أبحاث

أوجه قصور العقلية البحثية وعلاجها نموذجًا للتوحيد الفكري للأمة

العدد 73- 74

يصنع العلماء الأفكار التى تسهم بدورها فى تشكيل وعى ،ومن ثم سلوك أبناء الأمة ،عوامهم وخواصهم، ومن المفترض أن يتراوح سلوك هؤلاء الأفراد بين السواء والشذوذ تبعاً لما تتسم به تلك الأفكار من صحة أو فساد ،وحيث إن منبع تلك الأفكار من صحة أو فساد ،وحيث إن منبع تلك الأفكار هو العقل . فإن القصور الذى يشوب العقلية البحثية لأولئك العلماء من شأنه أن يؤثر سلباً على ما يصدر عنهم من أفكار وما يتوصلون إليه من نتائج،لذا يجب ألا نكتفى بتتبع الأفكار المعيبة والممارسات غير السوية التى تصدر عن العقل البشرى سواء كان فردياً أم جميعاً (من قبيل القول بالتميز العرقى ،والتكفير والاستباحة ،والتميز الطبقى ، والتعصب الطائفى ،والتحزب الفكرى ،وتبديل الانتماءات )لإصلاحها ،بل يجب أن نكثف جهودنا أيضاً لفحص مصنع تلك الأفكار (العقل ) ،للوقوف على أوجه الخلل فيه سواء كانت تتصل بأساليب إنتاج تلك الأفكار ،أو معايير مراقبة صلاحيتها ،فضلاً عن أوجه القصور التى تكتنف منهجية البحث ،وهى العملية التى يتم بموجبها توظيف النشاط العقلى والقواعد والمعايير التى تحكم حركته ،فى الحصول على المعارف المستحدثة وابتكار الأفكار الجديدة – ذلك أن القصور لا يمكن فى المنهج ،بل فى إساءة توظيفه واستخدامه من قبل الباحث ،والذى ينجم عادة عن قصور عقليته البحثية ،وسنسعى فى الدراسة الحالية لإلقاء الضوء على مصادر كما يبتدى فى الإنتاج الفكرى لبعض الباحثين المسلمين ،وتجدر الإشارة إلى أنه يحدونا ونحن بصدد تلك المهمة افتراض أساس مفاده أن جوانب القصور لدى هؤلاء الباحثين غير متعمدة ،ومن ثم فإنهم إذا بصروا بها ، وقدم إليهم العون للتغلب عليها سنخفض احتمال تورطهم فى إصدار أفكار أو ارتكاب ممارسات مماثلة فيما بعد ،بيد أن هذا لا ينفى إمكانية قيام البعض بإساة استخدام المنهج بشكل متعمد يكونون فيه على علم . بمواضع الفساد فيما يتصلون إليه من أفكار ،لكنهم يتغاضون عن ذلك لتحقيق مآرب خاصة ،وفى هذه الحالة سيتمثل دورنا فى توسيع دائرة من يسهل عليهم اكتشاف تلك المواضع وتحصينهم ضد مواطن الفساد فيها ،ومن ثم تصبح فرصة تحجيم تلك الأفكار وحصارها عند المنبع كبيرة .

لكى ننجز تلك المهمة سنقسم هذه الدراسة إلى قسمين رئيسين هما :

أولاً: شق تشخيصى : نسعى فيه للوقوف على مظاهر قصور العقلية البحثية كما تتجسد فى الإنتاج الفكرى للباحثين .

ثانياً: شق علاجى : ونطرح فيه بعض الاستراتيجيات ،وما قد ينبع منها من برامج وإجراءات لمواجهة تلك الأوجه من القصور .

وفيما يلى ندلف ثنايا ذلك الموضوع كى نتلمس الملامح الميزة لكل شق منها وما ينطوى عليه من تفاصيل، سنعرض لها على النحو التالى:

القسم الأول

الشق التشخيصى :

يحوى هذا الجانب مجموعة من المظاهر التى تعكس قصور العقلية البحثية وما ينجم عنها من آثار سلبية فى حياتنا الفكرية ،وتنتظم تلك المظاهر فى فئات أربع يبينها الشكل التالى :

وفيما يلى بيان مفصل لما تحويه كل فئه من الفئات السابقة من عناصر فرعية :

الخلط فى إدراك العلاقات بين الظواهر

1- صعوبة التميز بين أنماط العلاقات

2- الخلط بين المحددات والمرتبات

3- عدم تلمس الروابط بين البحوث ومواطن تطبيقها

4- الخلط بين الوقائع والتفسيرات

مشكلات تتصل بتقويم وتفسير الظواهر

1- العجز عن تحديد الوزن النسبى للأسباب المسئولة عن الظاهرة

2- ضعف القدرة على التفكير النقدى

أ- نقد الفكر الآخر

ب – نقد الأفكار الذاتية

3 – الجدب التفسيرى

أ – التسطيح التحليلى

ب – العجز عن التنبؤ بالمترتبات البعيدة للأحدث الحالية

4- التسرع فى الحكم

الخلل فى أساليب تنظيم الأفكار تنظيم الأفكار وطرق التعبير عنها

1- الإسهاب 

2– ضعف القدرة على التمثيل

3- ضعف القدرة على تكوين فئات لتنظيم واستيعاب المعلومات

4- نقص الطلاقة الفكرية واللفظية

5- العجز عن طرح الأطر التنظيرية

إساءة استخدام المفاهيم

1- استخدام نفس المفهوم بأكثر من معنى

2- استخدام عدة مفاهيم للدلالة على معنى واحد

3- التداخل بين المفاهيم : إدخال جزء من مفهوم فى آخر

4- صعوبة إدراك العلاقة بين المفاهيم

أولا : الخلط فى إدراك العلاقات بين الظواهر والمتغيرات

تحوى هذه الفئة المظاهر التالية :

أ- صعوبة التمييز بين أنماط العلاقات: إن فهمنا للظواهر وإدراكنا لطبيعتها يتوقف على قدرتنا على الإلمام بالأنماط السائدة للعلاقات التى تربط بينها ،والتى يترتب عليه ،بالضرورة ،تحديد أسلوب التعامل معها رصداً وتفسيراً وتنبوأ وتحكماً ،ومن المفترض أن الخلط بين تلك الأنماط يؤدى إلى إلحاق قدر متفاوت من الاضطراب فى معالجتها ،وحتى يزداد الأمر وضوحاً حرى بنا أن نعرض لأنواع العلاقات التى يتفق الباحثون على أنها تربط بين الظواهر وهى :

1- علاقات ارتباطية (1) ،وبموجبها يتمكن الباحث من الوقوف على حجم ووجهة العلاقة بين ظاهرتين (متغيرتين ) هلى هى قوية أم ضعيفة ،إيجابية أم سلبية ؟ بيد أنه يصعب فى ظلها تحديد أيهما السبب وأيهما النتيجة ،كما فى حالة العلاقة بين نوع الدين ،والتفوق الدراسى .

2- علاقات سببية أحادية الاتجاه (2) : وتشير إلى أن متغيراً يؤثر فى فى آخر بحيث إن أحداهما يكون سبباً والآخر نتيجة ،كحدوث زلزال وانهيار منزل ،أو ارتفاع الوعى الفكرى وتقبل الرأى الآخر .

3- علاقات السببية المتبادلة (3) ،وتعنى وجود تفاعل وتأثيرات متبادلة بين ظاهرتين ،فكل منهما سبب ونتيجة فى آن واحد ،كالإيمان والعمل الصالح ،فالإيمان يحث على إتيان العمل الصالح ،وممارسة العمل الصالح ،بدورها ،تزيد من الإيمان مصداقاً لقول الرسول الكريم :”الإيمان يزيد بالطاعة ،وينقص بالمعصية “

إن الخلط الناتج عن انخفاض الوعى بالحدود الفاصلة بين تلك العلاقات يؤدى ،على سبيل المثال ،إلى أن يتعامل الباحث مع ظواهر تنطوى العلاقات بينها على السببية المتبادلة من منظور العلاقات السببية أحادية الاتجاه ،مما ينعكس سلباً على كفاءة ما يتوصل إليه من نتائج ومدى ملاءمتها للواقع المستمدة منه ،كمن يعزو انخفاض مستوى الفقهاء فى العصور المتأخرة (النتيجة ) إلى ضعف قدراتهم الاستدلالية (السبب) ،ناسياً أن العلاقة بينهما علاقة تأثير متبادل ،ذلك أن غلق باب الاجتهاد قلل من فرص توظيف الفقهاء لقدراتهم ،مما أدى إلى انخفاضها ،وفى المقابل أصبح التصدى للقضايا الخلافية الشائكة بصورة مستقلة فى ظل هذا الخمول الفكرى أكثر صعوبة ،مما عمق من حالة تعطيل تلك القدرات على نحو أصبحوا فيه أكثر عجزاً ،وهكذا .

ب- الخلط بين المحددات والمترتبات :

من المعروف أن لكل ظاهرة عوامل تسبقها (محددات ) (4)،وهى التى تسهم فى تشكيلها ،على النحو الذى هى عليه ،وآثار تترتب على حدوثها (مترتبات ) (5) .

ويؤدى الخلط بين ما يسبق الظاهرة من متغيرات وما يترتب عليها من آثار إلى صعوبة التمييز بين الأسباب والنتائج ،ومن ثم تضاؤل القيمة التطبيقية للبحث ؛لأن عملية التشخيص غير الدقيقة توجه الطاقات وجهة غير صحيحة ،كمن يتعامل مع ارتفاع درجة الحرارة على أنها سبب المرض الذى يعانيه طفله ،فتنصرف كل جهوده لتخفيضها ،فتتزايد درجة الحرارة ذلك أنها نتيجة لوجود الميكروب المسبب للحمى داخل الجسم ، وليست سبباً للمرض ،أو كمن ينظر إلى تجنب أفراد الأغلبية لأبناء الأقليات بوصفه سبباً للتعصب (6) ، فيعمل على الحد منه بافتعال سباقات للتفاعل بينهم ،ونظراً لأن هذا التجنب نتيجة لسبب آخر من قبيل تبنى انطباعات وتصورات سلبية حولهم ،فإن هذا الإجراء يفاقم التعصب ،لأنه كان يجب تغيير تلك التصورات ، أولاً ،قبيل ذلك التفاعل الذى قد يكرس ،حينئذ ،التعصب ويقدم له مبررات أكثر واقعية .

ج – عدم تلمس الروابط بين البحوث ومواطن تطبيقها :

كما أن الطائر لا يطير إلا بجناحين ،كذلك ،كذلك فغن البحث العلمى لن يكتمل دوره إلا بإيجاد جسور ومنافذ لتطبيق منجزاته وتجريب أثارها ،حتى يتأتى تطويرها كدلالة للعائد النات عن تلك التطبيقات ،ومن ثم فعلى العلماء أن يقدموا مؤشرات حول ما يمكن أن يجنيه المجتمع من جهودهم حتى يسهل إقناع أهل القرار وإشعار المواطن العادى بالفوائد المباشرة للبحث العلمى . وفى هذا الصدد فإن تقاعس أهل التنفيذ عن الاستعانة بالبحث العلمى قد يعزى – جزئياً – إلى عدم مبادرة أهل العلم بتوضيح كيفية الامتداد بنتائج بوثهم على الصعيد التطبيقى ،أو لأن هؤلاء الباحثين يتناولون موضوعات ذات وشائج واهية بالواقع ،أو لعجزهم عن تبسيط لغة الخطاب العلمى ليتلاءم مع خطاب أهل التفيذ مما ييسر فرص التلاقى بينهم ،فالصلة بين البحث والمجالات التطبيقية قد تكون وثيقة فى بعض الحالات ،لكن اصطناع الباحث لغة يدق فهمها إلا على أهل التخصص يحجب تلك الصلة عن أهل التنفيذ ،كذلك الباحث الذى يشير إلى أن التعصب مشبع على عامل عام يتكون بدوره من عوامل طائفية ،وبطبيعة الحال لن يدرك رجال التربية والإعلام مغزى تلك النتيجة وما تنطوى عليه من أهمية تطبيقية ،لكن حين يعبر عنها بلغة ملائمة يشير فيها إلى أنه بالإمكان التنبؤ من السلوك التعصبى فى مجال ما (الرياضة ) بالسلوك التعصبى فى مجال آخر (السياسة ) بوصفهما مكونات للتعصب العام ،وأن تقليل التعصب فى أيهما قد يؤدى إلى خفض مماثل فى الآخر بفعل انتقال أثر التدريب داخل العناصر التى تشملها فئة واحدة (عامل عام واحد ) ،فإن الأمر سيكون جد مختلف .

د – الخلط بين الوقائع والتفسيرات :

من المسلم به أن الوصف يعنى بتحديد ملامح الظاهرة ،أما التفسير فينطوى على الوقوف على الأسباب المفترض مسئوليتها عن حدوثها ،ويكون الوصف أكثر موضوعية حيث ينأى بتحيزات الباحث ،فى حين التفسير ذو طبيعة ذاتية ،فوصفنا لمظاهر السلوك التعصبى من قبيل تجنب التزاوج مع أبناء الفئة الأخرى ، أو مصادقتهم ،أو السكنى معهم يسهل الاتفاق عليه بين الباحثين ،أما تفسير الدوافع الكامنة خلفه فقد تتنوع ، آراؤهم ،وبناء على هذا يجب أن يميز الباحث بدقة بين وصف الوقائع التى يتعامل معها والتفسيرات التى تطرح بشأنها ،فالأولى تحتمل قدراً أقل من الشكل –مقارنة بالثانية ،وقد يتأتى تفسير العديد من الخلافات العميقة فى فهم تاريخ الأمم والحضارات إلى العجز عن القيام بتلك التفرقة ،حيث يخلط بين الواقع التاريخية وتفسيرها ،كذلك فإن ذلك العجز يجعل من العصب علينا تقليد حجج من نختلف معهم ؛لأن عدم عزل الواقعة الموثوق فيها عن الرأى المشكوك فى صحته يفضى قوة إليه .

ثانياً : مشكلات تتصل بتقويم وتفسير الظواهر :

تشمل هذه الفئة أوجه القصور التالية :

أ- العجز عن تحديد الوزن النسبى للأسباب المسئولة عن الظاهرة :

من المفترض أن لكل ظاهرة عدداً من الأسباب المسئولة عن حدوثها ،وأن كل سبب منها يسهم بمقادير متفاوتة فى ذلك الحدوث ،وأن ذلك الإسهام يتباين كنتيجة لأى تغيرات تلحق بالسياق الذى تحدث فيه الظاهرة ويؤدى ضعف القدرة على تقويم تلك الأوزان إلى عدم استقامة عملية التفسير ،فنخال الباحث يشير إلى متغيرات بعينها على أنها أكثر أهمية فى تفسير الظاهرة ،وهى ليست كذلك ،فى حين نغفل الأكثر أهمية بالفعل ،ويترتب على ذلك ،بطبيعة الحال ،انخفاض كفاءة معالجة الظاهرة ،فعلى سبيل المثال حين يخلص باحث فى العلوم الطبية إلى أن تناول أطعمة ملوثة هو أهم سبب للإصابة بالفشل الكلوى ،وليس شرب مياه غير نقية ،فغن الجهود العلاجية والوقائية ستنصرف حينئذ إلى ذلك المتغير بصورة مكثفة ،مما يترتب عليه استشراء المرض ؛لأن الأهالى سيتوسعون فى استخدام المياه غير النقية لغسل أطعمتهم ،وسيستمر السبب المولد للمشكلة بمنأى عن العيون ،أو كما يحدث حين ينصرف اهتمامنا ونحن بصدد تفسير ظاهرة الصحوة الإسلامية إلى متغيرات بعينها بوصفها أهم أسباب نشوئها من قبيل الشعور بالتحدى الحضارى ،وتضاءل الإحساس بقيمة الذات ،والرغبة فى استعادة الهوية ،مما يؤدى إلى التعامل مع هذه الظاهرة على نحو غير مثمر فيه إهدار لطاقات الأمة .

ب- ضعف القدرة على التفكير النقدى :

إن التفكير النقدى (7) بمثابة مصفاة لتنقية الأفكار قبل دخولها العقل .

إنه كالحارس يجب أن يتحقق من هوية كل الداخلين حتى يصبح البناء الفكرى للإنسان آمناً ،وثمة جانبان لهذا المتغير هما :

1- نقد أفكار الآخر : تتمثل أهمية تلك القدرة فى أن كل كاتب ،أو متحدث ،يحرص على حشد الوقائع المؤيدة لأفكاره ،ويتجنب ،قدر استطاعته ،التلميح لمواضع الوهن فيها أو الإشارة إلى أكثرها قابلية للتنفيذ ،ومن ثم فإن مهمة الباحث المطالع للتراث العلمى والإنسانى ،سواء كان منشوراً أو مسموعاً ،أن يكون قادراً على قراءة ما لم يكتبه الآخرون ،وسماع ما يجنبون الإفصاح عنه ،لأن هذا هو المدخل الأكثر ملاءمة للفهم ما يتلقاه بصورة أكثر موضوعية وإثماراً ،لأنه إن لم يفعل ذلك سيصبح فى موقف يسهل فيه تسرب أفكار فاسدة إلى عقله من شأنها أن تتلف ،كالتفاح المعطوب ،ما حولها من أفكار ؛بل إن الأمر قد يمتد فيصاب حين يتمثلها بالتسمم الفكرى .

ولا يغيب عن أحلامنا أن العديد من الفتن وعمليات الاستقطاب الفكرى والإغواء المذهبى قد استشرت فى ظل تلك الحالة من الخدر النقدى .

2 – نقد الأفكار الذاتية : نعنى فى هذا السياق بقدرة الفرد على نقد إنتاجه الفكرى ؛لأن ضعف تلك القدرة لدى الباحث أو العزوف عن ممارستها ،والذى ينطوى على تبينه معايير متساهله للحكم على عمله يتم بموجبها إجازته على المستوى الشخصى (وهى مشكلة نعانى منها نحن الباحثين المسلمين بشدة الآن ) يضعه فى موقف حرج حين يخرج العمل إلى النور للأعين الفاحصة ،والعقول الناقدة التى تجول فيه ،آنذاك ،باحثة عن المثالب والثغرات التى سرعان ما تضع أيديها عليها ،مما يعطى انطباعات سلبية عن كفاءة الباحثين المسلمين ويمكن الآخرين من النيل منهم ،وهو يدعونا إلى ضرورة تبنى مبدأ عام يجب أن يكون من بين ركائز بنية باحثينا ومفكرينا المسلمين مفاده ،يجب أن نتشد على أنفسنا قبل أن يشتد علينا الآخرون ،وفى المقابل فإن تبنى الباحث لمعايير نقدية صارمة يجب أن يستوفيها عمله ،حتى يجيزه شخصياً ،وطرح سيناريوهات بديلة ،كما يفعل القائمون بعمليات التدريب على اتخاذ القرار ؛لأوجه النقد المحتمل توجيهها إلى أفكاره ،حتى تهيأ لها مسبقاً ،والبحث عن الوقائع والأدلة المعارضة لنتائجه ومناقشتها ،بغض النظر عن مدى نجاحه فى تفنيدها ، حتى يلف نظر من يلونه ويشحذ قدراتهم لإزاحة الغموض عما عجز عنه – يدفع بالبحث العلمى خطوة إلى الأمام ،فضلاً عن أنه سيزيد من مصداقيته على المدى البعيد .

ج – الجدب التفسيرى : لهذا المظهر جانبان رئيسيتان هما :

1 – التسطيح التحليلى : يشير هذا المفهوم إلى عدم تطرق الباحث لسلسلة الأسباب الأكثر عمقاً المسئولة عن الظاهرة التى يحللها ،والاكتفاء بدلاً من ذلك بالتوقف عند الأسباب المباشرة (السطحية )؟ كمن يفسر الصدام بين جماعات الأغلبية والأقلية بأنه راجع إلى تناقض معتقداتها ،مع أن هذا التناقض يعزى بدوره إلى أسباب أخرى من قبيل سوء فهم الجانبين لتلك المعتقدات ،والذى قد يرجع ،بدوره ،إلى غياب أو نقص المعلومات المتبادلة بينهما من خلال المصادر الأصلية ،مما تتضاءل معه فرص الوصول إلى حلول لتلك المشكلات .

2 – العجز عن التنبؤ بالمرتبات البعيدة للأحداث الحالية : إن ضعف تلك القدرة لدى الباحث يجعله عاجزاً عن استشراق الأحداث المستقبلية ،ومن ثم لا يعد لها العدة حال حدوثها ،وفى المقابل فإن قدرته على التنبؤ بسلسلة طويلة من المترتبات المتوقعة لأحداث معينة تمكنه من تبنى استراتيجيات طويلة المدى للتعامل معها (يلاحظ أن غياب الاستراتيجيات طويلة المدى لدى المسلمين قد يغزى – جزئياً – إلى ضعف تلك القدرة ) ، ومن الأمثلة التى تجسد تلك الفترة ،أن تقوم بطرح سلسلة العواقب المترتبة على حدث ما ،كانتشار ظاهرة البث الفضائى المباشر للإرسال التلفزيونى الغربى وبعض انعكاساته على الشعوب الإسلامية ،حيث يفترض أن انتشاره سيزيد من شعور أبناء تلك الشعوب بمحاولات اقتحام عقولهم وطمس هويتهم (العاقبة رقم 1) وهو ما يثير تحفزهم وتحديهم لتلك المحاولات (2) . مما يغذى لديهم الاتجاهات التعصبية نحو القائمين بالبث (3) وقد يؤدى هذا إلى تدعيم تماسك الجماعة للتصدى للخطر المحدق بها (4) ،وقد يترجم هذا فى صورة سلوكيات مضادة منظمة ،أو فريدة ،جيال الهيئات المهيمنة على تلك الأدوات (5) .

أى أننا وفق تلك السلسلة من المترتبات نتوقع أن يؤدى البث المباشر إلى ظهور سلوكيات مضادة حيال الرموز المعبرة عن القائمين به مستقبلاً ،لذا يجب أن نخطط من الآن لإدارة وضبط تلك النزعات العدائية لكفها أو توجيهها الوجهة الإيجابية بحيث تقتصر آثارها على التحدى المنشط لسلوك سبيل النهضة واستعادة المواقع الحضارية .

د – التسرع فى الحكم: إن التسرع  فى الحكم يأتى صورتين يوضحهما ابن سينا فى مقولته الشهيرة :”إن كلاً من تكذيب ما لم يتم التحقق منه من قضايا تتصل بالطبيعة أو السلوك ،أو تصديق ما لم تقم عليه بينه أو دليل حق – نوع من الخرق لا يقع فيه العلماء ” (عبد الحليم محمود ،1989،5) ،أى أن التسرع فى النفى بدون دليل ،ومن المفترض أن درجة منهجية الباحث تتوقف على ترويه فى القيام بتلك العملية ،فالتسرع يفقده الفرصة فى القيام بتلك العملية ،فالتسرع يفقده الفرصة لمراجعة الذات ،ولا يترك أمامه مندوحة للتراجع إلا أن يستمر فى دفاعيته وإصراره ،ويجعل أحكامه أكثر عرضة للنقض والتعديل ،ويزداد الموقف سوءاً حين ترتبط خاصية القطع فى الأحكام بالتسرع فى إصدارها .

ثالثا : الخلل فى أساليب تنظيم الأفكار وطرق التعبير عنها :

يتضمن هذا العنصر مظاهر متعددة تتمثل فيما يلى :

1 – الإسهاب : إن اللغة موصل للمعنى ،وكلما كان المعنى واضحاً فى ذهن الباحث فإنه يعبر عنه بطريقة واضحة أيضا ،ومن أهم مؤشرات ذلك الوضوح الاستعانة بأقل عدد من الألفاظ لنقله هذا المعنى ،أما الإفراط فى استخدام المترادفات سينطوى ضمنا على عدم توازى المعانى التى تحملها تلك الأفاظ لدى المتلقى ،لأن هناك فروقاً طفيفة بينها قد تدق على بعض الأفهام ،مما يحدث نوعا من التشوش فى المعانى المراد توصيلها ولا ننسى كذلك أن من يكتب – أو يتحدث – كثيراً دونما داع لن يجد قارئه ،أو مستمعه ،وقتا ليقرأ له ،أو يسمعه فيه ،وهو ما يبرز أهمية تنمية مهارة القدرة على الإيجاز لدى الباحثين .

ب- ضعف القدرة على التمثيل :

حين يعبر الباحث عن الأفكار النظرية بصورتها المجردة فقد يصعب على المتلقى فهمها ،لأنها تتطلب فرداً يتحلى بقدرات ذهنية متميزة ،أو قد يدركها على نحو مختلف ،بدرجات متفاوتة ،عما يرمى إليه الباحث ،وهنا تظهر أهمية الاستعانة بأسلوب التمثيل والذى يعتمد على تقديم أمثلة عيانية (ملموسة ) تقرب المعنى المجرد إلى الأذهان ،”فأنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفى (مجرد )(8) إلى جلى (عيانى )(9) ،وأن تردها من الشئ تعلمها إياه من شئ آخر هى بشأنه أعلم ” (الجرحانى 1988 ،102 ) ،ويجب التنويه إلى فعالية ذلك الأسلوب تتدنى حين يستخدمه الباحث بطريقة غير كفء من قبيل عدم دقة التشبيه التمثيلى ،حيث لا يعكس المثال أوجه الشبه الجوهرية التى يشترك فيها مع المفهوم المجرد ،كمن يضرب مثالاً بعلاقة التوأمة للعلاقة بين التطرف الفكرى والسلوكى ،وأحياناً أخرى تكون الروابط بين المثال والمعنى المجرد غير واضحة ،أو يستخدم الباحث أمثلة نمطية لا تصلح فى ظل تطور المعرفة الحالية لأن تدعم المعنى المراد كمن يضرب مثالاً للذكاء الحاد بأحد الحيوانات .

ج – ضعف القدرة على تكوين فئات لتنظيم واستيعاب المعلومات :

 إن قيام الباحث باصطناع فئات لتنظيم المعلومات التى يتلقاها عن آخرين أو يعرضها عليهم يتأتى إما من خلال تحليل مضمون البيانات المطروحة والتوصل إلى فئات تنتظم فيها ،أو فرض إطار تصنيفى عليها مع مراعاة إمكانية التفاعل المتبادل بين ذلك الإطار وتلك المعلومات على نحو يسمح بتعديله ،ومن مظاهر قصور تلك العلمية دخول بعض المفردات فى فئتين فى نفس الوقت ،أو عدم استيعاب أى من تلك الفئات لبعض المفردات ،أو الوقوف بتلك الفئات عن مستوى أقل عمومية مع أنه بالإمكان دمجها فى فئات أعم ،أو أن يستمد الباحث من أقل المفردات أهمية مسمى الفئة ،وبذا يصبح عنوان الفئة غير معبر عن مضامينها بشكل دقيق ،أو إقحام فئات مسبقة على بياناته والعمل على تسويتها بصورة متعسفة كى تتدرج فى تلك الفئات وهو ما يذكرنا بأسطورة السرير الإغريقية ،ومن المتوقع أن يؤدى عجز الباحث عن ابتكار فئات مناسبة لتصنيف ما يتعامل معه من معلومات إلى أن تتجمع فى أشكال متورمة ،وغير مبررة على المستوى العقلى يصعب معه توظيفها ،أو الاستدلال منها على القوانين العامة التى تحكمها ،بل قد تكون ذات تأثير سلبى فى بعض الحالات مثل مياه الفيضان التى لا تجد قنوات تسير فيها .

د – نقص الطلاقة الفكرية واللفظية :

تتجسد تلك الآفة فى ذلك الشعور الذى يسربه الباحث إلى الملتقى يجذب اللغة والفكر ،فنخاله يستخدم ألفاظاً محدودة بصورة متكررة ،فاللفظ الواحد قد يتكرر فى نفس الصفحة ؛بل وفى ذات السطر ،مما يوحى بضآلة رصيده اللغوى ،ويورطه ،فضلاً عن ذلك ،فى مشكلة تداخل المعنى ،ونجده أيضاً يقدم فى بحثه عدداً ضئيلاً من الأفكار التقليدية الت يقتصر دوره على استعارتها عن الآخرين ،دونما إدخال تعدييل عليها يبرز هويته وتفرده ،ومما يجسد ذلك الموقف أن هناك الآلاف من البحوث التى ينتجها المفكرون المسلمون ،يبد أن الأفكار المبتكرة فيها الكفيلة بإحداث تطوير فى المجالات التى تتناولها لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ،ويدعم ذلك التصور أن جهود بعض المفكرين قد اقتصرت فى عصور بأكملها ،بعد مرحلة غلق باب الاجتهاد الفقهى على شرح الكتب السابقة ،لا يزيدون شيئاً من عند أنفسهم ،وتلخيصها ،والكتابة على حواشيها وهوامشها (عطية ،987 ،39 ) .

ذ- العجز عن طرح الأطر التنظيرية :

كما أن الفكر يقود السلوك ،كذلك فإن النظرية (10) توجه طى الباحث ،وجدير بالذكر أن النظريات – على حد قول كلود برنارد – لا توصف بالصواب والخطأ ،ولكن بالخصوبة أو الجدب Etsenck,(p4.1947)) ومن ثم فإن غياب نظريات خصبة يجعل ما تحت أيدينا من بيانات كالعقد المفرط الحبات من الوقائع Emmertc) (Brooks,1970,p.4) . ويجعل من العسير على الباحث تناول ظواهره ونجاحه فى التعبير عما توصل إليه من نتائج والامتدادبها إلى آفاق أرجب ،ومن الملاحظ أن السمات التى تجمع بين البحوث محدودة القيمة ومنتبة الامتداد على الساحة البحثية والتطبيقية هى غياب أو ضعف الأطر النظرية التى توجهها .

رابعاً : إساءة استخدام المفاهيم :

إن غياب التعريف الإجرائى (11) للمفاهيم التى يستخدمها الباحثون فى تناولهم للموضوعات التى يبحثونها يؤدى إلى تعميق الاضطراب فى التواصل العلمى ،حيث يصعب على الباحث الواحد أن يصف نفس المفهوم بذات الطريقة فى المرات المتعددة ،ولا يتمكن الباحثون لمختلفون من وصفه بنفس الكيفية ،ومن أبرز مظاهر تلك الإساءة ما يلى :

أ- استخدام نفس المفهوم بأكثر من معنى :

كأن نستعمل لفظ نظا على أنه يعنى الدقة فى سياق ،والمؤسسة السياسة الحاكمة فى سياق آخر ،ولا يفوتنا فى هذا الصدد التنويه إلى بعض المشكلات الواقعية التى حدثت من جراء هذا الاستخدام المزدوج قديماً ،من قبيل مسألة قتل الأسرى ،ومنهم مالك بن نويرة ،فى حروب الردة ،أو حديثاً مثل ذلك التشويه الحادث لكلمة أصولى ،حيث أصبح لها معنيان مختلفان :

أحدهما يشير إلى المتخصص فى علم أصول الفقه فى حين يشير الآخر إلى المنادى بالعودة إلى الجذور الإسلامية .

ب- استخدام عدة مفاهيم للدلالة على معنى واحد :

كأن نستخدم مفهوم الابتكار والعبقرية والإبداع والاكتشاف للدلالة على معنى الإبداع ،وهو ما ينجم عن مشكلة شيوع المترادفات غير المتساوية فى المعنى – مما يجب المعنى المراد ،ويولد مشكلة الإسهاب وما ينطوى عليه من تبديد الطاقة ،وزيادة احتمالات سوء الفهم ،ومن ثم أخطاء التطبيق .

ج – التداخل بين المفاهيم :

أى إدخال أحد عناصر المفهوم فى آخر مما يحدث ليسا بينهما يترتب عليه أنواع من الخلل فى المجالات التطبيقية التى يستخدمان فيها ،فعلى سبيل المثال حين نخلط بين مفهوم توكيد الذات والعدوان على أساس أن كليهما يتضمن عنصر التعبير عن المشاعر السلبية نحو الآخرين ،فإن إجراء برامج لتنمية التوكيد ،بوصفها وسيلة إيجابية لزيادة توافق الفرد مع ذاته والمحيطين به ،ستنطوى ضمناً على تدريبه على العدوان ،وهى نتيجة غير مرغوبة (Rakos,1979) .

د – صعوبة إدراك العلاقة بين المفاهيم :

حيث يدرج البعض مفهوماً عاماً تحت مفهوم خاص ،كم يتحدث عن الوعى الدينى بوصفة أحد عناصر زيادة المعلومات الدينية ،ومن ثم فإن من يرغب فى تنمية وعيه الدينى عليه فقط أن يلجأ إلى التنمية كم معلوماته الدينية ،بوسائله الخاصة ،وهو ما لن يؤتى الآثار المرجوة ؛نظراً لأن الوعى لا يزيد لمجرد تراكم المعلومات الدينية فقط ،لأن هناك عناصر أخرى لاستكمال الوعى منها ،مدى فهم المعلومات الدينية ،وتمثلها ،والقدرة على دمجها فى منظومة متكاملة – يجب الالتزام بها إذا أردنا بلوغ تلك الغاية .

بعد أن عرضنا لأبرز مظاهر قصور العقلية البحثية ننتقل للجزء المترتب منطقياً على ذلك ألا هو محاولة التوصل إلى السبل الكفيلة بالتغلب على تلك الأوجه من القصور ،وفيما يلى متسع لذلك .

القسم الثانى

الشق العلاجى :

نسعى من خلال هذا الشق إلى اقتراح بعض الاستراتيجيات ، وما قد ينبع عنها من أساليب وإجراءات للتغلب على مظاهر القصور السابقة ،وتتمثل تلك الاستراتجيات فى تنمية الجوانب والقدرات التالية :

(1) استراتيجيات التعلم الذاتى .

(2) القدرة الاستدلالية .

(3) التفكير النقدى .

(4) القدرة على الإيجاز .

(5) التمييز المجسم عن الأفكار (التمثيل ) .

(6) تنمية الفكر الإبداعى للتعامل مع المشكلات الحالية والمستقبلية .

(7) إدراك العلاقات بين الظواهر والتمييز بينها .

(8) ضبط المفاهيم .

(9) اصطناع الفئات (التفكير الفئوى ) .

(10) ابتكار وتطوير الأطر التنظيرية .

(11) المهارات الشخصية للباحث .

نعرض فيما يلى بقدر ما يسعنا الإيجاز لكيفية تنمية كل عنصر من العناصر السابقة .

(1) استراتيجيات التعلم الذاتى :

إن المعين الذى لا ينضب للخبرة – والأكثر يسراً وإتاحة – يتمثل فى قدرة الفرد على رصد تجارب الآخرين والاستفادة منها فى فهم الظواهر المماثلة من خلال العمليات التالية :

1- الاقتداء الإيجابى : ويعنى الانتباه إلى الجوانب الإيجابية من سلوك النماذج المحيطة واستيعابها ومحاولة تنفيذها فى مواقف لاحقة .

2- التعلم بالنفور : وينطوى هذا الأسلوب على إدراك وتحليل السلوكيات السلبية للآخرين وتجنب إثباتها ، فنفورها من الظالمين يجعلنا نحرص على أن نكون عادلين ،ولا نفتأ نذكر فى هذا الصدد ،قول لقمان الحكيم حين سئل ممن تعلمت الحكمة ،قال من الجهلاء : قيل : كيف ،قال : إن فعلوا شيئاَ انتهيت عنه .

3- تكليف الفرد لذاته بواجبات محددة فى إطار خطة عامة يتم تنفيذها مرحلياً لتحقيق أهداف معينة من قبيل تنمية بعض القدرات التى يلمس فيها بعض القصور ،واصطناع أساليب للتدعيم والعقاب الذاتى لإضفاء الخصوبة والجدية على الموقف ،ولا يفوتنا فى هذا المقام الإشارة إلى نموذج بناء للتعليم الذاتى قدمه واصل بن عطاء “الذى رام إسقاط حرف الراء ،الذى كان يعانى من لثغة فيه ،من كلامه ولم يزل يكابد ذلك ويغالبه حنى كان له ما أراد (قد تجلى نجاحه فى خطبه الرائية الشهيرة التى خلت من حرف الراء )،وصار لغرابته مثلاُ ،ولطرافته معلماً (الجاحظ ،1985 ،ج1 ،13 ) .

4- السعى للمعرفة والتماس الحكمة من مصادرها المتنوعة والتعرض بشكل مكثف لتلك المصادر ،حتى يتعاظم رصيده منها ،فالسلطة لم تعد هى مصدر قوة المؤثرين الجدد ؛بل الأفكار الأصلية ،والمعرفة والحكمة والكفاءة (Likert &Araki ,1986) .

5- إثارة التحدى والدافعية ذاتياً :

إن الإنسان مثل الحضارة تنشط دافعيته وتزدهر قدراته فى ظل التحدى ،ومن ثم فإن الباحث عليه أن يستثير تحديه ذاتياً ،ولا يكتفى بأن تحثه عوامل خارجية فقط ،ويتأتى ذلك من خلال قبول أهداف أكثر صعوبة يتطلب بلوغها بذل جهود مكثفة بصورة متواصلة لفترات طويلة ،وألا يثاقل إلى الأرض إزاء المنافسات التى تفرض عليه .

وحتى يتجنب الإحباط يجب أن يجزؤ الأهداف الكبرى إلى أهداف مرحلية ويقدم لنفسه عائداً حين ينجز كلاً منهما .

(2) تنمية القدرة الاستدلالية (12) :

إن التواصل إلى نتائج غير معروفة عن مقدمات معروفة يعد لب عملية الاستدلال الذى يعرف بأنه “فعل ذهنى يتم من خلاله تسلسل عدة أحكام يترتب بعضها على بعض “الصبوة ،1990 ،1991 “،ويتمثل التفكير الاستدلالى فى تحليل المشكلة فى اتجاهين :

أولهما : الوصول إلى جذورها ،وثانيها : التنبؤ بمترتباتها ،وبالتالى يصبح الفرد أكثر قدرة على التنبؤ باتجاه الأحداث ،ويتنسى تنمية هذه القدرة من خلال قيام الباحث بممارسة تدريبات عقلية تهدف إلة الكشف عن الأسباب العميقة لظواهر معينة ،فضلاً عن تحديد سلسة المترتبات البعيدة لها ،والتى كلما زادت حلقاتها كان أفضل ،كأن نطلب منه تحليل ظاهرة التعصب بأبعادها الشخصية والاجتماعية والسياسية والدينية والعرقية عبر الزمن داخل كل من الافراد والثقافات ،والتنبؤ بمترتباتها المباشرة والمتوسطة وطويلة المدى على تلك الأطراف ،وحرى بالذك  أن علماء النفس صمموا برامج متعددة لتنمية التفكير الاستدلالى يمكن الاستفادة منها فى هذا الخصوص .

(3) تنمية التفكير النقدى :

يقدم علم النفس المعرفى أطراً ملائمة لتنمية التفكير النقدى يتأتى للباحث بموجبها التدريب على نقد الأفكار الذاتية وأفكار الآخرين ،وثمة عناصر هامة من شأن الوعى بها تيسير إنجاز تلك المهمة ،تتمثل فى قيام إنجاز تلك المهمة ،تتمثل فى قيام الباحث بتبنى إطار عمل يوجه العلمية النقدية ،ويحدد أوجه النقد المحتملة لأى عمل علمى وجهاً وجهاً ،حيث يبدأ بفحص مدى ارتباط العنوان بالمحتوى ،ومدى اتفاق المفاهيم بالتعريفات التى نقيسها ،وطبيعة علاقة المتغيرات ببعضها ،وهل تم اختبار الأسلوب المناسب لدراستها أم لا ؟، ثم يتطرق إلى أسلوب العرض ،ثم مدى ارتباط النتائج بالمشكلة المركزية للبحث ،وهكذا .

(4) تنمية القدرة على الإيجاز :

مما يسرع بتنمية تلك القدرة تقديم نماذج تتوفر فيها خصائص الإيجاز ،مقابل أعمال تتسم بالإطناب ،وتبصير الباحث بمواضعها عقب ذلك يتم وضع خطة محددة للباحث – يمكن تطبيقها شخصياً – للتدريب على الإيجاز بأن نطلب منه تلخيص مجموعة من الأعمال بطريقة تصاعدية ،حيث يبدأ بتلخيص صفحة فى عدة سطور ، ثم فصل فى عدة صفحات ،حتى يصل إلى تلخيص كتاب فى بضع صفحات ،ثم فى بضعة سطور ؛وتجدر الإشارة إلى أن معيار النجاح فى هذه العملية ليس مجرد تلخيص أكبر عدد من الصفحات فى أقل عدد من السطور ،بل عدم إغفال العناصر والأفكار الجوهرية للعمل الملخص كذلك ،فالتلخيص ما هو إلا تكثيف للأفكار وليس استبعادها ،وهو ما يمكن أن نطلق عليه الأسلوب البرقى (13) فى الكتابة ،ويحسن ألا تقتصر تلك المهارة على الكتابة فقط ،بل يجب أن تمتد إلى الحديث أيضاً من خلال الانتباه لما يقع فيه ،أو يقع فيه غيره ،من أخطاء الإسهاب ،والتدريب على الإيجاز أثناء الحوار الذاتى ،أو مع الآخرين ،وتسجيل حديثه على مسجل ،ودراسته والقيام بمحاولات تجريبية متكررة لتحسين تلك القدرة لديه .

(5) تنمية القدرة على التعبير الجسم عن الأفكار (التمثيل ) :

 إن القدرة على التمثيل كوسيلة لتوصيل المعانى المجردة إلى المتلقين تقتضى حرص الباحث على أن تتضمن كتاباته أمثلة عيانية ملموسة (Crogg ,1984)،وأن يقوم مدى كفاءة استخدامه إياها ،وأن يطلع على القضايا التى تتصل بالتمثيل فى العلوم المعنية بذلك ،وبوجه خاص دراسات التفكير التجريدى – العيانى فى علم النفس المعرفى ،أو كتابات أهل البلاغة (14) .

(6) تنمية التفكير الإبداعى للتعامل مع المشكلات الحالية والمستقبلية :

إن تنمية قدرات الإبداع التى تهدف إلى زيادة طلاقة الأفكار ،وتنويعها ،وتغيير زوايا النظر للمشكلات ، والقدرة على استيعاب وجهات النظر المخالفة ،وطرح الأفكار الأصلية التى تتسم بالندرة والجدة والتميز – تزيد من إمكانية التوصل إلى أفكار عديدة ومتنوعة وفعالة فى التعامل مع المشكلات القائمة والمستحدثة ، ومما يجدر ذكره بهذا الخصوص أن تراث الدراسات النفسية فى مال الإبداع ذاخر بأساليب لتنمية تلك القدرات ،والتى يتسنى بموجبها توظيف كل الطاقات المختزنة داخل الفرد حتى يصل إلى مستوى الاستثمار الأمثل (الجدى ) لها ،ومبعث أهمية ذلك أن العديد من المشكلات التى يعانى منها المسلمون قد يسهم فى مواجهتها تلك الحلو الإبداعية ،غير المطروقة حالياً ،التى يقدر هؤلاء المبدعون على طرح المزيد منها (15)

(7) تنمية القدرة على إدراك العلاقات بين الظواهر والتمييز بينها :

يستدعى  تنمية تلك القدرة تزويد الباحث بمعلومات حول طبيعة العلاقات المحتملة بين الظواهر بوصفها جزاءاً أساسياً فى بناء كيانه العلمى ،حتى يسهل عليه التمييز بين السبب والنتيجة ،والمحددات ،والمترتبات ، والعلاقات السببية أحادية الاتجاه والمتبادلة ،وتدريبه من خلال تحليل نماذج لدراسات واقعية للوقوف على طبيعة كل منها .

(8) ضبط المفاهيم :

إن المدخل الأساسى لضبط عمليات إحكام المفاهيم والتمييز بينها يتمثل فى إحاطة الباحث بخصائص وحدود التعريف الإجرائى ،والتصورى ،وكيفية التوصل إليه من خلال رصد عناصر المفهوم وتمييزه عما يختلط به مفاهيم أخرى ،ومما يساعد فى إنجاز تلك المهمة بنجاح عرض تطور وارتقاء مفاهيم معينة عبر الزمن لدى باحثين متعددين وتوضيح الرابط بينها وبين أساليب قيامها .

(9) تنمية القدرة على اصطناع الفئات :

يأتى ذلك من خلال تدريبات يتم فيها تقديم معلومات متنوعة للباحث ،ويطلب منه ابتكار الفئات التى يمكن تصنيفها فيها ،مع تزويده كل مرة بعائد حول مدى نجاحه فى تلك المهمة ،ومما يساعد على إحكام تلك القدرة أيضاً ،تقديم معلومات مفصلة حول أسلوب تحليل المضمون (16) بوصفه أحد الأساليب المنهجية الهامة فى  العلوم السلوكية والذى يعنى بالتوصيل إلى الفئات المتضمنة فى المادة العلمية فيها .

(10) تنمية القدرة على ابتكار وتطوير الأطر التنظيرية :

لكى نبلغ هذا الهدف يجب أن نقدم أولاً شرحاً وافياً لمفهوم النظرية ،وعناصرها ،وكيفية نشوءها ،ومعايير تقويمها ،وعلاقتها بالتجريب ،ثم يطلب من الباحث محاولة صنع أطر نظرية تجمع بين نتائج متفرقة فى مجال واحد ،كأن نطالبه باقتراح إطار نظرى لفهم عملية الاقتناء من خلال االربط بين بعض النتائج التى تتصل بهوية القدوة ،ومدى تشابهه مع المقتدى ،وظروف المقتدى ،وخصائص موضوع الاقتداء ،والسياق الاجتماعى المحيط بتلك العملية ،ومردودها على المقتدى ،ويتم تقويم هذا الإطار فى ضوء معيار الخصوبة وإمكانية التحقق من الفروض المستمدة منه ،ويحاط المتدرب علماً بذلك العائد حتى يمضى قدماً فى سبيل إجادة تلك القدرة .

(11) تنمية بعض المهارات الشخصية لدى الباحث :

ثمة مجموعة من المهارات لا تتصل بالقدرات العقلية والمنهجية المباشرة لكنها ضرورية لاستكمال البنية الأساسية للباحث ،تتمثل فيما يأتى :

أ – توكيد الذات (17) إبان التعامل مع التراث العلمى : ينطوى التوكيد المرتفع للذات فى مجال البحث العلمى على تمتع الباحث بالمهارات التالية :

– الأفصاح عن هويته وشخصيته العلمية حين يتعامل مع التراث العلمى ،والحفاظ على استقلاليته أمام خضم البيانات الدافق الذى يعرض له ،والتعبير عن اختلافه المدعم بالأسانيد المنطقية مع رموز هذا التراث بغض النظر عن مكانتهم .

– معرفة قدر ذاته وعدم الاستكناف من إظهار عدم علمه بمسألة ما ،أو طلب معلومة من آخر ،وإن كان أدنى مرتبة علمية منه .

– الاعتراف بالخطأ ،علناً ،وعدم التشبث به فى حالة اكتشافه .

– تقبل النقد ،وإصداره أيضاً : فمن لا يتقبل النقد لن يدرك مساوئ بحثه ،ومن ثم لن يتداركها مهما امتد به الزمن .

وجدير بالذكر أنه قد ظهرت فى السبعينيات من هذا القرن أساليب لتنمية السلوك التوكيدى ،تسهم فى بلوغة المستويات المرغوبة ،ويمكن الاستعانة بها فى معالجة قصور ومهارات الباحث التوكيدية .

ب – تنمية القدرة على طرح التساؤلات وهو ما يستوجب تحلى الباحث بمهارة أخرى مكملة للسابقة ، وهى الإنصات حتى يؤتى السؤال ثمرته كاملة ،وبطبيعة الحال يجب أن تنشط القدرة النقدية إبان ذلك حتى لا يسمح بالدخول كل ما يتم الإنصات إليه إلى العقل ،وفيما يتصل بتلك المهارة فإن مجال الإرشاد النفسى به تراث خصب لتنميتها واستخدامها استخداماً نافعاً .

ج – تبسيط لغة الخطاب : لبلوغ تلك الغاية ،يمكن استعارة النموذج التدريبى للمحررين فى الصحف ، والذى يتضمن مراحل متعددة وعمليات نوعية يصل المحرر بمقتضاها إلى القدرة على تبسيط الأخبار العملية أو الاقتصادية المعقدة إلى القارئ العام ،ويسهم فى إنجاز تلك المهمة ،أيضاً ،تعريض الباحث لمواقف يضطر فيها لمخاطبة غير المتخصصين وعروض خلاصة بحوثه عليهم ،مع بيان مدى إفادتهم إياهم .

د – إحاطة الباحث وتدريبه على آداب المناظرة والمحاجة : لقد ترك لنا علماء أصول الفقه تراثاً فى غاية الأهمية والإتقان ،حواه علم الجدل ،بمعنى توضيح الشروط التى يجب مراعاتها فى عملية بدء وإدارة وإنهاء المناظرات ،وتفنيد حجج الخصوم ، وإقناعهم بالحجج المضادة ،سواء كان ذلك فى صورة منطوقة أو مكتوبة ومن ثم فإن الاطلاع على أسس هذا العلم يعد ضرورياً لتنمية تلك المهارة لدى الباحث .

لا يبقى فى خاتمة بحثنا هذا سوى الإشارة إلى أن تنمية العقلية البحثية لدى علماء المسلمين ،وتحسين سبل لدى توظيف العقل ،وترسيخ معايير وقواعد النقد والتقسيم الذاتى ،ليس من شأنه فقط الحد من المشكلات الناجمة عن التعصب والصراع ،أو المؤدية إليهما بين الجماعات التى تشكل بينة العالم الإسلامى ؛بل تنشيط العقول لابتكار لحلول الإبداعية الأصلية الكفيلة بمواجهة تلك المشكلات ،فضلاً عن استيفاء أهم شروط طرق باب الاجتهاد ،وتعظيم مستوى الخبرة لدى العلماء المسلمين على النحو الذى يسهم فى إعادة توزيع مصادر القوة على المستوى الحضارات ،فيصبح لدينا من قوة الخبرة ما يوازى ما لدى غيرنا من قوة الثروة أو السلطة .

●●●

الهوامش

(1) Correlational

(2) One – Way Causality

(3) Mutual Causality

(4) Determinants

(5) Consequences

(6) Prejudice

(7) Critical Thinking

(8) Abstract

(9) Concrete

(10) مجموعة من المفاهيم المترابطة التى تسعى إلى تفسير ظاهرة ما وتقدم سلسلة من الافتراضات القابلة للاختبار حول العلاقة الوظيفية بين المتغيرات المتوقع مسئوليتها عن حدوثها (Hollander ,1976 .p .34)

(11) Operational Definitionويشير إلى “تحديد العناصر والعمليات الضرورية التى من شأنها أن تصل بنا إلى قياس المفهوم “(سليمان ،1973 ) .

(12) Reasoning Ability

(13) حيث الكلمات قليلة والجمل قصيرة ،بما لا يخل بالمعنى ؛تجنبا لزيادة ثمن البرقية .

(14) وبوجه خاص كتاب أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجانى .

(15) ليس ببعيد عن مخيلتنا ذلك الحل الإبداعى الذى ابتكره سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للتغلب على الصراع الذى نشأ بين القبائل القرشية حول من يحظى بشرف وضع الحجر الأسود فى الكعبة عندما أعيد بناؤها .

(16) Content Analysis

(17) Assertiveness  يشير السلوك المؤكد للذات إلى “قدرة الفرد على الدفاع عن حقوقه ،والتعبير عن آرائه ،سواء اتفقت أم اختلفت مع الطرف الآخر ،والإفصاح عن مشاعره السلبية (نقد ،غضب ) ،أو الإيجابية (مدح ،تقدير ) للآخر ،ومقاومة محاولة الآخرين لتوريطه ،أو الضغط عليه للرضوخ لمطالب غير معقولة (شوقى ،1988 ) .

●●●

المراجع

1 – الجاظ ،أبو عثمان عمرو (1985) ،البيان والتبيين ،تحقيق : عبد السلام محمد هارون ،القاهرة : الخانجى . 

2 – الجرجانى ،عبد القاهر (1988) أسرار البلاغة فى علم البيان ،تحقيق : رشيد رضا ،بيروت : دار الكتب العلمية .

3 – سليمان ،عبد الله (1973 ) ،المنهج وكتابة تقرير البحث فى العلوم السلوكية ،القاهرة ،الأنجلو المصرية

4 – شوقى ،طريف (1988 ) أبعاد السلوك التوكيدى ،رسالة دكتوراة ،جامعة القاهرة : غير منشورة .

5 – الصبوة ،محمد نجيب (1990) ،التفكير وحل المشكلات ،فى عبد الحليم محمود وآخرون ،”علم النفس العام ” ،القاهرة : دار غريب ،375 – 414 .

6 – عطية ،جمال الدين (1987) التنظير الفقهى ،القاهرة : مطبعة المدينة .

7 – محمود ،عبد الحليم ،سيد ،معتز ،خليفة ،عبد اللطيف ،شوقى ،طريف ،أبو سريع أسامة (1989 ) ،علم النفس الاجتماعى ،القاهرة :دار آتون .

8 – Crogg P .M (1948) You Can Be a Better Speaker ;Supervisory Management , September , 15 – 17 .

9 – Emmert ,P .& Brooks , W.D (EDS) (1970) Methods of Research In Communication ,New

York : Houghton Mifflin Co .

10 – Eysenck H.I ,(1974) Fact And Fictions London : Penguin books .  

11- Hollander ,E.p ,(1976) Principles and Methods of Social Psychology (3ED) ,

New York : Oxford University press .

12 – Likert J .J G & Araki ,C.T ,(1986) Managing Without a Boss : System 5.

LoDJ, 7,3.17 – 20 .

13 – Hakos ,H.F. (1979) Content Consideration In The Distinction Between Assertive And Aggressive Behavior ,Psyohlogical report ,44, 767 – 773 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر