1- تمهيد:
من الأمور البينة التي لا تحتاج إلى بيان أن دعوة الإسلام دعوة لتحرير العقول من خرافات الجاهلية، وأن الكتاب العزيز جاء بما لا يحصى من الآيات التي توجب على الناس جميعا أن ينظروا فيما خلق الله لهم، ويتدبروا آيات الله في الكون وفي أنفسهم، وأن ذلك كان –حين نزل القرآن- أمرا مخالفا لما عهده الناس في ذلك الزمان الذي فشا فيه الجمود على ما ورثه الأخلاف عن الأسلاف، والتمسك بما وجد كل امرئ آباءه عليه، والاقتداء بخطوهم على درب العماية والضلال، مما جعل البشرية تنحط إلى درك سحيق من الغفلة كان أجلى مظاهر رسوخها فيه عبادة الأصنام والشرك بالله عز وجل.
وإذ استجاب الناس لدعوة الإسلام، وتكونت الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة وساس رسول الله صلى الله عليه وسلم أمور المسلمين عامة، تعلم هؤلاء المسلمون من سيرته وسلوكه عليه السلام كيف يكون تطبيق ما أمر به القرآن الكريم من التفكر الحر، والتدبر العاقل في شئون الحياة جميعا بلا فرق بين ناحية وأخرى من نواحيها الكثيرة المختلفة.
2- الاجتهاد مصدر غير المنصوص عليه من الأحكام:
وآل الأمر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين يختارون بأنفسهم من ينوب عنهم في القيام بتدبير شئون الحكم في الدولة. ولم يكن وحي بعد رسول الله. فكان عليهم أن يجدوا أحكاما للوقائع الجديدة التي تواجههم، وكان اجتهادهم أو اجتهاد أولي الرأي والعلم منهم هو السبيل إلى إيجاد هذه الأحكام وتطبيقها. وبذلك استقر الاجتهاد مصدرا ثالثا بعد القرآن والسنة لتعرف أحكام شريعة الإسلام.
وفتحت بذلك أبواب حرية الفكر للمسلمين فعرفوا منها صورا لم تعرفها البشرية حتى اليوم ووضعوا أساسا صالحا للتطبيق في هذا الباب في كل زمان.
واستمر الأمر على ذلك قرونا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعرض الأمر مما ليس فيه نص فينظر المجتهد –حاكما كان أو قاضيا أو مفتيا- في القرآن والسنة فما وجدت فيهما من أحكام أفتى باتباعه وما لم يجده اجتهد فيه رأيه وأفتى بما أداه اجتهاده، دون أن يلتزم في ذلك برأي سابق لمجتهد مثله، اللهم إلا ما كان من عدم مخالفة المجتهدين لإجماع من قبلهم –فيما صح الإجماع عليه- للأدلة الموجبة لذلك والمفصلة في موضعها من كتب أصول الفقه.
ومع اتساع الرقعة الإسلامية وانتقال العلماء من قطر إلى قطر في بلاد الإسلام، وتفرغ بعضهم للبحث والتدريس، وتلقي تلاميذهم عنهم ونقلهم علمهم، نشأ القول بآراء هؤلاء العلماء والإفتاء على أسس مذاهبهم وخاصة بعد أن استقل كل منهم بمنهج في البحث والاستنباط –أي بمنهج في الاجتهاد- مغاير لمنهج غيره، وأعجب بمذهب كل إمام من تلقاه عنه فأصبح يفتي على أصول إمامه أو يجتهد متبعا طريقته في الاجتهاد.
إلى هنا والاجتهاد كطريق لتعرف أحكام شريعة الإسلام، وكنتيجة لازمة لحرية الرأي والفكر، يقوم بدوره خير قيام ولم يطرأ عليه أي تغيير اللهم إلا ما كان من تنظيم طريقته وتأصيل قواعد له بحسب ما صح لدى كل مجتهد أن يؤدي إلى نتائج في البحث أصح. ولعل هذا هو ما جعل تعريف الاجتهاد ملحوظا فيه جهد القائم به وعمله حتى ورد في كتب الأصول عبارات تدل على ذلك كقولهم “الاجتهاد هو عمل المجتهد” ويعدون أركان الاجتهاد ثلاثة فيجعلون أولها “المجتهد” (1) وعرفوا الاجتهاد بأنه بذل المجتهد الوسع في طلب العلم بأحكام الشريعة (2) وبأنه استنفاد الطاقة في طلب حكم النازلة حيث يوجد ذلك الحكم.
3- نشأة التقليد:
غير أن الأمر لم يستمر على ما قدمنا فقد جاء بعد شيوع تدوين المذاهب الفقهية –في عصر التدوين- أناس يلتزمون في الفروع مذاهب من سبقهم من الأئمة وبخاصة أصحاب المذاهب الأربعة السنية –الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي- فلا يفتون بغير ما ذهبوا إليه، وتعصب لكل إمام اتباع مذهبه دون أن يشتغلوا بالنظر في الأدلة التي بني عليها آراءه في هذه الفروع وإن فعلوا فبقصد التوصل إلى ما يؤيد رأي إمامهم. وذلك عندما ظهر علم الخلاف والمناظرة.
ويؤرخ الإمام ولي الله الدهلوي بداية التقليد فيقول “اعلم أن الناس كانوا قبل المائة الرابعة غير مجمعين على التقليد الخالص لمذهب واحد بعينه قال أبو طالب المكي لم يكن الناس قديما على ذلك في القرنين الأول والثاني”.
أقول وبعد القرنين حدث فهم شيء من التخريج غير أن أهل المائة الرابعة لم يكونوا مجمعين على التقليد الخالص على مذهب واحد والتفقه له والحكاية لقوله كما يظهر من التتبع، بل كان فيهم العلماء والعامة، وكان من خبر العامة أنهم كانوا في المسائل الاجتماعية التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أو جمهور المجتهدين لا يقلدون إلا صاحب الشرع. وإذا وقعت لهم واقعة استفتوا لهم فيها أي مفتٍ وجدوا من غير تعيين مذهب، وكان من خبر الخاصة أنه كان أهل الحديث منهم يشتغلون بالحديث، فيخلص إليهم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة ما لا يحتاجون معه إلى شيء آخر في المسألة من حديث مستفيض أو صحيح قد عمل به بعض الفقهاء، ولا عذر لتارك العمل به، أو أقوال متظاهرة لجمهور الصحابة والتابعين مما لا يحسن مخالفتها…. فكان لا يتولى القضاء ولا الإفتاء إلا مجتهد ولا يسمى الفقيه إلا مجتهدا.
ثم بعد هذه القرون كان ناس آخرون ذهبوا يمينا وشمالا. وحدث فيهم أمور منها الجدل والخلاف في علم الفقه.. ومنها أنهم اطمأنوا بالتقليد، ودب التقليد في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون، وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم فإنهم لما وقعت فيهم المزاحمة في الفتوى كان كل من أفتى بشيء نوقض في فتواه ورد عليه، فلم ينقطع الكلام إلا بالمسير إلى تصريح رجل من المتقدمين في المسألة.
وأيضا جور القضاة فإن القضاة لما جار أكثرهم، ولم يكونوا أمناء لم يقبل منهم إلا ما لا يريب العامة فيه، ويكون شيئا قد قيل من قبل.
وأيضا جهل رؤوس الناس واستفتاء الناس من لا علم له بالحديث ولا بطريق التخريج كما ترى ذلك ظاهرا في أكثر المتأخرين. وقد نبه عليه ابن الهمام وغيره، وفي ذلك الوقت يسمى غير المجتهد فقيها ا.هـ ملخصا. ومن كلام الإمام الدهلوي يبين أن التقليد وإن بدأ في القرن الرابع إلا أنه لم يستشر داؤه إلا بعد ذلك بزمن غير قصير، حتى وصل الأمر إلى القول بعدم جواز إحداث قول مخالف لما قال به أصحاب المذاهب الأربعة، اكتفاء بالمدون من مذاهبهم والمنقول عنهم. وذلك بزعم أنه لم يعد في الناس من له أهلية الاجتهاد حتى يفتح بابه. واشتهر هذا القول “يسد باب الاجتهاد” إلا أنه لم يحدث دفعة واحدة، ولم يجتمع أناس من العلماء ليقرروه، وإنما قال به البعض وتناقله الآخرون محبذين له ومؤيدين حتى ادعوا الإجماع عليه.
وقد كان من العلماء إلى أواخر المائة الرابعة من يجتهد في الفروع الفقهية حسب ما يترجح عنده من الأدلة وإن خالفت مذهب إمامه الذي ينتسب إليه ويتابعه في أصول الاستنباط وهؤلاء هم المعروفون باسم “المجتهدين المقيدين”.
وبعد ذلك فشا التقليد حتى انعدم هذا النوع من الاجتهاد أو كاد ولم يعد في الناس إلا آخذ بمذهب سابق من الأئمة، ومتابع له فيما يقول به.
ويقرر بعض المعاصرين أن سد باب الاجتهاد قول حدث في منتصف القرن السابع الهجري بعد أن سقطت بغداد في أيدي التتار خوفا من اضطهادهم علماء المسلمين الأحرار.
بينما يذكر شيخنا الأستاذ محمد مصطفى شلبي لذلك سببا آخر هو تصدي من لم يتأهل للاجتهاد للخوض فيه، وإتيانهم بأقوال لا أساس لها من شريعة الله، وخلطهم في أقوالهم، ولما رأى الفقهاء ذلك نادوا بسد باب الاجتهاد وادعوا الإجماع عليه، سدا للذريعة أمام هؤلاء الدخلاء على الفقه المدعين للاجتهاد.
وقد عاصر ذلك الادعاء –بسد باب الاجتهاد في علم الفقه- ادعاء مماثل في علم الحديث. فقد منع ابن الصلاح المتوفى سنة 643هـ وهو من أئمة المحدثين منع التحسين والتصحيح في الحديث إلا ما كان نقلا من المتقدمين السابقين على عصره.
غير أن الدعوى التي شاعت بين الفقهاء وسادت زمنا طويلا، لم تجد لها بين المحدثين نصيرا. فلا زال المشتغلون بعلوم الحديث من لدن عصر ابن الصلاح حتى عصرنا هذا يردون هذه الدعوى ويبطلون الأخذ بها ابتداء بذلك الأئمة النووي والعراقي وأضرابهما، وتابعهم كل من جاء بعدهم حتى المشتغلين بالحديث في هذا العصر كالشيخين أحمد محمد شاكر المصري ومحمد ناصر الدين الألباني.
4- موقف الفقهاء من التقليد:
عرف الأصوليون التقليد بتعريفات عديدة، فعرفه الغزالي بأنه “قبول بلا حجة” وعرفه الآمدي بأنه “العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة” وعرفه ابن حزم الظاهري بأنه “قبول قول من هو دون الرسول بغير برهان وبأنه اعتقاد القول قبل اعتقاد دليله” ويعرفه شيخنا الأستاذ محمد مصطفى شلبي بأنه “الأخذ بقول الغير دون بحث في الدليل الذي اعتمد عليه في قوله”. وهذه التعريفات متقاربة المعنى وكلها تفيد أن التقليد هو الاكتفاء بقول فقيه سابق على المقلد –أو معاصر له- دون أن يكلف المقلد نفسه عناء النظر في أدلة الشريعة، لا بقصد الاستنباط منها رأسا. ولا بقصد عرض قول من يأخذ بقوله عليها ليرى أصوابا كان رأيه أم خطأ.
وقد ذكرنا قبل قليل أن التقليد بهذه الصورة لم يكن معروفا في القرون الهجرية الأربعة الأولى. وأنه إنما وجد منذ نهاية القرن الرابع الهجري أو قريبا منها. وشاع شيئا فشيئا حتى بلغ الأمر في القرن السابع أن نودي بإغلاق باب الاجتهاد. وصادف ذلك هوى في نفوس بعض المشتغلين بالفقه فادعوا الإجماع عليه. وحجروا على الناس حريتهم الفطرية في التفكر الحر والنظر المستقل.
ويذكر الأستاذ محمد أبو زهرة لذلك أسبابا أربعة:
أولها- اتباع كل جيل من العلماء من كان قبلهم وتسلسل هذا الاتباع وقوته كلما تقدم الزمن.
ثانيها- تقليد القضاء اتباع مذهب بعينه مما جعله ينتشر في الناس ويعتني بنقله وتداوله. وكان أوفر المذاهب حظا في هذا الباب هو المذهب الحنفي.
ثالثها- ضخامة الثروة الفقهية التي أنتجها العلماء القرون الثلاثة الأولى حتى وجدت حلول لأكثر المسائل فيما تركه هؤلاء الفقهاء من أقوالهم.
رابعها- التعصب المذهبي الذي ساد منذ القرن السابع الهجري نتيجة نشوء علم الخلاف والجدل (المناظرة).
غير أن هذا القول بإغلاق باب الاجتهاد ووجوب التقليد لمذهب من المذاهب الأربعة لم يرج لدى الفقهاء جميعا بنفس القدر. فقد اختلفت أقوالهم في ذلك، فكان علماء المذهبين الحنفي والشافعي هم أصرح الفقهاء في تقرير إغلاق باب الاجتهاد وإيجاب التقليد. وذلك لما قرروه من خلو الزمان عن مجتهد مطلق. أما المذهب المالكي فلم يقرر علماؤه مثل ذلك وإن كان للقول بإغلاق باب الاجتهاد بعض الأثر عند المتأخرين منهم. ورفض فقهاء المذهب الحنبلي هذا القول رفضا كليا، وقرروا أنه لا بد أن يكون في كل عصر من يبلغ درجة الاجتهاد المطلق.
أما غير المذاهب الأربعة فلم يكن للقول بإغلاق باب الاجتهاد أثر لدى علمائها، فالشيعة الإمامية والزيدية، والخوارج، يذهبون على وجوب الاجتهاد في كل العصور على العلماء. والعامة يستفتونهم.
وإلى ذلك أيضا يذهب المعتزلة فيوجبون على العلماء الاجتهاد ويجعلون واجب العامة سؤالهم عما يقع لهم مما يقتضي تبين حكم الشرع فيه.
وكان فقهاء المذهب الظاهري حربا على التقليد بكل صوره، حتى قال فقيه الظاهرية الإمام ابن حزم في المحلي “لا يحل لأحد أن يقلد أحدا لا حيا ولا ميتا وعلى كل أحد من الاجتهاد حسب طاقته” وهم يوجبون الاجتهاد حتى على العامة، واجتهاد العامة عندهم سؤالهم المفتين عما إذا كان ما يفتون به هو قول الله ورسوله أم لا؟ فإن قال المفتي هو قول الله ورسوله اكتفى منه بذلك وعمل بقوله. وإن قال أنه أفتى برأيه أو بالقياس أو بقول عالم آخر صحابيا أو تابعا أو سكت عن البيان. أو انتهر سائله أو قال لا أدري مصدر قولي…فإنه لا يحل عندئذ الأخذ بما قال ويجب على السائل أن يدعه إلى غيره.
ويوجب ابن حزم أيضا على الفقيه حين يسأل أن يخبر السائل أن قوله هو أمر الله تعالى أو رسوله بنص القرآن أو السنة الصحيحة أو بإجماع الأمة. فإن نسب إلى الله ورسوله غير حكمهما –بمعنى ما استنبطه برأيه- كان كاذبا والنار مصيره يقينا.
وإذا صح ما يذكره بعض الباحثين من أن قيام المذهب الظاهري في المشرق الإسلامي والمغرب الإسلامي كان لمواجهة الدعوة الباطنية، فإن ذلك يفسر اهتمام ابن حزم –إمام الظاهرية في المغرب- بمسألة التقليد وإبطاله. فهو في كل موضع يعرض لها فيه يبين بجلاء أن التقليد لا أساس له في شريعة الإسلام، ويوليها في مؤلفه “الأحكام في أصول الأحكام” عناية كبرى، فيبين بطلان الروايات التي يذكرها أنصار التقليد عن تقليد الصحابة بعضهم لبعض ويبين خلافاتهم في الرأي وأنهم إنما كانوا يتوافقون توافق أهل الاجتهاد، لا توافق المقلدين. وعلى نهجهم سار أئمة الفقه فاجتهدوا وسعهم، ونهوا عن التقليد وأبطلوه. وتبرءوا من فاعله، وينتهي إلى القول بأن “التقليد كله حرام في جميع الشرائع أولها عن أخرها، من التوحيد والنبوة والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة وجميع العبادات والأحكام” وهو يرد بهذه العبارة الأخيرة على القائلين بأن التقليد هو الواجب في المسائل الأصولية المتعلقة بالعقيدة، وأن النظر في ذلك والاجتهاد فيه حرام.
هذه هي مذاهب العلماء السابقين في التقليد وجوازه أو وجوبه، والمنع عنه وتحريمه، أوردناها موجزة بما يكفي للبيان لنخلص من ذلك إلى بيان رأينا فيها.
5- تقدير الرأيين:
ثبت بالأدلة القطعية من القرآن والسنة وجوب النظر والتفكر على كل قادر عليه، والنعي على تارك هذا الواجب من الأمم السابقة سواء في ذلك أهل الكتاب وغيرهم من الأمم.
وكان الفارق بين الإسلام وما ساد بين الناس من عقائد قبل البعثة المحمدية هو جعل الإسلام أساس الإيمان بالله تعالى وإتباع شريعته النظر في آيات الله في الخلق والتدبر في حكمته فيها وإن ذلك يؤدي ضرورة إلى اعتقاد وحدة الخالق ومن ثم إلى وجوب طاعته فيما أمر به ونهى عنه.
وفتح القرآن الكريم للناس أبواب الحرية الفكرية في كل المجالات وأطلقها إطلاقا لا يحده قيد إلا قيد العقل الذي وهبه الله للإنسان ليميز به الصحيح من الفاسد والخبيث من الطيب فيما يعرض عليه من أقوال وأفكار.
وهذا الإطلاق لحرية الفكر هو الذي أوجد مبدأ الاجتهاد في الإسلام وميزه به عن سائر الشرائع التي عرفها الناس قبله وتواضعوا عليها بعده، حتى كان من خصائصه الفريدة التي أتاحت لفقهه الشمول والمرونة والاستجابات لحاجات الناس المتجددة في كل عصر.
ولكن عقول الناس تتفاوت في قوة الإدراك وضعفه. وتحصيلهم للعلوم يتفاوت قلة وكثرة، ولا بد لمن ينظر في مصادر الشريعة من تحصيل العلوم التي تساعده على التوصل إلى الأحكام الشرعية توصلا سليما حتى لا يخالف رأيه دليلا قاطعا، أو إجماعا سابقا، بشأن ما يعرض له في بحثه واجتهاده.
فمن حصل هذه العلوم وتحققت لديه القدرة على النظر في أدلة الأحكام الشرعية، يجب عليه أن يجتهد رأيه فيما يعرض له من الوقائع، ولا يجوز له أن يقلد غيره أيا كان هذا الغير، فإن ترك الاجتهاد إلى التقليد فقد قصر في أداء الواجب، وجحد نعمة الله التي أنعم بها عليه.
ويكاد هذا القدر أن يكون متفقا عليه بين المحققين من الأصوليين.
وإذا كان الفهم والعلم أمران لا يختص بهما قوم دون قوم ولا عصر دون عصر ولا جيل دون جيل، فالقول بعدم جواز الاجتهاد لعدم وجود من له أهليته قول لا يصح إطلاقه. إذ من أين للقائلين بذلك أن أحدا ممن بعدهم لن يجمع العلوم التي اشترطها الأصوليين للاجتهاد؟ ولو أنهم قالوا إن عصرهم ليس فيه مجتهد مطلق لكان قولهم أدنى إلى العقل –رغم أنه يبعد أن يحيط أحد بكل علماء الإسلام في عصر من العصور وقدراتهم وملكاتهم ومدى تمكنهم من العلوم اللازمة للوصول إلى درة الاجتهاد، خاصة مع اتساع رقعة بلاد الإسلام وترامي أطرافها ووجود العلماء في كل بلد من هذه البلاد بل وفي كل قرية من قراها.
والأغرب من قول هؤلاء قول بعض المتأخرين أنه لا يجوز لأحد أن يدعي الاجتهاد المطلق بعد زمنهم استنادا إلى دعوى الإجماع على ذلك. ولعمري إنها لدعوى بلا دليل، وإجماع –إن صح وليس بصحيح- ممن لا يعتد بإجماعهم. فليسوا من المجتهدين ولا عبرة بإجماع غيرهم.
ولعل خير ما أجيب به عن هذه الدعوى أنها مناقضة تحمل معها دليل بطلانها “لا الذي يملك الحكم بقفل باب الاجتهاد هم المجتهدون، لأنه حكم شرعي لا دليل عليه من النصوص ولا سبيل إليه إلا الاستنباط، فإذا كان أصحاب هذه الدعوى من المجتهدين كانت كاذبة حيث أنها صدرت منهم بالاجتهاد، وإذا كانوا من غيرهم كانت باطلة غير مسموعة، لأنهم ليسوا أهلا لها، فضلا عن أنها تخالف حديث رسول الله الذي يقول (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله) –وتخالف- ما جرى عليه العمل من لدن فقهاء الصحابة إلى وقت صدورها”.
وقد نسى هؤلاء المدعون –أو لم يدركوا- أنهم بدعواهم ينقضون ما أبرم الله ورسوله حين أباح القرآن وأقرت السنة الاجتهاد والنظر. وليس ذلك لأحد من الناس كائنا من كان. وبقول هؤلاء وجمودهم، وخمول من بعدهم وقعودهم، رمى الإسلام بأشنع التهم وادعى على فقهه الجمود والتوقف عن مسايرة تطور الحياة، والقصور عن تحقيق مصالح الناس. واستبدل تشريع الإسلام بتشريعات من صنع البشر تخالف ما شرعه الله ولا تلائم البيئات التي جلبت إليها. وهؤلاء الجامدون والخاملون واقفون عند قولهم بمنع الاجتهاد ومكتفون بنقل أقوال السابقين كأنها نصوص مقدسة لا يجوز لأحد أن يحيد عنها وإلا كان مبتدعا في الدين آتيا فيه بما ليس منه.
وإذا نحن منعنا الاجتهاد فماذا يبقى من قيمة لمبادئ التحرر الفكري التي أتى بها الإسلام وما الذي يبقى من فرق بيننا وبين عيرنا من الأمم الأخرى التي اتخذت أقوال علمائها دينا تدين به وأنزلتها منزلة ما شرعه الله فاستبدلته بها؟.
فالصحيح إذا هو ما يقوله الحنابلة من أنه لا يجوز منع الاجتهاد ولا ادعاء خلو عصر من المجتهدين، فبذلك يصان الدين ويحمي من افتراءات المفترين، ويمكن بيان جوهره صافيا نقيا في كل عصر من العصور ويمكن تطبيق أصوله من غير انحراف عن منهاجها ولا تزيد على أحكامها.
ويبدو أن رأي المعتزلة قريب من رأي الحنابلة فعندهم أنه لا يجوز الأخذ بقول المجتهد إلا إذا كان حاضرا وقت السؤال وقارا على الاجتهاد أما من مات من المجتهدين فلا يحل –عندهم- الأخذ بقوله. وهذا يقتضي ضرورة وجود المجتهدين في كل العصور وهو قول الحنابلة.
كذلك يذهب إلى مثل رأي الحنابلة والشهرستاني صاحب الملل والنحل وهو شافعي المذهب فهو يقرر أنه “إن قصر فيه أهل عصر –يعني في الاجتهاد- عصوا بتركه وأشرفوا على خطر عظيم” ثم يقول بعد كلام “فلا بد إذن من مجتهد”.
أما توافر شروط الاجتهاد أو عدم توافرها فأمر مرجعه إلى فضل الله الذي يؤتيه من يشاء من عباه ومن زعم أنها فقدت إلى غير رجعة، فقد قضى على الناس جميعا إلى أخر الزمان بالحرمان من نعم العقل والعلم والصلاح، واجتهد برأيه اجتهادا أبعد في الدعوى من كل ما يدعيه المجتهدون وهو يلغي أوامر الله لعباده حيث يتحرى المجتهدون أن يبتغوا إليها الوسيلة”.
وإجمال القول أن “الاجتهاد لا يزال بابه مفتوحا لمن تأهل له، وشريعة الله التي جاءت أول الأمر لمحاربة التقليد والمقلدين، واستنهضت الهمم وأيقظت العقول من غفوة الجاهلية، وأمرت بالنظر والتأمل في آيات الله في الكون. لا يعقل أن تقر هذه الشريعة هذا الحجر على العقول وتمنع من الاجتهاد”.
وبذلك –أي بتقرير جواز الاجتهاد في كل عصر- يمكن لفقه الإسلام أن يعود إلى سابق عهده، فيساير حاجات الناس في كل العصور، ويسترد مكانه بين المسلمين بعد أن أقصاه عنه جمود الجامدين وخمول الخاملين. وتلك على أي حال سنة الله، يداول الأيام بين الناس ويورث الأرض من يشاء من عباده، فعسى أن تكون للمسلمين الجولة، بعد أن طالت التي عليهم.
6- خاتمة في الاجتهاد في هذا العصر:
تبين مما تقدم أن الفقه الإسلامي قد مر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بدورين متغايرين أولهما دور الاجتهاد في استنباط الأحكام من مصادر الشريعة، والثاني دور التقليد والتزام أقوال السابقين من المجتهدين دن نظر في هذه المصادر إلا ما كان مبعثه تأييد المذاهب التي يختلف أصحابها وخاصة عند المناظرة بين أتباعها.
وقد قلنا فيما تقدم أن الوقوف عند أقوال السابقين، وتحريم النظر والاجتهاد لا أساس له من شريعة الإسلام بل إنه يتنافى معها ويناقض مبادئها المقررة في الكتاب والسنة.
وقد سبق إلى هذا القول علماء الإسلام المتحررون من ربقة التقليد في كل عصر، فنادوا بترك التقليد المطلق الذي جمد سير الفقه الإسلامي وأقصى شريعة الإسلام عن أن تطبق أحكامها في حياة الناس.
ويبدو أن قدر الله تعالى قد مضى بأن يكون هذا العصر الحديث هو زمان استجابة العلماء لهذه الدعوة التي نادى بها أحرار الفكر من السابقين، فتغير سير الفقه الإسلامي، وعاد إلى الظهور وجه الشريعة المشرق ممثلا في كتابات علماء هذا العصر البعيدة عن التعصب المذهبي والخلاف النظري الذي لا يجدي نفعا، وفي الدراسات المقارنة لمذاهب الشريعة الإسلامية بلا تمييز بين مذهب وآخر والتي تجري الآن في كليات الحقوق والشريعة في جامعات البلاد العربية والإسلامية. وفي دراسات المقارنة بين فقه الإسلام والتشريعات الوضعية التي يعمل بها في هذه البلاد. وكذلك ترك إلزام القضاة في مواد الشريعة بمذهب فقهي معين لا يحاد عنه واستبدل ذلك بقوانين أخذت نصوصها من مذاهب الفقه الإسلامي عامة دون تقيد بمذهب معين منها.
كل ذلك جعل صورة الفقه الإسلامي في هذا العصر مغايرة لصورته التي كان عليها في العصور التي ساد فيها التقليد المحض. وإذا كان العلماء الآن يدرسون مذاهب الأئمة السابقين وأقوال العلماء المتقدمين، فإنهم يدرسونها بروح غير الروح التي كانت تدرس بها في الماضي، يدرسونها دراسة حرة فيرجحون منها ما تشهد الأدلة برجحانه، أو ما يرونه أصلح لحال الناس. وهذا ليس من التقليد الذي عرفته العصور السابقة، بل لعله نوع من الاجتهاد نظيره توافق الأئمة المجتهدين في أحكام بعض المسائل دون أن يكون أحد منهم مقلدا لغيره بل يرى صحة قوله بما يظهر له من الأدلة فيأخذ به.
وإذا كان ذلك فإنه يحق القول بأن الفقه الإسلامي في هذا العصر تحرر فريق من علمائه من قيود التقليد وعادوا إلى السير على درب الاجتهاد، وهو الطريق الصحيح للتوصل إلى أحكام الإسلام الملائمة لكل عصر وبيئة.
وبذلك يصبح هذا العصر بداية لدور ثالث من أدوار الفقه الإسلامي بعد عصري الاجتهاد والتقليد اللذين مر بهما بعد عصر الرسالة.
ولعله من المفيد أن نشير هنا إلى موجة استنكار، وموجة اعتراضات صريحة أحيانا وملتوية أحيانا، يقابل هذا الاتجاه الجديد من المستشرقين والباحثين غير المسلمين الذين يعنون بدراسة هذه الظاهرة التي يسمونها “الاجتهاد الجديد”.