أبحاث

انهيار الحضارات في الأدب الإسلامي

العدد 44

مدخل :

يقول الله تعالى { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس}  (1).

ويؤكد ابن خلدون ومن بعده « أزوالد اشبينفلر »و «أرنولد توينبي» علىٰ سقوط الحضارات وفق الهرم الطبيعي الذي تحدثوا عنه كثيراً في مؤلفاتهم.

هذه الظاهرة, ظاهرة السقوط الحضاري, كيف عبّر عمها الأدب الإِسلامي ؟؟ كيف رصدها ؟؟ كيف ضبطها في شكل تجربة إبداعية يشترك في الشهادة عليها كل من الشكل و المضمون ؟؟

إشكاليات البحث

والحديث عن انهيار الحضارة في الأدب الإِسلامي يستوجب, في إعتقادي, الإِشارة إلىٰ إشكاليتين أساسيتين تشكلان محوراً مركزياً لسيرورة هذا المقال .. وطرحه لمجموع أبعاد القضية التي نروم معالجتها :

1)    إشكالية المصطلح.

2)    وظيفة الأدب.

1)    إن التحليل الواعي للقضية التي حدّدها العنوان, يفرض علينا استيحاء مجموعة من المصطلحات التي تنتمي إلىٰ حقل الأداب الغربية ومناهجها, ولا شك أن ذلك الإيستيحاء يطرح حساسيات كثيرة, إنطلاقاً من خصوصيات الأدب الإِسلامي, وصولاً إلىٰ قضية الإِستقلالية, مروراً بالتميز الفكري والإِبداعي والخلفية العقائدية لكل ذلك :

كيف يمكن توظيف المصطلح الأجنبي ؟؟ ما مشروعية ذلك ؟؟ خاصة مع الأداب الإِسلامي في مستواه التنظيري والتطبيقي ؟؟. ومن أجل أنْ لا يشهد الأدب هو الآخر, اختلافاً لا جدوىٰ من ورائه ـــ ونحن نعاين مرحلة التأسيس وبلورة المفاهيم. ـــ يتوجب علينا الإِنصات إلىٰ معطيات الزمن المستقبلي, وتأجيل, أو إلغاء المواقف الرافضة إلىٰ ما بعد الإِستيحاء والتمثل …

لكل هذه المبررات, سعىٰ هذا البحث المتواضع إلىٰ الاستفادة من بعض المصطلحات التي قد تنتمي إلىٰ المنهج البنيوي أو النقد الواقعي أو النقد الأسطوري أو الرمزي, بغية استجلاء حقيقة انهيار الحضارات كما يرصدها ويشهد عليها الأدب الإِسلامي قديماً وحديثاً.

2)    أما بالنسبة لوظيفة الأدب, فأن البعد التطبيقي للنماذج الواردة في هذا المقال يبرز ـــ بما لا يقبل أدنىٰ شك ـــ أن للأدب وظيفته في الحياة التاريخية والاجتماعية .. وظيفة الكشف والشهادة علىٰ كل القضايا المتفاعلة داخل الوجود الحياتي .. وظيفة الإدانة والتبشير بما هو أفضل .. إنه تجاوز للكائن الفاسد بُغية استشراف الغد الأحسن. وهي وظيفة يشهد له بها النقد الأدبي الحديث برغم الدعاوي والتهم التي نسمعها, بين الآونة والأخرىٰ, من دعاة الفن للفن أو الفن الخالص, ممن لا يرضون للأدب وظيفة فعالة في الحياة الإِجتماعية, ويكفي للرد علىٰ هؤلاء أن نشير إلىٰ ما قاله الناقد الروسي نيقولاي تشرنيشفسكي في معرض ردّه علىٰ أصحاب تلك التقليعات (الجديدة / القديمة), لقد قال : « .. إن الأدب يضع نفسه, ضرورة, في خدمة تيار معين من الأفكار, وهو عاجز عن التملص من هذه الوظيفة التي تكمن في ذات طبيعته, وإنأتباع نظرية الخالص, والذين يسعون إلىٰ جعل الفن شيئاً بعيدا عن مشاغل هذا العالم, لهم إما علىٰ خطأ, وإما أنهم يضمرون مقاصدهم .. إن تيارات الأدب التي ولدت تحت تأثير الأفكار السرية والنشيطة والتي تلبّي حاجات العصر الملحةّ, وهي وحدها التي تستطيع تحقيق انطلاقة لامعة »(2).

والأدب الإِسلامي يشهد للأدب بهذه الوظيفة, بل وبواجبها عليه, وإلاَّ فإنه لن يخرج عن إطار « الذين هم في كل وادِ يهيمون». ومن هنا تظهر قيمة الإِلتزام كما أسسته آيات القرآن في بداية الدولة الإِسلامية الأولىٰ ..

غير أن خاصية الإلتزام لم تفهم حسب سياقها الطبيعي داخل منظومة أخرىٰ من الخصائص المميزة لهذا الأدب, مما أوقعنا في قبول « إبداعات » لم ترق قط إلىٰ المستوىٰالمطلوب فنّياً, وإن تمثلت فيها الرؤية الإِسلامية علىٰ مستوىٰ المضمون. فَتَجَسَّد فيها التعبير تقريريا مباشراً, لا يملك التوهج الفني والصور الموحية والخيال الخصب .. وللخروج من هذه الأزمة, لا بأس من إقتراح الرسم التالي الذي بإمكانه أن يساعدها علىٰ تفهم عنصر الإِلتزام أو وظيفة الأدب داخل سياق طبيعي لا يفقد الأدب قيمته الفنية بإعتباره إبداعاً وجدانياً يرتدي وهج الكلمات أولاً وأخيراً.

إن غذاء الجسد معروف, وغذاء العقل لا جدل فيه, ولكن تبقىٰ عاطفة الإِنسان, فما هو غذاؤها ؟؟

إن الفن الإِسلامي عموماً والأدب منه خصوصاً, هو المسؤول عن تغذية جانب كبير من تلك العاطفة. إذن, فالأدب الإِسلامي ـــ من جهة ـــ مسؤول وملزم بهذه الوظيفة الذاتية, أن ينمي أشواق العاطفة ويهذبها ويرقىٰ بعناصرها ..

ومن جهة ثانية, فهو ملتزم بقضايا المجتمع, وبهذا يكسب وظيفته الإِجتماعية ..ثم ـــ من جهة ثالثة فهو ملتزم بالأدب, أي هو ملتزم بالمحافظة علىٰ العناصر الفنية للأدب عبر رحلته الطويلة في مشارب الزمان والمكان, والحرص علىٰ تنميتها وإمدادها بكل جديد يثري التجربة الفنية ويعمق صورتها ..

وأخيراً, وهذا أمر طبيعي, فإن الأدب الإِسلامي ملتزم بالرؤية الإِسلامية تجاه الكون والحياة والإِنسان. فالإِلتزام, كما ينبغي لأن يفهمه الأدباء المسلمون, ذو أربعة شعب. رؤيوي وداخلي وأدبي وخارجي, أي تصوري وذاتيٰ وفني وإجتماعي. إنه بؤرة تتجمع عندها جميع الجوانب المذكورة لتخلق معادلة تعطي كل جانب حقه من الوظيفة, فلا يغيب عنصر لصالح بقية العناصر, ولا يتم التركيز علىٰ جانب دون الجوانب الأخرىٰ.

وفي ضوء هاتين الإشكاليتين, أسعىٰ إلىٰ مباشرة قضية إنهيار الحضارات في الأدب الإِسلامي, والسؤال الذي يُطرح هنا : كيف أستطاع الأدب الإِسلامي, قديمه وحديثه, أن يدرك لحظة الإنهيار والسقوط بالنسبة للحضارة, وأن يتبع مساربها وفعلها, ويقتنص أبعادها ويعبر عنها في إبداعه. فتتجلىٰ آنئِذ حيّة بكل ثقلها ومرارتها علىٰ مستوىٰ الشكل والمضمون ( طبعاً إن كان هناك فصل بين شكل الإِبداع ومضمونه ).

للإِجابة علىٰ هذا السؤال, كان لابد من مقارنة عيّنه من النصوص الإِبداعية تنتمي إلىٰ أدباء مسلمين, قديماً وحديثاً, عبرت بكل فعالية وعمق عن انهيار الحضارات وفنائها. فاخترت لذلك همزية حسان بن ثابت ( رضي الله عنه ) الشهيرة (3), وقصيدة « شرق وغرب » للشاعر الشهيد هاشم الرفاعي (4) وقصيدة « النبي .. وعصر التكنولوجيا » للشاعر العراقي المسلم      « حكمت صالح »(5).

أبعاد الانهيار الحضاري : جدلية الشكل والمضمون :

بالنسبة لقصيدة حسان, تُواجهنا منذ البداية أسئلة ملحة : هل نظم الشاعر القصيدة بأكملها في عهد الإِسلامي ؟ أم أنه نظم الجزء الأول من الخمر والنسيب في الجاهلية, ونظم الجزء الثاني في الإِسلام, ثم جمعها الشاعر أو « الرواة » ؟ أم أنه نظم الجزء الأول في جاهليته والجزء الثاني في إسلامه ثم قرأها معاً بين يدي رسول الله ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ.

والحقيقة أن هذه الأسئلة أراقت مداداً كثيراً, لكن دون الوصول إلىٰ أعتاب الحقيقة, وتم الإِكتفاء فقط بطرح الفكرة القائلة ينظم القصيدة في مرحلتين مختلفتين ( الجاهلية والإِسلام ) كما يذهب إلىٰ ذلك الدكتور شكري فيصل (6) وجماعة من الدارسين, في حين اكتفىٰ آخرون أمثال د. عبد القادر القـط(7) وغيره بإعتبار القصيدة جسداً واحداً قيل في العهد الإِسلامي. ورغم المبررات والاحتمالات التي يطرحها الفريقان فإن أبعاد القضية تظل خارج إطار مناقشاتها.

ولا أدعي حسما للنقاش, وإنما أرىٰ بأنه لو تم بسط الإشكال في إطار مقولة « انهيار الحضارة» لَتَمَّ إدراك الحقيقة في أبعادها وسياقها الطبيعي دون حرج أو تأويل. كيف ذلك ؟

إن الشاعر ضمير الأمة ومجهرها, يعاين جميع الثوابت والمتغيرات داخل الحياة الإِجتماعية ويدرك, بفضل عمق شعوره ورهافة إحساسه وتفتح وعيه, النواميس المسيّرة لحركة المجتمع الذي يكتوي بناره ويتلظىٰ بآلامه, ويضبط تلك اللحظات في رحم الكلمات, فتتولد منها آفاق المستقبل الذي يدعو إليه الشاعر في كل وقت وحين. وحسان بن ثابت , رضي الله عنه, لا يخرج عن هذ الإِطار ومن ثم فقد جسَّد في قصيدته الهمزية سيرورة المجتمع الجاهلي في وجه مجتمع جديد وحضارة جديدة هي حضارة الإِسلام.

في لحظته يسقط عالم الخبرة واللهو والعبث المتجسد في الجزء الأول من القصيدة, انطلاقاً من المقدمة الطللية إلىٰ البيت العاشر. فالطلل الذي عفّ ودرس وصار خالياً من الأهل ما هو إلاّ رمز للماضي الجاهلي الذي يسير نحو الأفوال ويصبح في خبر « كان » الواقع في البيت الثالث. ويتضح هذا السقوط أكثر في البيت العاشر الذي يقول فيه :

ونشربها فتتركنا ملوكا وأسْداً ما يُنَهْنهْناَ اللقاء فالمُلكُ سمة للحضارة ـــ علىٰ حد تعبير ابن خلدون ـــ ولكنه هنا جاء بفعل الخمرة (أهم ميزه لسلوكيات المجتمع الجاهلي), فهو ملك لن يدوم لأنه بفعْل الخمرة , بفعل نشوتها, والنشوة زائلة, توهم الملك « تتركنا » ملوكا. أي بعد الخمر, بمعنىٰ آخر, إنهم ـــ طيلة نشوة الخمرـــ يشعرون بالملك, وبصورة غير مباشرة, لكنها طبيعية, فإنهم عند زوال تلك النشوة, يشعرون با « للاّملك », بالضعة بالسقوط .. ومن الذي أيقظهم من نشوة الخمر ؟؟ إنه الإِسلام وحضارته ..

وفي نفس البيت, نجد لفظة الأسد المرتبطة بالملك, فهذا الملك كائن, لكنه ملك الأسود, وهذه الصفة تنقلنا مباشرة إلىٰ الحقل المعجمي الذي وفدت منه لفظة «الأسد».والذي لاشك فيه أن الشاعر يستعير تلك اللفظة للدلالة علىٰ الشجاعة, هذا ما يقره البلاغيون منذ العصر اليوناني, ولكن ـــ ونحن نبحث عن انهيار الحضارة في قصيدة حسان ـــ لماذا نص تأويلات بقيود بلاغية أحادية الجانب. أليس في لفظة «الأسد» هنا, وبالاضافة إلىٰ دلالة الشجاعة, تستعار للدلالة علىٰ«القانون» المهيمن في «الغاب» .. قانون الافتراس والظلم والاعتداء (يستحضر هنا رمزية الدلالة في حكايات كليلة ودمنة), ومتى كان ذلك قانونياً ؟؟ ومتىٰ عاشت حضارة في ظل الإِفتراس والظلم والإِعتداء ؟ أليست لفظة «الأسد» هنا, وتؤسس مفهوم الإنهيار الذي يرافق ملك الخمرة وحضارتها ؟

وليس من قبيل الصدفه أن يستعمل الشاعر مباشرة بعد هذا البيت فعل «عَدِمْنَا» للدعاء.

عدمنا خيلنا إن لم تروها

تثير النقع موعدها كداء فهذا الفعل جاء هنا للدعاء, وتحققه مشروط بشرط أساسي وهو : إثارة الخيل للنقع في «كداء» وهذه الإِثارة كناية بعيدة علىٰ دخول مكة والعمرة .. وإبراز النصر المبين. والشاعر يدعو لخيله بالعدم إن لم يتحقق ذلك الشرط, والتاريخ يؤكد لنا ـــ في وقائعهـــ أن التحقق كان طريقه, فالنتيجة ـــ إذن ـــ هي بقاء خيول المسلمين واستمرارها, ولكن من الذي أُعْدِمَ ؟ولمن كان الدعاء ؟ إنه الطرف الآخر الذي لم يستطع إيقاف (الخيول / البذور) الإِسلامية, طرف الجاهلية التي تلتقط أنفاسها الأخيرة بين يدي الحضارة الجديدة, حضارة (الخيل /الجهاد/والجد).

ومما يعمق هذا الفناء للحضارة الجاهلية كما يشهد عليها حسان, البيت الحادي والعشرون.

ألا أبلغ أبا سفيان عني                        فأنت مجوفٌ نخبٌ هزاء

أبو سفيان, هنا, لا نبحث عنه في تراجم الرجال .. إنما هو ملك الحضارة الجاهلية وسادنها بما أنه وقف في وجه الحضارة الجديدة منذ بدايتها ـــ إن أبا سفيان رمز لتلك الحضارة, وهنا تتجلي دلالة الأوصاف التي وسم بها الشاعر (أباسفيان/الحضارة الجاهلية) .. «مجوف, نخب, هواء» أوصاف تتحد في مصدر «الخلو» والفراغ من الفؤاد والعقل, من الإِيمان والعلم ركيزتْي الحضارة الأساسيـــــــــــتين, فالحضارة الجاهلية  /أبا سفيان, خالية من كل ذلك, وبالتالي فهي لا تستحق البقاء فضلاً عن الإِستمرار, لأن ميكانيزمات ذلك مفقودة لديها, فلا طريق لها, إذن إلا الفناء والانهيار, وقد كان.

ويزداد شعورنا بانهيار الحضارة الجاهلية كما ترصدها قصيدة حسان في كلمة «الفتح», فهذا الحدث فاصل بين عهدين متبايتين, تري ماذا حصل في هذا الحدث ؟

يكفي أن نستحضر, هنا, ظاهرة تحطيم الأصنام, فما كان لهاته الأخيرة أن تحطم لو بقي للجاهلية ملك وحضارة وقوة, فتحطيمها يشكل المرحلة الختامية من تحطيم تلك الحضارة نفسها, وصعود بلال فوق ركامها معلنا أذان الحياة رمز لميلاد الحضارة الجديدة التي تتشكل داخل القصيدة طرفا للثنائية والضدية التي عبر الشاعر, من خلالها, عن انهيار الحضارة الجديدة الثانية.

وبعد, ماذا عسانا أن نقول في شأن نظم القصيدة بقسميها معاً, بعد هذا التحليل الذي اتخذ من «انهيار الحضارة» محوراً تؤول إلية جميع الخيوط والعناصر المشكلة للنص الشعري ؟

إن التأكيد علىٰ أنهما قسمان قيلا في زمنين مغايرين, ما هو إلا ضرب من السطحية والدفاع عن أخلاقيات حسان والإِسلام بسيف من ورق. والأجدر بنا أن نتفهم أبعاد الكلام السالف, ليتأكد لدينا بأنهما قسمان قيلا حول (وليس في) زمنين مُغَايرين, وحضارتين متقابلتين.

عندما نصل إلىٰ العصر الحديث, ساعين إلىٰ إختيار أدب إسلامي يشهد علىٰ الحضارة المعاصرة نفس الشهادة, لاشك أنه سيقفز سؤال جد مشروع كالتالي :

لماذا تجاوز مرحلة العصر الأموي والعباسي مع أنها مرت بنفس الضعف والانهيار اللَّذَيْن يسعىٰ المقال إلىٰ اكتشافهما داخل الأدب ؟ والجواب علىٰ مثل هذا السؤال ضروري, والإِعراض عنه خيانة للمنهج وسوء فهم لسيرورة الحضارة العربية الإِسلامية, فلابد ـــ إذن ـــ من ذكر كلمة, ولو وجيزة في هذا الصدد ..

لا جدال بين المؤرخين والأدباء المسلمين أن المرحلة المذكورة وَاناها ضعف عارم, وانهيار تَسرَّب في البداية خفيّا إلىٰ جسم تلك الحضارة, وقام بدورة السقوطي «في غالب المستويات, ولقد لعب الشعر دوره المسؤول في إدراك هذه الحالة, غير أني, بالرغم من نضج المستويات الفنية في هذا العصر, تجاوزت تلك المرحلة, وعذري الوحيد هو أنها لم تفرز لنا شعراً في مستوىٰ الرؤية الإِسلامية, أفقيا وعموديا, باستثناء «المتنبي» الذي جسّد في شعر ذلك الأنهيار, لكن نرجسيته وتضخم «أناة», بالإِضافة إلىٰ قناعات أخرىٰ, جعلتني أزورُّ عن اختيار نموذج من شعره. ولم يبق لي سوىٰ العصر الحاضر الذي أبحث فيه عن إبداع إسلامي يقتنص لحظة الإِنهيار الحضاري «الأوربي والعربي», فتبين لي, بعد البحث والتنقيب, أن قصيدة الشاعر الشهيد هاشم الرفاعي «شرق وغرب», وقصيدة الشاعر العراقي المسلم «حكمت صالح»«النبي وعصر التكنولوجيا» كفيلتان بتحقيق هذا الغرض المنشود.

(الشرق والغرب) : موسم الإِنهيار المتبادل.

«شرق وغرب»التي تضم زهاء ثلاثة وسبعين بيتاً, والتي نظمها الشاعر في سبتمبر 1954, وتشكل «ملحمة» إسلامية, لكنها ترتبط بالواقع, وتشهد علىٰ«نثر» أركانه وتفسخها, وفي شهادتها تلك تستعير منطق التداعي الخاضع للرؤية الإِسلامية, سلباً وإيجاباً, عربياً وغربياً, كما تبلوره القصيدة في مقاطعها. بل إن التشكيل المكاني لـ (القصيدة/ الملحمة) القائم علىٰ المقاطع من جهة, والثنائيات الضدية (8) من جهة أخرىٰ, يجلّي لنا, بدوره, أبعاد ذلك الإِنهيار خاصة إذا اعتبرنا بأن النفسي شرط ولازم له, فالشاعر في واقعه العربي, يعاين انهياراً وتقطعاً يشمل جميع المستويات ويخيم بكلكلة علىٰ المجالات, هذا الواقع الثقيل, يخلق لدىٰ الشاعر تقطعاً نفسياً وتمزقاً وجدانياً مماثلين له, بالإِضافة إلىٰ التناقضات المهولة : (الجهل / العلم), (الظلم / العدل), (التخلف / التقــــدم), (اليأس / الأمل), (الموت / الإِنبعاث) كل ذلك يخلق نفس الثنائيات في وجدان الشاعر, فتتجمع تلك المعطيات لتشكل (القصيده / الفن) وفق معمارية (التقطيع والثنائية). وليس من قبيل الصدفة أن يعمل العنوان (بإعتباره مفتاحاً لفهم القصيدة) علىٰ تحقيق تلك المعمارية, وهنا بالضبط, تكمن فنية الشاعر وموقعه المسؤول.

ومنذ مطلع القصيدة يعبر الشاعر عن سقوط الحضارة العربية, وذلك في قوله :

أيقِظِ الشرقَ وَهُزَّ العربا              فبريقُ المجدِ في الشرق خَبَا

ليس من الصعب أن ندرك بأن البيت الأول اشتمل علىٰ ثلاثة أفعال, اثنان منهما يتجهان جهة المستقبل, والثالث جهة الماضي. « أيقظ, هز, خَبَا » وكلها تعبر عن حقيقة الانهيار والسقوط, ولا يمكن فهمها إلا في ضوء ذلك, فاليقظة والإِهتزاز المأمور بهما يقتضيان فعل النوم السابق لهما .. و «الخبو» يقتضي فعل الإِشتغال السابق عليه كذلك .. ولكن من هو هذا الذي يحتاج إلىٰ اليقظة والإِهتزاز ؟ (يُلاحظ هنا فعل الإِهتزاز الذي يُذَكِر بالآية الكريمة { اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأنْبَتَتْ منْ كُلَّ وَوْجٍ بَهِيٍج } كدليل علىٰ الإِخصاب والنماء الذين افتقدهما هذا الذي نسأل عنه ألا وهو الشرق !!

والشاعر (الشهيد / الشاهد) لا يقف عند هذا الحد, بل إنه يربطنا, نفسياً, بجو الأطلال الموحي بالدمار وذلك في قوله :

قِفْ علىٰ بغدادَ واندُبْ مَنْ بِهَا          رفَعَوُا للشَّرْقِ ذكْراً طيّبا

وابْك في الأيامِ من قال وَقَدْ                 أبْصَرَ الغيم تَهَادَى صَيْبَا

سِرْ يَمِينا أو يَسَارا إنَّ لي                        خَرْج هذا الماء أنّي سُكِبَا

إن هذا المقطع يجسد جو الوقوف علىٰ الطل والبكاء علىٰ الماضي الذي كان يعيش الخصب والعطاء :

وَقَدِيماً كَانَ خصبَّاً مُثْمِراً             وأراهُ اليَوُمَ أمسىٰ مُجْدِبَا

فعفت معاملة وذرته الرياج, وأمست معامله هباء «تلوح كباقي الوشم في مظاهر اليد».

ويستمر الشاعر في تداعيه, يستعيد صورة الماضي المشرفة, علماً وعملاً, جهاداً وتضحية, فكراً وأدباً. ولكن ماذا حصل فجأة :

فَأضَعْنَا كلَّ ما قَدْ جَمَعُوا                  وَهَدَمْنَا مَا بَنَوا واحَرَبَا

ومن ثم يصبح من المستحيل, في لحظة الانهيار والسقوط, أن ننتمي إلىٰ ذلك الماضي المتألق وخير لنا أن نقطع صلتنا به مادام البون شاسعاً بين الطرفين :

لَا تَقولُوا نَحْن عُرب إِنَّنَا                   لَهُم لا نَسْتَحِقَّ النَّسَبَا

ولاشك أن في تأجيل الشاعر الكلمة «النسب» إلىٰ آخر البيت, تشكيلاً مكانياً للدلالة النفسية المعاينة للتباعد السحيق بين «العرب» و «النسب» من جهة, ولنفسيته الممزقة بين ماض ثابت وحاضر منهار.

ويلتفت الشاعر في بقية القصيدة إلىٰ الغرب الذي كان بإمكانه أن «يأخذ» الدورة الحضارية, ويخلص الإِنسانية من انهيارها, ويبني حضارة تسير علىٰ رجلين مستقيمين, وليس علىٰ عكازة من أحقاد :

وأضَاءَ الكَوْن مَاجَاءَوا به                             من فنونِ قَدْ أثَارَتْ عِجَبَا

سَارَ مَنْ سَارِ إلىٰ العَلياء لَمْ                      يَأخذِ الاَّهْوَ إلَيْهَا مَرْكَبَا

ومضٰى في الغرب أبطال إلىٰ                      مجدهم لا يعرفون اللّعِبَا

فَلَنَا الأمْسَ وَهذَا يَوْمُهمُ                            مَاأرىَ الأيَّام ‘لاّ قلبا

ولكن هيهات, ففاقد الشيء لا يعطيه, كما يقال, والحضارة الغربية, بشهادة مفكريها, لا تمتلك شروط البناء المستقبلي العادل, بل إنها تحتضن في طياتها جرثومة الفناء والإِنهيار, فَتمَاسُكها قَلَّما يَدوم, والنتيجة المحتمة عليها, انطلاقا من شروط ومقدمات موضوعية : هي الإِنهيار الذي اختصت به أكبر المقاطع في القصيدة والذي سنراه بصررة فعالة في قصيدة «حكمت صالح».

والشاعر الشاهد, عنطلاقا من عقيدته الإِسلامية التي تشع في صاحبها أنوار الأمل, وتبعث في نفسه نسمات اليقين بالإِنبعاث الجديد الذي توجبه آي الكتاب وأحاديث الرسول ــ صّلى الله عليه وسلم ــ, انطلاقاً من كل ذلك, يدعو قومه إلىٰ تحمل المسؤولية من جديد, والنهوض من وهدة السقوط للقيام بالدور الحضاري الثاني. وهو أمل فيه صرخة إيمان ودعوة فيها قوة دين, وذكرى فيها حكمة ويقين, بعيداً عن أجواء اليأس والدمار التي لحقت الإِنسان الغربي بعد الحرب العالمية, فأردته صريع المفاهيم الرومانسية والرؤىٰ الموغلة في «الآهات» :

يابني الإِسلام هُبَّوا وانهضوا                   لاَ تَنَامُوا بَلَغَ السَّيْل الزُّبَي

واذكروا عهداً سَمَتْ أمْجَادْكُم                  فِيه حِيناً إذ سَمَوْتَمْ رُتَبَا

وعندما نقترب من نهاية القصيدة يفجعنا الشاعر بمأساة فلسطين, لأنه, وهو المجهر والضمير بالنسبة للأمة, وقد أدرك بأن قضية فلسطين تشكل محور الانهيار المتبادل بين الشرق والغرب, فمن أجل أن يظل هذا الشرق منهاراً, ضعيفاً وعاجزاً عن الانبعاث, فلتكن هي الشوكة في حلقومه, والعرقلة في طريقه.

فَفَلسَطِين أضيِعَتْ وَغَدَتْ              يَنْدُبُ اَلُيَوْمَ بِهَا مَنَ ندَبَا

جاءها كلَّ يهودي بَدَا                    هائما بين الوَرَى مغترِبَا

فأقاموا شركة في أرضها               ذلكَ الشَّرَقُ بِهَا قَدْ نُكِبَا

ومن مميزات الشاعر أنه يمتلك طلقة جوانية خلاقة قادرة علىٰ تكثيف الحدثوبثه بصورة مركزة, لكنها مريرة, خاصة في المقاطع الأخيرة, حيث يضعنا علىٰمفترق الطريق لنختار, ولنتحمل مسؤولية الاختيار. وفي هذه اللحظة تتجمع خيوط القصيدة لتأخذ مسارها إلىٰ نتيجة عميقة وموحدة تتحدد في تفجع الشاعر وحزنه الأليمين وهو يشهد علىٰ انهيار الحضارة في مستواها الغربي والعربي.

إيقاع الانهيار والشمس المرتقبة : (ثنائية الموت والإِنبعاث).

عندَما نقرأ قصيدة الشاعر حكمت صالح «النبي .. وعصر التكنولوجيا» ينتابنا شعور غريب حول قدرة الشاعر علىٰ تكثيف مأساة الانهيار الحضاري وتجسيدها في شكل نسيج متداخل الخيوط متشابك السمات, حتىٰ ليصعب علىٰ الدارس تشريحها ولو أنها خضعت مكانياً لشكل المقاطع لأن الحبل السري المتكون من نفسية الشاعر ورؤيه وحرارة التجربة المتدفقة أقوىٰمن أي تقسيم أو تقطيع, بالإِضافة إلىٰ ذلك تتداخل, علىٰ المستوىٰ الثاني, العوالم الممتدة عبر التاريخ, منذ الجاهلية إلىٰ عصر التكنولوجيا, وهذا الإِمتداد التاريخي يبتعد, أثناء تجسده في فضاء القصيدة, عن أن يكون امتداداً زمنياً بالمنظور الرياضي, وإنما يصبح امتداداً حضارياً خاضعاً لسلم الإِستمرار أو الانهيار, وهي حالة ترافق أعضاء القصيدة كلها مما يبعدها عن أزمة التفكك التي تعاني منها القصيدة الحديثة في كثير منْ مظاهرها.

في البدء, يُرفع الستار عن المشهد التراجيدي الذي خيّم علىٰ الحياة العربية الجاهلية :

«آفة تَلْتَهِمٌ الأرضَ التِهَامَاً

لاَدَوَاءَ فِي المَذَاخِر

ووراء السور قَدْ عَمَّ البَبلَء

يُؤَذِنُ الإِنسانَ في كلِ مكانِ بالفناءَ

إن هذا المشهد, بخصائصه الموحية, يحيل علىٰ النص الغائب الذي يقطن ذاكرة الشاعر ألَا وهو الجزء الأول من قصيدة حسان السابقة, حيث يتآكل العالم «الماضي» وتعف معالمه, وتستسلم أرضه للجدب وانعدام الخصوبة والعطاء لأن : «الماء إذا سال بهَا غَارَ وَجَفَّا».

وفي لحظة الإِنهيار هاته, يعلن عم ميلاد شيء جديد :

«قيل يامَهْشَرُ قَدْ أنجيتِ الدَّنيا غُلاما سَوْفَ يَبْتَز الظَّلاما

يَحْمِلَ الأرْضَ عَلىٰ رَاحَتِه

يخرج الناس من الظلمة للنور

ألا يَاقَوْمُ قَدْ حَانَ النَّشورْ

ويولد (النبي / الحضارة الجديدة) الذي سار بالإِنسانية في ركب الحياة, يؤسس أركان عالم جديد في «جلال وخشوع».

غير أن هذه الحضارة تستحيل في الزمن الحاضر إلىٰ مجرد تداعيات تنهض في ذاكرة الشاعر بعد ما فقدت مشروعية وجودها علىٰ المستوىٰ الواقعي الإِجتماعي .. تداعيات مؤلمة تكشف عن بعد الثنائيات الضدّية بين عالمين ينتميان إلىٰ خلفية مذهبية واحدة, الأول في سموه وازدهاره, الآخر في موته وانهياره.

وتنغرس سهام الصدمة في كيان (الشاعر/ المسلم) عندما لا يجد معادلاً موضوعياً للرموز التي يحملها في ذهنه مثل : خالد وسعد وابن أبي سرح, ويحس بأنها أصبحت نكرات في هذا الزمان «الرمادي». أحسن بوخز الصدمة, وراح يستقصي رجال الفكر والدين, بحثاً عن تلك الرموز دون أن يجدها, استعمل المنادي التالي :

« ياخالداً, ياسعداً », ونصب المنادي هنا يخالف قاعدة حركات المنادي, فخالد وسعد معرفة, والمعرفة في حالة النداء يبني علىٰ ما يرفع به, ولكنه هنا لم يأت كذلك, بل جاء منصوباً بالفتحة الظاهر وفقاً لحالة المكرة غير المقصودة, واتصال الحالتين معاً (المعرفة والنكرة) في منادي واحد يكشف أبعاد النكران الذي تتمتع به تلك الرموز في زماننا المحتضر.

وفي لحظة التداعي المستمر, يحتمل أن يستعيد الشاعر أحداثاً عديدة ومتنوعة من ذلك (الماضي / الجلال), ولكن عندما يتم التركيز علىٰ ملمح معين منه فإن ذلك يكتسب دلالة لا ينبغي للناقد أن يهملها, إنه ـــ كي يدرك مفاتيح النص ـــ عليه أن يدخل ذلك الملمح إلىٰ دائرة الضوء ويسلط عليه أكثر من مجهر .. والملمح الذي تم التركيز عليه في تداعياته يتجلىٰ في قوله عن ( جَدَّتِه / الماضي ) :

« حَفَّظتِني آيةً مِنْ سُوَرةِ الفَتْحِ ».

والنص في هذه اللحظة ـــ وعبر تناصه مع قصيدة حسان الهزمية ـــ يؤكد علىٰ الشحنة الحضارية التي تحملها لفظة «الفتح» باعتباره لحظة (الانهيار / الانبعاث), (السقوط / النهضة), (الفناء / النماء) بين عالمين متباينين .. تلك اللحظة التي باركتها السماء, ودخلتْ عالم القرآن, فغدت آية تتلىٰ عبر السنين والأيام .. مجسدة فرحة الأكوان عند مشهد الفتح, وشاهدة علىٰ سقوطنا الحضاري الحاضر, وحاملة للوعود المستقبلية, باعتبار أن الشرط الذي احتضنته سورة النَّصْر يتجه جهة المستقبل, ودخول الناس في دين الله أفواجاً تظهر صورته في هذه الأيام مع الصحوة الإِسلامية التائبة إلىٰ ربها, مما يجعلنا نتنبأ بولادة جديدة أو بفتح جديد, نتعرف فيه علىٰ أوراق تعاريفنا الضائعة ولون وجوهنا المشوه في زمن السقوط والانهيار .. ولكنْ مَتَىٰ ؟؟

«وَقَومي اتَّخَذُوا القُرآن مَهْجَوراً فَغَظَّوا

مثلَ أهل الكهف

فِي قَبْوِ السُّبَلتٍ

ويستمر النوم والسقوط, وتبعث الحضارة في شكلها الغربي, فيرجو العالم الخلاص علىٰ يديها :

« إِنَّ الحَضَارَات اَلحَديِثة, حَمَلَتَّ أعباء كُلِ الأمَمِ وَخُطَاها

لَمْ تَزَل بَعْدُ حَثِيثَةٌ

غير أنها تتوقف في منتصف الطريق :

« ثم خانتها قِوَاهَا إذْ تَخَلَّتْ عَنْ مِعِانِي القِيِمِ»

والنتيجة الحتمية هي السقوط. بل إن التشكيل الزماني المرتبط بللإِيقاع يجسد هو الآخر حالة التعثر فالانهيار, إذ أن البيت الأخير من المقطع السابق :«فَهْيَ تَهْوي نَحْوَ قَعْرِ اَلْعَدَم « يتشكل من ثلاث تفعيلات هي » فاعلاتن فعلن», وكلتفعيلة من التفعيليتين الأوليتين تتكون من سبب وتدع مجموع وسبب, وعند نطلقنا لكلماتها نحس عند كل ساكن بنوع من التعثر والصمت ينتابان ألسنتنا, وهو تعثر يناسب فعل «تهوي» الحضاري, ثم تأتي التفعيلة الثالثة «فَعِلُن» المنتمية إلىٰ أسرة «فاعلاتن» لتؤدي هي الأخرىٰ نفس المعنىٰ, «فالخبن» من جهة, و «الحذف» من جهة أخرى, أحالا كلمة «عَدَم» إلىٰ وجود مسطلح لا نتوء فيه ولا ارتفاع, بالإِضافة إلىٰالإِيقاع بعد سقوط نفس الساكنين, وأثناء قراءة البيت منغما نحس فعلا بالسقوط نحو الحضيض إلىٰ أن نصل إلىٰ الكسرة الأخيرة الموغلة في هذا المسار, فيسمي الصرح والأبراج في مسرح هذا (العالم / الحضارة) «مشهدا عيناه تبكي الدّمِنَا».

وتستمر لحظة السقوط تلك لتشمل جميع الجوانب المادية, بل تتعداها إلىٰ المجالات الفكرية :

«ويعودُ النّاسُ يُفْنِي بعضهم بعضا لأن العقل قد فَسَّخَةُ

عَصْرُ الحَضَارِاتِ الهزيلّ

عصر ذَبْح القيمِ

فوق صرح المدينة

«إنَّ هَذِه الفَلْسَفَاتْ

أفَلَتَتْ مِنْ يَدِهِا حَبْلَ النَّجَاةْ»

فعتذر عليها انتقاد البشرية من دروب الشوك والانشطار. ولقد أدرك أبناؤها هذه الحقيقة إدراكا عميقاً, فها هو أحدهم, ممن تَرَبَّوا في أحضانها يؤكد في صراحة منقطعة النظير بأن «الغرب عَرض, وثقافته شَوْهَاءُ, إنها انعزلت عن أبعاد جوهرية», ويضيف : «إن الغرب يعتبر, خلال ألف سنة مضت, أكبر مجرم في التاريخ, إنه اليوم وبالنظر إلىٰ سيطرته الإِقتصادية والسياسية والعسكرية ـــ بلا مزاحم ـــ يفرض علىٰ العالم كله نموذجه التنموي الذي يؤدي في الوقت ذاته, إلىٰ انتحار عالمي»(9) وليس الانتحار العالمي ـــ بما أنه اختياري ـــ إلا مظهراً من مظاهر الإِنهيار والسقوط .. ولقد « شهد شاهد من أهلها»!!

ويستمر الشاعر في استحضار مظاهر ذلك السقوط الذي ساهمت فيه التكنولوجيا عن غير قصد, إلا أن إيمانه يفرض عليه مجابهة اليأس الذي حاول أن يسيطر علىٰ«إليوت» في «الأرض الخراب», فيأمل في أن يتعانق ( الحي الإيمان) مع ( الالكترون العلم) حتىٰ تبعث الحضارة اللائقة بانسانية الإِنسان :

«لو أن حُباَّ ضضمَّ جُنحَيْةِ عَلَىٰ القُطْبَيْن كَىْ يبعثَ في أحضان هذا الكوكب الدفءَ اللَّطيفِ

لَوْ جَرَى الْحُبُّ بأعراق

دماغَ الاكترون المخيفْ لَمْ تَكُنْ نَخْشَىٰ علىٰمستقبلِ العالم والإِنسانِ شَيْئَا»

غير أن هذا العناق لن يتحقق إلا بــ ( النبي / الإِسلام) الذي أنقذ الانهيار الأول بميلاد حضرانه الجديدة :

«إنَّ وَضْعاَ عاليما

مثْلَ هذا هَدَّدَوهُ بالفَنَاءْ

لَمْ يَعُدَ يَمْلَكُ إلا دَمْعَتَيْنْ

رفَعَتْهَا كَفُّهَ نَحْو السَّمَاء

عَلَّهَا تَبْعَثُ لِلأرضِ نَبيّا !!

يُخْرِجُ النَّاسَ مِنِ الظلْمَةِ للِنَّورِ

ثُمْ يَرْعَى حَق إبْدَلغِ العُصوَرِ»

وهنا تتحد قصيدة هاشم الرفاعي يقصيدة حكمت صالح لينطلقا نحو نهاية واحدة, وهي الأمل في الإِنبعاث, إنبعاث الحضارة الإِسلامية التي تجد مشروعيتها وولادتها في أحاديث الرسول ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ الذي لا ينطق عن الهوىٰ, وإذا كان السقوط حتميا فإن الأمل في الإِنبعاث أكثر حتمية منه, وبذلك تخلق القصيدتان «حتمية تفاؤلية» كما يسميها د. عماد الدين خليل (10).

ولكن السؤال الذي يلح هنا هو : متىٰ ؟؟ وكيف ؟؟ بل إنها أسئلة كثيرة ترفع أعصابنا وأفئدتنا إلىٰ حالة كبيرة من التوتر والمعاناة .. والمسؤولية بأننا :

«سَنَفْتَحُ هَذَا الزَّمَانَ اَلْعَصيَّ بأمْر الذي قَالَ : كُنْ فَيَكُون سَنَرفع هَامَاتِنَا للِسَّماء وَنَزْرَعُ عَاَلَمَنَا بِالضِيَاء»(11)

وهي أسئلة تؤرق المفكرين مع الأدباء, ألم يتساءل رجاء جارودي في قوله : «لقد أنقذ للإِسلام في القرن السابع الميلادي إمبراطوريات كبيرة متهاوية, فهل يستطيع اليوم أن يجعل لنا جواباَ عن قلق ومشاكل الحضارة الغربية التي ظهرت ـــ خلال أربعة قرون ـــ خليفة بحفر قبر, علىٰالمستوىٰ العالمي, وَقَلْبِ مَلْحَمَةٍ إنسانيةٍ مبنية ـــ من مليوني سنة ـــ علىٰ إبداعات وتضحيات ؟؟ (12)» لقد ساعدني نص «جاوردي» هذا علىٰ إيجاد المصطلح اللائق بحضارة العصر الحديث, إنها, بالإِضافة إلىٰ إنهيارها, تسعىٰ إلىٰ«التقبير العالمي», حيث الأطلال تمتد هنا وهناك, وتجسد الموت الشامل الذي ينتظر الإِنيعاث, (وَمَا ذلِكَ عَلىٰ الله بِعَزِيزٍ).

وبعد, فإن قضية «الموت والإِنبعاث» بالنسبة للحضارات, تخضع, في الأدب الإِسلامي, لمنطق الحقيقة والواقع, وليست بخاضعة لمنطق الأسطورة كما تذهب إلىٰ ذلك الناقدة «ريتا عوض» في نقدها الأسطوري(13) خاصة في ظل الإِختلاف حول تحديد مفهوم «الأسطورة». ولقد حاولتُ أن أرصد تلك الظاهرة (الإنهيار والنماء) من حلال الرؤية الإِسلامية, وليتم التأكيد, من جهة, علىٰ حضور الأدب الإِسلامي وتفاعله مع القضايا الإِجتماعية والحضارية, ولندرك, من جهة ثانية, بأن تقدنا الإِسلامي يتوجب عليه ـــ حتىٰ يكون في مستواه المطلوب ـــ أن يرتاد عوالم متعددة, وآفاق متنوعة, ليخرج سالماً من مرحلة العموميات ويدخل مراحل التفصيل والتبويب والتحليل المستفيد ـــ بكل وعي وبصيرة ـــ من هنا وهناك ـــ داخل خقل الآداب الإِنسانية المتنوعة.

هوامش البحث

1)    سورة آل عمران 140.

2)    مجلة «الثقافة الجديدة» المغربية, العدد التاسع, السنة الثالثة, شتاء 1978. ص : 103 ـــ 104.

3)    ديون حسان بن ثابت, تحقيق البرقوقي.

4)    ديون هاشم الرفاعي, جمع وتحقيق محمد حسن بريغش, مكتبة الحرمين ـــ الرياض, ظ : 1, 1980.

5)    «نحو آفاق شعر إسلامي معاصر», حكمت صالح, مؤسسة الرسالة, الطبعة الأولىٰ 1979, ص : 21.

6)    في كتابه تطور الغزل بين الجاهلية والإِسلام», الطبعة الخامسة, دار العلم للملايين, ص 262.

7)    في كتابه «في الشعر الإِسلامي والأموي», دار النهضة العربية, 1979, ص : 43.

8)    لا جدال في أن مصطلح«الثنائية الضدّية» ينتمي إلىٰ المنهج البنيوي, لكن يبدو لي أنه ليس غريباً في دلالته عن تراثنا البلاغي والنقدي, وبأمكانه أن يكتسب مشروعيته انطلاقا من فهمنا المتطور لـ«الطباق» و «المقابلة» في البلاغة العربية.

9)    «وعود الإِسلام», روجيه جارودي, الدار العالمية للطباعة والنشر, الطبعة الأولىٰ 1984, ص 13 ـــ 22.

10)                       عماد الدين خليل «إبن خلدون إسلاميا», المكتب الإِسلامي, الطبعة الأولىٰ, 1983, ص (70).

11)                       من قصيدة «الطريق» للشاعر المغربي حسن الأمراني, مجلة «الفرقان» المغربية, ع 3, س 1, 1984.

12)                       المرجع السابق, ص25.

13)                       ريتا عوض, «أسطورة الموت والإِنبعاث في الشعر العربي الحديث», المؤسسة العربية للدراسات والنشر, الطبعة الأولىٰ, أبريل 1979.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر