أبحاث

علم أصول الفقه (1)

العدد 14

المبحث الأول

التشريع في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

كان التشريع في عهده عليه الصلاة والسلام يقوم على الوحي: حيث ينزل الله تعالى على رسوله آياته ليبلغها للناس، وليبين لهم ما أنزل عليه من غير حاجة إلى الرجوع إلى شيء آخر لمعرفة أحكام الله في أمور عباده.

وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين تفرض عليهم ظروف دعوة الإسلام البعد عن المدينة لقضاء أو تعليم أو سواهما يفتون الذين يحلون بينهم، ويقضون فيهم، بكتاب الله، الذي يعرفون لغته، ودلالات ألفاظه سليقة، أو يدركون المراد منها بيانات رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – القولية أو الفعلية لها، من غير حاجة إلى وسائل أخرى احتاج إليها من جاء بعدهم.

فإن لم يجدوا حكم ما عرض لهم من أمور في كتاب الله بحثوا عنه فيما حفظوه ووعوه ورووه عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من سنة: قد استقلت ببيان الأحكام التي لم يتعرض الكتاب العزيز لبيانها.

فإن لم يجدوا اجتهدوا بآرائهم غير غافلين عن مقاصد الشارع الحكيم مما شرع، ولا جاهلين بما يصلح للناس من حكم.

حتى إذا التقوا برسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – عرضوا ما عرض لهم عليه، فأما أن يقرهم على فتاواهم، وإما أن يبين ما كان ينبغي لهم أن يذهبوا إليه.

أخرج أبو داود في سننه قال: حدثنا حفص بن عمر عن شعبة عن الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة، عن أناس من أهل حمص، من أصحاب معاذ بن جبل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن – “قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله، ولا في كتاب الله: قال: أجتهد برأيي ولا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله”. أ. هـ.

وفي بعض نسخ السنن “أجتهد رأيي” – بحذف الباء، وفي رواية لأبي داود قال: “عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ بن جبل: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما بعثه… إلخ”.

وروى هذا الحديث مثل رواية أبي داود الترمذي في جامعة، والإمام أحمد في مسنده.

وكان رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يحثهم على الاجتهاد في مثل ما رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجْرٌ”.

ومن هذا يتضح: أن أدلة الفقه في عصر الرسالة لم تكن غير كتاب الله، وسنة رسوله، وشيء من القياس يلجأ إليه من يبتعدون عن المدينة المنورة – عند الضرورة – بإقرار من رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – لهم على ذلك، أو يلجأ إليه رسول الله نفسه إذا ما تأخر الوحي على رأي القائلين بجواز تعبده بالاجتهاد ووقوعه.

وإنهم كانوا يأخذون الأحكام من هذين الدليلين – الكتاب، والسنة – مباشرة دون حاجة إلى وسائل في علم بالعربية أو سواها لأن ذلك فيهم سليقة، ولهم طبيعة. نقل عن أمامنا الشافعي رضي الله عنه في رسالته البغدادية التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني أنه قال عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -: “أدوا إلينا سنن رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– وأهدوه والوحي ينزل عليه فعلموا ما أراد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: عاما وخاصا، وعزمنا وإرشادا، وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل، وأمر استدرك به علم، واستنبط به. وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا.

المبحث الثاني..

التشريع في عهد الصحابة..

لما التحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى، وأخذت رقعة دار الإسلام تتسع أكثر فأكثر، والوقائع تتزايد عن الأيام بدأ استعمالهم للقياس يكثر في الوقائع التي لم تتدرج تحت نصوص الكتاب والسنة، وأخذ القياس يبرز كدليل من أدلة الأحكام بشكل واضح، دون نكير من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – بل إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قد أمر قاضيه أبا موسى الأشعري بالقياس في كتابه المشار إليه حيث قال فيه “… الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيها ترى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق”.

كما كتب – رضي الله عنه – إلى شريح القاضي يقول: “إذا حضرك أمر لا بد منه فانظر ما في كتاب الله فاقض به فإن لم يكن فبما قضى به الرسول – صلى الله عليه وسلم – فإن لم يكن فبما قضى به الصالحون وأئمة العدل، فإن لم يكن فأنت بالخيار فإن شئت أن تجتهد رأيك فاجتهد رأيك، وإن شئت أن تؤامرني فآمرني ولا أرى مؤامرتك إياي إلا خيرا لك والسلام”.

وروى البغدادي عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال: “يا أيها الناس: إنه قد أتى علينا زمان لسنا نقضي، ولسنا هناك، وإنه قد قدر أن بلغنا من الأمر ما ترون فمن ابتلي منكم بقضاء، فليقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فليقض بما قضى به النبي – صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في قضاء رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فليقض بما قضي به الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله، ولا في قضاء رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -، فإن الحلال بين والحرام بين، وشبهات بين ذلك فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك”.

ولا نريد الإطالة بذكر أقوال الصحابة الدالة على أخذهم بالاجتهاد ومنه القياس خشية أن يخرجنا ذلك عن موضوعنا، وكل ما نريده هو أن نقرر أنهم اجتهدوا وقاسوا وقالوا بذلك وفعلوه، ليتضح أن القياس برز على عهدهم بروزا واضحا كدليل من أدلة الفقه، مهتدين بذلك بهدي رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم.

ولقد نقل الفخر في “المحصول” إجماع الصحابة على العمل به وأكثر من عرض أقوالهم وأفعالهم، وفتاواهم المبنية على القياس، والاجتهاد. منها: مسألة “الحرام” وقد اختلفوا فيها على خمسة أقوال:

أولها – أنه في حكم الطلاق الثلاث وهو منقول عن علي وزيد بن ثابت وابن عمر – رضي الله عنهم.

وثانيها – أنه في حكم الطلقة الواحدة إما بائنة أو رجعية على اختلاف بينهم.

وثالثها – أنه يمين تلزم فيه الكفارة وهو المنقول عن أبي بكر وعمر وعائشة – رضي الله عنهم.

رابعا – أنه في حكم الظهار وهو المنقول عن ابن عباس – رضي الله عنهما.

وخامسا – أنه ليس بشيء وهو منقول عن علي رضي الله عنه كقول ثان.

ومنها: اختلافهم في “توريث الجد مع الأخوة” ومذاهبهم في ذلك.

واختلافهم: في “الخلع” هل يهدم من الطلاق شيئا أو يبقى عدد الطلاق على ما كان.

وكذلك اختلافهم في “المسألة المشتركة” الشهيرة في الفرائض.

وقد ذكر الفخر أن اختلاف آراء الصحابة في هذه المسائل لما لم يكن فيه نص من الشارع جليا أو خفيا فيتعين أن يكون مدرك كل واحد فيما ذهب إليه هو “القياس” كما أن هناك وقائع أفتوا فيا وصرحوا بأن ذلك كان برأيهم. كقول أبي بكر – رضي الله عنه – في “الكلالة”: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان: “الكلالة ما عدا: الوالد والولد”.

وقال عمر – رضي الله عنه -: “أقضي في الجد برأيي، وقال له عثمان – رضي الله عنه -: إن اتبعت رأيك فسديد، وإن تتبع رأي الشيخ قبلك فنعم الرأي كان”. رواه البيهقي، وابن أبي خيثمة. وقال علي رضي الله عنه: “اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد ألا يبعن، وقد رأيت الآن بيعهن”.

وكما برز القياس كدليل من أدلة الأحكام، أخذت الصورة الأولى من صور الإجماع تتضح، فقد كان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – قلة لا يتعذر اتفاقهم على حكم من الأحكام ولا يتعذر اجتماعهم.

ولم يكن كل أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يتصدون للفتيا، بل كان الذين يتصدون لها منهم حفظه القرآن الكريم الذين كان يطلق عليهم “القراء” وقد ذكرهم محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية في كتابه – إعلام الموقعين – وعد منهم نيفا وثلاثين ومائة.

ولم يكن هؤلاء القراء – رضي الله عنهم – من أصحاب الفتيا كلهم على درجة واحدة في الفتيا، ففيهم المقل وفيهم المكثر، وكان المكثرون منهم سبعة، عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأم المؤمنين عائشة، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر – رضي الله عنهم أجمعين -.

وعن هؤلاء انتشر الفقه والعلم فيمن بعدهم.

ومنذ سنة أربعين للهجرة بدأ لقب “القراء” يختفي ليحل محله لقب “العلماء”، كما أخذوا يطلقون لقب “الفقهاء” على القادرين على الاستنباط إضافة إلى الحفظ والرواية.

يقول ابن سعد في طبقاته: “كان ابن عمر جيد الحديث، غير جيد الفقه، وكان زيد بن ثابت فقيها في الدين عالما بالسنن”.

وسميت سنة (94هـ) بسنة الفقهاء لكثرة من توفى منهم فيها.

ويستطيع الباحث أن يجد من اجتهادات الصحابة، واختلافاتهم ملامح طرق استنباط واضحة. ومن الممكن أن نجد التعليل بالمصلحة، والأخذ بسد الذرائع، ودفع المفسدة والأخذ بالسياسة الشرعية، وتغيير الأحكام بتغيير الأزمان وتبعا لزوال العلة من الأمور المألوفة عند كبار الصحابة حتى إن بعضهم أوقف العمل بالنصوص بسب ذلك.

وكثير مما نقل من فتاوى الصحابة واجتهاداتهم يدل على إدراك بعض الصحابة لبعض القواعد الأصولية، ولكن لا بأسمائها الاصطلاحية التي وضعها لها علماء الأصول فيما بعد بل بمسمياتها ومفاهيمها. وأنهم كانوا يدركون ذلك بناء على إدراكهم لمقاصد الشارع بحكم معاصرتهم لصاحب الرسالة – عليه الصلاة والسلام، وصحبتهم له، وبحكم إحاطتهم بالعربية سليقة بحيث لا يحتاجون إلى ما احتاجه من بعدهم وهكذا كانوا ينقلون العلم والإيمان لمن بعدهم من مشكاة النبوة غضا طريا لا يشوبه إشكال، ولا يعكر صفوه اختلاف، ولا تدنسه معارضة.

المبحث الثالث

التشريع بعد عهد الصحابة

لما انقرض عهد الصحابة ما بين تسعين وبين مائة من الهجرة وجاء عهد التابعين آل أمر الفتيا والعلم بالأحكام إلى علماء التابعين الذين تلقوا عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وكان فقهاؤهم أمثال ابن المسيب، وعروة ابن الزبير، والحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم بن يزيد النخعي، وعطاء بن أبي رباح وغيرهم. يلجئون إلى كتاب الله، وسنة رسوله – صلى اله عليه وآله وسلم – كلما سئلوا عن حكم، ويهتدون بفتاوى الصحابة، فإن لم يجدوا حكم ما عنه يبحثون نظروا في الأشباه والأمثال، فإن وجدوا شبيها له قاسوه عليه.

عن الحسن بن عبيد الله النخعي قال: قلت لإبراهيم النخعي: أكل ما أسمعك تفتي به سمعته؟ فقال: لا. فقلت: تفتي بما لم تسمع، فقال: سمعت الذي سمعت، وجاءني ما لم أسمع فقسته بالذي سمعت.

ومنهم من يلجأ إلى المصلحة مهتديا بما أدركه من مقاصد الشرع فالتفريعات التي كان يفرعها إبراهيم النخعي وغيره من فقهاء العراق كانت نتيجة استخراج علل الأقيسة، وضبطها والتفريع عليها بتطبيق تلك العلل على الفروع المختلفة، أما فقهاء الحجاز فقد كانوا يلجئون إلى المصلحة في المسائل الجديدة غير المنصوص على حكمها.

ومع اتضاح مناهج الاستنباط أكثر من ذي قبل إلا أنها لم تبلغ الدرجة التي تجعل منها علما متكاملا. فهي: لم تزل بعد فجة لم تنضج، ولم تتقلب على ألسنة المتجادلين إلى الدرجة التي تصيرها علما قائما على سوقه.

فإذا ما جاء عصر أتباع التابعين والأئمة المجتهدين زادت المناهج وضوحا، وتميزت قواعد الاستنباط، وظهرت على ألسنة الأئمة بعبارات صريحة وواضحة ودقيقة.

فنجد أبا حنيفة مثلا يحد مناهج استنباطه الأساسية بالكتاب، فالسنة ففتاوى الصحابة يأخذ ما يجمعون عليه، وما يختلفون فيه يتخير من آرائهم ولا يخرج عنها، ولا يأخذ برأي التابعين لأنهم رجال مثله، ونجده يسير في القياس والاستحسان على منهاج بين.

ولكنه – رحمه الله – لم يؤثر عنه أنه ضبط قواعدهما ونظم قانونهما، ولكن آلاف المسائل الفقهية المأثورة عنه تجعل من المؤكد أنه: كان يلاحظ قواعد معينة قيد بها نفسه كالقواعد التي أشرنا إليها.

ومالك – رحمه الله – كان يسير على منهاج أصولي واضح – في احتجاجه بعمل أهل المدينة، وتصريحه بذلك في كتبه ورسائله، وفي اشتراطه ما اشترطه في رواية الحديث.

المبحث الرابع

تدوين علم أصول الفقه

في عصر الصحابة والتابعين كان تدوين العلوم والسنن منعدما تقريبا في العصر الأول ونادرا في العصر الثاني. ذلك لأن العرب أمة أمية كانت تعتمد على الصدور لا على السطور في حفظ العلم، وتقييد الرواية، بالإضافة إلى كراهية ذلك الجيل من الصحابة ومن تلاهم من التابعين لتدوين شيء غير كتاب الله لئلا يتخذ الناس مع كتاب الله كتابا يشغلهم ولو قليلا عن كتاب الله.

كما لم تكن هناك ضرورة ملحة تلجئهم إلى التدوين، وضبط القواعد.

يقول ابن خلدون: “وفيما كان الكلام ملكة لم تكن هذه علوما ولا قوانين، ولم يكن الفقيه يحتاج إليها، لأنها جبلة وملكة، فلما فسدت الملكة في لسان العرب قيدها الجهابذة المتجردون لذلك بنقل صحيح، ومقاييس مستنبطة وصارت علوما يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى” وإنما تؤلف كتب الضوابط عند ظهور الدواعي إليها، وقد ظهرت هذه الدواعي بعد السلف من الصحابة والتابعين الذين كانوا في غنية عن ذلك بما لهم من ملكة لسانية تساعدهم على استفادة المعاني من الألفاظ مباشرة، كما كانوا على إدارك تام لأسرار الشريعة ومقاصدها من طول صبحتهم لرسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – كما أن جيل التابعين الذي أخذ عنهم استطاع أن يحمل الأمانة كاملة، وأن يأخذ عنهم ما أخذوه من مشكاة النبوة. ولقد كان بعض التابعين يفتون في المسائل بمحضر من بعض أكابر الصحابة الذين كانوا يجيزون لهم ذلك، بل ويحيلون عليهم في بعض الأحيان.

وانقرض السلف، وذهب الصدر الأول، وانقلبت العلوم كلها صناعة ونشأ المذهب الفقهي، وانقسم الفقهاء إلى فريقين: فريق أصحاب الرأي والقياس من العراقيين، وفريق أهل الحديث من أهل الحجاز. وقد كان مقدم أهل الرأي وصاحب مذهبهم الإمام أبو حنيفة المولود سنة 80 هـ والمتوفى سنة 150هـ. والذي أعانه في نشر مذهبه تلميذاه الجليلان أبو يوسف المتوفى سنة 182هـ. ومحمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189هـ. وقد أشرنا إلى أنه – رحمه الله – كانت له مناهج استنباط واضحة فيما تركه من آثار، وإن لم يؤثر عنه أن ضبط قواعد مناهجه المشار إليها ونظم قوانينها، ودونها.

ولقد أكثر الإمام أبو حنيفة وأصحابه من القياسات والاستحسان لقلة ما بلغهم من ألسنة ولصعوبة ما وضعوه من شروط لقبول الرواية، ولذلك سموا بأهل الرأي.

وأما أهل الحديث من الحجازيين فقد كانوا أكثر رواية للحديث من أهل العراق فمدينة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – دار الهجرة التي عاش فيها عشرة أعوام يفتي الناس، ويقضي بينهم، يدعو إلى سبيل ربه، ويجاهد لتثبيت دعائم الإسلام، وبسط سلطانه على الأرض فكانت الرواية فيها أكثر والرواة أوفر.

وقد كان مقدم أهل الحديث الإمام مالك بن أنس الأصبحي المولود سنة 94هـ. والمتوفى سنة 179هـ وهو كما أشرنا كان له منهاج أصولي يسير عليه في استنباط أحكام الفروع: كاحتجاجه بعمل أهل المدينة، ولكنه كالإمام أبي حنيفة لم ينظم قواعد لمنهجه في الاستنباط، ولم يدون قوانين محددة لها.

ولقد نشب بين الفريقين نوع من الصراع، فأخذ كل فريق يعيب على الآخر، فأهل الرأي يعيبون على أهل الحديث الإكثار من الروايات، ويرمونهم بقلة الفقه والفهم والتدبر، وأهل الحديث يعيبون أهل الرأي بأنهم يأخذون في دينهم بالظن وأنهم ليسوا لسنة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – أنصارا ولا هم فيها بمتثبتين، ولذلك كان لا بد من وجود قواعد مدونة تكون مرجعا لفض النزاع من ناحية وليبني كل فريق عليها فقهه، وتكون لأتباعه سند جدال، وقاعدة حجاج، ولم يكن تحصيل هذه القوانين والقواعد، وترتيب هذه المناهج ووضعها في إطار بالعمل الهين ولا بالأمر السهل، وليس بإمكان كل عالم مهما كان أن يقوم بهذا العبء الجسيم. فإن وضع نظام موحد أو شبه موحد لطريقة استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها أمر في غاية الخطورة والأهمية، كما أن هذه المهمة تقتضي فيما تقتضيه اطلاعا تاما على مقاصد الشارع، وقدرة على إدراكها ومعرفتها من خلال كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وآله وسلم – وإلماما شاملا بمذاهب العلماء، ومدارك فقههم من عهد الصحابة حتى وقته، ومعرفة تامة بلغة العرب. وذلك لا يتيسر إلا للقليل النادر ممن يهبهم الله القدرة على هذا ليعز بهم دينه وشريعته، فقيض الله لهذه المهمة عالم قريش الإمام الشافعي – رضي الله عنه – وكان حقيقا بها وأهلا لها، فإنه – رضي الله عنه – إضافة إلى إحاطته بالعربية، وعلوم القرآن الكريم والحديث الشريف. كان قد اطلع على فقه الفريقين من أئمتهم فاطلع على فقه مالك ومنهجه في الاستنباط وقرأ عليه موطأه، كما اطلع على فقه أبي حنيفة ومناهجه من محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، كما أطلع على ما لدي غير هذين الإمامين من أئمة الفريقين – ولقد ظهر الإمام الشافعي مزودا بكل هذه القدرات والنهضة الفقهية قائمة ترمي إلى الوفاء بالحاجة العلمية لسد حاجات الدولة التي كانت تريد ضبط أمورها على منهاج شرعي، والفقهاء منقسمون كما أشرنا إلى فريقين والخلاف بين الفريقين محتدم، وقد كان أهل الرأي على جانب كبير من قوة البحث والنظر، وكانوا أصحاب حجاج ولسن، وهم أسرع في تلبية حاجات المجتمع من الفقه معتمدين على الأقيسة والاستحسان، وقوتهم في الجدل عنها. فيما لم يطلعوا فيه على نص مقبول لديهم، بينما كانت جمهرة أهل الحديث وبخاصة العراقيين منهم – على شيء كبير من الخمول والكسل، وضعف البحث والنظر، لا يملكون القدرة على الذب عن مذهبهم، وكلما أورد عليهم أحد من أصحاب الرأي سؤالا أو إشكالا أسقط في أيديهم متحيرين.

ولقد خاف الكثيرون من الغياري أن تتحول هذه النهضة الفقهية التي كانت تعيشها الأمة إلى عامل انقسام خطير يهدد وحدتها، ويشغلها عن أعدائها، فكانوا يتمنون لو وجد من يضع لها (قانونا كليا) يرجع الجميع إليه فيحول بين أهل الرأي وبين انطلاقهم وراءه دون عقال، ويحميه بذلك من الزلل، وينفي عن السنة ما أصابها من جمود الجامدين، واتجهت الأنظار نحو عالم قريش فكتب إليه عبد الرحمن بن مهدي يسأله وضع هذا القانون الكلي. وضبط مناهج الاستنباط وتقييدها بكتاب جامع لهذه القواعد يعرف بدلائل الفقه، ويبين مراتبها لعله يساعد على ردم الهوة بين أهل الرأي والحديث، ويمهد للناس ظهور فقه جديد جامع لما في فقه كل من الفريقين من فضائل.

ويبدو أن هذا الطلب قد صادق هوى في نفس الإمام الذي كان قد اكتمل وحاز على ما في عصره من علم، وأخذ يتطلع إلى المجال الذي يستطيع أن يثمر وينتج فيه أكثر. فكتب – رضي الله عنه – (الكتاب) الذي عرف (بالرسالة) قيل، إنه وضعها بمكة وسيرها إلى الإمام عبد الرحمن بن مهدي، وقيل: وضعها في بغداد.

وأيا كان الأمر فقد أقبل الناس على الرسالة ووجدوا فيها القواعد الأصولية التي كان يعييهم البحث قبل العثور عليها.

فأقبل عليها أهل الحديث لأنهم وجدوا فيها القواعد التي تمكنهم من الخروج عن سلبيتهم وجمودهم وتساعدهم على نصرة السنة، فهو – رضي الله عنه – قد أقام الاجتهاد على مبدأ: إن الأصل: قرآن أو سنة، فإن لم يكن فقياس عليهما وإذا اتصل الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصح الإسناد به فهو المنتهى.. والحديث على ظاهره. وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره فهو أولاها به، وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسنادا أولاها. وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيب، ولا يقاس أصل على أصل ولا يقال للأصل لم وكيف؟ وإنما يقال: للفرع لم؟ فإذا صح قياسه على الأصل صح وقامت به الحجة أ. هـ.

ونظر إلى السنة الصحيحة نظرته إلى القرآن الكريم يرى كلا منهما واجب الأتباع، وتجاوز الشروط والقيود التي وضعها غيره على السنة، ولم يلتزم بأكثر من شروط الصحة والاتصال، وترك الاستحسان وأنكره وقال: “من استحسن فقد شرع” وكتب كتابا في إبطاله، ورد المصالح المرسلة، ولم يعمل بالقياس ما لم تكن علته منضبطة، ودافع دفاعا شديدا عن العمل بخبر الواحد الصحيح.

وقد وضع كتبا قيمة مستفيضة خاصة ببعض المسائل الخلاقية الخطيرة: ككتاب جماع العلم الذي جعله خاصا بإثبات حجية الأخبار والرد على منكريها كبعض الرافضة والمعتزلة. فكانت جهوده هذه سببا هاما في ذيوع صيته والتمهيد لانتشار مذهبه، ودافعا قويا لاستيقاظ المحدثين من سباتهم ورقودهم، وعاملا أساسيا في تحركهم بعد ركودهم، فارتفع شأنهم، وعظم أمرهم وتمكنوا من تقوية مذهبهم، ومن صحة الرد على مخالفيهم، ولذلك لقب في بغداد بـ “ناصر الحديث”.

ونقل عن الإمام أحمد – رحمه الله – أنه قال: “كانت أقفيتنا – أصحاب الحديث – بأيدي أصحاب أبي حنيفة ما تنزع حتى رأينا الشافعي” وقال الإمام أبو بكر الحميدي، أو الحسن بن محمد الزعفراني: “كان أصحاب الحديث رقودا فأيقظهم الشافعي” إلى أقوال كثيرة لا نطيل بذكرها.

هذا ولم يكن أصحاب الرأي أقل اهتماما بالرسالة وببقية ما كتب الشافعي من نظرائهم – أهل الحديث – فإنه إذا كانت السنة قد تعرضت لحملات تشكيك أدت إلى رفض البعض للسنن والآثار جميعا، أو لم يقبلوا منها إلا ما جاء بيانا لنص قرآني، أورد أخبار الآحاد ما لم تشتهر، أو اشتراط عدم مخالفة الحديث لعمل أهل المدينة فإن القياس والإجماع كانا أكثر تعرضا للتشكيك.

وقد علمت أن أبا حنيفة – رحمه الله- مع أخذه بالقياس واهتمامه به لم ينظم له قواعد وقوانين محددة تمهد طريقه لمن يريد سلوكه، وترد على من أنكروه، يضاف إلى هذا أنهم وجدوا نظراءهم من أهل الحديث قد تغير وضعهم ولم يعودوا أولئك الذين لا يستطيعون الدفاع عما يذهبون إليه مما حمل الإمام محمد بن الحسن أن يقول: “إن تكلم أصحاب الحديث يوما فبلسان الشافعي” فلا غرابة إذا ما اهتم الفريقان بها، وتوفروا على دراستها حتى صارت هذه القواعد التي جمعها رضي الله عنه علما قائما بذاته – هو علم “أصول الفقه”.

وقد أصبحت رسالة الشافعي منارا يهتدي به السالكون سبيل الأحكام الشرعية بمأمن من الزلل والخروج عن الجادة. عظمت بها فائدة أهل الحديث، وأهل الرأي على حد سواء، وتحول الصراع الذي كان بين الفريقين إلى صراع من نوع جديد له مرجع من قواعد ثابتة، وأسس واضحة ساعدت على تنمية وتزكية الثروة الفقهية، وإضافة مذهب جديد وسط بين مذهب أهل العراق، وأهل الحجاز. فلا عجب إذا ما أقبل الناس عليه وشغفوا به، وقصد الناس إمامه في سائر أقطار الإسلام يتفقهون عليه، يروون عنه، ويسمعون كتبه ويأخذون عنه.

فاستحق الإمام – رضي الله عنه – ثناء علماء الأمة ودعاءهم.

المبحث الخامس

الإمام الشافعي أول من دون أصول الفقه

لقد اتضح مما أسلفنا أن الشافعي – رضي الله عنه – هو: أول من دون “أصول الفقه” وجمعها في كتاب، وأنه لم يسبق إلى هذا.

وقد اتفق جمهور العلماء المؤرخين على هذا، ولم يشذ عن اتفاقهم إلا من لا عبرة بخلافهم.

قال ابن خلدون: وكان أول من كتب فيه – أي في علم أصول الفقه – الشافعي رضي الله عنه، أملى فيه رسالته المشهورة، تكلم فيها في: الأوامر والنواهي، والبيان، والخبر، والنسخ، وحكم العلة المنصوصة من القياس، ثم كتب فقهاء الحنفية، وحققوا تلك القواعد، وأوسعوا القول فيها.

وقال الإسنوي: إن الركن الأعظم، والأمر الأهم – في الاجتهاد – إنما هو علم أصول الفقه، وكان أمامنا الشافعي – رضي الله عنه – هو المبتكر لهذا العلم بلا نزاع، وأول من صنف فيه بالإجماع، وتصنيفه المذكور فيه موجود بحمد الله تعالى وهو الكتاب الجليل المشهور المسموع عليه المتصل بإسناده الصحيح إلى زماننا المعروف بالرسالة.

وقال الإمام الفخر:

واعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول: كنسبة أرسطاطاليس إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض.

وبعد أن بين حالة علم المنطق قبل الأول، وكيف استخرج الثاني علم العروض – قال -: فكذلك ها هنا، الناس كانوا قبل الإمام الشافعي – رضي الله عنه – يتكلمون في مسائل أصول الفقه، ويستدلون، ويعترضون، ولكن ما كان لهم “قانون كلي” مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي – رحمه الله تعالى – علم أصول الفقه، ووضع للخلق “قانون كليا” يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع.

وقال أيضا: والناس وإن أطنبوا بعد ذلك في علم أصول الفقه إلا أن كلهم عيال الشافعي فيه، لأنه هو الذي فتح هذا الباب، والسبق لمن سبق.

وقال الإمام الجويني – والد أبي المعالي – في شرحه على الرسالة: لم يسبق الشافعي أحد في تصنيف الأصول، ومعرفتها، وقد حكي عن ابن عباس “تخصيص عموم” وعن بعضهم “القول بالمفهوم” ومن بعدهم لم يقل في الأصول شيء، ولم يكن لهم فيه قدم. فإنا رأينا كتب السلف من التابعين، وتابعي التابعين وغيرهم فما رأيناهم صنفوا فيه.

وعقد بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي المتوفى سنة 694 هـ في كتابه – البحر المحيط – فصلا بعنوان: (الشافعي أول من صنف في أصول الفقه) صنف فيه كتاب – الرسالة – وكتاب – أحكام القرآن، واختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وكتاب جماع العلم، وكتاب القياس – الذي ذكر فيه تضليل المعتزلة – ورجوعه عن قبول شهادتهم.

وقال السيوطي في إتمام الدراية: وأول من ابتكر هذا العلم الإمام الشافعي – رضي الله عنه – بالإجماع. وألف فيه كتاب الرسالة الذي أرسل إلى ابن مهدي وهو مقدمة كتاب الأم.

وقد ذكر الفخر في مناقبه ما يقرب من هذا – حيث قال: اتفق الناس على أن أول من صنف في هذا العلم هو الشافعي وهو الذي رتب أبوابه، وميز بعض أقسامه عن بعض، وشرح مراتبه في القوة والضعف.

ولقد أصبح علم أصول الفقه منذ أن وضع الإمام رسالته فيه علما قائما بذاته كما مر، باسمه، وعد من مناقبه.

ونعتقد أن من المسلمات التي لا تحتاج إلي تقرير فضلا عن برهان أن أول من جمع قواعد الأصول ورتبها، واستخرج أهمها، ونصبها للناس منارا يهتدون به إلى الفقه السليم – هو: الإمام الشافعي.

وقد نقل كبار العلماء الإجماع على هذا، ومع ذلك فقد وجد من شذ عن هذا الإجماع وزعم أن الشافعي – رضي الله عنه – مسبوق بهذا لا سابق وأنه تابع لغيره لا متبوع، ولكنهم لم يستطيعوا الإتيان بدليل واحد على ما زعموه ولولا اغترار بعض الكتاب المحدثين بهذه المزاعم لما وجدنا ما يحمل على عرضها وتفنيدها، ونعتقد أن الدافع لهؤلاء على مخالفة الإجماع – هو: التعصب المذهبي لا التحقيق العلمي.

والذين شذوا عن هذا الإجماع: بعض متأخري الحنفية، وبعض متأخري الشيعة الإمامية.

أما متأخروا الحنفية فقد زعم بعضهم أن أبا يوسف – رحمه الله – كان أول من وضع في أصول الفقه على مذهب الإمام.

وكذلك ادعوا أن للإمام محمد بن الحسن تأليفا في الأصول – ولكن الناظر في تراجم هذين الإمامين لا يجد شيئا يؤيد ما نسب إليهما من التأليف في أصول الفقه.

ولعل من ادعوا هذا تمسكوا بظاهر لفظة (الأصول) في كتب التراجم التي ترجمت لهذين الإمامين، وذكرت ما لهما من كتب، فقد ذكر ابن النديم في ترجمته لأبي يوسف: إن له من الكتب في الأصول والأمالي: كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، كتاب الصيام، كتاب الفرائض، كتاب البيوع، كتاب الحدود،…الخ.

كما ذكر في ترجمة لمحمد بن الحسن: إن له من الكتب في الأصول: كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، كتاب المناسك، كتاب نوادر الصلاة، كتاب النكاح… الخ وظاهر أنه ليس المراد من كلمة الأصول هنا “أصول الفقه” وإنما المراد منها معناه اللغوي: فالأصل – لغة: “ما ينبني عليه غيره”.

وفي الحديث الشريف: (بني الإسلام على خمس) فالصلاة والزكاة والصيام أصول بني عليها الإسلام، وكتب الإمامين هذه في الفقه وليست في أصوله. فأين هذا مما نحن فيه؟!!.

وأما متأخرو الشيعة – فقد قال حسن الصدر في كتابه “الشيعة وفنون الإسلام” في الفصل الخامس الذي خصصه للكلام عن تقديم الشيعة في علم أصول الفقه: فاعلم أن أول من فتح بابه، وفتق مسائله هو باقر العلوم الإمام أبو جعفر محمد بن على الباقر وبعده ابنه أبو عبد الله الصادق وقد أمليا فيه على جماعة من تلامذتهما قواعده ومسائله، جمعوا من ذلك مسائل رتبها المتأخرون على ترتيب مباحثه: ككتاب “أصول آل الرسول الأصلية” وكتاب “الفصول المهمة في أصول الأئمة”، وكتاب “الأصول الأصلية” وكلها بروايات الثقات مسندة متصلة الإسناد إلى أهل البيت (ع).

واستطرد قائلا وأول من أفرد مباحثه بالتصنيف هام بن الحكم صنف كتاب “الألفاظ ومباحثها”.

كما نقل الدكتور يعقوب الباحسين نحو هذا عن كتاب “تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام” للمؤلف نفسه وفي هذا صراح المؤلف بتقديم هشام ابن الحكم على الإمام الشافعي – رضي الله عنه – بالتصنيف في الأصول.

كما نقل نحو ذلك عن السيد حسين مكي العاملي في كتابه “عقيدة الشيعة في الإمام الصادق وسائر الأئمة”.

وقد ناقش الشيخ أبو زهرة هذه الدعوى في أصوله. كما ناقشها الباحسين كذلك.

والذي أود أن أضيفه إلى مناقشة الشيخين أبي زهرة والباحسين لهذه الدعوى:

1 – أن كتاب “مباحث الألفاظ” لا يعرف منه غير عنوانه، ولا يدري الشيعة ولا سواهم ما إذا كان هذا الكتاب من كتب اللغة، أو البلاغة، أو التفسير، أو هو في مباحث الألفاظ من ناحية أصولية.

2 – إن ما لا ينكره الصدر ولا سواه من علماء الشيعة أن كتاب “الكافي” للشيخ (الصدوق – ثقة الإسلام – الكليني) عندهم بمنزلة كتاب “صحيح البخاري” عند أهل السنة.

وقد قال الكليني – وهو يتحدث عن أسانيد الشيعة ونقلها للأخبار والكتب والأحاديث: “إن شيوخنا رووا عن الباقر وعن الصادق، وكانت التقية شديدة، وكانت الشيوخ تكتم الكتب، فلما خلت الشيوخ وماتت وصلت كتب الشيوخ إلينا، فقال إمام من الأئمة: حدثوا بها فإنها صادقة”.

وذكر السيد حسين العاملي -وهو يعلل لظهور أصول الفقه والحاجة الداعية إليه- أن الشيعة الإمامية لم يكونوا في حاجة إلى تأليف في علم الأصول حينما كان الأئمة – عليهم السلام – موجودين وكان من الممكن الرجوع إليهم، أو إلى سفرائهم ووكلائهم لمعرفة أحكام الله، ولكن بعد – غيبة الإمام المنتظر – التي ابتدأت في حدود سنة 229هـ. ظهرت الحاجة إلى هذا العلم لغرض استنباط الأحكام.

وعلى هذا يكون من الثابت من أقوال أئمة الشيعة – أنفسهم – أن الشيعة لم تظهر لأئمتهم كتب أصولية في عصر الشافعي، إما لأنهم كانوا يكتمون كل شيء تقيه كما هو تعليل الكليني، وإما لأنهم لم يكونوا في حاجة إلى الكتابة في هذا العلم أو سواه، لأن حاجتهم إليها بدأت بعد سنة 229هـ – كما هو تعليل العاملي.

ومما قالوه هم لا غيرهم: يثبت أن ادعاء من ادعى منهم أن الإمام الشافعي – رضي الله عنه – مسبوق من قبل أي إمام من أئمتهم دعوى لا دليل عليها، ودوافعها غير خافية.

وإذا كان المراد بهذه الدعوى المجردة عن الدليل ونحوها نسبة الفضل لهؤلاء الأئمة من آل بيت النبوة وتلامذتهم، فإن في فضائلهم الثابتة المتواترة التي أطبقت عليها الأئمة ما يغنيهم عن سواها.

المبحث السادس

منهج الشافعي في تدوين علم الأصول

كتب الشافعي رسالته مستهدفا ما سبقت إشارتنا إليه، وقد ابتدأها بالبيان، وقسمه إلى بيان القرآن بالقرآن، وبيان القرآن بالسنة، وبيانه بالاجتهاد وإخراج الاستحسان عن مفهوم الاجتهاد، وبين أن المراد منه القياس. ثم تحدث عما نزل من الكتاب عاما يراد به العام وعاما يراد به الخصوص، وما أنزل من الكتاب عام الظاهر وهو يجمع العام والخصوص، وما نزل عام الظاهر يراد به كل الخصوص، ثم تناول الصنف الذي يبين سياقه معناه، وما نزل عاما دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص، ثم بين أن الله تعالى فرض في كتابه اتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم – كما فرض الله طاعة رسوله مقرونة بطاعة رسوله مقرونة بطاعة الله ومذكورة وحدها.. ثم انتقل إلى الكلام عن الناسخ وبين الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه. ثم تكلم عن العلل في الأحاديث، ثم تكلم عن خبر الواحد والاحتجاج به.

وبعد ذلك تناول الإجماع، ثم القياس وبين حجية كل منهما، ثم تناول الاجتهاد واستدل على جوازه، ثم تناول الاستحسان وأنكره وأوضح الفوارق بينه وبين القياس، وما حمله على الاحتجاج بالقياس وإنكار الاستحسان من الأدلة. وختم الرسالة بباب الاختلاف – بين العلماء – وأوضح أن الاختلاف يقع على وجهين: أحدهما محرم، وقال: ولا أقول ذلك في الآخر. ثم شرع في تفصيل ذلك.

ولقد عرض كل هذه المواضيع عرضا استدلاليا قائما على سرد الحجج الوافية، ومناقشة المخالفين، بشكل يدل على إحاطته – رضي الله عنه – إحاطة تامة بفقه أهل الرأي وأهل الحديث، واطلاع واسع على السنة، ومعرفة كاملة لدقائق القرآن الكريم ومعرفة الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص وسواها، فضلا عن معرفة بالعربية جعلته إماما فيها وحجة، يضاف إلى ذلك تحقيق وتدقيق لا يتأتيان لغير عالم قريش ذي البصيرة النافذة، والملاحظة الدقيقة، وكل ذلك بأسلوبه الفذ الذي لم تهجنه عجمة، ولم تدخل عليه لكنة.

(للبحث بقية)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر