مما يتصل بالقضية موضوع الدراسة، فما دمنا نصف أمراً ((بالإسلامية)) فلابد بناء على هذا أن يستند إلى هذين الأصلين. وهما يتسمان ((بالثبات))بحكم صدور القرآن الكريم من الله عز وجل، وصدور السنة النبوية من لدن رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكلاهما يؤكد أن الرسالة الإسلامية هي آخر الرسالات، وأنها ((للعالمين))، وأنها صالحة إلى يوم الدين.

أما الفروع أو المتغيرات، فهي كل ما صدر عن المسلمين كبشر، م نقول أو فعل، فتدخل فيها جهود العلماء والمفكرين في مختلف العصور، كما يدخل فيها كذلك ما شهدناه ونشهده من مؤسسات، مثل : المساجد والمدارس الإسلامية والكتاتيب، وغيرها من مؤسسات، مثل : المساجد والمدارس الإسلامية والكتاتيب، وغيرها من مؤسسات تبشر بالرسالة الإسلامية، وهذه الفروع والمتغيرات، بحكم بشريتها، تخضع لظروف الزمان والمكان، وقابلة للنقد والنقض، والتحول والتغير.

ومن ثم فإن القول ((بتصور إسلامي)) يعنى الاستناد إلى ما جاء في كل من القرآن الكريم والسنة النبوية بالدرجة الأولى، مما يعنى صلاحية لكل زمان ومكان، ولا بأس من الاستعانة في الدرجة الثانية بجهود المسلمين، فكراً وتطبيقاً لمزيد من التفسير والبيان لما جاء في القرآن والسنة.

وهكذا يصبح من الاتساق المنطقي، فضلاً على ما سبق، التأكيد على أن القضية لا تقف عند حد ((إمكان)) الاستناد على ((التصور الإسلامي)) إذا كنا بصدد الحديث عن المستقبل بالنسبة لمسألة إعداد المعلم، وإنما تتعدى حدود الإمكان لتصل إلى حد ((الضرورة)) و((الحتمية)).

أما بالنسبة لجهود المسلمين الفكرية والعملية فهي التي تدخل في حدود ((الإمكان))، ومعيار الإمكان هنا هو مدى اتصالها بما جاء في القرآن والسنة، ومدى ملاءمتها لمتغيرات الزمان والمكان، حاضراً ومستقبلاً، فليس كل ما فعله السلف صالحاً لكل زمان ومكان، وفي الوقت نفسه، فليس معنى ((القدم)) و((السبق)) في الأى والفعل، أن يفقد صلاحيته بعد زمنه وفي غير مكانه، وهذا واضح في تعاملنا مع الموروث الحضارى الإنساني على وجه العموم، فكم من جهود وآراء انتهي تاريخ صلاحيتها، وعلى العكس من ذلك فهناك من الجهود والآراء مما استمر صالحاً للتعامل به، بل و تمني الإتيان بمثله.

لكن تبقى مسألتان لا بد من بيان موقفنا منهما :

الأولى، أن ما أوردنا في الفقرات السابقة لا يعني تجنيب حديثنا عن حق النقد والنقض تترساً وراء القرآن الكريم والسنة النبوية، ذلك أن ما نستعين به منهما هو ((نصوص))، منها واضح المعنى قاطع الدلالة، مما لا اختلاف في فهمه، ومنها نصوص يمكن أن تختلف في فهمه، ومنها نصوص يمكن أن تختلف فيها العقول فهماً وتأويلاً، وبالتالى فهي قابلة للمناقشة وتباين الآراء. ومما ينبغي الإشارة إليه، وهو يتصل كذلك بالنقطة الثانية التي سوف نشير إليها، أن الكثرة الغالبة مما ورد في المجال التربوي، مما لا يقع اختلاف في فهمه، وإلا : فهل يمكن أن نختلف في فهمه، وإلا : فهل يمكن أن تختلف فيها العقول فهماً وتأويلاً، وبالتالى فهي قابلة للمناقشة وتباين الآراء. ومما ينبغي الإشارة إليه، وهو يتصل كذلك بالنقطة الثانية التي سوف نشير غليها، أن الكثرة الغالبة مما ورد في المجال التربوي، مما لا يقع اختلاف في فهمه، وإلا : فهل يمكن أن نختلف في أن ((الجدال بالتي هي أحسن)) مبدأ مطلوب من الجميع، ونقول ((الجميع))هنا قاصدين بذلك : كل المسلمين، والشئ نفسه بالنسبة للأمر بالتعقل والتدبر والتفكر والتأمل … وهكذا.

الثانية، أننا نعلم بأن قضية إعداد المعلم لها الكثير من الزوايا والأبعاد  والعناصر التفصيلية التي تتصل هي نفسها باختلاف الزمان والمكان، مثل مدة الإعداد، والمقررات الدراسية اللازمة، وطرق التقويم وأساليبه، وطرق التدريس وأساليبه … وهكذا، بينما القرآن الكريم ليس كتاباً متخصصاً في التربية والتعليم، وكذلك السنة النبوية .. فالقرآن كتاب هداية للبشرية في مجمل ما يتصل بالدنيا والآخرة، وكذلك السنة، وهما بهذا يقفان عند التوجهات العامة، والأهداف الكلية، فيما يتصل بتلك المسائل المتغيرة زماناً ومكاناً، وعلى سبيل المثال ((فالعدل))، قيمة كلية طرق تنفيذها تركت للناس يشكلونها وفقاً لظروفهم واحتياجاتهم، وكذلك ((الرفق)) و((العلم)) و((مكارم الأخلاق)).. وهكذا.

ومن هنا فنحن بصدد استنادنا إلى التصور الإسلامي سوف يكون حديثنا مركزاً على مثل هذه الكليات والتوجهات العامة، وهو أدخل فيما نسميه بفلسفة التربية التي تقوم عليها عملية إعداد المعلم.

وقد راى بعض المعاصرين أن نصوص القرآن الكريم تمثل في الغالب الأعم كلمات جامعة وقواعد كلية، وهو ما عبروا عنه بقولهم : ((إن هذه النصوص تعلو على الزمان والمكان))، يقول أبو سليمان موضحاً هذه الفكرة (ص 143) : ((وباستثناء القرآن الكريم والذي هو في اغلبه إفصاح وتعبير عن النصوص العامة كموجه للتأملات الفلسفية …)).

وقال في موضع آخر (ص 161) : (( فليس القرآن الكريم كالسنة المطهرة، وذلك لأن آيات القرآن العظيم كانت وفي الغالب تعبر عن ذاتها ببيانات عامة بوصفها توجيهات أيديولوجية وفلسفية …)).

أما بالنسبة للسنة النبوية فقد كتب ((العلوانى)) (ص 15) :

((لقد كان عليه الصلاة والسلام في سنته يمثل تجسيداً لمنهجية الربط بين القرآن والواقع، ولذلك فمن الصعب فهم كثير من القضايا التي وردت في السنة بمعزل عن فهم ذلك الواقع الذي كان عليه السلام يتحرك فيه، كما أنه من الصعب تطبيق السنة وتحقيق الاتباع والتأسي والاقتداء به صلى الله عليه وسلم في إطار تتبع الجزئيات وحدها دون استنباط منهج التأسي باعتباره ناظماً موضوعيّاً للسنن يضم جزئياتها في إطار منهجي))، ثم ينتهي إلى القول (ص16) بأن ((الواجب هو الوصول إلى المنهج القرآني النبوي لتنضبط على هدى منه سائر التفاصيل والجزئيات، ولنفهم الجزئيات في إطار المنهج الكلي فتتبين المقاصد وتتضح الغايات)).

والحق أن هذه الآراء وإن كانت تحمل الكثير من الحق، إلا أن هناك بعض ممن يغلو في قوله إلى حد التهور في نقد المنهجية الأصولية، فالدعوة إلى تجاوز هذا المحك الذي يوصف بالتقليدية دعوة أحياناً ما تقع في جٌب التطرف ؛ لأنه لا يمكن أن يتعرف على مراد الله تعالى في القرآن الكريم وفي السنة النبوية من غير اعتبار لقواعد قبول الرواية مثلاً، وشرط التعارض والترجيح، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، ومعرفة الوجوب من التحريم، والاستحباب من الكراهة، وما أشبه ذلك. (بوهراوة، ص 150).

(( خلق الإنسان، علّمه البيان)) :

نحن هنا – من خلال آيات القرآن الكريم – إزاء موقف فريد، في غبراز ابعاده وجوانبه، اختص به المولى سبحانه وتعالى، ومن ثم فلا مجال للظن بأننا نستشهد به قاصدين أن يكون نموذجاً يهتدى به معلمنا، حاضراً ومستقبلا، وإنما نستشهد به لتكون دلالاته هادية لنا في إعداد المعلم وتنميته.

فالمعلم الأعظم سبحانه جل شأنه، هو الذي خلق الانسان، موضوع التربية، وموضع التعليم، وهو سبحانه وتعالى مخصوص بهذه القدرة، لكن تأمل النوعية التي خلق بها سبحانه الإنسان، طبيعته، تفرض بالضرورة الكثير مما لا بد من مراعاته وأخذه بعين الاعتبار في إعدادنا للمعلم، ولقد أفاضت مراجع كثيرة حقاً في بيان طبيعة الإنسان كما خلقه المولى عز وجل، مما يعفينا من تجشم خوض غمار هذه القضية، لكننا نجتزئ من كل ما كتب وبٌحث بعض الأمور التي لها توابعها التربوية :

فإذا كان من المسلَّم له لدى مختلف الاتجاهات والتيارات الفكرية، قديماً وحديثاً أن الإنسان هو موضوع التربية، فمن ثم بقدر ما يحل المذهب أو العقيدة أو الفلسفة هذا الإنسان مكانه مرموقة، ويمنحه تقديراً وتكريماً، بقدر صلاحية القاعدة المذهبية أو الفلسفية لأن يبنى عليها العمل التربوي أيَّا كان مجاله.

فإذا ما استقرأنا القرآن الكريم وجدناه يحفل بالحديث عن الإنسان في خمس وستين مرة، وذكره ثلاث مرات، في أول سورة نزلت من القرآن الكريم وهي سورة ((العلق))، إضافة إلى آيات كثيرة تحدثت عن الإنسان ضمناً عند ذكر البشر والناس وبني ىدم وما إليها الشيباني، ص 16)، وتبلغ مكانة الإنسان علوَّا لا مثيل له في قوله عز وجل : (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة : 32).

ولقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، ونفخ فيه من روحه، وعلمه الأسماء كلها، وأمر الملائكة بالسجود له احتراماً وتقديراً (زرمان، ص19)، واعترافاً بمكانته، وخلقه في أحسن تقويم، وجعله من أذكى المخلوقات وأجملها، فكان بذلك أفضلها جميعاً، وشرفه بإرسال الرسل وإنزال الكتب  : (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ 15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.) (المائدة : 15، 16)، وحمله الأمانة الكبرى، واستخلفه في الأرض : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء : 70)

وحتى يمكن الإنسان من الوفاء بمتطلبات الاستخلاف سخر الله له الكون وهيأه تهيئة متناسقة، وجعل قوانينه مناسبة لقدراته حتى يتحقق التفاعل الإيجابي بينه وبين الكون ، فينتج عنه عمران الأرض : (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية : 13)، وقال : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِوَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.) (إبراهيم : 33).

والقرآن حين يضع الإنسان في تلك المنزلة لا ينظر إلى ما بين أفراده من فوارق شخصية من ذكوره وأنوثة، وسواد وبياض، فالذكر والأنثى، والأسود والأبيض في التصور القرآني بالنسبة إلى الخالق، وبالنسبة إلى الكون سواء، فالكل عباد مطالبون بالعقيدة وما أنزل الله من شرع، وأكرمهم عند الله أتقاهم، وكلهم أناس ينظرون ويفكرون ويعلمون، لا حجر على أحد في أن ينظر ويعمل، ولا حجر على أحد في أن ينتفع، وأسعدهم في الدنيا العاملون المخلصون المؤمنون (شلتوت، ص 45).

وتجلت حكمة الخالق سبحانه وتعالى في خلقه الإنسان ضعيفاً، كما قال في قرآنه المجيد : (وَخُلِقَ الإْنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء : 28). وكذلك في خلقه هذا الإنسان جاهلاً، قال عز وجل : (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) (النحل : 78)، ولكنه، على ضعفه وجهله، عبرة لمن يعتبر، وموضع لعجب المتعجب ؛ لأنه مع ضعفه يتصرف في الأقوياء، ومع جهله في نشأته يعلم جميع الأسماء. يولد الحيوان عالماً بالإلهام ما ينفعه، ومايضره، وتكمل له قواه في زمن قليل، ويولد الإنسان وليس له من الإلهام إلا الصراخ بالبكاء، ثم يحس ويشعر بالتدريج البطئ بالنسبة إلى غيره من الحيوان، ويعطى قوة أخرى، تتصرف بشعوره وإحساسه تصرفاً يكون له به السلطان على هذه الكائنات، فيسخرها ويذللها بعد ذلك كما تشاء تلك القوة الغربية، وهي التي يسمونها العقل ولا يعللون سرها، ولا يدركون حقيقتها وكنهها (تفسير المنار، ج1، ص 217).

فالإنسان بهذه القوة غير محدود الاستعداد، ولا محدود العلم، ولا محدود العمل، فهو على ضعف أفراده يتصرف بمجموعة في الكون تصرفاً لا حد له بإذن الله وتصريفه. وكما اعطاه الله هذه المواهب والأحكام الطبيعية ليظهر بها أسرار خليقته، وملّكه الأرض وسخر له عوالمها

اعطاه أحكاماً وشرائع حد فيها لأعماله وأخلاقه حدَّاً يحول دون بغي افراده وطوائفه بعضهمعلى بعض.

والقرآن يقرر أن الله خلق الإنسان مستعَّداً لأن يسعد نفسه بالخير أو يشقيها بالشر، والخير هو ما ينفعه وينفع جماعته في الدنيا، ويرضى الله عنه في الاخرة، والشر هو ما يؤذيه في حياته ليغضب الله عليه في آخرته : (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد : 10)، (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان : 3)، (مَنْ عَمِل َصَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(النحل : 97)، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) (طه : 124)، والإنسان بذلك كان صالحاً بعقله وعمله ومسلكه في الحياة لدرجات القرب من الله ولدرجات البعد عنه، وما كانت هداية الوحي غلا لتقوية الخير فيه، وللأخذ بيده من نزعات الطغيان والهوى إلى ما قدر له من كمال في دنياه وأخراه (سعيد إسماعيل، الأصول الإسلامية للتربية، ص 102).

أكد القرآن الكريم على أن الإنسان قد هُيئ لاكتساب المعرفة بكتاب الله المشهود، وهو هذا الكون بكل ما فيه ومن فيه عن طريق ما زوده به من إمكانات، سواء الحسي منها والعقلي، مما يعطي مداداً كبيراً للعمل التربوي، على عكس ما إذا كانت المعرفة فطرية، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى : (والله أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَاَر وَالأفْئِدَة لعَلَّكُمْ تَشْكُرون )(النحل : 78).

وإذا كان هذا مما يتعلق بهذا النوع من المعرفة التي تتصل بما يرد إلى الإنسان من معلومات عن صور الكون المختلفة عن طريق الحواس والإدراك العقلي، فإن هناك نوعاً ثانياً وهو ما يتصل بالاستعدادات الذاتية التي هي بالضرورة فطرية، والقرىن يوضح ان هذه النوازع الفطرية ذات طابعين : طابع يتجه إلى الخير وينزع إلى السمو ويتشوق إلى الكمال، وطابع يتجه إلى الشر ويخلد إلى الأرض ويميل إلى البهيمية، مما أشرنا إليه في البند السابق (علي عبد العظيم، ص 97).

وستحقق المكانة التي أولاها القرآن الكريم للعقل أن نتوقف عندها، فالركيزة الأساسية في أي تربية هي (( تنمية التفكير))، والتفكير هو وظيفة العقل، ومن هنا فإن التأكيدعلى مكانة العقل والحث على ممارسة وظائفه هما جوهر أى عمل تربوي.

فقد نواه القرآن الكريم بالعقل أيما تنويه، ودعا إلى استخدامه وذكره بوظائفه وأفعاله ما يقرب من خمسين مرة، وجاء ذلك بصيغ مختلفة (عبد العال، ص 11)، حيث تكرر 24 مرة بصيغة ((تعقلون))، بين صورة الرجاء (لعلكم تعقلون) وصورة الاستفهام (أفلا تعقلون)، وتكرر 22 مرة بصيغة (يعقلون، منها 10 صيغ بدون نفي، و12 صيغة منفية بلا النافية (لا يعقلون)، ومرة واحدة بصيغة (نعقل) في قوله تعالى : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ)(الملك : 10)، ومرة واحـــــــدة بصيغة (يعقلها) في قوله تعالى : (وَمَا يَعْقِلهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ)(العنكبوت : 43)، ومرة واحدة بصيغة (عقلوه) في قوله تعالى : (يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ)(البقرة : 75). كما ذكر أيضاً كلمة (أولو الألباب)، أى أصحاب العقول في بضع عشر موضعاً.

والقرآن يضع أسساً سوية لقيام عملية الضبط الاجتماعي بحيث لا ينظر إليها الإنسان وكأنها عمليات قهر تفرضها عليه السلطة، وذلك كما نرى في نظام الحقوق والحريات التي قررها، فالقرآن يحث المسلم على أن ينظر غلى الحقوق والحريات المقررة له على أنها ((منح إلهية)) وفقاً لشريعة الله، ويجعل السلطة في النظام الإسلامي تحرص على تمكين الأفراد من التمتع بها حرصهم عليها أو يزيد ؛ لأنها ما قامت إلا لتمكينهم من أن يحيوا الحياة الإسلامية التي من مقوماتها تمكينهم من التمتع بتلك الحقوق والحريات، بل دفعهم غلى مباشرتها واستعمالها، فضلاً عن حمايتها من كل انتهاك ؛ لأنها جزء من الشريعة ودين واجب الاتباع، وليست مجرد إعلان لحقوق الإنسان (البياتي، ص 157).

وفي ظل الأساس الفكري الإسلامي هذا يتقبل الفرد بنفس راضية كل الضوابط والتنظيمات التي قررتها الشريعة الإسلامية على تلك الحقوق والحريات، والسلطة تتقبل بنفس راضية ايضاً كل الضوابط والقيود على سلطاتها لمصلحة حقوق الإنسان ؛ لأن الفرد والسلطة يؤمنان بعقيدة واحدة انبثقت من شريعتها تلك الحقوق والحريات، ويؤمنان بإله واحد هو الذي منح تلك الحقوق والحريات.

وقرر المولى سبحانه وتعالى للإنسان حرية إرادة لا بد منها حتى يمكن أن يمارس حرية الاختيار، وبالتالي يمكن محاسبته، إن خيراً فخير وإن شرَّاً فشر : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).(الزلزلة : 7- 8)، ويقول ( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ )(القارعة : 6- 11). لكننا لا ينبغي أن ننسى أن هذا الكون خاضع لقانون طبيعي، فهو عالم المتتابعات من الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات، وكل ما فيه مرتبط بعضه ببعض ارتباط الأسباب  بالمسببات، فما يحدث الآن يكون حادثة ناتجة لما سبقه وسبباً لوجود ما بعده، وهذا هو قانون الطبيعة الذي جعله الله فيها لتخضع له وتسير عليه باطراد. ونظن أنه من الهين أن نتبين أن كثيراً من الآيات الدالة على الجبر لا تشير غلا إلى هذا القانون الطبيعي، فالأفلاك والنجوم، وسائر أنواع الخليقة لها طريقها المرسوم، وحركات هذه الأفلاك وحوادث الطبيعة وكثير من مجرياتها – في الإنسان وعليه – خاضعة لهذا القانون، وأما الآيات الأخرى التي تشير إلى الإنسان بنوع خاص، فينبغي أن تفهم، أو هي مفهومة من غير تكلف على ضوء الآيات الأخرى التي تؤكد فاعلية الإنسان، وعلى ضوء ما عرف بالضرورة في الإسلام، من أن الإنسان مسؤول عن كل أفعاله الاختيارية. (محمد خلف الله أحمد : الثقافة الإسلامية، ص 33).

ولأن الله هو خالق الإنسان ومصوره وهاديه، نجد تعاليمه في القرآن الكريم تنهج نهج ((التوازن))، و((الاعتدال))، فهذا من شأنه أن يجعل الهدي التربوي الرباني ممكن التطبيق، وليس مثلاً يتجاوز الحدود والإمكانات، فمن حيث التوازن قال سبحانه وتعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)(الأعراف :32)، وقال : (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(الأعراف:31).

أما من حيث الاعتدال فقد قال سبحانه وتعالى : (وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص : 77).

المربي الأعظم :

لعل الموقف التعليمي الأول في تاريخ البشرية هو ذلك الذي يحكي عنه الله عز وجل في قرآنه المجيد : (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة : 31 – 32).

وقد قال كثير من المفسرين أن الله سبحانه علمه الأشياء كلها، ما كان كائناً وما سيكون إلى يوم القيامة، لم يدع من ذلك شيئاً كبر أو صغر. قالوا : وعلمه اسماءها كلها باللغة التي كانت كائنه، وبكل لغة ستكون إلى يوم القيامة. وقال الشيخ عبد الوهاب النجار في قصص الأنبياء أن الذي يفهمه أنه علمه جميع الأشياء التي في جنة عدن وألهمه وأقدره على وضع اسم لكل ما تقع عليه عينه هناك من زروع وأشجار وثمار وفروع وورق ولب ونوى، وجميع الأوعية والأدوات التي هناك، وجميع ما فيها من حيوان وأجزائه، لاحتياجه إليها (النجار، ص5).

لكن البهي الخولي يزيد على هذا برأي نقتنع به وتطمئن إليه قلوبنا وهو أن الله سبحانه وتعالى بث في آدم سر الاهتداء غلى خصائص الأشياء ووسائل الانتفاع بها، ويرجح أن ذلك هو معنى الأسماء في قوله سبحانه : (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا)، أيعلمه حقائق مسمياتها وما لها من خصوصيات المنافع والمضار، فإن اسم الشئ يقترن دائماً في الذهن بحاله من : صورة، ولون، وأجزاء، وبحاله من سائر المقومات والمزايا الحسية والمعنوية، ومن هنا تساءل عن جدوى الاسم إذا لم يكن دالاَّ على ما وراء من مقومات الذات وخصائص الجواهر والعناصر؟ (الخولي، ص113).

ويوقفنا القرآن الكريم على موقف تعليمي ثان، حيث يقدم لنا نموذجاً لمن خلت خبرته تماماً مما يعين على حل مشكلة واجهته، على الرغم من أن هذه المشكلة نتجت عن جرم ارتكبه، وهو ما يتصل بابني آدم، حيث يقول عز وجل في قرآنه المجيد : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)(المائدة : 27 – 31).

والحق أن الآيات تتضمن كذلك تعليم عدد من القيم الأخلاقية الموجهة للسلوك القويم الأخلاقية الموجهة للسلوك القويم التي تمثلها الأخ الذي قٌتل، فمن ذلك :

  1. بيان سبب التقبل عند الله وهو التقوى.
  2. تنزيه نفسه من جزائه على جنايته بمثلها.
  3. التذكير بان المعتدي يحمل إثم نفسه وإثم من اعتدى عليه.
  4. التذكير بعذاب النار (الدهماني، ص55).

لكن ما نود لفت النظر إليه هو هذا الجزء الأخير الذي يشبه ما نسميه اليوم ((بالعروض العملية))، فيرسل سبحانه وتعالى غراباً يبحث في الأرض حتى يفهم القاتل كيفية دفن جثة أخيه المقتول.

ويحفل القرآن الكريم بالعديد من الآيات التي تنسب فعل التعليم إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك مثل :

(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا)(البقرة : 32).

(الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)(الرحمن : 1- 4).

(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (العلق : 4).

(عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)(العلق : 5).

(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) (المائدة : 110).

(قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا)(البقرة : 32).

(رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)(يوسف : 101).

(وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)(النساء : 113).

(فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ)(البقرة : 239).

(تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) (المائدة : 4).

[وَإِنّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون] (يوسف: 68).

[ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلّمْنَاهُ مِنْ لَدُنّا عِلْمًا] (الكهف: 65).

[وَعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُم] (الأنبياء: 80).

[وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشَّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُبِين] (يس: 69).

[ذَلِكُمَا مِمَّا عَلّمَنِي رَبَّي] (يوسف: 37).

[وَءَاتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَهُ مَمَّا يَشَاء] (البقرة: 251).

[وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلّمَهُ الله] (البقرة: 282).

[إنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى] (النجم: 4،5).

[تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله] (المائدة: 4).

[وَلِنُعَلّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيث] (يوسف: 21).

[وَاتّقُوا اللهَ وَيُعَلّمُكُمُ الله] (البقرة: البقرة: 282).

[وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمْةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيل] (آل عمران: 48).

ومن الكلمات التي تقترب كثيراً – إن لم تطابق – المعانى المختلفة لكلمة التربية، كلمة »الهدى« ومشتقاتها، وقد ترددت في عشرات من آيات القرآن في موضوعات ومناسبات شتى، بعضها واضح الدلالة لا يحتمل اختلاف الآراء، وبعضها، مع وضوح دلالته، تشعبت فيه الأنظار (الحوفي، مع القرآن، ص 117).

ولنكشف عن المعنى الصحيح لكلمة الهدى في كتاب الله، يجب أن نتعرف المعنى الأصيل للكلمة ف] اللغة، فما هو هذا المعنى؟

1-  هو الرشاد والإرشاد، و الدلالة والبيان، يقول: هداه الله الطريق، وللطريق، وإلى الطريق. والهدي والهداية بسكون الدال فيهما، الطريقة والسيرة، وهداه من الضلالة فاهتدى (لسان العرب)، نجد هذا المعنى في قوله عز وجل: [وَجَعَلْنَا مِمْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا] (السجدة: 24)، أي يرشدون إلى الحق الذي أوحينا به إليهم. وفي قوله تعالى: [وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم] (الشورى: 52)، أي ترشد وتعلم وتوجه.

2-  و من معاني الهدى أيضًا، ما قد يصاحب الإرشاد والدلالة من عمل أو جهد و مساعدة، و هو الذي نسميه التوفيق والتسديد والتأييد. نستمد هذا المعنى من اللغة، إذ يقال: هدى الزوجة إلى بعلها وأهداها وهداها واهتداها، ويقال: هدى هدي (بتسكين الدال) فلان، أي سار سيرته، ويقال: هداه، أي كما يتقدم الهادي المهدي، والهدى والهدي، مــا أهدي إلى مكة (لسان العرب). ونستمده من آيات قرآنية كثيرة، منها قوله تعالى: [وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِين] (يوسف: 52)، ومن قوله: [وَيَزِيدُ اللهُ الّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى] (مريم: 76)، وقولــه: [إنَّ الّذَينَ ءَامَنُوا وَعَمَلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بإيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنّاَتِ النّعِيم] (يونس: 9)، وقولــه: [وَإِنْ كَاَنتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله] (البقرة: 143).

 

نجد آيات عدة – غير التي ذكرناها – تؤكد على ضرورة القيام بمهمة »التعليم«، من ذلك على سبيل المثال:

[وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِم] (التوبة: 122)، والمراد بالإنذار هو: تعليم قومهم، وإرشادهم إلى الخير.

– [وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنّــــهُ لِلنّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ] (آل عمران: 187)، وهو إيجاب للتعليم و تبيين الكتاب للناس وعدم كتمانه عنهم، والميثاق: العهد.

[وَإنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (البقرة: 146)، وهو تحريم لكتمان العلم.

[وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا] (فصلت: 33).

[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبَّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة] (النحل: 125).

ولم تكن هناك تلك التفرقة التي نجدها في أيامنا الحالية بين (العالم) و (المعلم)، خاصة وقد أصبح من المستقر عليه أن ليس كل عالم قادرًا على توصيل ما يعلمه إلى من لا يعلم بكيفية تتميز بــالجودة وحسن التوصيل. أمــا قديمًا فقد كــانت المعرفــة على درجة عالية من البــساطة، خاصة وأن محورها الأساسي كــان تعليم الدين، و كــان هناك تحريم – كمــا مر بنا – لكتــمان العلم، ومــن هنا فإن مــا نجده في القرآن الكريم بتقرير تقدير خاص لحملة العلم، يمكن بكل ثقة أن نضع ضمنه »المعلمين«.

ومن آيات الله البينات في مجال تقدير العلماء قوله تعالى:

– [شَهدَ اللهُ انه لاَ إِلَهَ إلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـــهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم] (آل عمران: 18)، فالعلماء يشهدون التوحيد مع الله سبحانه وتعالى، ومع الملائكة الأطهار. إن الله يقرن العلماء به وبملائكته في شهادة التوحيد، وهذا أسمى ما يمكن أن يصل إليه العلماء من مكانة ديموقراطية التربية الإسلامية، ص79).

[يَرْفَعِ اللهُ الّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات] (المجادلة: 11)، ففي هذه الآية يتساوى المؤمن مع العالم.

[قُل هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لاَ يَعْلَمُون] (الزمر: 9).

[بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيَّنَاتٌ فِي صُدُورِ الّذِينَ أُوتُوا الْعِلمَ] (العنكبوت: 49).

[إنّمَا يَخْشَى اللهَ مِنء عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] (فاطر: 28).

الرسول المربي:

فدور الرسالات الإلهية هو دور قيادة وتعليم، ومجالها في هذا الدور هو الحقائق الكليــة والمعارف العليا، فهي التي تنبيء عن الغيب وتكشف عن حقائق كلية في صور واقعية وأمثال تقربها إلى الواقع المشهود حتى تكون قريبة من مجال العقل ومدركاته، وهي التي تتحدث عن الخالق ونعوت كمالــه، وعن فيض الحياة من خزائن رحمته، وعن عوالم الســماء والأرواح، وعن الوحي والنبوة، وعن نظام الكون وقوانين ترابطه، وعن الحياة الأخرى وما فيها من ثواب وعقاب.

ولا ســـبيل للعقل وحده إلى إدراك هذه الحقائق إدراكًا يتجاوب صداه مع الواقع الغيي في هذا المجال؛ لأن الغيب محجوب عن الحس، والحس بأدواته المادية هو المشكاة التي يستضىء بمصباحها العقل فيهتدي إلى أوليات من الحقائق يحمل عليها مثيلاتها بضرب من القياس والتشبيه، ومن هذه الحقائق تتولد القضايا العقلية المنتزعة من الوجود المشهود انتزاعًا مباشرًا أو غير مباشر (عرجون، ص32).

أمــا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فهو مع اشتراكه مع الرسل والأنبياء كافة في المهمة التعليمية التربوية، فقد اختص بمهام ثلاثة حددتها آيات القرآن الكريم، في قولـــه عــز وجل: [لَقَدْ مَــنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة] (آل عمران: 164).

وقبل أن نفصل هذه المهام ينبغي أن نلفت النظر إلى دلالة العبارة [رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِم]، ذلك أن المربي عندما يكون من أهل الذين يتلقون على يديه العلم ويتربون، فإنه يكون أعلم بأحوالهم وظروفهم و مســــتوياتهم العقليــة والاجتماعية، بحيث يسوق تعاليمه في ضوئها، وذلك مبدأ على درجة عالية من الأهمية، وهذا هو المعنى الذي تؤكده آية أخرى يقول فيها عز وجل: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيَّنَ لَهُم] (التوبــة: 128)، ولعل هذه الآيــة تضيف أبعادًا أخرى نفسية وأخلاقية تعزز أهلية القائم بالرسالة على أن يكون لهذه الأمة مربيًّا ومعلمًا.

وعلى هذا فإن برنامج الإعداد لأولئك الذين يبلغون هدي الله في مسعاهم، والذي يقوم عليه الرسول، له مفردات أربع هي (الأسمر، ص74): تلاوة الآيات، التزكية، تعليم الكتاب، تعليم الحكمة، مما يمكن بيانه فيما يلى:

1-  تلاوة الآيات: والتلاوة من تلا يتلو بمعنى بيّن واتبع، والآيات المقصودة هنا هي آيات الخلق في الأنفس والآفاق، وعليه فإن أول مفردات البرنـــامج تــــأخذ بعدين:استيعاب الآيات، واتباعها كأسلوب حياة، أي تطبيقها في واقع الحياة.

2-  التزكية: ففقــه آيـــات الله واستثمارها بالأخذ بالأسباب ليس معناه استقامة الطريق في السلوك، فنحن نعرف أن من الممكن أن يكون هناك عالم على درجة رفيعة من التفقه العلمي وتطبيقاته، ولكنه مع ذلك معوج السلوك الأخلاقي، فالاستقامة على سبيل الهدى تتطلب، بعد فقه الآيات واتباعها، ترقية للنفس البشرية وتزكيتها حتى تصبح منصاعة لسبيل الرشد والحق، منتهجة نهج الخير، ملتزمة بالعدل والصلاح (الأسمر، ص76).

3-  تعليم الكتاب: والكتاب المقصود هنا هو القرآن الكريم باعتباره هاديًا للتي هي أقوم [ إنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَم] (الإسراء: 9)، والتعميم هنا يؤدي إلى انفتاح مختلف المجالات، سواء منها ما هو متصل بالتفكير والاعتقاد، أو العبادات والمعاملات، أو المشاعر والانفاعالات.

4-  تعليم الحكمــــة: والحكمــــة في معناها العام هي: الإصابة في القول والعمل، وفي المعجم الوسيط: »معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم«، ومن هنا قال عز وجل: [وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا] (البقرة: 269)، مــا دامت تتجــه بالإنسان إلى استقامة التفكير والسلوك.

ولأن الأمة التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بين أبنائها، و كانت هي أول من تلقى الرسالة، هي أمة يخيم عليها جهل مطبق، وتخلف يصفها في ذيل سائر الأمم، فضلاً عن عدد غير قليل من خصال النزعة العصبية، والميل إلى التمرد، وغلظة الطباع، كــان على النبي صلى الله عليه وسلم، أن يقوم بدور من نسميه اليوم »معلم المعلم«، والذي كانت ترجمته أن يربى جيلاً رائدًا يبقى نموذجًا بشريًّا يقتدى به، ويتأسى بمقوماته وتصرفاته بنو الإنسان على مدى امتداد الزمان، لا لينهضوا بــأمتهم العربية فحسب، بل وليجعلوا منها >>قاطرة« البشرية إلى مراتب علا في النهوض الإنساني بأجلى معانيه.

ومن هنا كان محتمًا القيام بعملية »استثمار فكري« بغية التغيير الجذري للإنسان كي يحقق إنســانيته التي لا تتطاول إلى مستوى »الملائكة«، ولا تنحط إلى مستوى البهيمية .. يشعر بكرامته، ويرتقي بمكانته، ويستشعر الأمن والاستقرار، ويعيد صياغة عقله وقلبه وضميره ووجدانه ودوافعه وتطلعاته (الأسمر، ص71).

وهذا ما تحقق بــالفعل على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خلال عملية تربوية متعددة الحلقات، متتابعة الخطوات، لهذا النفر الذين آمنوا بالرسالة التي بعث بها، وهم من أصبحوا معروفين باســم »جيل الصحابة«، الذين تحولوا في فترة قصيرة بمقاييس الزمن ليصبحوا نماذج مضيئة، وقدوة لكل من أراد أن يهتدي بنور الإسلام، وإذا بهم يضعون بذلك حجر الأساس لنهضة حضارية كانت المعرفة فيها، نقطة الارتكاز، و كان الإيمان لها »المصل« الفعال لإكساب جسم الأمة قوة عمل وتعلم وتعليم وبناء.

ويكفي صحابة رسول الله قدوة تعليم وتربية أن يقول القرآن الكريم في حقهم:

[مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] (الفتح: 29).

[كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللّيْلِ مَــا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْـــــحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون] (الذاريات: 17،18).

[تَرَاهُمْ رُكّعًا سُـــجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّـــجودِ] (الفتح: 29).

[وَالّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هّاجَرَ إلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَــانَ بِهِمْ خَصَاصَة] (الحشر: 9).

[مِنَ الْمؤْمِنِينِ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 23).

لكن البعض قد يتتساءل: كيف يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم مربيًا ومعلمًا، بينما كان »أميًّا«  لا يقرأ ولا يكتب؟

في هذا المقام تشير كتابات السيرة النبوية أن جبريل عليه السلام عندما جاء رسولنا لأول مرة ينقل لــه الأمر الإلهي بالقراءة، و كان الرد من الرسول أنه ليس بقاريء، وتكرر هذا ثلاث مــرات، قال المللك تبليغًا من الله تعالى: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] (العلق: 1 – 5).

فهذه الإجابة صريحة في مطابقتها للاستفهام عن بيان الكيفية التي يكون عليها النبي صلى الله عليه وسلم قارئًا مع كونه أميًّا لا يعرف القراءة؛ لأن القراءة شأن من تعلم القراءة في الألواح والصحف (عرجون، ص266).

فكأنه قيل له في جواب استفهامه عن الحالة التي يكون بها قارئَا مع قيام موانعها في عرف الحياة ومألوفها: أنت لست كهيئة أحد من الناس، تقرأ بتعلم كمــا يقرؤون، وإنما أنت رســـول الله اختــارك على عينه لتحمل إلى الحياة رســـالته الخاتمـــة الخــالدة، وجعل أميتك خصيصة نبوتك، وأرفع مظاهر معجزة رسالتك، وأعظم عنوان على صدقك في دعوتك، وأبلغ آية في تحدي معانديك، فكن قارئًا لا كمــا يقرأ النــاس من كتب كتبتهـــا أقلام أيديهـــم، ولكـــن قـــاريء إعجاز للقارئين وغير القارئين.

هي قراءة فيض رباني، خصك بــه ربــك الذي منـــه الخلق والإبداع، فهو الخالق المبــدع المقتدر الذي ينبئك في أول مراتــب وحيــه القرآني إليك بــأجل مظهر من مظاهر إبداعه (عرجون، ص7).

كذلك فـإن هناك فرقًا بين »الجهل« و »الأميــة«، فليــس كــل أميّ جــاهلاً، وليــس كل جاهل أميًّا. الأميّ من لا يقرأ ولا يكتب، والجـــاهل من لا يعلم مــا ينبغي أن يعلم، وليس العلم كلــه منوطًا بقراءة و كتابة، وليس كل ما هو مكتوب ومقروء علمًــا يكــون الجهل بــه وصمة تنتقـــص من قدر من لا يقرأ ولا يكتب (لوقا، ص 20).

والبشرية اخترعت القراءة والكتابة في وقت متــأخر نسبيًا من تاريخها المعروف، بعــد أن قطعت في مــدارج الحضـــارة فإذا كانت البشرية وهي تقعّد القواعد من بناء حضارتنا وتوطد لها الأساس لم تكــن قد عرفت القراءة والكتابة، فكان البشـــر كلهم أميين، فهل كــانوا لهذا السبب جهالاً كلهم بغير استثناء؟ محال عقلاً أن يكونوا كلهم جهــالاً، بــل كــانت لهم معرفة، و كــان ثمة تفاوت بين آحادهم وعشائرهم فيمــا تيسر لهم من الخبرات والمعارف (لوقا، ص21).

فليس هنـــاك تـلازم إذن بـين الجهل والأمية، أو بين علم وقراءة و كتابة.

أن القــراءة لا تعــدوا أن تكــون بابــًا للتلقين عند أكثـر النـاس، و مثلهـا كـمثل »فتحة الفم، يدخل منها الطعام«، ولكـن هضم الطعـــام وتمثلــه حتــى يصيــر دمًـا وحرارة في العروق والخلايا أمور تتوقف على المعــدة والأمعاء والكبـد والبنكرياس، ومــا إلى ذلك مـن الجوارح في جسم الحيوان والإنسان، فدخول الطعــام في الفم شيء وهضمه شيء آخر، وحصول الفائدة أو الأذى منه شيء ثالث، كذلك القراءة، يتلقن منها النـاس أمورًا تدخل عن طريق العين، ولكن هضم هذه الأمور يتم عن طريق العقل، فهو الذي يحلل المعلومـات كمـا تحلل المعدة الغـذاء كي يحتفظ بالنــافع منها وينبذ ما يتأذى منه أو ما لا يتفق مع طبيعته (لوقا، ص24).

فالقراءة إذن شيء، والفهم أو التمييز شيء آخر، وحصول الفائدة و الأذى من المقروء شيء ثالث!

والتفاوت في الإفادة كبـير جدًّا بين القـــارئين في الموضــوع الواحــد، بـل في الصحيفة الواحـدة، هذا التفاوت الضخم شبيه بحقل واحد مزورع بالبرسيم مثلاً، أتاه حمار فأكل منه، و أتته نحلة فأكلت منـه، طعامهـما واحد بـالضرورة، ولكـن شتان ما يخرج من جوف الحمـار بعد هذا الطعام وما يخرج من جوف النـحلة!

فـالمعول إذن على العقـل الذي يهضم المعلومات – أيـًّا كان مصدرهـا من قراءة أو سماع، ويرتبهـا ويقيس عليها ويستدل منها، فذلـك العقل مختلف جدًّا عن عقل تصـل إليه المعلومـات لتظل جـامدة على حالهـا، تحفظ منهـا ذاكرتـه مـا تحفظ وتنسى مـا تنسى، فهي أشـتات جزئية مثل حب في غرارة.

وقد يكــون العقل النابــه لأمي، دون قاريء، وقد يكون لأمي دون أمي آخر، وقد يكون لقـــاريء دون قـــاريء آخر (لوقا، ص 26).

ومن صور ممارسة رسول الله لمهمة التعليم، أ، وفد ثقيف لمــا جاءه أنزل وفدهــم في المســـجد بالمدينــة وبنى لهم خيامًا لكـي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا، ومكــث الوفد أيامًــا عديدة يختلفون إلى رسـول الله ويختلف إليهـم و هـو يدعوهـم إلى الإســلام. روى ابن سعد أنــه صلى الله عليه وسلم كــان يأتيهم كل ليلة بعد العشاء فيقف عليهم يحدثهـم حتـى يراوح بين قدميــه [أى يقوم على كـل قدم مرة من التعب] (البوطى، ص423).

وكــما أقبلت الوفود تسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإعلان إســلامها، فقد أخذ هو أيضــاً يبعــث رســله يتفرقـون في شــتى الجهــات، وخاصــة في جنــوب الجزيرة، لتعليــم الناس مباديء الإســلام وأحكامه، فقــد انتشــر أمــر الإســلام في الجزيرة و مختلف أطرافها، وأصبحت الحـاجة داعية إلى معلمين ودعاة ومرشدين يشرحون للناس حقائق الإسلام، حتى يستقر في قلوبهم بعد أن انتشر في ربوعهم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى نجران ليدعو من هناك إلى الإســلام ويعلمهم مبادئه وأحكامه، كمـا أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّأ بن أبي طــالب رضي الله عنه إلى اليمـن (البوطى، ص 435).

وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبـا موسـى الأشـعري ومعـاذ بن جبل إلى اليمن أيضًا بث كـلاً منهمـا إلى طرف من أطرافهــا ووصاهمــا بوصيــة تحمــل العديد من المبــادئ التعليميــة، فقــال: »يســرا ولا تعســرا، وبشــرا ولا تنفرا، وتطاوعــا«، متفق عليـه. وقـال لمعـاذ: »إنــك سـتأتي قومــًا من أهـل الكتــاب، فـــإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رســول الله، فــإن هم أطاعوا لك بذلك فأخــبرهـم أن الله فرض عليهــم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هـم أطاعوا لك بذلـك فأخـبرهـم أن الله قد فرض عليهــم صدقــة تؤخذ من أغنيــائهــم فــترد إلى فقرائهــم، فـإن هـم أطـاعوا لك بذلك فإيــاك و كـرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب« متفق عليه.

فهــا هنــا نلمــس في قواعــد التعليم ضرورة توافـر الأساس العقدي، وهـو ما درجنا على تسميته بالأساس الفلسفي أو الإيديولوجي، وهـو هنـا الإيمـان بـا لله وبرســالة رسـوله، ثم توافر التنظيمـات المجتمعية التي تقيم العدل بين الناس.

وتشيـر كثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجموعة من المبــادئ والقواعد التي تعـد موجهات ضرورية في إعداد المعلم، فمن ذلك:

العدل بـين التلاميذ، وهذا نستنبطه مـن قولـه صلى الله عليه وسلم : »اعدلــوا بين أولادكــم في النِحــل، كمــا تحبون أن يعدلــوا بينكم في الــبر واللطـف«، أخرجــه مســلم في صحيحه، كتاب الهبـات.

وعن الحسن قـال: »بينما رسـول الله صلى الله عليه وسلم  يحدث أصحابـه إذ جاء صبي، حتى انتهى إلى أبيه في ناحيـة القــوم، فمســح رأسه وأقعده على فخذه اليمنـى. قال: فلبث قليلاً، فجاءت ابنــه له حتى انتهت إليه، فمسح رأسها، وأقعدها في الأرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : »فهلا على فخذك الأخرى؟« فحملها على فخذه الأخرى، فقــال صلى الله عليه وسلم : » الآن عدلــت« (ابـن أبـي الدنيا، ص 113).

وامتــد العدل ليشـــمل العدل بــين الذكـور والإنــاث، فقـد روي عن ابـن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: »من ولد له ابنة فلـم يئدها، ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها – يعني الذكور – أدخلــه الله بها الجنة« أخرجــه أبو داود في سننه، كتاب الأدب.

الرأفة على التلاميذ والرأفة بينهم، وهذا مـا نفهمه مما رواه أبو هريرة من أن الأقرع بـن حـابس أبصر النـبي صلى الله عليه وسلم وهو يقبل حفيــده الحسين، فقال: » لي عشرة من الولد، مـا قبلت واحدًا منهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : »إنـه من لا يرحم لا يُرحم«، أخرجـه البخـــاري في صحيحه، كتـاب الأدب.

كذلك روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بكاء الحسن أو الحسين، فقام إليه فزعاً، ثم قــال: »إن الولد لفتنة. لقد قمت وما أعقل« (ابن أبي الدنيا، ص180).

وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : »مـن لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنـا، ويعرف لعالمنـا، فليـس منـا«، أخرجـه الترمذي في “جامعه”، كتابب البر.

وعـن أبي هريـرة أن، النبي صلى الله عليه وسلم كــان يصلـي فيســـمع صوت صبــي، فيخفف الصلاة (ابن أبي الدنيا، ص184).

وعـن أبي سـعيد الخدري قـال: جاء صبي – قـد سمــاه – إلى رســول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فركب على ظهره فأمسكه بيده ثم قـام وهو علـى ظهره، ثم ركـع، ثم أرســله فذهـب (ابن ابي الدنيــا، ص192).

وعـن أبي قتــادة أن النبي صلّــى وهو حــامل أمامــة بنت زينـب، فــإذا ركع وضعهــا، فــإذا قــام رفعهــا (أخرجه البخاري في صحيحه، باب رحمة الولد).

وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: كــان رســول الله صلى الله عليه وسلم يؤتـى بالصبيان فيدعو لهم، ويُبرّك عليهم، فأتى بصبي، فبـال عليه، فدعــى بمـــاء فأتبعـــه إياه. (أخرجــه البخاري في صحيحــه، كتاب الدعوات).

وعن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال »إني لأقوم في الصـلاة – وأنـا أريد أن أطولها – فــأسمع بكــاء الصبي فأتجوز في صلاتي حتى لا أشق على أمه« (أخرجه البخــاري في صحيحــه، كتـاب مواقيت الصلاة).

ضــرورة التــأديب والتعليم: فعن عمرو بـن سـعيد بن العـاص قـال: قـال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: » ما نحل والد ولدًا نحلاً (أي عطيــة) أفضل من أدب حســـن« (أخرجه الترمذي في جامعه).

وعن جـابر بـن سَــمُرة، قـال: قـال رســول الله صلى الله عليه وسلم : »لأن يؤدب الرجل ولــده خير لــه مــن أن يتصدق كــل يوم بنصف صــاع«، وهـو وإن كـان حديثًا ضعيفًــا إلا أن معنــاه ليـس غريبــًا على رسول الله.

الواقعيـة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جـاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسـألون عن عبادة النبي، فلمـا أخبروا كأنهـم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ، قد غفر له ما تقدم وما تأخر، قال أحدهم: أمـا أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقـال آخر: وأنا أصوم الدهر لا أفطر، وقال آخر: أن، أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: »أنتم الذين قلتم كذا وكـذا؟ أمـا والله إني لأخشــاكـم لله وأتقـاكـم لـه، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقـد، وأتزوج النســاء، فمــن رغب عـن سـنتي فليس مني« (صحيح البخاري، ج7).

وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »يـا أيهـا النـاس، عليكـم من الأعمـال ما تطيقون، فــإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله مـا دوم عليه وإن قل«. (صحيح مسلم، ج2).

مقومات الإعداد لممارسة التعليم:

تأتي قضيــة الاختيــار في مقدمــة الخطوات التي تتبـع عمليـة الإعداد، فهي أشـبه بعملية اختيـار نوعيـة معينـة على ســبيل المقـال مـن الأرض حتى يمكن أن نضمـن إلى حد كبير الشرط الأول في أن تؤتى عملية فلاحة الأرض أكلها.

ولعل مـا يؤكد لنـا أهميـة التدقيق في توافر الشـروط والمواصفـات الأساسـية لحسـن قيـام المعلم بمهمــة التعليم، ذلك الحــرص الواضــح في الأدب الـــتربوي الإســلامي على ضرورة العنايــة باختيار المعلم »الصـالح«، والصـالح هنا يعني من تتوافر فيه جملـة الخصـائص والمواصفات التي سوف نعرض لها بعد قليل، و كان الصحابة رضوان الله عليهم، والسـلف الأول حريصين كل الحـرص على اختيار المعلم الصـالح لأطفالهم، وكانوا يعنون به عناية فائقة، ولهم ولع شديد به؛ لأنه هو المرآة الـتي يراها الطالب فتنطبـع في نفسه وعقلـه، وهو مصدر التلقي للطفل. ومن شـدة اهتمامهم بـه أنهم كانـوا ينصحون أبنـاءهم في أخذ الأدب قبـل العلم، وإذا مـا تطلب الأمر الرحلة والسفر للوصول إلى المعلم الصــالح، فهذا حبيـب إلى قلوبهم، سـهل على نفوســهم، يتلقونه بصدر رحــب، بلا مشقة أو أي صعوبة، ومعلوم أن الرحلة والسفر لهما أعباؤهما الماليـة على الأبوين، ولكــن ســبيل بنــاء المتعلم والأولاد أمر يهــون عليه كل مال، و كـل غال ونفيس (سويد، ص224).

وروي أن عتبة بن أبي سفيان قال لمؤدب ولــده: يــا عبد الصمد، ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينـك، فالحســن عندهم مــا استحســـنت، والقبيــح عندهــم مــا استقبحت.

ونقل الزرنوجي عن أبي حنيفة أنه سمع حكيمًــا مـن حكمـاء سمرقند، قال إن واحدًا من طلبـة العلــم شــاورني في طللب العلم، وكـان قد عزم على الذهاب إلى بخـــارى لطلــب العلــم، والمقصــود المشــاورة هنــا: الســؤال عن أفضل من يمكن أن يتلقى منه العلـم (الزرنوجي: ص72). وزاد الحكيم المشـار إليه في أهمية عدم التعجــل في اختيــار المعلــم والبحث عمــن هـو أصلــح، مهمــا طــالت مدة البحث والمشـــاورة، فقال: إذا ذهبت إلى بخــارى، فـلا تعجــل في الاختــلاف إلى الأئمة، وامـكــث شــهرين حتـى تتـأمل وتختــار أستاذًا، إن ذهبـت إلى عالم وبـدأت بالسـبق عنده، فربما لا يعجبك درســه فتتركــه فتذهب إلى آخـر، فلا يبــارك لـك في التعلــم (الزنوجي، ص 74). فتــأمل في شـــهرين في اختيــار الأستاذ، وشاور حتى لا تحتاج إلى تركه والإعراض عنـه فتثبــت عنده حتى يكون تعلمــك مباركًــا وتنتفــع بعلمــك كثيــرًا. هكذا يعلــق الزرنوجي على نصيحة ذلك الحكيــم.

وإذا كــان العمل على توفــير الشروط والمواصفات المطلوبة من المعلم بعتمد في البداية علــى الجهد الذاتي، إلا أنــه تطور يعــد ذلـك إلى أن يكــون جهــدًا مقصودًا على يد نخبــة من العلمــاء والشيوخ ذوي الســبق في التجربــة والعلم، ويدلنـا على ذلك نظام »الإجــازات العلميــة« الذي كـان المعلم يحصــل بمقتضاه علــى ما يدل على أهميتــه لأن يذيــع مــا تعلمــه على الآخرين، ويشير »قمبر« إلى أمثلة لبعض مــن »تــأهلوا« للتعليم والتدريس (قمبر، ص104):

يقول سراج الدين القزويني م/ 750 هـــ : »تــأهلت«، ثــم »وُليت« تدريس المدرســـة الثقتيــة ببـــاب الأزج في بغداد. وهــذا التــأهيل الذي يشير إليه القزويني كــان يــأخذ من نوابغ الطلب’ سنين حتى يستحكم ويثمر.

ويقول أبو إسحاق الشيرازي م/ 476 هــ: »لازمت مجلســه “أي مجلس أبي الطيب الطـبري”، م/ 450 هــ بضع عشرة سنة، ودرّسـت أصحابه في مجلسه بإذنــه، ورتبني في حلقتـــه، وســألني أن أجلس في مجلسه للتدريس، ففعلت …«.

ويمكن، لنا بعد هذا أن نشير فيما يلى إلى عــدد مــن المواصفــات الــتي حـرص التصـور الإســلامي على توافراهـــا فيمن يمارس مهنة التعليم:

1- المعرفة:

ففاقد الشــيء لا يعطيــه، ومن ثم فإذا كان المعلم مطالبًا بأن يُكسـب طلابه ما وصل إليـه من معرفة كان من الضروري أن يكون متمكنــًا مـن هذا الـذي يدعي معرفتــه، وآيــات القرآن الكريــم تجعل »العلــم« أساســًا ضروريًّــا للإيمــان والتصديق والبرهان وإقامة الحجة، وإنارة الطريق المستقيم أمام الإنسان، ونسوق فيمــا يلي بعض الآيــات القرآنيــة، على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:

[قَالَ إنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْـــطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْـــم] (البقرة: 247).

[هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاَجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْم …] (آل عمران: 66).

[نَبَّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين] (الأنعام: 143).

[قُلْ هَـلْ عِنْدَكُــمْ مِنْ عِلْـمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا] (الأنعام: 148).

[وَإِنّـهُ لَذُو عِلْـمٍ لِمَـا عَلّمْنَـاهُ وَلَكِــنَّ أَكْثَرَ الّنـاسِ لاَ يَعْلَمُـون] (يوسف: 68).

[وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم] (الإسراء: 36).

[وَلِيَعْلَمَ الُذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنّـهُ الْحَقُّ مِـنْ رَبَّـكَ فَيُؤْمِنُوا بِــهِ] (الحج: 54).

[وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّن] (النجم: 28).

وقد نبـه المـاوردي (أبو العينين، ص 346) إلى أن علـى المعلـم أن لا يكتفـي بمـا تعلمـه، بل يشترط فيـه غزارة العلـم، وأن يسـتكثر من طلبـه، »إذ العلم أكثر من أن يحيط به بشر، قال تعالى: [وَفَوْقَ كُلَّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم] (يوسـف: 76)، يعني فوق كل ذي علم من هو أعلم منه، حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى«.

ولما كـان من المستحيل على أي عالم مهمـا كـانت قدراتـه ومهارتـه، الإحاطة بعموم العلم ومسائله، فـلا يبتئس المعلم من أن يجد نفسه غير عالم ببعض المسائل، تنزيلــه: [وَمَــا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً] (الإســراء: 85)، دون أن يعني هـذا القعود عن الحـرص على الاستزادة مـن العلم، فمـن أدعيـة القرآن الكريم [وَقُلْ رَبَّ زِدْنِي عِلْمًا] (طه: 114).

ولعل احتفاء القرآن الكريم بالمعرفة الدينية والمعرفة الاجتماعية غير مجهول من أحد، ولكــن القـرآن الكريــم لا يتوقف عند هذين النوعـين، وإنما يهتـم بـالنوع الثـالث وهـو المعرفـة الكونيـة، لكونهـا أساس الاحتياجـات المادية الإنســانية، فنجد الآيات تركز على سنن الله تعالى في الأنفس والآفــاق [وَفِي الأرْضِ ءَايَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُون] (الذاريات: 20،21)، وهذه السـنن هـي أساس المعرفــة الكونيـة من حيـث: خصــائص الكــون، وطبــائع المخلوقــات، وحقــائق الوجـــود، ومقومـــات الوجـــود .. إلخ. (الأسمر، ص 325).

والقرآن الكريم ينطلق في ذلـك من أقوم الأساليب العلمية، حيث يأخذ بزمام الفكر الإنساني في اتجاه صاعد، من المعلــوم إلى المجهــول، ومـن الدقيـق إلى الجليـل، ومـن المعـارف البســيطة إلى المركبة، ومن الجزئية إلى الكلية، فالـذرة الـتي يلفت الأذهان إليهـا على بساطتها هي مادة بناء الكون كله، كما أن الخلية مادة بناء الحياة.

ومن صفـــات العالم في نظر الآجري (ولد 264 هــ) أنه »يعلم أن الله عز وجل فرض عليـه عبادتـه، والعبــادة لا تكــون إلا بعلــم«. إنــه يعلم »أن العلم فريضة عليه«. ومن ناحية أخرى »فإن العالم يعلـم أن المؤمن لا يحسن به الجهل، ومـن أجل ذلـك فهو يطلـب العلم لينفي عن نفسه الجهل« (فؤاد، 154).

ولقد كان شيوخ ومعلمو المستنصرية يتخيرون من كبار المدرسين والشيوخ في العراق والشـام ومصر وغيرهـا من البلاد الإسلامية ممن حصلوا على إسناد عال، أو انتهوا إلى رئاســة العلـم، أو عرفوا بـالبحث والاستقصاء عن الحقائق العلمية في البلاد التي سافروا إليها وبما ألفوا من الكتب القيمــة اللتي ما زالت تعد من المصادر المهمة للثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي، عدا ما أتلف منهـا أو ضاع أثناء الكوارث التي حلت ببغداد عند سقوط الخلافة العباسية بوجه عام معروف، ج1، ص38).

2- التقوى:

وهذا أمر طبيعي بالنسبة لتربية تستند على العقيدة الدينية التي أكدت أن معيار المفاضلة بين الناس بالدرجة الأولى هو مقدار مـا يملأ قلبـه مـن التقوى [إنَّ أَكْرَمَكٌمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم] (الحجرات: 13)، ذلـك أن التقـوى هي التي تضبط السلوك الإنساني بحيث يتجه إلى المعروف وإلى الخير، فرب من حمل علمًا غزيرًا، سخره في الإيقاع بآخرين لتحقيق مصــالح ذاتية بحتة، ورب ذي موقع تعليمي عــال لا يراعي حـق الله وحق الناس.

والتقوى فيما يعرفها البعض »أن لا يراك الله حيث نهاك، وألا يفقدك حيث أمرك« (علوان، ج2، ص 782)؛ ولهذا كـان الحض على التقـوى والأمر بهـا في كثير مـن آيات القرآن الكريم، منها على سبيل المثال:

[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] (آل عمران: 152).

[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا] (الأحزاب: 70).

[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ] (الحشر: 18).

ومن المرجح حقًا أن المعلم إذا لم يكن متحققًا بالتقوى، وملتزمًا في سلوكه ومعاملته منهج الإسلام، فإن الطفل – غالبًا – ينشأ على الانحراف، ومن هنا فقد أوجب بعض المربين الإسلاميين، تطبيقًا لمبدأ التقوى، على المعلم أن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى بأشغاله واشتغاله لا لمال ولأجرة أو شهوة أو سمعة (العلموي، ص 89).

ويعلق ريبيرا على اهتمام المربين المسلمين بضرورة التقوى والتدين بالنسبة للمعلم قائلاً (ريبيرا، ص 113) : »والتدين بداهة ليس شرطًا في القدرة على التدريس، ولكنه ضروري؛ لأن عملية التعليم نفسها تتطلب أن يكون هناك من يرغب في التعلم، ومجرد الشك في التدين الأستاذ يذهب بالطالب بعيدًا عنه، وإذن، فلكي تكون أستاذًا لابد أن يتوافر لك هذا الشرط الخارجي«.

ولأن الدراسات الدينية كانت هي الغالبة على دروس المعلمين، وكانت هناك اجتهادات اختلفت باختلاف المذاهب، حرص طلاب العلم على التزام المعلم الذي يفقه في المذهب الذي يؤمنون به، وربما انصرفوا عنه إذا لم يكن كذلك، ويتبين لنا هذا مما رأيناه من حرص طلاب العلم في الأندلس على تلقيه من المؤمنين بالمذهب المالكي، حيث كان هو المذهب الرسمي للدولة، وما أكثر الذين جاءوا من المشرق يفيضون حماسة وأملاً، ويزهون بما حمولا من جديد تعلموه، وعلى وعد مع أنفسهم بأن يجعلوا منه مصابيح مضيئة، فلما بدأوا دروسهم، واستشف الطلاب اتجاههم، أصبحوا وحدهم لا يجدون من يسمع عنهم.

ولتأكيد ضرورة التوجه الديني في إعداد المعلم، يسوق »الشوكاني« عددًا من التشبيهات تقترب كثيرًا من تلك القاعدة المعروفة في عالم الاقتصاد حيث تطرد العملة الردئية العملة الجيدة، فلو كان لدينا قدر كبير من الماء العذب الصافي، ثم جاء واحد من الناس وألقى فيه قدرًا يسيرًا من الماء المالح، فهو لابد مذهب بما كان عليه من العذوبة والصفاء، بل لو أن ذبابة واحدة حطت عليه تلوث واكتسب قذارة واضحة، كذلك العلم الطيب المتجه إلى خدمة الشريعة الإسلامية، لو شابه قدر ولو قليل من الأغراض الشخصية البحتة، أو قصد به نفع دنيوي، طاعت قيمته، بل وتعطلت وظيفته، وقد قال تعالى: [وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ] (البينة: 5)، فقيد الأمر بالعبادة بالإخلاص الذي هو روحها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: »>إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى« (الشوكاني، ص 17).

3- الأخلاقية:

وكــان هـذا الجـانب خطير المكانة، وهو قرين الشرط والخاصية السابقة، فالتقوى بـالضرورة تنطوي على حسن الأخلاق ومكارمها، ولكننا أفردنا للبعد الخلقي جزءًا خاصًّا حيث أن البعض يختزل »التقوى« في العبادات وحدها دون »المعاملات«.

كذلك فإن »المعرفة« إذا كانت مما يمكن للطالب أن يحصله بنفسه من خلال الكتب والمعلمين، إلا أن »الأخلاق« لا تكتسب إلا من خلال المخالطة والمعاشرة والقدوة والممارسة والتجربة، ومن خلال البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، إن كانت خيرًا فخيرًا، وإن كانت شرًّا فشرًّا.

وقد أوجب الغزالي على المعلم، لكي يشتغل بالتعليم تطهير الجوارح، ففي رأيه أن تحصيل العلم هو من فروض الكفايات التي لا ينبغي أن تسبق ما هو فرض عين من فروض العلم والعمل، وهي تطهير الجوارح من الآثام و تطهير الباطن من الصفات المهلكة من الكبر والحسد والرياء والعدواة والبغضاء و سائر الصفات المذمومة (أسماء، ص 133).

وحذر النووي المعلم من الحسد والرياء والإعجاب، واحتقار الناس وإن كانوا دونه بدرجات، وهذه أدواء وأمراض يبتلى بها كثير من أصحاب الأنفس الضعيفة، وطريقة في نفي الحسد أن يعلم أن حكمة الله تعالى اقتضت جعل الفضل في هذا الإنسان فلا يعترض ولا يكره ما اقتضته الحكمة، وطريقه في نفي الرياء أن يعلم أن الخلق لا ينفعونه ولا يضرونه حقيقة فلا يشتغل بمراعاتهم، وطريقه في نفي الإعجاب أن يعلم أن العلم فضل من الله، فإن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء بأجل مسمى (النووي، ص30).

ولقد حظيت »القدوة« باهتمام بالغ من قبل المربين المسلمين قديمًا وحديثًا لجليل خطرها في التكوين الأخلاقي بالذات. ولقد علم الله سبحانه وتعالى – وهو يضع ذلك المنهج المعجز – أن لابد من ذلك للبشر، لابد من قلب إنسان يحمل المنهج ويحوله إلى حقيقة، لكي يعرف الناس أنه حق ثم يتبعوه، لذلك بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ليكون قدوة للناس فقال في كتابه المجيد: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة] (الأحزاب: 21).

إنه لا يعرض عليهم هذه القدوة للإعجاب السالب والتأمل التجريدي في سبحات الخيال، وإنما يعرضها عليهم ليحققوها في ذوات أنفسهم، كل بقدر ما يصبر على الصعود، ومن ثم تظل حيويتها دافقة شاخصة، ولا تتحول إلى خيال مجرد تهيم في حبه الأرواح دون تأثر واقعي ولا اقتداء (قطب، ص 228).

جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه شيئًا فأعطاه، ثم قال: أحسنت إليك؟ قال الأعرابي: لا ولا أجملت، فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم النبي، ثم قام ودخل المنزل، وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئًا، ثم قال له: أحسنت إليك؟ قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا. فقال له صلى الله عليه وسلم : إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك، قال: نعم، فلما كان الغد أو العشي، جاء، فقال صلى الله عليه وسلم : إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، فزعم أنه رضي، أكذلك؟ قال: نعم، فجزاك لله من أهل عشيرة خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مثلي ومثل صاحب ناقة شردت عليه فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورًا، فناداهم صاحبها: خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه لها بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه، دخل النار (هاشم: ص 27).

وأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمانه العلماء، ليكون العلم موطن ثقة بين الناس يطمئنون إلى الأخذ به دونما حاجة إلى إعادة البحث من نقطة الصفر، ومن ذلك قوله:

»تناصحوا في العلم، فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله، وإن الله تعالى سائلكم يوم القيامة« رواه الطبراني.

» … من أشار على أخيه بعلم يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه« رواه أبو داود، والحاكم.

»إنما الأمور ثلاثة: أمر تبين لك رشده فاتبعه، وأمر تبين لك غيه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فرده إلى عالم« رواه الطبراني.

الخبرة الإسلامية الأولى في الإعداد:

كان الفرد إذا أسلم وجد الحاجة إلى قدر من القرآن يؤدي به الصلاة المفروضة ويتبين منه شيئًا من تعاليم دينه الجديد، ويكون علامة على إسلامه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، أو بعض أصحابه مثل أبي بكر وأبي بن كعب، يتولى إقراء المسلم الجديد هذا القدر المطلوب: سورة الحمد، و سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق، أو سورة مريم، أو سورة البقرة. ولمــا كان القرآن هو المصدر النظري الأول للعقيدة والشريعة و السلوك، فقد كان النبي يحب لكل مسلم أن يعي أكبر قدر منه، فكان يحضهم على تلاوته ويجب إليهم حفظه (خورشيد، ص 108).

وقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون نفرًا من صحابته تفقهوا في الدين، وكانوا قارئين لكتاب الله، عارفين بأحكامه، وبعث منهم عددًا إلى الأمصار يعلمون الناس الدين، وسار على هذا النهج النبوي الخلفاء الراشدون، فأوفدوا عددًا من القراء إلى الأمصار المختلفة، وكانوا يلتقون بالناس في المساجد، ولهم فيها حلقات تعليمية معروفة (قمبر، ص 21).

أطلق المجتمع الإسلامي الناشيء على هؤلاء الرجال اسم »القراء«؛ لأنهم – في رأي ابن خلدون– يقرؤون الكتاب وليسوا أميين؛ لأن العرب كانوا أمة أمية، ولأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة. ويلفت النظر أن هؤلاء المسلمين الذين حرصوا على حفظ القرآن وأمكنهم ذلك لم يصبح لهم كيان متميز ولم يحملوا اسمًا خاصًا في المدينة.

ويوضح الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم بتوليته على بني حارث ابن كعب بنجران سنة 10 هــ الواجبات التي كان النبي يكلف عماله القراء »المعلمين« إياها، ومن أهمها:

-تبشير الناس بالخير وأمرهم به.

-تعليم الناس القرآن وتفقيههم فيه.

-نهي الناس أن يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر.

-إخبار الناس بالذي لهم والذي عليهم.

-تبصير الناس بالجنة وبعملها، وبالنار وعملها.

-استئلاف الناس حتى يفقهوا في الدين.

-تعليم الناس الحج وسننه وفريضته.

-تعليم الناس الوضوء والصلاة.

-أخذ خمس الله من الغنائم (خورشيد، ص116).

وهكذا نجد المعلم في المرحلة الأولى مربيًا مسلمًا بالمعنى الشامل: فهو شخص مستنير، مخلص للدين، متحمس له، ولهذا عهد إليه النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس إلى هذا الدين وتحفيظهم كتابه، وتعليمهم أصوله، كما أسند إليه قيادتهم روحيًّا في الصلاة، وزمنيًّا في الحكم، فهو: داعية، ومعلم، وإمام، وحاكم. فإذا أضفنا إلى هذا أنه كان يقضي بين الناس ويفتيهم (معاذ بن جبل – أبي بن كعب – زيد بن ثابت) تبين لنا أنه قام في المجتمع الإسلامي الناشيء بدور قيادي يتولى فيه توجيه الناس، وتعديل سلوكهم، وصياغة تفكيرهم وتشكيل قيمهم وفقًا لتعاليم الدين الجديد.

وإذا كان هذا الرعيل الأول من المعلمين المسلمين قد سموا »بالقراء«، فإن الأمر لم يستمر على هذه التسمية، ذلك أن الأمية كانت قد بدأت تنحسر شيئًا فشيئًا، وبدأ عدد غير قليل يمارس الكتابة وتأليف الكتب، وأصبح هناك علم ضخم يبرز في سماء المعرفة هو »الفقه«، وهذا وذاك أدى إلى استبدال تسميتي »الفقهاء« و »العلماء« بــ »القراء«.

ولعل سبب التسمية »بالفقهاء« أن حامل العلم بعد أن، شاع حفظ القرآن الكريم، أصبح مطالبًا بأن »يفقَّه« غيره من المسلمين. صحيح أن »المدرسة« قد يدأت في الظهور في أواخر القرن الرابع الهجري لتشارك المسجد في دوره التعليمي، مما يوحي بدخول علوم ومعارف أخرى غير علوم الشرع، إلا أن عددًا غير قليل من هذه المدارس استمر يعنى بعلوم الشرع، مما أتاح الفرصة لاستمرار قيام »الفقيه« بمهمة التعليم. وأكثر من ذلك أن معلم الكتاب ظل يسمى حتى فترة متأخرة من القرن العشرين الميلادي »بالفقيه« و التي كانت تنطق – اختصارًا – فقي !

وكما أشرنا من قبل فإن الفرق لم يكن بارزًا بين »المعلم« و »العالم«، خاصة وأن الغالب على معرفة »العالم« على العالم بها أن »يفهمها« الناس، مما أتاح الفرصة لأن يكون لفظ »العالم« من الألفاظ التي تسمى بها كثير من المعلمين، ولعل هذا يفسر لنا تسمية »ابن جماعة« كتابه بـــ (تذكرة السامع والمتكلم، في أدب العالم والمتعلم)، فهذا التقابل بين »العالم« و »المتعلم« يؤكد لنا أن المقصود بالعالم هنا هو »المعلم«، ومن الألقاب التي تسمى بها المعلم كذلك »الشيخ«، وكانت تخص في البداية هؤلاء الكبار من العلماء الذين »شاخوا« في طلب العلم، واستغرق ذلك من عمرهم سنين طويلة، ومن هنا فإن »شيخ« الفرع المعلّم هو أستاذه، وكان هذا اللقب أكثر شيوعًا بين المتصوفة، فالشيخ هو المعلم، والمريد هو التلميذ. وفي سنوات لاحقة أصبح اللقب وكأن المقصود به علماء الأزهر، وإن كان استعماله قد اتسع ليعني معنى »إداريًّا« فيقولون: شيخ المعهد، أي مديره ورئيسه (قمبر، ص 113).

أما لقب »المعلم«، فقد كان معروفًا في وقت مبكر، حتى لقد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: »إنما بعثت معلمًا«، دون أن يعني بذلك المعلم الفني التربوي الذي نعنيه اليوم عندما أحدًا بأنه »معلم«، حيث ينصرف إلى اختصاصه بتعليم فرع معين من المعرفة للتلاميذ، بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم »معلمًا« بالمعنى الثقافي، مما جعل منه مصدرًا للهداية والرشاد والقيادة التربوية، ومن هنا نجد ابن سحنون يسمي كتابه (آداب المعلمين)، ويسمى »القايسي« كتابه (أحوال المعلمين، وأحكام المعلمين والمتعلمين).

وعرف الأدب التربوي الإسلامي أيضًا تسمية البعض »بالمؤدب«، نسبة إلى »التأديب«، وهي تعني ما نعنيه بكلمة التربية.

وشاع في العهد العثماني بصفة خاصة تسمية معلم الصغار بــ »الخوجة«.

وشاع أيضًا لقب »المدرس«، ويبدو أن ظهوره قد ارتبط بظهور »المدرسة«.

أما »المعيد« فقد أطلق على التلميذ المتقدم الذي يعنه المعلم كى يعيد بعض ما غمُض من شرحه على التلاميذ أو الإجابة عن بعض تساؤلاتهم.

ولو تصفحنا مصدرًا واحدًا مثل (الدرر الكامنة) لابن حجر العسقلاني، فسوف نجد عددًا غير قليل من العلماء المعلمين في كل حقل من حقول المعرفة، وعلى سبيل المثال:

-فهذا »محمد بن عبد الله المصري الحنفي شمس الدين بن تاج الطبيب« قد وليَّ تدريس الأطباء بالجامع الطولوني، ومات في شوال عام 772 هــ (ابن حجر، ج4، ص 94).

-و »يحيى بن أحمد بن إبراهيم الغرناطي أبو زكريا فيلسوف الأندلس، قال ابن الخطيب: »وهو خاتمة العلماء في الطب والهندسة«، »… وقعد في مدرسة يقريء الطب وغيره« (ابن حجر، ج5، ص 187).

-وفي علوم اللغة أحمد بن على ابن أحمد الهمداني، ثم الكوفي الحنفي فخر الدين الشهير بابن الفصيح (ولد سنة 680 هــ)، يذكر المؤرخون أنه كان كثير الإحسان إلى الطلبة بنفسه وماله، وكذلك ذكروا عنه أنه »كان كثير التودد لطيف المحاضرة«.

ونحن إذ نلفت النظر إلى هاتين الخصلتين، إنما لنؤكد في التربية الإسلامية لم تقف عند حد »إتقان« العلم والبراعة فيه، بل جمعت إلى ذلك المهارة في »التربية«، أي في طرق التعليم والتدريس (ابن حجر، ج1، ص 218).

-ووجدت »الموسيقى« مكانًا في قائمة الاهتمام بتعليمها والانشغال بها، فهذا محمد بن عمر المازني الدهان، كان عارفًا بالغناء و جيد اللعب بالقانون، وأعد مكانًا بربوة وزخرفه فكان يجتمع فيه عنده الظرفاء ويأخذ أهل الألحان والملاهي، و كان قد اشترى مملوكًا فهذبه وأدبه ورباه وأحبه، فاتفق أن مات، فحزن عليه حزنًا شديدًا ونظم فيه أشعارًا كثيرة، و كان يلحن الأبيات ويغني بها على قانونه على طريق الحزن »فلا يكون له في ذلك نظير« (ابن حجر، ج4، ص 197).

 

 

تصور علماء التربية المسلمين:

وكان من الطبيعي، في ظل هذا الاهتمام الذي تأكد لنا بالمعلم إعدادًا ودورًا ووظيفة في كل من القرآن الكريم والسنة النبوية وجهود السلف الصالح أن تحظى القضية نفسها باهتمام علماء التربية المسلمين في عصور الازدهار الحضاري.

فهؤلاء هم إخوان الصفا يكتبون في رسائلهم (ج4، ص 47): »واعلم أن المعلم والأستاذ أب لنفسك وسبب لنشوئها وعلة حياتها، كما أن والدك أب لجسدك و كان سببًا لوجوده، وذلك أن والدك أعطاك صورة جسدانية، ومعلمك أعطاك صورة روحانية، وذلك أن المعلم يغذي نفسك بالعلوم ويرقيها بالمعارف ويهديها إلى طريق التعليم واللذة والسرور والأبدية، والراحة السرمدية، كما أن أباك سببًا لكون جسدك في دار الدنيا!«.

وعندما تعرض الإخوان للمعارف والعلوم التي ينبغي أن يتغذى بها العالم، لم يقصروها على فرع واحد دون غيره، فالعلوم والمعارف جميعها مطلوبة بقدر طاقة الساعي إلى المعرفة (غباشنة، صفحات متفرقة).

أما الغزالي فله تشبيهات ذات دلالة عميقة في ابراز القيمة والأهمية لدور المعلم، فالمعلم في رأيه يتعامل مع أشرف مخلوق على ظهر هذه الأرض؛ مما يعني بالضرورة سمو المهنة التي تقوم على إكساب هذا المخلوق ما هو ضروري من المعارف والقيم » وأما شرف المحل، فكيف يخفي والمعلم يتصرف في قلوب البشر ونفوسهم، وأشرف جزء من جوهر الإنسان قلبه، والمعلم مشتغل بتكمييله وتجليته وتطهيره وسياقته إلى القرب من الله عز وجل» (إحياء علوم الدين، ج1، ص 222).

وهو يبرز العديد من العلوم التي ينبغي أن يشملها برنامج إعداد العالم، وإن كان يضع المعايير والمستويات التي يفاضل بها بين هذه العلوم وترتيب أولوياتها: »إن شرف الصناعة إنما يكون باعتبار النسبة إلى القوة المبرزة المظهره لها كفضل الحكمة على معرفة اللغات، فإن الأولى متعلقة بالقوة العقلية التي هي أشرف القوى، والأخرى متعلقة بالقوة الحسية، وهي السمع وإما بحسب عموم النفع، كفضل الزراعة على الصباغة، وإما بحسب شرف الموضوع المعمول به كفضل الصباغة على الدباغة« (ميزان العلم، ص 150).

وحرص الغزالي على أن يرشد إلى مجموعة من الأهداف التي ينبغي أن يسعى برنامج الإعداد إلى تحقيقها من خلال وظائف أوجب على المعلم أن يقوم بها وهي (إحياء علوم الدين، ج1، ص 74 – 78):

1- الشفقة على المتعلمين، وأن يعاملهم بنفس النهج الذي يعامل به أولاده.

2- الاقتداء بصاحب الشرع، فلا يطلب على إفادة العلم أجرًا. وبطبيعة الحال فإن مهمة التربية والتعليم التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن تقارن أبدًا بما صارت عليه مهنة التعليم اليوم من حيث هي مهنة ووظيفة تقتضى بالضرورة أجرًا.

3- أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن، ولا يصرح، أي أن يكون بطريقة عرضية غير مباشرة، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ؛ لأن التصريح يهتك الهيبة، ويورث الجرأة من قبل المتعلم على المعلم.

4- ألا يدع من نصح المتعلم شيئًا، وذلك بأن يمنعه من التصدي لرتية قبل استحقاقها، والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من الجلي.

5- أن المتخصص ببعض العلوم لا ينبغي له أن يقلل من شأن غيرها أمام تلاميذه.

6- أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه.

7- أن يتعامل مع المتعلم القاصر بطرقة واضحة وأن يلقي إليه الجلي اللائق به، وأن لا يبين أن وراء هذا تدقيقًا وهو يدخره عنه.

8- أن يكون عامًلا بعلمه.

وإذا كنا نشكو اليوم – في بعض المجتمعات – من هذا التكالب من قبل بعض المثقفين على أصحاب السلطة والمال، مما يضع ما يصلون إليه من آراء وأفكار موضع شك وريبة، ونجد من بين هؤلاء المثقفين أساتذة تربية »يفصلون« الآراء، والقوانين، والقرارات وفقًا لهوى المتربع على قمة سلطة التعليم، فإن مثل هذا المرض، فيما يبدو، مرض قديم في الأمة، فها هو »ابن الجوزي« (510 – 597 هــ) ينعى على علماء عصره أنهم قد أصبحوا – على خلاف ما كان عليه علماء السلف – يسعون إلى صحبة السلطان والأمراء وأرباب المال فدخلوا معهم فيما لا يجوز ولم يقدروا على جذبهم مما هم فيه؛ لذا صار العلماء أذل الناس عند أرباب الأموال، فرغم تواضع العلماء إلا أنهم لطمعهم يذلون أنفسهم، والآخرون لا يحفلون بهم لأنهم يعلمون احتياجهم إليهم (الخولي، ص 46).

إن أهمية هذا في عملية الإعداد تظهر لنا عندما نتذكر أن أساتذة التربية هم معلمو المعلم، وفاقد الشيء لا يعطيه، فإذا أردنا أن ننشيء أبناءنا على العزة والكرامة، تحتم أن يتشرب إعداد المعلم بمناخ على القيم المدعمة لهذا النهج.

أما ابن سحنون (المولود عام 202 هــ ) فيضع كتابًا على درجة عالية من الأهمية، إذ عنونه بـــ (آداب المعلمين) وقصد منه أن يعرض لما يجب أن يكون عليه المعلمين من الصفات وما يجب أن يتأهلوا به من معارف ومعلومات، وما ينبغي أن يتحلوا به من مهارات (حجازي، ص 52).

وعند النظر إلى برنامج الدراسة الذي اقترح ابن سحنون أن يقوم المعلم بتعليمه، ينبغي ألا يغيب عن بالنا، درجة التقدم المعرفي ونوع المعارف الغالبة في زمنه، فهو يقسم البرنامج إلى فئتين: الفئة الأولى هي العلوم الإلزامية، وفي مقدمتها القرآن الكريم، وأركان الإسلام، والفئة الثانية، هي العلوم الاختيارية، والتي منها الحساب، والشعر، والغريب، والعربية، والخط، وجميع النحو (آداب المعلمين، ص 152).

من هنا أوجب ابن سحنون أن يشمل إعداد المعلم الجوانب التالية (حجازي، ص 66):

-حفظ القرآن، ومعرفة أحكام الوقف والترتيل.

-العلم بالفقه ليتمكن من تعليم الصبيان الصلاة وأحكامها، والطهارة وشروطها، وسنن النبي صلى الله عليه وسلم .

-المعرفة بالنحو، ليعلم الصبيان أصول الخط، ومن البديهي أن يكون معلم الخط ذا خط حسن.

-الاطلاع على التراث ليتاح له تحفيظ الصبيان الأشعار الجميلة التي تدعو إلى مكارم الأخلاق، والتحلي بالمكارم الحميدة والنصوص الأدبية الرائعة التي تعينهم على إتقان فن الخطابة.

وفصل »ابن جماعة« 639 – 733 هــــ، ربما أكثر من غيره، الكثير من جوانب إعداد المعلم، لكن ما يستوقفنا أكثر هو تلك المجموعة من القواعد التي حث ابن جماعة لمعلم على الالتزام بها مما يعني ضرورة مراعاة برنامج إعداده لها، مع أهمية الانتباه إلى ما كان شائعًا من عدم التفرقة بين مهمة »العالم« ومهمة »المعلم«، فهو هنا يتعامل مع المعلم على اعتبار أنه »عالم« و»معلم«، ولا ينبغي الاحتجاج بعنوان كتابه من حيث نصه على استخدام مصطلح »العالم« دلالة على أنه لم يقصد بذلك »المعلم«، فاستقراء كل صفحات الكتاب تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه قصد الاثنين معًا.

أما هذه القواعد، فيمكن إجمالها فيما يأتي (عبد العال، ص 142):

-الحرص على الكشف عن الحقيقة، ومن ها فهو يقول: »يذكر الحاضرين بما جاء في كراهة المماراة، ولا سيما بعد ظهور الحق« (ابن جماعة، ص 40).

-كثرة البحث عن الحقيقة: يكشف عن ذلك قوله: »والنظر في مذاهب العلماء سالكًا طريق الإنصاف فيما يقع له« (ص 141)، والاطلاع »على أكثر كتب الفن (موضوع تخصصه) أو المشهور منها بحثًا ومراجعة واطلاعًا» (ص 135، 136).

-الحقيقة ضالة المؤمن، لا يبالي من أي وعاء خرجت: فقد رأى ابن جماعة أن الامتناع عن طلب الحقيقة من أي أحد »عين الحماقة؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها، ويغتنمها حيث ظفر بها، ويتقلد المنة ممن ساقها إليه، فإنه يهرب من مخافة الجهل، كما يهرب من الأسد، والهارب من الأسد لا يأنف من دلالة من يدله على الخلاص كائنًا من كان« (ص 86).

-المرونة العلمية، والتي تتبدي في توافر الاستعداد للتراجع عما كان العالم يراه إذا ظهر له بطلانه. وإذا كان ابن جماعة لم يذكر ذلك صراحة إلا أن ذلك يستفاد من نصحه المعلم أن يقبل الصواب »من مورده على وجهه وإن كان صغيرًا، ولا يترفع عن سماعه فيحرم الفائدة« (ص 42).

-البعد عن القول فيما لا علم له به، حيث يشيع مع الأسف الشديد ازورار عن هذه القاعدة الهامة، حيث نرى كثيرين مولعين بإشعار سامعيهم بأنهم على دراية بأي مسألة، وعلى علم بكل قضية. وبالنسبة للمعلم، فكثيرًا ما يتعرض لأسئلة الطلاب في مواضيع شتى قد يكون بعضها ما يخرج عن اختصاص المعلم، فيستشعر الحرج إن هو أظهر جهله بالمسألة فيقع فيما هو أدهي وأمر: بالإفتاء العلمي فيما يجهل، بينما لا يضير المعلم أن يقول بالنسبة لما لا يعلم أنه لا يدري. »واعلم أن قول المؤول: لا أدري لا يضع من قدره، كما يظنه بعض الجهلة، بل يرفعه؛ لأنه دليل عظيم على عظم محله، وقوة دينه، وتقوى ربه، وطهارة قلبه، ووكمال معرفته، و حسن نيته ..« (ص 43).

-المنهوم الذي لا يشبع: فهكذا طالب العلم، مثله في ذلك مثل طالب المال، وشتان بين المقصدين، يقول ابن جماعة: »وليطالب نفسه كل يوم باستفادة علم جديد، ويحاسبها على ما حصله« ( ص 770).

وبعــــــد …

إن المستقرىء لمختلف ما كتب عن إعداد المعلم بصفة خاصة، والمعلم بصفة عامة، قديمًا و حديثًا لابد أن يلحظ تلك المفارقة بين »المنشود« و »المأمول« وبين »الواقع« و »الحادث«، ذلك أن هذه القضية قد استأثرت بكم من الأوراق لا نظن أن مهنة أخرى قد استأثرت بمثلها، أو حتى بما يقرب منها، لكننا في الوقت نفسه عندما نرتب المهن المختلفة في سلم واحد فسوف نفاجأ بأن مهنة التعليم تأتي في مرتبة متأخرة، فكأن حال المعلم إزاء المجتمع هو أحد المعنيين بقول القائل:

يعطيك من طرف اللسان حلاوة

ويروغ منك كما يروغ الثعلب !!

وهكذا يصبح المطلوب لا مزيدًا من البحث و الدرس حول هذه القضية، ولكن خطوة وراء خطوة سعيًا نحو »تحريك« الواقع قدمًا إلى الأمام، فذلك من شأنه، فضلاً عن تطوير ما يتصل بالمعلم وتحسينه: إعدادًا وتقديرًا ومكانة وأحوالاً، أن يبث دماء جديدة في عروق الفكر التربوي، بحيث يتحول دوره من كونه – الآن – آليه »تنفيس«، إلى أن يكون آليه »تحريك«.

والطريق إلى ذلك أن تعلنها صراحة: أن الكرة في ملعب الإرادة السياسية؛ لأن التطوير والتحريك والتغيير لم يعد بحاجة إلى مزيد بحث، وإنما بحاجة إلى تشريعات وميزانيات ومحاسبات، وقيادات قادرة على التنفيذ وأمانة التنفيذ، وقابلية للمساءلة والمحاسبة.

إن مختلف المجتمعات لا يمكن أن تبخل أبدًا بشأن كل ما يتصل »بالأمن«، ولعمري فإن »الأمن التربوي« هو البنية الأساسية الحقيقية لكل أمن منشود.

 

المراجع

1- القرآن الكريم.

2- ابن أبي الدنيا: كتاب العيال، تحقيق، نجم الدين عبد الرحمن خلف، المنصورة(مصر)، دار الوفاء، 1997.

3- ابن جماعة، بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله: تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، بيروت: دار الكتب العلمية، د. ت، طبعة مصورة عن دائرة المعارف الهندية، 1354 هــ.

4- ابن حجر العسقلاني: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، حققه محمد سيد جاد الحق، القاهرة: دار الكتب الحديثة، 1966.

5- ابن سحنون: كتاب آداب المعلمين، تحقيق: حسن حسني، تونس: دار الكتب الشرقية، 1972.

6- ابن منظور: لسان العرب، القاهرة: دار المعارف، د.ت.

7- أحمد رجب الأسمر: النبي المربي، عمان: دار الفرقان، 2001.

8- أحمد عمر هاشم: المنهج النبوي في تعليم المسلمين، القاهرة: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، (كتب إسلامية، 158)، يونيو 1974.

9- إخوان الصفا: الرسائل، إعداد وتحقيق: عارف تامر، بيروت: منشورات عويدات، 1995.

10- أسماء حسن فهمي: مبادىء التربية الإسلامية، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1947.

11-  أنور الجندي: تأصيل مناهج العلوم والدراسات الإنسانية بالعودة إلى منابع الفكر الإسلامي الأصيل، بيروت: منشورات المكتبة العصرية، 1983.

12- البهي الخولي: آدم عليه السلام، القاهرة: مكتبة وهبة، 1974.

13- حسن إبراعيم عبد العال: فن التعليم عند بدر الدين بن جماعة، الرياض، مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1985.

14- خالد علي محمد غباشنة: مقارنة بين نموذجي الفكر التربوي عند إخوان الصفا والغزالي، إربد (الأردن): كلية التربية، جامعة اليرموك، 2003 (رسالة دكتوراه).

15- ريبيرا، خوليان: التربية الإسلامية في الأندلس، ترجمة: الطاهر أحمد مكي، القاهرة: دار المعارف، 1981.

16- الزرنوجي، برهان الإسلام: تعليم المتعلم طريق التعلم، تحقيق: مروان قباني، 1981.

17- سعيد إسماعيل علي: ديموقراطية التربية الإسلامية، القاهرة: عالم الكتب، 1982.

18- سعيد إسماعيل علي: الأصول الإسلامية للتربية، القاهرة: دار الفكر العربي، 1992.

19- سعيد إسماعيل علي: رؤية إسلامية لقضايا تربوية، القاهرة: دار الفكر العربي، 1993.

20- سعيد بن محمد بواهروة: البعد الزماني و المكاني وأثرهما في التعامل مع النص الشرعي، عمان: دار النفائس، 1999.

21- شفيق محمد زيعور: الفكر التربوي عند العلموي، بيروت: دار اقرأ، 1986.

22- الشوكاني: أدب الطالب، صنعاء: مركز الدراسات والبحوث اليمنية، 1979.

23- طه جابر العلواني: إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم، القاهرة: المعهد العالي للفكر الإسلامي، 1996.

24- عبد البديع عبد العزيز الخولي: التربية والتعليم عند ابن الجوزي، القاهرة: عالم الكتب، 1991 (سلسلة قضايا تربوية 7).

25- عبد الجبار حمد عبيد السبهاني: الاستخلاف والتركيب الاجتماعي في الإسلام، عمان: دار وائل للنشر، 2003.

26- عبد الحميد أبو سليمان: النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية، ترجمة: ناصر أحمد المرشد البريك، نشر في المملكة العربية السعودية بإذن خاص من المعهد العالمى لفكر الإسلامي، 1993.

27- عبد الحميد الصيد الزناتي: أسس التربية الإسلامية، ليبيا: الدار العربية للكتاب، 1984.

28- عبد الرحمن عثمان حجازي: المذهب التربوي عند ابن سحنون، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1986.

29- عبد العال سالم مكرم: الفكر الإسلامي بين العقل والوحي، بيروت: مؤسسة الرسالة، د. ت.

30- عبد الفتاح أحمد فؤاد: في الأصول الفلسفية للتربية عند مفكري الإسلام، الإسكندرية: منشأة المعارف، 1983.

31- عبد الله بن حمدان الدهماني …  محددات السلوك الإنساني والتنظيمي, مسقط: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية: سلطنة عمان, 1999.

32- عبد الله خورشيد البري: القرآن وعلومه في مصر, القاهرة: دار المعارف, 1969.

33- عبد الله علوان: تربية الأولاد في الإسلام, بيروت: دار السلام, 1981.

34- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء, بيروت: دار الفكر, د.ت, ط2.

35- علي خليل أبو العينين: قراءة تربوية في فكر أبي الحسن البصري الماوردي, من خلال كتاب أدب الدنيا والدين, القاهرة: دار الفكر العربي, د.ت.

36- علي عبد العظيم: فلسفة المعرفة في القرآن الكريم, القاهرة: مجمع البحوث الإسلامية, سلسلة البحوث الإسلامية (65), 1973.

37- عمر التومي الشيباني: مفهوم الإنسان في الفكر الإسلامي, مصراته (ليبيا): دار الجماهيرية للنشر والتوزيع, 1987.

38- الغزالي, أبو حامد: إحياء علوم الدين, القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى, د.ت.

39- الغزالي, أبو حامد: ميزان العمل, نقد وشرح علي بو ملحم, بيروت: دار ومكتبة الهلال, 1975.

40- الغزالي, بو حامد: أيها الولد المحب, جمعها وعلق عليها: عبد الله أحمد أبو زينة, بيروت: دارالشرق, 1982.

41- مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط, القاهرة.

42- محمد أحمد الحوفي: مع القرآن الكريم, القاهرة: دار نهضة مصر, 1974, ج2.

43- محمد خلف الله أحمد (محرر): الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة, مجموعة البحوث التي قدمت لمؤتمر برنستون للثقافة الإسلامية, القاهرة: النهضة المصرية, 1962.

44- محمد رشيد رضا: تفسير القرآن الكريم (تفسير المنار), القاهرة: دارالمنار, 1373هــ.

45- محمد زرمان: وظيفة الاستخلاف في القرآن الكريم, دلالاتها وأبعادها الحضارية, عمان: دار الأعلام, 2002.

46- محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة, دمشق, دار الفكر, 1980, ط 8.

47- محمد الصادق إبراهيم عرجون: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم, دمشق: دار القلم, ج1, 1995.

48- محمد فؤاد عبد الباقي: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم, استانبول (تركيا): المكتبة الإسلامية, 1984.

49- محمد قطب: منهج التربية الإسلامية, القاهرة: دار القلم, د.ت, ط 2.

50- محمد نور سويد: منهج التربية النبوية, الكويت: مكتبة المنار الإسلامية, 1988.

51- محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة, القاهرة: الإدارة العامة للثقافة الإسلامية, 1959.

52- محمود قمبر: دراسات تراثية في التربية الإسلامية, الدوحة (قطر): دار الثقافة, 1985.

53- منير حميد البياتي: حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون, في (جامعة الزرقاء الأهلية, مؤتمر حقوق الإنسان في الشريعة والقانون, التحديات والحلول), الزرقاء/ الأردن, 2001.

54- ناجي معروف: تاريخ علماء المستنصرية, القاهرة, دار الشعب, 1976.

55- نظمي لوقا: محمد في حياته الخاصة, القاهرة: مكتبة غريب, د.ت.

56- الإمام النووي: آداب العالم والمتعلم, طنطا (مصر): مكتبة الصحابة, 1987.

57- يوسف القرضاوي: الإيمان والحياة, بيروت, مؤسسة الرسالة, ط 4.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر