حوار

بل المسلمون يسار ويمين

العدد 15

على صفحات العدد الافتتاحي من مجلة المسلم المعاصر تفجرت قضية اليسار الإسلامي . وقد أثار القضية الكاتب الكبير الأستاذ فتحي عثمان حين تمنى لهذه المجلة أن تعبر عن هذا اليسار. وقد تبادل سيادته وآخرون من كتاب المجلة على امتداد الأعداد الثلاثة الأولى حواراً حول تعريف المسلم اليساري، وحول إمكانية أن يكون المسلم يسارياً، وحول صحة استخدام مثل هذه المصطلحات المحدثة لتقسيم القوى والجماعات والأفكار في المجال الإسلامي.

وتكتسب قضية اليسار الإسلامي تلك كثيراً من الأهمية والخطورة، كما أنها تستحق المزيد من الدراسة والفحص والتحليل، وذلك لاعتبارات عديدة لعل في مقدمتها ما يلي:

  1. اتساع مساحة التأثير اليساري في العالم المعاصر سواء على المستوى الفكرى أو المستوى التنظيمي. ولن يكون الإنسان مبالغاً إذ يؤكد أن البشرية تعيش الآن عقوداً من حياتها صبغتها الأساسية يسارية. وما دامت سيادة الفكر والتنظيم تتأكد لليسار فإن هذا يفرض على المسلم المعاصر أن يتعامل مع هذا الوجود اليسارى على اعتبار أنه حقيقة قائمة يستحيل غض الطرف عنها، أو الهروب منها، أو معاقرة العداء غير المبررلها. كما أنها ترتب تأثيراً حتمياً وتأثراً بين الفكر الديني الإسلامي وبين هذا الفكر اليسارى بكافة مدراسه واتجاهاته. وما دام تبادل التأثير هذا وارداً فإن “أسملة ” الفكر اليساري المعاصر قد تكون إحدى نتائجه الطبيعية، كما أنه يرد فى المقابل إمكان تطعيم الفكر الإسلامي بالمعطيات وبالمناهج الفكرية اليسارية. ولعل فى كثرة الكتابات عن العدالة الاجتماعية في الإسلام فى العقود الأخيرة مؤشراً على صحة ما أذهب إليه. ذلك أنه رغم وجود العناصر والشواهد والنصوص التى تؤكد أصالة وقدم فكرة العدالة الاجتماعية فى الإسلام إلا أن التركيز عليها، والإبراز المعاصر لمضمونها، والصياغة المحدثة لها، كلها أمور ما كانت لتجد سبيلا إلى الظهور لولا التفاعلات التى حدثت بين المعطيات الإسلامية الأصلية وبين المعطيات اليسارية المعاصرة التى تغلب عليها الصبغة الاشتراكية.

وإذا كان التفاعل الفكرى والتعامل التنظيمي مع اليسار محتما بحكم الواقع المعاصر الذى نعيشه، فإن جمع المسلم المعاصر بين صفتى المسلم واليسارى تصبح ظاهرة طبيعية، بل وتصبح ضرورة لابد منها حتى لا تصبيه حالة فصام حضارى نتيجة عجزه عن التوفيق بين عقيدته الدينية التى يعتز بها وبين إدراكه اليومى لسلامة المعطيات اليسارية ومقدرتها على إخراجه من المأزق الاجتماعي – الاقتصادي – الذي يتردى فيه مما قد يضطره إلى التورط فى الاختيار المريض بين انتمائه الديني وبين انتمائه السياسي.

  1. إن سيادة التنظيم اليسارى، بكافة تجاربه ومدارسه وتوجهاته، فى بقاع كثرة ومتنامية في العالم إنما يدل على توفر عناصر قوة ذاتية فيه، كما يدل أيضاً على توفر ظروف موضوعية (اجتماعية واقتصاية وسياسية) تضمن له النجاح في دنيا الواقع، وترتب له الامتداد في رحم المستقبل، وتوفر له القبول من كل الذين يعانون ويرون فيه حل مشكلاتهم أو تخفيف عنائهم. وبالطبع فإن انحسار التنظيم اليمينى – مقابل المد اليسارى – في المجتمعات المعاصرة لهو دليل على فشل الرؤية اليمينية في إدراك الواقع والتعامل معه والتجاوب مع التغيرات التي تلحق به. فإذا كنا مخلصن في البحث عن دور أكثر فاعلية للفكر الإسلامي وللحركة الإسلامية فى المجتمع المعاصر فإن علينا أن نسلم بهذه الحقائق أولا. فإذا سلمنا بها فإن من واجبنا أن نتجاوز بأدائنا مستوى إجراء المقارنات العبثية بين اليمين وبين اليسار، أو توزيع الاتهامات الديماجوجية على أى منهما أو عليهما كليهما، وأن نكثف جهودنا لاكتشاف عناصر القوة أو الضعف فى هذه التجارب والنظم والأفكار المعاصرة لنستفيد بها في صياغة رؤانا الإسلامية لمشكلات عالمنا ومجتمعنا بحيث تجمع هذه الرؤى بين التمسك المستنير بقيمنا الإسلامية الأصلية وبين الاستفادة الواعية من معطيات العصر الخصبة. وحتى تتحقق تلك الفاعلية المرجوة، وتتشكل تلك الرؤى المأمولة، وتتم تلك الاستفادة الواعية، فإن الحساسية المفرطة التي نحملها لأغلب – إن لم يكن لكل – التجارب المعاصرة، خاصة اليسارى منها، يجب أن يقسط.
  2. فى ساحة الفكر الإسلامي يكاد يسود تسليم – صريح أو ضمني – بأن المصالحة قائمة بين الإسلام وبين اليمين السياسي. وقد يكون مرد ذلك الانطباع إلى حالات الغزل والتعاطف التي يسجلها كثيرون على بعض الأقلام التى تكتب باسم الدين، وكذلك على بعض الحركات الإسلامية ذات الصوت العالى، حين تتعامل مع الفكر الرأسمالي، حيث يصل الأمر إلى حد التطويع الصريح للفكرة الإسلامية بقصد إخضاعها للمعطيات الفكرية اليمنية. وقد يكون مرده أيضا إلى متون التوقير  والتقدير التى يسودها البعض الآخر في حق نظم حكم يمينية قائمة في العالم الإسلامي. بل وتصويرهم بعض هذه النظم على غير ماهى عليه فى الحقيقة، والزعم بأنها تجسيد للحكم الإسلامي الصحيح.

ومثل هذا الارتباط المزيف بين الإسلام وبين اليمين السياسي يؤثر بغير شك على التعامل الإسلامى السوى مع اليسار السياسى. ذلك لأن الاستقطاب اليمينى للكثرة من الأفكار التى تنطق باسم الإسلام يضيق من هامش التعامل  مع الفكر اليسارى أو مع النظم اليسارية، كما أنه يقيم صرحاً من الإرهاب النفسى في وجه الذين يفكرون في السعى لإنهاء مثل هذا الاستقطاب المرضى،  أو حتى تعديل ذلك الجنوح المفتعل.

  1. تتبعثر في ساحات الفكر العربى (والإسلامي) أوهام كثيرة وأغلاط تتعلق باليسار وبالفكر اليساري. وتختلط في تلك الساحات أمور كثيرة تتعلق بهذا اليسار. ولعل في مقدمة هذه الأوهام عدم التميز بين اليسار كتيار سياسي عام وبين الماركسية كأيدلوجية خاصة. ومنها أيضا عدم التفرقة بين ماهو علمى في الفكر السياسي ويعبر عن خبرة صحيحة بالمجتمع الحديث وبين ماهو نتيجة تاريخية خاصة ترتبت على صراع طويل خاضة الغرب ضد سيطرة الكنيسة مما شكل موقفا خاطئا للفلسفات الغربية بصفة عامة يسارية كانت أو يمينية – من الدين. ومنها عدم الإدراك بأن أيديولوجيات القرن التاسع عشر التي تنتسب إلى اليسار قد لحقتها في النصف الثاني من القرن العشرين تغييرات أساسية توشك أن تذهب بالكثير من ملامحها التقليدية مما يجعل البعض في عالمنا العربي (الإسلامي) لايزال يقف في تناوله لهذه الفلسفات والأيديولوجيات عند مشارف القرن التاسع عشر أو عند بدايات القرن العشرين على أحسن تقدير … ومنها أيضا رفع البعض منا هذه الأيدلوجيات السياسية إلى مرتبة العقائد الدينية، مع أن الذين أبدعوها، والذين يعيشون على أساس منها أيضا، ينكرون هذا بل ويدينونه، وقد يدخلون عليها بين الحين والحين، وكلما دعت ضرورات الحياة، من التغييرات ما يمس جوهرها ويغير من صفاتها الأساسية، كما أنهم لا يترددون فى ممارسة عمليات الانتقاء – بما يترتب عليها من قبول أو رفض – مع هذه الأيديولوجيات التى تفتقد من وجهة نظرهم إلى الحصانة او القداسة التى يتوهمها الآخرون.

وبسبب العوامل الأربعة السالفة الذكر فإن إثارة مسألة اليسار الإسلامي تبدو شائكة بقدر ما هى ضرورية. ومن هنا فإنها كما قلت من قبل تتميز بالأهمية وبالخطورةفى نفس الوقت.

وربما لأن القضية على هذا القدر من الأهمية والخطورة فقد دعا السيد الدكتور رئيس التحرير فى تقديمه للعدد العاشر من مجلة المسلم المعاصر إلى ضرورة استكمال الحوار حولها، كما نبه سيادته إلى أن أغلب الجهد الذى ظهر فى الأعداد الأولى للمجلة قد انصرف إلى تحديد وتعريف المصطلح دون تناول المضمون.

واستجابة لدعوة الدكتور رئيس التحرير تقدمت بدراسة تتعلق بهذا الأمر حظيت بالنشر فى العدد الثاني عشر من المجلة تحت عنوان “المسلمون وحق الانتماء السياسي”. وقد أملت من وراء دراستي تلك أن أتقدم بالحوار خطوة إلى الأمام. كما هدفت إلى محاولة تقويم اعوجاج قد يبدو حتى تصاغ القضية على اعتبار أنها قضية اليسار الإسلامي فقط. أما عن الأمل في تقدم الحوار فقد تمثل فى طرح قضية الانتماء السياسي للمسلم بصفة عامة. والبحث فى حريته فى اختيار مثل هذا الانتماء. ذلك لأننا إذا أثبتنا هذا الحق للإنسان المسلم فلن تكون يساريته موضع تساؤل أو تشكيك أو جدال. أما الاعوجاج الذى قصدت تقويمه فإنه قد ينشأ أو يترسخ فى بعض الأذهان بمفهوم المخالفة.

فما دامت قضية اليسار الإسلامى موضع تساؤل بينما قضية اليمين الإسلامي تحظى بالسكوت فإن ذلك قد يحمل على الظن بأن الإسلام يبارك اليمين ويمانع فى القبول باليسار. وحتى نتجاوز هذا الطرح المنحاز للقضية، وحتى يبرأ الحوار من شبهة المصادرة المسبقة على إمكانية تعامل الإسلام ما تيار سياسي بعينه، كان فى تقديم مسألة الانتماء السياسي للمسلم عودة إلى الأصول التى يترتب على إثباتها إمكانية التعامل المحايد مع الفروع.

وفى العدد الرابع عشر من المجلة عقب الأستاذ الجليل الدكتور مصطفى كمال وصفى على الدراسة المذكورة وتحت ذات العنوان. ورغم تباين فى التصورات والمواقف لا يزال قائما بينى وبين الدكتور وصفى إلا أنني أسجل سابقا احترامى لسيادته. كما أثبت تقديرى للدقة التى صاغ بها رده، والإخلاص الذى عرض به أفكاره، والموضوعية التى غلف بها آراءه، سواء فى موطن الاتفاق أو فى مواطن الاختلاف. بل إنني لأزعم أن التزام جميع من يشاركون فى تداول هذه القضية الشائكة مثل هذه المستويات الراقية من الدقة والإخلاص والموضوعية كفيل أن يصل بنا إلى الإدراك المنصف لكافة عناصرها، إن لم يصل بنا الاتفاق العلمى والعملى حول هذه العناصر.

خطوة إلى الأمام … ولكن

اتخذ الدكتور مصطفى كمال وصفى من تفهم معانى الحق والحرية فى الإسلام مدخلا لتناول قضية الانتماء السياسي للمسلم، وإثبات حقه فى مثل هذا الانتماء، وبيان الحرية المكفولة له فى هذا الصدد. وقد انتهى سيادته إلى القول بالآتى:

“ولذلك فإن الحق فى الإسلام تكليف وليس مصلحة شخصية كما هو الحال فى الفكر القانونى الحديث”.

“ويؤدي بنا هذا القول إلى أن حق الانتماء السياسي هو واجب على المسلم وتكليف ملزم له. وليس قدرة اختيارية إن شاء أتاها أو لم يأتها”.

“وهذه النتيجة بذاتها نصل إليها إذا نظرنا إلى الانتماء السياسى على أنه حرية”.

ثم ينتقل سيادته إلى تحليل مصطلح الحرية فى الفهم الإسلامي ويؤكد ثانية:

“ومن هنا كانت حرية الانتماء السياسى – وغيرها من الحريات – تكليف وواجب لإدراك المصالح التى يعتبرها الشرع”.

وإثبات هذه الحقائق فى شأن الانتماء السياسى للمسلم يمثل تقدما بالحوار خطوة – بل خطوات – إلى الأمام .. وهو الأمر الذى أتفق فى شأنه تماما مع الأستاذ الجليل الدكتور وصفى.

غير أن هذا الاتفاق الأولى أو المبدئى بينى وبين سيادته يجب أن لا يشغلنا عن التحفظات والتخوفات التى أوردها فى ثنايا مقاله فيما بعد، والتى ضيق فيها من حق المسلم وحريته فى ممارسة انتمائه السياسي. بل إننى أزعم – وأرجو أن أكون قد أحسنت الفهم – أن الدكتور كمال وصفى قد عاد وأنكر على الإنسان المسلم حقه فى الانتماء السياسي، كما صادر حريته فى هذا السبيل مصادرة تامة. فهو بعد تبيان يقدمه ليثبت فيه أن كل مذهب سياسى يقوم على عقيدة، ويحلل فيه الفلسفات العامة التى يقوم على أساس منها كل من النظام الديمقراطي الحر (الرأسمالى)، والنظام الاشتراكى، والنظام الإسلامي ينتهى إلى القول:

“ومن المستحيل على المسلم أن يجمع بين هذه العقائد الثلاثة فى وقت واحد، وبالتالى يستحيل أن يصير مسلماً يسارياً أو يمينياً أو وسطا”.

بل إنه يختم مقالة مخوفاَ من ممارسة ذلك الحق الذى أثبته فى صدر مقالة فيقول: “والخلاصة أن القول بالمسلم اليمينى والمسلم اليسارى يؤدى إلى تقسيم المسلمين إلى فرق، وإلى فتنة عارمة فى العقيدة وإلى خلافات جوهرية فى التطبيق تهدد أصول الإسلام”.

وأصرف النظر مؤقتا عن المساواة التى يفترضها الدكتور وصفى بين النظم السياسية وبين العقائد الدينية، وتصويره أيا منهما بديلا للآخر، مما يترتب عليه استحالة الجمع بينهما أو الأخذ عن كليهما، وهو الأمر الذى سوف أعرض له بشئ من التفصيل فيما بعد. ولكني أثبت هنا واحدة من الظواهر الأساسية التى تحول بين التصورات الإسلامية الصحيحة وبين معايشة الواقع والتفاعل معه والتأثير فيه. وتتمثل تلك الظاهرة فى العجز عن نقل تصوراتنا من دنيا التجريد إلى دنيا الواقع. فنحن فى أحيان كثيرة لا نختلف حول تقرير الحقوق وإثبات الحريات على مستوى القول، ولكننا نبدو وكأن الاتفاق بيننا مستحيلا على مستوى الفعل حين نحاول ممارسة هذه الحقوق أو عيش هذه الحريات. وأنا أزعم – وأرجو أن يتسع صدر الأستاذ الجليل لبعض قولى – أن فى هذه الظاهرة السلبية ما يفسر تراجع الدكتور كمال وصفى فى مؤخرة مقاله عما أثبته فى مقدمته. فحق الانتماء السياسى للمسلم هو على المستوى النظرى واجب وتكليف، ولكنه على مستوى الممارسة خطر يهدد العقيدة ويهدد المجتمع أيضا.

وقد يكون في خبرتنا السلبية بصراع الفرق فى القرون الأولى من حياة الإسلام ما يثير التخوف لدى البعض من احتمال تكرار تلك التجارب المريرة.

ولكن مثل هذا التخوف يقوم ولا شك على غير أساس. ذلك أن أى مجتمع معاصر على تعدد الرؤى فى داخله، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية أو حتى دينية. والمجتمعات المعاصرة التي تسيطر فيها الرؤية الواحدة وتستبد إنما هى مجتمعات معيبة حضارياً كما أنها مدانة بمقاييس العصر. وبالتالى فإن تعدد الفرق (فى صورة أحزاب عصرية) فى المجتمع المعاصر لا يجب أن يكون مثار خوف وإنما على النقيض من ذلك مبعث اطمئنان.

أما فى المنظور التاريخي فإنه من الخطأ افتراض أن أساليب التعامل القديمة بين الفرق فى القرون الأولى للهجرة قابلة للتكرار فى مجتمع معاصر. ذلك لأن أساليب التعامل السائدة فى عصر ما إنما هة تعبير عن علاقات القوى المتواجدة على مسرح العمل العام فى المجتمع، كما أنها تتوافق عادة مع الظروف الحضارية الحاكمة فى ذلك المجتمع. وهى بالإضافة إلى ذلك كله تتواءم مع طبيعة القوى المشاركة فى الصراع. ففى مقدمة الأمور المميزة للمجتمع الإسلامي أثناء الفتنة الكبرى وفى أعقابها كان استبدال القتال بين الفرق بالحوار بينها.

وقد استغرق ذلك الصراع المرير أزمنة طويلة. وذلك اللجوء إلى العنف فى التعامل بين الفرق إنما يرجع فى الغالب إلى سببين رئيسين.

أما السبب الأول فيتمثل فى كون الفرق الفاعلة فى ذلك الصراع المرير قد ولدت أساساً فى ميادين القتال، خاصة فى السنوات التى أعقبت مقتل ذى النورين عثمان بن عفان. فالأمر من بعده لم يستقر لعلى بن أبي طالب، فكان الخلاف والقتال بينه كرم الله وجهه وبين حمله قميص عثمان. وفى ميدان القتال، وفى موقعة صفين على وجه التحديد، كان مولد الخوارج أشد الفرق الإسلامية عوداً، وأقبلها على الحرب، وأقراها فى الدفاع عما تعتقد أنه الحق. وهى فرقة كانت سريعة اللجوء إلى السلاح، متطرفة فى تصورها للأمور السياسية التى جدت فى المجتمع الإسلامي فى ذلك الحين.

وبعد أن استقر الأمر المعاوية وليزيد من بعده تمخضت الحروب التى خاضاها ضد على وألاده من بعده عن الشيعة كفرقة مناوئة قوية أخرى يتراوح نضالها بين العمل السري الرافض والعمل العسكري الصريح، مروراً بالعطاء الفكرى والاجتهاد الفقهي. وهكذا فقد كانت أكثر الفرق الإسلامية قوة فى ذلك الوقت أقرب بحكم نشأتها إلى ممارسة العمل العسكري منها إلى ممارسة العمل السياسي أو الفكري السلمى.

وأما السبب الثاني وراء استبدال الفرق الإسلامية القتال بالحوار فقد كان متمثلا فى الطبيعة الاستبدادية للسلطة القائمة على أمور المسلمين وقتئذ والممثلة فى الزعامات الأموية ومن بعدها العباسية. فقد كان ظلم الحكام والولاة فى أحيان كثيرة شديد الوطأة. وكانت مطاردة الخصوم والاعتداء عليهم، والتصفيات الحسدية لهم من الأساليب الشائعة وقتئذ. وقد كرس التحول، بالخلافة القائمة على الشورى إلى ملك عضوض كل هذه الممارسات السلبية والخاطئة، ولم يجد الذين لا يرضون بهذا الانتكاس الذى أصاب الحياة السياسية فى المجتمع الإسلامي أمامهم من سبيل غير مقابلة القوة بالقوة، ومواجهة العنف بالعنف، ومصادمة التحدي بالتحدي، وهو ما يقتضيه النضال وفقاً لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو المبدأ الذى أخذت به  معظم فرق المعارضة فسلت السيوف لدفع المنكر وإقرار الحق.

ولأن المقام لا يتسع هنا فإننى أكتفي بالتوقف أمام قضيتين عرضتا للمجتمع الإسلامي فى عصر تكوين الفرق، عسى أن يكون فى استعراضهما مزيد من الإيضاح لما ذهبت إليه.

أما القضية الأولى فقد نشأت عن محاولة معاوية أن يأخذ البيعة غصباً لابنه يزيد الذى وصف الحسين بن على محاولة تنصيبه خليفة بأنها إفك وزور ووصف يزيداً نفسه بأنه شارب خمر ومشتر لهو، ولكن معاوية وقد قاومت المدينة، وكبار الصحابة فى المقدمة، محاولته لاغتصاب الخلافة لإبنه بعد أن اغتصبها لنفسه أمر من حرسه وشرطته قوماً أن يحضروا النفر الذين أبوا البيعة وهم الحسين بن علي، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، وعبدالرحمن بن أبي بكر، وأوصاهم معاوية فقال: إنى خارج العشية إلى أهل الشام فأخبرهم أن هؤلاءالنفر قد بايعوا وسلموا، فإن تكلم أحد منهم بكلام يصدقني أو يكذبني فيه، فلا ينقضى كلامه حتى يطير رأسه[1].

وأخبر معاوية المعارضين بما عزم عليه، وخرج بهم إلى أهل الشام الذين قدموا فى ركابة حتى يشهدوا بيعة المدينة له ويسلمونه بيعتهم مطمئنين، ونفذ خطته، وأعلن ما أعلن، وحصل على الصمت المجبر من المعارضين، واستخدمه ظلماً لتأكيد البيعة ليزيد. وكان طبيعياً أن يجد الخليفة الذى يلجأ إلى هذه الوسائل الظالمة مقاومة تتناسب مع ظلمه، وتصلح لمواجهة كيده.

لذلك فإنه لم يكن غريباً أن كل هؤلاء الذين أكرهوا على البيعة اتخذوا مواقف العنف والرفض من الخلافة الأموية، وكان فى مقدمة هؤلاء عبدالله بن الزبير والحسين بن على رضى الله عنهما.

أما القضية الثانية فتتعلق بالمرجئة إحدى الفرق التى تمخض عنها الصراع السياسى الذى دار بين على ومعاوية. وقد اتخذت هذه الفرقة التبرير والحياد وسائل للعمل، واعتزلت الفرق المقاتلة. وأرجأت الحكم على المتصارعين إلى يوم القيامة. هذه الفرقة وقد رأت ظلم بنى أمية يتفاقم، وعسفهم يطول، حاولت فى فترة لاحقة أن تشارك بالرأى وبالقول فى إصلاح حال المجتمع. ورغم أن هذه الفرقة اختارت أن تحايد فى القتال فإنها لم تسلم من القتل والتنكيل، ذلك لأن عدم مشايعتهم للسلطة الأموية الحاكمة كانت تحسب عليهم لا لهم. وبالتالى فقد أسرف عمال بنى أمية فى تعقب المرجئة واستئصال شأفتهم. ولعل أقصى هؤلاء الولاة كان خالد بن عبدالله القسرى والى العراق الذى سفك الكثير من دماء المرجئة وتعقب فلولهم، ويقال أنه ذبح بيده الجعد بن درهم أحد أعلامهم صبيحة عيد الأضحى كما تذبح الخراف[2]. وقد كانت النتيجة الطبيعية والحتمية لكل هذا العسف الأموى ان ينتقل المرجئة من التبرير القولى والعمل السياسي السلمى إلى الثورة والعمل العنيف العسكري، وأن يتحولوا من حملة أفكار إلى حملة سلاح، وأن يضيفوا إلى الأجنحة العسكرية المناوئة للخلافة الظالمة جناحاً جديداً إن استطاع جاهر برفع السلاح، وإن لم يستطع لجأ إلى العمل السري حتى تحين الفرصة المناسبة للانقضاض العنلى على نظام الحكم.

خلاصة القول إذن أن تجربة تكوين الفرق فى العصور الإسلامية القديمة بكل سلبياتها وإيجابياتها غير قابلة للتكرار، لأنها كانت رهنا بالظروف التاريخية والحضارية التى نشأت فيها. وبالتالى فإن التخويف بها أو التخوف منها ليسا بمقبولين كدليل ضد التعدد الفكرى أو التنوع السياسى فى مجتمعات المسلمين المعاصرة.

تعدد الفرق وحرية الانتماء السياسى للمسلمين

فى محاولة لإثبات حق الانتماء السياسى للمسلم المعاصر، وتأكيد حريته فى اختيار وتشكيل هذا الانتماء، قدمت فى دراستى سالفة الذكر حجتن، أولاهما تاريخية تتعلق بتعدد الفرق السياسية التى عرفت فى التاريخ الإسلامي القديم، وثانيتهما فقهية تقوم على أساس من الاجتهاد والشورى كوسائل معتمدة إسلامياً للتعبير عن المخالفة فى الرأى، والتفاوت في الفهم، والمشاركة بين الأطراف المتعددة فى اتخاذ القرار الأصوب.

ولكن الأستاذ الكبير مصطفى كمال وصفي يرفض اعتماد الحجة التاريخية الخاصة بتعدد الفرق كدليل يبرر حق المسلم المعاصر (والقديم أيضاً) فى الانتماء السياسي. وفى رأيى أن الخلاف بيني وبين سيادته ينشأ عن طريقة كل منا فى ترتيب المقدمات والنتائج، كما أنه ينشأ عن حساسية تبدو فى كتابات سيادته عن ظاهرة الفرق تلك. وحتى يتبين أى منا يضع العربة قبل الحصان كما يقولون، فإننى سوف أعرض لتصور سيادته لمسألة الفرق تلك في شئ من التفصيل.

يقول سيادته فى رده على مقالى : “ففى أيام الفتنة المذكورة – يقصد فنتة على ومعاوية – هال الناس اختلاف كبار الصحابة ومحاربة المسلمين بعضهم لبعض، وبرزت إلى الأذهان مسألتان من مسائل العقيدة وهما: ما تأثير المعصية في الإيمان؟ وهل يظل المسلم مسلماً إذا ارتكب الكبائر؟..

والأخرى: هل كانت هذه لفتنة أمراَ مقدراً من قبل أنه لا قدر وأن الأمور بداء تستأنف في حينها وبمعنى آخر هل الإنسان مسير أم مخير فيما يفعل؟…

وبسبب الاختلافات فى هذه الأمور العقيدية – وغيرها – انقسم المسلمون إلى فرق…..”.

ويضيف سيادته فى موضع آخر: ” ولما كان الخلاف المذهبي يؤدي بطبيعته إلى إنشاء النظم السياسية، فقد تحولت كل فرقة من هذه الفرق إلى حزب سياسي يسعى لإقامة النظام السياسي الذى تقتضيه عقيدته”…

وواضح هنا أن الدكتور وصفى يرى أسبقية الخلاف المذهبي على الخلاف السياسي والانقسام الفعلى إلى أحزاب متنازعة أو متقاتلة، وهو بالتالى يرى أن : “انقسام المسلمين إلى فرق كان مرضاً انتاب جسد الأمة ولم يكن ظاهرة صحية يحتج بها….” وسيادته فى هذا إنما يتبنى منهجاً مثالياً فى فهمه للتاريخ الإسلامي ، فهو يفصل النتائج عن أسبابها الحقيقية، كما أنه يغفل عن الوقائع التاريخية ذاتها ويستبدلها بتصورات متعاطفة وجدانياً مع تاريخنا الإسلامي القديم. فالحقائق التاريخية تؤكد أن الكيانات السياسية للفرق قد عرفت قبل تصوراتها الفكرية أو العقيدية أو الدينية بصفة عامة. وقد سبق أن أوضحت أن الخوارج كفرقة سياسية، مثلهم مثل الشيعة، إنما جاءوا إفرازاً منطقيا ومباشراً للحروب التى دارت بين على ومعاوية في بداية الصراع، ثم بين المشايعين لعلى وأبنائه والحكومات الأموية فى فترات لاحقه. وأضيف هنا – على سبيل المثال – أن أولى فرق الخوارج الكبرى وهى عرفت باسم “المحكمة الأولى” يقول فى شأنها الشهر ستأنى : “هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين رضى الله عنه حين جرى أمر الحكمين، واجتمعوا بحروراء من ناحية الكوفة، ورأسهم عبدالله بن الكواء، وعتاب بن الأعور، وعبدالله بن وهب الراسبى، وعروة بن جرير، ويزيد بن أبى عاصم المحاربى، وحرقوص بن زهير البجلى المعروف بذى الثدية، وكانوا يومئذ فى اثنى عشر ألف رجل هم أهل صلاة وصيام، وأعنى يوم النهروان[3] “.

فالخلاف نشأ إذن حول قضية سياسية تتعلق بمسألة التحكيم التى تمخضت عنها حرب معاوية وعلى قى صفين، وأصبح للخوارج وجود عسكرى وسياسى قبل أن يدخلوا فى القضايا العقيدية المتعلقة بمرتكب الكبيرة وغير ذلك. وليس يعدم الإنسان وقائع مشابهة تثبت أن الشيعة هم الآخرون قد خرجوا إلى الحياة السياسية بطريقة مشابهة..

ففى صدر التأريخ السياسى للشيعة يذكر الأستاذ أحمد أمين أنه: ” في عهد القتال بين على ومعاوية انقسمت المملكة الإسلامية إلى معسكرين: معسكر العراق وهم شيعة على، ومعسكر الشام وهم شيعة معاوية، وحتى بعد قتل على واستيلاء معاوية وبيته على الملك ظل العراق – وخاصة الكوفة – شيعى النزعة، وظلت حركات الغلو فى التشيع تنبع منه كحركة عبدالله بن سبأ والمختار والثقفى، وانضم إلى حركة التشيع كثير من الموالى، وخاصة موالى الفرس لما بينا قبل من أسباب، فكانت فارس ولا سيما خراسان أميل إلى التشيع كالعراق [4] “.

ولعله من المفيد أيضا أن نذكر أن “المختارية” وهى أحد الروافد الرئيسية الأولى فى حركة التشيع وتنتمى إلى الفرقة الشيعية الكبرى المعروفة بالكيسانية (نسبة إلى كيسان مولى أمير المؤمنين على بن أبي طالب) إنما ينتسب أصحابها إلى المختار أبى عبيد الثقفى، وهو واحد من الذين كانوا ضالعين فى الصراع السياسى الذى أعقب الفتنة الكبرى، والغارقين فى السياسة العلمية. ويقال أنه كان خارجياً، ثم صار زبيرياً، ثم صار شيعياً[5].

أما بخصوص المرجئة والمعتزلة، ورغم أنهما بصفة عامة كانتا أميل إلى العمل الفكرة، والممارسة السلمية للعمل السياسى، فإنهما تمثلان التوسط السياسى بين الخوارج والشيعة كقطب المقاومة وبين الخلافة (المدعمة بالمذاهب المحافظة ( كقطب الحكم فى ذلك الصراع. وبالتالى فإن مواقف المرجئة والمعتزلة هى فى أصولها التاريخية اختيارات سياسية فى الأساس، رغم مظهرها الدينى أو الفكرى قد يكون أكثر وضوحاً عن فرق أخرى وذلك للأسباب السالفة الذكر.

فالأمر فى حقيقته إذن، وفى ترتيبه المنطقى، وفى سياقه التاريخي، هو كما يصوره المرحوم الأستاذ أحمد أمين بعد حديث له عن الطابع السياسى الأصيل للفرق الإسلامية فيقول: ” وساقهم هذا الخلاف السياسى الذى اصطبغ بالدين إلى الخلاف فى تعريف الإيمان والكفر والكبائر والصغائر وحكم مرتكب الكبيرة ونحو ذلك، وانساقوا بعد الخلاف  فى الفروع حتى تكونت من كل منهم فرقة لها خلاف فى الأصول والفروع على مر الزمان [6]“.

وعلى أية حال فإن صياغة الدكتور وصفى لم تسلم من إقرار هذه الحقيقة فهو الفقرة السالفة الذكر المنقولة عن مقلة يبدأ بذكر الهول الذى انتاب الناس نتيجة اختلاف الصحابة واقتتال المسلمين، ولكنه لا يؤسس على هذا السبب التاريخي ما نشأ من خلاف قامت على أساسه الفرق، بل إنه يتجاوز الوقائع ويقفز عليها، ثم ينسب إلى القضايا الخلافية العقيدية حول مرتكب الكبيرة، ومسألة الجبر والاختيار، وغيرها، السبب فى قيام الفرق، وهى القضايا التى استحدثت فى وقت لاحق وحاولت كل فرقة أن تؤكد خطها السياسى باتخاذ موقف منها.

أما عن كون الفرق ظاهرة مرضية ألمت بالمجتمع الإسلامي فهو أمر أتفق فى بعضه مع أستاذنا الكبير، وأختلف معه فى بعضه الآخر، فالمرض فى حقيقة الأمر ليس الخلاف على إطلاقة – فالخلاف الفكرى مشروع فى الإسلام وفى كافة الشرائع. ولكن المحزن حقاً هو ذلك الاقتتال الوحشي الذى دار بين بعض الفرق. وهو ما يجب أن لا نتظر إليه مجرداً، بل يجب أن نتصوره كما أوضحت من قبل فى الإطار الحضارى الذى نشأً فيه. وكما قلت من قبل، فإن مبدأ الشورى الإسلامية لو ظل قائماً يعمل فى المجتمع الإسلامي، ولو أن اختيار الأئمة استمر ديموقراطياً وعن طريق البيعة الصحيحة، لما كان كل هذا العنف الذى نسمع ونقرأ فى كتب التاريخ قد جرى. وبالتالى فإنني أرى فى استدلال الدكتور وصفي بقول الله تبارك وتعالى فى سورة الأنعام ” إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ” توظيفاً للآية الكريمة فى غير موضعه يصادر على المناقشة ولا يخدمها. ذلك أن الوحدة التى كان يمكن أن تقوم بعد تحول الخلافة القائمة على الشورى إلى ملك عضوض ما كانت لتستقر إلا بإلزام المسلمين كافة برأى بعينه كان يعتمد مظهريات الشورى وخداع البيعة، ويرى أن إمامة معاوية وألاده – ومن لحقهم من الخلفاء – ثبتت باتفاق أهل الحل والعقد فى الأمة، وهو الرأى الذى رفضه كثيرون وفى مقدمتهم صحابة أجلاء لم يرضو الخضوع للظلم، وأبو التهادن على حساب الحق، وأصروا أن يقوموا بواجبات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويسبق هذا كله أن الذين ندينهم نحن اليوم إنما كانوا يعيشون الصراع فعلا وواقعاً، وكانوا يتصرفون وفقاً لمقتضياته، وبالتالى فإن من واجبنا ونحن ندرس التاريخ أن نأخذ ذلك كله في الاعتبار فلا نتحامل عليهم.

وقد استند الدكتور وصفى فى رفضه لتعدد الفرق كحجة لإمكانية تعدد الانتماءات السياسية للمسلمين إلى ان قيام الفرق – وما يتبعه من قيام الأحزاب لم يكن له وجود فى عهد الرسول، وأنا أوافق مطلقة فيما قرره توصيفاً لعهد الرسول وغياب الفرق فيه. ولكنني لا أوافقه على إمكانية انسحاب ذلك على العصور اللاحقة. ذلك لأن وجود الرسول صاحب الدعوة – وصاحب السلطتين الدينية والدنيوية – كان وحده كافياً للحيلولة دون تفرق المجتمع الإسلامي الوليد المتحمس للدين الجديد المنقاد له فى حماسة غيورة.

فإذا أصفنا إلى ذلك محدودية ذلك المجتمع وبساطته وعدم اتساعه، وكذلك انحسار الإسلام فى الجزيزة العربية، وعدم احتكاكه أو اصطدامه أو تفاعله بطريقة مؤثرة مع حضارات وثقافات أخرى حتى انتقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى الرفيق الأعلى، فإن ظاهرة غياب الفرق تصبح حتما لا مناص لها منه. أما وقد رحل الرسول فقد جدت مسألة الاستخلاف، وكانت المدخل الطبيعي إلى الخلافات والصراعات التى حدثت بين الصحابة منذ محاولة اختيار أبى بكر، وتصاعدت حتى بلغت خوض الحروب عند استخلاف على بن أبى طالب كرم الله وجهه. ثم كان اتساع المساحة الإسلامية بعد الفتوحات، والتعامل مع الحضارات القديمة، ونمو حركات الترجمة، فكان التعامل مع الفلسفات القديمة هو المدخل المباشر لنمو علم الكلام واتساعه ومنهجته واستخدامه فى بلورة الأشكال الفكرية والدينية للفرق، وتوطيفة لخدمة الانتماءات السياسية فى أحيان كثيرة.

ويحسن هنا ان أثبت أننى إذ قصدت أن أوظف وقائع التاريخ الإسلامي، وأن أبرز ظاهرة الفرق فيه، لم أكن أهدف البتة أن تقوم فى عصرنا الراهن فرق مشابهة لتلك التى قامت من قبل. فأنا لست أدعو إلى خلاف محدث فى الأصول ينشئ كلاميين محدثين ينتسب كل منهم إلى فرقة كلامية محدثة.

ذلك لأن المقتضيات التاريخية التى شكلت الفرق القديمة غير قابلة للتكرار من جهة. كما أن المستوى الذى يمكن أن تجرى علية الخلافات بين المسلمين المعاصرين هو فى الحقيقة مستوى حياتى عملى يبحث فى المشكلات اليومية للإنسان المسلم وليس مستوى عقيدياً يتعلق بركائز العقيدة الدينية التى تتحدد إسلامياً فى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فتلك الركائز موضع إقرار وتسليم وقناعة من كافة المسلمين الذين نبحث فى إمكانية لتصنيفهم إلى تيارات (أو فرق) سياسية وفقاً لمفاهيم العصر ومعطياته وأساليبه[7]

أما ما يمكننا الاستفادة به من دراسة ذلك التاريخ بكل تعقيداته وخلفياته وملابساته فهو إقناع أنفسنا وإقناع الآخرين أيضا بأن المجتمع المسلم مثله مثل جميع المجتمعات الإنسانية تسري فيه القوانين الحاكمة للعمل الاجتماعي والفعل السياسي والنمو الاقتصادي والتطور الحضارى، وأن أهله مثلهم كمثل أهالى المجتمعات الأخرى ليسوا كلا مصمتاً، مغيب الملامح، مجهل السمات، متوحداً استاتيكياً، ولكنهم قابلون للتوزع فرقا وأحزاباً وتيارات وقوى سياسية ديناميكية الفهم والسلوك والممارسة.  وقد توزع المسلمون الأوائل فرقاً، واختلفوا فى أحيان كثيرة، واقتتلوا فى أحوال أكثر، وشارك كل من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين فى الصراع، وبقوا جميعاً داخل دائرة الدين بالمقاييس التى يعرف بها الإسلام والإيمان. ورغم اقتتالهم فان صفة الإيمان تبقى لصيقة بالطرفين المتحاربين تصديقاً لقوله تعالى فى سورة الحجرات : ” وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلو فأصلحوا بينهما….”

ويستتبع ذلك بالتالى أن يكون فى مجتمعات المسلمين المحدثين تفاوت بين الأفراد والجماعات فى الفهم والإدراك السياسى للقضايا المعاشية، مع فارق أساسى، وهو أن تكون هذه التفاوتات محكومة بالسماحة الإسلامية فى المحاجة والتعامل، وأن تكون محكومة حضارياً باعتماد الديموقراطية منهجاً وأسلوباً لتقويم الآخرين والتفاعل معهم والقبول بهم أصحاب حق فى المجتمع وشركاء فى المصير وأخوة فى الدين. والترجمة السياسية المعاصرة لهذا التفاوت أن يكون البعض من المسلمين يمنياً، بينما يصير البعض الثاني يسارياً، فى حين قد يفضل البعض الثالث أن يتوسط فى مواقفه واختياراته.

دعم فقهى لحرية الانتماء السياسي للمسلم

حين حاولت تأكيد حق الانتماء السياسي للمسلم من منطلق فقهي، أزعم أن الاجتهاد فى مجال الفقه ينشئ أحزاباً أو فرقاً. ولكننى قلت ما نصه : “والفقه الإسلامي لم يخل فى حين من الدهر من ظلال مباشرة للسياسة أو ظلال غير مباشرة لها، فهناك فقه للسنة، وفقه للشيعة، وفقه خارجي، وفقه معتزلى …. إلخ”. وكل الذى يعنيى فى هذا الشأن أن أبين أن أحد مصادر الخلافات الفقهية يعود إلى الخلافات بين الفرق، وتلك بدورها مردودة إلى الخلافات بل إلى النزاعات السياسية.

ومادام هذا هو بالتحديد ما كنت أعنيه فإنني أتفق مع ماذهب إليه الدكتور وصفى حين أوضح ” أن الخلاف فى الاجتهاد يؤدي إلى إنشاء مذاهب فقهية لا فرقا دينية. فالخلاف فى العقيدة يؤدي إلى إنشاء الفرق.

والخلاف فى الاجتهاد يؤدي

والخلاف فى الاجتهاد يؤدي إلى إنشاء المذاهب. وهذه الدرجة من الخلاف فى الرأى لا تؤدى إلى استفحال الخلاف لدرجة إنشاء الأحزاب تبعاً لها”، مع إثبات تحفظى بأن الفرق الكلامية تابعة للأحزاب السياسية وليس العكس.

ولكن تقرير هذه الوقائع التاريخية والالتزام بها والاتفاق بشأنها مع الدكتور وصفى لا يصادر حقنا فى اتخاذ الاجتهاد الفقهى مؤشراً نستدل منه على أن المسلمين لا يعيشون النصوص الدينية ذاتها، ولكنهم يعيشون فهمهم لهذه النصوص. وهذا الفهم متغير ومتحول. وهذا التغير والتحول ينشأ من تباين المجتهدين من جهة، كما أنه ينشأ عن مرونة الأدلة الشرعية التى يستصدر هؤلاء أحكامهم عنها من جهة ثانية. فإذا كانت ” المصالح المرسلة” وإذا كان “العرف”، وإذا كان “الاستحسان” مصادر شرعية لا ستصدار الأحكام الفقهية، فإن هذا يرتب فعالية للزمان وللمكان فى صياغة هذه الأحكام. ولعل فى التفاوت بين فقه الإمام الشافعي فى العراق وفقهه فى مصر دليل موثق يؤيد هذا. ولعل فى اعتماد “تغير الأحكام مع تغير المكان والزمان” قاعدة فقهية شرعية ما يعضده. والمقولة الحماسية التى نتملق أنفسنا بها صباح مساء حين نعلن أن “الإسلام صالح لكل زمان ومكان” لا تستقيم ما لم تؤسس على الاجتهاد المتجدة أداة لفهم الواقع وتحليله وتقنينه إسلامياً دون تعسف ودون افتئات. وهذه المقولة تتطلب منا أيضاً أن نتيقن أن الإسلام لم يعطنا تصوراً قياسياً لمجتمع يمكن أن نقيمه خارج الزمان والمكان. فنحن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أعلم بأمور دنياناً” ونحن من الذين سبقونا بمنزلة الإمام أبى حنيفة من الذين قال عنهم: ” هم رجال ونحن رجال”.

وأمور الدنيا التى نحن أعلم بها أوسع وأعقد وأجل شأناً من تأبير النخل أو اختيار موضع نزول الجيش فى موقعة قتال، وهي الحالات التى يحاول البعض أن يوهمنا أنها هى حدود علمنا بدنيانا. إن أمور دنيانا  تتسع لتشمل كل ما يلى العقائد الدينية، والعبادات الدينية، والحلال والحرام الدينين. وهى تكاد تشمل كل ما يبوت فى الفقه تحت التسمية العامة

” المعاملات”. وفى المجتمع المعاصر تدخل هذه المعاملات بصورة أو بأخرى ضمن الأمور السياسية وفهمنا لهذه الأمور يجب أن يتوافق مع واقعنا الجغرافي والزماني دونما تجاوز لأى من المبادئ أو القيم الكلية التى يلزمنا بها ديننا  الحنيف. وإذا أخذنا اجتهادات الفقهاء القدامى فى العقود والبيوع على سبيل المثال فإن فى إمكاننا أن نستشف أن هؤلاء الفقهاء لم يبتدعوا هذه العقود بمجهود ذهنى، ولكنهم حصروا أساليب البيع والشراء، وأنماط التعاقد فى المجتمعات التى عاشوا فيها، ثم دأبوا على تصنيفها وتبويبها، وبيان صحيحها من سقيمها قياساً على القواعد الكلية العامة التى تحكم البيع والشراء والتعاقد ( والتعامل الاقتصادي بصفة عامة كما حددها الإسلام).

وإذا كانت الأمور الحياتية هي بمنطق العصر ذات طابع سياسي، وإذا كان من حقنا أن نتعامل معها تحليلا ودراسة واختلافاً كما تعامل قدامى الفقهاء مع مشكلات مجتمعاتهم القديمة، فإن هذا يجعلني أتحفظ على ما قرره الدكتور وفي إذ يقول: “وهكذا فإن اختلاف المسلمين فى الاجتهاد – ونشوء المذاهب تبعاً لذلك – لايفتح الانتماء السياسي ولا ينشئ الأحزاب”. كما يجعلني أختلف معه تماماً فيما ذهب إليه تعليقاً على بعض ما كتبته عن الشورى إذ يعلن: “ولذلك لا أرى رأيه فى أن الاعتراف بالشورى يوجد مناسبة الانتماء … فمجال الشورى هو الأمور المباحة فقط والتى لا نص فيها. ولذلك فهو لا يوجد أى مناسبة للخلاف الجدى الذى يفرق به مسلم عن آخر”

إن الأمور التى يجدر الالتفات إليها أن الأنتماء السياسى فى أى مجتمع معاصر يعمل بالتحديد فى نفس المساحة التى تعمل فيها الاجتهاد الفقهي.

وهذه المساحة تتسع بتقدم الزمان وتعقد المجتمعات. وحتى لو سلمنا بأن الاجتهاد الفقهي يكون فى الفروع والنوازل دون غيرها من الأصول لوجدنا أنه في المجتمع الحديث يعد من الفروع والنوازل كل من النظام السياسى للدولة، والتنظيم الإدارى لها والترتيبات الاقتصادية فيها، وأنظمة الخدمات والتنمية الاجتماعية بها. ويترتب على ذلك أن لاشئ من أنشطة المجتمع ذات الطابع الجماعي إلا ويقع تحت طائلة الاجتهاد. وهذه الأنشطة تقع فى الوقت ذاته فى دائرة الخلاف السياسي بين الأفراد أو بين القوى السياسية المتحاورة أو المتصارعة حول كيفة ترتيب هذه الأنشطة، وتوزيع الأعمال والثروات والعوائد بين الجميع، وكيفية مواجهة المشكلات الاجتماعية – الاقتصادية – السياسية التى تلم بالمجتمع، والبحث عن أنسب الطرق وأكثرها ملاءمة للخروج من هذه المشكلات.

وليسمح لى الأستاذ الدكتور وصفى رغم معرفتي بتفرقة يقيمها ويصر عليها بين الديموقراطية ( بلغة العصر) والشورى (بلغة الشرع) أن أقرر أن الديمقراطية أو الشورى فى المجتمع المعاصر تعمل فى تلك المساحة ذاتها التى يعمل فيها الاجتهاد.

ومن هنا فإنني أتصور أن الاجتهاد الفقهي، مثله مثل الشورى يفتح باب الانتماء السياسى بمفاهيم العصر، وليس بالمفهوم التاريخي المتوارث الذى تقف خبرته عند حدود التكوين الآ لى للمذاهب (أو الفرق) التى قد تختلف فى الأصول وفى الفروع على حد سواء، والتى تمتد فعالياتها إلى التصرفات الفردية من عقائد وعبادات كما تمتد أيضا إلى التصرفات الاجتماعية (أو الجماعية) ممثلة فى المعاملات. والاجتهاد والشورى يفتحان الباب أمام تعدد الرؤى والتصورات الإسلامية لحل مشكلات المجتمعات المعاصرة وترتيب الأمور المعيشية فيها ضروريات كانت أو حاجيات أو تحسينات. وهذاى التعدد فى الرؤى قد يتمثل فى مواقف فردية لأعضاء المجتمع المسلم، وقد يتمثل فى تجمع هؤلاء المسلمين فى تيارات تعمل فى الحياة السياسية تنطلق جميعها من المعطيات الإسلامية، ولكنها تتفاوت فى تصور القضايا والمشكلات وأساليب العمل. وهذه التيارات ستتوزع بغير شك بين المحافظة والتجديد، وأن بين النزوع إلى التحديث والتمسك بالقديم، أو بين العمل على التغيير إلى ماهو أفضل والدفاع عما هو قائم، أو بين الانفتاح على خبرات العصر ومعطياته والإنغلاق على التراث القديم والاكتفاء باجتراره دون وعى وبغير فاعلية.

ولأن هذه التيارات، حتى بعد تبلورها فى كيانات تنظيمية، تختلف فى الفروع والنوازل على وجه التحديد، وتهتم بالأمور العملية وليس القضايا العقيدية المجردة، فان المتوقع أن تكون هذه التيارات سياسية فى جوهرها قبل أن تكون دينية. ولا ينفى هذا أنها قد تنزع إلى صياغة تصوراتها، وتقويم رؤاها، وترشيد سلوكياتها، وضبط أفعالها، على أساس من المعايير الدينية الكلية. وأياَ تكن التصفيات أو التسميات التى تختار لتوصيف هذه المواقف المتنوعة والتيارات فان ذلك يؤول كله في النهاية إلى ما نعبر عنه بلغة العصر بوجود فهم يسارى أو فهم يمني للمعطيات الإسلامية، وإمكانية توظيف هذه المعطيات ومزجها بالخبرات المعاصرة لحل المشكلات الاجتماعية – الاقتصادية (المعاشية فى لغة الشرع) فى المجتمع الإسلامي المعاصر.

الدين والأيديولوجية

بعض الذين يتناولون الأيديولوجيات المعاصرة، خاصة أولئك الذين يبدأون من منطلقات دينية، يقعون دائماً أسرى مجموعة من التصورات الخاطئة حول هذه الأيديولوجيات. ولا يكون الإنسان مبالغا إذ يؤكد أن الأوهام وليست الحقائق هى الأدوات التى يستخدمها البعض منا للتعامل مع هذه الأيديولوجيات أو حتى للاقتراب منها. وخطورة هذه المواقف اللاعلمية غير السوية أنها تحول بين المسلم المعاصر وبين الإدراك الموضوعي لحقائق عصره، كما أنها تفرض عليه قيودا فيما يتعلق بامكانية استخدام وتوظيف الخبرات المعاصرة لحل المشكلات المحدثة فى مجتمعات اليوم. وبسبب هذا القصور فى فهم وتوظيف وتقويم الأيديولوجيات المعاصرة فإن الطعن فى عقائد الذين يقتربون اقترابا موضوعيا أو مصلحيا من هذه  الأيديولوجيات يصبح واردا. والنتيجة الحتمية لهذا الاقتراب العدواني من العقائد الدينية للناس أننا ندفعهم دفعا إلى التجرؤ على حسم التناقض المصطنع الذى يعيشون فيه بين عقائد دينية هى موضع احترام وقبول وجداني منهم وبين أيديولوجيات تعيش واقعهم ويمكنها أن تقدم حلولا جادة وعملية لمشكلاتهم الحياتية. وللأسف الشديد، ولنكن صرحاء حتى لانخدع أنفسنا، فإن حل هذا التناقض فى طابعه العام يتم حتى هذه اللحظة على حساب العقيدة الدينية. وهذا الجنوح إلى القبول بالأيديولوجيات المعاصرة من كثيرين إنما يزكية الثقل الرهيب للمشكلات الاجتماعية – الاقتصادية المعاصرة، ونجاح هذه الأيديولوجيات فى تناول وحل هذه المشكلات.

إن الدرس الذى تم تلقينه للعقيدة المسيحية فى الغرب يجب أن يكون حاضرا في أذهاننا، ويجب علينا أن نعيه تماماً، وأن ندرك خلفياته التاريخية، وأن نستوعب آثاره الحياتية. إن الصدام الدامى الذي دار بين الكنيسة وبين الأيدلوجيات التى تمخض عنها الواقع الاجتماعي الذى مرت به أوربا فى القرنين التاسع عشر والعشرين، وقد أكد لأنصار التطوير أو التثوير فى تلك المجتمعات أن فى تحجيم دور الكنيسة أو حتى فى تغيها المخرج الحقيقي من ذلك المأزق المتجدد إلى مالا نهاية. وتلك هى الحقيقة فيما آلت إليه أحوال الكنيسة الغربية سواء فى الغرب الرأسمالي أو فى الغرب الماركسى.

وإذا كانت نتيجة الصراع الكنسى – الحضارى الى عاشها الغرب قد حسمت عمليا لمصلحة الأيديولوجيات المعاصرة وعلى حساب الدين، إلا أنني أزعم أن تكرار ذلك مع الإسلام غير وارد، بل هو فى تصورى يمكن أن يكون مستحيلا. وصعوبة ذلك أو استحالته لا ترجع إلى تلك المقولات الوجدانية الحماسية التى تتحدث عن الشعوب المتدينة بطبيعتها أو إلى تلك الأوهام التى تكل الأمر إلى الموتى من الأولياء والصالحين، ذلك لأن أمثال تلك المقولات وتلك التوهمات كانت قائمة فى الغرب المسيحي، بل وربما كانت أكثر رواجا مما هى عندنا، ولكنها لم تصمد أمام التراكمات التاريخية ولا أمام المتطلبات الحياتية الى يستحيل غض الطرف عنها أو الفرار منها.

وفى المقابل، فإن قدرة الإسلام على الصمود فى ذلك الصراع، بل والتفوق فيه، تمكن فى كونه فى جوهره دينا سياسيا يتسع لاستيعاب كافة المتطلبات المعاشية للإنسان ويمد تأثيره إليها. وتمكن أيضا فى اعتماده لاجتهاد وسيلة لتعديد المواقف وتنويع التصورات تجاه القضايا الحياتية التى تعرض للمسلم بما يؤكد صلاحيته لكل زمان ومكان. ثم إنها تمكن بالإضافة إلى ذلك فى سعة المساحة التى يتركها الإسلام لحركية وفاعلية الجهد الإنساني، والتى تضم كل الأنشطة والمتطلبات الحياتية الإنسانية التى لاتدرج ضمن العقائد الدينية، أو العبادات الدينية، أو الحلال والحرام الدينين. كل هذا بالإضافة إلى عدم وجود سلطة مجمعية دينية فى الإسلام يمكنها لو انحرفت أن تضع الدين فى مواجهة فناء أو بقاء أمام المد الحضاري المحدث، وهو بعض أسباب ما حدث فى الغرب، وكذلك عدم وجود مطالبات ثأرية بين الإسلام وبين أجنحة الحضارة المعاصرة علماً كانت أو فلسفة أو أنظمة سياسية.

والمعرفة الموضوعية بالأيديولوجيات المعاصرة هى الكفيلة باخراجنا من دائرة الرفض العصبي لكثير من التصورات الحديثة، كما أنها تؤدي حتما إلى تحولنا إلى اعتماد الدعوة بالإيجاب بديلا للدعوة بالسلب. والدعوة بالإيجاب تعنى أن نطرح تصوراتنا للمشكلات وحلولنا المقترحة لمواجهتها. أما الدعوة بالسلب فإنها تعنى التوقف عند حدود التحقير أو الإدانة أو الهدم للتصورات والحلول التى يطرحها الآخرون.

وأعود إلى التصورات السلبية والأوهام الخاطئة التى يتبناها البعض بخصوص الأيديولوجيات المعاصرة وأحددها فى الآتى:

  • لعل أخطر وأخطا ما يقع فيه البعض أنهم يفترضون المساواة من وجهة نظر اعتقادية بين الدين وبين الأيدلوجية. ومثل هذا التصور يغلق الباب تماماً دون الأخذ العملى أو المنفعى عن هذه الأيديولوجيات، كما أنه يكرس عداء محكما بينها وبين الدين. ولعل هذا هو الذى يدفع هؤلاء إلى الزعم باستحالة الجمع بين العقيدة الدينية وبين أى من الأيديولوجيات المعاصرة وأحسب أن هذا الاعتقاد نفسه هو الذى دفع الأستاذ الكبير الدكتور مصطفى كمال وصفى مع احترامي الكامل لشخصه إلى القول فى أعقاب حديثة عن الفلسفات العامة لكل من الإسلام. والنظام الرأسمالي، ثم النظام الاشتراكي: “ومن المستحيل على المسلم أن يجمع بين هذه العقائد الثلاثة فى وقت واحد، وبالتالى يستحيل أن يصير مسلماً يمينياً او يسارياً أو وسطاً”. بل وأحسب أن هذا هو الذى دفعه فى مواضع أخرى إلى رفض حتى مبدأ الأخذ الجزئى عن هذه النظم، بل ووصف محاولة الأخذ هذه بأنها تلبيس لا يجوز للمسلم أن يقع فيه.

إن تحديد مفاهيم الدين والأيديولوجية تصبح واجبة حتى يمكن إزالة اللبس الذى يفتعله البعض حولهما.

والدين لغة يطلق على الحساب وعلى المكافأة وعلى الطاعة وعلى الإخضاع.

ويطلق فى الشريعة على ما يؤخذ به العباد من التكاليف[8]. فالدين إذن يحمل معاني الجزاء والخضوع. وفى الأديان السماوية فان مصدر الدين إلهى، وهذا هو المصدر الحقيقي للإلزام فى الدين. والمحكم من الدين مستمر وثابت (منه آيات محكمات هن أم الكتاب …. 7 – آل عمران)، أما المتشابة منه ففهمه وتأويله متروك للناس خاصة الراسخون فى العلم منهم. والحلال والحرام فى الدين الإسلامي لا يقوم إلا على نص ديني قطعي الدلالة.

والأمور الغيبية والاعتقادية فى الدين، مثلها مثل العبادات، تثبتها وتؤكدها النصوص الدينية. والدين السماوى عالمى النزعة وموجة إلى الناس كافة.

ودون التعرض للتطور التاريخي للمصطلح ” أيديولوجية” يمكننا القول بأن المعنى الحديث للمصطلح ينصرف إلى : “نسق الأفكار والمعتقدات والاتجاهات التى تؤسس عليها طريقة الحياة لمجموعة محددة أو طبقة أو مجتمع”. وعن منشأ الأيدلوجيات تضيف الموسوعة الدولية أن : “الأفكار والمشاعر التى تشكل الأساس لأيديولوجية ما تنهض عندما تعجز المعتقدات والقيم القديمة عن تقديم التفسيرات المقنعة والحلول للمشكلات المتجددة [9]

فالأيديولوجية فى فهم العصر إذن إنسانية الطابع والمصدر، وتعبر عن احتياجات حياتية تنشأ فى الواقع الاجتماعي، وتتغير بتغير هذه الاحيتاجات، كما أنها تعمل أساساً فى إطار الوجود المادى للمجتمع. ويترتب على ذلك أنه لاقداسة ولا ثبات لأى من الأيديولوجيات المعاصرة. ويترتب عليه أيضاً أن إمكانية الأخذ والاستبعاد والقبول والرفض من هذه الأيديولوجيات ليست مشروعة حضاريا فقط ولكنها ضرورية أيضاً. ولما كانت كل أيديولوجية إنما تستجيب مع الأفكار والمشاعر التى تنمو فى مرحلة زمنية معينة وفى واقع اجتماعي معين، فإن هذا يعني أن التقويم الصحيح لهذه الأيديولوجية لا يمكن أن يتم بغير إدراك الخلفية التاريخية التى نشأت ونمت فيها هذه الأيديولوجية. ويصبح محتما فى حالة السعى إلى الاستفادة من أيديولوجية ما فى ظروف تاريخية وبيئية مختلفة نسبيا عن الظروف التى أفرزت هذه الأيديولوجية أن يتم التجاوز عن العناصر من هذه الأيديولوجية التى ترتبط ارتباطاً ذاتياً (وليس موضوعيا) بالظروف التاريخية والبيئية الخاصة. ولعل من الأمثلة على ذلك موقف الأيدلوجيات الغربية بصفة عامة من الكنيسة نتيجة التراث العدواني بينهما. وارتباط ذلك بالخلفية التاريخية التى نشأت فى إطارها هذه الأيديولوجيات.

فإذا اتفقنا إذن على أن الدين الإسلامي يترك لاجتهاد الإنسان المسلم حيزا ضخما من حياته قد يتسع ليضم أغلب أنشطته الحياتية، وإذا اتفقنا أن الأيديولوجيات المعاصرة تقدم الخبرة المحدثة لترشيد وضبط الممارسات الإنسانية فى الحياة اليومية، فإن ذلك قد يؤدي إلى القبول بامكانية المزاوجة بين العقيدة الدينية وبين الانتماء السياسي.

  • ومن المؤاخذات التى يجدر تسجيلها على تصوراتنا للأيديولوجيات المعاصرة ذلك المنحى الأخلاقي الذى نآخذ به عند تقويم هذه الأيديولوجيات، وذلك بديلا للتناول الموضوعي لها، ويعيب هذا التناول الأخلاقي أنه قد يقف عند بعض الظواهر الأخلاقية فى مجتمع ما ثم يتعسف فى ربطها بالأسس الفكرية والاجتماعية التى يقوم عليها النظام متناسيا أن الظواهر الأخلاقية لصيقة بالطبيعة الإنسانية وقابلة للتواجد بصورها السلبية أو الإيجابية فى مجتمعات تقوم على إلصاق أيديولوجية مختلفة قد يتزامن وجودها فى التاريخ، وقد تبعد المسافة الزمنية التى تفصل بينها. ولعل فى تعلق بعض كتابنا بشؤون العلاقات الجنسية فى المجتمعات الغربية واتخاذها مدخلا للهجوم على النظم الاقتصادية الاجتماعية فى تلك المجتمعات واحدا من المسالك الأخلاقية التى نأخذ بها في تقويم هذه النظم. ويترجم هذا فى كتاباتنا عن هذه المجتمعات بتصوير الغرب الرأسمالي غابة جنس داعرة لا ضوابط فيها وهى صورة شديدة التبسيط ساذجة المبالغة، بينما الغرب الاشتراكى يقوم على شيوعية النساء والجنس وهى صورة كاذبة من الأساس. وللأسف الشديد فإن الأستاذ الجليل الدكتور وصفي قد اتبع هذا الأسلوب نفسه وهو يتحدث عن تلك المجتمعات.

إن تسيب الممارسة الجنسية ليس رهنا بالمجتعمات المعاصرة فقط. فبعض دول العالم النامى خاصة تلك الدول التى انتقلت من البداوة إلى الانحلال تشيع فيها أنماط من السلوك الجنسي مرضية ومقززة. وحتى فى التاريخ القديم لم تخل حضارة كبرى أو صغرى من مثل هذا. فر وما القديمة قد شهدت ازدهار للدعارة الخلقية. ومجتمع شبه الجزيرة الجاهلى لم يخل من مشابهات لهذا وفى أوربا القرون الوسطى دفع عبث النسوة (مع رجال طبعاً) أزواجهن ان يصنعوا لهن أحزمة للعفة. وحتى المجتمع الإسلامي، فيما بعد عصر الخلافة الراشدة، لم يخل من تجاوزات أخلاقية غير سوية، يمكن إدراكها من أدب وحضارة العصرين الأموى والعباسي. وهذه التجاوزات التى كانت ألصق بالحكام والأمراء وبعض الشخصيات العامة فى المجتمع من شعراء وأثرياء لايمكن الاستشهاد بها ضد الإسلام كدين لأنه يدينها صراحة ليس فقط على مستوى الفلسفات العامة بها وعلى مستوى الأحكام التفصيلية. وفى الاتحاد السوفيتي يتميز التقنين للممارسات الجنسية بالصرامة على العكس من التساهل الذى يبدو فى دول شيوعية أخرى كبولندا وألمانيا الشرقية…. وبالتالى يمكن القول أن المسلك الأخلاقي لمجتمع ما، وإن كان يتأثر بالأيديولوجية السائدة، إلا أن الصياغة النهائية لهذا المسلك إنما هىمن صنع الثقافة العامة، والإرث التاريخي، والوضعية الحضارية، ونسق القيم السائدة فى المجتمع.

وحتى لا تستغرقنا التفاصيل، فإنني أذكر بأن الأيديولوجية كما سبق تعريفها تعبر عن احتياجات اجتماعية موضوعية. وهذه الاحتياجات، ونجاح الأيديولوجيات فى إشباعها، هى على وجه التحديد العناصر التى يلزم أن يؤسس عليها تقويم هذه الأيديولوجيات.

  • والتبسيط المخل للأيديولوجيات المعاصرة واحد من الآفات الفكرية غير العلمية التى تصيبنا عندما نتعرض لهذه الأيديولوجيات. وهذا الفهم المختل للأيديولوجيات المعاصرة يرجع  إلى أن البعض منا يكون تصوراته عنها من الدعاية الإعلامية المعادية التى تنطلق حولها، كما يرجع إلى أنه حتى البعض الآخر الجاد فى قراءاته عن هذه الأيديولوجيات لا يزال يتعرف عليها فى أدبيات القرن التاسع عشر بكل ما فيها من قصور. ولهذا فنحن لانزال نقرأ للبعض أن النظام الرأسمالي يقوم على فلسفة فردية تقضى أن يكون الإنسان حرا حرية مطلقة وأن يكون حقه في الملكية لا قيود عليه، بينما النظام الاشتراكي يؤسس على فلسفة جماعية لا تقيم اعتبار للفرد وتدعو لإقامة نظام قوامه إلغاء الملكية الخاصة، وإلغاء الأسرة والأديان، وتحقيق عدالة اجتماعية على أسس مادية. وبالطبع فإن هذه التصورات المبتسرة تتغافل عن التطورات التى تلحق بالأيديولوجيات المعاصرة، وتسقط من حسابها الإضافات والتغيرات والتعقيدات التى تظهر فى أدبياتها المحدثة أو فى تطبيقاتها المتجددة.

ومن هذا على سبيل المثال ان يقوم تأميم لصناعة الفحم وصناعة الصلب وأن تمتد سيطرة الدولة فى انجلترا إلى صناعات كثيرة ثقيلة أو استراتيجية. ومنها أن تكون صناعة السيارات وصناعة الطائرات فى فرنسا هى فى الأساس تحت سيطرة الدولة. ومنها أيضا بقاء الملكية الخاصة بكل واحترامها فى أعنى الدول تشداد فى الممارسات الماركسية فى الحكم. وكذلك قاء الزواج الكنسي فى دول شيوعية مثل ألمانيا الشرقية والمجر. ثم وجود تعدد حزبي فى بعض هذه الدول مثل يوغوسلافيا وألمانيا الشرقية، بل ووجود حزب ديني (مسيحي) فى دولة مثل ألمانيا الديموقراطية هو الحزب المسيحي الديموقراطي الذى يمثل بنسبة 10% من المقاعد فى مجلس الشعب وهى نسبة ليست بالقليلة إذا ما عرفنا أن الحزب القائد وهو الحزب الاشتراكي الموحد يمثل بنسبة 25% فقط، هذا إضافة إلى أن رئيس مجلس الشعب الحالى ينتمى إلى هذا الحزب المسيحي الديموقراطي.

إن النظرة المبسطة أو الخطية أو الواحدية للتجارب والأيديولوجيات المعاصرة تؤدي عادة إلى تضخيم جزئيات أو فرعيات من الأبنية المعقدة للأنساق الفكرية والتنظيمية لها مما قد يترتب عليه تنمية نوع من الحساسية المرضية أو المعقده حيالها، وبالتالى يصعب الاقتراب منها او التعامل معها أخذا وعطاء، وهو عيب يجعل إمكانية التعايش مع العالم المعاصر صعبة إن لم تكن مستحيلة.

والرؤية التآمرية للإضافات الفكرية والأيديولوجية المعاصرة عائق آخر يحول دون تفاعلنا مع الواقع المعاصر. وقد يكون هذا نتيجة لتوهم البعض منا أن الأيديولوجيات إنما هى مجرد إبداعات ( أو تخريجات) ذهنية مجردة لبعض المفكرين الذين هم موضع شك، وكذلك عدم إدراك هذا البعض للضرورات الاجتماعية – الإقتصادية التى نشأت فى رحابها ومن أجلها هذه الأيديولوجيات. ودون دخول فى التفاصيل فان مثل هذه الرؤية هى التى تترجم فى كتابات تصدر بين ظهرانينا – وتوشك أن تكتسب نوعا من الاستقرار والقداسة – تتحدث عن مؤامرة يهودية لهدم العالم والسيطرة عليه (ويأتي الإسلام فى مقدمة أهداف المؤامرة بالطبع …) لمجرد أن بعضاً من الرواد الكبار الذين عرفهم العالم الحديث وأثروا فى تطوره تأثيرا بارزا هم من اليهود. ويأتي فى مقدمة هؤلاء بالطبع دارون عالم التاريخ الطبيعى، وفرويد عالم التحليل النفسى، وماركس عالم الاقتصاد، ودور كايم عالم الاجتماع.

وبغض النظر عن جوانب الاختلاف أو الاتفاق مع كل أو بعض ما كتبه هؤلاء، بل وتجاوز العصر للكثير من الإضافات والمعطيات الفكرية والأيديولوجية التى قدموها، فان الموقف الرافض العصبي تجاههم هو فى محصلته النهائية سلبي وليس إيجابياً. ذلك لأنه حتى ولو لم تكن هناك حاجة للاستفادة الجادة من الإبداعات العلمية لهؤلاء، فاننا على الأقل نعيش مع آخرين عصرا واحدا يتأكد توحده المكاني والزماني يوماً بعد يوم، بل وساعة بعد ساعة، مما يفرض علينا أن نقبل بتفاهم وتعامل وتعايش مع هؤلاء الآخرين.

وخلاصة القول بشأن الأيديولوجيات المعاصرة أنها إنسانية المصدر، وموقوته بظروفها التاريخية، وتعبر عن احيتاجات اجتماعية وحضارية. وهى قابلة للتعديل والتبديل والتطور، كما أنها تعمل فى الواقع الانسانى وعلى الأخص فى المساحة المتعلقة بأمور المعاش، تلك المساحة التى تترك الأديان (والدين الإسلامى على وجه الخصوص) الحيز الأكبر منها لخبرة الإنسان ومصلحته المرسلة وعرفه واستحسانه. ومن هنا فان إمكانية الأخذ عن هذه الأيديولوجيات فى حدود الضوابط الدينية الكلية لا يتعارض مع العقيدة الدينية ولا ينتزعها من مكانتها السامية فيستبدل الذى هو أدنى بالذى هو خير.

وفقنا الله تبارك وتعالى إلى ما فيه الخير وهدانا إلى سواء السبيل.

[1] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، القاهرة، (1967)، الجزء الأول، ص163.

[2] د. محمود إسماعيل، الحركات السرية فى الإسلام، دار القلم، بيروت، (1973)، ص42- نقلا عن الدمشقي في تاريخ الجهمية والمتعزلة.

[3] الشهر ستاني، الملل والنحل، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، القاهرة، (1968)، الجزاء الأول، ص115.

[4] أحمد أمين، ضحى الاسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الجزء الثالث، الطبعة الثامنة، ص 278، 279.

[5] الشهر ستاني، المرجع السابق، ص 147.

[6] أحمد أمين، المرجع السابق، ص7.

[7] يمكن لمن يرغب فى استيضاح هذا الأمر بمزيد من التفصيل  أن يعود إلى الدراسة المنشورة للكاتب فى مجلة الطليعة القاهرة، عدد مارس 977، ص 99 وما بعدها، تحت العنوان ” الصواب والخطأ في مسألة اليسار الديني”.

[8] الإمام محمد رشيد رضا،  تفسير النار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهره (1972)، الجزاء الأول، ص46.

[9]  Encycloped 10 International, Corlier Incorporated, New York, (1970), Vol. 9,p.131.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر