كلمة التحرير

العالم الإسلامي والمتغيرات الدولية الراهنة

العدد 61

في بداية الحديث عن “المتغيرات الدولية” – التي بدأت معالمها في الوضوح, وأخذت تتجسد في أرض الواقع – في بلاد المعسكر الاشتراكي – في عقد الثمانينات من هذا القرن العشرين – وعن التأثيرات الدولية لهذه المتغيرات – وخاصة على العالم الإسلامي – وذلك من وجهة نظر إسلامية – …. في بداية هذا الحديث – الذي سيعمد إلى تكثيف الرأي والرؤية في نقاط – يحسن أن نبدأ تحديد مضامين بعض المصطلحات التي شاع ويشيع استخدامها في هذا المقال.

     ف “المتغيرات الدولية” .. قد لا تبدأ “دولية” .. وإنما قد تبدأ “محلية” و “إقليمية”, في إطار قارة من القارات, أو حضارة من الحضارات, أو أمة من الأمم .. لكنها تكتسب وصف “الدولية” من التأثيرات التي تحدثها على النطاق الدولي والعالمي.

     وبنظرة على “التاريخ الحي” – الذي لا تزال أحداثه فاعلة في الواقع الحضاري الراهن – يستطيع الإنسان أن يشهد معالم لمتغيرات دولية, بدأت في جزء من العالم, ثم ما لبثت أن امتدت تأثيراتها إلى النطاق الدولي والعالمي.

     فالغزوة الأغريقية – بقيادة الإسكندر الأكبر [356 – 324 ق.م] – للشرق قد مثلت متغيراً دولياً في علاقة الغرب بالشرق لعدة قرون.

     والفتوحات الإسلامية – التي أعقبت ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية – والتي أثمرت عن قيام الدولة الإسلامية ودار الإسلام – وقد مثلت متغيراً دولياً, طوى صفحة الهيمنة “الإغريقية – الرومانية – البيزنطية” على الشرق .. وبدل مراكز الثقل, وغير علاقات القوى في العلاقات الدولية لأكثر من عشرة قرون .. .

     والغزوة الصليبية [489 – 690هـ : 1096 – 1291 م] قد مثلت متغيراً دوليا, حاولت به أوروبا إعادة هيمنتها على الشرق من جديد .. واستخدمت في سبيل ذلك التحالف مع الوثنية التترية ضد الإسلام والمسلمين !

     الغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة – التي بدأت بالاكتشافات الجغرافية .. والالتفاف حول العالم الإسلامي – عن طريق “رأس الرجاء الصالح” [903هـ  – 1498 م] واحتلال الأتراك, ثم اقتحام القلب – بحملة بونابرت على مصر [1213هـ  – 1498 م] – هي واحدة من المتغيرات الدولية التي أثمرتها الحضارة الغربية – في طورها الرأسمالي – كما أثمر طورها الإقطاعي الغزوة الصليبية – وهي قد استعانت وتستعين, ضد الإسلام وأمته وعالمه بالتحالف مع “اليهودية – الصهيونية” .. كما استعانت سابقتها – الصليبية – “بالتتر الوثنيين” !

     “فالمتغير الدولي”, ليس بالضرورة أن يكون “دولي المنشأ” .. وإنما عادة ما يكون إقليمي النشأة .. لكنه, كي يكتسب وصف ” الدولي ” لابد أن يكون ” دولي التأثير ” ..

     هذا عن مفهوم ومضمون مصطلح ” المتغيرات الدولية ” ..

     أما عن مصطلح ” النظام العالمي ” الذي يشيع استخدامه في الحديث عن ” المتغيرات الدولية ” الراهنة .. فجدير بالملاحظة جدة وحداثة هذا الذي نسميه ب ” النظام العالمي “, وذلك إذا ما قيس بتاريخ العالم مع “المتغيرات الدولية” .. فقديماً كانت “متغيرات دولية”, دون أن يصاحبها “نظام عالمي” بالمعنى الذي يفهم من هذا المصطلح الآن .. ولقد تبلور “النظام العالمي” , كنظام تعترف به الدول والأمم والأسرة الدولية, تدريجياً, ومن خلال صراعات القوى الاستعمارية الغربية على استعمار القارات غير الأوروبية .. ومن خلال صراعات هذه القوى الاستعمارية بعضها ضد البعض الآخر على غنائم الاحتلال والاستعمار!

     فعبر العديد من المؤتمرات التي عقدتها هذه القوى الاستعمارية .. والاتفاقات – الودية وغير الودية !. التي أبرمتها فيما بينها .. في أعقاب حروبها الأوروبية .. وغزواتها الاستعمارية – خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين .. تبلور “النظام العالمي” , بمفهومة الراهن, عقب الحرب الاستعمارية [1914 – 1918 م] – التي بدأت غربية المنشأ والمقاصد – واكتسبت صفة العالمية بسبب التأثيرات والضحايا ؟!  – .. تبلور “النظام العالمي” في صورة “عصبة الأمم” [1337هـ – 1919 م] معبراً عن توازن القوى في ذلك التاريخ.

     فلما طوت حرب [1939 – 1945 م] والتي, هي الأخرى, غربية المنشأ والمقاصد, وعالمية الضحايا والتأثيرات ؟!.. لما طوت صفحةَ “عصبة الأمم” .. قام “الإطار” الحالي لهذا “النظام العالمي” ممثلاً في “الأمم المتحدة” و “مجلس الأمن الدولي” [1364هـ – 1945 م].

     هذا عن مفهوم ومضمون “النظام العالمي” الذي يشيع الحديث عنه في الأدب السياسي المعاصر .. وهو “نظام”  – كما تبين – غربي المنشأ والمقاصد .. و “عالمي” الامتدادات والتأثيرات؟

المتغيرات الدولية الراهنة

     أما هذه “المتغيرات الدولية” الراهنة – والتي بدأت بتراجع وسقوط الخيار والتطبيق الماركسي, في الدول الاشتراكية الأوروبية, في عقد الثمانينات – والتي ما زالت تطوراتها وتداعياتها حادثة ومتنامية الآن؛ فإن فهمها .. وإدراك تأثيراتها على” النظام العالمي ” بعامة, وعلى عالم الإسلام خاصة .. لن يتأتى, على الوجه الأكمل, إلا إذا نحن أدركنا:

أ‌-       خصوصيتها الحضارة الغربية.

ب‌-  وموقعها من التحديات التي تواجه النهضة الإسلامية.

ج- و”البديل الإسلامي” , الذي يقدمه الإسلام, والذي يمتلكه المسلمون في مواجهة هذه التحديات. 

      وتلك هي القضايا الثلاث, التي تطمح هذه الصفحات إلى تقديم تكثيف لحقائقها في عدد من النقاط .. ثم نتبعها ب “شهادة التاريخ” على صدق هذا التحليل ..

   الخصوصية الغربية لهذه المتغيرات

     قبل ظهور الخيار الماركسي – في صورته النظرية – كانت الليبرالية, وتطبيقاتها الرأسمالية, هي الخيار السائد في الفكر والتطبيقات في إطار الحضارة الغربية.

     وكانت أصول هذا الخيار الليبرالي الغربي, التي اتفقت عليها مدارس الفكر الغربي تتمثل في:

·        الفلسفة الوضعية: التي تقف بالحقائق عند ما تدركه الحواس والتجارب الحسية من الواقع المحسوس – عالم الشهادة – .. وما عدا ذلك فهو, برأيها, ميتافيزيقا لا ترقى تصوراتها ومدركاتها إلى مرتبة “العلم” و “اليقين” ..

·        والفلسفة التشريعية:التي لا تضع على “المصلحة” أية قيود دينية أو أخلاقية عند سن التشريعات والقوانين .. فبفصل “الدين” عن “الدولة” وشئون العمران عُزِل الدين عن الاجتماع الإنساني, في السياسة والاجتماع والاقتصاد والتشريع .. كما عزلته “الوضعية” عن مناهج التفكير !

·        والفلسفة السياسية:التي جعلت الطبقة البرجوازية “الملاك” هي – وحدها –  حاملة رسالة النهضة والتقدم .. وأيضاً المستأثرة بأغلب وأطيب الثمرات !

·        والفلسفة الاجتماعية:التي تجعل “الفرد” و “الفردية” محور الاهتمام .. وحافز التقدم. والمحور الذي يدور من حوله النظام.

      على هذه المعالم والأصول اجتمعت مدارس الفكر الغربي, التي تبلورت في إطار الموجة المادية للعلم الغربي, تلك التي انطلقت ماديتها من طبيعة الحضارة الغربية .. وتصاعدت هذه المادية فيها بسبب الصراع مع الكنيسة والكهانة والسلطة الدينية للبابوات !

      فلما جاء كارل ماركس [1817 – 1883 م] وفريدريك أنجلز [1820 – 1895 م] وصاغا الخيار الماركسي, كنقيض غربي لليبرالية الرأسمالية – في [البيان الشيوعي] سنة 1848 م – لم يمثل هذا الخيار انقلاباً كاملاً على أسس “الخيار الحضاري الغربي” .. وإنما وقف عند حدود “الانشقاق المتميز” في إطار هذا الخيار الحضاري الغربي, المتحد في الأصول..

·        فالماركسية – في الفلسفة “وضعية” .. تصاعدت ب “الوضعية – الميتافيزيقية” إلى “الوضعية – المادية”.

·        والماركسية – في علاقة الدين بالدولة والمجتمع – تصاعدت بالموقف الليبرالي.. فلم تكتف بفصل الدين عن الدولة .. وإنما طمحت إلى ” تحرير ” الإنسان من الدين !

·        وهي – في السياسة – انتهجت المنهج الطبقي .. لكنها بدلاً من المراهنة على البرجوازية, كحاملة لرسالة التقدم, راهنت على البروليتاريا. فاستبدلت طبقة بطبقة. مع الحفاظ على المنهج الطبقي.

·        أما في الاجتماع .. فلقد زعمت أنها تُحِلّ “الجماعية ” محل ” الفردية ” .. لكن التطبيق أسفر عن إحلالها ” الحزب ” و ” دولته ” محل ” الفردية ” و ” الجماعية ” كليهما !.

      وهكذا كان الخيار الماركسي مجرد ” خلاف ” و ” انشقاق ” في إطار الحضارة الغربية, ذات الأصول ” الوضعية ” .. “العلمانية ” .. الطبقية التي رأت نفسها – لعنصريتها – الوارث الوحيد للحضارات الأخرى, على النطاق العالمي .. كما أن الطبقة – بورجوازية .. أو بروليتاريا – هي الوارث الوحيد لسلطات وثمرات المجتمع القومي !.

     ولقد ظل الخيار ” الماركسي – الشمولي ” مجرد خيار نظري, يصارع الخيار “الرأسمالي – الليبرالي” على أرض الحضارة الغربية – قرابة السبعين عاما [1848 – 1917] فلما وضع في الممارسة والتطبيق, بعد ثورة سنة 1917 م في روسيا.. وقسر جمهوريات الاتحاد السوفيتي .. ثم دول أوروبا الشرقية على السير في طريق هذا الخيار .. كان هذا السقوط لهذا الخيار – بعد سبعين عاماً من التطبيق ؟! – فعادت الحضارة الغربية إلى الوَحدة والاتحاد على خيارها “الليبرالي – الرأسمالي ” من جديد.

      فهي, إذن, ” متغيرات غربية ” المنشأ والطبيعة .. يعود بها الخيار الحضاري الغربي – “الليبرالي – الرأسمالي ”  – إلى الهيمنة على كامل محيطه الحضاري, بعد سقوط هذه “الجملة المعترضة ” لمجراه !.

     ولكنها, أيضاً, ” متغيرات دولية ” التأثير.. لأن الغرب, الذي يمارس هيمنته الاستعمارية العالمية, منذ غزوته الاستعمارية الحديثة, تعود هيمنته الاستعمارية هذه إلى الوَحدة, بعد زوال هامش الخلاف والتناقض – الذي حاولت الأمم والحضارات المُستَعمَرَة والمستضعفة الاستفادة من وجوده, إبان العقود السبعة التي قام فيها نظام وعالم للخيار الماركسي – .. تعود هيمنة الغرب للوَحدة .. وقبضته للبطش .. وقوته للغطرسة .. في صورة هذا الذي يسميه ب “النظام العالمي الجديد ” .. والذي هو – في الحقيقة – “نظام غربي ” في ” طور جديد ” !.

موقع المتغيرات الدولية من

التحديات التي تواجهنا

     صحيح أننا يجب أن نقلع عن العادة السيئة التي تجعلنا نغمض عيوننا عن أمراضنا الذاتية وسلبياتنا الداخلية وعوامل تخلفنا الموروث, مكتفين بتركيز كل الأضواء على التحديات والمخاطر الخارجية على مشروع نهضتنا الإسلامية, وخاصة تلك التي تتمثل في الهيمنة الحضارية الغربية على واقعنا وعلى الفكر السائد في كثير من تيارات الفكر في بلادنا .. فتلك آفة تحول بين العقل المسلم وبين أن يبصر كل ما يعترض طريق نهضته من تحديات.

     لكن الصحيح, كذلك, أن لا نغفل عن دور التحديات الخارجية في حراسة أمراضنا الذاتية وعيوبنا الداخلية وتخلفنا الموروث !.. والتاريخ الحديث, والواقع المعاصر على هذه الحقيقة من الشاهدين !. قد لا يكون الغرب الاستعماري مسئولاً عن كل أمراض الدولة العثمانية .. لكنه هو الذي حرص – رغم تناقضات دوله – على حراسة هذه الأمراض, فحال دون مشروعات النهضة والتجديد لهذه الدولة – وفي مقدمتها مشروع محمد على باشا [1184 – 1265هـ 1770 – 1849 م] ومشروع الجامعة الإسلامية, الذي هندسه جمال الدين الأفغاني [1254 – 1314 هـ : 1842 – 1918 م] .. لقد حرس الغرب الاستعماري الأمراض الداخلية, لتظل ثغرات وفراغات لتدخله ولنفوذه ولامتيازاته حتى جاءت لحظة وراثته ل” دولة الرجل المريض” !.

     وقد لا يكون الغرب الاستعماري هو الصانع الوحيد لخلاف أحمد عرابي [1257 – 1329 هـ : 1841 – 1923 م] والثورة التي قادها [1299هـ – 1882 م] مع الخديوي توفيق [1268 – 1309 هـ : 1852 – 1892 م] .. ولا الصانع الوحيد لأسباب الشقاق بين الشريف حسين [1272 – 1350 هـ : 1856 – 1931 م] وبين الدولة العثمانية .. لكن الصحيح, كذلك, أنه هو الذي ضخم هذه الخلافات وتصاعد بهذه الانشقاقات, ليتخذها تُكاة يبرر بها مخططه المرسوم ويحقق في ظلالها أطماعه المبيته وهيمنته التي جاء ليعيد بها أحلام الإسكندر الأكبر والصليبيين من جديد !.

     ومثل ذلك .. وقبل ذلك .. قد لا يكون الغرب مسئولاً عن تخلفنا الموروث من عصور عسكرة الدولة والمجتمع, في الحقبة المملوكية – لكنه, بالفكرية التي احتل بها عقول النخبة التي تغربت, وبالتغيرات التي صاغ بها واقعنا على نمط هذه الفكرية المتغربة, قد أسهم في وضع العقبات الكبرى أمام دعوات وحركات النهضة والإحياء الإسلامي .. فزامل التخلف الموروث – عندما حرسه – ليكونا معاً جناحا التحدي الذي يحول بين الأمة وبين الانعتاق والانطلاق !.

     وعلى هذا النحو يجب أن تكون رؤيتنا لموقع ” التحدي الخارجي ” من أمراضنا الذاتية, وعيوبنا الخاصة, وتخلفنا الموروث, و ” التحديات الداخلية ” لنهضتنا الإسلامية ..

     إن الاستبداد الداخلي, في بلادنا الإسلامية .. هو ” داخلي ” الوجه, واللغة, والنسب, والأسلوب .. لكنه, في الحقيقة, صناعة غربية !.. فالغرب الاستعماري هو الذي أقام ويقيم نظمه, وهو الذي يحرسها ويحميها .. ويستبدلها عندما يصيبها الإفلاس !..

وإن المظالم الاجتماعية, الناشئة عن دولة الأغنياء, التي تركز الثروة بيد القلة وتنشر الفقر في محيط الكثرة .. والمتسمة بالسفه والفجور .. هي أمراض داخلية الشكل .. لكنها, في الحقيقة صناعة غربية !.. فالغرب هو المستنزف الأول لثروات عالم الإسلام. وما سَف سفهائنا إلا الفتات الذي يدعه لهم, والذي يهيئ لهم – بنمط الحياة الاستهلاكي – ميادين السفاهة به وفيه ؟!.

     إذا كانت ” المتغيرات الدولية ” الراهنة, قد حررت الرجل الأبيض من أغلال الشمولية في نطاق الحضارة الغربية – حضارة الرجل الأبيض – .. فإنها قد تركت الصين, وفيتنام, وكوريا الشمالية, وكوبا, والحبشة, وأفغانستان .. بلى ومسلمي ألبانيا في هذه الأغلال ؟!.. والمكاييل المختلفة التي تكيل بها الليبرالية الغربية لجمهوريات البلطيق السوفيتية .. وللجمهوريات الإسلامية السوفيتية شاهد آخر على هذا الذي نقول: حتى ليمكن للمرء, دون أن يعدو الموضوعية, أن يعزو هذه المتغيرات الدولية, التي هي, في الحقيقة, إعادة الوَحدة ومن ثم القوة للهيمنة الحضارية الغربية, على الأمم والحضارات الأخرى, إلى الخيفة التي توجسها الغرب من اليقظة الإسلامية, تلك التي تهدد – إذا هي انتصرت – بانتزاع عالم الإسلام – من غانة إلى فرغانة .. ومن حوض نهر الفولجا إلى جنوب خط الاستواء – من فم الأسد الغربي .. بما يمثله ذلك من انقلاب – وليس مجرد تغيير – في موازين القوى .. وفي النظام الدولي الذي صنعه الغرب منذ عهد الاستعمار الحديث !.

     فهذه المتغيرات الدولية الراهنة .. هي متغيرات المنشأ والطبيعة والمقاصد .. تعيد ترتيب البيت الغربي .. بيت الحضارة الغربية, حتى تتصاعد بهيمنتها وقبضتها على الآخرين .. وخاصة على عالم الإسلام .. الذي يمتلك – دون أمم الحضارات غير الغربية  – خياراً حضارياً غير إقليمي, وصالحاً للمنافسة والتفوق والعطاء للعالمين !.  

     تلك هي مكانة هذه المتغيرات الدولية الراهنة من التحديات التي تواجه نهضة عالم الإسلام.

شهادة التاريخ

     وإذا كان هناك من يماري في هذه الحقيقة, التي تلح على إثباتها هذه الصفحات, حقيقة: العلاقة العضوية بين تحدي “المتغيرات” الدولية الراهنة و ” النظام العالمي الجديد ” وبين أمراضنا الذاتية وسلبياتنا الداخلية وتخلفنا الموروث – والتي تتخذ شكل “الصنع” أو “الحراسة” لهذه الأمراض الداخلية – أو هما معاً – .. فلعل في “الوعي” بمضامين ودلالات صفحات المنعطفات التاريخية, التي مثلت نقاط تماس واحتكاك عنيف بين حضارتنا الإسلامية وبين التحديات الخارجية .. لعل في الوعي بدلالة هذه المنعطفات الحادة والمواقف الفاصلة في تطورنا التاريخي والحضاري ما يعين على تأكيد هذا المعنى الذي تلح على إثباته هذه الصفحات..  معنى : العلاقة بين “الداخلي” و “الخارجي” .. ودور “الداخلي” – وخاصة بمراحل الضعف والتراجع في التهيئة “للخارجي” – بل وإغرائه بالتدخل ! – .. ودور “الخارجي” – بمراحل الاستضعاف, أيضاً – في صناعة “الداخلي”, أو حراسته وإطالة عمره-.. وثمرات الوعي بهذه الحقائق في الرؤية الشاملة لجميع التحديات, الداخلية منها والخارجية.. وفي تحديات أوزان كل منها, لتقدير نسبة مخاطرها, ومن ثَم نسبة الاهتمام الذي تستوجبه وتستدعيه من قوى وتيارات النهضة والإصلاح والتقدم والتغيير..

     إن نظرة على صفحات تاريخ هذا الصراع الحضاري التاريخي, تكشف لذوي الألباب:

·        أن الغزوة الصليبية [489 – 690هـ 1096 – 1291 م].. قد عاصرت وجود صراعات داخلية بين الدول الإسلامية, فاطمية .. وعباسية .. وسجلوقية .. لكن هذه الصراعات “الداخلية” لم تكن هي سبب هذا التحدي ” الخارجي “.

فالتخطيط الغربي لإعادة هيمنته – التي أزاحتها الفتوحات الإسلامية – على الشرق قائم ودائم وقديم وهو يتحين الفرص ويهتبل المناسبات ويتعجل الثغرات ” الداخلية ” في جدار مقاومتنا وجهاز مناعتنا .. وكلمات البابا الذهبي ” أربانيوس الثاني ” [1042 – 1099 م] في المؤتمر التحضيري الذي عقده فرسان الإقطاع الغربيين – في “كليرمونت” بجنوبي فرنسا سنة 1095م – شاهدة على ذلك .. فلقد قال: ” أنتم فرسان أقوياء, ولكنكم تتناطحون وتتنابذون فيما بينكم .. ولكن, تعالوا وحاربوا الكفار – [المسلمين]؟! .. يا من تنابذتم اتحدوا .. يا من كنتم لصوصاً كونوا الآن جنوداً! تقدموا إلى بيت المقدس .. انتزعوا تلك الأرض الطاهرة, واحفظوها لأنفسكم, فهي تدر سمناً وعسلاً !.. إنكم إذا انتصرتم على عدوكم ورثتم ممالك الشرق ؟! “(1).

     فالتحدي ” الخارجي ” كان العامل الأول والحاسم في هذه الغزوة الصليبية – التي استفادت من الأمراض الداخلية – ثم رعتها ونمتها وحرثتها لقرنين من الزمان !.

·        وإن صراعات شاور [564هـ – 1169 م] وضرغام [559هـ – 1164 م] وهما الوزيران الفاطميان بمصر إبان تعرضها لخطر الغزو الصليبي لها – قد مثلت “ثغرة” حاول منها هذا الخطر امتلاك مصر وكسر شوكة مقاومتها. لكن هذه الصراعات لم تكن سبب الخطر والتحدي, بل التُّكْأَة لنجاح بعض جولاته .. ولذلك وجدنا صلاح الدين الأيوبي [532 – 589هـ 1137 – 1193 م] – وهو يتصدى للخطر والتحدي – لا يجعل معركته الأساسية ضد ” شاور ” و ” ضرغام ” وإنما ضد الجيوش الصليبية .. وهو عندما تخلص من ضرغام [559هـ – 1164 م] فإنما كان يؤمن الجبهة الداخلية لتكون أكفأ في ملاقاة ومواجهة التحدي والخطر الرئيسي, الخارجي !.

·        والغزوة التترية [656هـ 1258 م] : التي دمرت بغداد – ذلك الدمار الذي ذهب مثلاً في التاريخ على قمة الهمجية وذروة المأساة – قد استفادت من دسيسة الوزير الشيعي مؤيد الدين بن العلقمي [593 – 656هـ :1197 – 1258 م] الذي خان خليفته العباسي المستعصم بالله [609 – 656هـ 1212 – 1258 م] لأسباب طائفية ؟ّ!.

لكن هذه ” الثغرة الداخلية ” ليست هي التي صنعت غزوة التتار لبلاد الإسلام .. فالحلف “الغربي – المسيحي” مع ” التتر – الوثنيين ” .. والذي بدأ الترتيب له بالبعثة التي أوفدها البابا ” إينوسنت الرابع ” .. [1243 – 1254 م] إلى ” قراقورم ” – عاصمة الدولة الشرقية التترية – والتي رأسها رجل الدين ” جون ده بياني كابريني ” – هذا الحلف هو الذي حول الغزوة التترية عن وجهتها الأوروبية, التي كانت لها في التخطيط التتري الأصلي, وجعل حرابها تتوجه إلى بغداد وديار الإسلام ؟!. فلما هزمت بغداد التتار في سنة 643هـ سنة 1245 م .. عاودوا الكرة ثانية, فدمروها سنة 656هـ سنة 1258 م !.

·        والحملة الفرنسية على مصر والشرق [1213هـ – 1798 م] : والتي قادها بونابرت [1769 – 1821 م] هل يتصور عاقل, يعي فلسفة التاريخ, أن سببها كان الصراع الداخلي بين مماليك مصر وبين العثمانيين ؟! وأن بونابرت قد جاء – كما زعم – حكماً لإنصاف السلطان من المماليك ؟!. أم أن السبب الحقيقي والفاعل كان المد الاستعماري الحديث, ذلك الذي دفع بونابرت لقيادة الجيش الذي جاء لإعادة تحقيق أحلام الإسكندر الأكبر [356 – 324 ق.م] والقديس لويس التاسع [1214 – 1270 م] في الشرق ؟!.

·        والحملة الإنجليزية على مصر – حملة فريزر [1222هـ – 1807 م] – التي انهزمت في معركة ” رشيد ” – هل يتصور إنسان أنها قد جاءت لنصرة المماليك ضد محمد على باشا [1184 – 1265هـ 1770 – 1849 م] ؟!.. أم أنها قد جاءت لتنفيذ ذات المشروع الذي حاول إنجازه بونابرت, ولكن لحساب الاستعمار الإنجليزي ؟!.

·        ومعاهدة لندن [1256هـ – 1840 م]: التي اجتمعت فيها كلمة الغرب – رغم تناقض مصالح دوله الاستعماريه – إنجلترا وروسيا وبروسيا والنمسا – ضد مشروع محمد علي باشا: توحيد المشرق وشبه الجزيرة العربية مع مصر والسودان واليمن وسواحل البحر الأحمر الإفريقية .. هل كانت هذه المعاهدة, التي بدأ بها حصار الغرب لهذا المشروع التجديدي للشرق الإسلامي, هل كانت – كما قدمت – حلاً للنزاع الداخلي بين محمد علي باشا وبين السلطان العثماني ؟!.. أم أنها كانت التحدي الخارجي, الذي يحرس مرض “دولة الرجل المريض” ويحول دون تجديد شبابها بواسطة مشروع محمد علي باشا, انتظاراً للحظة وراثة الغرب الاستعماري لها, عندما تسمح تناقضاته بتوزيع هذا الميراث ؟!.

      إن فرنسا وإنجلترا هما التان حطمتا الأسطول المصري في نفارين سنة [1243هـ – سنة 1827 م] – وكان يحارب يومئذ تحت راية السلطان العثماني !.

     وإن روسيا هي التي أعلنت الحرب على الدولة العثمانية, في نفس العام .. وأخضعتها لشروط معاهدة أدرنة المجحفة سنة 1245هـ – سنة 1829 م.

     فلما رأوا في مشروع محمد علي تجديداً لشباب الدولة, يهدد بالحيلولة دونهم ودون ميراثهم لها .. اجتمعوا جميعاً, بحجة الانتصار للسلطان في نزاعه الداخلي مع محمد علي باشا .. فكان الحصار الذي أجهض مشروع التجديد .. وحرس الأمراض الداخلية للدولة العثمانية حتى حان تقسيمها بين إمبراطوريات الاستعمار الغربي .. قطعة قطعة.. ثم جملة واحدة عقب الحرب العالمية الأولى !.

·        والاحتلال الإنجليزي لمصر [1299هـ – 1882 م]: هل يصدق عاقل أن أسبابه كانت خلاف أحمد عرابي باشا [1257 – 1329هـ 1841 – 1911 م] والثورة التي قادها مع الخديوي توفيق [1268 – 1309هـ 1852 – 1892 م] ؟!.. وهل ضرب الإنجليز الإسكندرية في 24 شعبان سنة 1299هـ 11 يوليو سنة 1882 م – واحتلوها بسبب النزاع بين “المالطي” وبين “المكاري” الإسكندراني ؟!!

    وهل جاءت جيوشهم لحماية العرش الخديوي من العرابيين “العصاة” ؟!

   أم أن ذلك جميعه قد بيت بليل .. ليحدث ويتحقق ذلك الذي لم يحدث ولم يتحقق في حملة فريزر سنة 1222هـ – 1807 م .. وهو الذي سهرت إنجلترا على التمهيد لنجاحه, منذ معاهدة لندن سنة 1840 م, بزيادة أعداد الجاليات الأجنبية بمصر.. ونشر المدارس التبشيرية.. وازدواجية التشريع والقضاء, بالمحاكم القنصلية , والمختلطة .. والديون – التي رهنت ثروة مصر – وصندوق الدين – الذي هيمن على ماليتها – ومشروع الأسهم المصرية في شركة قناة السويس .. الخ .. الخ .. وهي خطوات على درب الاستعمار لمصر, سبقت ثورة عرابي, وعهد الخديوي توفيق ؟!.

·        وتقسيم أشلاء الدولة العثمانية .. وإلغاء خلافتها: هذا الذي أنجزته قوى الاستعمار الغربي عقب الحرب العالمية الأولى .. هل كان سببه خلاف الشريف حسين بن علي [1272 – 1350هـ 1856 – 1931 م] مع الدولة العثمانية, وتمرده عليها في 3 شعبان سنة 1334هـ – 5 يونيو سنة 1916 م .. أم أن ذلك قد تم تتويجاً لمخطط غربي, سهر الغرب على بلوغ مقاصده منه لعشرات السنين .. بل إن تنفيذه قد تم وَفق معاهدة “سيكس – بيكو” , التي عقدت بين إنجلترا وفرنسا وروسيا في جماد أول سنة 1333هـ – 10 إبريل سنة 1915 م .. أي قبل عام من تمرد الشريف حسين ؟!.

·        والعدوان الثلاثي على مصر: في ربيع أول سنة 1376هـ – 29 أكتوبر سنة 1956م .. هل كان سببه تأميم مصر لشركة قناة السويس في ذي الحجة سنة 1375هـ – 26 يوليو سنة 1956 م ؟. أم إن هذا التأميم هو الذي كان رداً على سحب أمريكا والغرب لعرض تمويل السد العالي في 19 يوليو سنة 1956 م – والذي مثل حصاراً وتأديباً لمصر بسبب توجهها إلى سياسة عدم الانحياز .. ورفضها لحلف بغداد ؟؟!.

·        وعدوان سنة 1967 م: – صفر سنة 1387هـ – 5 يونيو سنة 1967 م – هل كان ثمرة لإغلاق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية في مايو سنة 1967 م ؟؟!. أم كان حلقة في مسلسل المخطط ” الغربي – الصهيوني ” لتحقيق ما لم يتحقق في عدوان سنة 1956 م .. ولإجهاض عوامل القوة والنهوض العربي .. وإحكام القبضة الغربية علينا بواسطة إسرائيل الكبرى ؟!!.

بل لعله من الضروري, والمفيد أيضاً, أن نشير – بمناسبة الحديث عن العدوان الإسرائيلي في سنة 1956 م وسنة 1967 م – إلى حقيقة أن العامل ” الخارجي ” – مشروع الهيمنة. والاستعمار الغربي – هو الذي حقق لليهود والصهاينة اغتصاب فلسطين, عندما استخدم الحلم الصهيوني لإقامة الشراكة ” الغربية – المسيحية – اليهودية – الصهيونية ” ! ضد العرب والمسلمين, لبناء قاعدة عدوانية في قلب وطننا, تمثل امتداداً لحضارته الغربية, ورأس رمح لآلته الحربية, وقفازاً لقبضته الحديدية التي تقوم على تحقيق استراتيجيته في إجهاض تقدمنا ونهضتنا وانعتاقنا من اخطبوته الاستعماري .. ولو كانت المواجهة بين القوة الذاتية لليهود الصهاينة وبين أمتنا حتى مع أمراضها الذاتية – لتغيرت مجريات وثمرات هذا الصراع !..

     بل إن الدراسات العلمية الموثقة – ذات المصادر الغربية – قد أثبتت وتثبت أن المشروع “اليهودي – الصهيوني ” إنما بدأ ” غربياً – مسيحياً – استعمارياً ” قبل أن يجتذب الغرب المسيحي إليه ” اليهود – الصهيونيين ” (2) ؟!.. فهو مقطوع الصلات, إلى حد كبير, بواقع الشرق ودياناته وطوائفه – بمن فيهم اليهود الساميون – .. وهو نبت خالص للعوامل الخارجية, المتمثلة في المشروع الاستعماري الغربي الذي أغار على بلادنا قبل قرنين من الزمان .. وفي المشكلة القومية لليهود الغربيين !.

     إن الصراعات الداخلية – لو لم يوجد الطامع والمتربص الخارجي – لابد وأن تحل داخلياً, ووَفق قوانين الداخل, وعلاقات القوى الداخلية وتوازنها, ولحساب هذه القوى الداخلية وحدها .. وكذلك حال الأمراض الذاتية, يتم علاجها بواسطة المناعة الحضارية.. وهو سبيل قصير .. وطبيعي .. ومأمون في العلاج !.

     وليس هذا بالفرض النظري. وإنما هو السبيل الذي حلت به كل التناقضات والصراعات وعولجت بواستطه كل الأمراض الذاتية لأمتنا وحضارتنا في القرون التي سبقت اشتداد هجمة التدخل الخارجي والغزو الغربي في شئوننا الداخلية !.. بل إنه هو سبيل حل كل الصراعات وعلاج كل الأمراض في سائر الكيانات الحضارية التي لا تهددها تحديات من خارج كيانها ..

     هكذا .. وفي ضوء الوعي بتاريخ هذا الصراع بين ” المشروع الغربي ” وبين حضارتنا وبلادنا وأمتنا, يجب أن نرى أحدث فصول هذا الصراع .. صراع منطقة الخليج !.

·        فهل كان ” الطموح الإيراني “, الذي تحدث عن تصدير الثورة الشيعية إلى المجتمعات السنية .. والذي أخاف نظم البترول الخليجية من نهجه الثوري .. هو سبب حرب السنوات الثماني [ سبتمبر 1980 م – يوليو سنة 1988 م] ؟؟

     أم أن استراتيجية الغرب, الرافضة لوجود قوة إسلامية مستقلة, وخاصة في بلاد الثروة النفطية, ومن ثَم سعيه لإجهاض قوة إيران الثائرة, ونموذجها المعادي للغرب .. كان هو السبب الحقيقي لهذه الحرب – التي هي الفصل الأول في مأساة الخليج – ؟؟.. وفي سبيل تحقيق هذه الاستراتيجية استثمر الغرب خوف النظم الخليجية من هذه الثورة في محاربتها .. قتالاً من القادر على القتال, وتمويلاً من القادر على التمويل ؟؟.

·        وهل كان الاجتياح العراقي للكويت في 2 أغسطس سنة 1990 م هو السبب في إدخال المنطقة بأسرها في هذا المنعطف الخطر, والمأساوي, والبائس, من الهيمنة الغربية, تحت مظلة هذا ” النظام العالمي الجديد ” ؟!.

    أم إن هذا الاجتياح, قد كان – هو الآخر – ” مصيدة غربية “, اقتيد إليها النظام المستبد في بغداد ؟! – وهو النظام الذي صنعه الغرب على عينه – أو على الأقل أغمض عيونه عن جرائم استبداده !.. ولقد استأجره واستخدمه لإجهاض قوة إيران الثورة, فلما اقترف الجريمة, وأنجز المهمة, استدار الغرب ليجهض قوته هو أيضاً ؟!. وذلك تحقيقاً لثوابت استراتيجية : إجهاض القوى الذاتية المحلية .. وإحكام القبضة الحديدية على المنطقة وثرواتها ونظمها الهشة .. إعاقة للحاضر من محاولات الإصلاح, وتطويقاً لأحلام الأمة في التقدم والنهوض ؟!.

     … ومرة أخرى …

     كيف نرى أمراضنا ” الداخلية ” ؟؟.

     أهي صانعة الهيمنة الغربية, على مر تاريخ هذا الصراع ؟؟.

     أم إنها, هي الأخرى, إما ” صناعة غربية ” ؟.. أو ” محروسة” بنفوذ الغرب وحرابه لتظل الثغرات مفتوحة, دائماً وأبدا .. والمبررات جاهزة, في كل الأوقات, لهذه الهيمنة الغربية, التي وإن تعددت صورها, وتبدلت قياداتها, إلا أن مقاصدها لا تتبدل ولا تتحول : الحيلولة دون قوة ونهضة واستقلال دار الإسلام وأمته وحضارته, واستبقاء لأكبر الغنائم في فم الأسد ” الغربي ” .. ومنعاً لهذه الحضارة الإسلامية من أن تعود إلى ساحة المنافسة للغرب على النطاق العالمي؟؟!!

     إن الغرب لا ينظر إلى حضارتنا الإسلامية نظرته إلى الحضارات ذات الطابع الإقليمي والآفاق المحلية – حضارات الهند والصين واليابان, مثلاً – .. فهذه لا تمثل منافساً ولا بديلاً للنموذج الحضاري الغربي .. وإنما هو ينظر إلى حضارة الإسلام – وبشهادة التاريخ – كالمنافس الأول, والمزاحم الوحيد, والبديل الأكيد لحضارته في معترك الصراع الحضاري العالمي .. ومن هنا فهو ينشب أنياب وأظافر تحدياته في أحشاء ” واقعنا ” – الذي شكَّلَه خلال قرني هيمنته الاستعمارية على بلادنا – وفي تلافيف ” عقولنا ” – التي صاغها على التبعية والمحاكاة والتقليد لنموذجه الحضاري ..

     وإذا كان الغرب لا يستحي – بسبب غطرسة القوة – من الإعلان عن أن استراتيجيته إزاء أمتنا تتلخص في :

·        إما التبعية لنموذجه الحضاري ؟!

·        وإما المواجهة بكل أسلحة القوة التي يمتلكها ؟!.

     وهو الإعلان الذي جهر به رئيس المجلس الوزاري الأوروبي – وزير خارجية إيطاليا – “جياني ديميكليس ” – في جوابه على سؤال مجلة ” النيوزويك ” الأمريكية, عن مبررات بقاء حلف شمال الأطلنطي – الناتو – بعد زوال المواجهة بين الغرب الليبرالي والغرب الذي كان اشتراكياً ؟!.. فلقد تحدث رئيس المجلس الوزاري الأوروبي عن طبيعة المواجهة القادمة فقال :

     ” صحيح أن المواجهة مع الشيوعية لم تعد قائمة. إلا أن ثمة مواجهة أخرى يمكن أن تحل محلها بين العالم الغربي والعالم الإسلامي ” ؟!!.

     فلما سئل :

 “كيف يمكن تجنب تلك المواجهة المحتملة ” ؟.

     أجاب :

 ” ينبغي أن تحل أوروبا مشاكلها, ليصبح النموذج أكثر جاذبية وقبولاً من جانب الآخرين في مختلف أنحاء العالم. وإذا فشلنا في تعميم ذلك النموذج الغربي, فإن العالم سيصبح مكانا في منتهى الخطورة (3) ” ؟!!

إنه إعلان : واضح .. ومحدد .. وصريح .. :

·        إما التبعية للنموذج الحضاري الغربي ؟ ! ..

·        وإما المواجهة – ” الغربية – الإسلامية ” – التي تجعل العالم ” مكانا في منتهى الخطورة ؟ ! ..

أما ” حل أوربا لمشاكلها ” و ” ترتيب الغرب لبيته ” – استعداداً لهذه المواجهة – فهو هذا الذي نشهده الآن : – المتغيرات الدولية الراهنة – والنظام العالمي الجديد – ! ..

     في ضوء الوعي بهذه الحقيقة .. وبحقائق تاريخ هذا الصراع الحضاري .. يحسن بنا – بل ويجب – أن نعي دلالات أحداث صفحاته القديمة, والحديثة, والمعاصرة .. وتلك التي لم يجف مدادها حتى هذه اللحظات ! ..

     وأن نعي, كذلك, ما ستلده ليالي الحاضر والمستقبل من عجائب الأحداث ..

     فالليالي من الزمان حبالى

                                 مثقلات يلدن كل عجيب !

البديل الحضاري الإسلامي :

      وإذا كان العالم الإسلامي يملك وطنا تصل مساحته إلى خمسة وثلاثين مليونا من الكيلومترات المربعة, في موقع حاكم لحركة العالم وعلاقاته البرية والبحرية والجوية .. وتحتوي أرضه من المعادن والثروات ما يجعله : الأول في البترول .. والمنجنيز .. والكروم .. والقصدير .. والبوكسيت .. والثاني في النحاس .. والفوسفات .. والثالث في الحديد .. والخامس في الرصاص .. والسابع في الفحم .. والذي تملك بلد واحدة من بلاده – السبع والخمسون – هي السودان – من الأرض الصالحة للزراعة ما يمكنها من أن تكون سلة غذاء جنوب الكرة الأرضية كلها ؟ ! ..

     إذا كان هذا مثال على خطر ما يملكه عالم الإسلام من الثروات المادية .. فإن أخطر ما يملكه هذا العالم الإسلامي : هو العقيدة, التي تؤمن بها أمة هي خمس سكان العالم الراهن – مليار ومئتا مليون نسمة – وبها أعلى نسبة توالد في العالم … وكذلك الخيار الحضاري المصطبغ بصِبْغَة الله, بواسطة الوحي الوحيد الصريح الذي حفظ من التحريف – القرآن الكريم – ! ..

    وهذا الخيار الحضاري الإسلامي, هو البديل الحضاري الوحيد القادر على منازلة ومنافسة الخيار الحضاري الغربي على النطاق العالمي بشهادة التاريخ ! .. إنه :

·        خيار ” المعيارية الإسلامية ” .. المؤسسة على كتابي ” الوحي ” و ” الكون ” لا على المادية الحسية وحدها .. والمؤمنة بعالمي ” الغيب ” و ” الشهادة ” لا بظاهر من الحياة الدنيا دون سواه ! ..

·        خيار : ” الإسلام دين الجماعة ” .. الذي تحمل فيه ” الأمة ” رسالة التقدم ومسئولية النهضة .. لا طبقة واحدة, برجوازية كانت أو بروليتاريا ! ..

·        خيار : ” العقلانية – الإسلامية ” .. التي ترى النقل في ضوء العقل  .. وتحكم غرور العقل بآفاق الوحي والنقل .. فلا تعرف الفصام النكد بين شريعة الله وبين حكمة الإنسان ! ..

·        خيار : ” سيادة الشريعة الإلهية .. وسلطة الأمة المؤمنة ” .. الذي لا يعرف ثنائية التناقض بين ما لله وما للإنسان, الذي هو خليفة عن الله ! ..

·        خيار : ” الفردية ” .. التي لا تحقق السعادة ” للفرد ” إلا ب ” الجماعية ” التي تحقق السعادة ” للمجموع ” ! ..

·        خيار : ” التميز الحضاري ” .. الذي لا ينكر على الأمم الأخرى تميزها الحضاري.. بل يرى في التعددية – في الشعوب والقبائل – والألسن – والألوان – والأفكار – والشرائع – والحضارات – سنة من سنن الله في الخلق والأكوان .. ولن تجد لسنة الله تحويلا ولا تبديلا ! ..

*** *** ***

     تلك ” لمحة إسلامية ” لهذه ” المتغيرات الغربية ” ذات التأثيرات الدولية ! .. ولثمرتها الجديدة : النظام الغربي الجديد .. الذي يُفرض – بالقوة المتغطرسة – كنظام عالمي جديد ! ..

     ولموقع هذه المتغيرات, ونظامها من التحديات التي تواجه يقظة أمة الإسلام ونهضة عالمه.. وللبديل الذي يمتلكه الإسلام والمسلمون في معترك التدافع الحضاري العالمي ..

*** *** ***

د. محمد عمارة

الهوامش

(1) انظر كتابنا [ العرب والتحدي ] ص 129, 130 طبعة القاهرة 1991 م.

(2)انظر : محمد السماك [ الأصولية الإنجيلية, أو الصهيونية المسيحية ] طبعة مركز دراسات العالم الإسلامي – القاهرة 1991 م. وغريس هالسل [ النبوءة والسياسة] ترجمة محمد السماك. طبعة جمعية الدعوة الإسلامية العالمية.

(3)[ النيوزويك ] – الأمريكية – عدد 2 يوليو 1990 م _ والنقل عن [ الأهرام ] عدد 17 يوليو 1990 م – مقال الأستاذ فهمي هويدي ” الغرب والإسلام .. من يعادي من ؟ ” .. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر