أبحاث

التوحيد والفن (1)

العدد 23

الفصل الأول

تصورات خاطئة عن طبيعة الفن الإسلامي

يهتم عدد كبير من الباحثين بدراسة الفن الإسلامي، وفيما عدا ما يتصل بالدراسات الأدبية فإنهم جميعا من الغربيين بالدرجة الأولى.

وقد أسهم هؤلاء الدارسون بنصيب وافر في جمع الأعمال الفنية الإسلامية وتصنيفها، سواء فيما يتصل بالفن المعماري أو فن النقش، بتحسين الخطوط أو بتجليد الكتب، بالنحت أو بصناعة الخزف، بصناعة النسيج أو السجاد… أو غير ذلك مما أنتجته الشعوب الإسلامية. وقد صنفوا ذلك النتاج الضخم تصنيفا روعي فيه منشأ كل فن، عصره وتطوره، حتى بدا بصورة منظمة تعبر عن مدارس وأنماط فنية منوعة.

ولا شك أن الدراسات الغربية بما أنجزت في هذا المجال تستحق الشكر والتقدير، حيث لا يمكن لباحث اليوم أن يسير في هذا المجال من غير أن يعتمد على الجهود المضنية التي بذلها أولئك الدارسون، أو من غير أن يتلمس مواطن الاعجاب والعرفان بالجميل لمثل هذا التراث المدرسي والإنجازات المتحفية التي صحبته. ومن ثم فلا بد أن نسجل أنه لا سبيل إلى الدراسة الجادة لهذا الفن إلا بعد تتبع تلك الدراسات التي لا تكاد توجد مكتبة للفن الإسلامي إلا وتشكل فيها النصيب الأوفى من المراجع والمصادر.

غير أن هؤلاء الدارسين أنفسهم قد بدوا جائرين في تقييمهم لهذا الفن؛ إذ على الرغم من اعتمادهم على أنفسهم وجديتهم وذكائهم، وعلى الرغم أيضا من جهدهم المضني ومثابرتهم، على الرغم من ذلك كله فشلوا في تفهم روح هذا الفن وفي إدراك وتحليل إسلاميته. وقد قادهم هذا الفشل إلى أن ينظروا إلى الفن الإسلامي من خلال الروح الذي يصبغ فنهم هم –أي الفن الغربي، مسلمين بهذا الفن الغربي كمعيار مطلق لكل الفنون- ومن ثم حاولوا أن يطبقوا عليه معايير غربية صرفة.

على أنه حين استعصى عليهم هذا التطبيق -وكان طبيعيا أن يرفضه الفن الإسلامي- زادت الهوة بينهم وبينه وانطلقوا يتهمونه بأنه فشل فيما برز فيه الفن الغربي، وكان هذا هو الاتهام الثابت المطرد في كل كتبهم -صراحة أو ضمنا- لا نجد فيهم من حاول إعادة النظر في المنهج، بل لا نجد حتى الآن من يملك الشجاعة ليدعي في وضوح فشل هذا المنهج، أو حتى التنبؤ بضرورة تغيير تلك القوالب النقدية الثابتة التي يعاني منها علم الفن الإسلامي خلال ما يربو على قرن. وهناك أمثلة عديدة لمثل هذه الأحكام الخاطئة في شتى مجالات الفن الإسلامي، نعرضها فيما يلي:

1- في فن الزخرفة العربي:

أ. هارتزفيلد (E. Herzfeld) في مناقشته لفن الزخرفة، لاحظ هارتزفيلد ما يطلق عليه “مناقضة الطبيعة” (Anti- naturalism) في استخدام أوراق النبات والأزهار، مع أن هذا الفن في نظره يعتبر “الشكل السائد ذا المكانة الرفيعة بين كل فنون الإسلام”. ومن ثم فهو يعقد مقارنة بين هذه المناقضة للطبيعة وبين طبيعة -أو مواءمة الطبيعة- في الفن السابق للإسلام، أي الفن الهيليني.

على أن المقارنة هذه منذ البداية لم تكن تحليلية وصفية كما أراد لها الكاتب أن تبدو. إن باحثا مثل هارتزفيلد الذي يدين للطبيعة لا بد أن يعتبر عدم التواؤم مع الطبيعة في حد ذاته كافيا لاتهام هذا الفن أو ذاك. ومن هنا كانت تعبيراته: “الوفاء للطبيعة”، “الرغبة في الواقعية”، “التعارض المباشر مع الطبيعة” كلها تعبيرات تنم عن موقفه الذي يدين الفن الإسلامي في تقديره له. وبالمثل فإن محاولته لشرح فن الزخرفة، على أساس نفساني (Psychologically)، كنظرية “شغل الفراغ” يجب أن تعد من قبيل التحامل.

يمكننا إذن أن نتصور أن قارئ هارتزفيلد يستطيع أن يصل بسهولة إلى النتيجة التي أرادها الكاتب، طالما أنه قد أدان مكونات فن الزخرفة في الوقت الذي يعتبر فيه هذا الفن “أكثر الأشكال شيوعا وأعظمها شأنا بين فنون الإسلام جميعا [ألا وهي التحقير من شأن الفن الإسلامي عامة].

ولكن هارتزفيلد يذهب إلى أبعد من ذلك فيقرر صراحة أن الإسلام لم يترك في نفس المسلم مكانا للفن على الإطلاق، يقول: “إن نظرة المسلم للحياة حين تقارن بالنظرة التقليدية السابقة [يعني الإغريقية والرومانية] وحتى بالمسيحية، لم تترك مكانا للفن على الإطلاق، وبكل ضرامة، كقيمة رفيعة….. فالصفة العامة لنظرة المسلمين للحياة تشرح الاختفاء التدريجي للعناصر الشخصية من أعمالهم الفنية، على حين تشكل هذه العناصر الجزء الرئيسي في الفنون السابقة للإسلام، والتي يعتبر التزين بالنباتات فيها مجرد إضافات عرضية.

فتطور التزين الزخرفي كما يبديه “فن الزخرفة” إنما جاء على حساب الأشكال الفنية الكبيرة، وعلى حساب التفصيلات الدقيقة في عمل الصانع الماهر، على أن “فن الزخرفة” بجانب معارضته للطبيعة يستخدم في التزيين كلمات من القرآن في خطوط عربية منوعة. ولكن هذا لا يعني بالنسبة لهارتزفيلد أكثر من مجرد “تعصب ديني”. فالزخرفة بالخطوط العربية، رغم أنها أعلى قيمة زخرفية ممثلة في كل الفنون الإسلامية، لا تحمل في رأيه أي قيمة جمالية على الإطلاق، ولهذا فهو يهاجم وجودها في الفن الزخرفي على أنها “تعصب مؤكد من جانب المسلمين”.

2- فن النقش والتصوير:

م. س. ديماند (M. S. Dimand) وت. و. أرنولد (T.W. Arnold) س. ديماند الأمين السابق لقسم فن الشرق الأدنى بمتحف “Metropolitan” بنيويورك أطلق على كتابه “مذكرة في الفنون الزخرفية المحمدية” (A Handbook of Muhammadan Decorative Arts) لأنه يعتقد أن “الفن المحمدي أساسا فن زخرفي”.

ولأن تأتي هذه الفكرة من باحث غربي فهذا في حد ذاته اتهام خطير؛ إذ إن الزخرفة في الفن الغربي هي بالتأكيد ما ليس جوهريا في العمل الفني، أي أنها قد تؤثر في العمل الفني، ولكن خارج حدود المضمون فقط. فالجوهر الأساسي في مضمون العمل الفني يظل كما هو بغض النظر عن الزخرفة. وحين يكون لهذه الزخرفة تأثير على المضمون تخرج تماما عن نطاق الزخرفة.

إن ما يعنيه ديماند هنا حقيقة هو أن الفن الإسلامي، طالما أنه “أساسا فن زخرفي”، فن بلا مضمون. وهذا بالطبع حكم غير صائب، إذ لا يمكن أن يصرح بأن حبات العرق والدموع التي بذلها ويبذلها عباقرة من كل العصور التي ذهبت أدراج الرياح، إلا ناقد متعجل متأثر بحكم سابق.

إن عدم صلاحية ذلك الحكم قد دفع ديماند إلى محاولة لتعليله وشرحه. فهو يرى أن الفنان المسلم قد أنفق كل دموعه وعرقه في الزخرفة لأن رؤية السطح الفارغ أمر لا يطاق في العين المحمدية. فالحائط، وصفحات الكتب، كموضوعات الحياة اليومية، كلها غنية بالتزيين والتنميق النباتي، والهندسي المجرد. وقليلا ما يكون هذا التنميق مصحوبا بصور الأشخاص والحيوانات، ولكن هذه الأخيرة مع ذلك تأتي في مرتبة ثانوية بالنسبة للاتجاهات الزخرفية السائدة. وفي الواقع فإن التزيين الذي يشكل الخلفية يعطى من الأهمية بمثل ما تعطى تلك الأشخاص ذاتها.

وهكذا يصبح الفن الإسلامي، بالنسبة لديماند، مجرد رد فعل لعقدة نفسية أصيب بها كل الفنانين المسلمين العاديين والعبقريين منهم على حد سواء. ثم لا يحاول ديماند أن يذهب خطوة واحدة أبعد من تأكيد هذا الرأي، فعبثا أن يحاول القارئ أن يجد في كتابه شرحا لهذه الظاهرة المدهشة التي لا نظير لها في تاريخ الفن، بل في تاريخ الإنسانية كله.

وهناك تحامل غربي آخر تنم عنه محاولة ديماند هذه، فتأكيده على أن “تصوير الأشخاص والحيوانات إنما يأتي بصفة دائمة عرضا أو ثانويا بالنسبة للاتجاهات الزخرفية السائدة” يعتبر تفسيرا للفن الإسلامي على أنه “أساسا فن زخرفة”. وهو بهذا يفترض أن الفن ليكون فنا رفيعا لا مجرد زخرفة يجب ألا يكون تصوير الأشخاص فيه ثانويا بينما تكون عناصر الزخرفة هي الجوهر.

وباختصار فإنه يرى ضرورة تصوير الشخصيات في الفن بنفس الطريقة التي يفهمها ويعرضها الفن الإغريقي والغربي بصفة عامة. ولكن تصوير الشخصيات في الفن، وخاصة بالطريقة التي يعرضها الفن الإغريقي والغربي يعتبر محرما في الإسلام.

وفي رأي ديماند أن الفن الإسلامي لم يكسر هذه القاعدة الصارمة إلا على يد “الشيعيين” أو “الطائفة الأكثر تحررا” -كما يسميهم- “والتي بظهورها انقسم المعسكر الإسلامي إلى طائفتين كبيرتين: هذه وطائفة السنيين المحافظين”.

إن هذا التقييم لخصائص الفن الإسلامي بما لا يتلاءم مع طبيعته والاتهامات المترتبة عليه بسبب فشله في تقديم النماذج الفنية التي لم يقدمها، يعتبر النمط الشائع في دراسات الغربيين لهذا الفن؛ فمعظم الدارسين له يرون أن انعدام العناصر الشخصية فيه يعد مشكلة المشاكل. والتحامل واضح تماما في السؤال الذي يطرحه الباحث الغربي هنا، ناهيك عن الإجابة التي يتصورها.

أما ت. و. أرنولد فيرى أن تحريم الإسلام تصوير الشخوص إنما جاء، “بالتأكيد” نتيجة “تأثير اليهود” الذين دخلوا في الإسلام، على تطور الفكر والشعائر في الأجيال الإسلامية الأولى، وأن خروج المسلمين على هذا النسق في بعض الحالات، وخاصة في فن التصوير، إنما يرجع إلى حقيقة مهمة، وهي أن هذا التحريم مناف للطبيعة البشرية. وصدورا عن عدم الفهم لمكانة تصوير الأشخاص والغرض منه في الفن الإسلامي يصبح من الطبيعي أن أي محاولة لتقييمه سوف توحي بفشله الذريع كفن وكنشاط إنساني على حد سواء.

فحين يقلب الباحث الغربي نظره باحثا عن شيء أو قيمة يريدها هو ولكنه لا يجد لها أثرا في الفن الإسلامي إطلاقا، بل على العكس يجد أنها أبعد ما تكون عن ضمير الفنان المسلم وغرضه، يحس بالمرارة وخيبة الأمل.

ويعد كتاب أرنولد: التصوير في الإسلام: دراسة في مكانة الفن التصويري في الثقافة الإسلامية Painting in Islam, A Study of the palce of Pectorial Art in Muslim Culture مثالا تقليديا لهذا الإحساس.

فهو يكتب: “هناك سمة خاصة تطبع تصوير الأشخاص في الفن الإسلامي تستحق اهتماما خاصا، أعني، ندرة المحاولة لإبراز تعبيرات عاطفية على وجوه الأشخاص الأحياء الذين تمثلهم هذه الصور” أكثر من هذا فإن “الفنان المسلم” –كما يتصوره أرنولد- “كان راغبا في إنفاق ساعات من جهده ليصور العروق الدقيقة في ورقة من شجرة الدلب أو ليصنع الظلال والألوان في أوراق زهرة السوسن، ولكنه لم يخطر بذهنه على الإطلاق أن يهب نفس الآلات والجهد ليبرز ملامح الشخوص الإنسانية ويجعلها معبرة عن موقفها الانفعالي والوجداني في خلال المشهد الذي تشكل جزءا منه.

وكقاعدة عامة، فإن مثل هؤلاء الشخوص ينظرون إلى ما حولهم بوجوه لا أثر فيها للتفاعل مع ما يجري حولهم أو الاهتمام به، سواء أكانوا ملوكا أم سوقة، جنودا أم فلاحين، فالمحاربون في المعركة يتلقون الطعنات والجروح القاتلة وكأنهم لا يهتمون بها. فها هنا رأس جندي تكاد تطير عن أكتافه على أثر ضربة قوية من خصمه ومع ذلك لا تختلف نظرته إطلاقا عما لو لم تكن هذه الضربة قد وقعت، وهناك فارس تدمي جراحه بغزارة حيث لا يثير منظر دمه المتدفق في عاطفة الرسام أكثر مما يثيره لون سروال قرمزي، وكأنه (أي الفنان) لا يعرف شيئا عن خلجات النفوس في مثل هذه الحالات، فهو يمر على الموقف في بلادة دون أن يعرض في لوحته أي علامة خارجية على الآلام المهولة التي لا بد من أن تصحب مثل هذه التجربة المروعة. وحتى في لحظات البهجة التي تخرج الإنسان عن وعيه تبدو هذه الوجوه مجردة تماما عن أي انفعال، وكأنها وجوه أناس لم يدركوا أنهم في قمة السعادة كما تتمثلها التجربة الإنسانية”.

هذا خطاب رائع. لكنه يغص بسوء الفهم والتحامل والانتقاص والازدراء مما يجعله لا يليق بأي عالم عرف للموضوعية أي معنى. فالتصوير في الإسلام يجب أن يقيم في ظل الروح العام للفن الإسلامي كما سنرى فيما بعد.

3- في الفن المعماري ك. ا. كرسول K. A. Creswell

ك. ا. كرسول -ربما يعتبر ألمع الأسماء في دراسة الفن المعماري الإسلامي- يرفض الاعتراف بأن هناك شيئا ما يمكن أن يطلق عليه “الفن المعماري الإسلامي” ولكن هناك فقط ما يمكن أن يسمى في رأيه بـ”فن معماري عند المسلمين”، أي الفن المعماري عند هؤلاء الذين يسمون أنفسهم مسلمين، وبالطبع فإن الفرق بين هذين كبير.

فأولا: هو يرى أنه لا وجود لما يمكن أن يسمى بـ”فن معماري عربي” فالعرب، طالما أنهم قدموا من جزيرة العرب التي هي، على تحد تعبيره، خالية تماما من “الفن المعماري” لم يكن لديهم ما يمكن أن يسهموا به في هذا المضمار بالنسبة للشعوب التي تغلبوا عليها. وهكذا فإن “كرسول” يبدأ بفكرة مسبقة وهي أن الإسلام في حد ذاته، أو الفكرة الإسلامية، لا أهمية لها في الفن المعماري عند المسلمين، هذا إذا افترضنا الخطأ المحال بأن العرب لم يعرفوا فن العمارة قبل الإسلام.

ثانيا: وإن سلمنا جدلا بأنه لم يكن هناك فن معماري ذو قيمة تذكر في الجزيرة العربية قبل الإسلام وفي العصور الإسلامية الأولى، فكيف إذن تأتى للمسلمين أن يبدعوا تلك الآثار الفنية المعمارية الباهرة التي تملأ العالم الإسلامي من الأندلس إلى الصين؟ ويجيب كرسول على هذا السؤال بأن المسلمين ببساطة قد تبنوا أشكال الفن المعماري التي كانت موجودة عند الشعوب الخاضعة لهم؛ وأنهم إنما فعلوا ذلك، خلال السنوات الأولى التي شيدوا فيها حضارتهم، لدواعي السياسة والفخر والمنافسة المحضة.

وبجانب أن هذا الحكم يعبر عن حقد داخلي بدلا من أن يكون تحليلا منطقيا، فإن المحاولة التي يبذلها كرسول لتعليله يشوبها السفسطة والتطرف والغرور من ناحيتين:

فمن جهة، ادعاؤه بأن الجزيرة العربية “مجردة تماما من الفن المعماري” قبل الإسلام حتى لو سلمنا به، لا يستلزم بالضرورة أن المسلمين لم يكونوا مبدعين في الأبنية التي شيدوها بعده خارج الجزيرة العربية.

ومن جهة أخرى، فإن تبني أشكال وعناصر من الفن المعماري الأجنبي لا يعارض صفة الإبداع أو الخلاقية بل على العكس أنه يفترض مثل هذه الصفة إذ كيف يمكننا أن نتحدث عن تبن لفن من الفنون دون أن نستحضر مبدأين اثنين: مبدأ الاختيار ومبدأ التنسيق؟.

على أن كرسول، ليجعل من فكرته أمرا مقبولا، ربما قصد إلى التأكيد على أن المسلمين لم “يتبنوا” وإنما “نسخوا” -بلا اختيار أو تنسيق- فنون الشعوب التي خضعت لهم. وفي مثل هذه الحالة لا تصبح فقط وحدة الفن المعماري الإسلامي مستحيلة، وإنما أيضا ينهار تماما كل جمال أو روعة يتمتع بهما أي بناء اسلامي من “قبة الصخرة” و”الحمراء” إلى “المسجد الجامع” و”تاج محل”.

وهكذا فإن تحليل كرسول يقود إلى موقف لا يمكن قبوله وهو أن أيا من روائع العمارة الإسلامية ليس إلا “بيزنطيا” أو “رومانيا” أو “فارسيا” أو “هنديا” أو “خليطا عشوائيا” من هؤلاء ومثل هذا في الواقع، إن صح إطلاقه على شيء فإنه لا يمكن بحال أن يكون “إسلاميا”.

وثالثا: إنه من السخف أن يقال إن حضارة جديدة بين الحضارات لا تستمد عناصرها من حضارات سابقة عليها أو مجاورة لها. فما من شعب يخلق حضارته من “عدم”. ولكن الذي يمكن أن يقال هو أن الحضارة لا توصف بكونها حضارة إلا إذا كانت قادرة على هضم مثل تلك العناصر واعادة تمثيلها وإخراجها في شكل جديد ينسب إليها أصالة.

ومن هنا فإن كرسول مضطر للاحتفاظ بفكرته إلى الغلو في الإنكار بأن الحضارة التي جاء بها الإسلام حضارة على الإطلاق. على أن مناقشته في مثل هذه الحالة تصبح، مرة أخرى، نوعا من العبث. وتأكيده بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معاديا للفن المعماري –وهذه مسألة لم يستطع البرهان عليها- لن تقدم له أي عون في مناقشته.

ورابعا: إن ما يطلق عليه “حضارات أجنبية” استعار منها الإسلام هو بعينه “حضارة الشرق الأوسط والحضارات الفارسية”. ولا شك أن هذه ليست حضارات إسلامية أو عربية بالإحساس الذي يعطيه التأريخ الهجري لهذه المصطلحات. ولكنها في مجموعها، بالإضافة إلى الحضارة العربية الإسلامية بعد الهجرة، تشكل وحدة أعرق.

فالمسلم بعد الهجرة استعار من السوري “البيزنطي”، ومن العراقي “الفارسي” ولكن ما استعاره يعتبر جزءا أصيلا من نفس المادة التي تشكل ثقافة الشرق الأوسط لآلاف من السنين، نفس المادة التي تتوحد معها نفسه ويرى فيها ذاته الموروثة.

4- في الأدب: ج. إ. فون جرونباوم G. E. von Grunebaum:

ربما يعتبر رأي جرونباوم عن طبيعة القيم الجمالية في الأدب الإسلامي أكبر تحامل وجه ضد الفن الإسلامي. ففي رأيه أن الإسلام يحط من شأن الفنون جميعا بتحريمه الكامل للخلاقية من جانب الإنسان، وأنه يحقر “أي ابتكار ذاتي من جانب الفنان”، ويعتبر مثل هذا الابتكار موضع شك، أو حتى “غير مشروع” وغرضه دائما هو “اقصاء أية فكرة عن وجود حقيقة فنية بجانب تلك التي نفكر فيها ونعيشها”.

وجرونبام يستمد استنتاجه هذا مما يسمه “اتهام” الأدب ورجاله بأنهم “يقولون ما لا يفعلون”، “فالقرآن” على حد تعبيره، “يضع الشاعر في موضع الريبة”. وبعد أن يقتبس هذا الكاتب الآيات 124- 126 من السورة 26، [الشعراء]، يذهب إلى القول بأن هذا الحكم يعتبر “انكارا لاهوتيا للابداع الإنساني” وهذا، من غير شك أخطر اتهاد يوجه للاسلام فيما يتصل بموضوع الفن.

فلو أن القرآن نفسه يقف ضد الابداع الفني، في حد ذاته فلن لكون إذن أمام الفنان أي أمل في الابداع سواء في الأدب أو الموسيقى، أو النحت، أو التصوير. ومن الجدير بالذكر أن جرونبام حين أشار إلى تلك الآيات القرآنية الكريمة في مقالته “العقيدة الإسلامية والجمالية العربية” اختار فقط الجملة “وأنهم يقولون ما لا يفعلون”، من الفقرة التي تقع هذه الجملة في سياقها.

أما في مقالته “روح الإسلام كما تبدو في أدبه” فهو يقتبس الفكرة كلها ولكنه يقف عند تلك الجملة ذاتها. وحتى في هذه الحالة فإن الفقرة: “والشعراء– يتبعهم الغاوون- ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون- وأنهم يقولون ما لا يفعلون”، والتي اعتمد في نقلها على ترجمة بل Bell، لا تؤدي في حد ذاتها، بطريقة منطقية، إلى النتيجة التي توصل إليها. فالمسند إليه، أي “والشعراء” ليس مفصولا والجمل التي تليه جمل وصفية لا حكمية. وعليه فإن التحريم القرآني لا ينصب على كل الشعراء وإنما فقط، وبكل بساطة، على هؤلاء الذين هم “في كل وادٍ يهيمون” و”يقولون ما لا يفعلون”.

وهناك دليل أبعد على عدم الفصل بين المسند إليه، “الشعراء”، وبين الجمل الوصفية بعده، نجد في الفقرة التالية والتي رأى جرونبام من المناسب اغفالها، مع أن هذه الفقرة ذاتها، بكلماتها القرآنية، تدحض كل دعواه تماما. فلننظر أولا إلى ما تقوله الآيات المذكورة: “والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون”.

فمن الواضح هنا أن القرآن الكريم لم يحرم الشعر ولم يحط من قدر الشعراء والأدباء في مجموعهم، بل فقط “في بعضهم”، أي الذين “يقولون ما لا يفعلون”. فليس في هذا الموضع إذن ولا في غيره ما يشير بأن القرآن ينكر الأدب كما يدعي جرونبام.

غير أنه –القرآن- يتوعد –وهو توعد مشروع- أولئك الشعراء الذين يسخرون مواهبهم وراء أي غرض، وهذا هو المعنى الوحيد الذي يستطيع الواحد أن يراه مطابقا للعبارة “في كل وادٍ يهيمون”، ولا تطابق أفعالهم أقوالهم. ولكي لا يكون هناك لبس أو سوء فهم، فإن القرآن يستثني في صراحة أولئك الشعراء الورعين المستقيمين أخلاقيا. وهذا استثناء واضح لا جدال فيه، فأداة الاستثناء العربية “إلا” السابقة على “الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا…” الخ، ليس لها إلا معنى واحد هو “الاستثناء”.

ولا يمكننا أن نتهم الأستاذ الجليل بأنه لا يعرف معنى “إلا”، إذن فلا مفر من تحميله التلاعب بالنص لإقامة الحجة المرغوبة. والحق أنه بدلا من العداء للأدب، يعتبر الإسلام هو الديانة الوحيدة –فيما يعرف المرء- التي تلزم أتباعها ببذل جل جهدهم لتحصيل التمكن من اللغة والتفوق الأدبي وتفهم البلاغة.

على أن موقف جرونبام يصبح أكثر عرضة “للقطع بما يتبع مما كتبه في مقالته. إذ هو يدعي بأن الإسلام فرض على أتباعه “اللا قدرة” على الخلق الفني. “فالإسلام” -على حد تعبيره- “لا يعرف من الطقوس الدينية ما تعرفه المسيحية أو الهيلينية من نماذج، أي أن تنوع العبادات الإسلامية خلال العام “الشعائري” جد محدود في مجالاته الدرامية. فالشعائر المسيحية تعتمد أساسا على الخيال، بينما الشعائر الإسلامية تلجأ فقط إلى العقل.

الأولى (الشعائر المسيحية) تحول الأسرار الغامضة إلى دراما، بينما الأخيرة (الشعائر الإسلامية) تخلو تماما من مثل هذه الأسرار. فليس في الإسلام عملية تخليص للبشر من الخطيئة الأصلية. فهذه الخطيئة، في نظر الإسلام، ليست أكثر من عدم الوفاء لعهد تم بين آدم وربه. إنها لم تفسد طبيعة الإنسان إلى الحد الذي تتطلب تضحية قدسية لاسترجاع تلك الطبيعة النقية. وفي رأي محمد، أن الإنسان لم يفسد ولكنه فقط ضل، وهو لا يحتاج إلى مخلص، ولكن إلى إرشاد عن غوايته. ومن ثم فلا مكان في الإسلام لأسطورة الخطيئة والخلاص التي تمثل وجوهها المختلفة صور التاريخ الإنساني المفعم بالمآسي ومصير الإنسان الفرد المعدوم من الأمل بدون تخليص خارجي. أما في الإسلام، وكل ما فعله الله ويفعله هو منح الإنسان فرصة تخليص نفسه بنفسه؛ فهو لا يحب النوع الإنساني إلى درجة التألم في حالة فسادهم”.

هذا يعني في وضوح اعتماد العقيدة المسيحية كنموذج للدين، حين نتحدث عن الفن. فجرونباوم فيما يبدو، يرى أنه لا يمكن أن يصدر الفن إلا عن شعائر موقوفة على الأساطير الغامضة، ومعبر عنها في اطار تمثيلي، لأن مثل هذا الاطار التمثيلي (Dramatic) الذي تقدمه المسيحية هو وحده الفن الديني الممكن. وحقا، هكذا يؤكد جرونبام، أن “المرء يستطيع أن يدرك بدون عناء أن عدم التجاذب الحواري سواء في تصرفات الله أو في مواقف الإنسان قد جرد المجتمع الإسلامي من أي دافع تجاه الفن التمثيلي، وبينما وجد هذا الفن، على كل حال، نقطة ارتكاز في العقيدة المسيحية، فإنه لم يجد مثل هذه النقطة سواء في العقيدة الإسلامية أو في البناء الشعائري لها”.

نفس هذا الميل المفضوح للفن التمثيلي كما لو كان وحده الفن الممكن أو الجدير بالملاحظة، ونحو المسيحية كما لو كانت وحدها النموذج الذي يجب أن يحتذى في كل العقائد حيث يصدر عنها هذا الفن، وحيث تشجعه وتخدم كأساس له، هو ما دفع بجرونباوم إلى أن يرى الإسلام نمطا يمنع الفن التمثيلي. وهكذا يرى في كتاباته أنه “لم يكن التحريم للفن –سواء أكان صحيحا أم ملفقا- هو الذي منع الفنون التصويرية في المساجد؛ ولكنه بالأحرى عدم وجود الدافع القوي لتقديم مثل هذه الفنون”. وهو يشرح هذا بقوله: إن “محمدا لم يكن موضوعا لأي عبادة خاصة أو مباشرة من جانب أتباعه، أو بعبارة أخرى فإنه لم يكن موقرا بنفس الأسلوب الذي اتخذه القديسون المسيحيون نحو المسيح”.

 

5- في الموسيقى: هـ. ج فارمر (H. G. Farmer):

فارمر، بالرغم من ألفته الطويلة للنصوص الإسلامية الموسيقية، أو النصوص التي كتبت عن الموسيقى الإسلامية، يخطئ فيما يطلق عليه “معارف الإسلام للفن الموسيقي ككل”. وفي تقديره أن الموسيقى شيء طبيعي في الإنسان ولا يمكن تحريمه أو منعه، ولهذا فهو يحكم على وجود الموسيقى ونموها وتطورها في الإسلام كحقيقة أخذت مكانها بالرغم من تحريم الإسلام لها.

ويصرح في كتاباته بأنه: “حينما ينظر المرء إلى كل الاضطهادات والعقوبات التي وجهت ضد الموسيقى لربما وجد من المدهش أنه قد أمكن لهذا الفن أن يتقدم تحت راية الإسلام. ولكن الحقيقة أنه برغم صرامة الفقهاء والمتكلمين فإن القانون الخاص بتحريم الموسيقى كان له احترامه في المواعظ أكثر منه في الملاحظة والتطبيق” على أن كل أنواع الموسيقى التي لم تكن “مباحة” فقط وإنما أوجبها الإسلام وأمر بها، مثل الأذان وترتيل القرآن، لا تعتبر موسيقى طبقا لما يراه فارمر وغيره من المستشرقين. وعنده أن الموسيقى تتألف من ذلك النوع الموقوف على التأثيرات الوجدانية”، النوع الذي يعطي للعراف والكاهن والساحر القديم تلك السلطة العجيبة على أفئدة الناس أو الذي يقود إلى السكر والدعارة” وما نشأ من هذا النوع سواء على أيدي الصوفية أو غيرهم من المسلمين “في كل مكان بالرغم من الإسلام هو فقط الجدير باسم الموسيقى الإسلامية عند فارمر”.

وبجانب ما يترتب على هذا الرأي من تصوير غير مباح للاسلام كحضارة متناقضة مع نفسها، فإن الكاتب يفترض بلا أدنى دليل أن الموسيقى هي فقط ما يصور العواطف  المختلفة للإنسان في تفاعه مع الطبيعة، وأنها تفعل ذلك بقوة توحي إلى مستمعيها بالمشاركة في هذه العواطف وذلك بتحريكها فيهم.

وهذا التعريف الواضح من تحليل فارمر ربما ينطبق على الموسيقى الغربية. وخاصة تلك الموسيقى الرومانتيكية التي أعقبت الموسيقار باخ، مع أنه قد يعتبر تحقيرا للموسيقى ذاتها في رأي عباقرة الموسيقى الغربية مثل موزار أو بيتهوفن، أو براهمز أو فاجنر.

على أن هذا التعريف لا ينطبق على الأذان أو ترتيل القرآن لأنهما –مثل كل الفنون الإسلامية- لا يرحبان بهذا الهدف (أي تصوير العواطف الإنسانية في تفاعلها مع الطبيعة). إن غايتهما النهائية مختلفة؛ وهذا الاختلاف ذاته هو الذي يؤكد اسلاميتهما ويرسي دعائمهما.

فنحن لا يمكن أن نجحد ما يطلق عليه فارمر: الموسيقى “المتصلة بالسكر والخلاعة” يوجد حقيقة وأن هذا النوع بانتمائه إلى المسلمين، كان من الطبيعي أن يحوي مضمونا رومانتيكيا أو عاطفيا في الاطار التعبيري للموسيقى الإسلامية الخالصة… باختصار إنه خليط.

على أن الخلط في القيم الجمالية غير مقبول، ولا يمكن أن يستثنى منه هذا النوع من الموسيقى. والاتهامات الموجهة إليه بأنه مطرد النغم إلى حد الاملال، أو أنه جامد، أو أن التعبير العاطفي فيه ركيك لها جميعا ما يبررها. ولكن أن تعتبر الموسيقى الإسلامية الخالصة، التي يتوحد فيها الشكل والمضمون، والتي ظلت معبرة عن الذوق الموسيقي الإسلامي خلال العصور –أي الأذان وترتيل القرآن- أن تعتبر هذه غير جديرة باسم الموسيقى فهذا هو عين التحامل.

 

6- في نظرية الفن: ريتشارد إتنجهاوسن (R. Ettinghausen):

على نفس المنوال الغربي، يبدأ إتنجهاوسن تحليله لـ “خصائص الدين الإسلامي” بادعاء أن العرب قبل الإسلام كانوا شعبا لا مكان عنده للفن، فأولا، وفي ظل الحياة القبلية، كل ما يحيط به المرء نفسه لا يتعدى الموضوعات والأشياء البسيطة، الخشنة، التي لا تقبل الكسر خلال حله وترحاله على ظهور الجمال”، وثانيا فإن ديانة العرب قبل الإسلام لم تتطلب نحت تماثيل جميلة لغرض العبادة، ومن ثم لم تقدم لهم أي احتمالات للابداع الفني”.

ونلاحظ أن إتنجهاوس قد بدأ بفكرته السابقة عن الحياة الجمالية التي تقوم إما على الأشياء التي يقتنيها الناس في بيوتهم. وإما على التمثيل المنحوتة لغرض العبادة. وبخلو الحياة الغربية من هاتين تصبح امكانية الخلق الفني عندهم مستحيلة، حسب تصوره. أكثر من ذلك، ربما كنا بحاجة إلى أن نذكره بأنه نسي تماما أعظم الفنون على الاطلاق، والذي يعد بالتأكيد أعظم الفنون العربية، أعني الشعر، ونسي أيضا التوأم الذي يصاحب الشعر دائما، الموسيقى، ففي تحليله بدأ التجاهل التام لهذين الفنين العظيمين.

وهكذا بعد أن أوحى الكاتب في نفس قارئه أن الإسلام لم يرث أي قيم جمالية من الحياة العربية، بدأ في عرض ما أعطاه الإسلام في هذا المجال. وهذا العطاء الإسلامي –فيما يرى الكاتب- قد تقرر في ظل مبادئ أربعة: “الخوف من اليوم الآخر” و”كون محمد بشرا” و”الخضوع لله القادر على كل شيء” و”الأهمية الرئيسية للقرآن كتعبير عربي للكتاب السماوي”.

هو يدعي أن المبدأ الأول هو الذي أوجد التضاد بين الإسلام والحياة المترفة وبالتالي بين الإسلام والفن. وقد بني إتنجهاوسن على هذا الرأي أنه ما وجد الترف، حيثما وجد في التاريخ الإسلامي إلا على حساب الإسلام وتحديا له.

ولكن الكاتب هنا فيما يبدو لا يعكس سوى الصورة المسيحية التي تعلق دائما بذهنه وهي أن الاستمتاع بأي متعة من متع الحياة إنما هو مادة، وزيف، وخطيئة، وشر -عقدة الذنب التي صنعتها اللاهوتية ابتداء من المسيح كما تصوره الأناجيل، إلى أوجستين، إلى لوثر وكالفن- وهو بهذا ينسى أن الإسلام قد جاء على خلاف ذلك، إذ حينما يستمتع المسلم بهذا العالم المادي إنما يفعل ذلك بضمير مستريح طبقا للتشريع الآلهي: “قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا…” وحتى لو كان الإسلام معارضا للترف فإنه لا يتبع بالضرورة أن يكون معارضا للفن إلا إذا كان تعريفنا للفن قاصرا على أنه لون من متع الحياة اليومية وأداة من أدوات اللهو والزينة.

أما المبدأ الثاني، أي إلحاح الإسلام على بشرية النبي، فقد حطم “كل احتمال لتطوير أيقونات (صور وتماثيل قدسية) تصور محمدا بنفس الطريقة التي يصور بها المسيح في العالم الغربي”.

والمبدأ الثالث، أعني الخضوع لإله قادر على كل شيء، يتضمن –طبقا لما يراه إتنجهاوسن- التحريم المطلق لتمثيل الشخوص، ومن ثم الحط الكامل من شأن الفن التشخيصي.

إن استسلام المسلمين لهذا الاعتقاد هو “المسئول عن عدم الانفعال، بل قل عدم الحيوية، أو اللاطبيعية، التي تبدو في تصويرهم لكل ما هو حي”، هو المسئول عن “الرتابة الصارمة في وضع الألوان غير الطبيعية أو غير المتجانسة بعضها إلى جانب بعض” هو المسئول عن “عدم الرغبة الواضحة في خلق ولو نموذج واحد رئيسي تتضح فيه الشخصية الفردية المعبرة عن الذات”، هو المسئول عن “التخلص من هذا الشكل المغلق يجعل النموذج غير نهائي”، هو المسئول عن “تتالي الرسومات التي لا تتضح فيها البداية أو النهاية”، هو المسئول عن “الأشكال والوحدات الفنية التي تعرض في أسلوب تعسفي يمكن معه أن تعكس أو تغير أوضاعها”، هو المسئول (فوق هذا كله وبعد هذا كله) عن “عدم الترابط العضوي بين الوحدات الفنية”.

وطالما أن إتنجهاوسن قد اعتبر محاكاة الشخصية، والتطورية، والخصائص الواقعية والطبيعية، في الفن الغربي مثلا مطلقة لكل الفنون، فإن كل ما استطاع أن يراه في الفن الإسلامي هو أنه فن تعوزه هذه الخصائص أو أنه يناقضها.

وفي النهاية يصرح إتنجهاوسن بأن المبدأ الرابع، وهو اعتبار القرآن العربي التعبير الصريح عن الكتاب السماوي، قد أنتج فنا اسلاميا –الخط العربي- ازدهر لفترة طويلة. والكاتب هنا لا ينسى أن يقارن هذا الفن المشروع في الإسلام بـ “الدوائر التصويرية في العهدين القديم والجديد، وخاصة تلك التي تتصل بحياة المسيح” علما بأنه لا يكاد يوجد أي أساس لمقارنة ذات معنى بينهما.

وفي الوقت ذاته يرى الكاتب أن المبدأ الإسلامي بعدم خلق القرآن لم يعد له معنى. فالقرآن الآن مطبوع في لغات غير العربية، وبدونها، أي العربية وبهذا يبدو أن الحبل السري لهذا الفن –إذا جاز لنا هذا التعبير- قد انقطع” وبتقديم الفنان المسلم للوحات الطبيعية وتعاطيه لفن الفوتوغرافيا، فإن “تحولا ثوريا وحتميا قد أخذ مكانه”، محولا قلب الوجود الإسلامي والثقافة الإسلامية. هكذا يستنتج إتنجهاوسن في غبطة، وفي رضا ظاهر عن التدهور الجديد الطارئ على الفن الإسلامي.

إن الاستنتاجات السابقة للدراسات الغربية حول أشكال الفن الإسلامي ليست مجرد آراء فردية معزولة بعضها عن بعض، وإنما تمثل في مجموعها حقيقة واحدة تشغل الجزء الأكبر من هذه الدراسات.

ففي مجال نظرية الفن الإسلامي، وفي فلسفته ومعناه، لم يقدم الغرب في هذه الدراسات سوى تلك الآراء الجدلية المغرضة التي لا تقوم على أساس من الحق. وهذا يتناقض بدرجة كبيرة مع الإنجازات التي حققتها تلك الدراسات ذاتها في مجالات تاريخ الفن الإسلامي والتعريف به، وتنظيمه، وتصنيف المعلومات الخاصة به.

وبسبب هذا القصور فإن نظرية الفن الإسلامي، والقيم الجمالية الإسلامية لا تزال مجالا يخلو من الدارسين، وإن أي بحث إيجابي يجب أن يبدأ منذ البداية من النظرية ذاتها، طالما أننا قد أوضحنا مجالات سوء الفهم لها والخطأ في تصورها.

[وقبل البدء في إعطاء هذه النظرية تجدنا بحاجة إلى دراسة ممهدة عن طبيعة العمل الفني الديني، وخاصة في المسيحية واليهودية لما لهذه الدراسة من وثاقة ببحثنا الحالي].

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر