أبحاث

نقض الأحكام في الفقه الإجرائي الإسلامي

العدد 90

أولاً : تأصيل الفقه الإجرائى فى الإسلام :

يقول الفقه الإجرائى فى الإسلام على مبدأين أساسيين هما :

المبدأ الأول : حجية الأحكام :

والتى تعنى أن الحم متى صدر صحيحاً فإنه يمنع الخصم من العودة إلى دعواه ،ويمنع القاضى من التعرض للحكم بالنقض والإبطال ،سواء كان القاضى نفسه أو غيره من القضاة .

المبدأ الثانى : عدالة الأحكام :لأن الحكم فى الإسلام أساسه العلم ،ومضمونه الصدق ،وغايته العدل . فإذا تعارضت الحجية مع العدل انتصر القضاء للعدل تطبيقاً لعلو أحكام الشريعة .

إن الحكم القضائى – فى الغالب الأعم – عنوان للحقيقة ،وهو بهذا المعنى يكتسب الحجية والبقاء ،ولكن القاضى بشر يخطئ ويصيب ،وقد يخطئ فيما يستوجب تصحيحه ؛لأن صدور الحكم مخالفاً للأحكام الشرعية غير الاجتهادية يمنع حجيته ،ويجب نقضه وإعادة النظر فيه .

والفقه الإجرائى – شرعياً كان أو وضعياً – يتغيا أهدافاً ثابتة ،ويؤدى وظائف دائمة ،ولكنه متغير فى أساليبه متطور فى صوره وأشكاله ؛مما يجعله مفتوحاً لتلقى الخبرة البشرية التى تستهدف عدالة الحكم وتصون حجيته واستقراره ،بما يجعل حركته قادرة على استيعاب حركة الزمان والمكان ،والقطيعة بين الفقه والمجتمع يأتى بها جمود الفقهاء ،أو تمرد الأمراء ،بل إن جمود الفقهاء بتضيق دائرة الاجتهاد يقطع الطريق أمام نمو العقل الفقهى ،ويفسح المجال أمام الحكام لتبنى تشريعات سياسية ،تكرس الفجوة بين النص الشرعى والواقع الاجتماعى .

والفقه الإجرائى فى الإسلام حقيقة واقعة يلتمسه الباحث فى موسوعات الفقه ،وكتب أدب القاضى ،ورسوم القضاة وأخبارهم وطبقاتهم ،وفيما صنف فى النوازل والأحكام ،وما ألف فى علم الوثائق ونصوص

التوثيقات ،وكما يقول بحق العلامة فرج السنهورى : <<ومن ينظر فى الفقه نظرة فاحصة صادقة يرى أن الروح التى أملت على الفقهاء أحكام الأجراءات القضائية  ،ليست إلا وليدة المحافظة على المتقاضين ، وصيانة القضاء ،وتوقير رجاله ،وسلوك أقرب الطرق وأسهلها لإيصال الحقوق إلى أربابها ،وإن أكثر هذه الأحكام لم يبن على نص خاص من كتاب أو سنة ،بل يتعمد على رعاية المصلحة والتعليل بالمعقول >>.

إن نظرة عادلة إلى تطور الأحكام وما طرأ عليها تحملنا على اعتقاد أن الفقهاء يرونها من الأمور التى تختلف باختلاف البيئة والزمان ،فقد كان المتقدمون يذهبون إلى أن للقاضى أن يقضى بعلمه ،ولكن من جاءوا بعدهم منعوا ذلك لفساد الزمان ،وقد كانوا يقولون بأنه لا يقضى على غائب ،لكن لما كثر التحايل على ضياع الحقوق أجازوا القضاء على الغائب صيانة لها ،وأجازوا كتاب القاضى إلى القاضى على غير قياس للضرورة ،وكانوا يخصونه أولاً بمسائل معينة ثم جاء من عمم ،وكذلك الحال فى تزكية الشهود ،وتلقين الشاهد ،والاعتماد على الأدلة الخطية ،وأشباه هذا أكثر من أن تحصى ،وما كان منهم إلا رعاية للحقوق ، وتسهيلاً للوصول إليها .

ولقد كانوا يحلون التجربة فى هذه المسائل محلها اللائق بها ،ولهذا قالوا : إن الفتوى على قول إبى يوسف فى مسائل القضاء لأنه مارسه ،والأحكام التى قرروها فى هذا الباب قد أدت واجبها حق الأداء ،وأثبتت التجربة فى عصرهم وبعده أنها وافية بالغرض ،وفى ذروة العدالة (1)،ويظن البعض أن التطبيق الفقهى المعاصر لقانون إسلامى لا بد أن يلفت من النص حتى يلائم العصر ،وانقسم الكاتبون بغير العربية فى هذا الصدد إلى فريقين :

الفريق الأول: ويقف على رأسه <<ساوس باشا >>أحد مشاهير وزراء الأتراك فى بداية هذا القرن ،فقد أعلن أن الإسلام يحتضن كل نتاج حضارى فى مجال النظم ،وأن السياسة الشرعية – وهى سلطة ولى الأمر – يمكنها أسلمة كل النظم الأوربية والحديثة .

الفريق الثانى : ويتزعمه المستشرق الهولندى <<سنوك هينجرونج >>وقد هاجم بشدة آراء <<ساوس باشا >>معتبره غير مؤهل للفصل فى الموضوع ،ويرى أن الإسلام غير متغير وأن الفقه الإسلامى أكثر من ذلك ، ويقول : ( إن الإسلام يجب أن ينكر كلية ماضيه التاريخى لكى يدخل فى الطريق الذى يرسمه له <<ساوس باشا >> (2)) .

ورأى المستشرق الهولندى تبعه كثيرون بعد ذلك أمثال <<جولد زيهر >>و <<شاخت >>وغيرهما .

إن رفض كل إمكانية للتطور فى الفقه الإسلامى أمر يجاوز الحقيقة ؛لأن فقه المسلمين يتطور داخلياً بوسائله الخاصة ،ويشبع كل الحاجات الجديدة للمجتمع الذى يحتكم إليه ،وقد تغيرت الأحكام وتطورت – خاصة فى المجال الإجرائى – ولكنه تطور أفصح عن حقيقيته العلامة <<ابن عابدين >>فى رسالته <<رسم المفتى >>حيث قال بعد أن أورد طائفة من المسائل التى تغيرت : <<فهذه كلها تغيرت أحكامها بتغير الزمان ،إما للضرورة ؛وإما للعرف ،وإما لقرائن الأحوال ،وكل ذلك غير خارج عن المذاهب ؛لأن صاحب المذهب لوكان فى هذا الزمان لقال بها ،ولو حدث هذا التغير فى زمانه لم ينص على خلافها >>ثم قال نقلاً عن << ابن قاسم >>أنه يعمل باعتبار أحوال الناس وما هو الأرفق بهم ،وما ظهر عليه التعامل ،ثم قال : <<فقد ظهر لك أن جمود المفتى أو القاضى على ظاهر المنقول مع ترك العرف والقرائن الموضحة ،والجهل بأحوال الناس يلزمه تضييع حقوق كثيرة ،وظلم خلق كثيرين >>.

وسلطة ولى الأمر تغطى كل المساحات الشاغرة فى القانون – موضوعياً وإجرائياً – ولا يصح فى تصرف من التصرفات أو حكم من الأحكام التى تسن لتحقيق مصلحة عامة أن يقال إنه مناقض للشريعة ،بناء على ما يرى فيه من مخالفة ظاهرية لدليل من الأدلة ،بل يجب تفهم الأدلة وتعرف روحها ،والكشف عن مقاصدها وأسرار التشريع فيها ،والتفرقة بين ما ورد على سبب خاص ،وما هو من التشريع العام الذى لا يختلف ولا يتبدل ،فإنه مخالفة النوع الثانى هى الضارة المانعة من دخول أحكام السياسة فى محيط شريعة الإسلام (3)؛ لأن تصرف ولى الأمر منوط بمصلحة الرعية ،ومقيد بمبدأ لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق .

وخلاصة القول فإن الدين الإسلامى – فى مجال الحكم وتنظيم السلطات – لم يأت بضرب معين ؛لأن ذلك خاضع لمقتضيات كل زمان ومكان ،وتابع لما تتطلبه حال الأمم ودرجة نضوجها ،ومنوط بالمصلحة وما يؤدى إليه الاجتهاد ،ولكنه مع ذلك لم يغفل قاعدة من القواعد الأساسية التى يبنى عليها الحاكم العادل (4)،وفى المجال الجنائى فإن كثيراً من التطورات المعاصرة يمكن دمجها فى النظام الجنائى الإسلامى ،<<فالاعتراف بالتدابير الاحترازية مثلاً – وقد أقرت الشريعة الإسلامية نماذج لها – وتقرير نظام الفحص السابق على الحكم ،وما يرتبط به من إعداد <<ملف الشخصية >>وإنشاء سجون متخصصة بما فى ذلك من المؤسسات المفتوحة وشبه المفتوحة ،وإعداد مبان حديثة للسجون ،وفقاً للاشتراطات العلمية إلى غير ذلك من نظم التأهيل وتفريد الجزاء الجنائى ،وهى أساليب معاصرة لا تعارض بينها وبين الشريعة الإسلامية ؛لأن من أصولها رعاية مصالح العباد ،بل الكثير منها يمكن تخريجه فى ضوء على أصول الفقه ،والقواعد الفقهية .

ولكن من التطورات النعاصرة ما يمكن أن يتعارض مع الشريعة الإسلامية ،فدعوة العلم العقابى المعاصر – خاصة فى مدارس الدفاع الاجتماعى – إلى إدماج العقوبات والتدابير فى نظام قانونى واحد ،يتيح للقاضى أم يختار التدبير الملائم للتأهيل الخاص بالمجرمين ،يرد عليه استثناء إسلامى يتعلق بجرائم الحدود والقصاص ؛ حيث تتلاشى السلطة التقديرية للقاضى ،والقاعدة العامة أن النظم المعاصرة – موضوعية وإجرائية – تخضع للشريعة الإسلامية بالمفهوم الشامل الواسع الذى يتبناه هذا البحث ،ويكفى للإشارة إلى تقدم الفقه الإجرائى عند المسلمين ،معرفة السجن وأحكامه ،والسجين وأحواله ،وهه السجون كانت حالتها حسنة فى صدر الإسلام فكان ينقف على من لبا مال له من بيت المال ،ويفرج عن المريض إن لم يوجد من يعوله فى السجن ،وكان يجوز لأهل المسجونين وجيرانهم أن يزوروهم ،ويجوز أن يفرج فى بعض الأحوال عن المسجونين بكفالة شخصية (4)،بل إن فساد أحوال السجون لقى تحدياً نقدياً من منظور إسلامى يصفه <<المقريزى >>قائلاً : وأما الحبس الذى هو الآن أنه يجمع الجمع الكثير فى موضع يضيق عنهم غير متمكنين من الضوء والصلاة ، وقد يرى بعضهم عورة بعض ،ويؤذيهم الحر فى الصيف والبرد فى الشتاء ،… وأما السجون الولاة فلا يوصف ما يحل بأهلها من البلاء ،واشتهر أمرهم أنهم يخرجون مع الأعوان فى الحديد حتى يشخذوا وهم يصرخون فى الطرقات من الجوع ،فما تصدق به عليهم لا ينالهم إلا ما يدخل بطونهم وجميع ما يجتمع لهم من صدقات الناس ،يأخذه السجان وأعوان الوالى ،ومن لم يرضهم بالغوا فى عقوبته >>(5).

ثانياً : الطعن فى الأحكام فى الفقه الإسلامى :

القضاء حكم ملزم عند كافة المذاهب الإسلامية ،ومن أفضل تعريفاته قول <<الخطيب الشربينى >>هو

<<إلزام من له الإلزام بحكم الشرع >>(6)،وقد نظمه الفقه الإسلامى محكمة وولاية وحكماً .

أما المحكمة فقد تناولتها كتب الفقه وعبرت عنها بلفظ مجلس القضاء ،ومجلس الحكم ،وواقع الأمر أن رجال الفقه الإسلامى تكلموا عن مكان المحكمة بأوسع مما تكلم فيه رجال القانون ،واشترطوا فيه أن يكون ظاهراً معلوماً للناس ،رحباً فسيحاً لا يضيق بالمترددين عادة ،وأن يكون فى وسط المدينة حتى يتساوى الناس فى الوصول إليه (7).

أما الولاية فقد تناولتها كتب الفقه بالتفصيل من كل جانب بما يكفل سلامة الحكم ،ونزاهة القاضى واستقلاله .

وأخيراً الحكم الذى هو وعاء الحقيقة والكاشف عنها ،وكان القاضى يسبب حكمه ،ويرجع إلى أقوال الفقهاء ليعرف حكم الشريعة فى النزاع المعروض عليه ،ويدل على ذلك ما رواه عمر بن خالد عن قضاء إبراهيم بن الجراح الذى تولى قضاء مصر سنة 204هجرى ،إذا قال :

<<ما صبحت أحداً من القضاة كإبراهيم ابن الجراح ،كنت إذا علمت له المحضر وقرأته عليه أقام عنده ما شاء الله أن يقيم ،ويرى فيه رأيه ،فإذا أراد أن يفضى إلى لأنشئ منه سجلاً . فأجد فى ظهره قال أبو حنيفة كذا وفى آخر قال أبو يوسف كذا ،وقال مالك كذا ثم أجد على سطر منها علامة كالخط فأعلم أن اختياره وقع على ذلك القول ؛فأنشئ منه السجل ،وقد قضت المادة 1827 من مجلة الأحكام العدلية – وهى تقنين للفقه الحنفى – بتسبيب الأحكام ونصت على <<بعد ما يتم الحاكم المحاكمة يحكم بمقتضاها ،ويفهم الطرفين ذلك ،وينظم إعلاماً حاوياً للحكم والتنبيه مع الأسباب الموجبة (8).

فمتى صدر الحكم صحيحاً اكتسب الحجية التى تمنع إعادة النظر فيه ،وهى كما يعرفها الفقهاء << ما منعك من مطلوبك ،أوما دفع عنك قول مخالفك >>،ولكن ذلك لا يسد كل أبواب الطعن ؛لأن عدالة الحكم ،وعدم عصمة القاضى ،وعلو أحكام الشريعة ،تفتح أبواب الطعن فى الحكم القضائى بصورة متوازنة تحمى استقرار الإنصاف ،وتحول دون استمرار الإجحاف .

1– حماية حكم القاضى :

تكاد تتفق المذاهب الإسلامية على احترام حكم القاضى ،وحمايته من الإلغاء ،يقول صاحب معين الحكام وهو حنفى المذهب <<لايجوز للقاضى أن ينظر فى فى أقضية غيره >>(9).

ويقول الإمام الشافعى :<<وليس على القاضى أن يتعقب حكم من كان قبله (10).

ويقول ابن قدامه الحنبلى : <<وليس على الحاكم تتبع قضايا من كان قبله ؛لأن الظاهر صحتها وصوابها ،وأنه لا يلى القضاء إلا من هو أهل للولاية >>(11).

ويقول ابن فرحون المالكى : <<وأما العالم العدل فلا يتعرض لأحكامه بوجه إلا على وجه التجويز لها إن عرض عارض بوجه خصومة >> (12).

ولا ينفرد بذلك الفقه السنى ،بل هو رأى الشيعة أيضاً ،يقول أحد فقهاء الفقه الجعفرى : <<الفقه الجعفرى صريح بعدم قبول الحكم للتميز ؛لأنه صادر عن مجتهد عادل ،وقد استفرغ وسعه فى إحقاق الحق على ضوء الدليل ،فلا يجوز نقضه ،لأن نقضه معناه الرد عليه >> (13).

والفقه الإسلامى فى ذلك الرفض للتعقب متناسق مع قواعده ،والتى لا تولى القضاء إلا المجتهد ،ولا تقر نقض الاجتهاد بمثله ،بل هم يخشون من ذلك الطعن فى نزاهة القاضى بالتجرؤ على حكمه ،والتسلسل فى الأحكام الذى يعبر عنه ابن العربى بقوله : <<… فأما أن ينظر القاضى فيما حكم به قاض فلا يجوز له ؛لأن ذلك يتداعى إلى ما لا آخر له ،وفيه مضرة عظمى من جهة نقض الأحكام ،وتبديل الحلال بالحرام ،وعدم ضبط قوانين الإسلام >>،ويرى البعض أن جمهور الفقهاء يبنى رأيهم فى عدم جواز تتبع الأحكام القضائية دون طلب من صاحب الحق مشفوع ببنية شرعية على استحقاق الحكم للنقض على أمرين .

الأمر الأول :أن الظاهر أن الحاكم لا يولى القضاء إلا من هو أهل للولاية ،فكان الظاهر من أحكامه الصحة .

الأمر الثانى :أن القاضى الجديد وظيفته النظر فى مستأنف الأحكام دون ماضيها (14).

وهذا الرأى ليس صحيحاً على إطلاق ؛لأنه مبنى على فكرة وحدة درجات التقاضى عندالمسلمين ،بينما اتسع التاريخ القضائى لفكرة المحكمة الأعلى ،ممثلة فى ديوان المظالم ،وسلطة ولى الأمر ذاته ،وهو ما عتمدت عليه مجلة الأحكام العدلية فى المادة 1838 ونصها <<إذا ادعى المحكوم عليه بأن الحكم الذى صدر فى حق الدعوى ليس موافقاً لأصوله المشروعة ،وبين جهة عدم موافقته ،وطلب استئناف الدعوى يحقق الحكم المذكور ،فإن كان موافقاً لأصوله المشروعة يصدق وإلا يستأنف >>والأساس فى هذه المادة قاعدة : <<أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد >>؛لأن الاجتهاد الأول قد تأيد بالقضاء والحكم ،فهو يرجح على اجتهاد القاضى الثانى ؛ولأنه يجب أن يحمل القضاء والحكم على الصحة بقدر الإمكان ،فالحكم الأول صحيح إلا إذا خالف الكتاب والسنة والإجماع ؛لأنه بذلك مردود وحجيته ممنوعة .

ويستوى فى عدم جواز نقض الأحكام القضائية باجتهاد مخالف أن يتعقب القاضى أحكام نفسه ،أو أحكام غيره لأن الحجية التى تحمى الحكم تشملهما معاً .

2– صيانة العدالة القضائية :

العدل قوام الشريعة ولا يحول دون العدل حكم ،أو يمنع منه قضاء ،بل إن الفقه الإجرائى الإسلامى ،وإن أجاز لولى الأمر توزيع الاختصاص على محاكم متعددة نوعاً ودرجة ،إلا أنه لا يتسع لفكرة المواعيد التى يستقر الحكم بعدها ويكتسب حجية مطلقة ؛لأنه عند التعارض بين الحجية والحقيقة ،تصبح الحقيقة أجدر بالرعاية فى الفقه الشرعى ،فالحكم البات عند الوضعيين يصبح عنواناً للحقيقة بمجرد استنفاد طرق الطعن فيه ، والأمرهنا لا يعدو مجرد افتراض ،والقول به يجعله أقوى من الحقيقة نفسها ،وهنا يرجح الفقه الشرعى على الفقه الوضعى ؛لأنه استبدال الحقيقة بالافتراض ،وهكذا وضعت الشرعية الإسلامية أساساً متيناً لنقص الحكم ؛لأن قضايا القضاة – كما يقول الصدر الشهيد – التى ترفع إلى القاضى لا تخلو من ثلاثة أوجه : إما أن تكون جوراً بخلاف الكتاب أو السنة أو إجماع العلماء ،أو تكون فى محل الاجتهاد إذا اجتهد فيه العلماء ،أو بقول مهجور .

ففى الوجه الأول: فالقاضى الذى ترفع إليه القضية ينقضها ولا ينفذها ،وحتى لو أنفذها ثم رفعت إلى قاض ثالث فالثالث ينقضها ؛لأنه متى خالف الكتاب والسنة والإجماع كان باطلاً وضلالاً ،والباطل لا يجوز الاعتماد عليه .

وفى الوجه الثانى: إذا قضى بقول البعض ،وحكم بذلك ثم رفع إلى آخر يرى خلاف ذلك ،فإنه ينفذ هذه القضية ويمضيها ،حتى لو قضى بإبطالها وبنقضها ثم رفع إلى قاض آخر فإن هذا القاضى الثالث ينفذ قضاء الأول ويبطل قضاء الثانى ؛لأن قضاء الثانى كان فى موضه الاجتهاد ،والقضاء فى المجتهدات نافذ بالإجماع فكان الثانى بقضائه ببطلان الأول مخالفاً للإجماع ومخالفة الإجماع ضلال وباطل ،فلا يجوز الاعتماد عليه .

وفى الوجه الثالث قول مهجور ……………………إلخ (15).

والنص صريح فى تحديد الموقف الفقهى من نقض أحكام القاضى المخالفة لما ليس محلاً للاجتهاد ،وهو بذلك يقترب من قضاء محكمة النقض عند المعاصرين ،وهو ليس درجة من درجات التقاضى ،ولكنه محكمة قانون لا تطرح أمامها وقائع الدعوى ،ولا يتسع صدرها للدليل الجديد وإنما تراقب سلامة تطبيق النصوص .

وقد أخذ البعض من هذا النص للإمام الخصاف أنه يقر جواز نظر القضية على مراحل ثلاث مما يعتبر معه القاضى الأول كقاضى ابتدائى وفق ما تقرره التشريعات الحديثة ،والقاضى الثانى كمرحلة استئنافية ،ثم أخيراً القاضى الثالث كمرحلة نقض ،…مما يؤكد القول بأن الفقه الإسلامى قد عرف استئناف الأحكام ونقضها >>.

والرأى عندى أن هذا تعسف فى قراءة النص ،وتأويل غير مستساغ ؛لأن النص فى سياقه لا يشير إلى تعدد درجات التقاضى ،فلم تكن نظاماً مقرراً ،ولم يدر بخلد القاضى الإسلامى القديم فكرة النقض أو الاستئناف بمعناها المعاصر ،ولكن هذا لا يوصد الباب أما تنظيم معاصر للقضاء يوجد فيه نظام للنقض ،ودرجة استنئنافية فى المحاكم ،ورفض (16)ذلك من البعض لا يسنده عقل أو نقل ،فيجوز لولى الأمر أن يختار تنظيماً آخر فيعين قاضياً أو أكثر للنظر فى الدعاوى  بدرجة أولى ،ويعين قضاه آخرين ينظرون فى الأحكام التى تصدر من الدرجة الأولى فيفسخونها إن كانت مستحقة للفسخ ،ويؤيدونها ويمضونها إن كانت مستحقة للإمضاء ،وفى حالى الفسخ يصدرون أحكاماً جديدة محلها ،ثم هذه الأحكام الجديدة التى أبرموها ترفع إلى الجهة المختصة بنقض وإبرام الأحكام ،فتنقض المستحق للنقض ،وتبرم الصحيح ،والدليل على ذلك أن الفقهاء أجازوا أن ينظر فى حكم القاضى قضاة متعددون >> (17).

وينتقض الحكم طبقاً لآراء جمهور الفقاء وأصحاب المذاهب الأربعة بما يلى :

أ- إذا جاء الحكم فيما قضى به مخالفاً لنص كتاب الله أو سنة رسوله أو الإجماع ،والمخالفة هنا تجئ من الخروج على الحكم ذاته كأن يورث القاضى الأنثى مثل الذكر ،والقاعدة الإسلامية فى الميراث عند تساوى الطبقة قوله تعالى :{للذكر مثل حظ الأنثيين } .

وقد تجئ المخالفة من فساد البينة أو الدليل الذى قام عليه الحكم ،كحكم شهادة غير المسلمين على عقود الزواج بين المسلمين .

ب- الحكم من قاض فقد صلاحيته للحكم ،كالقاضى الذى يصدر حكماً فى مسألة لنفسه أو أحد أصوله وفروعه أو زوجته ،أو يصدر الحكم من قاض خارج ولايته المحددة زماناً أو مكاناً أو نوعاً ؛لأن قواعد الاختصاص التى تصدر عن ولى الأمر بما له من سلطة السياسة الشرعية يعد الخروج عليها سبباً من أسباب نقض الحكم .

وفى كل الأحوال فإن نقض الحكم لا يكون إلا بأدلة جديدة يتقين منها بطلان الحكم ،فالشبهة بصفة عامة لا تكفى .

<<ويمكن القول فى ظل القواعد السابقة إن الشريعة الإسلامية تتسع لتستوعب وتقبل نظم الطعن فى الأحكام المقررة فى الوقت الحالى ،سواء فى ذلك طرق الطعن بالاستئناف ،الذى يجيز طرح المنازعة من كل جوانبها الواقعية والقانونية أمام محكمة الطعن ،أو الطعن بالنقض ،الذى تقتصر فيه رقابة المحكمة العليا على سلامة تطبيق المبادئ القانونية ،وذلك كله مع تحفظ مهم ينبغى أن يكون محل نظر ،وهو أنه إذا ما عتنقت المحمة المطعون على حكمها تفسيراً معيناً لقاعدة أو مبدأ ،وكانت لها أسانيدها المبررة لهذا التفسير ،لا يصلح طبقاً لأحكام الشريعة أن يكون وجهاً لإلغاء الحكم ؛ذلك لأن التفسير هنا إن هو إلا ضرب من ضروب الاجتهاد ، يصدق عليه الاختلاف فى الاجتهاد ،الذى استبعده فقهاء الشريعة الإسلامية من أسباب نقص الحكم ،وفى ذلك تختلف الشريعة الإسلامية اختلافاً كبيراً عن الأنظمة الوضعية التى تجعل لمحكمة الطعن الحق فى إلغاء الحكم إذا كان التفسير الذى اعتنقته المحكمة المطعون على حكمها لا يوافق رأى محكمة الطعن ،سواء كان الطعن بالاستئناف أو النقض >>.

كل ذلك كما قلنا بدليل جديد يقوم دافعاً للحكم السابق قاضياً بإبطاله ،بصورة متيقنة لا متحملة ،وتستثنى من ذلك الأحكام القضائية فى مجال الحدود والقصاص ،حيث يجوز الطعن فيها بالشك والشبهة المحتملة ،خلافاً للقواعد العامة عند الفقهاء الخاصة بحجية الأحكام اعتماداً على القاعدة الفقهية التى تنص على <<درء الحدود بالشبهات >>،ولم يعارض فى ذلك من الفقهاء إلا ابن حزم الظاهرى حيث يقول : <<إن الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة ،ولا أن تقام بشبة ،وإنما هو الحق الله ولا مزيد ،فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : <<إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام >>،وإذا ثبت الحد لم يحل أن يدرأ بشبهة لقول الله تعالى : {تلك حدود الله فلا تعتدوها } ومن جهل أوجب الحد أم لم يجب ففرضه أن لا يقيمه ؛لأن الدماء والأعراض حرام ،وأما إذا تبين وجوب الحد فلا يحل لأحد أن يسقطه ؛ لأنه فرض من فرائض الله تعالى (18).

والخلاف بين الظاهرية والجمهور ينحصر فى الشبهات الطارئة ؛لأن الشبهات المقارنة تسقط الحد عند الجميع ،سواء كان شبهة بالفعل أو بالفاعل أو بالمحل .

خلاصة البحث :

لقد أردنا من هذا البحث الموجز الوصول إلى ثلاث نتائج :
الأولى :أن المسلمين لديهم فقه إجرائى غنى وثرى ،ويمكن التعرف عليه من خلال موسوعاتهم الفقهية وكتب القضاء والنوازل والأحكام .

الثانية :أن الشريعة الإسلامية عرفت الطعن فى الأحكام ووضعت له حدوداً تتفق مع قواعدها الفقهية ، والنسق الفقهى فى ذلك يدور حول المصالح ،وتحكمه قاعدة تغير الأحكام بتغير الأيام .

الثالثة :أن تعدد درجات التقاضى بصورته الحالية مستحدث لم يعرفه الفقه ،ولكن السياسة الشرعية تستوعبه طالما يحقق مصالح العباد ،ويحمى الأحكام القضائية من الفساد .

●●●

الهوامش

(*)بحث مقدم لندوة الإجراءات الجنائية فى الإسلام ،لندن 22/ 10 / 1997م .

(1) فرج السنهورى : كفاية المتخصصين ،القاهرة ،1935م ،ص 18- 19 .

(2) راجع فى عرض هذه الآراء بالتفصيل والرد عليه رسالة أستاذنا د / محمد فؤاد مهنا <<دور القاضى فى القانون الإنجليزى والفقه الإسلامى المقارن >>باريس ،مكتبة أرثو برسو سنة 1930 الفصل الرابع من ص 336- 365 .

(3) عبد الرحمن تاج ،السياسة الشرعية ،القاهرة ،1953م ،ج 1،ص21 .

(4) على الخفيف ،السياسة الشرعية ،القاهرة ،سنة 1935م ،ص162 .

(5) د / حسن نشأت ،شرح قانون تحقيق الجنايات ،ط أولى ،سنة 1921 م ،ج1،ص85 .

(6) المقريزى ،الخطط مطبعة بولاق ،ج2 ،ص 187 .

(7) الخطيب الشربينى ،مغنى المحتاج ،تصوير بيروت ،ج4 ،ص371 .

(8) د / محمود محمد هاشم ،النظام القضائى الإسلامى ،القاهرة ،سنة 1948م ،ص 121- 123 .

(9) د/ صلاح الدين الناهى ،مبادئ التنظيم القضائى فى الفقه الإسلامى . مجلة القانون المقارن ،العراق ،عدد 3 سنة 1976م ،ص42 .

(10) الطرابلسى ،معين الحكام ،ص 3 .

(11) الشافعى ،الأم ،ج6 ،ص 308 .

(12) ابن قدامة ،المغنى ،ج9 ،ص 58 .

(13) ابن فرحون ،الحكام ،ج1 ،ص82 .

(14) محمد صادق : القضاء الإسلامى ،مجلة القضاء العراقية عدد 1 ،2 سنة 1961م .

(15) د / عبد الحسيب عطية – حجية الحكم الجنائى فى الفقه الإسلامى ،جامعة الأزهر ،سنة 1989 م .

(16) الصدر الشهيد : شرح أدب القضاء ،بغداد تحقيق محى سرحان ج3 ،ص 109 – 110 .

(17) يرفض د . عبد الحسيب عطية مع جانب من المعاصرين فكرة التقاضى على درجات – راجع رسالته <<حجية الحكم الجنائى >>،مرجع سابق ،ص 248 .

(18) عبد الكريم زيدان : أحكام التضاد فى الشريعة الإسلامية ،ص 279 .

(19) ابن حزم : المحلى ،ج11 ،ص 153 – 155 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر