مقدمة :
يناقش هذا البحث أربع نقاط أساسية :
الأولى : تتعلق بتأصيل القيم : بين واقع القيمة وأخطاء التنظير وذلك في محاولة لرد الاعتبار المنهجي للقيم ودراستها.
الثانية : تتعلق بتأصيل القيم : المفردات والعناصر في محاولة إبراز هذا التأصيل ضمن منظومة كلية ، وشبكة علاقات مهمة بين تلك المفردات ، وتتكون هذه المفردات من مستويات للقيم : أولها يتعلق بالتأسيس (العقيدة – الشريعة – قيم التأسيس) ، وثانيها : يتعلق بالمجال (الأمة – والحضارة) ، وثالثها : يتعلق بقيم السعي والوعي (السنن والمقاصد) ، وتتفاعل المستويات الثلاثة ضمن منظومة كلية وشبكة التفاعلات التي تحرك هذه المفردات نحو آليات التفعيل ونماذج التشغيل.
الثالثة : تتعلق بإمكانيات وآليات التفعيل من خلال إمكانات القراءة الجامعة ، في المناهج والوسائل وغير ذلك من أمور ، نحن أمام ناظم معرفي يتمثل في الجمع بين قراءتي الوحي والكون ، والنص والواقع ، المعيار والحركة ، وأصول الاجتهاد والفكر والتجديد (مولد) ، وأصول الفقه الحضاري ، المكون والمؤسس لمنظور حضاري متكامل ، والجمع بين عناصر الفهم الضابط بين (فقه الحكم / الواقع / التنزيل) والمنهج الواصل والضابط فيما بينهم جميعاً. ويأتي في النهاية المجال الذي يتمثل في السياسة والعلاقات الدولية.
الرابعة : تتعلق بنماذج التشغيل والتي تتحرك صوب نماذج متعددة لا يهدف البحث إلى تأصيلها تفصيلاً ولكن يشير إلى إمكانات هذا المدخل المتعلق بالقيم ودراسة العلاقات الدولية في الإسلام.
النماذج بعضها ينتمي إلى دائرة التأسيس (أولها : تأسيس العلاقة والدعوة. ثانيها : تصنيف الدور ورؤية العالم. ثالثها :النسخ وبناء الرؤية الجهادية. رابعها : تنازع القيم : محاولة تفسيرية للحرب خدعة. خامسها : ثم يقع البناء المفاهيمي ، نموذج مفهوم القوة وإعادة البناء. وأخيراً : تأتي إمكانات استثمار قواعد تحليل النصوص في هذا المقام).
ثم نتحرك بعد ذلك صوب نماذج التشغيل التي تؤصل عناصر الوعي والسعي ، وأهمها على وجه الإطلاق : أصول النموذج الإرشادي المقاصدي ، وذلك في ضوء توضيح جملة من النماذج الفرعية المتولدة عنه :
الأول : ميزان المصالح إطار منهجي للتعامل مع أحداث التعامل الدولي.
الثاني : الإمكانات المتاحة لتحليل الفتاوى المتعلقة بعالم الأحداث المرتبط بوقائع التأمل الدولي في التاريخ الإسلامي والمعاصر.
الثالث : تأصيل نظرية إسلامية لحقوق الإنسان من ذلك المنظور تملك قدرات بنائية وتأسيسية ومعيارية ونقدية.
وأخيراً : يمكننا ضمن نماذج التشغيل أن نشير إلى إمكانات تعلق هذه النماذج بالمجال الذي يتعلق بالواقع بامتداداته الماضية ، والمعاصرة والمستقبلة. وهو ما يعني الإشارة إلى نماذج أخرى أهمها :
الأول : النماذج التاريخية ودراسة التاريخ السياسي للعلاقات الدولية والتعاون الدولي للمسلمين في إطار يمثل إثبات هذه الحلقات التنظيرية واستخدام التاريخ واستثمار مواده في هذا المقام والإمكانات التنظيرية التي يتيحها ذلك العمل.
الثاني : النماذج المعاصرة في تقويم عوالم الأحداث والأفكار المتعلقة به ضمن سياقات متعددة.
الثالث : الدراسات المستقبلية والإمكانات التي يتيحها أصول التفكير السنني في هذا المقام ومحاولة إضفاء الطابع العلمي على تلك الدراسات في إطار تواصلها مع التاريخ وذاكرة عالم الأحداث من ناحية ، ومحاولة تفسير الحدث من ناحية أخرى ، ثم إمكانات التدبر السياسي في إطار دراسات المستقبل لعالم الأحداث في تفاعلها وتوافقها وتداخلها.
ونختم كل ذلك بخاتمة تحاول أن تجعل هذا التأصيل مقدمة لدراسة واقتراح أجندة بحثية ممتدة ، وتحاول أن تجعل هذا المشروع حلقة بحثية أولى لابد أن تستدعي حلقات أخر لتفصيل هذا المنظور ، سواء في هذا البحث أو غيره مما يتلوه من بحوث تفتح الباب لفهم أعمق وأدق وأشمل من الناحية المنهجية والبحثية والعملية*.
خريطة البحث يمكن تخطيطها في الأشكال التالية :
إشكالية القيم بين التهميش والتأصيل
القيم ماهي؟ أي قيم؟ رد الاعتبار للقيم : كيف؟ إعادة بناءالمفهوم : لماذا؟
إمكانية التفعيل وحقائق التأصيل ، الضرورات المنهجية ونسق القيم
القيم مرتكز في البنية المعرفية ونسقها
القيم إطار مرجعي
|
القيم نسق قياسي
|
القيم نموذج إرشادي |
القيم رؤية للعالم |
القيم مدخل منهجي وتحليلي |
منهج تناول |
|
منهج تعامل |
|
منهج نظر |
عالم أفكار عالم أشخاص – عالم أشياء – عالم أحداث |
||||
القيم بين رؤى التهميش ورؤى التأصيل |
||||
رؤى التأصيل في التناول الغربي |
|
|
|
رؤى التهميش في التناول الغربي
|
رؤى التأصيل في التناول العربي والإسلامي
|
|
رؤى التهميش في التناول العربي والإسلامي |
||
|
ضرورات رد الاعتبار للقيم
|
|
||
|
إعادة بناء مفهوم القيم تطوير القدرات واستثمار الإمكانات
|
|
||
لبنات البناء القيمي آليات التفعيل القيمي نماذج التشغيل القيمي |
||||
لبنات البناء القيمي آليات التفعيل القيمي نماذج التشغيل القيمي |
شكل يصعب رفعه على الموقع (لبنات البناء القيمي)
شكل يصعب رفعه على الموقع (آليات التفعيل القيمي)
مدخل القيم : الإشكالية ومحاولة التأصيل :
1. الإشكالية :
إن معظم ما يحرك النظر للقيم وأدوارها وإمكانات توظيفها إنما يعود إلى سببين مهمين ، قد يفعل أحدهما وقد يتفاعلان ، يقع في مقدمتها سبب يتعلق بواقع القيمة الذي يسير نحو التهميش لعناصر التأثير القيمي في حركة الحياة : تدبيراً وتأثيراً وتغييراً وتقويماً.
أما السبب الثاني فيتعلق بأخطاء التنظير التي تكمن في تصورات كلية من الواجب إعادة النظر في مكوناتها وعناصرها ومتعلقاتها ، وما يترتب عليها من إلزامات.
وبين هذا وذاك تكمن الإشكالية الكبرى الدائمة التي تستعصي في بعض أحوالها على الحل ، إنها واحدة ضمن الأسئلة المعرفية الكلية وهي العلاقة بين الواقع والتنظير. وما تتخذه هذه العلاقة من أشكال ومستويات وتجليات. هذه الإشكالية تقع في إطار فلسفة العلم من ناحية.
وبدا لنا في مطلع هذا البحث أن نحاول الدراسة المتأنية لهذه الدراسات المختلفة والتي تعالج قضية القيمة ، والإشكالية المرتبطة بالعلاقة بين الواقع والتنظير ، وذلك لتأثيرها المباشر وغير المباشر على ما نحن فيه ، وحتى نتمكن من خلال زاوية الرؤية من ناحية ، ومجهر الاهتمام من ناحية أخرى أن نحاول تنسيق هذه الدراسات السابقة المتعددة ونظمها بما يفيد عناصر تأصيلنا لمفهوم القيم واعتبار مدخل القيم إطاراً مرجعيّاً لابد من أخذه في الاعتبار.
وحتى يمكننا توضيح المفاصل الكامنة خلف تهميش قضية القيم في البحث والدراسة ، سواء على مستوى الدراسات العربية أو الإسلامية من ناحية أو الدراسات الغربية وتصوراتها ومتعلقاتها من ناحية أخرى.
ولا شك أن بحثنا لهذه الدراسات السابقة هو مما يمكن الإشارة إليه بضرورة الترف على ((الحالة القيمية)) بناءً معرفياً ومفاهيميّاً- توظيفيّاً منهجيّاً – وتأصيلاً لغويّاً وإمكانات وقدرات وفعاليات بحثية وعلمية ومنهجية ((الحالة القيمية)) ، في هذا المقام تمدنا بواقع هذه الدراسات وتوجهاتها والإمكانات النقدية الفلسفية والمعرفية والواقعية التي يمكن توجيهها إليها ، وما يعنيه ذلك من إمكانية الجمع بين إثارة الإشكالات ذات الطبيعة التنظيرية من جانب ، وتصنيف هذه الدراسات من جانب آخر.
ولا شك أن دراسة في هذا السياق للحالة القيمية بحثيّاً وأكاديميّاً وواقعيّاً يسهم ليس فقط في بيان الوسط السلبي لدراسة القيم أو تفعيلها ، ولكن يشير إلى أهمية رد الاعتبار للقيم ، ومؤثراته الفلسفية والمعرفية والعملية على الجانب الآخر ، والانطلاق من رد الاعتبار ، إلى الحديث على الأقل عن إمكانات بناء النسق القيمي وما تقدمه الرؤية الإسلامية في هذا المقام ، مستفيدة من كل عناصر تأصيل القيم والقدرة على استيعابها حتى لو أنتجت ضمن أنساق معرفية متنوعة ، وهو ما يعني إعادة بناء النسق والتصورات المختلفة حوله آخذة في الاعتبار عند هذا التأسيس والتأصيل والتنظير الموصول بالواقع ((واقع القيمة)) في سياق الاعتبار لا التحكيم في مسارات التنظير أو الحركة ، ومؤكداً على الضرورات المنهجية التي يجب أن تتلافى مواطن الخطأ والقصور في عمليات التنظير وبين هذين المستويين عن رد الاعتبار ، وإعادة البناء لتصورات القيم ، ويقع هذا البحث في سياق اهتمامه بالتأصيل لنظرية القيم في مقابل التهميش.
التأصيل هنا ليس إلا مقدمة ضرورية نظراً وعملاً ، فكراً وواقعاً لممارسة عمليات تتعلق بالتفعيل من ناحية والتشغيل من ناحية أخرى ، وذلك ضمن عناصر التفاعل بين هذه العمليات جميعاً.
زاوية الرؤية تلك تحدد مجهر اهتمامنا ضمن هذا البحث في بناء منظومة بين مفردات هذا المدخل القيمي ، ثم محاولات البحث في آليات التفعيل فيما بينها ، ثم تجريب ذلك نظرياً وعملياً ضمن نماذج التشغيل التي تتعامل عناصرها ما بين نماذج للتنظير ، ونماذج لرؤية الواقع أو نماذج جامعة تحمل التفاعل بين الفئتين من النماذج.
في هذه النقطة نقوم على دراسة أربع قضايا تتعامل في بيان عناصر الحالة القيمية كحالة بحثية ومنهجية وواقعية عملية :
الأولى : تتلق بأخطاء التنظير حول القيم (الأصول المتعلقة بأخطاء التنظير).
الثانية : الأصول المتعلقة بواقع القيمة ومشاكله من صناعة الصورة حول القيمة عمليّاً وبحثيّاً.
الثالثة : حول التفاعل بين رؤية واقع القيمة والأخطاء في عملية التنظير.
أما النقطة الرابعة الأخيرة : محاولة لرد الاعتبار المنهجي والواقعي للقيم.
ومن أهم العناصر التي ترتبط بأخطاء التنظير ، ما يمكن الإشارة إليه بقيمة النسبية ، ونسبية القيمة؛ مما أورث أخطاء في التنظير تتحدث عن نسبية القيم على الإطلاق ، ويرتبط بذلك ما ارتكب من أخطاء تتعلق بالتحويل الإجرائي للقيم؛ مما أسهم في تهميش أوضاعها والحد من تفعيلها ، وكذلك الحديث عن نهاية القيم في إطار الحديث عن نهاية الأيديولوجية ، وربما هذه نماذج فيما يتعلق بأخطاء التنظير ، أما الأخطاء التي تتعلق بواقع القيمة هي تلك المفارقة بين قيمة القوة وقوة القيمة ، ففي إطار تبعية القيم للقوة تحركت نحو أدوار تتعلق بعمليات التبرير السياسي الداخلي والخارجي ، وتحويل المفاهيم إلى شعارات سياسية ، وهيمنة نموذج السياسة الواقعية وتعظيم القوة في حقل العلاقات الدولية ، وفي المقابل هناك القيم المخذولة التي تشير إلى عناصر تهميش القيم في الواقع ، وفي إطار هذا التفاعل بين رؤية واقع القيمة والأخطاء في عمليات التنظير ، فإن محاولة توليد قيم جديدة في إطار تسويع الدعوة للعالمية أو العولمة وبروز قيم الحضارة المركزية الغالبة ، وبدأ التعبير صراحة عن نظامين من القيم يتصارعان ويتصادمان وفق مقولة صدام الحضارات ، وبدا الأمر يتحرك في أقنية متعددة ، أهمها صناعة وهندسة القبول وتعميم رؤية القيم النابعة من عناصر المركزية الحضارية الأوربية ، وحصر تلك القيم في نطاقها الحضاري ، ورغم الحديث عن الثورة العالمية وثورة الاتصالات ، إلا أن المفارقة أن ذلك أحدث قدراً من الانفصال المعنوي وإهمال القيم وهو ما يعنيه مفهوم سفينة الأرض ، ويهدر عالمية القيم في جوهرها.
وبدت هذه القيم في تحقق عالميتها تتحدث عما عداها من قيم باعتبارها قيماً متخلفة يجب نسخها في الواقع وإحلال القيم العصرية بدلاً منها.
وضمن هذا المساق ارتكزت هذه الرؤية إلى كل ما يسندها ضمن ذاكرة الأفكار السياسية فاستعادت مقولة الفصل بين القيم السياسية والقيم الأخلاقية ، وبدت تتحدث عن قيم مثالية لها من فاعلية ، وتحركت لتدل على ذلك ضمن إشكالية القيم في عالم المسلمين في ظل نظام دولي متغير ، وبرزت التطورات المابعد حداثية لتعبر عن مفارقة أخرى ، هذه المقارنة تكمن في تفكيك مقولات الحداثة التي تستند إلى عناصر تقوية المركزية الغربية والتمركز حول الذات ، وذلك في إطار إلغاء المراكز في إطار ينصرف إلى عدم اليقين لمواجهة المركزية الغربية ، ولكن في هذا السياق تحركت نحو التشكيك بعد التفكيك وربما توقفت عند هذا الحد ، ونتج عن هذه الرؤية التي تحكمت في واقع القيمة وعدم تفعيلها من ناحية وأخطاء التنظير حول القيم وتهميشها نشأ وتراكم سياق أكاديمي يحسن التفصيل بصده.
2. المحصلة للرؤية المتحكمة لمواقع القيمة وأخطاء التنظير :
القيم والسياق الأكاديمي : الدراسات السابقة والدراسات اللاحقة :
من الجدير بالذكر في هذا السياق أن نتحدث عن إشكالية القيم ، هذه الإشكالية التي احتلت مساحة ليست بالقليلة من الاهتمام داخل حقل المشتغلين بالعلوم الإنسانية والاجتماعية ، خاصة في حقل العلوم السياسية. وتبدو لنا تلك الإشكالية في مستويات متعددة :
المستوى الأول : الذي يرى القيمة في تعلقها بالعلم ، هذا التعلق أتى ضمن عناصر تطور نظري ومنهجي؛ ليؤكد على ضرورات الفصل بين العلم والقيم ، بل اعتبرها هذا التطور في أقصى تطرفاته :أن القيم إذا ما دخلت في دائرة العلم ، حولته عن طبيعته وقدراته ووظيفته ، حتى إنه في هذا التحول لا يستحق مسمى العلم ، وبدا ذلك التعبير الذي انتشر في إطار النموذج المدني السلوكي ، وهو علم خال من القيم. هذا التصور الابتدائي رغم أنه يناقش قضية العلاقة ، ولا يجعل القيم موضوعاً له ، إلا إنه لا شك أثَّرَ على القيم وتفعيلها داخل الأنساق المعرفية المختلفة في إطار ذلك التصور العام ، إن إقصاء القيمة كان الهدف البحثي والمنهجي الذي يستحق التعامل والتفكير فيه ، هذا الإقصاء ربما اتخذ في كثير من صوره التجاهل وغض الطرف عن القيم في علاقتها بالعلم الإنساني والاجتماعي ، وفي هذا السياق لم تكن القيمة سوى المعاني المادية الخاصة بمعاني التقدير والتثمين ، وغير ذلك من معان تدور في هذا السياق.
وبرزت المعادلة القائلة بأنه كلما كان العلم متحرراً من ((القيمة)) خالياً منها صار بذلك علماً ، أو هو على الأقل يراكم المسيرة نحو علميته.
والمتفحص لذلك المستوى يرى أن هذا التوجه ليس كما يبدو لا ينتمي إلى دائرة القيم بل تحركه جملة من القيم ضمن أنساق المعرفة ورؤاه المنهجية وموضوعاته البحثية ، هذه القيم تدور في سياق تهميش تأثير القيم في علاقتها بالعلوم الإنسانية والاجتماعية إن لم يكن تحريرها من ذلك ، بما تملكه من تأثيرات على بنية الممارسات العلمية في هذا السياق ، هذه القيم الناظرة إلى قضية القيم نظرة سلبية تقوم على جملة الافتراضات :
أولاً : أن القيم من حيث مشتملاتها لا تعبر إلا عن عناصر مادية لا عناصر معنوية.
ثانياً : أن تأثيرات القيم على العلم دائماً ما تكون سلبية في علاقاتها.
ثالثاً : أن تحريك القيم صوب العلم يؤدي إلى تأسيس عمليات التحيز في دراسة الظواهر المختلفة ، فضلاً عن الخروج عن حدود الموضوعية التي تشكل أهم مفاصل التكوين العلمي والبحثي والمنهجي.
رابعاً : أن القيم ليست ذات تأثير حاسم ، ومن ثم يمكن تحاشي علاقاتها ، وعلى هذا يمكن تجنبها ، وهو ما يفضي إلى إضفاء عناصر حجية ومنهجية على الكيان العلمي والعمليات البحثية.
خامساً : أن علماً خالياً من القيم هو الهدف والأساس ضمن هذه المسيرة.
المستوى الثاني : الذي يرى القيمة موضحاً للعلوم الإنسانية والاجتماعية ، وفي هذا السياق لا نرى أن هذا المستوى منبت الصلة عن سابقه ، أو هو يستقل بذاته ، فإن نظرة إلى العلاقة بين هذه العلوم والقيم لابد وأن تشكل عناصر منهجية للبحث في موضوع القيم كموضوع ، وأهم هذه العناصر :
أولاً : أن القيم بالمعنى المادي قد تصلح لأن تكون مكوناً للظواهر القابلة للبحث ، والتعامل مع تطوراتها ، ولكن القيم باعتبارها عناصر معنوية فإن الاستدلال عليها هو أمر ليس فقط من الصعوبة إن لم يكن الاستحالة ، بل إنه يعبر عن إمكانية تحاشيه وإسقاطه من الدراسة البحثية.
ثانياً : أن القيم – باعتبار الظواهر- هي في الحقيقة تشير إلى عناصر المحسوس المادي القابل للدراسة والتكميم هو الجدير بالاهتمام ، أما ما هو غير قابل لذلك فهو ضمن هذاالاعتبار ليس من الأهمية بمكان ، وأن أية طاقة بحثية يمكن بذلها ضمن هذا الإطار هي جهد ضائع أو يكاد.
ثالثاً : أن القيم ، إذا ما عبرت عن عناصر أخلاقية ضمن مكونات موضوع البحث إنما تشكل مدخلاً لتحيزات كثيرة ، لا يمكن التحكم بها أو فيها بحثيّاً إلا بالاستبعاد ، ومن هنا فإن دراسة القيم في تعلقها بالواقع (أي باعتبارها جزءاً من الظاهرة) هو المعتبر نسبيّاً في هذا السياق ، وتحويل ذلك إلى أن يكون ظواهر قابلة للتقييس أو التكميم هو العمل البحثي والمنهجي الوحيد المقبول ضمن هذا السياق.
المستوى الثالث : وهو الذي يرى القيمة في تعلقها بالواقع الفعلي وظواهره المختلفة.. ولاشك أن ذات التوجه الذي لا يرى للقيمة وزناً في علاقتها بالعلم من جهة وفي اعتبارها موضوعاً للعلم من جهة أخرى تنعكس رؤاه تلك عن تصور للقيمة وعلاقتها بالواقع ، وعلى الرغم من التشابك والتداخل في علاقة القيم بالواقع ، وأن تلك القضية تستحق نظرة أبعد من تلك التي تتخذ موقفاً مسبقاً باستبعاد القيم والتوهين من قيمتها العلمية والبحثية ، ومن ثم في تأثيرها في الواقع.
وسارت هذه العلاقة ضمن فصل القيم عن الواقع ، وأن القيمة الوحيدة تكمن في الواقع نفسه ، فهو الذي يكون الظاهرة (الواقع المادي) وهو الذي يعد محكّاً للتنظير وهو المقياس للصحة ، وهو المعيار للدراسة المنهجية والعلمية.
والواقع في هذا السياق اختزل إلى عناصر مادية قابلة للملاحظة من جانب وقابلة للقياس والتكميم من جانب آخر.
وهذا المستوى إنما هو يعبر عن إشكالية الواقع ، والعلمانية ، والعلوم الاجتماعية والإنسانية وما يتركه ذلك من منهج النظر للقيمة في الواقع أو العلاقة بينهما.
المستوى الرابع : وهو الخاص ليس فقط بتوجهات غريبة حيال القيم تهميشاً وإقصاءً ، أو بعناصر توظيفها ضمن الكيان المعرفي والعلمي ، ولكن هذا المستوى يختص بجملة الدراسات والبحوث التي جعلت من القيم أهم عناصر بحثها. ولكن في سياق نماذج معرفية عربية وإسلامية والتي جعلت القيم ضمن ممارستها من حيث أرادت أن تجعلها في المركز فإذا بها تمارس عناصر بحثية تصب في النهاية ضمن ممارسات تهميش القيم وعدم تفعيلها.
وفي هذا السياق يمكننا متابعة ثلاث فئات من هذه الكتابات :
الأولى : الكتابات الخاصة بالعلاقات الدولية في الإسلام ، وهذه الكتابات في معظمها ظلت تعالج موضوع القيم في صدر مؤلفاتها ، إلا أن وجود هذه القيم في صدر هذه المؤلات لم يكن يعني إلا اعتبارها ((حلية)) معرفية أو مدخل ((ديكوري)) وظلت هذه الأعمال تدور في سياق حبس الحديث عن القيم ومفرداتها والبحث عن الآيات التي تشير إليها والأحاديث التي تعضدها والأقوال التي تسندها ، إلا أن هذا الحديث وكأنه انقطع حينما نتحدث عن الموضوعات الأخرى المختلة التي تقع ضمن موضوع بحث العلاقات الدولية في الإسلام ، الحديث عن القيم – وإن وقع في صدر هذه المؤلفات – فإنها انقطعت عن بقية الدراسة ومستوياتها وموضوعاتها ، وسارت هذه الدراسات على هذا النحو ضمن عملية التهميش ، وبدا تشغيل هذه القيم وتفعيلها في هذا الأدنى.
الثانية : الكتابات الخاصة بالجهاد والقتال ، هذه الكتابات اهتمت بموضوع القيم على نحو جزئي ، في الحديث عن آداب القتال ، والقيم المتمثلة في جملة القواعد المحددة لسير القتال والضابطة للعمل الحربي بوجهعام ، وهذه الكتابات لم تر في هذه القيم أبعدمن ذلك من ناحية ، كما لم تعتبرها روحاً سارية ، تجعل المنظور الجهادي في حد ذاته قيمة ، فباعتبار الدين ((قيّماً)) تبرز المفاهيم المختلفة والعمليات المختلفة لا باعتبارها أفعالاً طارئة أو استجابات آنية إزاء ردود أفعال ، بل هي في حقيقة الأمر عمليات ضمن منظومة قيمية حرصت الشريعة أن تحول عناصر عملياتها وأفعالها إلى قيم تتساكن وتتفاعل ضمن منظومة كلية ، فيصبح الجهاد حركة قيمية ممتدة ، والقتال يمارس باعتباره قيمة محققة للمقصود في الأمن والعمارة … الخ.
الثالثة : الكتابات المتعلقة بحقوق الإنسان ، والتي بدا لها أن تتحدث عن هذه الحقوق عبر المفاهيم والتنظيرات الغربية ، وفي هذا السياق لم تمد النظرة القيمية بكل تكوينها ومؤثراتها بحيث تؤصل إطاراً ومنهجاً للنظر في هذه الظاهرة ، وتلك القضية ضمن أصول منهج قيمي شامل ومتكامل.
هناك فئة رابعة في التأليف أظن أن الإشارة إليها في هذا المقام من الأمور الواجبة ، وهو الاتجاه الذي يتعلق بالتأليف التراثي في هذا المقام. ومن المهم أن نشير إلى حقيقتين مهمتين في هذا المقام :
الأولى : أن التأليف التراثي حول موضوع القيم انتشر ضمن جنبات التجليات والتخصصات المعرفية المختلفة ، وملاحظة هذا الانتشار والامتداد من الضروري استخلاص جملة الدلات التي يتركها فهم هذه الحالة في عملية التأليف في موضوع القيم.
الثانية : أن هذا الانتشار لم يمنع من تخصص كتابات في معالجة موضوع الأخلاق ، بكل الموضوعات الداخلة فيه ، سواء منها ما يشكل أخلاقاً فردية أو جماعية أو اجتماعية ، من مثل ((فضائل الأعمال)) وكتابات الأخلاق المختلفة.
ومن خلال هاتين الملاحظتين يمكن أن نرد كثيراً من المواقف التي تلقت ذلك التراث ومحاولة محاكاته ضمن التأليف في علوم الأخلاق.
بل إن البعض لم يصل بين المستويات المختلفة التي تحدث فيها التراثيون والذين جعلوا للأخلاق مدخلاً في كل المستويات الضروري منها والحاجي والتحسيني ، فاقتصروا – توهماً – على جعل مكارم الأخلاق ضمن دائرة التحسيني ، وكأن الضروري والحاجي لا يرتبط بالأخلاق أو القيمة ، فضلاً عن تغاضيهم عن فقه المقاصد باعتباره أهم قسمات فقه القيم.
فكأنهم حبسوا القيم ضمن دائرة التحسيني كمرتبة ثالثة في سلم الأولويات للأفعال الإنسانية؛ مما أفضى إلى توهم قد يتسرب إلى تهميش القيم نظراً وعملاً في الرؤية الإسلامية ، بما يخالف أصول النظر ومناهج الحركة والممارسة.
كما أن حبس دراسة قضية القيم ضمن مجال علم الكلام في إطار النقاش الفلسفي الموضوع ((التحسين والتقبيح)) بين الشرع والعقل ، لم يحرك كل فعاليات المفهوم ضمن ملاحظة امتداداته وانتشاره ضمن مجالات معرفية أخرى وممتدة.
ولم يُر موضوع القيم ضمن البنية الفقهية ومساقات معرفية أخرى ، تتحرك صوب حقائق المصالح ، والقيم السياسية التابعة للقيم الأخلاقية ضمن كتابات أدب النصيحة في الفكر السياسي الإسلامي ، فضلاً عن موضوعات مثل تعليل الأحكام ، والحكمة في الأفعال ، والبحث في الأحوال والمآلات ، بما يحرك منظوراً قيمياً يحدد مجال النظر وزاوية الرؤية ومجهر الاهتمام. فإن النظر إلى القيم باعتبارها روحاً سارية يحدد أصول النظر ومناطق الاهتمام ، بحيث يمكننا ذلك من متابعة تلك الأرواح السارية ضمن السياقات المعرفية المختلفة.
بل من المهم كذلك أن نشير إلى كيف ارتبطت عمليات العلم والتعلم بجملة من الأخلاق والقيم ضمن مؤلفات اختصت بأدب العالم والمتعلم وأدب البحث والمناظرة والجدال والمحاورة ، فظلت أفعال البشر الأساسية مقرونة دائماً ((بالأخلاق)) و((القيم)) في النظر والحركة.
وربما بدا التصنيف بين الأخلاق النظرية والعملية في العلوم وغيرها فاصلاً بين مجالين ، ولكن في حقيقة أمره لم يكن ذلك فصلاً أكثر من كونه تنبيهاً للباحثين والفاعلين على حد سواء بالربط بين المجالين ، بل واعتبارهما وجهين لمجال واحد يجب تحري وصل النظر بالعمل فيه.
ورؤية متفحصة لتصنيف العلوم في هذا المقام تدل على هذه المعاني من دون عنت أو اعتساف في الاستقراء أو الاستنتاج.
ليس هنا المقام للتفصيل في هذا الموضوع الذي يحرك النظر إلى طبيعة النسق المعرفي في الرؤية الإسلامية وأهم سماته وخصائصه وقسماته ، إلا أن النظرة إلى شجرة المعرفة الإسلامية وتحركها واستنباتها من ((جذر واحد)) إنما يحقق أصول النظر لهذه المسألة ، ويعفي التأليفات التراثية من بعض القصور الذي شاب النظرة إلى القيم لدى المعاصرين. سواء ضمن ممارستهم البحثية في موضوعات وقضايا إسلامية معاصرة أو قديمة ، أو سواء في تعاملهم مع التراث.
3. إمكانيات التأصيل :
هذا الواقع الأكاديمي شكل بحق أهم دواعي إعادة الاعتبار للقيمة في إطار البحث عن قوة القيمة ، وتلافي أخطاء التنظير ، وتأسيس النظر لواقع القيمة ، وهذا الشكل يشير إلى اعتبار القيم لمفهوم شامل له تأثيراته المعرفية والثقافية والفكرية والمنهجية والعلمية والعملية ، وجمله الحضارية.
أولاً : القيم في صميم البنية المعرفية الإسلامية :
وهي تحرك بناء على ذلك أصول الوعي وفاعلية السعي. إن فهم هذه العلاقة بين القيم والواقع تكمن في عبارة دقيقة ساقها ابن القيم حينما يوضح منهج التفاعل في الفقه والإدراك بين القيمة بمعنى الواجب والواقع : فيعطي الواقع حكمه من الواجب ولا يجعل الواجب مخالفاً للواقع.
القيم إذن سارية في البنيان المعرفي للرؤية الإسلامية ، وإن كل عنصر من عناصر بناء الشريعة يسري فيه القيم أو يعبر عن قيمة ، إن العلاقة بين القيم والإسلام علاقة بنيانية لا يمكن إنكارها والبحث عنهما كمجالين مختلفين ليس من أصول النظر في الرؤية الإسلامية ، ويبدو أن معالجة هذا الأمر يعود إلى عمليات تصنيف بين الأخلاق النظرية والعملية ، أو الحديث عن الأخلاق ومكارم الأخلاق وفضائل الأعمال ، وربما يعود كذلك إلى توهم عن وضع ((مكارم الأخلاق)) ضمن خانة ((التحسيني)) في الرؤية الكلية لمقاصد الشريعة. وربما يعود ذلك إلى بعض الانحراف الذي شهدته خبرة المسلمين في انفصالها عن القيم أو انحرافها عنا. إلا أن العمل الحاسم الذي جعلنا نناقش هذه الإشكالية على نحو يفصل بين السياسة والقيم الأخلاقية إنما يتمثل – في الحقيقة – في رؤى غربية فكرية وثقافية ومجتمعية لعناصر القيم الأخلاقية والقيم الدينية ، وتسرب كل هذا إلى بنية التفكير في هذا الأمر. ويوضح ذلك الأشكال الثلاثة الآتية :
هذه هي القيم حينما ننظر إليها باعتبارها فعلاً حضارياً ورؤية حضارية كلية تتفاعل فيها أصول الوعي مع سنن السعي في إطار عمليات تأسيس وتأصيل وتفعيل وتشغيل وتمكين.
إن إعادة بناء مفهوم القيم لا يقتصر فحسب على عناصر لمفهوم القيم تجعله شاملاً وفق عناصر رؤية داخل علوم الفلسفة أو علوم الاجتماع .. بل علينا بحق أن نتابع القيم كحالة لغوية تحقق أصول المفهوم وفاعلياته وسعته بحي تشكل كل هذا الذي أشرنا إليه آنفاً من عقيدة واتجاه وموقف وحكم ورأي وسلوك.
شكل يصعب رفعه على الموقع ( قيم التأسيس – قيم التحريك – قيم المجال)
شكل يصعب رفعه على الموقع (اليم سارية في منظومة القيم السياسية)
ثانياً : القيم والسعة اللغوية : من أهم العناصر ضمن هذا التحليل الانطلاق من إعادة تعريف القيم معنى ومفردات كمدخل لتفعيل القيم وتشغيلها وتحريك وظائفها وأدوارها.
ومن الأمور المهمة في هذا المقام أن نشير إلى السعة الرحبة التي توفرها المعاني القرآنية لمفهوم القيمة والقيم ، سعة تؤصل وتحقق كل فعاليات المفهوم وتستثمرها في إطار حركة اشتقاقية واسعة يربط بينها جذر لغوي يشكل بدوره إمكانية لسعة لغوية للمفهوم ، وبدت هذه السعة الغوية مؤيدة بآيات قرآنية ؛ لتحقق نموذجاً مهماً من الدراسة لا تحبس المفهوم ضمن دائرته الاصطلاحية .. ولكن عليها أن تخرج من ضيق المصطلح إلى سعة اللغة والمعاني القرآنية المستوعبة لها المؤصلة والمولدة للمعاني المختلفة المحققة لتكاملها وتراحمها.
هذه المعاني ليست خارجة عن حد الضبط ، أو هي فوضى تؤدي لضياع المعنى أو فقدانه بلوغاً للا معنى ، بل هي معان تصل بينها وبين بعضها وشائج ؛ لتؤصل نسيجاً مفهوميّاً متكاملاً ومتناغماً .. تؤكده المعاجم اللغوية حينما تنطلق إلى المعاني الجامعة والواصلة والرابطة بين أسرة الاشتقاقات اللغوية؛ لتحقق للمفهوم أقصى فاعلياته وأرحبها.
ويسير المعنى الاصطلاحي أحد الإمكانات اللغوية التي يختصها أهل الفن ويحددون معنى معيناً لكلمة بعينها ، فإذا ما أطلقت من أصحاب هذا الفن عُلم المقصود بها اصطلاحاً ، ومن هنا اتحد اللفظ واختلف المعنى اصطلاحاً لتغير الفن ، مثل مصطلح الحكم مثلاً ، إلا أن هذا الاختلاف هو مدخل لائتلاف المعاني المتنوعة للرابط الكامن فيما بينها.
ومن هنا كان على المصطلحين من أهل الفن تقديم المعنى الواضح ، وكان على غيرهم تحديد المعنى الواضح من غير فوضى في الاستعمال ، ومن غير حبس للمعنى ، إلا أن فائض المعاني المتاح والمباح للكلمات ، لا يعني إهماله ، ولكن يعني أن كمالات المعنى لا تزال في حاجة إلى استعمالات تستوعبها وتحقق المقصود من الخروج من ((اختلاف المعاني وتنوعها)) ، إلى ((ائتلاف المعاني وتكاملها)).
في إطار هذا السياق الذي يحدد الوجهة المفهومية المحددة للعلاقة بين الاصطلاح والمعاني اللغوية تأتي إمكانات تفعيل المفهوم ، صحيح أن الاصطلاح يملك معاني الضبط ، إلا أن الضبط ليس معناه النفي للمعاني الأخرى أو تضييقها أو تغييبها أو بالجملة حبس الاصطلاح عنها ، وحبس المعاني الأخرى عن اللفظ ، ويمكن تمثيل هذه العلاقة على هذا النحو المتداخل الذي يوضح طبيعة العلاقات. ويمكن الإشارة إلى عدة عناصر توضح هذه الرؤية وأهمها :
1. أن السعة اللغوية للمفهوم وفي إطار تنوعاتها وكمالاتها لا تزال تعطي إمكانات مهمة يجب استثمارها ضمن إعادة صياغة مفهوم ((القيم)) وتأصيله ، بحيث لا تنزلق إلى رؤية ذات مرجعية مختلفة ، ولا ينحبس ضمن رؤية لا تتفاعل مع الإمكانات المنهجية التي يتيحها المفهوم وشبكة اشتقاقاته ، وخريطة مفاهيمه الفرعية والمشتقة والمرتبطة.
2. أن المعاني القرآنية هي أهم سند لمثل هذه الرؤية المتكاملة التي تستفيد من كل كمالات المعاني لمفهوم القيم وتنوعها : إن الدين هو ((الصراط المستقيم)) ، وهو ((الدين القيم)) ، وهو ((دين القيمة)) ، وهو ((ديناً قيماً)) ، إنها المعاني التي تحرك المفهوم صوب كل المعاني التي تسند الجوهر والطبيعة والوظيفة والدور والفاعلية والتفعيل.
3. إن القيم وفق هذا التصور ليست مفهوماً مفرداً ، بل هي من المفاهيم المركبة ، مفاهيم المنظومة ، ((مفاهيم الرؤية)) إن صح هذا التعبير ، هو واحد من أهم ((مفاهيم التأسيس)) في عالم مفاهيم الإطار المرجعي في الرؤية الإسلامية ، إنه من المفاهيم ((الحاكمة)) التي تحكم جملة التصور والمفاهيم الأخرى في علاقات متنوعة ومتفاعلة وفاعلة في آن واحد.
4. إن هذا المفهوم بكل سعته وامتداداته وتنوعاته ، وجهده وطاقاته واجتهاداته تعبر عن إمكانات هائلة في إطار تحويل الإمكانات ، والطاقات ، والقابليات إلى قدرات وتحويلها إلى فاعليات.
هذا الشكل ربما يشير على نحو أو آخر إلى العلاقات المهمة بين المعاني القرآنية واللغوية والاصطلاحية.
وربما يشير هذا المعنى للعلاقة بين الدلالات المختلفة التي أشارت إليها كتب علم الأصول في العلاقة بين الدلالة الشرعية ، والدلالة اللغوية ، والدلالة العرفية ، على ترتيب في حال التصاعد ، إلا أن ذلك يعني ضمن ما يعني أن تلك الدلالات تخرج من مشكاة واحدة ، وأن اعتبارها في هذا المقام لابد أن يكون ضمن دائرة الشروط الواجب تفعيلها في هذا المقام.
شكل يصعب رفعه على الموقع
وهي تتحرك صوب تأسيس مناهج نظر ، ومناهج تناول ، ومناهج تعامل ، وذلك في إطار دراسة الظواهر المختلفة ، ومناهج تفكير ، ومناهج تدبير ، ومناهج تغيير ، ومناهج تأثير ، في إطار التعامل المباشر مع الظاهرة في إطار علوم العمارة الاجتماعية والهندسة الاجتماعية وبناء الأمة وبناء الحضارة كمجالات حيوية والتفعيل والفاعلية.
شكل يصعب رفعه على الموقع
هذه القيمة كما نعرفها ، وتُعرِّفها امتدادات رحبة تتحرك بالمفهوم صوب تفعيله ، وتأصيل المفهوم أولى المتطلبات لعملية التفعيل والتشغيل. وتأسيس أطر وآفاق تتضمن أصول الوعي ومقاصد السعي.
وإذا ما اهتممنا بكل هذه العناصر التي أشرنا إليها آنفاً من تأثيرات إعادة بناء مفهوم القيم على البنية العملية والحركية المتعلقة بالممارسة فإن معظم اهتمامنا ينصب في جوهره على تأثيراته على البنية المعرفية والوظائف المنهجية :
v القيم أصل من أصول البنية المعرفية الإسلامية.
v القيم مفهوم حضاري شامل ومفهوم مظلة ومفهوم واصل جامع.
v القيم مدخل منهاجي يحرك إمكانات منهجية عند التأصيل والتفعيل والتشغيل.
v القيم إطار مرجعي يحرك عمليات التأسيس صوب أصول المرجعية سواء تطرق الأمر إلى (الكليات الكبرى) المثيرة للإشكالات الكبرى والمحركة نحو أصول الالتزام الكلية ، ويحرك الوجهة نحو شبكة الإسنادات المرجعية للأفكار المختلفة.
v القيم نسق قياسي يحرك عناصر التقويم ويقيس الفعل مقوماً قيمته عليه ، والقياس القيمي فرع مهم من فروع القياس وفق تأسيسه في الرؤية الإسلامية ، والقيمة نسق قياسي تمثل الأصل ، والأفعال مع تجددها وتبدلها وتغيرها وتراكمها تمثل الفروع التي تقبل القياس على الأصل ، وعلة القياس تكمن في القيمة الفاعلة المشتركة.
v القيم تأسيس لرؤية كلية للعالم تجد مجالاتها في تأصيل رؤية كلية توحيدية للكون والإنسان والحياة.
v والقيم نموذج إرشادي (parad – igm)يملك أصول منظومة كلية تتضمن رؤية تأسيسية للوجود ، والأجندة البحثية ، والقدرة على توليد الموضوعات وبناء نظري ومفاهيمي … وغير ذلكمن أمور ترتبط باعتبارها نموذجاً إرشادياً.
ثالثاً : القيم مفهوم حضاري شامل ومفهوم مظلة ومفهوم واصل ومفهوم جامع :
مفهوم القيم وفق هذه التصورات المستندة إلى البنية اللغوية من ناحية ، والقيم كمفهوم ساري ضمن البنية المعرفية من ناحية أخرى ، يعبر في ظل عناصره المختلفة والمتنوعة كمفهوم شامل من حيث سعته ، واصل بين هذه العناصر المتعددة ، جامع لها ، وهو بهذا المعنى مفهوم منظومة تحرك هذه العناصر صوب ترتيب يحقق أصول الفاعلية والتأثير ، وهو واحد ضمن أهم المفاهيم الحضارية الكبرى ، التي صاغت وصبغت نظره إلى الحضارة وعملية بنائها وارتقائها.
نحن في هذا السياق الذي يؤكد على الأهمية في إعادة النظر ومراجعة الرؤية للقيم نعتبره أهم المداخل لإعادة الاعتبار للقيم ضمن منظومة البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية والبحث في الظواهر المتعلقة بدائرة السياسي وأهم عناصرها التي تتمثل في العلاقات الدولية على تنوعها وتعقدها في آن واحد.
القيم بهذا الاعتبار مفهوم مظلة ، مفهوم منظومة ، مفهوم جامع ، مفهوم واصل ، مفهوم شامل ، مفهوم عائلة ، مفهوم يرتبط بأصول وفروع متعددة ومتنوعة ومتكاملة تحركنا صوب التعامل مع شجرة في عالم المفاهيم.
فالنظرة إلى سعة المفهوم تجعلنا لا نحبسه ضمن قمقم تعريفاته أو أحدها أو الادعاء بالوقوف على معانيه الاصطلاحية الحابسة أو المعوقة للتعامل مع كل فعاليات المفهوم وعطاءاته المختلفة والمتنوعة والمتجددة.
القيم وفق منهج النظر الشامل تتحرك إلى اعتبارها ليست مجرد مثاليات أو تنظيمات تجريدية ، ومن هنا وجب النظر إليها باعتبارها عملية تأصيل وعملية تحريك وسعي وعملية تفعيل وعملية تشغيل ، عمليات بعضها من بعض تتحرك صوب رؤية تتعامل مع القيم كأصل ومبدأ ، وحركة سعي ، وأصول ووعي ، وآليات تستحق التفعيل تتجلى ضمن نماذج تشغيل هذه الرؤية ، وتعرف أن القيمة تجد جزءاً من حجيتها وفاعليتها حينما ترتبط بقيم واقع ممتد في الزمان والمكان تتشابك عناصره الزمانية وتنوعاته المكانية وتفرداته الإنسانية هي أقرب ما تكون إلى معاني قول الشاطبي : إن كل مسألة لا يترتب عليها عمل فإنه لا طائل منها ولا ضرورة للبحث فيها.
إن العلاقة الحميمة بين القيمة والممارسة ، بين النظر والحركة ، بين الفكر والعلم والعمل – هي التي تضمن الفاعليات القيمية وتمنع من النظر إليها كمثاليات أو ينبغيات أو قيماً محفوظة ، وكأن القيمة عليها أن تفعل بذاتها ، ولا تنظر إلى وسطها المحيط ومجالها الحيوي ، وإلى حامليها المتفاعلين معها والفاعلين بها.
رابعاً : التصنيف ورد الاعتبار للقيم في الرؤية الإسلامية :
من نافلة القول أن نؤكد أن عمليات التصنيف لا تعني بأي حال من الأحوال فصلاً بين عناصر التصور القيمي في كليته ، وفي تكامل وتفاعل عناصره ، إلا أن اعتبارات البحث في قضية القيم قد تستدعي استخدام هذه التصنيفات دون أي تأثير موضوعي على حقيقة التكامل والتفاعل والنظرة الكلية والشاملة.
فالقيم السياسية والقيم الأخلاقية كتصنيف لا يعني فصلاً بينها ، بل يعني وحدة القيم في تواصلها وتفاعلها ، بل القيم السياسية فرع على القيم الأخلاقية مشتقة منها تابعة لها.
ثم هناك قيم مؤسسة تقوم بعملية التأسيس (التوحيد – التزكية – العمران) وهناك قيم أساسية تقوم بعملية التأصيل (العدل – الاختيار – المساواة… الخ) وهناك قيم مشتقة تتصل أكثر من غيرها بمجال الدراسة أو القضية موضع البحث ، هذا التصنيف بدوره لا يحمل عناصر منفصلة ، وكلها في حقيقتها عناصر تراتبية متصلة.
وكذلك فإن تصنيف العلاقات بين القيم هي أيضاً من قبيل التصنيف الدراسي لا الفصل بين جملة العلاقات المتعددة والتي تتواصل وتتفاعل بما يؤكد التكامل فيما بينها وافتراض علاقات التراحم بين أشكالها ومستوياتها.
وكذلك فإن مفردات القيم السبعة التي تحركها ضمن منظومة تصنفها إلى قيم تأسيس ، وقيم تحريك ومقصد ، وقيم مجال وفاعلية ، لا يمكن النظر إليها إلا بكونها مفردات ضمن نظام للقيم تتكامل فيما بينها بين بناء الرؤية وتأسيس الحركة والممارسة ، وتأصيل المقاصد للرؤية والحركة ، وبيان مجال تفعيل القيم بين المجال الحيوي لإعمال الرؤية وتفعيل الممارسة ، وعنصر الفعالية الأساسي كل ذلك في إطار منظومة تتناغم عناصرها وتتفاعل في النظر والنظم والحركة.
والبحث ضمن مستويات ثلاثة (التأصيل والتشغيل) لا يعني بحال انفصالاً بين المستويات الثلاثة المتنوعة ، ولكن تعني أنها عمليات بعضها من بعض تثبت لأن عناصر التأصيل تملك حجية من خلال عمليات التفعيل ونماذج التشغيل ، والتقسيم والترتيب على هذا النحو يحرك عناصر التواصل والاتصال والتكامل والتفاعل بين المستويات الثلاثة المختلفة كعمليات ترتبط جميعاً ببناء التنظير ، واختبار قدراته على حد سواء.
هذه بعض الأمور التي يمكن من خلالها أن نوضح الأصل في منهج النظر لكل عمليات التصنيف الواقعة ضمن هذا البحث بكل أجزائه ومكوناته وتراتباته وتفاعلاته.
خامساً : القيم مدخل منهجي :
في إطار التعامل مع القيم إننا هنا نتحرك صوب اعتبارها مدخلاً من جهة ، وإطاراً مرجعياً من جهة أخرى ، إننا وفق هذا المنظور نرجح جانب الامتداد ضمن مفهوم القيم ، وذلك في مقابل التقليص ، ونتخذ جانب التأثير والفاعلية في مقابل التهميش والثانوية ، ونعتبر سمة الشمول في المفهوم في مواجهة كل عناصر التجزىء المخل بعناصر الوحدة الكلية والتفاعل بين العناصر والرؤية التي تتعلق باعتبار هذا المفهوم ((مفهوم منظومة)) ، ونؤكد أن هذا المفهوم في حاجة إلى عمليات تأصيل تحقق معناه ، ويتحرك صوب الإفادة من كل معاني القيم سواء ارتبط بالمعاني اللغوية أو امتداد الكلمة في وسط ومجال متنوع ، او ارتباطها بحالة من التنوع الحضاري ، التأصيل هنا عملية ليست يسيرة وهي جديرة بالقيام بها وعليها في مواجهة التسطيح والاختزال لمعاني القيم في كل كمالاتها وكل مكوناتها.
والقيم ضمن هذه المعاني ليست حالة تجريدية أو إشارة إلى منظومة مثالية ، بل تتخطى ذلك ، وقد تنطلق منه إلى واقع يربط ويصل القيمة به ضمن عمليات تفعيل وتشغيل.
مفهوم القيم ضمن هذه الأوصاف والسمات ، والوظائف والأدوار مفهوم شامل بما تؤديه سعته اللغوية وانتشاره في فضاء كثير من العلوم ، كما أنه يتسم بطبيعة المظلة (مفهوم مظلة) يظلل على جملة من المفاهيم الأخرى التي ترتبط بأصول المنظومة الحضارية ، وهو من هذا الباب واحد من أهم المفاهيم الحضارية الكبرى يتحرك صوب قيمة استعمالية وقيمة تأثيرية متعدية وممتدة ، فهو مفهوم معادلة يتضمن مستويات متعددة من العلاقات البسيطة والمركبة ، يحرك شبكة من المفاهيم ضمن منظومة سباعية على ما سنرى في بنائه على مستوى العناصر والمفردات من جهة ، وعلى مستوى المنظومة من جهة ثانية ، وعلى مستوى التفعيل والتشغيل من جهة ثالثة.
والقيم وفق هذا التصور الكلي الشامل تتحرك صوب الأداء والوظيفة والدور والمجالات والوسائل والقدرات والعلاقات ، والغيات والمقاصد.
القيم وفق هذا التصور يمكن أن تسهم في جملة الوظائف التيتتعلق بجملة الإطار النظري والتحليلي ، ووفق هذه الشبكة تقوم بكامل الأدوار والوظائف المنهجية وبما يوضح هذه المسارات جميعاً توضح كثيراً منها في إطار استعراض المفردات والحديث عن العلاقات والوقوف عند التفعيلات والتطرق إلى نماذج التشغيل.
سادساً : القيم وتأصيل رؤية العالم :
((رؤى العالم)) أو ((النظرة إلى العالم)) أو ((استشراف العالم)) هي المصطلحات الأكثر شيوعاً في الاستخدام العربي ترجمة للمصطلح الألماني الأساسي (weltanschamung)، وإن كان مصطلح رؤية العالم هي الأكثر انتشاراً ، بينما تعتبر كلمة world viewهي الترجمة الإنجليزية الأكثر شيوعاً. ولو أن بعض هؤلاء العلماء يفضلون استخدام الكلمة الألمانية نظراً لصعوبة ترجمتها أو إيجاد مرادف دقيق لها. بل إن بعض المشتغلين بدراسات رؤى العالم قد يرادفون بين كلمة (weltanschanung)وكلمة ثقافة ، وبذلك نجد أن دراسة رؤية العالم في أي مجتمع هي في آخر الأمر دراسة لموقف الإنسان لكل ما يحيط به. وفق هذا السياق وتلك المعاني فإن الرؤية اللغوية والإسلامية للقيم وما تمثله من سعة المعاني والدلالات التي تحملها تمثل أهم مصادر تأصيل ((رؤية العالم)) رؤية توحيدية للعالم بما تحمله من عناصر مهمة تُشعل جوهر القيم وفاعليتها ، إن تأصيل نظرة القيم هي في النهاية تأصيل رؤية للعالم من خلال منظور القيم وفعالياته ، وهذا المنظور يحول كل مكونات رؤية العالم إلى قيم ذات علاقات متشابكة ومتفاعلة ويحول كل المترتبات عليها إلى قيم مشتقة منها ، خاصة أن الرؤية القيمية تتكون من خلال مصادر تأسيس ، ويشكل القرآن والسنة أهم مصادرها وكذلك رؤى التأسيس المستنبطة منهما.
رؤية العالم كعقيدة ، ورؤية العقيدة رؤية العالم.
رؤية خصائص الشريعة ومكوناتها باعتبارها صياغة لرؤية للعالم.
رؤية قيم التأسيس باعتبارها رؤية للعالم ((التوحيد وما يرتبط به من قيم)).
رؤية الأمة ومكانتها ومسيرتها باعتبارها أساس رؤية للعالم.
رؤية الحضارة والعمران كرؤية كونية للعالم.
رؤية السنن باعتبارها رؤية للتاريخ وحركته ومساره والواقع والمستقبل وباعتبارها رؤية مفسرة ومقومة للعالم.
رؤية المقاصد تعتبر أيضاً رؤية للعالم والوسط المحيط في إطار رؤية تحرك عناصر الحفظ والعمران.
إن هذه الرؤية ذات العناصر المتكاملة من تأسيس وتحريك ومقاصد ، ومجال وفعالية تكون رؤية كونية للعالم تحرك مبادئ ووسائل وممارسات ترتبط فيما بينها لتكون منظومة متكاملة بحيث تتسع منظومة القيم لتستوعب كل عناصر رؤى العالم تأسيساً ومسيرة وتأثيراً وفاعلية.
شكل يصعب رفعه على الموقع
سابعاً : القيم نسق قياسي :
إذن مفهوم النسق القياسي بما يملك من عناصر توصيف وقدرة على التصنيف وقابليات التوظيف يتقاطع مع هذه الأمور جميعاً.
إلا أنه يجب علينا منذ البداية أن نحاول بيان جملة من التقاطعات والتميزات بين مفاهيم قد ترتبط بوظائف تتشابه مع ما يؤديه النسق القياسي في هذا المقام. وواقع الأمر أن مفهوم النسق القياسي في تكوينه من كلمتين ، النسق بمعنى ((العناصر والمفردات – والعلاقات – والتفاعلات –والترتيب)) إنما يعبر عن عمليات مهمة في بنية النسق القياسي ، أما صفة القياسي فإنها تعبر عن إمكانات هذا النسق القياسية وفق معاني إمكانيات قياس الواقع على النسق بكل مكوناته وإمكاناته بما يقوم به من وظائف تقويمية تسبقها بالضرورة العمليات المنهاجية السابقة عليها ((الوصف والرصد – التصنيف والترتيب – التفسير والتحليل – التعميم والتقويم..)) كما توضح كيفيات التعامل مع الواقع في إطار إلحاق الفرع المتولد والمتجدد ، بأصل تأسيس ، من أجل علة تجمع بينهما.
والنسق القياسي بهذا المعنى ليس نمطاً مثالياً بالمعنى الثيبري المتعارف عليه ، فهو في إطار انفتاحه يراعي عناصر التنوع والتعدد من جهة ، كما أنه لا يهمل عناصر الواقع بل يجعلها أحد عناصر التأسيس ضمن ما يشكل أساساً في عملية التأصيل وبما يفعل عناصر الذاكرة الحضارية والتاريخية والتراثية بالمعنى الواسع والممتد من جهة أخرى.
إلا أن أهم وظائفه كما سلف القول هي الوظيفة التقويمية – القياسية والتي تحرك عناصر مكملة ومتساندة مع ما يقدمه النمط المثالي ، والإطار التحليلي والإطار المرجعي ، والنموذج الإرشادي ، والمنظور.
وأهم وحداته في المنظور الحضاري الإسلامي تكمن في الكيان الاجتماعي الحضاري ، والبيئة الحضارية الإسلامية ، والأمة كأهم وحدة تحليلية.. وغير ذلك من قواعد وأسس ومفاصل تسهم في تحريك بناء متعدد للنسق القياسي للقيم وفق هذا التصور ، وضمن رد الاعتبار لها ، وبناء المفردات والمنظومة القيمية ، وإبراز الإمكانات التفعيلية والنماذج التشغيلية إنما يعبر عن إمكانات هذا المدخل في القيام على وظيفة التقويم… رؤية متفحصة للمتصل السنني ، والمدخل المقاصدي وغيرها من مفردات يمكن أن يؤصل هذه الوظيفة التقويمية.
ثامناً :القيم نموذج إرشادي :
يبدو لنا مع تفحص نموذج ((كون)) في كتابه ((بنية الثورات العلمية)) أننا أمام عمل مهم ضمن أعمال فلسفة العلم والتي تحدد عناصر معينة ((للنموذج الإرشادي)) عناصر خمسة رئيسية نظن أنه يمكن من غير تعسف شديد إضافة عنصر سادس يأخذ في الاعتبار حراك هذه العناصر من جانب وتفاعلها من جانب آخر ، وتشغيلها من جانب ثالث ، وبغض النظر عن انتقادات تتحرك صوب انتقاد المفهوم التأسيسي الذي أسهم به كون “paradirm”وغموض بعض تعريفاته وإدراكاته وتصوره ، وانتقادات أخرى ومراجعات لمعنى الثورة العلمية فيما يقصده كون. وانتقادات ثالثة حول ((تكون الباراديمات)) وصناعتها ، فإننا نرى أن إسهاماً كهذا لابد أن يتخذ مكانته المعرفية حتى لو أضفى عليه الباحثون بعضاً مما عندهم وأضافوا وبدلوا وعدلوا. يشهد لذلك العنان التي يمكن أن يشتمل عليها نموذج كون ، وإمكانات يحركها هذا التصور نحو تشريح النماذج تمهيداً لتفعيلها وتشغيلها.
هذا البحث يتضمن ((دعوى عملية مهمة)) وهي تتأسس على إمكانية تحويل القيم ضمن الرؤية الإسلامية لبناء منظومة وشبكة علاقات بين مفرداتها ووحداتها وآليات تفعيلها ونماذج تشغيلها بما يثبت لهذا المدخل عناصر تعزز وصفه باعتبار القيم نموذجاً إرشادياً ونسقاً قياسيّاً ضمن رؤية تأسيس للرؤية الإسلامية.
نحن أمام نموذج إرشادي بنائي يحرك عناصر بحثية وعلمية ونظرية ومنهجية وأكاديمية صوب تعامل قد يؤتي بعضاً من أكله ، ونستطيع القول : إنه قد حقق أهدافاً مرحلية ضمن خطته العامة ، ولكن مازال يستحق هذا المدخل متابعة وتجريب ، وربما يستحق أكثر من مراجعة وكثير من الإضافة أو التعديل.
تاسعاً : القيم إطار مرجعي :
وفق عناصر الرؤية النقدية نجعل من القرآن والسنة أطراً مرجعية تأسيسية ، ومن اللغة والمصادر التبعية مصادر مرجعية مشتقة من المهم استثمار كافة طاقاتها في بيان الرؤية التأسيسية وعناصر العملية التفعيلية والتشغيلية.
الواقع وفقه عناصره ضمن منظومة أصول الفقه الحضاري من أهم عناصر تشكيل الإطار المرجعي في إطار أنه لابد وأن نعطي الواقع حقه من الواجب وأن نعطي الواجب حقه من الواقع ، عمليات متفاعلة ضمن عناصر التفكير المتفاعل بين مراجع التأسيس والتأصيل ، ومراجع الواقع باعتباره في عمليات فقه الواقع وفقه الحال ، وفقه المآل وفقه التنزيل.
والجماعة المرجعية على ما أكدنا ضمن مرجعية التأسيس تنصرف إلى الأمة؛ خيريتها صفة ، ووسطيتها منهجاً ، وشهودها فعلاً وفعالية وتأثيراً. وهي لا تتنافى أو تنفي جماعات مرجعية فرعية أو مشتقة أخرى بل توظفها في كيان الأمة ، بحيث تصب في عناصرها المؤسسة (الخيرية – الوسطية – الشهود). وشبكة الإسنادات المرجعية هي جملة المراجع والمصادر التي يجب الرجوع إليها من دون أن يعني ذلك انغلاقها أو الاكتفاء والانكفاء عليها ، بل ضرورة أن تتحرك صوب أهم صفة لها وهي التي تتعلق بنسقيتها المنفتحة في أطر المقارنة ، وعمليات تحكم التواصل بين عناصر العلم النافع ومعاني الحكمة في كل سياقاتها وتنوعاتها.
إن هذا البحث في جملته وبكل عناصره إنما يشكل الكيفيات التي تجعل القيم والمدخل المرتبط بها إطاراً مرجعيّاً فاعلاً ومفعلاً ومشغلاً.
العنصر المفاهيمي
|
العنصر النظري
|
قواعد التفسير |
عناصر تحديد
|
الرؤية الكلية
|
|||||
|
|||||||||
مفهوم القيم |
المنظومة
|
الوصف والرصد |
الضروري في الأجندة
|
رؤية العالم
|
ونختم هذه النقطة في إطار التعامل البحثي وما يتركه اعتبار مدخل القيم إطاراً مرجعياً ، وما يتركه من آثار بحثية ومنهجية ، حيث يعد الإطار التصوري فرعاً عليه ، والنموذج الإرشادي مولداً عنه ، ورؤية العالم مستنبطاً منه ، والنموذج القياسي أحد أهم توظيفات الإطار المرجعي. والإطار المرجعي بحق هو النواة الصلبة التي تتحرك صوب الإسهامات الأربعة الأخرى لمدخل القيم.
شكل يصعب رفعه على الموقع
نستطيع إذاً أن ندعي أن القيم كإطار مرجعي من أهم الجوانب التي تحدث تفعيلاً لمدخل القيم وإعادة الاعتبار له ضمن الرؤية الإسلامية.
عاشراً : خلاصات التأصيل :
رد الاعتبار للقيم في الرؤية الإسلامية هي الخطوة التأسيسية الأولى ضمن مدخل القيم ، رد الاعتبار ضمن هذه الرؤية يتخذ مسارات بحثية ومنهجية وتأصيلية مختلفة.
v أولها : يتعلق بعمليات التأصيل بالتوصيف ، وهي العمليات التي تتحرك صوب البحث في الطبيعة والمكونات والقدرات والإمكانات ، ويتعلق هذا التأصيل بعناصر بنيات ثلاث :
1. البنية اللغوية والسعة اللغوية لمفهوم القيم.
2. البنية المعرفية والروح السارية للقيمة.
3. البنية المفاهيمية والقيم كمفهوم حضاري شامل وواصل وجامع.
v ثانيها : يتعلق بالتأصيل بالتصنيف ، كعمليات دالة على رؤية القيم كمنظومة كلية تتفاعل داخلها وحدات القيم وتصنيفاتها ، وإمكانات البحث في ترابطها وتصاعدها فضلاً عن تفاعلاتها ، كل ذلك بما يضمن أصول التفعيل وعمليات التفاعل ومقاصد الفاعلية.
v ثالثها :يتعلق بعمليات التوظيف والتأصيل من خلالها ، التوظيف إذن واحد من أهم العمليات لرد الاعتبار للقيم في الرؤية الإسلامية ، القيم كوظائف تتحرك صوب اعتبارها : رؤية للعالم بكل ما تتيحه هذه الرؤية من تأثيرات بحثية وموضوعية ، كذلك فهي إطار مرجعي بما تؤكد فيه من اعتبارها مرجعية تأسيس وتكوين وتمكين شبكة الإسنادات المرجعية ، وهي كذلك مدخل منهجي يتحركصوب العمليات المنهجية الأساسية بما توفره من إطار للنظر ، في الوصف والرصد والتصنيف والتحليل والتفسير والتعميم والتقويم ، كذلك فإن القيم يمكن تأصيلها من خلال توظيفها كنموذجإرشادي يؤصل عمليات مهمة تسهم في بناء رؤية وإطار نظري ومنظومة مفاهيمية وتشكيل إشكالات بحثية وتكوين أجندة بحثية تحدد الأولويات وفقاً للقدرات والإمكانات والفاعليات. وهي في النهاية يمكن اعتبارها نسقاً متكاملاً وتقويماً لحركة الواقع وقدراته وعناصره وممارساته وعوالمه المختلفة.
v عمليات التأصيل تلك تهدف إلى ضبطالرؤية ، وضبط الواقع ، وضبط القيمة ، وفرز المواقف وفي النهاية تقويم الأفعال ، تحرك أصول منهج نظري ، ومنهج تناول ، ومنهجتعامل في إطار عمليات متواصلة من التفعيل والتشغيل هادفة للعلم النافع المثبت المفضي إالى العمارة الحضارية بمفهومها الواسع في سياق معايير الرؤية الإسلامية. هذه الرؤية يمكن تمثيلها ضمن الشكل التالي :
شكل يصعب رفعه على الموقع (رد الاعتبار للقيم في الرؤية الإسلامية)
*هذا البحث ملخص لكتاب بنفس العنوان في سلسلة مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، وقراءة هذا البحث لا تغني عن قراءة أصل الكتاب، حيث يتضمن الكتاب تفصيلات حول نماذج التشغيل المشار إليها في الجزء الأخير من البحث.
*يقتصر هذا البحث على النقطة الأولى المتعلقة بتأصيل القيم، ونتناول في العدد القادم – إن شاء الله – ما يتعلق بالمفردات والعناصر. أما باقي النقاط فنأمل أن تخرج في دراسة وافية مستقلة.