أبحاث

آفاق الانبثاق الإسلامي لفلسفة الجمال والفن

العدد 11

سبق لنا شرف الحديث على صفحات هذه المجلة الغراء (( المسلم المعاصر)) عن الزاد الثقافى الجديد الذى يحب تقديمه لهذا الجيل الحبيب ، لأنه كما قلنا آنفا: (( يشتمل خلاصة النتائج والحلول للمشكلات العقلية والدينية والمدنية)) وأضفنا إلى ذلك قولنا: إن هذا الزاد يجب أن يعد بنفس المرونة والانطلاق الذى نتمتع به في معالجتنا لقضايانا الفنية وقيمنا الجمالية.

إن هذا الزاد يعفي – كما قلنا – من تتبع المكتشفات بفتاوى عفوية أحيانا ، أو بمهمة من الشك والتردد والاستخفاء.

فما أعظم ثقافة انطلقت صيحتها ، وصدر باعثها من دين يجعل الإنسان خليفة الخالق في الأرض ، ويمنحه مكان الصدارة والسيطرة بين الكائنات.

وما أقرب اليوم الذى يهفو شباب العالم فيه إلى الإسلام كمصحح للتكوين الثقافى والهداية الحقيقة لهذا العدد الهائل من الشباب الضائع(1).

واليوم نحاول أن نعرض بعض التأملات التى استلهمت كتاب الله الكريم وسنة نبية العظيم صلوات الله عليه ، وطافت بقرائح الأعلام الذين تنسموا أريج الإسلام ، واستمدوا من أنواره.

وكان اختيارنا للجانب الفنى والجمالى نابعاً من اعتقادنا بأن هذا الجانب ربما كان أخطر الجوانب وأعمقها تأثيراً على الفرد وعلى المجتمع. وبالرغم من ذلك فإنه لم ينل حظه من العلاج ، إما تحرجاًً ، وإما خطاً في تقدير قيمته وحيويته ، وصريح نسبته الصافية الملتزمة إلى الإسلام.

ومما ضاعف رغبتنا في الكتابة في هذه الموضوع بالذات: إرادة تبديد سحب مشبوهة مخيمة على الجو الثقافى في بعض أرجاء الأمة الإسلامية ، وتلك السحب التى تضم في أحشائها دخان الغفلة حينا ، والتغافل أحياناًً ، كما تضم أبخرة صعدتها أنفاس الضيق والبرم ببعض طيبات الحياة ، إلى ابخرة نفشها صدور الكيد والاستخفاف بالأبعاد الحقيقية لأطراف جوهر هذا الدين.

لقد أظلت هذه السحب الكثير من الناس إلا من عصم الله. وكان لكل منهم تعبيرة الخاص عن موقفه إزاء ما عسى أن يكون من علاقة بين الإسلام والفن والجمال ولكن يجمعهم جميعاً أنهم محرومون. حقيقة من إدراك ما يعتز به كل مسلم حر من النظرة الإسلامية الشاملة الكاملة التى التحمت فيها قيم الحق والخير والجمال ، في وحدة تنسيقية يسجد لها الكيان الإنساني كله: فكراً ووجداناً ، وعملا.

أما الخارجون على الإسلام فقد يرجون انفصام الإسلام عن الحياة في شتى مجالاتها وفي مقدمة ذلك (( الفن والجمال)) ووسيلتهم في هذا الصدد: جد معروفة ، وهى الالتجاء إلى بعض النصوص التى يسيئون تأ ويلها ، ويستمدون من هذه الإساءة دعامة لأحكامهم.

وهؤلاء في الواقع لا يعنوننا الآن ، فلن نشغل بالرد عليهم وتفند أدلتهم لأننا نرى أن الأفضل من ذلك هو عرض أبعاد النظرة الإسلامية في الفن والجمال ، ومحاولة التخطيط لفلسفة جمالية شاملة تستوحى نظرة الإسلام الموسوعية للحياة وللكون. وذلك لأننا نؤمن بأن وضع هذه الفلسفة بهذة الصورة يحقق لنا آمالا وغايات طالما أخفقنا في الوصول إليها نتيجة لذبول كفاية الذوق والتذوق الجمالين. وقد يؤدى بنا البحث الصبور الهادئ إلى ما يكفل إصلاح كثير من عيوبنا الفكرية والسلوكية ، وإراحة الفرد والمجتمع من كثير من الانحرافات والتصورات والأعمال الهابظة التى تودى بالأفراد والأمم.

وقد لا نتجاوز الصواب إذا قلنا: إن نجاحنا في إشراب شبابنا روح هذه الفلسفة المنبثقة – أساساً – من الإسلام ، والمنتفعة بجهود الحضارات ، باعتبارها كشوفاً إنسانية تصور ثمرة الملكات التى جاء بها الخالق – أقول: إن نجاحنا في هذا – يرفع عن الدولة كثيراً من الأعباء ، ويوفر عليها كثيراًً من الجهود ولذلك تفصيل في مقام آخر إن شاء الله.

ولا شك أننا إذا وفقنا في عرض النظرة الإسلامية كما شاء لنا الله ، فإننا نكون – في الوقت ذاته – قد وفقنا فى الرد على هؤلاء المتخرصين. ولكن الأهم من ذلك هو جمهورنا نحن: شيبا وشبانا ، فتيات و فتيانا. إذ ينبغي أن يفقه هذا الجمهور الروح الحقيقية لدينه في هذا الصدد ، حتى لا ينفرد بهم فكر مزيف ، أو رأى سئ أو نظر ضيق. وقبل أن نعرض لأسس الفلسفة الجمالية والفنية فى الإطار الإسلامى علينا أن نقتنع أولا بقيمة الجمال والفن وتذوقهما وأهميتهما في حياة الشعوب والأفراد.

قيمة الجمال والفن وتذوقهما:

لعل أبرز الأدلة على أهمية الذوق والتذوق الجمالى هو العناية الفائقة التى يوليها أعلام المربين لرعاية حاسة الجمال منذ نشأتها في الطفولة ، ومحاولة توفير كافة الأسباب لازدهارها ،وما ذلك إلا لأنهم: وجدوا الطفولة أقرب المراحل إلى ينبوع الحياة فلو لم يهيأ للطفل الجو الملائم لإرهاف حاسته وتنمية ذوقه وتغذية خيالة ، ماتت فية حاسة الجمال ، وهددت تنشئته الخلقية بالجسارة والغلظة ، وعقليته بالكزازة والبطء فإذا كبر كان فاقداً لأعذب موارد الفضيلة والسعادة والهناء. إن مثل هذا الفتى: (( يعجز حقا عن تقدير الأمور تقديرا إنسانياً كاملا ، كما يعجز عن إدراك المثل العليا ، والاتحاد في إخلاص عميق وحب هادئ. ومتى خلت حياة من الأشعة التى تفيض بها المثل العليا أصبحت قاحلة باردة ، أشبه ما تكون بالمناطق القطبية التى يغطيها الجليد على الدوام )).

لقد جاء في مأثورة الحكم الصينية القديمة (( إذا كان لديك رغيفان من الخبز ، فبع أحدهما واشتر يثمنه باقة من الزهر)) وهذا – القول – وإن لم نأخذه بحرفه – يشير بلا شك إلى تقدير الجمال والإيمان بحيويته وضرورته.

ومما لا جدال فيه أن كثيراً من ظواهر العنف والقلق والتوتر والتشويه والتخريب والتدمير ، إنما ترجع في حقيقتها إلى عيوب في نظمنا التربوية التى فشلت في رعاية حاسة الجمال وتغذيتها ، بل قل إنها نظم ضمنت – أحياناً – ما يئد المواهب في مهدها.

وآية ذلك إهمال دور العلم والعبادة ، وعدم العناية بمظهرها الجمالى أو نظافتها أو رعاية معارض الجمال فيها. لقد أضحى كثير من مدارسنا وبعض مساجدنا في صورة لا تتكافأ مع ما نريده منها: من رعاية وتغذية وجداننا وملكاتنا.

إننا نريد ألا تقع العين في المدرسة أو المسجد – ومن قبلهما البيت – إلا على ما ينبغي أن يكون مصدر وحى وإلهام وتنمية لمواهب ناشئتنا.

ونحن أولى الأمم برعاية الفن والجمال وتذوقة: ففيما أبدعته يد خالقنا في الطبيعة ، وما أفاضته موارد إحسانه على خلقه من مواهب ، معارض غنية بألوان الجمال الذى يقيد النظر ويأسر الفؤاد ، ويسعد الروح ، ويرهف الحس ، ويصفى النفس ، ويهذب الخلق ، وييسر سبيل السعادة ، أليس لنا في الله ورسوله أسوة؟

ومن المسلم به أنه لا يتم تذوق الجمال إلا عن طريق المشاركة الوجدانية ، وهذا التذوق يصبح خبرة فنية تكتسب بعد تصفية النفس من كل ما علق بها من أدران المنفعة الحسيسة والأنانية الضيقة.

(( إن المتعه الفنية نعمة يهبها الله لكل من أمكنه مشاركة الجمال في صفاته وبهجته ، كما تهب الحياة جبين الطفل النور والإشراق))

ولا ينبغى للمسلم البصير أن تغطى حاجاته العملية ومطالبة وانشغالته بصيرته الأولى ، وليعلم أن رعاية الفن والجمال لا تخطئ في كثير الكسب المادى (1).

وإذن فمهمتنا تنحصر في أمرين أساسيين:

(أ) خلق الجمال وإبداعه.

(ب) تقدير الجمال وتذوقة.

غير أننا يجب أن نلح في التنبيه إلى هذه الحقيقة وهى أنه. كما كانت نظرتنا الإسلامية التى عرضناها في المجال الفكرى الخالص واسعة شاملة ، فإن تصورنا للجمال ينبغي أن يكون شاملا وواسعا لأنه في أقصى تطلعاته ينتهى إلى الله (( والله واسع عليم )).

ونحن في هذا البحث لا نغفل بالطبع أن الفن في الحياة المعاصرة قد ضم رسالته الأصلية في ميدانه الجمالى رسالة أخرى لا تقل أهمية وخطورة عن رسالته الأولى. لقد تعقدت الحياة المعاصرة وتشابكت فروعها حتى لنجد الفن يؤدى غايات سياسية وعملية واقتصادية واجتماعية ، ولا عجب أن نجد أحد أصحاب أروع السيمفونيات المعاصرة في المؤتمر الثقافى العالمى الذى عقد في أمريكا 1949 يعبر عن رسالة الموسيقار بقوله إن مهمته المعقدة لمواجهة مطالب الواقعية الحديثة تتطلب منه أن يبعد عن الأفكار العظيمة والمشاعر العظيمة وأن تحمل أنغامه إحساساً عميقاً بالتفاؤل وتأكيداً قوياً للجمال والكبرياء … إلخ. فالسؤال الذى يجب أن يوجهه كل موسيقار إلى نفسه اليوم هو: كيف أخدم بفنى قضايا السلام والديمقراطية والتقدم؟.

وليس هنا مقام تحليل هذه العبارات ، ولكن يكفى أن ندرك مدى الإفادة المعاصرة من الفن في مجالات كثيرة من بينها هذا المجال الذى يظن أنه بعيد الصلة بالفن والجمال. والحقيقة أننا نلمح الطابع السياسى واضحاً فى عبارة الموسيقار السابقة.

حقيقة الانبثاق الإسلامى:

لقد أوضحنا في غير هذا المقام مميزات الانبثاق الفكرى من الإسلام واليوم نشير في لمحات عابرة ، نرجو أن نتلوها دراسات تفصيلية للوصول إلى نظرية محكمة الأصراف ، وتضع الإطار العام لفلسفة الفن والجمال في الفكر الإسلامى. ونستعين في ذلك بنتائج الدراسات النفسية الحديثة ، وتطورات الفنون بوجة عام ، بعد اعتمادنا على النبع الأصيل والملهم الأساسي لتراثنا الإسلامى: وهو القرآن الكريم مشفوعاًً بأضواء السنة المطهرة ، ومذيلا مما جاءت به قرائح أعلام الإسلام. أننا نرى أن هذا خطوة على الطريق لاستكمال ثقافتنا وترشيدها وإصلاح  أنفسنا وترقية أذوقنا وإرهاف أحاسيسنا لنأخذ مكاننا اللائق بخير أمة  أخرجت للناس في كافة المجالات .

ونود في البداية أن نصحح فكرة يروج لها – بعلم وبغير علم – أناس لم تكتمل لديهم الصورة الصحيحة للبعد الإسلامى في مجال الفكر والوجدان ، أو الفلسفة والفن.

فمن هؤلاء من يظن – مثلا – أن حياتنا الفنية شكلية وجامدة لأنها ((جاءت انعكاساًً للنظرة الشاملة التى تجمع بين الخالق والمخلوق)). وليس عيب العربى كما يظن أمثال هؤلاء – أن نظرته في صميمها أن السماء قد أمرت ، وعلى الأرض ان تطيع ، وأن الخالق قد خط وخطط ، وعلى المخلوق أن يقنع بالقسمة والنصيب ، وأن المثال سرمدى ثابت. وأنه إذا ما تعارضت الآخرة والدنيا كانت الآخرة أحق بالاختيار. فإننا لا نرى في ذلك عيباًً مطلقاًً ، اللهم إلا في حالة البعض الذى قد يسئ فهم مبدأ القدر. حكمة وروية وتقدير. وأما إيثار الدنيا على الآخرة عند التعارض: فأقرب العمليات بساطة ودلالة على خواء وسطحية الهدف الموقف. فإننا لا نقيس مهارة إنسان أو تفوقه أو رفعته بمقدار اندفاعه نحو الطعام أو الشهوة عموماً ، بل بمقدار قدرته على ضبط نفسه وتوازنه في تغذية روحه وجسده. وما يغذى الروح ينتمى في النهاية إلى ما يعين فى الآخرة ، وما يغذى  الجسد ينتمى في الأصل إلى الدنيا ، ولكنه في الإسلام إذا تحققت فية مواصفات خاصة اتصل في انتمائه إلى ما يعين في الآخرة ، على تفصيل ليس هذا محله.

وكيف نعيب إيثار الآخرة على الدنيا عند التعارض – وأركز هنا على قولنا (( عند التعارض)) وقد قال تعالى (( من كان يريد حرث الآخر نزد له في حرثه ، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب)).

ولم تكن النظرة الإسلامية في صميمها يوما (( لسلامة الشكل لا لحيوية المضمون)) فمن البديهيات الإسلامية: أن الشكل لا يغنى عن المضمون شيئا ، مهما حاولت تزيين الشكل وبغير خوض في تفصيل ذلك على جميع المستويات الفكرية والوجدانية والعملية يمكننا: أن نؤكد أن القرآن الكريم يحذرنا دائما من الاغترار بالمظهر أو الشكل أو الإطار الفرغ سواء كان ذلك في مجال الفكر أو مجال القول ، أو مجال السلوك والعمل ، أو مجال التذوق الجمالى ونستطيع أن نضيف إلى هذا التأكيد قولنا أن هناك سوراًً كاملة من القرآن تكاد تقتصر على هذا الغرض.

ويمكن أن نستعرض كذلك في القرآن موضوعات موزعة على سورة تختص كل سورة بزاوته أو أكثر من الموضوع الواحد وكلها في النهاية تقصد إلى هذا الهدف وهو تحقيق عدم الاغترار بالشكل أو المظهر. ويكفى أن نشير إلى موضوع النفاق والمنافقين بزواياه المتعددة كما عالجها القرآن فهناك زاوية الشكل الظاهرى الحسى البدنى واستمع إلى قولة تعالي هؤلاء من الناحية الشكلية:

((وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ، وإن يقولو تسمع لقولهم ، كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون))(1) وهناك زاوية السلوك (( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة….))(2) ويضيق المقام عن تتبع زوايا النفاق والمنافقين وكلها تصب في نقطة واحدة هى عدم الركون في الحكم إلى الشكل والمظهر.

وفي مجال التذوق الجمالى بالذات نجد القرآن الكريم في عديد من آياته يقدم الصور الجمالية ويحكم عليها بما يشعر الإنسان بضرورة تصحيح نظرته الجمالية حتى تتلاءم مع الحقيقة ، فيترتب على ذلك صحة السلوك ، وهذا من الوجهة التربوية توحيد للذات الإنسانية وربط وثيق بين ملكاتها وتهيئة حقيقة لأنسب الظروف للخلق والإبداع.

فنضرة الزرع وتنوعه في الحسن والجمال ، وفى المذاق والألوان  ، وكلها ظواهر يسجلها القران ويدعو الناس إلى تذوق مظهرها الجمال ، ولكنه لا ينسى مطلقاًً تحديد القيمة الجمالية تحديداًً يتفق مع الحقيقة فيعطى كل مظهر حقة.

فالحب النضيد ، والزهر المنور ، والنخل والباسقات ، والجنات المعروشات ، وغير المعروشات ، والرمان المتشابة وغير المتشابه والبحر العباب ، والبرد المذاب من السحاب ، والسماء المزينه بالمصابيح ، والطير الصافات والقابضات ، وما إلى ذلك كله (1) مظاهر جمالية تثير الأعجاب والانبهار والمتعة ، ولكنها جميعاً – كما يعلمنا القرآن – تقع في إطار الدنيا فيصيبها جميعاًً التغير والتحول ، بل الانهيار والاندثار ، وهنا يفتقد المظهر الجمالى عنصر الخلود والثبات. ولذا وجب أن نمد هذا المظهر الفانى الزائل بسبب إلى الخالد الباقى الذى يفنى كل شئ ، ويبقى وجهة الكريم. وهنا فى هذه النظرة يصافح الجمال الحق؛ ومن تصافحهما لا يصدر إلا الخير ، ومعنى ذلك في النهاية: أن القيم الكبري الثلاث الجمال والحق والخير تلتحم في وحدة قوية تتجاوز في شموها أية نظرية إنسانية مهما حاولت التسامى

وفي ضوء ما سبق – وهو قل من كثر – يظهر: أننا نختلف مع الرأى الذى يذهب فى تعليل دائنا بأنه (( النظرة الشاملة التى تعلى من شأن الخارج على حساب الداخل فالمعيار يهبط عليك من عل ، ولا ينبثق من طوبتك )) فالنظرة الشاملة ذاتها لا عيب فيها ، بل إننا نعتبرها ميزة كبرى. إذا اتخذنا المعيار الذى هبط علينا من العليم الخبير – جل شأنه –  ، كان ذلك عيباً أو سبباً لدائنا؟

وهل تسرب الشكلية إلى مناشط حياتنا جميعاًً سببه أننا اعتمدنا على السماء في النظرة أو المعيار  ، مع إشارتنا فيما سبق إلى محاربة السماء للشكلية؟

وهل يغنى عند الإسلام مجرد (( المحافظة على الشكل المقبول )) بغض النظر عما ينطوى عليه هذا الشكل من لباب الفعل نفسه؟.

إننا نرى: أن في هذا الحكم خلطا بين المبادئ والأشخاص ، وتسوية غير مسوغة بين فكر وسلوك بعض المسلمين ، وبين جوهر النظرة الإسلامية.

المسالة في نطاق الفكر الحديث

التسوية بين العمل الفني والجميل

مما لا شك فيه أن نظرة أى فليسوف إلى الجمال أو الفن إنما تخضع لمذهبة الفلسفى العام: فالمثاليون العقليون مثلا يعتبرون العقل أو الروح هى الوجود الحقيقى الوحيد ومعنى ذلك أن الوجود الطبيعى ليس إلا تركبيه ألفها العقل.

ولا يمنع ذلك من القول بأنه بالرغم من أن نقطة الانطلاق واحدة إلا أن بعضهم قد يتخذ بعد ذلك اتجاها يباين اتجاه الآخرين من حيث ربطه بين الروح والخبرة.

وهذا الفريق الذي يربط بين الروح والخبرة يذهب إلى أن هذه الخبرة اربعة ميادين متميزة هي على الترتيب

                                     أ‌-       الخبرة الإدراكية ، وفيها تعبر الروح عن نفسها في أمثلة جزئية تتجسم فيها ، وهي في الوقت نفسه ميدان ((علم الجمال)) .

                                   ب‌-     الخبرة الإدراكية التى تدرك بها ما هو كلى وهي ميدان المنطق.

                                   ت‌-     الخبرة العلمية فيما يتعلق بالأمور الجزئية الفعلية وهي ميدان الاهتمامات الاقتصادية.

                                   ث‌-     وأخيرا الخبرة العلمية المتعلقة بالأمور الكلية وهي ميدان علم الأخلاق.

وهذا الفريق يرى أن الفن رؤيا أو حدس ، وإذ العمل الفنى صورة ذهنية يؤلفها الفنان ويعيد المتذوقون لفنه تأليفها ، أما الوسيلة المادية لإخراج هذه الصورة الذهنية إلى الواقع فإن الفنان ينتجها باعتبارها فعلا عمليا يحقق به تخليدا أو إبقاء صورته الذهنية التى هى العمل الفنى الحقيقي ، ومعنى ذلك أننا نخطئ إذا وصفنا هذه الوسيلة المادة بأنها هى العمل الفني ولكن ذلك لا يدعونا إلى التفرقة الحاسمة بين حدس الفنان وتعبيرة.

والخلاصة أن الفن على هذا النحو ليس إلا عرض الشعور والوجدان ممثلا في صورة ذهنية. وإذا كانت هذه الصورة من شأنها أمتاعنا فليس لنا الحق في اعتبار الفن هو العمل النفعى العملى الذى ينتج الصورة الذهنية الممتعه ، كما ليس لنا أن نعتبره نشاطا خلقيا عمليا ، ومن حيث أنه لا يجوز الحكم على الفن من وجهة نظر خلقية ، وإن كان الفنان باعتباره إنسانا مقيد نوعاً ما ببعض المسؤوليات الخلقية. وليس لنا الحق أخيرا ً في الخلط بين الفن والمعرفة التصورية.

إن هذه الفريق – وقد اعتبر الفن نشاطا من أوجه نشاط الروح – يخطئ من يزعم أن الجمال يوجد في الطبيعة.

(( فالطبيعة بكماء مالم ينطقها الإنسان))لأكون الصورة الذهنية تعبيراً ناجحاً ليس شيئاً آخر سوى كونها عملا فنيا. فالتعبير والجمال فكرة واحدة تؤدى بلفظين مختلفين.

وربما كان (( كروتشه)) (1) خير ممثل لهذه النظرية  التى أمتدات أطرفها بحيث جعلت (( كروتشه)) يعد علم اللغويات العالم وعلم الجمال شيئاً واحداَ فأدامت الخبرة الجمالية في جوهرها تعبيراًً عن شعور أو رمزاً له نقلبها من حيث كذلك بكل استعمال للغة وغيرها من طرائق الرمز وتمتد أصول النظرة المتجهة إلى ((كانت)) الذى أثرت بحوثه ومناقشاته في كتابة (( نقد الحكم)) فيمن جاء بعده وبخاصة في رأية القاضى بأن الحكم الجمالى يرتد إلى أصول سابقة على تكوين التصورات الذهنية وأن معايبر القيمة الجمالية لها طابع شكلى.

ويرى (( كانت)) أن الأحكام تختلف باعتبارات أربعة هي: الكم والكيف والنسبة والجهة ، وهذا يحصر علم الجمال أساساً في تحديد كيفية اختلاف الأحكام الجمالية من هذه الجوانب الأربعة.

لكن هذه النظرة المثالية التى أبداها كروتشة ربما لا تحظى بتأييد التجربتين مع إخفاق الأخيرين في تقديم نظرية في الجمال تحل محل نظرية المثاليين.

وفى رأينا أن الآراء والنظريات الجمالية لم تفلح جميعا في صوغ نسق فكرى عام عن الفن والجمال يجمع إلى المقياس الذوقى مقومات موضوعية كافية تمنح الجمال ذاته وجودا حقيقيا مستقلا. وهذا الإخفاق يرجع فيما نرى إلى الغموض والإبهام اللذين يكتنفان كثيرا من المصطلحات المستخدمة في هذا الصدد من مثل. كلمة (( الرمزية)) ، والتعبير ، والحدس ، والصورة الدالة. وغير ذلك من الألفاظ التى تحتاج حقيقة إلى تحليل وتفسير كاملين قبل استعمالها في صوغ النسق الفلسفي.

والأعجب من ذلك أن نرى بعض الفلاسفة ينكرون إمكان قيام أية نظرية جمالية عامة. وكأن هؤلاء يلاحظون أن علماء الجمال (( يزعمون أن هناك جانبا مشتركا في كل خبرة تحدث عن مختلف الفنون جميعا ، وعن الجمال الطبيعى ، وأن هناك معياراً عاماً للحكم ينبغى الكشف عنه؛ إذ يمكن تطبيقه في جميع هذه الميادين – يلاحظ هؤلاء الفلاسفة ذلك فيرون أن علماء الجمال ليس لديهم ما يسوغ هذا الرأى؛ إذ أنه يمكننا الحكم والتبرير في كل حالة جمالية أو فنية مجددة فقد نستطيع مثلا أن نحدد ما يجعلنا نعجب بهذا الرسم أو بذلك المنظر الطبيعى أو بتلك السيفونية أو تلك القصيدة ، لكننا لا نتوقع أن يكون هناك عنصر مشترك بين هذه الحالات جميعا.

ونرى أن من أمثال هؤلاء الفلاسفة – بالرغم من صدق بعض ملاحظاتهم – إنما ينتهون في بحوثهم إلى نزعة تشكيكية مسرفة ليس لها ما يبررها. صحيح أننا نسلم معهم بأن علم الجمال مازال متعثر الخطى ، ولم يكن له مثل حظ إخواته من فروع الفلسفة الأخرى ، وقد تنبأ له بعض الباحثين بأحد مصرين: إما الانتهاء إلى الغموض والانغلاق العام المفعم بالادعاء وإما إلى الفقر الشديد الذى يزرى بمكانته بين سائر المجالات الرئيسية في البحث الفلسفى. وقد يعلق بعضهم بعض الآمال في البحوث الفلسفية في ميدان في الولايات المتحدة الأمريكية التى ستظهر آثار فيها بزعم.

لكن دعنا لا ننسى أن فكرة العنصر المشترك بين كل صور الجمال الطبيعى أو المصنوع ضاربة في القدم ، حتى التسمية الأجنبية لهذا العلم ، والمستمدة من الكلمة اليونانية aest Thesis(1)– ومعناها (( الإدراك الحسى)) – تشهد بأن المشكلة في الأساس كانت تدور حول الذوق والتذوق.

وربما كان أقدم عمل باق في مجال علم الجمال أو الاستطيقا إنما يتمثل في محاورة (( هيباس الكبير)) لأفلاطون .. تلك المحاورة التى يحاول منها السوفسطائى هيباس – دون جدوى – أن يقدم لسقراط تعريفا مقنعا للجمال.

ولعل أدق المشكلات التى تعترض المتأمل في ميدان الجمال والفن تتمثل في الأسئلة الملحة التى تتطلب منه إجابة صريحة واضحة أهمها:

إذا كان الناس يحكمون على أشياء طبيعية وعلى منتجات الفنون الجميلة بأنها جميلة. فكيف نستطيع أن نثبت صدق  هذه الأحكام الخاصة بالقيمة الجمالية ، وكيف نبرر ترجيع وجهة معينة من وجهات النظر كلها؟ ما هو العمل الفنى حقيقة؟ وهل يمكن لنا أن نقف موقفنا جماليا واحدا تجاه الأعمال الفنية والظواهر الطبيعية على السواء؟.

ولعل أخطر مشكلة تواجه فيلسوف الجمال هي تحديد مجال تأمله وحكمه دون إقحام نفسه في تخوم المجالات النقدية الأخرى ، ومن هنا وجب على الفلاسفة وضع الحد الفاصل المميز بين علم الجمال والنقد.

على أننا الذى يهمنا في هذا المقام هو أن نشير إلى أن البحث الفلسفى يتجه اتجاها سليما إذا حاول تأمل المعيار الذى يمكن أن يكتشف ليصلح أساساًً للحكم الجمالى. أما مسألة حدود علم الجمال أو التساؤل عما إذا كانت مناقشة الفارق بين الفن الكلاسيكى والفن الرومانسى مناقشة فلسفية ، أو أنها مناقشة تتعلق بالنقد الفنى فيجب أن ترجاًً بعض الوقت حتى تتجلى نتائج الجهود المبذولة في الميدانين مع إمكان تبادل التعاون. وكذلك الأمر فيما يتصل بالعلاقة والتشابة بين مشكلات علم الجمال ومشكلات علم الأخلاق.

على أننا نعلم أن من الفلاسفة من عد هذا التشابه ضرباً من الخطأ ، ومنهم كذلك من لم يرض بمجرد الحكم بالتشابة ورأى أن ذلك لا يصور العلاقة بينهما تصويراً صحيحاً ، إذ علينا أن نتحدث عنهما في ضوء نظرية واحدة في القيمة يمكننا تطبيقها – في شئ من التعديل الطفيف – على ميدان الجمال والأخلاق.

وعلى هذا النحو يمكننا أن نوجه سؤالا واحدا في كل من الأخلاق والجمال تمثل الإجابة عنه أهم مسألة في كليهما وهذا هو السؤال هو: هل هناك معيار للأخلاقية أو للجمال يتخطى حدود العرف الذى تتواضح عليه جماعة من الجماعات؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو هذا المعيار؟ ولا نعجب إذا وجدنا أن هناك توازيا وتساوقا بين النظرة الأخلاقية والنظرة الجمالية كما يتمثل ذلك في أهم نظريات الميدانين وعلى سبيل المثال نجد فيلسوف الأخلاق الذى يؤيد نظرية النسبية الأخلاقية – بمعنى ارتباط صدق المعتقدات الأخلاقية بفرد أو جماعة معينة ، يناظره فيلسوف الجمال الذى يرى أن معيار الذوق السليم ليس إلا ما تعارفت عليه الجماعة أو الجماعات.

وكذلك نجد فيلسوف الأخلاق الذى يؤيد مذهب اللذة ولا يجد قيمته خلقية إلا في إنتاجها ، يماثله ويوازنه فيلسوف الجمال الذى يطبق مبدأ اللذة أو المتعة ويجعل إنتاجها المعيار الوحيد للقيمة الجمالية.

وأخيراًً نجد توازيا كذلك بين بعض النظريات الأخلاقية والجمالية:

فالوجود الموضوعى للخير بمعنى حضوره في كل ما هو قيم خلقياً ، يناظر الوجود الموضوعى  للجمال في كل ما هو قيم جمالياً.

ولن يعدم القارئ أن يجد في ميدانى الأخلاق والجمال نظريات تنحو نحو الذاتية أو الموضوعية في تحديد معنى القيمة في كليهما (1).

ويكمن(1) تلخيص الموقف الجمالى الآن بقولنا: إن الفيلسوف الحديث فيما يبدو يحاول أن يعود إلى الرأى القديم الذى يقضى بأن الجمال موضوعى ، وليس شيئاً نخترعه أو نتصوره بأنفسنا ، أنه شئ نحسه ونجده. إنه باختصار (( شئ يحل في الموضوع الجميل. وغير خاف أن هذا الرأى كان موضع رفض وإهمال إلى عهد قريب حيث أعتبر الجمال أثراَ وقتياً لحالة من حالات العقل وليس صفة في الأشياء الخارجية ، أشجاراً كانت أم أزهاراً وقصائد أم صوراً وألحاناً. فكلمة جميل المقابلة للكلمة الإنجليزية ((  beautiful))مثل كلمة جدير بالحب المقابلة في الإنجليزية (( Lovable)) تستعمل لتصور صفة نخلقها نحن على الشئ مع أنها في الواقع تقرر أثر هذا الشئ في نفوسنا .

ومن الواضح أن منطلق هؤلاء في الجمال يمكن أن يكون منطلقاًً بالنسبة للعالم الخارجي كله.. ويتطرق هذا الاتجاه حتى لينتهى أخيراً إلى ما يكاد يبرهن على بطلان نفسه وكما يقول النقاد إن الجمال الذاتى إنما ينشر بمنشارة الغصن الذى هو جالس عليه.

والموقف الموضوعى – كما ينبغي أن يفهم – يرى استقلال الخصائص الجمالية التى  يتمتع بها الشئ الجميل عن العقل وذلك في مواجهة المذاهب الذاتى المتطرف. ولذلك فهو يسأل هذه الأسئلة حول الجمال والجميل ، فيسال مم يتألف؟ ما هى بالضبط هذه الخاصة التى يمكننا حاسة الجمال من إدراكها كما تجرى تجارب فعلية مطبقة الطريقة التى سبقت الإشارة إليها.

في رحاب القرآن الكريم

إن أى قارئ للقرآن الكريم يدرك على الفور دعوته العامة للناس لاستطلاع مجال الجمال التى أحكمتها يد القدرة ، ولكن الهام الفريد حقاًً في مثل هذه النصوص القرآنية التى تتحدث عن مواطن الاتساق والجمال في الكون: أنها لا تغفل الحقيقة ولا تزيغها بزيادة أو نقص بغية الإبداع الفنى ، وإنما تعبر عن الحقيقة في صراحة ودقة دون أن تفقد جو الجمال الخلاب.

إن هذه السمة الخاصة بالقرآن تميزة عن أى أثر أدبى مهما كان مصدره ، ناهيك بالتراث العربي الذى سرت فيه يوماًً نغمه (( أعذب الشعر أكذبه)).

إن القرآن يعلمنا في مجال التربية الجمالية فيما يعلم: أن من ينظر في ملكوت الله ، ومن يتأمل جوانب الطبيعة حوله ويدرك أن هذا النسق من الخلق ولم يكن لمجرد إشباع الحاجات الضرورية للإنسان من الوجهة المادية ، ولم يرتبط في قيمتة الجمالية بمجرد تحقيق الغاية المعيشية المرتبطة بالجسد ، إذ لو كان الأمر كذلك لما برز الخلق على هذا النمط المنسق المتناسب الذى لا تفاوت فيه ، ولكان على نمط أكثر بساطة وأدنى إلى العشوائية والتفاوت.

إن الأمر على العكس من ذلك تماما: فكثيراً ما نبه القرآن إلى ضرورة تأمل الكون وتقدير ظواهره وتذوق روائعه وتلمس العبرة منه. بل إنه يبصرنا بما يكن أن نفيد منه تقديرنا ونقدنا  للجمال ، فهو حين يخبرنا مثلا بأن الله جل جلاله خلق سبع سموات طباقاً. يتبع ذلك قوله(( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت)) ثم ينبهنا هنا ويدعونا إلى إعادة التأمل والنظر مرة ومرتين حتى نستوثق من سلامة الحكم وصدق الوصف. وتلك هى أصول التربية الحقة التى تدعو للتريث والتأكد قبل إطلاق الأحكام. يقول – جل شأنه – (( فارجع البصر هل ترى من فطور ، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاًً وهو حسير))

وهذا لعمرى وصف دقيق لحال النظر الذى طال جولانه ، وتكرر تقلبه بغية تلمس عيب أو تفاوت . فما أتعب النظر وأتعسه إذا أرادا أن ينساق لوهم إمكان العثور على نقص في صنعه

(( الذى أتقن كل شئ)).

حقاًً إن القرآن الكريم ليوجهنا إلى الغايات والمقاصد المتعلقة بخلق الأنعام فيذ كر الجانب النفعى لهذه الحيوانات ويتوج ذلك بالغاية الجمالية بعد الوفاء بالغايات الأولى الأساسية. ولا يفوته أن يذكر نوعاًً آخر من الحيوانات فيشير إلى الجانب النفعى كذلك ثم يعززه بالجانب الجمالى ، مما يشهد لما سبق ذكره من عناية الإسلام بالتربية الجمالية. يقول – سبحانه – (( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغية إلا بشق الأنفس ، إن ربكم لرءوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ، ويخلق ما لا تعلمون)).

وتأمل قوله تعالى(( وهو الذى أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه ، انظروا إلى ثمره إذا أثمر ويعنه ، إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون)).

وتأمل هذه اللوحة الرائعة التى يرسمها القرآن للأبرار – وهذا نمط آخر من أنماط الجمال سنشير إلية بالتفصيل فيما بعد ، (( إن لأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوهم نضرة النعيم ، يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)).

فالنعيم الذى يتمثل في تعانق الأعين ، ومصافحة الوجوه يسرى كما يسرى الشعاع ليضئ خلايا الوجوه فينضرها حتى لنعرف فيها نضرة هذا النعيم ورواءه. وأهل هذا النعيم يسقون الخلاصات البكر من كل ما يمتع ويلذ ، ويضوع أريجة العطر الذى يضاعف المتعه ويزيد السرور ، والآيات الأخرى (( في جنات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ، وعندهم قاصرات الطرف عين ، كانهن بيض مكنون)).

هذه الآيات ترسم لوحة أشمل وأعمق إذ تورد التقابل والمصافحة بالوجوه مشفوعة بالكأس الطائفة التى جمعت إلى جمال الشكل لذة المضمون واتزانه أثراً وأمتداداً. ويكمل اللوحة ويأتى في قمة زينتها هؤلاء الحسان اللاتى جمعن إن جمال الصورة وبهاء المنظر جمال النفس وزينتها الممثلة في العفة والتصون حتى لكأنهن في الرقة والتصون والترف ((بيض مكنون))

تسجيل التأثر بالجمال:

ويطول بنا الحديث إذا حاولنا تتبع الصور الجمالية التى لفت القرآن أنظارنا إليها سواء كانت هذه الصور حسية أو معنوية ، سواء كانت فكرة أو قولا أو عملا. ألم تأمر إحدى آياته أن نقول: للناس حسنا؟

غير أن أطرف الصور التى يمكن أن تصادف المسلم في كتابه الكريم تسجيل تجربة جمالية نادرة فيها يظهر الجمال البشري في أقصى صورة ، التذوق الجمالى في أقصى صوره والطريف حقاًً في هذه التجربة أنها تجربة جماعية ، وليست تجربة فردية تمثل موقفاً ذاتياً يقبل الأخذ والرد. وأطرف من هذا وذاك أن هذه التجربة أجريت في سياق التحدى الذى كان من الممكن أن يقلل من شأن التأثر بالجمال لإثبات الغلبة والانتصار في هذا المقام.

ففي قصة يوسف – عليه السلام – يحدثنا القرآن الكريم أن نسوة في المدينة تناقلن نبأ حب امرأة العزيز المتوقد ليوسف ، وأنحين عليها باللوم ، ووسمنها بالضلال المبين)).

((فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكيناًً وقالت اخرج عليهن ، فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراًً ، إن هذا إلا ملك كريم)).

ففى هذه الآية الكريمة نرى التأثر بالجمال يبلغ ذروته في الذهول عن النفس والاستغراق الكامل في المشهد الجمالى ، ممن كن بالأمس القريب لا يرونه أهلا لأن يثير مثل هذا الشغف والاهتمام في نفس امرأة العزيز.

فإذا ضممنا إلى هذا ملاحظة أن المرأة في العادة تبدو متحفظة عند الإعجاب بالرجل ، إذ تظل ضنينة في أحكامها بحكم طبيعتها ، متحفظة بشئ من الدل والتعالى ، فلا تستسلم في سهولة للتأثر الانفعالى بالرجل مهما حوى من مقومات الجاذبية والجمال – إذا ضممنا هذه الملاحظة – أدركنا مدى الروعة التى اتسم بها جمال يوسف ، ذلك الجمال الذى لم يغن أمامه حذر أو احتراس ، والذى من أجله جابهت امراة العزيز وجبهت هؤلاء النسوة بقولها فيما ينبئنا القرآن

((فذلكن الذى لمتننى فيه )).

ولسنا نريد بعرض هذه الآية تبرير موقف امرأة العزيز أو نسوة المدينة ولكننا نريد أن نؤكد أن القرآن الكريم لا يغفل مورداًً من موارد التربية الجمالية ، وسنرى كيف اتسع المدى القرآنى في هذا المجال حتى شمل المادة والروح والحس والمعنى والشهادة والغيب بحيث لا يملك الباحث المنصف إلا أن يسلم بوثاقة نسبته إلى العليم الخبير جل وعلا.

ومن هنا صح للباحث أن يقول إن شمول نظرة علماء المسلمين وموسوعيتها مستمدة أصلا من الإسلام ، ونابعة من هدى قرآنه ، وسيتضح لنا فيما بعد أن هذا لا يعنى أن تكون الصور الفنية والجمالية التى أنشاها الفنانون في الحضارة الإسلامية تطبيقاًً أميناًً لمقتضيات النظرة الإسلامية الجمالية. ولكن ذلك يعنى أن النظرة الفلسفية ، أو القالب الفكرى للرؤية الجمالية من وحى الروح الإسلامية.

ولعلنا لا ننسى ما سبق تأكيده من أن أول ما يطالع الباحث عن الجمال والفن في الإسلام هو شمول النظرة الإسلامية شمولا فريدا يجمع في حناياه جمال الخالق وجمال المخلوق (صنعة وطبعا) وإن شئت فقل: الجمال بطرفية: المطلق والمقيد ، أو المحدود واللا محدود

وهنا يجب أن نقف وقفة قصيرة لننبه إلى أن التأمل في الحديث عن جمال الخالق وجمال المخلوق في الفكرة الإسلامى اتخذ طريقين متميزين: احدهما ذلك الطريق الذى يحتفظ دائما بالحد الفاصل المميز بين الجمالين ، كما يتميز دائما بين الآلة والكون بدرجة لا تعنى فصم العلاقة بينهما ، ولا تتناقض مع ربط الثانى بالأول باعتباره المصدر القريب البعيد المتعالى في وقت معاً وهذا الطريق يمثل السمت الأصيل لجوهر الإسلام القاضى بمبدأ للتوحيد.

أما الطريق التانى: فلا يرى إلا جمالا واحدا في صورتين: مطلقة ومقيدة وهما وجها عملة واحدة بناء على نظرية وحدة الوجود.

وقد نخطئ أحياناً فنخلط في فهمنا بين الطريقتين فنصف أناسا مثلا بأنهم من أتباع وحدة الوجود ، مع أنهم ليسوا كذلك في الواقع: وقد يكون لنا في هذا الخطأ بعض العذر؛ لأن الخيط الذى يفصل بين (( ربط الوجود بالواحد ، ورؤية آثاره منيثة في الكون ، واستطلاع وحدته في هذه الآثار نقول إن الخيط الذى يفصل بين ما سبق وبين تصور الوجود واحدا له ظاهر هو العالم ، وباطن هو الله خيط في غاية الدقة))

ومنذ فترة بعيدة تنبه كثير من الباحثين إلى خطأ الخلط بين (( وحدة الوجود)) ، (( ووحدة الشهود)) مع ما بينهما من فرق جوهرى عمادة في الأولى الفكر وفي الثانية الوجدان بمعنى أن تكون الأولى نظرية فلسفية ، والأخرى تجربة وجدانية نفسية تتضاءل فيها الظواهر وتشحب في ذاتها ، ولكن الأثر الإلهى يربط بينها.

ولا جدال في أن رجال الفكر والعلم والفن في الإسلام لم ينسوا لحظة أن يتطامنوا ويخشعوا أمام الذوق القرآنى والجمال الإلهى ، ولذلك لا عجب أن نرى كثيراً منهم يعقد فصولا للجمال ، ويخصص بعضها للحديث عن الجمال الإلهى ضاربا الأمثلة من هذا العالم ، فإذا تحدث عن جمال الطبيعة أو جمال الفن المبتكر ، لم ينس في النهاية أن يعود إلى تذكرنا بالجانب الإلهى وكأن روح الآية الكريمة (( وأن إلى ربك المنتهى)) تسرى في خلايا فكره.

ويجب التنوية بأن أعلام الإسلام طرقوا نفس المشكلات وأجابوا عن التساؤلات التى شغلت المفكرين المحدثين: فقد ناقشوا الموقف الجمالى في الحكم بين الذاتية والموضوعية ، وعالجوا المعايير الجمالية وعلاقتها بالعلم والأخلاق ، كما استعرضوا آثار التربية الجمالية ، وصلتها بكل من علم النفس والدين ، وهم في كل موضع لا يغفلون عن ربط الخليفة العريضة التى يعرضون إزاءها آراءهم من حيث العودة النهائية إلى الله جل جلاله.

استمع إلى الإمام الغزالى – رضى الله عنه – وهو يعرض لنوعى الجمال – الحسى والمعنوى – ضاربا الأمثلة من صميم الحياة البشرية تمهيداً للحديث الرائع المتدرج صعداً حتى يصل إلى الله جل جلاله.

يقول الإمام الغزالى(1).

(( واعلم أن كل جمال محبوب عند مدرك ذلك الجمال ، والله تعالى جميل يحب الجمال. ولكن الجمال أن كان يتناسب الخلقة وصفاء اللون أدرك بحاسة البصر ، وإن كان الجمال بالجلال والعظمة وعلو الرتبة وحسن الصفات والأخلاق وإرادة الخيرات لكافة الخلق وإفاضتها عليهم على الدوام ، إلى غير ذلك من الصفات الباطنة ، أدرك بحاسة القلب. ولفظ الجمال قد يستعار أيضاً لها فيقال: إن فلان حسن وجميل ، ولا تراد صورته ، وإنما يعنى به أنه جميل الأخلاق محمود الصفات حسن السيرة حتى يحب الرجل بهذه الصفات الباطنة إستحساناً لها كما تحب الصورة الظاهرة. وقد تتأكد هذه المحبسة فتسمى عشقاًً. ومن العجب أن يعقل عشق شخص لم تشاهد قط صورته أجميل أم قبيح وهو الآن ميت ، ولكن لجمال صورته الباطنة وسيرته المرضية وغير ذلك من الخصال ، ثم لا يعقل عشق (محبة متناهية في العمق والتأصل) من ترى الخيرات منه؛ بل على التحقيق: من لا خير ولا جمال ولا محبوب في العالم إلا وهو حسنة من حسناته ، وأثر من آثارها كرمة ، وغرفة من بحار جوده ، بل كل حسن وجمال في العالم أدرك بالعقول والأبصار والأسماع وسائر الحواس من مبتدأ العالم إلى منقرضه ، ومن ذروة الثريا إلى منتهى الثرى فهو ذرة من خزائن قدرته ، ولمعة من أنوار حضرته)) وهذا تعبير رائع ودقيق عن الطريق الأول الذى ألمحنا إلية.

وفي قمة هذا الطريق – كما نرى – أناس انطلقت فيهم كافة الطاقات وأشرقت فيهم منافذ الإدراك حسا وعقلا وبصيرة انتهت نظرتهم الجمالية في كل حالة إلى مصدر الجمال ذاته. وهنا تلتقى الحقيقة الدينية بالقيمة الجمالية في اتساق و أنسجام.

إن هذه الصفوة المضيئة تحقق عمليا مالم يستطع فلاسفة الجمال تحقيقه من ربط القيمة الجمالية بمبدأ يتجاوز حدود عالم الظواهر: وهؤلاء كما يقول حجة الإسلام: (( أن سنحت لأبصارهم صورة ، عبرت إلى المصور بصائرهم ، وإن قرعت أسمائهم نغمة ، سبقت إلى المحبوب سرائرهم ، وإن ورد عليهم صوت ، لم يكن انزعاجهم إلا إلية ، ولا طربهم إلا به ، ولا شوقهم إلا إلى ما لدية ، ولا أنبعاثهم إلا له ، ولا ترددهم إلا حوالية)).

وأما الطريق الثانى فتمثله فئة ارتضت وحدة الوجود فكريا ثم صدرت عن ذلك في حديثها عن الجمال ، وسنعرض لها في مقال آخر نوضح فيه ما يمكن أن نأخذ منها وما ندع.

غير أن هناك فئة علت حدة عاطفتها فى استشعار الوحدة الجمالية حتى قاربت الطريق الثانى المشار إلية ، ومن ثم كان غموضها أحيانا كثيرة ، ولكنها على أية حال لم تحرم من أضواء النظرة الإسلامية ، وبخاصة إذا شرحت أقوالها في رحاب واسعة من التفهم وحسن الظن من حيث الحمل على المعنى الأسلم.

ومن قبيل ذلك قول بعضهم يخاطب الله جل جلاله:

 تجليت في الأشياء حين خلقتها          فها هي ميطت عنك فيها البراقع

قطعت الوردى من ذات حسنك قطعة   ولم تك موصولا ولا فصل  قاطع

تجمعت الأضداد في واحد اليها          وفيه  تلاشت وهوعنهن ساطع

 فكل بهاء في ملاحة  صورة           على كل  قد  شابه الغصن يافع

 وكل اسوداد في تصانيف  طرة         وكل احمرار في العوارض ناصع

وكل كحيل الطرف يقتل صبه            بماض كسيف الهند حالا مضارع

وكل اسمرار في القوائم  كالقنا           عليه من الشعر الرسيل   شرائع

وكل   مليح  بالملاحة   قدرها             وكل جميل بالمحاسن  بارع

وكل  لطيف  جل  أو دق  حسنه             وكل  حليل  فهو  باللطف  خادع

محاسن  من  إنشاء  ذلك  كله               فوحد   ولا تشرك  به  فهو  واسع

وإياك  أن  تلفظ  بغير  اليها                إليه  البها  والقبح  بالذات راجع

فكل قبيح  إن  نسبت   لفعله                 أتتك معانى الحسن  فيه  تسارع

يكمل  نقصان  القبيح  جماله                فما ثم  نقصان ولا  ثم  باشع

ويرفع   مقدار   الوضيع   جلاله             إذا  لاح  فيه  فهو للوضع  رافع

وأطلق  عنان  الحق في كل ما ترى       فتلك   تجليات  من   هو  صانع

ولا يفوتنا في هذا المقام أن ننوة بحقيقة جديدة تضاف إلى رصيد النظرة الإسلامية السامية المستقصية من حيث اهتمام الإسلام بتوجية الانتباه إلى مواطن للجمال ، ومجالى للحسن تتجاوز حدود المحسوس والمعقول إلى ميدان المثل والفضائل. فإذا جاز. أن يقول أى نظام فكرى أو دينى غير الإسلام: إن الصبر – مثلا – فضلية رائعة جميلة جديرة بالإعجاب والتقدير ، قال الإسلام: لا. ليس مجرد الصبر أهلا لكل هذا التقيم ، بل الأمر مقصور على ((الصبر جميل)) ولذلك أوصى نبيه – صلوات الله عليه – بأن يصبر صبراًً جميلا إزاء تحميله أثقل مهمة وأخطر مسئولية يتعرض لها بشر.

بل أن الأعجب من ذلك أن تجد أن المكاره ذاتها قد يكون لها حظها المقسوم من الجمال ، الذى يراعى عند الإنشاء أو عند إطلاق الحكم. وليس من محصن الصدفة أن نجد الآية القرآنية الكريمة التى تتضمن توصية الرسول في مقام آخر بالصبر دون أن تورد وصف الجمال ، تحتفظ بهذا الوصف لشئ آخر غير الصبر وهو (( الهجر)) للكفار والمستهزئين ، يقول سبحانه مخاطبا رسوله صلوات الله وسلامه عليه (( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا)) وبذلك أرسى الإسلام قواعد رعاية الجمال حتى في الفضائل والمكاره.

وإن شئنا تركيزا للنقاط الجوهرية فى النظرة الإسلامية الجمالية والفنية بصورة عامة ، مقارنه الجوهرية المستخلصة من حصيلة الفكر الحديث أجريناه على هذا النحو:

أولا: ينفرد الإسلام بتماسك نظرتة الجمالية والفنية وتكاملها وتناسقها وتلاقيها مع نظرته إلى الحق والخير. وبهذا تكون النمط الفريد التى تتعانق فيه القيم الثلاث.

وهذا في مقابل التباين والانفصام بين أجزاء النظرة الغربية الحديثة للجمال ، إذ يُدعى دائماًً ضرورة الفصل بين هذه القيم بحجة ضمان حرية الفن والفنان. وقد رأينا صدى مثل هذا الرأى الذى سبق الرد علية.

ثانيا:تسمح النظرة الإسلامية بالحقيقة الموضوعية للجمال الموجود في الطبيعة والمصنوع بيد الإنسان. وذلك يعنى في صراحة: أن إعجابنا بالجمال وتقديرنا له ليس تعبيراًً ذاتياًً محضاًً لا أساس  له من الواقع. كما يدعى ذلك بعض المحدثين الذين يرون أن الطبيعة خرساء ما لم ينطقها الإنسان إنها لا تحوى شيئاً ولا تعى شيئاً ، وإننا نحن الذين نخلق الجمال بأفكارنا وعقولنا وأمزجتنا وأهوائنا ، فإلى الإنسان ، وإلى الإنسان وحده يجب أن ينسب كل الفضل فى خلق الصور الجمالية أو الحطكم عليها. وهذا كما رأينا عند النظر الدقيق غير صحيح. بدليل أن روائع صورنا الفنية والجمالية إنما استلهمت صور الطبيعة.

ثالثا: تفى النظرة الإسلامية بالنوعين المشهورين للمتعة الجمالية: أولهما هذه المتعه العابرة التى يصاحبها استرواح النفس والاسترخاء بعد العمل المضى ، وهدوء الأعصاب. وثانيهما المتعه التى تنعش الذهن وتوقظ الحواس ومنافذ الإدراك ، وترفعها إلى آفاق جديدة من الحياة العامرة بالمشاعر والأفكار وهذه المتعه الأخيرة هى المتعه الحقيقة الكاملة التى يحققها مصدر جمالى. قيم وهى المتعه التى يحرص الإسلام على تغذيتها وإنمائها لأنها التيار الدافق الذى يمد طاقات الفكر والوجدان والسلوك بما يحفظ لها دوام الرقى والصفاء والصلاح. ولم يغفل الإسلام أهم المقومات الأساسية للصورة الجمالية أو الفنية ، التى تعتمد على الحس أولا ، ثم على العقل والبصيرة فيما بعد ذلك أو ما وراء ذلك. فالتناسب ، وعدم التفاوت وتقابل الألون ونصاعتها ، وحيوية الانسجام ونبضه في الحى بل وفي الجماد أحيانا – كلها أمور وجه الإسلام أنظارنا إليها ودعانا إلى التدبر وإطالة التأمل حتى تتأصل فينا ملكة النقد والحكم.

فإذا أمكن نشدان المتعه الأولى في مثل الآيات:

((ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح)). (( وزيناها للناظرين)). ((فأنبتنا فيها حدائق ذات بهجة)). وغيرها وغيرها ، فإننا لا يعييننا نشدان المتعه الأخرى الكاملة والمثمرة في كثير من الآيات القرآنية والسنة النبوية المطهرة – ويضيق المقام عن استعراض الأمثلة لذلك. ولا يعي القارئ المسلم تلمس ذلك في سور مثل الأعراف والأنعام ، والنحل ، والصافات والنحل(1)إلخ.

رابعا: تشد النظرة الإسلامية للجمال انتباهنا دائما إلى ما وراء حواسنا ، حفزا للهمم ، وإتاحة لتمتع أرقى بمجالى الجمال المطبوع والمصنوع ،  ومعنى ذلك بصريح العبارة أن الإسلام لا يرضى لمعتنقة أن يكون سطحياًً أو شكلياًً تأسره الصورة الحسية في مظهرها القريب ، بل تدعوه دائما نحو الأعمق ، وذلك راجع إلى طبيعة الإسلام ذاتها ، من حيث اهتمامه بالعمق الإنسانى الممثل في النية أو الضمير باعتبار أن هذا العمق ذاته هو مصدر ما نرى من أفكار ، أو خواطر ، أو مشاعر ، أو أعمال محسومة. ولذا ظل الإسلام دائماًً متمسكاًً بمقياس البواعث والدوافع ضماناً لسلامة الحكم. وإذا لا حظنا أن أخطر الأعمال وأجل الأحداث والأنشطة الإنسانية كانت في الأصل خاطراًً أو فكرة سلكت سبيلها المتدرج إلى حيز الواقع المشاهد: أدركنا على الفور قيمة النظرة الإسلامية ، وأدركنا كذلك أهمية التربة الجمالية المستوحاه من الإسلام بالنسبة لفتياننا وفتياتنا ، بل بالنسبة لجيلنا المعاصر باسره. ومن البديهى أن هذا الجانب نفتقده فب الفكر الحديث تماماًً ، وإن كنا قد نجد بعض أصداء لما يقرب من فكرتنا الإسلامية فيما قد يسمى بصدق الفنان في التعبير عن مشاعره أو عن مجتمعه. ولكن يرد السؤال على الفور: من أى طراز هذه المشاعر ، أو هذا المجتمع؟ إذ قد ينقلب الفنان- بين عشية وضحاها – بوقا لواقع مريض ، يزين نقائصه ، ويهبط بمستوى ذوقة الفنى والجمالى ، لا سيما إذا غلب عليه الطابع المادى.

خامسا: تحرص النظرة الإسلامية علي رعاية كافة الملكات والطاقات الإنسانية ، ولا ترضى مطلقاًً بأن تعطل ملكة ، أو تهمل طاقة ، أو تركن جارحة أو عضو لأن فى هذا تعويقاًً لسيرة الحياة ، وكأنه تحد آثم لمقتضيات إدارة واهب الحياة جل جلاله. فأسماعنا وأبصارنا وعقولنا وبصائرنا وجوارحنا وجمبع منافذ إدراكنا مجندة لآداء دورها المنوط بها للإسهام في المسيرة العامة لتقدم الحياة ودفع عجلة الحضارة. وقد عالجنا في مناسبة أخرى بعض جوانب الفكر الخالص وأشرنا إلى بعض فرسان هذا الميدان:

وها نحن ، أولاء نعلن أن النظرة الإسلامية في مجالى الجمال والفن تعتبر الطاقات النفسية وثروة تفوق في قيمتها أية ثروة أخرى عند ذوى البصيرة والعقل المستنير. وعلى جيلنا المعاصر أن يعتبر أن هذه الثروة – وإن لم تكن غير منظورة في حد ذاتها – هى بالغة الأثر تتحدى شواهدها وآثارها كل جاحد مكابر.

وسنرى فيما يستقبل من دراسة آثارة النظرة الإسلامية فيما جادت به جهود هؤلاء الذين أظلتهم الروح الإسلامية ، اعتقاداًً وسلوكاًً ، أو معايشة ومساكنة في ميدانى  الفن والجمال. وكما كانت أول سورة في القرآن نداء بالقراءة ، وتوجيها إلى إدراك المنة في التعليم بالقلم نتخذ نقطة البدء في حديثنا عن هذه الاثار باستعراض المنجزات الإسلامية الفنية في مجالى الكتابة والرسم فيما يلى من دراسة أن شاء الله وسنتبع هذه الدراسة بنظيرات لها في شتى المجالات الفنية والجمالية حتى تتم لنا الصورة الكاملة من الوجهة التاريخية.

وأملنا وطيد في أننا سنصل في النهاية إلى صورة نموذجية منتقاة تجمع في إطارها لب المسألة الجمالية بحيث يمكن على إثرها صوغ الفلسفة الجمالية النهائية التى تصح نسبتها إلى الإسلام ، وتليق بواقعنا المعاصر.

الهوامش:

(1)-  المسلم المعاصر العدد الخامس

(*)-  أستاذ ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة.

(3)-  انظر د. يوسف مراد (علم) النفس في العدد 30.

(4)-  ينعى بعض الباحثين على الشعب البريطانى حالة حين دخل في المرحلة الصناعية التجارية ، فقد حدثت نتائج عكسية ، حيث أحس الناس – فيما يذكر هذا الباحث – بقبح البضائع الانجليزية وكسادها في وقت المؤلف ويذكر الباحث: أن المنتج والشعب يتبادلان الاتهام ، فالمنتج يلوم الذوق الفاسد عند المستهلك ، بينما يذكر دعاة الجمال تجرد الشعب من الحاسة الفنية.

(5)-  المنافقون: الآية 4

(6)-  التوبة: من الآية 46

(7)-  لا يعيى القارئ تلمس السور والآيات التى ترد فيها هذه الظواهر.

(8)-  ارجع إلى جوجاسيز كولنجرود كروتشه.

(9)-  الواقع أن مصطلح الإستطيقا Aesthetiesبالإنجليزية Esthetiqueبالفرنسية وصفه لأول مرة بومجارتين Baumgartenوقد يطلق على علم الجمال وعلى عالم الجمال ، كما أنه قد يستعمل بمعنى مجرد الحساسية والذوق. كما استعمله كانت في عبارته الحساسية (أو التفوق) الترنسندثالية Transeendental Aesthetiesوموضوعه الصور القبلية أى الزمان والمكان ، غير أن كانت استعمله في كتابه (( نقد الحكم )) بمعنى الحكم التقويمى الخاص بالجميل

(10)-  يتبع السيكولوجيون طريقة معينة فى إجراء التجارب على التذوق الفنى لمعرفة خصائص الجمال ويطلقون على هذه الطريقة (( الموازنة الثنائية)). وذلك بتقديم عملين فنيين يطلب إلى المشاهد أو المجرد المفاضلة بينهما مع ذكر الأسباب وقد قدم بحث هام يعتبر أجدر البحوث بالتقدير في انجلترا في معمل علم النفس بكمبردج وقد كشفت التجارب عن وجود أربع طرائق من الحكم الذوقى وعلى ذلك يمكن تقسيم المتذوقين إلى إتباع هذه الأنواع الأربعة الرئيسية وهى باختصار مركز النوع الربطى الذى يبنى الحكم فيه على ما يثيره من تداعى المعانى أو الذكريات السارة الغامضة

(11)-  النوع التأثيرى الذى يبنى الحكم فيه على أساس التأثير النفسي الذى تحدثه الصور الفنية بذاتها صوتاً كانت الأداة أو لونا ومن ذلك مثلا وصف لبلد الألوان بالدفء أو الحرارة … الخ

(12)-  النوع التشخيصى Character Typeوفيه تخلص على الصور ومعارض الجمال والفن خصائص الشخصية كوصفنا للون الأصفر الفاتح بالعنف ، أو اللون الأرجوانى بالصخب واللعب ، وكتقمصنا في حال المشاهدة ومشاركتنا الوجدانية وذلك لأن الخيال في حال الغبطة المفعمة يصنع كما يقول رسكن في السحب حركة ، وفى الأمواج بهجة وفى الصخر أصواتاً وقد تزداد هذه الحالة فتتجاوز حدود المشاركة إلى مرتبة الإتحاد الفنى أو الاندماج كما يتجلى ذلك جيداً حتى في حياتنا العادية فإننا نرى الناس مثلا تتكيف نفوسهم بما ينظرون إليه ، فالخط الراسي المستقيم يجعلهم يقفون وقفة مستقيمة. والخط المنحنى يجعلهم ينحنون أو يحسون كأنهم على وشك الوقوع ، وشكل الحلزونيات يخلق فيهم إحساساً بالضعف والغثيان – هذه التجربة تزداد عند بعض الناس فتصبح حالة مرضية – مقصورة ولا شك على عدد محدود من الناس لكن لها أساساً في النظرية التى أشرنا إليها سابقاً. ومن الواضح أن هناك فرقاًً بين أن تكون مع الشئ مشاركا مع تميز الطرفين ، وبين أن تندمج أندماجاً تاماً.

(13)-  أما النوع الرابع والأخير هو النوع الموضوعى:

وأهل هذا النوع يقفون من الظواهر الفنية موقفاً ذهنياً نقدياً أكثر من إنفعالياً. فهم في حكمهم على الصور مثلا ينصرفون عن الموضوع والعنوان ويتحدثون عن النظام والتأليف والإجماع ونواحى الانسجام والتظليل والإضاءة وما ذلك. ومن السهل إيراد أمثلة من ميادين الفن الأخرى.

ونرى أن هذه الأنواع الأربعة ليست منفصلة أو مميزة لفريق بالضرورة بل أنها قد توجد معاًً على اختلاف في درجة غلبة نوع على آخر: أن الناس حين يحكمون على شئ بالجمال فإنما يحكمون في الغالب من موقف شخصى متحيز نتيجة للعوامل التى تؤثر فينا.

(14)-  رجعنا في هذا الجزء:

Rist Groce P. 237

د. يوسف مراد علم النفس والفن

((كانت)) نقد العقل الخالص

((جون ديوى)) الفن خبرة

محاولات أفلاطون  encyclop،of plilos.

إرجع إلى.Rist Groce

(15)- احياء علوم الدين /2/ 0278

(16)- قارن ص فيما سبق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر