أبحاث

إعادة البناء الإسلامي والسلطة السياسية

العدد 22

( أ ) المعنى الغيبي والقيمي للتوحيد:

يتمثل جوهر الممارسة الدينية في الإسلام في التوحيد، أي شهادة أنه لا إله إلا الله. وتنطبق الصفة الغيبية على هذا المبدأ من

ناحيتين: ففي المرتبة الأولى، يؤكد أن الحقيقة مزدوجة، فهي تتكون من ملكوت كائن فوق الوجود المادي، وملكوت مدرك بالحواس، وطبقا لمبدأ التوحيد، تعرف هاتان الحقيقتان بالله وغير الله، أو الخالق والمخلوقين. وفي المرتبة الثانية، نجد أن مبدأ التوحيد يصور الله سبحانه (بمقتضى المعاني الفعلية، والمادية والنهائية لذلك الاصطلاح) كالسبب الأول للخلق، ومن ثم يعترف بأن الله هو مصدر الكون، ومصممه، وصانعه. ولكنه وفقا لهذا القول نجد أن الإسلام لم يعلمنا أي شيء جديد، لأن تلك الحقائق قد عرفت بالفعل لليهود والمسيحيين، بل وأيضا العرب قبل الإسلام.

لكن ما يعد إسلاميا بصفة مميزة… ومن ثم جديدا.. في التوحيد باعتباره مبدأ غيبيا هو الناحية السلبية لذلك الاصطلاح، فإعلانه أنه ليس ثمة كائن يمكن أن تعزي إليه الألوهية سوى الله يصطدم مع الأفكار اليهودية، والمسيحية، وأفكار العرب قبل الإسلام، التي تشرك كائنات أخرى مع الله، وآلهة العرب التي كانت تتمثل في الحجارة والأخشاب، والتي كان العابدون يوجهون إليها التسبيح والشكر، ويسترضونها بالكهانة والتضحيات، قد أنزلت الله إلى مرتبة اعتبرته فيها مجرد إله يستكمل به العدد.

وكما افترض الثالوث المسيحي وجود ثلاثة أشخاص في الآلوهية كل منهم يعتبر بمثابة إله في حد ذاته. وأكد أن الله قد ظهر في صورة البشر، وهكذا قد انتهك ذلك الاعتقاد كلا من الوحدة الإلهية، وسمو الله فوق الوجود المادي، أو أنه قد صور الله بطريقة تختلف تماما عن حقيقته. أما اليهودية فتعتبر الله في شكل متعدد وجمعي يتمثل في “الألوهيم”، وتصف “الألوهيم” بأنه يتصل بالنساء من بني البشر. وهكذا فإنها أيضا قد انتهكت كلا من مبدأ التوحيد وسمو الله فوق الوجود المادي، وفوق ذلك، فإن الملوك اليهود بصفة عامة بإطلاقهم اسم “عزرا” على “ابن” أو “أبناء” الله، وباعتبارهم أن الله بمثابة أب اليهود، الذين تختلف علاقاتهم معه تماما عن علاقات أي من المخلوقات الأخرى، بكل هذه الاعتبارات أوجدت اليهودية منزلة متوسطة لسمو اله فوق الوجود المادي في مقابل اعتبار أن كل شيء يعد بطريقة متساوية من خلق الله، وليس من ذريته. ويبدو أن هؤلاء الذين يصوغون الحقائق قد أرادوا أن يؤكدوا سمو الجنس اليهودي على جميع الأجناس الأخرى، ولذلك، فإن الإسلام سمو الجنس اليهودي على جميع الأجناس الأخرى، ولذلك، فإن الإسلام قد سعى من خلال مبدأ التوحيد أن يطهر الدين تماما من كل شك يتعلق بوحدة الله وسموه فوق الوجود المادي. وقد حقق هدفا مزدوجا بمقتضى ذلك هو الاعتراف بالله كالخالق الأوحد للكون، والنظر إلى جميع الناس بطريقة متساوية باعتبارهم من خليقة الله، منهم يحظون بنفس الصفات الأساسية للإنسان كما يحظون بنفس الوضع في الكون:

وتوجد ناحية أخرى للتوحيد بالإضافة إلى الناحية الغيبية هي الناحية القيمية، فعند تأكيدنا أنه لا إله إلا الله نعني أن الله هو القيمة المفردة والنهائية، وان كل شيء آخر يعتبر فقط أداة تتوقف قيمتها على الله، ويقاس بتحقيقها الخير الإلهي النهائي، ونعني أن الله هو الغاية النهائية لجميع المطالب، وأن كل ما هو موجود في الكون يجب أن يماثل نفسه مع إرادة الله. وبمقتضى هذا الرأي، فإن الإنسان يعد بمثابة العبد الذي يحب أن يكرس كل أعماله وقدراته لخدمة الله، أو تحقيق الإرادة الإلهية، أي تحقيق القيم السائدة على مدى الزمان – والمكان. وتوجد حقيقتان أخريان متضمنتان في ذلك تتعلقان بالوعي الأخلاقي وهما: أن الإنسان يعتبر ذا فعالية، وأن الخليقة تعد شيئا طيعا. فإنه كما أكد القرآن، ليس ثمة واجب إلا وأوجدت “المقدرة” على أدائه فيما يتعلق بكل من الفاعل باعتباره وكيلا يدين بالأخلاق والمفعول به الذي يتمثل في كل شيء مدرك بالحواس يمكن معالجته (أي الخليقة)، فمقدرة الشيء القابل للمعالج على استقبال الأعمال الفعالة للإنسان ومعاناة التحول هو ما يعنيه القرآن بفكرة التسخير، وتأكيده أن الله قد أخضع كل شيء في الكون للإنسان سواء على الأرض أو في السماء. وفيما يتعلق بمقدرة الفاعل على القيام بالعمل، فيجب أن نضع في أذهاننا أن “الفعل الأخلاقي” لا يعني تقديم سلسلة جديدة من الأشياء السببية المترابطة، فإن ذلك يعد عملا حقيقا من أعمال الخلق التي تقتصر على الله. أما “الفعل الأخلاقي” فيعني تحويل سلسلة الأشياء السببية المترابطة إلى مسار يختلف عن مسارها لو لم يتم حدوث الفعل الأخلاقي، فالمقدرة على إقامة الفعل الذي تتطلبه الأخلاق ليست بأكثر من ذلك، أي تحويل وإعادة توجيه سلسلة الأشياء السببية المترابطة الموجودة بالفعل في الكون إلى غايات أخرى.

والناحية القيمية للتوحيد مثلها مثل الناحية الغيبية تقيم العلاقة بين الله وخليقته، ولكننا نجد أنه في الناحية الغيبية تكمن كل المبادرة والعمل في الخالق، أما الخليقة فتعد سلبية، لأنه تتأثر فقط بفعل الخلق الإلهي والإمداد بأسباب الحياة الذي يظل فيه الخالق حرا ومستقلا تماما. أما في الناحية القيمية، فإن المبادرة والفعل تكمن في الإنسان، ومن خلال الأفعال الإنسانية يتم تحقيق شيء من الله. ومن ذلك، فإن التوحيد يؤكد أن ما يتم التوصل إليه من خلال الفعل الأخلاقي الذي يقوم به الإنسان يمثل الإرادة الإلهية التي لا تتأثر بما تم التوصل إليه، إذ لميزة الخاصة بالبداهة القيمية هي أنها تستدعي تحقيق ذاتها دون أن تعاني تلك الذات من أي تغيير. ولذلك، فإن الإسلام يعترف بالعلاقة التي تقصر وجود الله على الإدراك الحسي أو التصورين وبمقتضى ذلك، فإنه يميز بين ذات الله، أي سموه الأبدي عن المعرفة الإنسانية، وبين إرادة الله التي تعد حقيقة قابلة للإدراك. وطبقا لغرضنا هنا، بالمقارنة مع الجوهر الإلهي الغير قابل للإدراك، نجد أن أمر الله، وإرادته، وأفعاله، وسنته تعد عبارات يمكن أن تتبادل فيما بينها، ولو أننا افترضنا وجود اختلاف فيما بينها بالنسبة للمعاني الإضافية التي توحي بها، فيجب أن ندرك أنها جميعها تتماثل في دلالتها، أي في وجود الكائن الإلهي القابل للإدراك، والذي نستطيع أن نطلق عليه “ما يعرف عن الله”. ونستطيع أن نقول بصفة عامة إن إرادة الله تعتبر ذات طبيعة قابلة للإدراك، وتعتبر هدف العلوم الطبيعية، وتعد قيمة في الأمور الإنسانية، وهي هدف علم الأخلاق، كما أنها هدف لعلوم الشريعة، وتعتبر أيضا بمثابة وحي في الدين.

وبالرغم من جميع تلك التمييزات على المستوى القيمي، فقد نقنع بالقول أن الله قد كان دائما موضعا للحب والعبادة، وقد كانت إرادته على مدى قرون عديدة موضع إخلاص واهتمام الجنس البشري، وقد تم تلقي أوامره، وتم فهمها وإطاعتها. لكن ما هو إذن الشيء الذي يميز الممارسة الإسلامية على المستوى القيمي.

إن التوحيد بشهادته المختصرة، لا إله إلا الله يعبر عن ثلاثة معان جديدة على المستوى القيمي: المعنى الأول أن الخليقة هي الشيء المادي الذي يجب أن يتحقق فيه الكمال المتمثل في الإرادة الإلهية. ولذلك، فإن كل عنصر من عناصر الخليقة يتسم بالصلاح، وإن الكون لم يخلق على أفضل صورة فحسب، بل إنه خال من النقائص ويتسم بالكمال. وفي الحقيقية، فإن الكون الذي قدمت إليه القيم عن طريق الإنسان من خلال رؤيته الأخلاقية وأفعاله الأخلاقية يعد هو ذاته الغرض الإلهي من الخليقة. ونتيجة لذلك، فإن التمتع بقيمه الجوهرية أو النفعية لا يعتبر ذنبا، فالحياة التي تتمثل فيها جميع القيم تعتبر أثرا من آثار الله، ويتوقف الاحتفاظ بها وتدعيمها على أفعال الإنسان المتمثلة في التسبيح لله وعبادته، وتغرس القيم الكونية السامية في كل فرد باعتبارها أداة للتوصل إلى الحقيقية المطلقة، وعلى عكس ذلك، نجد أن المسيحية، قد انتقصت من قدر الحياة الدنيا بتصويرها إياها بأنها تتكون من مجرد “كائنات حية”، وأن البشرية تعد “مجموعة هائلة من الآثام” وأنه لن يأتي أبدا الزمان – والمكان عندما نتوصل للحقيقة المطلقة.

أما المعنى الثاني، فهو أن الإنسان لا يقع في مأزق إلا ويستطيع أن يخرج نفسه منه. فاعتبارات مثل كون طرق الإنسان مليء بالعقبات، تؤدي إلى تحقيق المتعة والشعور بالنشاط والخفة، تعد جميعها حقائق، ولكنها ليست بأكثر واقعية من نقائضها. ولذلك، فإن الإنسان ليس بحاجة إلى منقذ، أو مسيح أو خلاص، ولكنه في حاجة إلى أن يكرس نفسه لأداء واجبه في الحياة، وأن يقيس كفاءته بصورة مباشرة بمقدار منجزاته. ولذلك، فإن الإسلام، باختلافه عن المسيحية، قد علمنا أن الروحية أي إتباع الإرادة الإلهية – دن تغيير التوازن الوجودي للخليقة، ودون تحويل مسار الخيوط السببية للطبيعة على كل من مستوى الزمان – والمكان، أي باختصار، دون السياسة والاقتصاد يعتبر تظاهرا زائفا وغير ذي جدوى – أنه يدعو الناس للسعادة العظيمة بدلا من الخلاص، ويعدهم بالأجر في الحياة الدنيا والآخرة بما يتناسب مع أعمالهم.

أما المعنى الثالث الجديد للتوحيد على المستوى القيمي فهو أنه نظرا لأن الخير الذي يجب تحقيقه يتمثل في الإرادة الإلهية، ونظرا لأن الإرادة الإلهية، بمقتضى كونها إرادة الخالق، تعتبر واحدة بالنسبة لجميع المخلوقات ويجب عليهم جميعا الالتزام بها، فإنه ليس من الممكن أن تكون هناك أي تفرقة بين الأماكن والأشخاص باعتبارهم القائمين بالفعل الأخلاقي. ولقد تم تأكيد ذلك المعنى بواسطة عيسى والأنبياء الآخرين، ولكنه نادرا ما كان يتم اتباعه بواسطة المسيحي، ومن ثم وجب إعادة ذكر الأمر مرة أخرى لصالحهم، ومن الناحية الأخرى، نجد أن اليهودية قد أنكرت المبدأ بإصرار وحثت على عكسه. أما فيما يتعلق بأنه ليس من الممكن أن تكون ثمة تفرقة بين الزمان والمكان باعتارهما محور العمل السياس المتشعب، وأنه لن تكون ثمة تفرقة بين الناس باعتبارهم القائمين بالأفعال الأخلاقية، وكون الحياة الأخلاقية بالضرورة عالمية واجتماعية في نفس الوقت، فإن ذلك كان بمثابة اكتشاف جديد لم يعرف أو يمارس قبل ظهور الحركة الإسلامية إلى الوجود.

ويبدو أن ذلك واقع في نطاق المنظور الخاص بتعاليم الأديان السامية، ونظرا لأن الإسلام يضع الأشياء في إطار منظور أوسع، فأنه يعد تقدما مفاجئا أيقظ العالم من السبات الذي استحوذ عليه في انقسامه فيما بين العقيدة الهندية والعقيدة الهلينية. لقد اعتقد الهنود – طبقا لديانتهم – أن العالم في حد ذاته يمثل الحقيقة المطلقة (البراهما)، ولكنه لا يعد على الشكل المثالي، بل إنه يتخذ لنفسه شكلا مميزا خاصا وملموسا قد أدانوه، وهم قد اعتقدوا أن صياغة الروح وتقييدها في صورة حسبة أو مادية (البراهما) تعد شيئا غير مستحب. ونتيجة لذلك، اعتبروا الأمر الديني الأخلاقي بمثابة فرار من ملكوت التشكيل المادي للأشياء (أي الخليقة)، الذي أدانوه باعتباره شيئا بغيضا، إلى ملكوت الحلقيقة المطلقة (أي السعادة القصوى البرهمية) التي مجدوها باعتبارها النعيم والخير الأسمى وبمقتضى ذلك الرأي، فأن مسيرة الكون. أي الإنجاب، والتعبئة لإنتاج الطعام، والتعليم، وتحويل الحياة إلى جنة. وصياغة التاريخ، تعديلا ريب رذائل لأنها تنشر، وتضاعف وتطيل من تلك الحالة المتمثلة في صياغة الأشياء في الصورة المادية. وفي الواقع. فإن المذهب الأخلاقي الوحيد الذي ينسجم مع هذا الرأي يعد فرديا ومنكرا للحياة. لقد ظلت كل من اليانية والبوذية الثرافادية صادقة الولاء لتلك الرؤيا الأساسية الخاصة بالمعاهدات الفيداوية التي تعالج مشاكل فلسفية واسعة.. ولقد قبلت الهندوسية تلك الرؤيا لصالح النخبة المختارة من القوم واقترحت نظرة دينية شعبية تتطلع بمقتضاها الطوائف الاجتماعية المغلقة إلى الآخرة فقط للخلاص من آلامها، في حين تستمر في العمل في مناصبها المعينة في الحياة دون الشعور بأي نوع من المتعة أو الرضا عن النفس الذي يتحقق عن طريق إشعار الإنسان بأنه يفي بالغرض من وجوده في الحياة. وبطريقة مماثلة، فإن البوذية المهانية قد احتفظت بتلك الرؤيا كخلفية لها وصاغت عقيدتها من المذهب الأخلاقي الصيني الفطري للعالم، وعينت بعض الأسلاف من البشر ورفعتهم إلى مصاف الآلهة ليكونوا بمثابة المخلصين الذين ينقذون البشرية من أحزان الحياة.

وبإدماج بعض عناصر الديانات المصرية واليونانية والمثرائية والأديان الشرقية الغامضة، فإن الهلينية قد استطاعت أن تغمر الحركة السامية لعيسى التي كانت تسعى إلى إصلاح التقيد المفرط بالقانون الخاص بالعنصر اليوناني – المصري الذي ماثل بين الله والكون مع تعديله وتخفيفه، وذلك بصياغته في مذهب التجسد الذي يظهر الله بمقتضاه في صورة البشر حتى يمكن الناس من أن يضفوا عليه صفة الألوهية. ولقد اجتمعت أشياء تتمثل في نبذ المضطهدين في الإمبراطورية، والمقت الروحي الشديد للمادة والكون، وأمل المثرائية واليهودية في الخلاص، لتمنح المسيحية حكمها التاريخي في على الكون الذي بمقتضاه وسمته بالانحلال الخلقي، ووسمت الحياة بأنها زذيلة مؤقتة، والدولة والمجتمع بأنهما من عمل الشيطان، والحياة الأخلاقية بأنها فردانية وزاهدة.

لقد كان الشيء الذي أنجزه الإسلام هو تقديم الإيضاح المجدد للرؤية، فقد استبعد اعتقادي الهند ومصر اللذين ماثلا بين الحقيقة المطلقة والكون، والخالق والخليقة، سواء كان ذلك لصالح الخليقة كما كان الأمر في مصر واليونان القديمة، أو لصالح “الخالق” كما كان في الهند. ولقد أعاد الإسلام تأكيد الرؤيا القديمة الخاصة بالعراق والتي تؤكد التباين التام بين الخالق والخليقة، وتؤكد أن الإنسان عبد في ملكوت الله. وبالاستفادة من التاريخ، فإن إعادة التأكيد تلك التي قام بها الإسلام كانت بمثابة تبلور لتلك الحكمة القديمة الخاصة بالعراق.

(ب) المتضمنات التاريخية للتوحيد:

يلزم التوحيد الإنسان بإتباع الفضيلة في أفعاله، أي إتباع المبادئ الأخلاقية التي تق أن قيمة الإنسان أو عدم قيمته تقاس بدرجة النجاح التي يحرزها في تغييره لمسار العمليات على مدى الزمان – والمكان، أو بمقدار التغيير الذي يحدثه في نفسه وفيما حوله. إن التوحيد لا ينكر المبادئ الأخلاقية المتضمنة في النية حينما يتم تطبيق نفس الأسلوب القياسي طبقا لدرجة اعتناق الشخص للقيم التي تؤثر فقط على حالته من الشعور. ومن ثم فإن الاثنين لا يتعارضان، بل إن الإسلام في الحقيقة يتطلب الإيفاء بالالتزامات الأخلاقية المتعلقة بالنية كخطوة تمهيدية للبدء في الإيفاء بالالتزامات الأخلاقية المتعلقة بالفعل. والإسلام بمقتضى ذلك قد حال دون أن تصبح مبادئه الأخلاقية المتعلقة بالفعل. والإسلام بمقتضى ذلك قد حال دون أن تصبح مبادئه الأخلاقية شيئا يتوقف على النتائج أو المنفعة المترتبة عليه مهما كانت الأهمية التي تضفي على تلك النتائج أو المنفعة.

ومما ينتظر من المسلم الملتزم أن يعمل على تحويل مسيرة الزمان – والمكان، وتغيير الكون. وبمقتضى نشاطه لخدمته، وبإدراكه أن مشيئة الله يجب تحقيقها على مدى الزمان والمكان، فإنه يجب أن يأخذ على عاتقه مواجهة الصعوبات، وأن يفتح عينيه على واقع الأمر والتاريخ، ويحاول أن يحقق ذلك التغيير المرغوب فيه. وهو لا يستطيع أن يحيا حياة رهبانية، أو يعيش في عزلة، إلا إذا كان ذلك بهدف التدريب على ضبط النفس والسيطرة عليها. وحتى إذا كان ذلك هو الهدف، فإن تلك الممارسة لو لم تؤد إلى تحقيق قدر من النجاح بالنسبة لتحويل الزمان – والمكان، فأنها سوف تكون أنانية لا أخلاقية، لأن الهدف في تلك الحالة سوف يتركز حول تشكيل الذات وكأن ذلك غاية في ذاته، بدلا من الإعداد لتغيير العالم بما يتماثل مع النمط الإلهي.

وقد برر القرآن وجود الكون بإفاضة، ووصفه باعتباره ذلك الشيء الذي يباشر فيه الإنسان مهمته الكونية، كما أكد القرآن أن الكون هو المملكة التي يجب أن يتحقق فيها الكمال بواسطة الإنسان، فإن الفضيلة تتمثل في العمل، ويتم الحصول على السعادة القصوى أو الفلاح من خلال العمل. وبمقتضى ذلك، يشرح القرآن أن الغرض من الكون ككل ليس من الممكن أن يكون له معنى آخر سوى تغيير الخليقة المتمثلة في الرجل، والمرأة، والأرض، والمدن والبلدان. وبالنسبة للسؤال من هو الذي ينكر الدين؟ (ونجد أن الدين يعد تعبيرا أكثر شمولا من الله) يجيب القرآن أنه: فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين”. ومن الواضح أن تزويد الكون، أي ذلك الزمان والمكان، بالقيم، حتى القيم المادية مثل الطعام، ليس ذا أهمية الدين بالنسبة لجميع الأمور المتعلقة بالدين، ولهذا فإن الإيمان بالأخرويات (كالبعث والحساب) في الإسلام يختلف بصفة جذرية عنه في اليهودية والمسيحية، ففي اليهودية نجد أن “ملكوت الله” يعد بديلا لوضع اليهود في المنفى، أما ملكوت نجد أن “ملكوت الله” يعد بديلا لوضع اليهود في المنفى، أما ملكوت داود “فكان بمثابة شيء يعرض بواسطة هؤلاء الذين افتقدوا ملكوت الله والذين يجدون أنفسهم في أدنى مستويات الأسر والانحطاط. وبالنسبة للمسيحية، فإن دفعتها الرئيسية كانت تتمثل في مصارعة التمركز حول العرق، ونحو الأشياء المادية والمظاهر الخارجية الخاص باليهود. ومن ثم كان من الضروري للمسيحية تطهير ملكوت داود من العوامل الدنيوية وفصله بشكل تام عن الزمان والمكان. وقد أدى الاتجاه الذي كان سائدا بالفعل في اليهودية والمسيحية إلى تطوير ذلك المر بشكل أكبر بإضفاء الصفة لاعالمية عليه باعتباره خلاصا للبشرية وتظهيرا لها من الروابط الدنيوية. وفي كلتا الحالتين، فإن “ملكوت الله” قد أصبح بمثابة “عالم آخر” وأصبحت الحياة الدنيا بمثابة مسرح مؤقت لقيصر، والشيطان، والمادة في عالم يسوده الفساد وينتشر فيه اللصوص وأعمال السرقة.

والإيمان بالأخرويات (كالبعث والحساب) في الإسلام ليس شيئا تمت صياغته على مدى التاريخ. ولكنه مبين في القرآن بشكل واضح تماما. وهو لا يدين بأي علاقة بالنسبة للأوضاع الراهنة الخاصة بمعتنقيه كما هو الحال في اليهودية والمسيحية، فإن ذلك الإيمان يعد بمثابة ذروة الحياة الأخلاقية على الأرض، تلك الذروة التي تتجسد في الثواب والعقاب. والحياة ف يشكلها المألوف لدينا لن تتكرر مرة أخرى، تحت ظروف أخرى وبأقدار مختلفة للبشر تغاير معاناتهم الحالية، وهذه الحياة هي الملكوت الوحيد المفرد، ومسيرة الزمان – والمكان هذه هي المسيرة الوحيدة، والإنسان فقط هو الذي يستطيع اتخاذ الأمور التي تجعل الكون في الصورة التي يجب أن يكون عليها. وحالما تنتهي الحياة، يمكن حينئذ فقط إجراء الأحكام وإقامتها وتطبيق الثواب والعقاب، ويتم ذلك بكيفية تختلف تماما عن المسار المألوف لدينا للأشياء في الزمان – والمكان، فذلك سوف يكون أمرا فوق الوجود المادي، يفوق المعرفة الإنسانية تماما، فيما عدا وصفه المجازي الذي ينقل إلينا عن طريق الوحي.

وكنتيجة لذلك، تكتسب أمور الحياة في الإسلام أهمية خطيرة للغاية. والتاريخ يعد حاسما بالنسبة للمسلم كما هو حاسم بالنسبة للشيوعي، فيما عدا أن المسلم يعرف نفسه، ويعرف أنه لا يمثل الحقيقة المطلقة، ولكنه هو صانع التاريخ، فالمسلم يعتقد عن ثقة أن يقرره الله ليكون بمثابة التاريخ في النهاية هو النتيجة المباشرة لسلوكه على مدى التاريخ، على كل من المستوى الشخصي والفردي، وأيضا على المستوى الاشتراكي أو الاجتماعي. وفي حين أن الشيوعي يعتبر التاريخ في حد ذاته الحقيقية المطلقة، ومن ثم يعتبره ضروريا، وأن المسيحي يعتبر التاريخ غير ملائم، وغير ضروري، بل وبغيضا، فإن المسلم يعتقد ان التاريخ يعد المسرح، والمادة، والاختبار، والجوهر، والغرض من الخليقة ذاتها. ويتبع ذلك أن الإسلام يعرف المسلم بأنه الشخص “الجاد” الذي يعتبر في الوجود والخليقة، ويعلن بقوة “ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك”، ويحيا الحياة الشاقة التي تتمثل في التدخل لأقصى درجة ممكنة في عمليات الطبيعة والتاريخ، وهو الذي يتقبل إصدار الحكم عليه بمقتضى إنجازاته أو فشله في التأثير على التاريخ، وهو الذي يتقبل إصدار الحكم عليه بمقتضى إنجازاته أو فشله في التأثير على التاريخ. وهكذا، فإن التوحيد يمكن المسلم من أن ينظر إلى نفسه باعتباره محور التاريخ. لأنه هو خليفة الله الوحيد الذي يستطيع تنفيذ إرادة الله على مدى التاريخ.

تلك هي النظرة الوحيدة القادرة على شرح لسلوك النبي والصحابة والأجيال المبكرة من المسلمين، فالرؤيا التي تمثلت لمحمد في غار حراء، والأمور الإلهية التي تمثلت له من خلال جبريل، قد حثته على التوجيه إلى  مكة ليقوم بالعمل ويحول مسار الإنسانية والتاريخ. ولكن تلك الرؤيا لم تحجزه في حالة من المعاناة، أو تحثه على الرغبة أو السعي لتكرارها، ولم تثر مشاعر الحسد في أصحابه لعدم مرورهم بنفس التجربة. ولكنها قد أمرت محمدا بوضوح أن يقوم بتغيير اتجاه الحياة الواقعية المتمثلة في الزمان – والمكان إلى ما يتوافق مع الشكل الإلهي. لعل ذلك هو التمييز النهائي الذي يميز تجربة محمد عن تجربة عيسى في المسيحية، أي أنه في حين أعادتها التأكيد على القيم الشخصية الخاصة بعيسى، فإنها أضافت إليها – كشرط أساسي – الرؤيا القائلة بأن أشياء مثل التطلع إلى الله، وحب الله، والاستغراق فيه، والعيش به، ليست بذات قيمة لو لم تؤد إلى الارتفاع بهذا الكون، وهذا التاريخ، وهذه المادة بطريقة فعالة حتى يتم تحقيق القيم التي تمثل إرادة الله. لقد كانت هذه الإيجابية في التجربة الدينية هي التي جعلت النبي محمد يجيب مناشدة لها بالتخلي عن تغيير الوضع الراهن بواسطة الإسلام بالكلمات التالية:

“لو وضعوا الشمس في يمني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته أبدا”.

وبدلا من أن يستسلم لأعدائه بطريقة سلبية ويجعل من نفسه كبش الفداء، فإن محمدا قد فاقهم حيلة، وهاجر إلى المدينة وكون في الأسبوع الأول لهجرته أو دولة إسلامية، ووضع دستورها. إن نبوة محمد لم تتكون من أكثر من تلقي الرسالة ونلقها، ولكن الرسالة كانت ذات مضمون، وقد كان محمد أول من التزم بما أمرت به.. لقد أملى عليه ذلك المضمون أن يتدخل في عمليات الطبيعة. وفي أسلوب حياة قومه وحياة جميع الناس، ويحقق التحول المرغوب فيه. وبعد مضي تلك المسيرة اللامعة للقيادة في جميع جبهات الحياة.. التي ابتدأت من أكثر الأوجه شخصية، إلى  الأوجه العسكرية، والسياسية والقضائية – والتي تم توحيد بلاد العرب في خلالها وتعبئتها لتقوم بأخطر تدخل في تاريخ العالم، توفى محمد بعد أن ترك جيشا معبأ يقف على أهبة الاستعداد لنشر الإسلام في العالم خارج بلاد العرب.

ولقد قام المسلمون الأوائل – الذين استحوذت عليهم رؤيا النبي وحماسه الشخصي – باقتحام ميدان التاريخ – دون توان – لأحداث التغيير الذاتي في الأفراد الذين ينتمون لجميع الأجناس والحضارات، وأحداث التغيير في أنماط حياتهم اليومية، وفي حضارات المجتمعات وأيضا في الخرائط، والخطوط الكفافية، والصور الظلية للقرى والمدن وحتى الإمبراطوريات. وكلمة عقبة بن نافع الشهيرة على شاطئ الأطلنطي في المغرب، حينما قال “لو أنني أعرف أنه توجد أرض فيما وراء المحيط لعبرته فوق ظهر جوادي!” نموذج للروح السائدة في الجيل الجديد الذي نشأ على تعاليم الإسلام، فالمهمة التي اتخذها المسلمون على عاتقهم كانت تعد عالمية، وقد كانوا دائما يودون التأكد من إتمامها على أكمل وجه. وتعتبر تلك المهمة ذات طبيعة أخلاقية ودينية، لأن المسلم لم يكن يعني بالمنصب السياسي أو الكسب الاقتصادي، وإنما كل ما كان يعنيه كان يتمثل في إقامة حياة يسود فيها حكم النظام العالمي الجديد، تلك الحياة التي لا يجري فيها أي ظلم إلا ولقي جزاءه، وتسود فيها الحرية بالنسبة لنقل الأفكار ويكون لدي الناس حرية الإقناع والاقتناع، ويستطيع الإسلام أن يدعو فيها الناس إلى التوحيد بالله، وإلى الإيمان بالحقيقة والقيم. ولو لم يوجد التاريخ ذاته من قبل ويحث المسلمين بقوة على إعادة تشكيله، لكان المسلم قد صنع ذلك التاريخ، والمثل لذلك هو حي بن يقظان، الذي بعد أن أدرك وجود الله والإرادة الإلهية. قام بنحت طوق من الأشجار ليعبر به البحر، وأنهى عزلته الفردية وتقدم لاستكشاف المجتمع والعالم والمساهمة في صنع التاريخ.

(ج) متضمنات التوحيد بالنسبة للنظرية الاجتماعية (الأمة):

1 – المتضمنات النظرية:

تحقيق الإرادة الإلهية. أو تطبيق القيم، يتطلب وجود الأمة، أي الهيئة المكونة من أناس متحدين سويا، يكون باعثهم للعمل هو الإرادة الإلهية، وتملى تلك الحاجة على الأمة بواسطة الاعتبارات التالية التي تنبع جميعها من طبيعة التجربة الدينية في الإسلام.

( أ ) الطبيعة العامة للحياة الإسلامية:

عندما نتحدث عن المبادئ الأخلاقية المتعلقة بالبنية، وحينما تعد القيمة الأخلاقية بمثابة دالة الالتزام الشخصي في لحظة معينة، ومن ثم تعد بمثابة دالة حالة الشعور بالنسبة للشخص، فإنه ليس من الممكن أن يكون هناك أي حكم على الفرد سوى ضميره.. والله. ونظرا لأن تلك المسألة تعد شخصية وذاتية تماما، وليس ثمة شخص يستطيع أن يتعرف على نقاء القلب ودوافعه وأعماله الذاتية سوى الشخص ذاته. وذلك هو السبب في أن أي نظام اجتماعي يتعلق بالمبادئ الأخلاقية المتعلقة بالنية يفترض قيامه على أساس الشرف حيث يكون الضمير الشخصي دائما القاضي، وأن الدور الوحيد الذي يستطيع الأشخاص الآخرون القيام به في تلك العملية هو دور الناصح. وحتى عندما يعلن الضمير أن الشخص مذنب ويصدر الحكم ضده بالتكفير أو التعويض، فإنه يقوم أيضا بالعمل بدور القاضي الوحيد الذي يراقب تنفيذ الحكم. ونستطيع القول أن التغيير المتطلب تحقيقه على أي مستوى يتمثل في التغير في الضمير ويتم من خلال الضمير ذاته، ومن الواضح أننا لسنا في حاجة لشيء سوى الضمير لتقرير الذنب وتقرير الإصلاح أيضا. أما فيما يتعلق بالوجود الفعلي للجيران أو “الأشخاص الآخرين”، فليس ثمة ضرورة له. تلك يجب أن تكون هي “الفكرة” بالنسبة للجيران والأشخاص الآخرين، نظرا لأن مجرد وجود تلك الفكرة (حتى إذا كانت مجرد هذيان) يكفي لأن يجعل الشخص يضفي الصفة الأخلاقية على إرادته، أو أفعاله، أو نيته. ولكن الأمر يختلف بالنسبة للمبادئ الأخلاقية التي تتعلق بالفعل، حينما تكون الاضطرابات والتأثيرات القابلة للقياس التي تم إحداثها في الزمان والمكان هي التي تقرر قيمة أو عدم قيمة الفعل. وفي هذا الصدد، لا يكون تطبيق القانون ممكنا فحسب، بل يكون من الضروري تطبيقه هو وفروعه المتمثلة في البحث، والتشريع، والإعلان، والنظام القضائي الهرمي التسلسل والإرادة التنفيذية، تلك التنظيمات والأدوات تعد جزءا مكونا من المجتمع أو الأمة. ولكن ذلك لا يضعف باي حال من مهمة الضمير الذي يستمر في العمل في إطار المبادئ الأخلاقي المتعلقة بالفعل كما يقوم بالعمل في إطار المبادئ الأخلاقية المتعلقة بالنية. وبالإضافة إلى ذلك. فإن الأساليب الجديدة في المجتمع (أي التشريعية. والقضائية. والتنفيذية) يجب أن تدخل في الصورة وتنظيم حياة الناس، وليس نواياهم، وتنظيم أسلوبهم في تغير سلسلة الأشياء السببية المترابطة في الكون، ذلك التغيير الذي يتمثل في تحويلها تجاه توازن طبيعي مختلف سواء كان على وجه أفضل أو أسوأ. ولذلك، نجد أن الإسلام يضع القانون الذي يعلو على نطاق الضمير، ويؤسس المحاكم والدولة التي تعلو على نطاق الكنيسة ورجال الدين باعتبارهم معلمين ونماذج يحتذي حذوها.

(ب) الحاجة للوجود الفعلي والثابت لبنيان اجتماعي:

يلزم من فكرة الإسلام عن الأوامر الأخلاقية الدينية بأنها تحول في الزمان والمكان، وأيضا من فكرته عن طبيعة الأمانة بأنها بمثابة قيمة أخلاقية، يلزم من هذا استحالة وجد الإسلام دون وجدود البشرية والحياة، فمن الواضح أنه لا يمكن إحداث تغير في الزمان لو لم يوجد ترابط بين الزمان والمكان، وتنطبق نفس العلاقة أيضا بالنسبة للبشرية، فلو لم يحصل الناس على حق الانتفاع بالأرض لم يكن ثمة معنى لإحداث التغيير في حالتها، وإذا لم يقم الناس باستهلاك ثمرات التغيير، فإنه بالطبع لن يكون من الممكن إحداث ذلك التغيير سوى مرة واحدة، وليس على مدى الزمان طبقا لما يتطلبه الإسلام. ومن ثم، فإن كدح البشرية، ومعاناتها، واستمتاعها بثمرات جهدها يعد شيئا ضروريا، ولكنه ليس من الممكن استمراره أو بقاه بدون وجود النظام الاجتماعي.

وفيما يتعلق بالجانب الأخلاقي من الإرادة الإلهية، فإن تحقيقه يعد ممكنا فقط في إطار العلاقات الإنسانية التي تسود بين الأفراد وفقا للنظام الاجتماعي، ويعد جوهر القيمة الأخلاقية في حد ذاته البنيان للعلاقات الإنسانية والمعاملات الإنسانية. فمثلا، عندما لا يكون ثمة بيع أو شراء أو تبادل للسلع والخدمات، فلن يكون ثمة مجال لممارسة العدل والأمانة بحكم طبيعة الحال وعندما ينعدم عنصر الندرة التي تتمثل في إغناء بعض الناس ومعاناة البعض الآخر، وعندما لا يكون ثمة شخص في حالة معاناة أو في حاجة إلى العون، فلن يكون ثمة مجال لأي ممارسة خيرية. حينئذ، نستطيع أن نقول أن المجتمع في شكله لدينا يعد شرطا ضروريا للأخلاق، وهو لا يعتبر بأكثر أو أقل من إطار يتضمن مجموعة من الأفراد الأحرار الذين يتعاملون سويا ويؤثرون بصفة متبادلة على الكون من خلال تأثير كل منهم على شخص الآخر.

ويعد المجتمع شرطا للفلاح الديني، أو السعادة العظمى، وعلى عكس ذلك، فإنه ليس من الممكن أن يوجد أي مجتمع أو أن يستمر على المدى الطويل بدون الأخلاق. وإلا، فإنه لن يكون ثمة خلاص مما أطلق عليه توماس هوبز bellum omnium contra omens فأنه حتى عصابات اللصوص يجب أن تضع نوعا من النظام الأخلاقي لأعضائها لو أنها كانت راغبة في استمرارها في البقاء كعصابة لصوص.

(ج – وثاقة صلة علم القيم): – إن الإيفاء بالإرادة الإلهية يتطلب التعرف على تلك الإرادة. وتختلف المعرفة في المذهب الفردي عنها في المذهب الاجتماعي، لأن آراء كل من المذهبين تختلف فيما يتعلق بالإرادة الإلهية، أولا، إن السعي الاجتماعي وراء القيم يؤدي إلى نتائج تختلف من ناحية الاجتماعي الذي يتم النظر فيه إلى كل شيء في ضوء مصلحة المجتمع ككل. وبمقتضى تلك النظرة، تنشا علاقات قيمية جديدة بين القيم المختلفة، وقد يكون من الممكن التوصل إلى حلول بالنسبة للقوانين القديمة المتناقضة واكتشاف قوانين، جديدة، وفي الحقيقة، فإنه قد يكون من الممكن إقرار قيم جديدة غير خاضعة لاعتراض الضمير على المستوى الشخصي. ثانيا، في حين أن الصورة التي يجب أن تكون عليها الأشياء تتوقف على القيم وتعد في الحقيقة صياغة لها، فإن الصورة التي يجب أن تكون عليها القيم ترتبط بشكل لا ينفصم مع الأشياء المادية الواقعية الموجودة التي يكون من المفترض أن تلك القيم سوف تقوم بأحداث التغيير بها. إن الرغبة الأولى لعلم الأخلاق التي تتمثل في تحقيق القيم على أكمل صورة تكون مستحيلة لو لم ننظر بعين الاعتبار إلى جميع الأشياء الممكنة التي يجب تحقيقها من خلال تلك القيم. والأشياء الواجب فعلها تختلف أساسا وفقا للمكان الذي يتم تحقيقها به. والمذهب الاجتماعي لا يعني مجرد تحقيق زيادة كمية. ثالثا، نظرا لأن القيم تعد بمثابة شيء انتقالي، أي أنها تحرك أشخاصا آخرين إلى جانب هؤلاء الذين تحثهم على البدء بالعمل في حالة كون تحقيق تلك القيم ذا صفة عمومية، فإن خسارة أكيدة تكون لقيم العالم بأجمعها لو أن تم تقييد صفتها الانتقالية بأي حال. فإن الإدراك الحسي للجماعة وتحقيقها لما تهدف إليه قد يؤدي إلى اكتشاف “مجال من العلة والمعلول” الذي لا يكون في إمكانية أي شخص أن يسبر غوره بداهة. رابعا، توجد لدينا الفائدة الجدلية الوجودية للرؤية والإنجاز التي تسمو فوق الوجود المادي لأي شيء نظري نستطيع أن نتناوله بالمناقشة.

2 – المتضمنات العملية:

هذه المجموعة الأخيرة من الاعتبارات تجعل من الضروري أن يكون. تحقيق الإرادة الإلهية على المستوى الاجتماعي. وبالإضافة إلى الحقيقتين البديهيتين الأوليين اللتين تتعلقان بالمبادئ الأخلاقية بالنسبة للأفعال، والوجود الفعلي لبنيان اجتماعي مستمر، فأن تلك الاعتبارات باعتبارها جزءا مكونا من الممارسة الدينية الإسلامية تتضمن ثلاثة مبادئ تؤثر على الممارسة، والنشاط في المجتمع الإسلامي. وتلك المبادئ هي العالمية، والمجموعية والحرية.

أ – أن مماثلة الإرادة الإلهية بالقيم تحرر القيم من جميع الهيئات الخاصة التي يصطلح عادة على أنها المصادر المعيارية للقيم، مثل القبيلة، أو الجنس، أو الأرض أو الحضارة. ونظرا لأن الله بمفرده هو الله، وكل كائن آخر يعد واحدا من خلقه، وأن كلا من نوعي الحقيقة يتصف بالشمول بشكل تبادلي، فإن صفة الخليقة تنطبق على جميع المخلوقات بطريقة متساوية. ويعني ذلك أن وحدة الله، التي تمثل وحدة الحقيقة ووحدة القيم تتضمن تماثل القيم بالنسبة للجميع، ومن ثم تتضمن استقلال تلك القيم عن الجميع، وتتضمن أيضا أن الالتزام الأخلاقي والنداء الأخلاقي الباطني الذي يعزي إلى المخلوق بصفته مخلوقا ينطبق بطريقة متساوية على الجميع. وكما تنطبق أساليب الله التي تتمثل في تنظيم الكون على جميع المخلوقات، فأن إرادته أيضا تنطبق على البشر أجمعين بطريقة متساوية. وفيما يتعلق بالتكريس الأخلاقي، فأن أي تمييز بين الإنسان وأخيه الإنسان يعد تهديدا لوحدة القيم، ومن ثم لوحدة الله. ولذلك، فإن القيم، أو الأمر الأخلاقي، يعد أمرا للجميع، وليس من الممكن قصر الالتزام به، أو ما يجب أن تكون عليه الأشياء وما يجب أن يتم فعله على طبقة من البشر خاصة.

وينتج ذلك المبدأ الخاص بالمجتمع الإسلامي نتيجتين: أولا، أن المجتمع الإسلامي ليس من الممكن أبدا أن يقصر نفسه على أعضاء أي قبيلة، أو أمة، أو جنس أو جماعة، ولكنه بالطبع يستطيع، بل في الحقيقة يجب أن يبتدئ من مكان ما ويشخص ما، وهو يستطيع لفترة محدودة، وفي مكان محدود أن يفرض أي قيود يرغب فيها وفقا للاعتبارات الإستراتيجية، ولكن لا يستطيع أبدا أن يخلق أبوابه على المبادئ ولا يستطيع أن يهدأ أبدا إلى أن يشمل البشرية بأجملها. وأنه ليخون علة وجوده إذا منع أي شخص في أي وقت من أن ينضم غليه، فان حق الإنسان في هذه العضوية يعد حقا طبيعيا يمنح إليه بمقتضى وجوده ذاته. ثانيا، أن المجتمع الإسلامي يجب أن يمتد ليشمل البشرية وأنه لا يستطيع أن يهدا إلى أن ينجح في تحقيق ذلك. وإدعاء المجتمع الإسلامية، ومن ثم الشرعية تحت راية الإسلام، ينشأ عن إذاعاته الذي يتسم بالفعالية لدعوة الله، وتلك الدعوة ليست مجرد دعوة للوجود أو الفناء والعس وراء السعادة الشخصية، أو لمجرد وجود عدد من الأشخاص المسلمين، ولكنها دعوة لتغيير جميع البشر، والزمان والمكان. والمجتمع الإسلامي يعد وسيلة وغاية، فيعد الوسيلة عندما يمثل جزءا من العالم ويعد الغاية عندما يشمل العالم بأجمعه.

إن النظريات النفعية عن المجتمع تسير بأسلوب يتعارض مع الدعوة الإسلامية لأنها تصور المجتمع أداة للبقاء المادي، ووسيلة لتحقيق التخصص في العمل والرفاهة الكمالية. وبالرغم من أن تلك الأشياء تعد بالتأكيد عناصر في نمو المجتمع الإسلامي، فإن تفسير المجتمع في إطارها يعد ارتكابا لخطأ الانتقاص من قدر ذلك المجتمع. أما النظريات الأخرى التي لا تتطلب من المجتمع أن ينتشر على أساسا الرغبة في قصره على “الصفوة المختارة”، أو الجنس، أو اللغة والحضارة، تعد نسبية وهي تتعارض مع الصفة العالمية كما تتعارض مع التوحيد.

لقد تفهم المسلمون النتيجتين اللتين ذكرناهما فيما سبق على مدى التاريخ وقد أكدت الآية القرآنية التي تعلن أن جميع الناس ينحدرون من أصل واحد أنه قد تم تنظيم الناس في شعوب وقبائل حتى يتعاونوا سويا ويزيدون من إخصاب الأرض، ولقد كانت تلك الآية وغيرها من الآيات المماثلة دائما على كل لسان، ولينطبق ذلك أيضا على خطبة النبي في حجة الوداع: “كلكم لآدام وآدم من تراب. لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى”.

والقبلية والقومية اللتان تتعارضان بالفعل مع المبادئ المتضمنة في المجتمع الإسلامي تعتبران متماثلتين في أساسهما، بالرغم من أن “القبلية” التي ينتمي إليها البعض قد تكون أصغر وأكثر تقيدا عن “الأمة” التي ينتمي إليها البعض الآخر. وكلاهما يدعي تماثل القيم بالنسبة للأعضاء في مجموعة معينة، لأن كل مجموعة طبقا لرأيهم، هي التي تضع تلك القيم التي تدين بها. ومن ثم، فهي تعد مصدر تلك القيم وواضعتها. وذلك الرأي يخول بصفة مباشرة لكل مجموعة أن تضع المعايير والقيم الخاصة بها طبقا للمشيئتها، أما عنصر “التجميع” فليس من الممكن الإدعاء أنه يقتصر على أي مجموعة معينة، ونظرا لأن التجمع هو المقياس النهائي، فإن أي عدد من الناس يشكلون أنفسهم في جماعة يستطيعون إدعاء نفس الحق. ولذلك، فغن النسبية تتضمن بالضرورة التعدد، وتلك الفرضية السابقة تتضمن بالضرورة الاختلاف أو التشعب بدون تدقيم أداة شاملة وفعالة بالنسبة للجماعات المتجادلة. وسوف يكون الصراع أمرا حتميا لو لم تتم تصفية الجدال عن طريق التشابه التصادفي، أو التماثل في آراء الافتراض هنا هو أن كل مجموعة تتمثل المصدر النهائي للقيم التي تدين بها ومن ثم، فإن أي معيار يكمن وراء نطاق خبرة أو معرفة المجموعة عيد غير شرعي ويؤدي إلى المشاكل والخلافات بين الأطراف المتصارعة، وعلى أساس ذلك الافتراض السابق فلن يكون ثمة حل للصراع. وإذا ساد الاعتقاد بين أعضاء المجموعتين المتجادلتين أن الصراع بينهما قد وصل على أقصاه، فلن يكون ثمة مهرب من القتال الذي يترتب عنه هزيمة أو دمار أحد الطرفين على يد الآخر. ولكننا إذا أقررنا تلك النظرة السلبية للقيم فلن يكون ثمة أمن حتى بالنسبة للطرف المنتصر الذي هزم معارضيه. وإن مجرد تماسك المجموعة قد مكنها من عرض قضيتها والدفاع عنها، ومن ثم فإن أي عدد من الأفراد بداخل تلك المجموعة ذاتها يكون لديهم نفس الحق في تنظيم أنفسهم واعبتار أنهم مجموعة منفردة تسعى إلى غايات مختلفة، ولن تكون للمجموعة الكبرى أية وسائل دفاعية ضد تلك المجموعة الفرعية المنشقة سوى القوى، وسرعان ما سوف ينهار بنيان المجتمع. فإن القبائل أو العشائر المتنافسة بداخل نفس القبيلة – وذلك يتشابه كثيرا مع الوضع الذي واجه الإسلام في بلاد العرب في أواخر القرن السابع – سوف تتشابك كل منها مع الأخرى في صراعات لا نهاية لها ولا أمل في حلها. ونجد أن تاريخ أوروبا المتمثل في الفترة التالية لحركة الإصلاح الديني لم يختلف كثيرا عن ذلك، بالرغم من أن الوحدات المتصارعة كانت أكبر حجما إلى حد بعيد.

وطبقا للإسلام، نقول: إنه ليس من الممكن أن تكون ثمة تفرقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، فالمجتمع الإسلامي مفتوح، ويستطيع أي إنسان أن ينضم إليه أما بصفته كعضو مكون أو بصفته قد أعطى الميثاق (أي باعتباره ذميا)، كما أن المجتمع الإسلامي يجب أن يسعى لأن ينتشر حتى يشمل البشرية بأجمعها، وإن لم يفعل ذلك فإنه لن يكون من الممكن أن تنطبق عليه صفة الإسلامية. ومن ثم فإنه يستمر فقط في الوجود بصفته مجتمعا مسلما في انتظار إدماجه في مجتمع آخر سواء كان إسلاميا أو غير إسلامي.

ب – والمتضمن العملي الثاني للتوحيد فيما يتعلق بالمجتمع من الممكن تعريفه بأنه يتمثل في تطبيق أحكام المجتمع الإسلامي في جميع نواحي وأوجه الحياة الإنسانية. إن إرادة الله، أو القيم تتضمن كل الصلاح أينما توجد، ويعد الصلاح بالطبع كلي الوجود ومن الممكن تطبيقه في جميع أوجه الحياة الإنسانية. ويتبع ذلك أن المجتمع يجب أن يسعى إلى تحقيق الإرادة الإلهية على جميع المستويات التي تستطيع أن تصل إليها وتؤثر عليها وتحولها إلى الأفضل، ولكننا لا نعني بذلك أن المجتمع لا يستطيع أن ينظم تسلسلا هرميا للأولويات، فإن تكريس المجتمع لجزء كبير من إجمالي طاقته إلى الدعوة أو الرسالة، أو الدفاع، أو التعليم أو التنمية الاقتصادية لن يؤدي على اعتراض أي شخص.

إن الفقه الإسلامي والمبادئ الإسلامية قد صنفا الأنشطة الإنسانية بطريقة ملائمة في خمسة أنواع: إلزامية (واجب) ومحرمة (حرام)، وموصى بها (مندوبة)، وموصى بعدم القيام بها (مكروهة)، ومحايدة (مباحة). لقد أعلن الإسلام قوانينه العامة، المتمثلة في الشريعة، ولقد عرض نموذجا للسلوك يتمثل في شخص النبي والصحابة، وحث المسلمين والمسلمات على الاقتداء به، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الإسلام قد وضع أسلوبا للحياة أعلنه من خلال الفلكلور (النثر) والشعر، والمهرجانات والمناسبات العامة. وبالرغم من أن تلك الإجراءات تختلف في درجة القسر التي تتعبها ضد المنتهكين، ودرجة الاحترام والتبجيل للملتزمين، فأنها تتماثل في افتراضها وثاقة صلة الإسلام بالنسبة لجميع الأنشطة التي يقوم بها الناس. إن أي مجتمع إسلامي يقصر نشاطه على وجه واحد أو وجهين من أوجه الحياة سوف يفقد إدعاءه الإسلامية. وفي تلك الحالة، فإنه سوف يتدهور حتى يصبح مجرد اتحاد عام أو مجتمع تعاوني، يكون المبرر الوحيد لوجوده هو الإيفاء بواحدة أو أكثر من الحاجات الاقتصادية، أو الاجتماعية أو السياسية لأعضائه. ويعد المجتمع الإسلامي متماسكا لأنه مجتمع أيديولوجي، أي أنه يسعى لتحقيق ما يضعه نصب عينيه من خلال الدولة. إن تلك الوحدة الكلية في العمل لم تكن هدفا للمجتمع فحسب، ولكنها كانت سياسة إدارية للدولة (الخلافة) أيضا.

وتفتقر المجتمعات الغربية إلى مثل ذلك التماسك لأنها تعين أدوار مختلفة لكل من المجتمع والدولة. وفي حين أن تلك المجمعات في الواقع تمارس قوة كبيرة في إقامة التجانس بين مواطنيها وإدماج الوافدين الجدد في ثقافة المجتمع، فإن دور الدولة يقتصر على ممارسة السلطة، وذلك يرجع بصفة المجتمع، فغن دور الدولة يقتصر على ممارسة السلطة، وذلك يرجع بصفة كبيرة إلى التاريخ الطويل من إساءة استخدام السلطة والصراع بين الملكية، والإقطاع، والكنيسة وقوى الشعب.

وكنتيجة لذلك، فإن نظام الحكم الدستوري بالنسبة لهم كان يعني أن الدولة يجب أن تستخدم السلطة السياسية فقط بالقدر الأدنى اللازم لإقرار الأمن الداخلي، ولإقامة دفاع خارجي فعال، وتوفير القدر الضروري من الخدمات الأساسية التي يتطلبها الصالح العام. وفي العصور الحديثة فقط ظهرت مفاهيم مثل الصالح العام للطبقات المعوزة، والمقدرة الإبداعية، ووقت الفراغ، وتنظيم الصناعات والخدمات الأساسية. لقد كان الأساس الذي تم بمقتضاه تقييد السلطة السياسية للدولة في الماضي يتمثل في المبدأ في حاجة إلى أي تدخل الضروري للسيطرة عليها. وإن الرأي الأخير، الذي يعد أكثر شيوعا، قد دعم موقفه بإدعاء الأشخاص النزاعين للشك بأن الصلاح يعد شيئا غير قابل للمعرفة، وأنه ليس لدينا شيء سوى مجموعة من الرغبات والأهداف الأخلاقية المتباينة، ومن ثم فإن البديل الوحيد للاستبداد يتمثل في النسبية أو سياسة عدم التدخل. ولكن جميع تلك الأسس تتعارض مع الرأي الإسلامي القائل بأن الطبيعة تتسم بالصلاح والطهر ولكنها في حاجة إلى إعادة صياغتها حتى تطابق النموذج الإلهي، وان الإرادة الإلهية، أو الصلاح يعد بمثابة شيء قابل للمعرفة عن طريق العقل، وأيضا عن طريق الوحي، وأن الإنسان يستطيع أن يقوم بفعل صالح أو ردئ، ولكنه يعد مسئولا عن كلا النوعين من أفعاله.

ج – أما المتضمن العملي الثالث للتوحيد بالنسبة للمجتمع فهو مبدأ المسئولية. فالحكم الذي يقوم على أساس إخضاع الفرد للدولة بطريقة تامة يكون دائما عرضة للتحول إلى حكم استبدادي، فإن التنظيم المتسم بالصرامة وسيطرة الدولة على جميع النشاطات يقضي على جهد المجتمع في التواصل إلى القيم الأخلاقية. ومن ثم تنشأ الحاجة إلى مبدأ آخر لمواجهة ذلك التدهور.

وكل شخص، كما يقول لنا الإسلام، يعد مكلفا، أي انه يكون مسئولا عن تحقيق الإرادة الإلهية. ويقوم ذلك التكليف أو تلك المسئولية على أساس شعوره التعاوني الذي يشترك فيه مع أعضاء المجتمع، وذلك الشعور الداخلي وفي نفس الوقت القابل للتربية يعد قوة يستطيع بواسطتها التعرف على خالقه، وإدراك انه يجب أن يقر أسلوب حياته بما يتماثل مع إرادة الله. ولذلك، فإن الإسلام لا يعلن فقط أن كل شخص يعد مسئولا ولكنه ينكر بصفة قاطعة كل افتراض يعارض انطباق مبدأ التكليف بالنسبة لأي شخص طالما هو ليس بطفل أو يناقص النمو. إن الإسلام يتوقع من كل شخص أن يقوم بأداء واجبه الشخصي بوعي تام، ويقدم احترامه للأفراد وفقا لدرجة إيفائهم بمسئولياتهم. وذلك يعد نتيجة لطبيعة الأمانة أو الوديعة الإلهية التي أودعها الله في الإنسان ولقد كان الله أن يخلق عالما تتحقق به القيم بطريقة يتعذر تغييرها، مع وجود القانون الطبيعي. وفي الحقيقة، فإن الله قد خلق بالفعل مثل ذلك العالم. أي الطبيعة. والإنسان فقط هو الذي خلق بطريقة مختلفة، فقد منحه الله الحرية في الالتزام بالإرادة الإلهية أو انتهاكها، ومن ثم منحه المسئولية عن أعماله، وتلك المسئولية تعد جوهر الفضيلة لأنها لو لم توجد ما كان من الممكن إضفاء القيمة الأخلاقية على أي فعل، وما كان من الممكن تحقيق الجزء الأسمى والأعظم للإرادة الإلهية، ومن ثم، سوف تواجه الإرادة الإلهية بالإحباط، وأن الإله يعاني من الإحباط ليس هو الله الكائن فوق الوجود المادي والذي يتصف بالكمال الذي يشير إليه التوحيد. وسواء كانت الوحدة الكلية أو العالمية هي التي تسود المجتمع، فإن تحقيق القيم بواسطة المجتمع الإسلامي يجب أن يتسم بالمسؤولية لو انه اراد إحراز أي قيمة أخلاقية. لقد أكد القرآن الصفة الشخصية للمسئولية، وأنكر أي إمكانية لتحويل المسئولية، سواء بالنسبة للفعل الصالح أو الفعل الآثم. ومن ثم، فقد قضي الإسلام بأنه لن يكون هناك أي نوع من القسر، وطالبا كل شخص بأن لا يرتكب أي فعل يتسم بالقيمة الدينية إلا بمقتضى قراره الشخصي بأن لا يرتكب أي فعل يتسم بالقيمة الدينية إلا بمقتضى قراره الشخصي النابع من ذاته (أي بمقتضى نيته)، وذلك يعد الدليل النهائي لتروى الشخص بالنسبة للفعل الذي يقوم به، أي مسئوليته عن ذلك الفعل.

وتنبع المسئولية من الرؤية الأخلاقية، أي الإيمان بالقيم، وما يجب أن تكون عليه وما يجب أن تنجزه، طبقا لترتيبها الصحيح. ومن الممكن قسر الإنسان على القيام بفعل ما، لكنه ليس من الممكن أبدا قسره على الإيمان بشيء معين، فغن المسئولية الأخلاقية تقدم ضمانها الذاتي في هذا الصدد، وعندما يكون ثمة قسر، تنعدم المسئولية وتكون الفضيلة قد انتهكت. وفي حين أنه ليس من الممكن إكراه شخص على الإيمان بالقيم، فإنه يمكن التوصل لذلك بالتأكيد عن طريق الإقناع من خلال التربية، سواء عن طريق الأفكار العامة أو التعاليم الأخلاقية، أو المنطق، ومن خلال الأمثلة النموذجية. ونستطيع في هذا الصدد أن نعرف عمل المجتمع الإسلامي فيما يلي: إنه يعاون البشرية بأجمعها على إدراك القيم التي تكون الإرادة الإلهية، ثم تحقيقها بعد ذلك، وذلك يعد بمثابة اسمى وأعظم معاني التربية. إن المجتمع الإسلامي يعد مدرسة عالمية تكرس كل جهودها إلى التربية وتحقيق القيم، ومثل ذلك النظام التربوي يتسم بالمسئولية ومن ثم يعد أخلاقيا، وبتلك الكيفية فقط يمكن تحقيق الدرجات العليا للإرادة الإلهية.

تلك هي متضمنات التوحيد بالنسبة للنظرية الاجتماعية. وفي الحقيقة فإن تلك المتضمنات تؤدي إلى ظهور الأمة التي تعد وجودا متحدا، دستوريا ومدنيا، لا يقتصر على البلدة، أو الشعب، أو الجنس، أو الحضارة، ولكنها تعد عالمية، وكلية، ومسئولية عن الناس ككل كما هي مسئولة عن حياة كل فرد من أعضائها، وهي تعد ضرورية لتحقيق الفرد لسعادته سواء في الحياة الدنيا أو الآخرة، ولتحقيق الإرادة الإلهية على مدى الزمان، والمكان.

د – المتضمنات الخاصة بالنظرية السياسية (الخلافة)

إن الأمة كما عرفناها فيما سبقن تعد أداة لإعادة بناء العالم، أو إصلاحه من أجل تحقيق الإرادة الإلهية، فهي تعد خليفة الله في الكون، فإن صفة الخلافة تلك التي منحت للإنسان في الأصل، يجب أن تمتد إلى الأمة للسبب الذي لخصناه في القسم السابق، وأن الأمة تعد أيضا دولة بمقتضى اشتمالها على عنصر السيادة، واشتمالها على جميع الممارسات والتنظيمات التي يتطلبها عنصر السيادة. والاصطلاح الذي يجب علينا أن نطبقه على الأمة هو اصطلاح الخلافة، وليس اصطلاح الدولة، فإن الخلافة تعد أكثر تطابقا مع التقاليد الإسلامية ومع مذهب التوحيد حيث تدين بعلاقة مباشرة معه، وتأتي بمصدرها من القرآن. أما الدولة فهي فكرة حديثة، وغريبة تماما على الفكرة القرآنية للخلافة التي تعد بمثابة علة وجود الأمة ذاتها. وفي حين أننا نعني الدولة عندما نذكر الخلافة، فإن الفارق الجذري بين الفكرة الغربية عن الدولة وبين الأمة يجب أن يكون واضحا في أذهاننا، ومن ثم، فإن الخلافة تعد أمة عندما نشير إلى صفة الخلافة التي تمنح للأمة، وهي تعد أيضا دولة عندما نشير إلى عنصر السيادة الذي تمارسه الأمة والذي يعد أساسيا، ولكنه لا يتساوى في أهميته مع صفة الخلافة التي تحوز عليها الأمة. وبتحليلنا للخلافة، فإننا نقترح تحليل متضمنات التوحيد بالنسبة لنظرية السياسية:

وتعد الخلافة إجماعا ذا ثلاثة متضمنات، هي: إجماع الرؤية، وإجماع الإرادة، وإجماع العمل.

1 – إجماع الرؤية:

وهو يعني وحدة العقل أو الوعي، ويتكون من ثلاثة أشياء. الأول هو التعرف على القيم التي تتكون منها الإرادة الإلهية، والحركة التاريخية التي نتجت عن تحقيق تلك القيم. ومن الواضح أن تلك الرؤية تتسم بالصفة النظامية والتاريخية وتعد مكونات تلك الرؤيا لا نهائية في طبيعتها، ومن ثم ليس من الممكن أن يكون الشمول التام شرطا لها، وأن ما يجب أن يكون شرطا لها هو أن تكون ذات صميم أو جوهر فعال، فإنها تعد بنيانا أو منهجا يتم بمقتضاه إقامة العلاقات والاستنتاج، ووضع تسلسل هرمي للأوليات، وحالما يتم ذلك، سوف نتمكن من اكتشاف والتعريف على الأشياء التي كنا نفتقر إليها لتحقيق الشمول. وينطبق ذلك بصفة خاصة بالنسبة للمعرفة النظامية للقيم التي تسند إلى مصادرها من الوحي (أي القرآن وسنة النبي)، والعقل، من خلال فهمه لعملياته ذاتها (أي المنطق ونظرية المعرفة)، والحقيقة بصفة عامة (أي ما وراء الطبيعة)، والطبيعة (أي المعلوم الطبيعية)، والإنسان (أي علم الإنسان، وعلم النفس وعلم الأخلاق)، والمجتمع (أي العلوم الاجتماعية). وليس من المتطلب أن تكون الرؤية شيئا أكاديميا يتمثل في وضع صياغة منهجية لمضمونها، سواء في حالة الوحي أو حالة العقل، فإنها تعد شيئا بديهيا، أي أنها تتمتع بإدراك حسي يستطيع أن يلقي الضوء على أي مجال من خلال إيضاحه وثاقة صلة الإسلام بالنسبة لذلك المجال.

ومن الناحية الأخرى، فأن التعرف على الحركة التاريخية التي ظهرت نتيجة لتحقيق القيم الإسلامي يعد بصفة أساسية شيئا تجريبيا، وذلك هو السبب في أن المسلمين الأوائل كانوا دائما يسعون للحصول على بيان بتاريخ حياة النبي والقصص المستوحى من حياة الصحابة. وذلك النوع من الحاجة يصاحب كل مجتمع ديني لأنه مما يعد ذا أهمية كبيرة بالنسبة للمؤمنين أن ينتقلوا من مرحلة التأمل في الإيمان إلى مرحلة التعرف على كيفية تطبيق ذلك الإيمان في الحياة الواقعية. ونستطيع أن نقول: أن النواحي الخاصة بتحقيق القيم يكون لديها تأثير بيداغوجي هام على الطلبة، وتعد أكثر سهولة في تذكرها وتأثيرها في الحواس والمشاعر عن محتويات الدراسة المنظمة، ولكن كليهما يعد ضروريا بشكل متساو لإيجاد الرؤية التي تعد ضرورية للخلافة.

وإن الرؤيا التي تتكون من كل من الإدراك المنظم للقيم، ومن التجسد التاريخي لتلك القيم سوف تكون ناقصة، لو أم تكون لدينا معرفة بالحاضر وماهية الإمكانيات المتوفرة في الحاضر لتحقيق تلك القيم من جديد.

ونظرا لأن الخلافة لا تستطيع البقاء بمجرد التطلع إلى الماضي، بل يجب أن تكرس نفسها للحاضر والمستقبل، فإنه من الضروري لها أن تربط القيم بالحاضر، وتقرر نوع الوجود المادي الواقعي الذي يستطيع تحقيق القيم، وتقرر أيضا ماهية القيم التي سوف يمكن تحقيقها بمقتضاه، وكيفية تأثير الأحوال الراهنة على ترتيب أولويات القيم من أجل تحقيقها.

لقد افترضنا هنا أن إجماع الرؤية – طبقا لتعريفنا – مصدر من مصادر القانون الإسلامي، ويحظى بكثير من التقدير باعتباره واحدا من المصادر المكملة للمعرفة الدينية، وحديث النبي “لا تجمع أمتي على خطأ” قد أضاف هالة من شبه القدسية إلى صوت الشعب في الأمة. ومع ذلك، فإن الإجماع لا يعد شيئا جازما، ولكنه يظل دائما مفتوحا.. وذلك الانفتاح، أي القدرة – بل الواجب – بالنسبة لكل مسلم عاقل لأن يأتي بمعان جديدة بالنسبة لجميع أو لجزء من الحقائق والقيم الإسلامية يعد شيئا أساسيا في الاجتهاد. إن الاجتهاد يعد بطبيعته ديناميكيا وخلافا. ويعتبر في حد ذاته متلائما تماما مع العقل الذي يتسم بالتبصر وحدة الملاحظة، ولقد أضفى  النبي القيمة الأخلاقية أيضا على الاجتهاد من خلال حديثه “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”. والاجتهاد والإجماع معا يكونان حركة ديالكتيكية أساسية للديناميكية الإسلامية في عالم الأفكار، لأنه، في حين أن الإجماع يعد مقدسا باعتباره تتويجا للجهود الهادفة للفهم، فإنه يكون قابلا للنقض من خلال مقدسا باعتباره تتويجا للجهود الهادفة للفهم، فإنه يكون قابلا للنقض من خلال النشاط الخلاق المتمثل في الاجتهاد وفي حين أن الاجتهاد يمر من خلال الضبط، والتطهير والانتقاد حتى يحوز على المقدرة الاقناعية لجميع المسلمين بشرعية نتائجه – من أجل أن تتم الموافقة عليه بواسطة الإجماع.

2 – إجماع الإرادة:

يتكون إجماع الإرادة من متضمنين: العصبية أو الشعور الجماعي الذي يتلزم المسلمون بمقتضاه بالاستجابة للأحداث والمواقف بطريقة واحدة، وإطاعة دعوة الله بطريقة متحدة، والنظام أو الجهاز التنظيمي المنطقي القادر على بلورة القرارات، وتعبئة المسلمين للإيفاء بالدعوة، وعلى ترجمة القيم إلى أعمال يقوم بها الأفراد والجماعات والقادة.

إن العصبية، أو التماسك الاجتماعي، لا تتماثل مع إجماع الرؤية ولا تعد نتيجة لها، ولكنه يمكن، بل وجيب ترسيخها وتعميقها من خلال ذلك الإجماع. وحقيقة، فإن الشعبية تعد مستحيلة بدون الإجماع، فإنه لو لم يكن ثمة شيء مشترك بين الناس، لن يكون من الممكن أبدا إيجاد أي تماسك بينهم. وتتطلب العصبية اكثر من مجرد إجماع الرؤية، وهي تعبر عن نفسها في قرارها للتطابق مع الحركة وفي أن يطابق الإنسان قدرة مع قدرة الأمة، ثم يستجيب بشكل فعال لكل ما تتطلبه الدعوة، أي أن تكون استجابته دائما متمثلة في الكلمة الإيجابية “نعم” ويقوم ذلك القرار في حد ذاته على أساس مسيرة طويلة من التحول النفسي في العمليات التي بمقتضاها يماثل الفرد نفسه مع الأمة، والتي يتجه شعوره في نهايتها إلى الإنجاز، ومماثلة نفسه مع الخلافة باعتبارها المحور التاريخي للأمة. وتلك العملية النفسية مع الممكن أن تكون هدفا للتربية وعلم أصول التدريس. وأينما توجد، فإنها تكون مشذبة وعميقة، ومن الممكن أن توجد بمقتضى الميلاد، وتتم رعايتها في إطار القبيلة المغلقة، ولكنها في تلك الحالة سوف تتطور حتى تصبح في شكل دافع أعمى متعصب يدعو الشخص لأن يماثل نفسه مع قبيلته أو جنسه. ولقد أعلن ابن خلدون في هذا الصدد أن تلك العملية النفسية هي أساس التماسك الاجتماعي، ونظرا لأن الإسلام يسمو على نطاق العناصر المادية ويعني بمذهب التوحيد، فإن من الضروري أن تكون عصبية الإسلام نتاج عملة جديدة، تتمثل في إتباع الإنسان بطريقة دائمة وفعالة للصورة التي أراد الله له أن يكون عليها. ولذلك، فإنه يجب أن تكون هناك إرادة الله له أن يكون عليها. ولذلك، فإنه يجب أن تكون هناك إرادة فعالة لتحقيق عصبية الإسلام وتعهدها بالرعاية، وتطويرها وإنضاجها.  ولا يمكن أن تكون العصبية بمثابة نمو غير إرادي يتم عن طريق الطبيعة فقط، أو أن تخلط بالمشاعر القومية للرومانتيكية الأوروبية، التي تتسم دائما باللا وعي، والذاتية والإبهام، وانعدام التعمد وانعدام القابلية للتفسير، والتي تعد في الحقيقة عصبية قبلية. فالعصبية الإسلامية شيء متعمد، وقابلة للتفسير الواضح باعتباره فعلا أخلاقيا مسئولا. إنها بمثابة التزام، وارتباط بمصير الأمة في الضوء الواضح للتوحيد، وفي الضوء التام للسلسلة الكاملة من المعاني النابعة من التوحيد، وتتجسد تلك العصبية الإسلامية في أسمى أشكالها في ترديد الحجاج ف مكة لعبارة “لبيك اللهم! لبيك!” عند طوافهم حول الكعبة وشقهم طريقهم إلى عرفان. ويتعارض ذلك تماما مع النظرة التخصصية العنصرية أو الثقافية التي تنتمي إلى القومية الغربية على مدى القرون.

وباعتبار أن العصبية عنصر أساسي للأمة العالمية التي تشمل جزءا كبيرا من الكرة الأرضية. فإن العصبية لا تكون مجرد حقيقة شخصية يكتشفها المسلم في لحظة ما، وليس من الممكن أن تعبر قوة غير مفيدة تقوم بالعمل والاستجابة للمواقف والأحداث طبقا لمشيئة المسلم، لأن ذلك سوف يكون بمثابة نوع من الفوضى العالمية. ومن أجل أن تكون العصبية إسلامية في طبيعتها ومن ثم مسئولة، يجب أن يتم تنظيمها حتى تتوافق مع عصبية جميع المسلمين الآخرين في الزمان والمكان والقوة والاتجاه، وتترجم نفسها في عمل تعاوني يتحد فيه جميع المسلمين سويا، وذلك هو الوجه من النظام الذي بمقتضاه أعد الإجماع أذهان المسلمين لتفهم معاني التوحيد. وإن أسلافنا، الذي كانوا يهدفون إلى تحقيق النظام قد عرفوا جيدا أن كل مسلم يجب أن يحصل على الثقافة اللازمة. وأن يكون واسع الإطلاع، أي أنه يجب أن يكون عليما بقدر كبير من القرآن، وأن يكون عليما بسيرة النبي وسرة الصحابة، كما يجب أن يتعرف على الجماعة القريبة من مسكنه (ويتعاون معها في خدمة الله) ويختلف إلى اجتماعاتها التي تعقد في أي مسجد مجاور. وإن ما يعنيه الإسلام بوجوب تلاقي أكتاف المسلمين في وقت العبادة هو أن يشعر كل شخص بالوجود الفعلي للآخرين، ويتم تعارفهم سويا، ويسود التعاون التام فيما بينهم وبين الأمة ككل، ويؤدي ذلك إلى شعور المؤمن بأن الله هو المولى المهيمن. ولقد كان الهدف من جميع ذلك هو وضع أساس نظام الخلافة، ولقد كان المسجد حينئذ – وذلك أيضا هي الصورة التي يجب أن يكون عليها الآن – محورا للنشاطات الإسلامية، ومركزا للنظام الإسلامي، فقد كان المسلمون يتواجدون به يوميا، ويتعاملون سويا تحت لواء التوحيد، وكانوا يتلقون جرعة يومية من الفيتامين الروحي والأخلاقي والسياسي، تتمثل في الحديث الذي يلقيه على مسلم تحثه سعة معرفته وحكمته على الخطابة في زملائه، وينطبق ذلك على الخليفة ذاته. إيفاء الأمر الإلهي (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) وبرأي النبي حينما عزا إلى النصيحة (النصيحة الحرة) نفس القيمة العالية التي تعزي إلى الجهاد، وتصل تلك العلاقات والمعاملات التي تقوم بين الشخص وزملائه إلى أوجها، وتصل تلك العلاقات والمعاملات التي تقوم بين الشخص وزملائه إلى أوجها في صلاة الجمعة عندما تكون خطبة الإمام الدعامة الأساسية لها. ولقد كانت الخطبة تتناول الوضع الراهن. والمشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كانت تواجه المجتمع الإسلامي. واشتراط بأن تحتوي الخطبة على بعض  الإشارات من القرآن والحديث كان يعني أن تتحدث الحكمة الإسلامية عن الوضع الحالي ومن ثم تظهر وثاقة صلة الإسلام بالحياة الواقعية. وأخيرا، إن الممارسة التي تقضي بأن يكون العامل أو الحاكم هو نفسه الإمام في صالة الجمعة كانت تهدف إلى بلورة الإجماع الذي ينشا عن التروي على مدى الأسبوع، أو إلى  التدبر في أسباب الفشل في التوصل إلى الإجماع، واستجماع قوة القيادة من جديد، ومحاولة التوصل إلى واختبار المرحلة التي يمكن فيها إيجاد حل للمشكلة السائدة، وفي الإسلام، تعد تلك الأشياء جميعها عبادة، والتحويل الفعلي للطبيعة والناس قد كان هو الهدف الذي من أجله تم الإيحاء بالقرآن ذاته، وذلك يتمثل في الخدمات الواقعية التي يقوم بها الناس في ملكوت الله المتمثل في الكرة الأرضية، باختلافها عن الطقوس النفسية التي يقوم بها النساك في الصحراء، أو المعلمون الروحيون بالنسبة للمعاهدات الفيداوية، أو التعذيب الذاتي، أو الزهد في الحياة وازدراء التاريخ بالنسبة للنساك أيا كانت ديانتهم.

3 – إجماع العمل:

يمثل إجماع العمل – في الواقع – الذروة لجميع التدبيرات السابقة، فإنه يمثل التنفيذ الذي يتم البدء فيه بمقتضى الإجماع، وهو يعد عملية تتماثل مع الديناميكية الخالدة الخاصة بجدلية إجماع الاجتهاد، من حيث أنه لا يمكن أبدا القول بأنها تأتي إلى نقطة نهاية يخول الإنسان عندها الحق في دخول الجنة، لأن تحقيق إرادة الله على مدى الزمان – والمكان يعتبر سعيا للإنسان لا يصل إلى نهاية إلا في يوم الحساب. إنها تتكون من إشباع حاجات الأمة، ومنح كل شخص فيها التعليم الملائم الذي يؤدي إلى الشعور بتحقيق ذاته، وتقديم جميع الأدوات والوسائل الأخلاقية الضرورية لإقامة أسلوب دفاعي فعال عن الأمة ضد أعدائها الخارجين وأيضا لإقامة أسلوب دفاعي فعال عن الأمة ضد أعدائها الخارجين وأيضا تحقيق الإرادة الإلهية في جميع أنحاء العالم.

إن إشباع الحاجات المادية للأمة تعتبر جوهر الإرادة الإلهية، ومن ثم جوهر الدين، ونظرا لأن الله قد خلق الإنسان ليقوم بالعمل من أجله، باعتباره عاملا في ملكوت الله، فإن ذلك يقتضي أن الله يريد للإنسان أن يقوم بحرث الأرض، وأن يملك حق استخدام عناصر الطبيعة وقواها، وأن يقوم بتطوير المدنية لصالحه. ولإثبات تلك الرؤية، فإن القرآن وصف الفقر بأنه وعد الشيطان، وماثل إطعام الجائع وحماية الضعيف بالدين ذاته.

إن ذلك يعد نتيجة لخلافة الإنسان التي تمنحه الحق في التمتع بثمار ومتع الكون، وخاصة إذا كان قد أدى واجبه تجاه الله، وبمقتضى الرؤية التي كانت سائدة في مملكة العراق، فإن فعل الخلق ذاته قد وضع الإنسان في ملكوت الله بصفته عبدا لله، ولكن ذلك الفعل كان أيضا بداية لتطبيق أعمال مثل الزراعة المنظمة، وبناء السدود ومشاريع الري، وتصريف المياه، وجمع وتخزين المحاصيل، واختراع القرية، والمدينة، والمحافظة، ثم على مستوى الأمة والعالم. وباختصار، أن فعل الخلق كان انتشالا للعالم من الفوضى، وبدءا في تشديد الكون.

إن أسلوب تفكير الشعوب السامية لم يستطيع أبدا تفهم أشياء مثل الزهد في الحياة، أو تعذيب الجسد التي كان يطبقها النساك، ولم تستطيع تلك الشعوب أبدا أن تنظر إلى الجنس والإنجاب والطعام والراحة باعتبارها أشياء أنه في حد ذاتها، ودائما كان الرأي القائل أن تلك الأشياء تتسم بالإثم إليهم، ولم يؤمنوا به أبدا أو يعتبروه كشيء طبيعي، فقد كان ذلك الرأي تراثا روحيا أورثته لنا المسيحية بكل ازدرائها للمادة الذي غرس بذور التنسك وزهد الحياة في الحركة المسيحية. ومن الحقيقي أن الإسلام قد فرض الصيام، ولكنه فعل ذلك لهدفين، وهما: ممارسة السيطرة على النفس ومواساة الفقير. ولكنه قد أمر أيضا في نفس تلك الآية القرآنية بأن يتم إنهاء الصيام عند غروب الشمس حيث يستطيع الفرد أن يمتع نفسه بالطعام والشراب والمتع الحلال.

ولكن ما هو مقدار الحاجات المادية للإنسان التي يجب أن توفرها الخلافة من أجل أن تفي بما هو متوقع منها؟ من السهل أن نقر الحد الأدنى من تلك الحاجات، وهو يتمثل في تحقيق المستوى المعيشي الذي يتم بمقتضاه التخلص من المجاعات والأمراض وارتفاع معدل الوفيات. أما بالنسبة للحد الأقصى، فليس من السهل أن نقوم بتحديده لأنه يصعب تحديد درجة استغلالنا للطبيعة أو تحديد القوى الطبيعية القادرة على إنتاج الطعام. فإن كليهما يعتبر دالا على سيطرتنا المتزايدة على قوانين الطبيعة التي أقرها الله لصالح الإنسان. وكما يقول القرآن، فإن كل شيء في السماء والأرض قد أقيم لصالح الإنسان ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم “ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع” ولقد أعلن عمر أيضا، وهو ثاني الخلفاء، أنه يخشى أن يحاسبه الله في يوم الحساب عن كل دابة تتعثر في سيرها أو تسقط على الأرض الغير معبدة في أقصى قرية من قرى مملكته.

إن الإسلام – بطبيعة الحال – يأمر بفعل الخير مثله مثل كل دين آخر، وبإطلاقه اسم الصدقة على ذلك الفعل، فإنه يعني اعتبارها كدليل وتعبير عن صدق إيمان الشخص، ولكن الإسلام في نفس الوقت قد وضع شيئا خاصا به يميزه عن جميع الديانات، وهو نظام الزكاة التي تعد بمثابة ضريبة سنوية عن الثروة تساوى 2.5 في المائة ويتم جمعها بمقتضى القانون العام. وبتسميتها الزكاة، فإنها تهدف إلى تأكيد أننا نكون قد ارتكبنا ذنبا لو لم ندفع الزكاة السنوية عن ثرواتنا. وقد أكد نظام الزكاة للمحرومين أنه ليس من واجب الأغنياء فقط أن يعطوهم صدقة أو إحسانا، بل إن المحرومين يخولون الحق في الحصول على جزء من ثروة الأغنياء، ولقد حرم الإسلام الاحتكار، والتخزين، وألغى الفائدة باعتبارها الأداة الرئيسية لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان. ومن الناحية الأخرى، فغن الإسلام أوصى الإنسان بأن يسعى للحصول على نعم الله في كل مكان، وأن ينتقل ويهاجر بحثا عن تلك النعم.. بل وأن يسعى إلى الحصول على أقصى ثروة، ولكن بمقتضى القانون الأخلاقي، أي بدون ارتكاب خديعة أو احتيال، أو سرقة أو سلب. وحالما يكتسب الإنسان تلك الثروة ويجمعها، عليه أن يدفع عنها الزكاة، بل إن صدق نية المالك لتلك الثروة يثبت عن طريق دفعه الصدقة.

ومن واجب الخليفة بالتأكيد أن يفعل ما في وسعه حتى يمكن كل فرد في الأمة من أن يحصل على نعم الله في الكون في ويتمتع بها. ولكنه إذا أصبح ذلك هو الهدف الوحيد والنهائي للحياة الإنسانية – مهما يتصف بالنيل والضرورة في بادئ الأمر – فسرعان ما سوف ينحدر بالإنسان إلى الانحطاط للمرتبة الحيوانية، ويطمس الشخصية الإنسانية ويخون العهد بالنسبة للإرادة الإلهية. ولكن الحاجات المادية في حد ذاتها لا تتصف بالإثم وتعتبر في الحقيقة شيئا حسنا، ويجب إشباعها إلى أعلى درجة، ولكن تلك الحاجات المادية، أو الوجه المادي للحياة ذاته الذي يجب تدعيمه يعد فقط وسيلة أو أداة للتوصل إلى النواحي الروحية، سواء بالنسبة للفرد أو الأمة ككل. أما النظر إلى تحقيق الأشياء المادية باعتبارهما الغاية النهائية، فهو يعني الإنكار للناحية الروحية.

ولا نعني أن الناحية الروحية تعد عديمة الجدوى أو أنها تخلو من عنصر التحول النفسي إذا اعتبرناها بديلا للحياة التي تهدف إلى تحقيق الأشياء المادية. إن الحياة الروحية في الإسلام تنقسم إلى ثلاثة مراحل يجب اتباعها في نفس الوقت. المرحلة الأولى هي انشغال الشخص بالاهتمامات المادية العامة للأمة، ويتمثل ذلك في إخضاع الشخص احتياجاته المادية الشخصية إلى متطلبات العمل الموحد للأمة. والمرحلة الثانية هي سعي الشخص للحصول على الثقافة لنفسه وللآخرين، وذلك يتم على مستويين، أي أن ازدياد السيطرة على الطبيعة سوف يزيد من مقدرة الإنسان بالنسبة للاستغلالها ويجعل تلك المهمة أكثر سهولة، وأن الدرجات للإرادة الإلهية. أما المرحلة الثالثة فهي بلورة رغبات الأمة والهامها وتقدمها في إنتاجها من الأعمال الفنية على مدى مسيرتها. واستمرارها في تحقيق وتجسيد القيم أو الإرادة الإلهية على مدى التاريخ.

أما المكون الثاني لإجماع العمل فيتمثل في تزويد كل فرد في الأمة بالثقافة إلى المدى الذي يمكنه من التوصل إلى أقصى درجة من تحقيق ذاته. ولو لم يقم الشخص بتطوير واستغلال جهوده الشخصية إلى درجة ممكنة فإنه لا يكون قد أوفى بالتزاماته الخاصة بصفته عبدا من عباد الله، ولن يحصل على السعادة، وإن الأمة التي تتكون من مثل هؤلاء الأشخاص تكون مجتمعا عديم الجدوى، ودائما ما تقع تلك المواهب الشخصية المختزنة، وتلك الطاقات الغير مستغلة، وتلك الحيوية المختزنة فريسة للإغراء بتحقيق الكيان الذاتي خارج نطاق الأمة أو التآمر لتقويض الخلافة وتدميرها. ويجب على الخلافة أن تقوم بشيئين: أن تخلق الحاجة التي تمكن تلك القدرات الكامنة في الأشخاص من الظهور على السطح، وأن تقدم الوسائل التي تمكن الأفراد من تحقيق كيانهم. وإذا فشلت في المهمة الأولى، فإنها ستكون أمة مكونة من الجهلاء السذج الذين لم يفيقوا بعد من سباتهم، وإذا فشلت في المهمة الثانية، فإنها تكون قد أفسحت المجال للهجرة التي تؤدي إلى إنقاص أعداد أفرادها، أو التدمير الذاتي الذي يأتي من الداخل، أو للحرب والاستغلال الخارجي اللذين يأتيان من الخارج.

إن الخلافة – من أجل الإيفاء بمتطلبات إجماع العمل – يجب أن تعبئ الأمة، وأن تزودها بكل ما هو ضروري لإقامة الدفاع الفعال ضد أي هجوم عليها من أعدائها، وأن ذلك الأمر لا يكون شيئا تطوعيا، بل إن جميع الأعضاء يجب أن يجندوا في المعركة عندما تتعلق المسألة بتهديد وجود الأمة ذاتها، أو عندما تتعلق المسألة بإعلاء كلمة الله في العالم.

وفي التحليل النهائي، فإن تلك الناحية لإجماع العمل، أي مساهمة الأمة في عملية تطبيق الإسلام في العالم هي التي تعطيها أعظم السعادة، وأن تلك الناحية من مهام الأمة هي التي ترفعها إلى ذلك المستوى من النضال الذي يتعلق بتاريخ البشرية، وأن أي إنجاز تقوم به الأمة على هذا المستوى يعد التبرير النهائي لوجودها أمام الله.

(هـ) متضمنات التوحيد فيما يتعلق بالسلطة السياسية:

1 – الإسلام والعالم الإسلامي: الحقائق المحزنة:

إن العالم الإسلامي – الذي يتكون من حوالي ثلاثة أرباع بليون نسمة يعيشون في المنطقة الممتدة من الأطلنطي شرقا إلى الباسيفيكي، وقد ابتدءوا الآن في الانتشار في أوروبا والأمريكتين – يعد ذا إمكانية عظيمة لإعلاء كلمة الله في العالم، ولسوء الحظ بالنسبة للبلدان الإسلامية والعالم أن تلك البلدان لا تزال بعيدة عن تطوير أو استغلال قدراتها في سبيل الله، فهي في واقع الأمر تحتفظ بتوازن مضطرب للغاية بين استغلالها لقدراتها من أجل تحقيق التطور فيها، وتبديدها لتلك القدرات في جهود غير ذات جدوى في الداخل، وفي جهود بناءة ولكن لصالح غير المسلمين.

إن الأغلبية العظمة لدساتير البلدان المسلمة تنص على أن الإسلام هو الديانة الرسمية للدولة، ولكن السعودية فقط هي التي تبدي جدية في ذلك، تتمثل في تطبيقها للشريعة. ويوجد عدد من الدول الأخرى، مثل باكستان، والكويت التي تدعى أن الإسلام هو علة وجود الدولة والأمة. ولكنهم يضيفون إلى ذلك الفكرة الغربية بأنهم يعدون أمما أو دولا لأنهم يتكونون من شعوب وأقاليم وسيادة.. وذلك اعتبار يفترض بصفة مباشرة أن الإسلام غير ملائم لأن يكون بمثابة علة الوجود. أما النوع الثالث مثل مصر، والمغرب، والسودان، الخ فيعتبر أن الإسلام ضرورة تظهر كحلية على السطح. في حين صاغ البنيان والتركيب الداخلي وفقا للأفكار الغربية وليس الإسلام.

أما القومية، التي تعد شعوبية جديدة، والتي تحاكي الرومانتيكية الغربية، فتنص على قوانين الهجرة واتخاذ الجنسية، وإدارة شئون الدولة الفعالة بالنسبة للقادة، وأسلوب حياة المثقفين ونخبة القوم، والصورة الاجتماعية التي يجب أن يماثل الشخص نفسه معها والتي تعرض للعامة من خلال التعليم والإلهام. ولا توجد أي بلدة إسلامية تحافظ على استمرار التعبئة واليقظة بها مثل نموذج مجتمع النبي طوال فترة قيادته في مكة. ولعل أسوأ صفات العالم الإسلامي هي أنه لا يوجد أي دستور في أي مكان يهدف إلى تولى المسلم بالرعاية منذ سن الخامسة، ويعمل على تثقيفه وتدريبه بهدف تحويل الكون والبشرية بشكل فعال إلى ما يشابه النمط الإلهي الذي يتم بمقتضى وعيهم أن ذلك النمط الإلهي يعد في حد ذاته الغاية النهائية من وجود الإنسان. إن النسبة المئوية من المهاجرين المثقفين والمواطنين عديمي الجدوى بالمقارنة مع إجمالي عدد حملة الدكتوراه والأطباء تعد مرتفعة بشكل مخيف، وبالإضافة إلى ذلك، فإن نسبة الأميين إلى المثقفين تعد مروعة. وليس المقلق أن المسلمين قد بدءوا الآن فقط في الاستيقاظ من سباتهم، أو أن مجتمعاتهم تتسم بضعف قواها الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية، أو أن دولهم تترنح في خروجها من الخمور والسبات في إيقاعات متقطعة، ولكن الشيء المقلق هو افتقار القادة المسلمين في الأمة، إلى البصيرة في تلك الفترة العصبية من الحاضر والمستقبل. وما نلاحظه من انعدام أي جهد مبذول لبناء شخصية المواطن المسلم – الذي لن يزداد التزامه بالإسلام في القرن الواحد والعشرين عما هو عليه الآن – يعد نتيجة لذلك الافتقار إلى البصيرة.

2 – بشائر السلطة السياسية:

لا يوجد مسلم ملتزم يستطيع أن يتفهم أو يقبل الأعذار التي طالما قدمها الساسة المسلمون حول النقائص المحزنة للأمة في القرن العشرين. وليس هناك أي شخص يقبل النقاش القائل بأن المبادرة في الإصلاح يجب أن تأتى من العامة قبل أن يكون من الممكن ممارستها بواسطة القادة في الخلافة.

وبالطبع لدينا أعداد وافرة من المثقفين الذين لديهم معرفة واسعة، ولكن ما نحتاجه في تلك الفترة من التاريخ هو الشرارة التي تلهب إرادة الأمة وتحثها على الحركة، وذلك يأتي فقط من القادة الذين يملكون الاستعداد لإنجاز تلك المهمة الخطرة، أي التدخل في التاريخ والقيام بدور الفاعل، وليس المفعول به.

إن تدخل الأمة الإسلامية في التاريخ يبتدئ من الداخل، ويتمثل في البناء المتمهل الهادئ للخلافة. ولا نستطيع القول أن هذا يحدث في الوقت الحالي في أي دولة مسلمة، وحالما يتم التأكد من ثبات الأساس الذي يقوم البناء عليه، فإنه يجب على الخلافة أن تعبئ العالم الإسلامي بأجمعه وتستدعيه للحركة، ويجب تحقيق تلك الغاية بأي ثمن فيما عدا انحلال نظام الخلافة ذاتها. ولكنه من الممكن، بل ومن الواجب التضحية بمجموع الأعضاء من القادة إذا تطلب تحقيق تلك الغاية ذلك الأمر، وحالما تكون الأمة على استعداد لذلك، فإننا سوف نتمكن مرة أخرى من تحقيق عهد للخلافة يتماثل مع عهد أبي بكر. وحينئذ سوف تكون لحظة من أعظم اللحظات التي يمكن أن نمر بها في تاريخنا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر