Uncategorized

كلمة التحرير : بغداد مدينة السلام والحضارة والمحن

1– بغداد في ضمير الأمة:

منذ أن وجهت الصواريخ إلى بغداد في بداية أبريل، وأسقطت عليها الآف الأطنان من القنابل من كل نوع، وأصلتها المدافع العملاقة بوابل من النيران والمتفجرات، إلى  أن احتل مطارها ثم أحياؤها واحدًا بعد الآخر، وضمير الأمة العربية الإسلامية يتلظى بالأسى والحزن، فلا الجفون رقدت، ولا الدموع رقأت، ولا القلوب الواجفة هدأت واستكنت. نعم، 

قد يكون الناس فرحوا لسقوط نظام ظالم، وقد يكون آخرون قد أمنوا على ديارهم من غدرات جار طالما عانوا من عدوانه، وقد يكون هناك مهاجرون ومهجّرون قد تنفسوا صعداءهم على أمل العودة إلى ذويهم بعد أن أكرهوا على البعد عنهم، وقد تكون هناك آمال تخالج دعاة الإصلاح لتنظيم رجعة إلى عهود الاستقرار، تساندها نزعة إلى التحسين والتطوير ووضع بغداد والعراق كله في طريق الحرية، والشورى، والعدالة ، والحكم الدستورى الصالح – لكن ذلك كله لا ينفى الحقيقة المحزنة بأن بغداد، مدينة السلام والجمال والعلم والحضارة،  وعاصمة الرشيد، وقلعة الأسود – قد دُكت، وما أقسى ذلك على ضمير كل عربي ومسلم، اليوم وغدًا وإلى اليوم الذي يرفع فيه عراقيون موثوقون علم العراق بأيديهم، وبأيديهم وحدهم .

وبعيدًا عن الأحداث والتطورات والتحليلات – لا بجواز الغفلة عنها، أو اللامبالاة بها – لا يسع العربي المسلم المفكر إلا أن يقلب صفحات التاريخ ليتذكر ما كان من بغداد، وما ملأت به الدنيا وشغلت به الناس، عن صفات هذه المدينة العظيمة، وموقعها من التاريخ العربي والإسلامي بل والإنساني، وإنجازاتها على مر القرون منذ أن أنشئت سنة 145هـ . وفيما يلي استعراض لبعض هذه الصفحات التاريخية لكي لاننسى في زحمة الأحداث، ولكي نتطلع دومًا إلى استعادة المجد الذي شيدناه، والدور الريادي الذي اضطلعنا به .

2- بناء بغداد :

بغداد هي عاصمة الخلافة العباسية لمدة خمسة قرون وقد سبقتها بالتسلسل التاريخي، المدينة المنورة عاصمة الرسول صلى الله عليه وسلم ،  والخلافة الراشدة إلى سنة 35هـ، ثم الكوفة عاصمة الإمام على كرم الله وجهه إلى سنة 40هـ ، ثم دمشق عاصمة الأمويين من سنة 41هـ إلى سنة 132هـ . ولما قام الحكم العباسي اتخذ أبو العباس السفاح مقره في مدينة الهاشمية ( نسبة إلى جده هاشم بن عبد مناف) قرب الكوفة من سنة 132هـ ، إلى أن تولى أبو جعفر المنصور الخلافة سنة 135هـ ، فقرر إنشاء عاصمة أخرى تكون حائزة على الصفات اللازمة لذلك .

وللعرب في اختيار المدن والعواصم، معايير. قال ابن خلدون في المقدمة:  ويشترط في موضع المدينة أن تقع إما على هضبة متوعرة من الجبل. وإما باستدارة بحر أو نهر بها حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور، كما يشترط طيب الهواء للسلامة من الأمراض، وقرب الزرع منها ليحصل الناس على الأقوات.

ولم يُخِلّ أبو جعفر المنصور بهذا المنهج، إذ استشار من حوله على موقع مناسب لعاصمة الخلافة، وفرض من البداية شروط صحة، وهي ألا تكون في بلاد الشام ذات الميول الأموية والقريبة من الروم البيزنطيين المعادين، ولا قرب  الكوفة ذات الميول العلوية، وأن تكون قريبة من فارس مركز التأييد للعباسيين، وأن تكون حائزة على الصفات المدنية الأخرى من حيث توفير المصالح. ووقع الاختيار على بقعة على نهر دجلة فوق مصب نهر عيسى وهو أكبر قناة من قنوات نهر الفرات، وكانت في هذه البقعة قرية تعرف باسم بغداد .

وقال الناصحون (( الذى نراه أن تنزل في بغداد، وأنت يا أمير المؤمنين على الصّراة ( ممر مائي متصل بدجلة) ودجلة، تجيئك المِيرة ( أي الزاد) من القرب، وفي الفرات من الشام والجزيرة ومصر وتلك البلدان، وتحمل إليك طرائف الهند والسند والصين والبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك ميرة أرمينية وأذربيجان وما يتصل بها في تامرا (نهير آخر) وتجيئك ميرة الموصل وديار بكر وربيعة. وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر والقنطرة لم يصل إليك عدوك. وأنت قريب من البر والبحر والجبل .

وأمتحن المنصور بنفسه طبيعة بغداد وهواءها، ونام فيها ليلتين، ثم قال: هذا مكان صالح للبناء. وأمر مهندسيه برسمها، فرسموها على هيئة مستديرة ، في وسطها قصره المسمى قصر الخلد أو قصر الذهب، وكذلك مسجده الجامع ليكون قريبًا من كل الناس بالتساوى . ووضع بنفسه أول لبنة في بنائها قائلا: بسم الله وعلى بركة الله، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين . ابنوا على بركة الله)).

3- بغداد السلام والجمال:

أطلق على بغداد أول ما أطلق ((مدينة السلام)) و((دار السلام)) تيمنًا باسم الجنة في قوله تعالى في سورة الأنعام (6: 127): {لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقوله تعالى في سورة يونس (10: 25) : {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وللمفسرين في تأويل هذه التسمية للجنة أقوال: منها أنها دار المولى عز وجل ، لأن ((السلام)) من أسماء الله الحسنى، فهي بذلك تكون الدار المنسوبة إليه سبحانه. ومنها أنها دار السلامة من المكاره والآفات، فليس في الجنة شيء من ذلك، ونُزّالها لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ومنها أنها دار يُسلم الله فيها وملائكته على من يدخلها. قال تعالى في سوة يس ( 36 : 58): {سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}، وقال تعالى في سورة الرعد (13: 24): {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} . ولعل مدينة ((دار السلام)) الإفريقية عاصمة تنزانيا قد استعير لها هذا الاسم، فالمسلمون في تنزانيا يبلغون 90% من السكان، والغريب أن المدينة الإفريقية تقع في حضن استدارة من المحيط الهندى، فتكون قد أشبهت بغداد في التسمية والاستدارة معًا .

وأما أن بغداد مدينة جمال، فواضح حتى من تقييمات الأقدمين، لقد أطلقوا وصف الجمال، وجنة الأرض على أربعة مواضع هي: الأبُلة، وغوطة دمشق، ووادى بؤان و بغداد. والأبُلة مكان بالبصرة من جانبها البحري، ذكره ياقوت الحموى في معجم البلدان، وغوطة دمشق الوفيرة المياه والشجر معروفة، ووادى بوّان في فارس ذكره المتنبى في قصيدة منها:

مغاني الشعب طيبًا في المغاني            كمنزلة الربيع من الزمان

وقد تغنى الشعراء بجمال بغداد، فمن ذلك قول إبراهيم بن عرفة نفطويه:

منازل فيها كل حُسن وبهجة               وتلك لها فضل على كل منزل

وقال محمد النيرماني:

فقد طفت في شرق البلاد وغربها                   وسيّرُت خيلي بينها وركابيا

فلم أر فيها مثل بغداد منزلا                ولم أر فيها مثل دجلة واديا

وقال عمارة حفيد الشاعر الأموى جرير الخطفي:

صفا العيش في بغداد واخضر عوده                وعيش سواها غير خفض ولا غض

تطول بها الأعمار إن غذاءها                      مريء وبعض الأرض أمرأ من بعض

وقد وصف الخطيب البغــدادي (ت: 463هـ) صاحب ((تاريخ بغداد)) المدينة بقوله ((لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتميز خواصها وعوامها، وعظم أقطارها، وسعة أطرارها (ضواحيها) ، وكثرة دورها ومنازلها، ودروبها، وشوارعها، ومحالها، وأسواقها، وسككها، وأزقتها، ومساجدها وحماماتها، وطرقها وحاناتها، وطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها)).

وما دمنا قد ذكرنا أقوال بعض الشعراء في جمال بغداد، فإن لأبى تمام ومعاصره على بن الجهم بيتين مشهورين عن جمال بغداد بمفهومهما الخاص عن الجمال .

قال أبو تمام:

في الشام أهلى وبغداد الهوى، وأنا                  بالرقمتين وبالفسطاط إخواني

(والرقمتان روضتان. قال ابن منظور في ((لسان العرب)): إن إحداهما تقع شرقى البصرة) .

وقال على بن الجهم:

عيون المها بين الرصافة والجسر                   جلبن الهوى من حيث أدرى ولا أدرى

(والرصافة ضاحية في شرق بغداد)

4- تسميات بغداد في التاريخ:

سمى العرب بغداد تسميات متعددة تمامًا كما يفعل الوالد المحب مع ابنته الأثيرة، فبالإضافة إلى تعدد التلفظ بالاسم الرئيس (بغداد) ، فقد سموها مدينة السلام كما ذكرنا، والمنصورية، والمدينة المدوّرة، والزوراء، والرحباء، ومدينة الخلفاء ، ولأبى إسحاق الزجاج صاحب كتاب ((معاني القرآن وإعرابه)) المتوفى في سنة 311هـ مقولة تلخص أراء أهل زمانه، أي زمن المعتضد العباسي، في بغداد: ((بغداد حاضرة الدنيا، وما عداها بادية)). ولا ندرى إذا كان قد قصد بالدنيا عموم العراق أو بلاد العرب أم قصد الدنيا بأسرها، لكن بغداد حتى قبل زمن المعتضد كانت من أكبر مدن الدنيا إذ بلغ عدد سكانها مليونين. وجاءت قرطبة في الأندلس الأموية تالية بمليون نسمة ، بينما لم يزد سكان رومة مثلاً على خمسين ألف نسمة، وكذا معظم مدن أوروبا! ومن شاء أن يستوثق أو يستزيد فليرجع إلى مادة (أوروبا في القرون الوسطى Europe medieval ) فيدوائرالمعارف الأوروبية .

أما الاسم الرئيس بغداد، فهو  بغداد (بفتح الباء) ، وبُغداد (بضم الباء) ، وبغدان، وأضاف ياقوت: بغداد ومغداد ومغدان، وقد ظن المستشرق ستريك  Streekكاتب مقال ((بغداد)) في دائرة المعارف الإسلامية أن ضم الباء يؤكد أنها كلمة فارسية، واستدرك عليه الأستاذ عبد الرزاق الحسنى وأكد أن الأصل آرامي، وبذلك يكون من معانيها ((بيت الإله – بل دودو)) وكذلك (( بيت الغزل – بيت كدادا)) وهي ترجمة تعجب علي بن الجهم الذي أوردنا بيته المشهور فيما سبق(1) .

والمهم في إبراز هذه المراجعة الفيلولوجيكية (1) أن نشير إلى الأصول الحضارية للموقع، وما كان لهذه الأصول من تأثيرات، والمقرر تاريخيًّا ان أرض العراق كانت حاضنة لمجموعة من أقدم الحضارات الإنسانية البابلية والأشورية والسومرية والأكادية وآخرها وأشهرها التقنينات الحمورابية .

وترجع تسمية ((المنصورية)) إلى اسم المنشئ أبى جعفر المنصور، و((المدوّرة)) إلى صفة التخطيط العمراني الذي جعل المدينة على هيئة دائرة، ولها حول المركز جدار وسطي ثم جدار خارجي، ويقيم معظم السكان بين هذين الجدارين.

وللمدينة أربعة أبواب هي: باب خراسان، وباب الشام، وباب البصرة، وباب الكوفة، وقد  أقام المنصور قبابًا على هذه الأبواب الأربعة، وكان يجلس فيها طلبًا للراحة، فإذا أحب النظر إلى الماء جلس في قبة باب خراسان، وإذا أحب النظر إلى الأرباض (الضواحي) وما والاها جلس في قبة باب الشام، وإذا أحب النظر إلى الكرخ (وفيها السوق وحركة الناس) جلس في قبة البصرة، وإذا أحب النظر إلى البساتين والضياع جلس في قبة باب الكوفة .

وأما تسمية الزَّوْراء، فلأن محاريب مساجدها ذات ازورار ( أي ميل وانحراف)، وهو واضح من الجانب الغربي. وقيل لازورار نهر دجلة عند مروره بها من غربها، بينما يكون النهر منبسطًا عند شرقها .

ولانبساط النهر واتساعه من تلك الجهة سميت المدينة ((الرَّوْحاء)) .

وأما أنها (مدينة الخلفاء) فلأن عدد الخلفاء العباسيين قد بلغ سبعة وثلاثين خليفة، أقام معظمهم في بغداد. بينما بلغ عدد الخلفاء الأمويين ثلاثة عشر خليفة فقط، وقد تبسّط التسمية فيقال: ((مدينة الخلافة)) .

وانفرد ياقوت الحموى بتسمية وصفية لم أجدها عند غيره، وهي ((أم الدنيا وسيدة البلاد)) ولم تنل مدينة أو دولة شرف هذه التسمية بعد بغداد سوى ((مصر)) التى يجرى وصفها على ألسنة الناس بأنها ((أم الدنيا)) ولم أعثر على أصل لهذه التسمية، ولكنها تلقى قبولاً شائعًا، ولا ننسى أن ياقوت قد نشأ في بغداد، فأشرب حبها، وحق له أن يسميها بما سماها به. وقد نقل أيضًا في معجمه هذه الأوصاف ((بغداد جنة الأرض، ومدينة السلام، وقبة الإسلام، ومجمع الرافدين، وغرة البلاد، وعين العراق، ودار الخلافة، ومجمع المحاسن والطيبات، ومعدن الطرائف واللطائف ، وبها أرباب الغايات في كل فن، وآحاد الدهر من كل نوع)).

5- بغداد الحضارة

ومن داخل هذا الإطار الخارجي والمظهرى لبغداد، المتمثل في موقعها، وتخطيط بنائها، وتسمياتها،  ومظهريات حسنها وجمالها، تبرز بغداد الجوهر وبغداد الحضارة. والحضارة هنا هي الحضارة العربية الإسلامية، كما نضجت خلال الخلافة العباسية، وخاصة في القرنين الثالث والرابع الهجريين، دون استبعاد للبدايات السابقة، أو الازدهارات اللاحقة ، ودون الغفلة عن مكوناتها وعناصر صنعها وصياغتها .

فهذه الحضارة قد هضمت الحضارات القديمة التى أشرنا إليها، واشترك في صنعها عرب وعجم ومسلمون وغير مسلمين، وفيها نقل وترجمة وإضافة وابتكار، ولها مظاهر عديدة في مراكزها في قرطبة وفاس والقاهرة ودمشق والمدينة المنورة، وكل ذلك بجميع صفاته وأبعاده وألوانه قد لخصته مدينة واحدة أكثر من غيرها، وهي بغداد . فبغداد هي الراية، وهي الواجهة .

وأول ما يلقانا من هذه الحضارة، الصياغة الجديدة لنظم الحكم والإدارة. فبعد النظام المركزي فيما سبق، أفرزت الخلافة العباسية صيغة ((الوزارة)) لتكون عونًا ((للخلافة))، وفصلت الوزارة إلى وزارة تكليف سيادية، ووزارة تنفيذ فنية، وأشركت في وزارات التنفيذ كل مقتدر بصرف النظر عن دينه أو عرقه. ثم أفرزت صيغة ((الولايات اللامركزية)) وصيغًا أخرى ((كالدواوين)) وهي الدوائر الحكومية ، والطساسيج (جمع طسوج) وهي كلمة معرّبة تعنى الناحية، وهي مراكز ذات مهمات مالية وخدمية متنوعة، ورفعت ((القضاء)) فوق مستوى التقسيمات الإدارية، وأعطته هيبته الدينية والحقوقية .

ولم يكن ذلك مجرد إنجاز لرجال الحكم والإدارة وحدهم، بل إنه كان أيضًا إنجازًا لرجال العلم والفقه، ففي هذه الفترة ظهرت الكتب الرائدة لما سمى فيما بعد ((السياسة الشرعية)) وقد شرحها الشيخ عبد الوهاب خلاف بعبارة عصرية بسيطة هي ((نظام ا لدولة الإسلامية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية))، وحمل كتابه في هذا الموضوع التسميتين القديمة والعصرية. ومن هذه الكتب الرائدة كتاب ((الأموال)) لأبى عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ وهو بغدادى، وقد ترجم مؤخرًا إلى الإنجليزية برعاية دولة قطر، وكتاب ((الأموال)) لمعاصره حميد بن زنجويه المتوفى سنة 251هـ، وقد ضاع للأسف في عهد من عهود حرق المكتبات، وهي غير مقصورة على الماضي، بل ممتدة حتى شهرنا هذا. ثم الكتاب المهم ((الأحكام السلطانية)) للماوردى المتوفى سنة 450هـ وهو بغدادى أيضًا وعينه الخليفة العباسي القائم بأمر الله بوظيفة ((قاضى القضاة)) والماوردي كان شافعيًّا . وتبعه معاصره الحنبلي أبو يعلى الفراء المتوفى سنة 458هـ بكتابه ((السياسة الشرعية)) وهو بغدادى كذلك. وهلم جرا.

وقد لا يحس القارئ المعاصر بأهمية هذا الإنجاز وقد يعينه على تثمينه أن يتذكر أن الرئيس شارل ديجول قد استقال من رئاسة الجمهورية الفرنسية قبل وفاته بسنة حينما اقترح على الشعب الفرنسي التقسيم الإداري اللامركزي فلم يستجب له، ربما لظروف سياسية في ذلك الوقت، مع أن اللامركزية من مسلمات علوم الإدارة والسياسة.

ومع اللامركزية في الحكم، أقرّت الحضارة البغدادية (التعددية المذهبية)، وحصل هذا عندما استدعى الخليفة أبو جعفر المنصور الإمام مالك بن أنس، وطلب إليه أن يدون الحديث والفقه في كتاب يعمد فيه إلى أواسط الرأي ، ويتجنب شدائد عبدالله بن عمر، وشواذ عبدالله بن مسعود، ورخص عبدالله بن عباس، وأن يوطئه للناس توطيئًا، أي يسهل مراجعته، فكان كتاب ((الموطأ)) الشهير. وكانت نية الخليفة أن يحمل الناس عليه. فقال الإمام مالك رضى الله عنه: لا يا أمير المؤمنين ، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد تفرقوا في الأمصار، ومع كل واحد منهم علم، فإذا حملتهم على رأي واحد، تكون فتنة، ومع أن الخليفة أبا جعفر المنصور، ومن بعده ابنه المهدى، وكذلك الرشيد، كانوا جميعًا يميلون إلى حمل الناس على رأي فقهي واحد يعمل به في القضاء ويكون قانونًا موحدًا ، فإن الإمام مالكًا لم يسلم بذلك ، وفاز رأيه في النهاية، وأصبحت التعددية المذهبية مقررة .

وقد أخذ مالك نفسه من علم الإمام جعفر الصادق وهو الإمام السادس في السلسلة الإمامية الاثنى عشرية الشيعية،  وكذلك فعل الإمام أبو حنيفة؛ لأن جعفر الصادق كان جليل الشأن غزير العلم، ولم يعط الأئمة للخلاف المذهبي ما يعطيه العامة له .

ومن مظاهر هذه التعددية في بغداد أنها تضم جامع الإمام أبى حنيفة ومزاره ، وجامع الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ومزاره، وكذلك قبر الإمام أحمد بن حنبل، وجامع الشيخ عبد القادر الجيلاني، ومذاهبهم شتى : الأول حنفى، والثاني اثنا عشري، والثالث حنبلي، والرابع صوفي .

ومن المعالم الحضارية في بغداد إنشاء بيت الحكمة في عهد الخليفة الرشيد، ثم كان ازدهاره في عهد الخليفة المأمون، وقد عنى هذا البيت أكثر ما عني بالترجمة من كافة الثقافات . وممن ساعدوا المأمون في هذا الصنيع حنين بن إسحاق، وقد وعده المأمون بإجازته عن كل كتاب يترجمه بزنته ذهبًا، ولم تكن الترجمة مقصورة على فن دون غيره، بل شملت كتب الطب والعلوم، والجغرافيا، والفلك، والأدب، والفلسفة، وقد أوفد المأمون وفودًا إلى القسطنطينة وإلى جزيرة قبرص لحمل كتب اليونان إلى بيت الحكمة، وتوسع في اقتناء الكتب حتى أصبح البيت دارًا للكتب أيضًا .

وشاع أن المأمون قد أنشأ مرصدًا في بيت الحكمة. ومضمون الخبر صحيح، لكن المرصد قد أنشئ خارج البيت في حي الشماسية ببغداد. وأضيف مرصد آخر عند الجسر ببغداد. وللمأمون مرصد ثالث خارج العراق أنشأه فوق جبل قاسيون في دمشق، وهو أعلى موقع في المدينة، وقد ظل بيت الحكمة أو كما سماه ياقوت ((خزانة الحكمة)) حافلاً ومتزايدًا بمقتنياته حتى غزو المغول، مغول ذلك العصر، فعبثت الأيدى والنيران بهذه الكنوز وهيهات أن تعوض. كما أنه هيهات أن تعوض الكتب التى نالها الحرق والنهب الهمجي  في مكتبة الأوقاف ببغداد خلال شهرنا الأسود هذا.

ومن مؤسسات التعليم الكبرى في بغداد ((المدرسة النظامية)) التى أسسها الوزير نظام الدين السلجوقي في القرن الخامس الهجري، ودرس فيها أبو حامد الغزالي، وسعد الدين الشيرازي، ثم ((المدرسة المستنصرية)) التى أسسها الخليفة العباسي المستنصر بالله سنة 631هـ وأشاد بفخامة مبناها الرحالون العرب، ومنهم ابن بطوطة الذي أشار إلى سلامتها من تدمير هولاكو عند غزوه بغداد سنة 656هـ .

ولم تكن هذه المدارس ذات سقف محدود في المعرفة إذ كانت بالمستوى الجامعي وفقًا للتسميات المعاصرة . واختص المبنى المركزي منها بالدراسات الإسلامية والإنسانية، أما الطب فكان يدرس في البيمارستانات (المستشفيات)، وبقية العلوم في مراكز مخصصة لذلك. وقد كانت بغداد تموج بالعلماء حتى إن الخطيب البغدادى ذكر في ((تاريخ بغداد)) أسماء وتراجم 7831 عالمًا ومؤرخًا وأديبًا منهم، وهو عدد غير قليل بمستوى مدينة واحدة في ذلك الزمان. وقد أفاض الدكتور نقولا زيادة في وصف مدرستى أو جامعتى بغداد المذكورتين في كتابه ((من تاريخ العرب)) فليرجع إليه من أراد الاستزادة.

ورعاية الصحة في بغداد تعود إلى اليوم الأول لبنائها، إذ تخير موقعها لاعتبارات ذكرت ومنها ما يخص ضمان الصحة لسكانها . واهتم المنصور بتمديدات المياه العذبة إلى جميع نواحى المدينة، بحيث لا ينقطع ورودها وتدفقها، وأنشئت البيمارستانات بإيرادات حكومية وأخرى أهلية، ومنها بيمارستان الرشيد وأسندت رئاسته إلى ماسويه الخوزى، وبيمارستان البرامكة، وبيمارستان الوزير أبى الحسن على بن عيسى ، وبيمارستان بدر غلام المعتضد، وكانت نفقته من وقف سجاح أم المتوكل، وبيمارستان السيدة أم المقتدر، والبيمارستان المقتدرى نسبة إلى الخليفة المقتدر.

وذكر الدكتور أحمد عيسى في كتابه ((تاريخ البيمارستانات في الإسلام))، خمسة أخرى مزودة بكافة الخدمات. ومما يدعو إلى العجب والإكبار أن مساجد بغداد كان يوجد في كل منها ركن طبي عليه طبيب وبه الأدوية لرعاية المرضى المصلين.

أما إسهامات الحضارة العربية الإسلامية في العلوم، فأكثر سعة من أن يحيط بعرضها مقال مختصر، وقد حفلت بها دراسات جادة مطبوعة، منها الدراسة التى أصدرها عدد من المستشرقين بعنوانThe legacy of Islam  (تراث الإسلام) في سنة 1931م بإشراف المؤرخ الإنجليزي  توماس أرنولد صاحب كتاب ((الدعوة إلى الإسلام)) الذي أبطل فيه الدعوى بأن الإسلام قد انتشر بالسيف، ثم جددت سنة 1974م بإشراف جوزيف شاخت ويوزوورث. وقد كتبت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه كتابًا حول الموضوع جذاب العرض وشديد التعاطف والإنصاف بعنوان ((شمس العرب تسطع على الغرب)) وهو مترجم إلى العربية .

أما كتابات العرب والمسلمين فأكثر من أن تحصى، وحسبنا أن نذكر منها كتاب العلامة التركي فؤاد سزكين بعنوان ((تاريخ التراث العربي الإسلامي)).

ويجمع المؤرخون على أن عمران بغداد كان فريدًا، وكان الخلفاء يحرصون إذا زارتهم وفود من الخارج، أن يرتبوا لهم زيارة حول المدينة وخلالها، فيروا من مظاهر التنظيم والرخاء ما يبهرهم : شوارع متسعة خاصة الأربعة الرئيسية التى تصل مركز المدينة بأطرافها، وبساتين كثيفة الخضرة حتى استحقت وصف (السواد) ، وهو وصف يطلقه العرب على الخضرة إذا كثفت وعمت واستخدموه في وصف جنوب العراق بخاصة لكثرة نخيله، وقصور ومبان أنيقة الهندسة، حتى إذا تجاوزوا الأسوار واحدًا بعد الآخر، ووصلوا إلى مركز المدينة وقصر الخليفة ودخلوا على وزرائه أو أعوانه، وعليهم الطيالس السود، ثم دخلوا على الخليفة نفسه في أبهته وجلاله، يكون توقيرهم لما رأوه قد وصل الذروة، وتزداد المدينة جمالاً في الليل، إذ تضاء طرقاتها، كما تضاء القوارب في أنهارها. ويتضاعف ذلك في الأعياد ، حيث تكون بغداد في أبهى صورها .

وينعكس اقتصاد البلاد الزاهر على عاصمتها، إذ كان للزارعة والتجارة والصناعة والتعامل نجاح مطرد. فإذا اجتمع الرخاء والبهاء تكون بغداد قد اتسمت بالصورة العالقة بخيال الناس أجمعين، إن بالدراسة، وإن بالزيارة، وإن بتقليب صفحات ألف ليلة وليلة، وسماع نغمات المعزوفة الشهيرة ((مهرجان بغداد)) للموسيقى الروسى رينسكى كاوزراكوف.

6- بغداد المحن :

أدرك أبو البقاء الرّندى الشاعر الأندلسي ، ما يصيب الدول الزاهرة والمدن العامرة، من تقلب الزمن، فأنشأ ملحمته النونية المشهورة، والتى يضمنها هذه الحكمة ((من سره زمن ساءته أزمان)) وكذا الحال مع بغداد، فإنها لم تسلم على مدى القرون الخمسة التى زهت فيها ثم بعدها إلى يومنا هذا، من محن داخلية وأخرى خارجية . ولأن بغداد تمر الآن بمحنة تاريخية لا أحب أن أنكأ الجروح وأضاعف الهموم إذ تكفينا اللمحة الدالة لاستخراج العبرة النافعة .

بدأت بغداد تاريخها في أعقاب محنة فكرية وعسكرية دامية، حينما انقلب البيت الهاشمي على البيت الأموى، وطاولت خراسان دمشق، وتصارعت أفكار كان في الإمكان تلافيها، من عناصر العروبة والشعوبية، وهل يقود الإسلام العرب أم يقود العرب الإسلام، وكلها عناصر أريد بها تبرير الصراع ليس غير، وإلا فإن حلولها الدينية والقومية والمصلحية سهلة. وسالت الدمــــاء حتى سمــى من تــولى كِبرها (السفاح) ثم انبثقت بغداد فطويت تلك الصفحة، ونسيت المحنة بميلاد دار السلام.

وحينما اختلف الأمين الخليفة العباسي السادس مع أخيه وولى عهده المأمون، وأراد أن يخلعه من ولاية العهد قامت الحروب بينهما وشغلتهما حتى انتهت خلافة الأمين بعد أربع سنوات تموج بالاضطرابات واستقر الحكم للمأمون .

ولكن بغداد شقيت في صراع الأخوين، وطالت محنتها ،  ولخص ذلك الأستاذ محمد الخضري رحمه الله في كتابه، ((الدولة العباسية )) بقوله : ((وقد قاست هذه المدينة  العظمى ودرة تاج الخلافة العباسية من حصارها ما لم يخطر لأحد على بال من الهدم والتحريق وسفك الدماء والجوع الشديد، حتى درست محاسنها وكادت تمحى معالمها وسجل الشعراء ذلك فقال عمرو بن عبدالملك العتري :

من ذا أصابك يا بغداد بالعين     ألم  تكونى زمانًا قُرة العين

لكن المحن الداخلية لها نهاية، وتداركها بالإصلاح لا يطول، أما المحن الخارجية فأكثر تعقيدًا، وأخطرها بل وأخطر غزو تعرض له العالم الإسلامي هو غزو المغول للعراق، وتدميرهم بغداد بقيادة قائدهم هولاكو سنة 656هـ ـ إذ بدخولهم سقطت الخلافة العباسية، وذبح مئات الآلاف من المسلمين، وفي مقدمتهم الخليفة السابع والثلاثون المستعصم بالله ، وأحرقت خزانة الكتب وبيت الحكمة كلها أو معظمها، وقيل أن دجلة قد اسودت مياهه بلون الحبر الذي كتبت به النفائس العربية والإسلامية والترجمات الإنسانية بما لا يعوض.

ولم تتوقف محن بغداد الداخلية والخارجية، ولا نريد هنا حتى أن نسميها بأسمائها، فالمرارات لا تنسى. ولكننا نسجل بكل اعتزاز أن بغداد لم تركع أبدًا ، ولم تخمد جذوة العز في ضميرها يومًا، بل هي الغمرات تتفاقم ثم تزول، وبعد كل محنة ، تتحسس بغداد تاريخها ومجدها ورسالتها، فتقف من جديد، ثابتة القدم وشامخة الرأس .

7- بغداد المستقبل:

واليوم، وبغداد تلملم نفسها بعد المحنة الأخيرة التى بدأت في أبريلنا الأسود سنة 2003م، سواء بصنع العتاة الظالمين من أبنائها، أم بتدافع المعتدين من مدعى إنقاذها ، أم بهمجية المخربين من فتاكها وسرّاقها ، أم بتصارع الطامعين في ثرواتها وعطاءاتها. نأخذ بيدها بكل الحب والحنان العائلي العربي الإسلامي الصادق، ونناديها:

يا بغداد السلام، لا تجزعي لما أريق على ثراك من دماء زكية، وما تصعد في ساحاتك من أرواح أبية، فطريق السلام لا تعبده إلا أكف الشهداء.

ويا بغداد الزوراء : ازوري في وجوه من دخلوك غصبًا، وجاسوا خلال ديارك عجرفة وقهرًا، فليس لظالم ورود أو رياحين، حتى يرحل.

ويا بغداد ، التى جرّبت دورة الزمن، اذكرى أنه على الباغى وحده تدور الدوائر، إن يكن حاكمًا متسلطًا، أو عميلاً متسلقًا، أو معتديًا مستعليًا، فالله أعلى وأكبر وأجل، وهو الذي قد يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

ويا بغداد الخلفاء، سيخلفك الله بإذنه عمرانًا أرفع من قباب أبوابك، وخيرات أوفر من ثمرات نخيلك، وعذوبة أحلى من مياه فراتك، وانتصارًا أشبه بانتصارات معتصمك.

ويا بغداد اعتصمى بحبل الله فهو العروة الوثقى، ووحدى الصفوف فإن الله لا ينظر إلى الصف ذي الفرج ولا إلى الصف الأعوج، وألظي بالدعاء لذي الجلال والإكرام، واستنصرى بدعاء السحر، وسهام القدر، وكل أشعث أغبر، لو أقسم على الله لأبره، ومعك رب العزة، الذي به الصولة والجولة، وبه الفتح المبين ، ويومئذ يفرح المؤمنون.

 

(*) نشرت بجريدة الخليج الأمارتية 25 / 4 / 2003 .

 

(1) وَفسر (الغزل) أيضًا بتسكين الزاي، إشارة إلى غزْل الصوف، وهو صنيع شائع في شرق بغداد من قديم .

(1) الفيلولوجية اللغوية .

(1) الإمام السادس .

(1) بإرادات .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر