أبحاث

الاجماع في أصول الفقه: من الشورى إلى النظام النيابي

العدد 141- 142

ـ 1 ـ

الإجماع.. والجدل المستمر

عرفت فكرة الإجماع بأنها من الأفكار التي فتحت جدلاً ونقاشاً واسعاً ومستمراً، بين الفقهاء والأصوليين والكلاميين في ساحة الفكر الإسلامي القديم والوسيط، وامتد إلى الأزمة الحديثة والمعاصرة.

وانقسمت حول هذه الفكرة وتعددت المواقف والاتجاهات، ليس بين المذاهب والفرق الإسلامية فحسب، وإنما في داخل هذه المذاهب والفرق نفسها، واختلفت وتباينت الأقوال والتصورات، وظلت بهذا الحال على طول الخط.

واللافت أن هذا الاختلاف والتباين شمل كل ما يتعلق بفكرة الإجماع، عناصرها ومكوناتها وجهاتها، ابتداء من معنى الإجماع وسنده وحجيته، مروراً بمراتبه وأقسامه، وصولاً إلى صورته وإمكان وقوعه ماضياً وحاضراً.

ولم يعد هذا الاختلاف والتباين خافياً عن أحد، فقد أشار إليه معظم أو كل الذين لهم كتابات ودراسات في أصول الفقه، أو الذين اقتربوا من فكرة الإجماع بصورة من الصور.

ولعل الشيخ محمود شلتوت أحد أكثر المعاصرين، الذين أشاروا بوضوح كبير لمثل هذا الاختلاف والتباين، وحسب رأيه (لا أكاد أعرف شيئاً اشتهر بين الناس أنه أصل من أصول التشريع في الإسلام، ثم تناولته الآراء، واختلفت فيه المذاهب من جميع جهاته، كهذا الأصل الذي يسمونه الإجماع)(1).

وتأكيداً لهذا الرأي فقد تتبع الشيخ شلتوت، جهات الاختلاف حول هذا الأصل عند الفقهاء والأصوليين، الذين اختلفوا وأظهروا هذا الاختلاف حول حقيقته وحجيته وإمكان وقوعه.

وأكثر ما لفت انتباه الشيخ شلتوت في هذا الشأن، هو ما وصفه بالظاهرة المنتشرة في كتب القوم، وهي حسب قوله حكاية الإجماع في كثير من المسائل التي ثبتت أنها محل خلاف بين العلماء، وظهر عند الشيخ شلتوت أن كل من حكى الإجماع في مسألة هي محل خلاف، قد بنى حكايته في معنى الإجماع وما يكفي لتحققه، على ما يفهمه هو، أو ما يفهمه إمامه، أو الطائفة التي ينتمي إليها(2).

والملاحظ أن هذا الجدل والنقاش الواسع والمستمر حول فكرة الإجماع عند الفقهاء والأصوليين، لم يحدث تجدداً وتطوراً واضحاً ونوعياً، يخرج هذه الفكرة من دائرة الشك والاضطراب، ومن حالة النزاع والانقسام، ومن وضعية السكون والجمود التي كانت عليه لفترة طويلة وما زالت.

فقد ظلت هذه الفكرة على حالها في الدراسات الأصولية، تتكرر ويعاد إنتاجها بطريقة تقليدية وتعليمية لا تخلو من سكون وجمود، فما تقرؤه في كتاب قديم أو حديث، لا يكاد يختلف كثيراً عما تقرأه في كتاب آخر، فهناك تشابه يجعل من هذه الكتابات، وكأنها تكرر نفسها بطريقة رتيبة.

وعند أصحاب هذه الكتابات، فإن هذا التشابه غالباً ما يبرر بذريعة أن هذه الكتابات صنفت بطريقة تعليمية، ولغايات تعليمية يستفيد منها، ويرجع إليها، الطالب والمعلم والباحث، ومن يريد الاقتراب من هذا الحقل المعرفي.

ما أردت قوله، إن الزمن الطويل الذي قطعته هذه الفكرة عند الفقهاء والأصوليين، منذ عصر الإمام الشافعي في القرن الثاني الهجري إلى اليوم، لا يتناسب على الإطلاق في الموازين الفكرية والمعرفية، وما وصلت إليه هذه الفكرة في عصرنا الراهن، وكأنها قد توقفت عن التجدد والتطور، حالها كحال غيرها من الأفكار الأخرى التي تأثرت بعصور التراجع والجمود الذي أصاب المجال الإسلامي.

ـ 2 ـ

الإجماع.. والعلاقة بين السياسة والأصول

لعل فكرة الإجماع هي من أكثر الأفكار الأصولية، التي تصلح لدراسة أوجه العلاقة بين السياسة وأصول الفقه، والبرهنة على مثل هذه العلاقة وجوداً وتأثيراً.

العلاقة التي ظلت مهملة ولم تدرس، أو لم تدرس بالقدر الكافي عند الأصوليين أو عند غيرهم، في ساحة أصول الفقه أو خارج ساحته، والتعرف على طبيعة هذه العلاقة وشكلها وحدودها، والكشف عن مدى تأثيرها ونوعية هذا التأثير على السياسة تارة، وعلى أصول الفقه تارة أخرى.

ومن يرجع إلى الدراسات الأصولية الحديثة عند الفريقين، لا يلتفت عادة إلى مثل هذه العلاقة التي لا يشار إليها غالباً، ولا يفرد لها باب أو عنوان، ولا يجري الحديث عنها بهذه الصفة أو بهذا المسمى.

فهذه الدراسات تخلو من الحديث عن العلاقة بين السياسة وأصول الفقه، ولا تقترب منها، ولا أدري إن كانت تتجنبها فعلاً أم لا، ويمكن تفسير هذا الخلو بأن هذه الدراسات يغلب عليها الطابع الفني يكتبها أهل الفن لأهل الفن، أي أنها دراسات في العلم وليست عنه أو حوله، ولا تقترب غالباً من الحديث عن علاقة هذا العلم بالعلوم الاجتماعية، وبالشكل الذي يقرب أصول الفقه من السياسة بوصفها إحدى فروع هذه العلوم الاجتماعية.

أو لأن هذه الدراسات انتهجت طريقة، ظلت عليها، وانتظمت بها، وأصبحت هي الطريقة السائدة والمتعارف عليها عند الأصوليين في الكتابة حول هذا الفن، والتي لا تقترب أو تتطرق إلى علاقة الأصول بالسياسة، أو لأن هذه الدراسات لا تولي أهمية واعتباراً لهذه العلاقة، ولا تعطي لها قيمة، أو لأن هذه العلاقة ليست واضحة ومحددة، أو لأن هذه العلاقة ليست مرغوبة ومحبذة.

وهذه العلاقة بين السياسة وأصول الفقه من جهة فكرة الإجماع، تحددت في أول صورة لها، في صلة فكرة الإجماع بأول بيعة حصلت في تاريخ المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله، مع بيعة أبي بكر خليفة للمسلمين، وأشار إلى هذا الرأي علماء ومفكرون من الفريقين، ولكن من جهتين مختلفتين.

فقد أشار إليه الشيخ محمد رضا المظفر وذلك في سياق حديثه عن كيف انبثقت فكرة الإجماع عند الأصوليين السنة، وكيف تطورت وأصبحت حجة ودليلاً إلى جانب الكتاب والسنة، وحسب رأي الشيخ المظفر إن أول إجماع اتخذ دليلاً في تاريخ المسلمين، هو الإجماع المدعى على بيعة أبي بكر خليفة للمسلمين، فبعد أن وقعت هذه البيعة، والمفروض حسب قول المظفر أنه لا سند لها من طريق النص القرآني والسنة النبوية، فاضطروا إلى تصحيح شرعيتها عن طريق الإجماع(3).

ويطابق هذا الرأي، ما أشار إليه الدكتور عبدالهادي الفضلي، الذي يرى (أنه بعد أن بويع أبو بكر بالخلافة، ولا سند عند الصحابة الذين دعوا إلى بيعته يدعم هذه البيعة من الناحية الشرعية، حيث لا نص في القرآن الكريم ولا نص في السنة الشريفة، يثبت صحة هذه البيعة، اضطروا بغية إضفاء الشرعية عليها إلى ادعاء الإجماع عليها. ولترسيخ الإجماع دليلاً وحجة لكي تبقى البيعة المشار إليها قائمة على سند شرعي، أدخلوه حيز الدراسات الأصولية والتمسوا الأدلة لإثبات حجيته، وربَّعوا به مصادر التشريع، فقالوا: هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل)(4).

ومن وجه آخر، أشار إلى هذه العلاقة الأستاذ علال الفاسي، وذلك في سياق دفاعه عن فكرة الإجماع، وبقصد لفت النظر لموقف الشك عند المسلمين الإمامية نتيجة اقتران الإجماع بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله، وحسب رأيه إن (استعمال الإجماع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله في تثبيت طريقة اختيار الخليفة، وفي طريقة الحكم بالشورى، هو الذي شكك الشيعة ومن انحدر منهم من المعتزلة في أمر الإجماع وحجيته)(5).

هذه بعض الإشارات التي تلفت النظر إلى طبيعة العلاقة بين السياسة وأصول الفقه من جهة فكرة الإجماع، وكيف أثرت مسألة الخلافة والبيعة في انبثاق هذه الفكرة، وهناك إشارات أخرى شديدة الأهمية في هذا الصدد سيجري الحديث عنها لاحقاً.

ـ 3 ـ

الإجماع.. وانقسام الموقف

بين المسلمين السنة والشيعة، هناك انقسام في الموقف المنهجي والمعرفي تجاه فكرة الإجماع، وقد بقي هذا الانقسام مستمرًا على طول الخط، واضحاً ومعروفاً عند الفريقين، كل فريق له رؤيته وحجته وأدلته التي يحاجج ويجادل بها، تصويباً لموقفه، وتنزيهاً لرؤيته، ودفاعاً أمام شكوك الآخرين.

فمن جهة هناك تقدير وتعظيم لفكرة الإجماع عند المسلمين السنة، ومن جهة أخرى هناك موقف مغاير عند المسلمين الشيعة لا يميل إلى تقدير وتعظيم هذه الفكرة، ولا يرفع من شأنها كثيراً كما هو الحال عند المسلمين السنة.

فحين تحدث الأستاذ علال الفاسي عن منزلة الإجماع، رأى أنه ذو أصل أصيل في الدين، وأدى أعظم خدمة للإسلام إذ فتح باب الاجتهاد والشورى، وسهل مواصلة العمل الذي قام به النبي عليه وعلى آله السلام(6).

ومن جهته رأى الدكتور طه جابر العلواني أن الأمة قد أصَّلت لفكرة الإجماع، واعتبرته دليلاً من أهم أدلتها الشرعية(7).

في المقابل يرى الشيخ محمد رضا المظفر أن الإجماع لا قيمة له من ناحية كونه حجة ومصدراً للتشريع الإسلامي، مهما بالغ الناس في الاعتماد عليه، وليست له إلا ناحية شكلية وإسمية فقط عند الإمامية(8).

أما الشيخ محمد جواد مغنية فيرى أن الأدلة على الإجماع لا تقوم على أساس سليم، ولا تنهض بإثبات المدعى به، وإنه لا يفتح صدره له بشتى أقسامه وأنواعه(9).

لكن اللافت في الأمر، أن علماء الإمامية مع هذا الموقف من فكرة الإجماع، إلا أنهم لم يلغوا أو يحذفوا هذه الفكرة، ولم ينقطعوا أو يتوقفوا عن متابعتها ومناقشتها ليس عند المتأخرين فحسب، بل عند المتقدمين أيضاً، منذ عهد السيد مرتضى والشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري.

وحين تعامل علماء الإمامية مع هذه الفكرة، لم يتعاملوا معها بوصفها فكرة هامشية، وإنما تعاملوا معها بدرجة عالية من الاهتمام، وبوصفها تمثل أحد الأدلة الأربعة إلى جانب الكتاب والسنة والعقل، وبهذا الوزن تبحث وتناقش هذه الفكرة في الدراسات الأصولية، في خطوة اعتبرها الشيخ المظفر أنها حصلت بقصد مجاراة للنهج الدراسي في أصول الفقه عند المسلمين السنة(10).

هذه المجاراة التي أشار إليها الشيخ المظفر، تعبر عن موقف إيجابي يكشف عن رغبة لها علاقة بفكرة الانسجام الإسلامي، وضرورة توحيد الموقف تجاه المصادر الرئيسية لأدلة الأحكام الشرعية، مع الاحتفاظ بالاختلاف في التفاصيل.

وأشار إلى مثل هذا الموقف أيضاً، الشيخ مرتضى المطهري الذي يرى (أن علماء الشيعة كانوا دائماً يسعون إلى التزام جانب الوحدة والاتفاق في الأسلوب والانسجام مع جماعة المسلمين، من ذلك مثلاً أن أهل السنة يرون الإجماع حجة، وينزلونه منزلة تقرب من القياس من حيث الأصالة والموضوعية، والشيعة لا يقبلونه كذلك، بل يقبلونه بشكل آخر، ولكنهم في سبيل الوحدة واتفاق الأسلوب، أطلقوا اسم الإجماع على ما يقبلونه)(11).

ويتأكد هذا الموقف الإيجابي، عند معرفة أن علماء الإمامية جعلوا الإجماع أحد الأدلة الأربعة، مع أنهم حسب قول الشيخ مظفر لا يعتبرونه دليلاً مستقلاً في مقابل الكتاب والسنة، وإنما يعتبرونه إذا كان كاشفاً عن السنة أي عن قول المعصوم، فالحجية والعصمة ليستا للإجماع، بل الحجة في قول المعصوم الذي يكشف عنه الإجماع(12).

هذا الموقف مع ما أشار إليه الشيخ المطهري، يلفت النظر إلى فكرة الانسجام الإسلامي في أصول الفقه، وما يمكن أن ينهض به أصول الفقه في مجال التقريب بين المذاهب الإسلامية، وهذه قضية تستحق درجة عالية من الاهتمام، وبحاجة لأن تتسلط عليها الأضواء بصورة كبيرة، وبإمكانها أن تفتح أفقاً هاماً، وذلك لما يمثله أصول الفقه بوصفه حقلاً معرفياً ومنهجياً خصباً وثرياً بالقواعد والأصول والنظريات، ولكونه لم يستكشف كثيراً من هذه الناحية.

ومن جانب آخر، جرت في الدراسات الأصولية عند علماء الإمامية، مناقشات علمية معمقة حول فكرة الإجماع، ظلت تتسع وتتجدد وتتراكم منذ عصر السيد المرتضى في القرن الخامس الهجري إلى اليوم، هذه المناقشات على أهميتها وقيمتها لا نجد لها حضورًا واهتمامًا في الدراسات الأصولية عند علماء السنة، لا أقل بالقدر الذي اطلعت عليه، في حين أن مناقشات هؤلاء في هذا الشأن، حاضرة في الدراسات الأصولية الإمامية.

ـ 4 ـ

الإجماع بين الفقه والأصول

في مفتتح حديثه عن الإجماع التفت السيد محمد تقي المدرسي إلى مفارقة، وصفها بمفارقة غريبة، تتعلق بطبيعة التباين والاختلاف في طريقة التعامل مع فكرة الإجماع ما بين حقلي الفقه والأصول في المجال الإسلامي الإمامي، فالطريقة التي يجري التعامل بها مع فكرة الإجماع في حقل أصول الفقه، هي غير الطريقة التي يجري التعامل بها في حقل الفقه.

وإعطاء هذه المفارقة وصف الغرابة، ناشئ من أن أصول الفقه يمثل منهج البحث بالنسبة للفقه، وبعبارة السيد محمد باقر الصدر فإن علم الأصول هو منطق علم الفقه، لأنه حسب رأيه يلعب بالنسبة إلى علم الفقه دوراً ايجابياً مماثلاً للدور الإيجابي الذي يؤديه علم المنطق للعلوم والفكر البشري بصورة عامة، فهو على هذا الأساس منطق علم الفقه، أو منطق عملية الاستنباط(13).

وحسب هذه العلاقة المنهجية، فإن ما يتحدد في أصول الفقه، هو ما يجري العمل به، وعلى وفقه عادة في حقل الفقه، لكن هذه المعادلة اختلت واختلفت في التعامل مع فكرة الإجماع، فبينما نجد البعض حسب قول السيد المدرسي، لا يقطع في حجية الإجماع بضرس قاطع في علم الأصول، نجده في الفقه يعتمد كثيراً على الإجماع(14).

هذه المفارقة اعتنى بها السيد المدرسي، وأقام بحثه حول الإجماع عليها، كاشفاً عنها، ومتتبعاً لأبعادها وخلفياتها النفسية والاجتماعية، ومفسراً وناقداً لها، فبعد أن أشار إلى المنحى النقدي في التعاطي مع فكرة الإجماع عند الأصوليين، بالتركيز على نقد اثنين من ألمع علماء الفكر الأصولي الحديث، وهما الشيخ مرتضى الأنصاري، والميرزا محمد حسين النائيني، بعد هذه الإشارة التفت السيد المدرسي إلى مسار آخر في التعاطي مع فكرة الإجماع في حقل الفقه، إذ وجد أن الفقهاء في الفقه (تراهم مهتمين بالإجماع كثيراً، حتى أنهم قد يبذلون جهداً كبيراً في التعرف على آراء الفقهاء السابقين، ليتأكدوا من حصول الإجماع أو الشهرة في مسألة معينة، كما أن بعضهم يتهيب كثيراً من مخالفة المشهور بل الإجماع المحصل أو المنقول)(15).

وتأكيداً لموقفه وتثبيتاً له، أشار السيد المدرسي إلى مواقف ثلاثة من الفقهاء المعروفين، وهم:

أولاً: الشيخ الهمداني صاحب كتاب (مصباح الفقيه)، فعند حديثه عن نجاسة الشيء الذي يلاقي النجس، وبعد استعراض أدلة نجاسته وتفنيدها، عقب على ذلك بالقول إن مخالفة العلماء (في هذه المسألة أهون، ولكن منعتنا من ذلك وحشة الانفراد، وكثرة عثرات المستبدين بآرائهم، ولنعم ما قيل أن مخالفة المشهور مشكل، وموافقتهم من غير دليل أشكل)(16).

ثانياً: الميرزا أحمد القمي صاحب كتاب (قوانين الأصول)، الذي يرى أنه لا يتم مسألة من المسائل الفقهية من الكتاب والسنة، إلا بانضمام الإجماع إليه بسيطاً أو مركباً.

ثالثاً: الشيخ محمد حسن النجفي صاحب كتاب (جواهر الكلام)، الذي كثيراً ما يستخدم عبارة (للإجماع وهو الحجة)، عند استدلاله على المسائل الفقهية.

ونقل السيد المدرسي، أن الشيخ محمد باقر المجلسي صاحب كتاب (بحار الأنوار)، قد أشار من قبل إلى تلك المفارقة، واعتبر أن الفقهاء كأنهم لما رجعوا إلى الفقه نسوا ما ذكروه في الأصول، ويغلب على الظن عنده أن مصطلح الفقهاء في الفروع، هو غير ما جروا عليه في الأصول.

وما يبدو عند السيد المدرسي في تفسيره لهذه المفارقة، إن الفقهاء في بحثهم حول الإجماع كانوا يوازنون بين أمرين، هما:

الأمر الأول: الدقة المنطقية الصارمة التي فرضت على الفقهاء تعريض الإجماع لنقد حازم، انتهى إلى دليل لا يكاد ينهض بإثبات شيء.

الأمر الثاني: الضرورة الفقهية، إذ لم يجد الفقهاء في الأدلة الشرعية ما يكفي لتغطية كل الأحكام، مما سمحوا لأنفسهم بالاحتجاج بالإجماع عملياً، علماً أن الفقهاء لم يكونوا يعتمدون عليه وحده في المسائل، وإنما كانوا يضيفون إليه سائر المرجحات الأخرى.

لكن الأكيد عند السيد المدرسي، إن علم الفقه هو أكثر نضجاً وتقدماً من علم الأصول الناشئ نسبياً، فلا يمكن إخضاع الفقه كلياً لمباني الأصول(17).

يضاف إلى ذلك، أن هناك فجوة حصلت بين الفقه والأصول، أدت إلى حالة من التباعد بين هذين الحقلين، ودفعت بهما إلى مسارات متباعدة نسبياً في النمو والتطور، فالفقه كان وما زال أقرب إلى الجانب العملي، وأميل إلى مواكبة الجزئيات والتطبيقات التفصيلية، ووثيق الصلة بعلم الحديث تحديداً، بينما الأصول كان وما زال أقرب إلى الجانب النظري، وأميل إلى مواكبة الكليات والنظريات العامة، ووثيق الصلة بالمنطق والفلسفة تحديداً، الوضع الذي أدى إلى مسارات متباعدة بينهما، كان نتائجها هذا النمط من التعامل المختلف مع فكرة الإجماع.

وما يمكن أن نخلص إليه في هذا الشأن، أننا أمام نمطين من الإجماع، النمط الأول أفرزه أصول الفقه، وتشكل في ساحته، ويمكن أن نسميه الإجماع الأصولي، والنمط الثاني أفرزه الفقه، وتشكل في ساحته، ويمكن أن نسميه الإجماع الفقهي.

ـ 5 ـ

الإجماع.. والمنحى الجديد

وقفت على مجموعة من الأقوال والنصوص، وجدت أنها تبعث على الدهشة، إذ أعطت أهمية كبيرة لفكرة الإجماع، وحاولت أن تجدد الاهتمام بهذه الفكرة، وكأنها تعيد استكشافها واستكشاف أهميتها وقيمتها وفعاليتها من جديد، وبطريقة تلفت الانتباه بشدة لهذه الفكرة، كما لو أنها تحاول إعادة صياغة هذه الفكرة بمنظورات جديدة، تجعلها تواكب العصر وتجدد الحياة المعاصرة.

هذه الأقوال والنصوص هي التي قادتني للنظر في فكرة الإجماع، وبعد النظر والتأمل وجدت في مجموعها وتتابعها ووزنها أنها تعبر عن منحى يمكن وصفه بالمنحى الجديد، وهذه على ما أظن المرة الأولى التي يستعمل فيها هذا الوصف في هذا النطاق، والسبب في ذلك أنها المرة الأولى أيضاً على ما أظن، التي تجمع فيها هذه الأقوال والنصوص مع بعضها في نسق واحد.

وتأكد عندي أن هذا المنحى بحاجة إلى مزيد من البحث والنظر، لأنه ما زال بعيداً عن التداول والاهتمام، ولم يكتشف بالقدر الكافي على أهميته وقيمته، ومع ما يمكن أن يضيفه من حيوية ودينامية تعيد النبض لفكرة الإجماع، وتفتح لها أفقاً جديداً يجدد فيها روح الحداثة والمعاصرة.

ومن جهة الانتساب، فإن هذه الأقوال والنصوص تنتسب إلى عدد من المفكرين المصلحين من خارج دائرة التخصص الفقهي والأصولي، لكنهم من الأسماء اللامعة والمؤثرة في ساحة الفكر الإسلامي، وما زالوا يحتفظون بهذه السمة إلى اليوم.

والقدر الذي وقفت عليه من هذه الأقوال والنصوص، ينتسب إلى أربعة من المفكرين المعاصرين، سوف أتتبع أقوالهم ونصوصهم بحسب تعاقبهم الزمني الممتد من العقود الأولى إلى العقد الأخير من القرن العشرين، وينتمي هؤلاء إلى أربعة بيئات عربية وإسلامية هي مصر والمغرب والعراق والهند.

وقبل الحديث عن أقوال ونصوص هؤلاء المفكرين الأربعة، أود الإشارة إلى أن أول نص لفت انتباهي ودعاني إلى تجديد النظر في فكرة الإجماع، هو نص قصير للسيد محمد رشيد رضا، يعادل فيه بين الإجماع عند المسلمين، ومجلس النواب عند الأوروبيين، ونص كلامه: إن الدين الإسلامي (لم يحدد كيفية الحكومة الإسلامية، ولم يبين للناس جزئيات أحكامها، وإنما وضع الأسس التي تبنى عليها، من وجوب الشورى، وحجة الإجماع الذي هو بمعنى مجلس النواب عند الأوروبيين، وتحري العدل والمساواة، ومنع الضرر والضرار)(18).

هذا التعادل بين الإجماع عند المسلمين ومجالس النواب عند الأوروبيين، ليس من السهل التصريح به، كما ليس من السهل التنبه له، ليس من السهل التصريح به، لأن فيه اقتران بين ثقافتين جرت العادة بالتفريق والتفارق بينهما، خشية من التشبه، وخشية من التأثر، وخشية من الافتتان، ولما بينهما من صدام ونزاع طويل وعنيف ما زال ممتداً إلى اليوم.

ولعل هذا التصريح كان سهلاً في عصر السيد رشيد رضا، الذي ينتسب إلى ما عرف في الأدبيات الإسلامية بعصر الإصلاح الإسلامي، العصر الذي كان نابضاً بروح النهضة والتقدم والإصلاح، لكن هذا التصريح يعد صعباً في عصر ما بعد السيد رشيد رضا، ومع قيام الدولة القطرية في المجال العربي التي قطعت صلتها بالمرجعية الإسلامية الشاملة.

وليس من السهل التنبه إلى هذا التعادل بين الإجماع عند المسلمين ومجلس النواب عند الأوروبيين، لأنه بحاجة إلى دراية ومعرفة تعبر بالإنسان من الأزمنة القديمة التي في ساحتها نشأت وعرفت فكرة الإجماع، إلى الأزمنة الحديثة التي في ساحتها نشأت وعرفت فكرة النظام النيابي.

ـ 6 ـ

الإجماع.. والنظام النيابي

في سنة 1926م، ناقش الدكتور عبد الرزاق السنهوري رسالته الثانية للدكتوراه في جامعة ليون الفرنسية، قسم العلوم السياسية، وكانت بعنوان: (الخلافة وتطورها لتكون عصبة أمم شرقية)، وقد أصبح الدكتور السنهوري فيما بعد واحداً من أبرز فقهاء القانون المدني في مصر والعالم العربي.

في هذه الرسالة، لفت الدكتور السنهوري النظر لفكرة الإجماع من جهة علاقتها بنظام الحكم النيابي، وهذه أطروحة في غاية الأهمية، وفي غاية الحداثة أيضاً، وتكشف عن ما أسميته بالمنحى الجديد في النظر لفكرة الإجماع في أصول الفقه.

وعند النظر في هذه الأطروحة، يمكن القول إنها ترتكز على ثلاثة عناصر أساسية، هي:

أولاً: الإجماع ونظرية السيادة في الإسلام

ولج الدكتور السنهوري لفكرة الإجماع من الحديث عن نظرية السيادة في الإسلام، ومن هذه الجهة يرى أن سيادة الأمة هي سيادة الشريعة، وأن الله استخلفنا في الأرض، ومنحنا شرف خلافته بأن اعتبر إرادة الأمة مستمدة من إرادة الله، وجعل إجماع الأمة شريعة ملزمة، وبعد انقطاع الوحي أصبحت السيادة الإلهية، والحق في التشريع وديعة في يد مجموع الأمة، لا في يد الطغاة من الحكام أو الملوك، كما كان الشأن في الدول المسيحية التي ادعى ملوكها حقاً إلهياً.

وبهذا يمكن القول في نظر الدكتور السنهوري، بأن السيادة في الإسلام لا يملكها فرد مهما تكن مكانته، سواء كان خليفة أو أميراً أو ملكاً أو حاكماً، أو هيئة من أي نوع، وإنما هي لله القدير الذي فوضها للأمة في مجموعها.

كما أن الشريعة الإسلامية، لا تعترف لأية هيئة أو جماعة أو طائفة بالتميز عن مجموع الأمة، والإسلام لا يعترف بوجود هيئة دينية متميزة مثل رجال الكنيسة في الديانة الكاثوليكية، والخليفة كأي حاكم في الإسلام ليس ممثلاً للسلطة الإلهية، ولا يستمد سلطته من السيادة الإلهية، وإنما هو يمثل الأمة التي اختارته، ومنها يستمد سلطته المحدودة في المسائل التنفيذية أو القضائية دون الناحية التشريعية.

ثانياً: الإجماع وعنصر المرونة والتطور في أحكام الشريعة

يرى الدكتور السنهوري أن وجود الإجماع كمصدر للتشريع الإسلامي، كان أمراً ضرورياً، لأن القرآن والسنة وهما المصدران الأولان للشريعة، قد أخذا صورة نهائية في فترة قصيرة انتهت بوفاة النبي صلى الله عليه وآله، في حين أن الشريعة يجب أن تبقى بعد ذلك في نمو مستمر، وتطور متواصل.

الوضع الذي استلزم وجود مصدر ثالث دائم يدخل عنصر المرونة والتطور في أحكام الشريعة الإسلامية، وهذا المصدر هو الإجماع الذي يمكنه التطور الدائم مع تقدم العصور، وتغير الظروف، وأن يسد حاجات المجتمع الإسلامي إلى أحكام جديدة.

والإجماع من هذه الجهة، هو أداة فنية ضرورية لصياغة أحكام الشريعة، وتقنينها ونموها وملاءمتها مع حاجات المجتمع وظروفه.

ثالثاً: الإجماع والعلاقة بالشورى والنظام النيابي

يرى الدكتور السنهوري أن أهمية الإجماع كمصدر للتشريع، تزداد إذا لاحظنا أنه كالشورى يعتبر أساساً للنظام النيابي في الإسلام، الأمر الذي يستدعي في نظر السنهوري البحث عن دور الإجماع في نظام الحكم الإسلامي، وعلاقته بمبدأ الشورى والنظام النيابي.

وفي تقدير الدكتور السنهوري أن الإجماع لكي يواصل تطوره ويقوم بوظيفته، لا بد له من خطوتين، هما:

الخطوة الأولى: تنظيم الأداة العملية للإجماع بطريقة المداولة في مجلس شورى.

الخطوة الثانية: اتخاذ الإجماع أساساً للنظام النيابي في الحكم الإسلامي، وهذه الفكرة ليست غريبة عن المبادئ التي أشارت لها كتب الفقهاء الأقدمين.

وفي ختام حديثه، أشار الدكتور السنهوري إلى تساؤل المستشرق المجري جولد زيهر عما يمكن أن يؤدي إليه تطبيق الإجماع في المستقبل؟

وأجاب السنهوري بقوله: إن تطبيق الإجماع سينتج عنه نظام حكم نيابي إسلامي.

والخطوة الأولى التي ذكرها الدكتور السنهوري، أرجعها لمؤلف هندي سبقه إليها، هو الأستاذ عبد الرحيم، أوردها في كتاب له بعنوان: (مبادئ الفقه الإسلامي)، صدر بالإنجليزية في لندن ومدراس سنة 1911م.

ونقل السنهوري في هامش كتابه، نص كلام عبد الرحيم، والذي يقول فيه عن الإجماع (قبل أن أترك هذه المسألة ألاحظ أنه يوجد نقص كبير في القواعد الخاصة بهذا المصدر الشرعي الهام، ذلك هو عدم وجود جهاز محدد ومنظم تنظيماً عملياً، لاختيار الفقهاء الصالحين للمشاركة في الإجماع، ولضبط مداولاتهم، وإثبات الأحكام الناتجة عنها في صورة رسمية موثوق بها. وقد يرجع هذا النقص إلى الظروف السياسية التي عاش فيها العالم الإسلامي بعد عهد الخلفاء الراشدين. ويظهر أن نظرية الإجماع كانت في مستوى فكري يرتفع بكثير عن الحالة الفكرية التي كانت تسود المجتمع الإسلامي، مما أدى إلى عدم تنظيمه بصورة عملية دائمة في العصور التي ظهر فيها)(19).

ـ 7 ـ

الإجماع.. والنظام التشريعي في الإسلام

في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام) الصادر في مطلع ثلاثينات القرن العشرين، اعتبر الدكتور محمد إقبال أن الإجماع قد يكون من أهم الأفكار التشريعية في الإسلام، لكن الغريب عنده أن هذه الفكرة الهامة قد اشتد الخلاف بشأنها في صدر الإسلام، وأثارت الكثير من الجدل العلمي، وظلت تقريباً مجرد فكرة لا غير، وقلما اتخذت شكل نظام دائر في أي بلد من بلاد الإسلام.

ويرى الدكتور إقبال أن تحول الإجماع إلى نظام تشريعي ثابت، كان يتعارض مع المصالح السياسية للحكم المطلق الذي نشأ في الإسلام بعد عهد الخليفة الرابع مباشرة، وحسب نص إقبال (أن خلفاء بني أمية وبني العباس رأوا أن مصلحتهم تتحقق بتفويض الاجتهاد إلى أفراد من المجتهدين أكثر مما تتحقق بتشجيع تأليف جماعة من المجتهدين ربما تصبح صعبة المراس عليهم).

لكن ما يبعث على الارتياح عند إقبال، والارتياح التام حسب وصفه، أنه وجد في عصره الذي يرجع إلى أواخر عشرينات القرن العشرين، أن ضغط العوامل العالمية الجديدة آنذاك، وتجارب الشعوب الأوروبية في السياسة، جعلت تفكير المسلمين في العصر الحديث يتأثر بما لفكرة الإجماع من قيمة، وما تنطوي عليه من إمكانيات، وفي نظره أن نمو الروح الجمهورية في البلاد الإسلامية، وقيام جمعيات تشريعية فيها بالتدريج، يمثل خطوة يصفها بالعظيمة في سبيل التقدم.

وفي تصور إقبال إن انتقال حق الاجتهاد من أفراد يمثلون المذاهب، إلى هيئة تشريعية إسلامية، هو الشكل الوحيد الذي يمكن أن يتخذه الإجماع في الأزمنة الحديثة، وهذا الانتقال في نظره يكفل للمناقشات التشريعية الإفادة من آراء قوم غير رجال الدين، ممن لهم بصر نافذ في شؤون الحياة، وبهذه الطريقة وحدها يتسنى لنا – في تقدير إقبال – أن نبعث القوة والنشاط في ما خيم على نظمنا التشريعية من سبات، ونسير بها في طريق التطور(20).

ـ 8 ـ

الإجماع.. والعلاقة بالشورى

في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها) الصادر سنة 1963م، تحدث الأستاذ علال الفاسي عن فكرة الإجماع، وجاءت رؤيته حول هذه الفكرة، متقاربة ومتناغمة مع رؤيتي عبد الرزاق السنهوري ومحمد إقبال.

وعند النظر في هذه الرؤية، يمكن القول إن الأستاذ الفاسي ركز على أمرين أساسيين، هما:

الأمر الأول: علاقة الإجماع بالشورى، إذ يرى الأستاذ الفاسي أن الإجماع هو اتفاق المجتهدين الموجودين ساعة البحث في أمر ما، فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة، وهو مبني على أساس التشاور بين المؤمنين، الذي حث عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(21).

وليس الإجماع في تصور الفاسي أن يطلع كل مجتهد أو عالم على وجه الأرض، على المسألة ويبدي رأيه فيها بالموافقة، ونعلم نحن رأيه ونجمع أفكار الناس كلهم، فذلك ما لا يظهر أن الصحابة رضوان الله عليهم فهموه من الاتفاق الواجب عليهم في مسألة ما.

والحق عند الأستاذ الفاسي أن الإجماع عبارة عن اتفاق هيئة شورى، يعقدها الخليفة لتبين وجهة النظر في مسألة ما، فإذا اتفقت كلها على حكم شرعي، فقد وقع الإجماع ووجب اتباعه في العمل، وإن جاز لمن لم يحضر من أهل الاجتهاد أن يبدي رأياً مخالفاً، ولكن العمل يجب أن يقع من طرف المسؤولين بما اتفقت عليه الهيئة.

هذا عن الأمس، أما عن اليوم فالأصلح في نظر الفاسي، أن يترك للإجماع مهمته كنظام للشورى بين المسلمين، يرجعون إليه كلما عنَّ لهم أمر، أو حدث لهم حادث، يتبادلون الرأي، ويبذلون الجهد لاستنباط الحكم من الدين بما يوافق حاجة العصر ورغبة التقدم.

الأمر الثاني: الاستبداد وتعثر تطور الإجماع، يرى الأستاذ الفاسي أن العصر الأول كان يمتاز بالتشاور في كل ما لا نص فيه، فكان أهل الحل والعقد يشتركون في وضع أسس تاريخية واجتماعية لمصدر الإجماع الشرعي، فلما انحرف المسلمون عن نظام الشورى، واقتبسوا من الفرس نظاماً يقوم على أساس الحكم المطلق الوراثي، الأمر الذي أثار كثيراً من الانتقاد الذي أعلنه المجتهدون وقادة المسلمين، فكان لا بد من تقييد النظر لحماية السلطة المطلقة الصاعدة، وقد أصاب ذلك فيما أصاب فكرة الإجماع الحقيقية كما فهمها المسلمون الأولون، وأحدث حولها خلافاً بَعُد بها عن محيطها الأصلي.

ويضيف الفاسي إن الاستبداد الذي أصاب نظام الحكم الإسلامي، هو الذي حول التطور في تنظيم الشورى والإجماع إلى مجادلات فارغة في حجية الإجماع وإمكان وقوعه وعدم ذلك، إلى جانب انقطاع الاجتهاد بقصور الهمم عنه، وبوقوف الجامدين في وجه من يريده أو يدعيه.

وفي عصره الذي يرجع إلى مطلع ستينات القرن العشرين، اعتبر الأستاذ الفاسي أن العلماء المسلمين قد انتبهوا إلى أهمية الإجماع وقوته، ولم يعد فيهم أحد يعير المخالفين في شأنه نظراً.

ومن جهة أخرى، تساءل الفاسي هل تسمح ظروف الدول الإسلامية اليوم، وقد أحاط بها الاستعمار الفكري الأجنبي من كل جانب، أن تجعل من أنظمتها الديمقراطية الحديثة سبيلاً لبعث الشورى الإسلامية، وتحقيق معنى الإجماع الإسلامي لأول مرة؟

وبصيغة الرجاء واليأس، أجاب الفاسي بقوله: ذلك ما نرجو الله أن يوفق المسلمين إليه، وإن لم يكن في اتجاهاتهم ما يدل عليه(22).

ـ 9 ـ

الإجماع.. ونظام المتغيرات في الإسلام

في الجزء الثاني من كتابه (التشريع الإسلامي.. مناهجه ومقاصده) الصادر في تسعينات القرن العشرين، قدم السيد محمد تقي المدرسي مطالعة هامة اتسمت بالطابع النقدي لفكرة الإجماع، وابتعدت عن المنحى التقليدي، وعن المسلك التعليمي السائد في الدراسات الأصولية، وأظهرت توافقاً مع الأستاذ علال الفاسي في جهة العلاقة بين الإجماع والشورى.

وعند النظر في هذه المطالعة، يمكن تحديد أبرز عناصرها في النقاط التالية:

أولاً: يرى السيد المدرسي أن الإجماع الذي تحدث عنه المسلمون الأولون، يختلف عن الإجماع عند المتأخرين من جهتي المعنى والتطبيق، فمن جهة المعنى فإن الإجماع عند الأولين ليس معناه اجتماع كل المسلمين على رأي واحد، أو عدم وجود خلاف بينهم، وإنما هو بمعنى القرار الذي عقدوا العزم عليه، واتُخِذ من قِبل أكثرية الآراء.

ومن جهة التطبيق، ظهر عند السيد المدرسي أن النصوص التي ساقها أكثر العلماء في تأييد الإجماع، تتصل بالحوادث الواقعة، وهي المتغيرات في اصطلاح اليوم، مثل انتخاب القائد، وقرار الحرب والسلم، وإدارة شؤون الأمة، بينما تبدل هذا المجال اليوم، وأصبح الإجماع عند الكثيرين يتصل بالموضوعات الثابتة، مثل إثبات طريقة الوضوء، أو تطهير الأرض، وما أشبه، والأدلة التي ساقها الفقهاء من الفريقين على حجية الإجماع، لا تأبى أن تكون في المتغيرات.

ثانياً: ينقسم الإجماع في نظر السيد المدرسي إلى قسمين، القسم الأول يكون في ثوابت الشريعة، ومعناه اتفاق عدد من الفقهاء يكشف اتفاقهم عن حكم الشريعة، وهو أمارة من الأمارات، وحجيته قائمة على أساس إفادته الاطمئنان عند العقلاء، لأنه طريق عقلاني، ويتحدد بشروط سائر الأمارات.

القسم الثاني يكون في المتغيرات، أي في شؤون المسلمين، ويصبح الإجماع آنئذ بمعنى أكثرية الآراء، وحجيته بعد إمضاء ولي الأمر تعتمد على حجية الشورى.

ثالثا: انتقد السيد المدرسي جعل الإجماع إطاراً لفهم النصوص بطريقة تجعل الفقهاء يصعب عليهم مخالفة المشهور، وهذا ما حدث مع فريق من الفقهاء المتأخرين في التعامل مع آراء القدماء.

هذا الركون إلى الإجماع بهذا النمط، يرجعه السيد المدرسي إلى حسن الظن بالسلف، وقلة الثقة بالذات، وبما ألهم الله الإنسان من فطرة وعقل ووعي، وما يوجد بيننا من كتاب ربنا، وسنة نبينا وأحاديث أئمتنا، وأننا لو استفدنا من كل ذلك، لكانت حاجتنا إلى الإجماع قليلة.

والسيد المدرسي بهذا الموقف، لا يريد حسب قوله إلغاء الإجماع أو حذفه، وإنما جعله دليلاً كسائر الأدلة، من دون أن يكون إطاراً لفهم الأدلة والنصوص، أو عقبة في استفادة حكم أو حكمة أو علم من هذه الأدلة والنصوص، فإن ذلك سيكون في نظره إلغاءًا للعقل، وهجراناً للكتاب، ونكراناً للسنة والأحاديث.

وما ينتهي إليه السيد المدرسي، هو ربط الإجماع بالشورى، ويعني به قرار الأكثرية، وإعطائه صفة إلزامية، لكونه يتصل بنظام المتغيرات في الإسلام(23).

ـ 10 ـ

الإجماع.. والمنحى النقدي

إلى جانب ذلك المنحى الذي أعطى أهمية متعاظمة لفكرة الإجماع، ووجد فيها إطاراً ممكناً للتطور نحو نظام الشورى أو النظام النيابي في الحكم، هناك في المقابل منحى آخر سلب هذه الأهمية المتعاظمة لفكرة الإجماع، واتخذ موقفاً نقدياً تجاه هذه الفكرة، وتعامل معها بمنظورات فكرية ونقدية مختلفة.

ولا أدري لعل أصحاب هذا المنحى، لم يلتفتوا إلى أقوال ونصوص أصحاب المنحى الآخر، ولا أعلم إن كان هؤلاء النقاد على معرفة بهذه الأقوال والنصوص أم لا! كما لا أعلم أيضاً إن كانت المعرفة بهذه الأقوال والنصوص، ستغير من موقف هؤلاء جزئياً أم كلياً أم لا!

وفي نطاق هذا المنحى، يمكن الإشارة إلى ثلاثة مواقف تنتمي إلى نمطين نقديين، النمط الأول يمكن أن نسميه نمط النقد الإسلامي، ونقصد به النمط الذي يتخذ من المعرفة الإسلامية أداة في النقد، والنمط الثاني يمكن أن نسميه نمط النقد الحداثي، ونقصد به النمط الذي يتخذ من الحداثة أداة في النقد.

بشأن النمط الأول، يمكن الإشارة إلى موقف الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الذي تعامل مع فكرة الإجماع بطريقة نقدية اتسمت بالشدة والصرامة، والسلبية التامة، مركزاً عليها من جهة علاقتها بالسلطة السياسية، ودعا إلى إعادة النظر في هذه الفكرة، وأظهرها كما لو أنها من الأفكار التي أضرت بالاجتماع السياسي الإسلامي، وبالفقه الإسلامي وتطوره.

وتحدد هذا الموقف عند الشيخ شمس الدين، في النقاط التالية:

أولاً: إن اعتبار الإجماع من الأدلة الشرعية الموازية للكتاب والسنة، من القضايا الأصولية التي يجب إعادة النظر فيها، وما نقله السيد البروجردي من أن غاية ما يمكن إثبات حكمه بالإجماع في جميع فروع الفقه هو عدد قليل من المسائل، هذا الرأي هو موضع شك عند الشيخ شمس الدين، وبعبارته (نحن نشك في إمكان ذلك)، هذا من جهة النظر، ومن جهة العمل فإنه لا يخفي مخالفته للإجماعات، وحسب قوله (وقد خالفنا في بعض أبحاثنا الفقهية إجماعات وشهرات لم تثبت عندنا حجيتها).

ثانياً: إن الإجماع أداة سياسية وضعت لمواجهة الرأي المخالف في السجال السياسي، والصراع على السلطة، واستخدمته القوة الحاكمة دائماً في هذا المجال، ثم استخدم في التنظير الديني للوضع السياسي القائم، وهو ما أنتج الفقه السياسي، فقه الأحكام السلطانية، وتسرب بعد ذلك إلى فضاء البحث الفقهي العام، ليكون ضابطاً لسلوك الأمة في المجال السياسي والحضاري والحياتي العام، وشل إرادة الأمة، وعطلها عن التصدي للنقد، لاعتقادها بأن ذلك عمل محرم.

ثالثاً: اقتبس الشيعة مصطلح الإجماع نتيجة لتأثر الفكر الأصولي الشيعي بالفكر الأصولي السني، ليكون أداة في الرد على الاحتجاج السني بالإجماع في المجال السياسي، ولاستعماله في دعم المواقف الفقهية المخالفة، ومن هذا القبيل كثير من إجماعات الشيخ الطوسي في كتاب (الخلاف).

رابعاً: تسبب الإجماع في إعاقة نمو الفقه، لأنه يحول بين الفقيه وبين البحث عن أجوبة غير جاهزة عن المسائل الطارئة، ولأنه يقدم للفقيه جواباً جاهزاً يعفيه من عبء البحث، ومسؤولية القرار الفقهي، فيعطل نمو البحث عن أجوبة جديدة عن الأمور الطارئة، وبذلك يحول أيضاً دون استجابة الشريعة لمستجدات الواقع، لأنه يحصر الشريعة في صيغ جامدة ومحددة، هي صيغ الإجماع على قول ما، أو الشهرة على قول ما(24).

وبشأن النمط الثاني، يمكن الإشارة إلى موقفين، موقف للدكتور محمد أركون من الجزائر، وموقف للدكتور عبد المجيد الشرفي من تونس.

بالنسبة للدكتور محمد أركون، فقد تحدث عن فكرة الإجماع في كتابه (من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي)، وحاول من البداية وضع هذه الفكرة في إطار ملتبس، اتخذ منه مدخلاً لتوجيه النقد لهذه الفكرة.

ونقصد بهذا الإطار الملتبس، وضع الإجماع إلى جانب الأرثوذكسية في عنوان واحد، ومنه ولج الدكتور أركون للحديث عن فكرة الإجماع، معتبراً أن هذه الفكرة تشكل علامة من علامات الأرثوذكسية التي ترسخ حسب قوله وحدة الأمة، وتراص صفوفها.

وفي هذا السياق، اختار أركون النقد التاريخي الحديث منهجاً له، المنهج الذي طالما كان مفضلاً عنده في دراساته لحقل الإسلاميات، ليست التاريخية فحسب، وإنما حتى الإسلاميات المعاصرة.

وهو المنهج الذي ينصح به المستشرقون الأوربيون، ويقترحون العمل به، ومن هؤلاء المستشرق الإنجليزي المعروف في حقل الإسلاميات هاملتون جيب، الذي أشار إلى هذا المنهج في كتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام)، ونصح العمل به.

والحاجة إلى منهج النقد التاريخي الحديث لدراسة فكرة الإجماع، تنبع في نظر أركون من النقاط التالية:

أولاً: يرى أركون أن النقد التاريخي الحديث، قد انتبه إلى الخاصية الحاسمة للإجماع، وهي أن الإجماع ناتج عن صيرورة اجتماعية وثقافية، وعن جملة المناقشات والصراعات والتحضيرات التي أدت إلى انتقاء بعض العناصر، وحذف بعضها الآخر، تحت ضغط الاكراهات الأيديولوجية، والضغوط السياسية، والأنظمة المعرفية التي لم تدرس أبداً حتى الآن بشكل دقيق وشامل.

ثانياً: لم يعد يكفي في نظر أركون، أن نأخذ علماً بالإجماع المتحقق، وبالعقائد وأنواع السلوك الأرثوذكسية التي تلزم كل الأمة، وإنما ينبغي علينا توضيح الشروط العارضة والتعسفية والخيالية التي أدت إلى تحقيق كل الإجماع، ويرى أن الدراسة التاريخية لهذه الشروط تمثل مساهمة لا بد منها، من أجل معرفة نمط إنتاج المجتمعات الخاضعة لتأثير ظاهرة الكتاب الموحى.

ثالثاً: بالامكان في تصور أركون، البرهنة على أن الأرثوذكسية المعاشة من قبل المؤمنين بصفتها الممارسة الحقة المطابقة للعلم الحق المنصوص عليه من قبل الله، ليست في الواقع إلا عبارة عن مجمل القرارات التي اتخذت بالصدفة، وعلى هوى الظروف والأوضاع من قبل الفقهاء، ثم سجلت في نصوص مقدسة، على هيئة صياغات لغوية كأجمع أهل القبلة، أو أجمع المسلمون، وبشكل يكشف أن ممارسات التفسير الإسلامي التقليدي، مليئة بالثغرات والشكوك والتناقضات، والاختلال المنطقي والضعف، وهذه هي الأشياء التي يكشف عنها النقد التاريخي الحديث(25).

أما الدكتور عبد المجيد الشرفي، فقد تحدث عن فكرة الإجماع في كتابه (تحديث الفكر الإسلامي) الصادر سنة 1998م، وتناول هذه الفكرة بالنقد عند حديثه عن أصول الفقه، وركز على ملاحظتين، هما:

أولاً: إن الإجماع استعمل في الغالب، لإقصاء المخالفين أكثر مما استعمل لإيجاد ملاءمة بين الدين والحياة.

ثانياً: الانزلاق الذي حصل من اعتبار إجماع الأمة إلى اعتبار إجماع العلماء المجتهدين، فوقع بذلك تقليص مفهوم الأمة إلى مفهوم هذه الفئة التي كانت تتوارث هذه التقنيات في تأويل النصوص، الأمر الذي أدى إلى تكريس حلول الماضي أكثر من محاولة التجاوب مع الواقع الذي يعيشونه، وذلك بعد إقرار أن إجماع كل عصر هو حجة على من بعده(26).

ـ 11 ـ

نتائج وملاحظات

في الخاتمة بقيت الإشارة إلى بعض الملاحظات التي لها علاقة بطريقة التعامل مع فكرة الإجماع، من هذه الملاحظات:

أولاً: لا ينبغي النفور والامتعاض من المنحى النقدي في التعامل مع فكرة الإجماع مهما كانت شدته وقسوته، كما لا ينبغي رفضه والتشكيك فيه، أو إهماله وعدم الاكتراث به، بقدر ما ينبغي الانفتاح عليه، والتواصل معه، وذلك على أساس أن المعرفة لا تكتمل إلا بالنقد، وأن النقد يمثل حاجة وحاجة مستمرة لنمو المعرفة وتجددها وتطورها.

لهذا كان لا بد من الإشارة إلى المنحى النقدي في هذا الشأن، وعدم الاكتفاء بالإشارة إلى المنحى الايجابي، فصورة الموقف من جهة لا تكتمل إلا بالاحاطة بهذين المنحيين المتفارقين، ومن جهة أخرى ليس هناك مطارحة أو مغالبة بين هذين المنحيين، ولا حذف أو إلغاء بينهما، ومن جهة ثالثة هناك حاجة إلى المنحى النقدي الذي بامكانه أن يتنبه إلى ملاحظات، قد لا يتنبه إليها أصحاب المنحى الايجابي.

ثانياً: عند النظر في المنحيين السلبي والايجابي، يمكن القول إن الاختلاف بينهما ناشئ من طريقة النظر، فالمنحى السلبي ناظر في الغالب لما هو كائن، بينما المنحى الإيجابي ناظر في الغالب لما ينبغي أن يكون، ومن هذه الجهة فليس هناك تعارض بين المنحيين، والقاعدة في هذا الشأن، أن العبور إلى ما ينبغي أن يكون، لا يتم إلا عن طريق تخطي ما هو كائن.

وبعبارة أخرى، إن تكوين المعرفة بما هو كائن يمثل شرطاً ضرورياً للعبور منه، والوصول إلى ما ينبغي أن يكون، ومن هذه الجهة فإن المنحى السلبي يمثل مدخلاً لتحقق المنحى الإيجابي.

ثالثاً: تكشفت مفارقة هامة تتصل بطبيعة النظر لفكرة الإجماع، ما بين النظر لهذه الفكرة من الداخل، ونعني به داخل أصول الفقه وحقله التخصصي، وما بين النظر لها من الخارج، أي من خارج أصول الفقه وحقله التخصصي.

في داخل أصول الفقه، النظر لفكرة الإجماع يجري بطريقة يغلب عليها الطابع الفني والتقني المحكم، والمتقيد بالحدود العلمية الدقيقة، وتتكرر هذه الطريقة وتتماثل في معظم أو جميع الكتابات والدراسات الأصولية، لكونها تلبي بشكل خاص حاجة طلبة الدراسات الإسلامية، ومن يريد التعرف على هذا الفن.

وتكتفي هذه الدراسات بالقدر الذي يعرف بفكرة الإجماع، مبناها ومعناها، سندها وحجيتها، أقسامها ومراتبها، وقوعها وإمكان وقوعها، وهذه طريقة تعليمية تقليدية ظلت وما زالت تتوارث في الدراسات الأصولية.

وبخلاف هذه الطريقة تماماً وأفقها وممكناتها، النظر لهذه الفكرة من خارج أصول الفقه، على طريقة نظر أولئك المفكرين والمصلحين الذين تحدثوا عن هذه الفكرة، واعتبرت أن أقوالهم ونصوصهم تكشف عن ما أسميته المنحى الجديد، الذي وجد أفقاً كبيراً وبعيداً حاضراً ومستقبلاً لفكرة الإجماع.

وهذه المفارقة تلفت النظر، إلى مقولة متداولة، ترى أن التجديد والتطوير قد لا يأتي من داخل الحقل المعرفي وصميمه، وإنما قد يأتي من خارجه، أو من هامشه.

رابعاً: تبين أن هناك نظريتين في تفسير ما جرى عند المسلمين الشيعة في اقتباس فكرة الإجماع، النظرية الأولى هي ما أشار إليها كل من الشيخ محمد رضا المظفر والشيخ مرتضى المطهري، وحسب رأيهما إن هذا الاقتباس جاء بدافع مجاراة النهج الدراسي عند المسلمين السنة، والرغبة في إظهار الانسجام الإسلامي، والنظرية الثانية أشار إليها الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الذي يرى أن هذا الاقتباس جاء بدافع أن يكون أداة في الرد على الاحتجاج السني بالإجماع في المجال السياسي، ولدعم المواقف الفقهية المخالفة.

وعند النظر في هاتين النظريتين، يمكن القول بإمكانية الأخذ بهما وتصويبهما معاً، واعتبارهما نظريتين في تفسير ما جرى من اقتباس، ولعل هناك نظريات أخرى أيضاً، الأمر الذي يعني أن هذا الاقتباس يحتمل في تفسيره أكثر من نظرية.

ومن جانب أخر، يمكن القول بإمكانية تفاضل بين هاتين النظريتين، وعدم المساواة بينهما، وهناك تقدم وتأخير في تراتبهما، ومن هذه الجهة يمكن القول بتقدم النظرية الأولى وإمكانية الجزم بها، وتأخر النظرية الثانية وإمكانية عدم الجزم بها.

وذلك لأن النظرية الأولى جاءت من داخل أصول الفقه، بينما النظرية الثانية جاءت من خارجه، ولأن النظرية الأولى كانت شديدة القرب من الدراسات الأصولية، في حين أن النظرية الثانية لم تكن بذلك القرب، لارتباطها بالمجال السياسـي الذي لم

يكن وثيق الصلة بالدراسات الأصولية.

***

 

الهوامش

1ـ محمود شلتوت. الإسلام عقيدة وشريعة، القاهرة: دار الشروق، 1992م ص 65.

2ـ محمود شلتوت. المصدر نفسه، ص 67.

3ـ محمد رضا المظفر. أصول الفقه، بيروت: مؤسسة الأعلمي، بدون تاريخ، ج2، ص99.

4ـ عبد الهادي الفضلي. دروس في أصول فقه الإمامية، بيروت: مركز الغدير للدراسات والنشر، 2007م، ج1، ص220.

5ـ علال الفاسي. مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، الدار البيضاء: مؤسسة علال الفاسي، 1991م، ص 119.

6ـ علال الفاسي. المصدر نفسه، ص 119- 120.

7ـ طه جابر العلواني. مقاصد الشريعة، بيروت: دار الهادي، 2001م، ص 15.

8ـ محمد رضا المظفر. أصول الفقه، مصدر سابق، ج2، ص 102- 97.

9ـ محمد جواد مغنية. علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، بيروت: دار العلم للملايين، 1975م، ص 229.

10ـ محمد رضا المظفر. أصول الفقه، ج2، ص 97.

11ـ مرتضى المطهري. تراث وآثار الشهيد مرتضى المطهري، مجلد الثورة والدولة، كتاب: الاجتهاد في الإسلام، بيروت: دار الإرشاد، 2009م، ص 351.

12ـ محمد رضا المظفر. أصول الفقه، ج2، ص 97.

13ـ محمد باقر الصدر. المعالم الجديدة للأصول، قم: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، 1421هـ، ص 29.

14ـ محمد تقي المدرسي. التشريع الإسلامي مناهجه ومقاصده، طهران: انتشارات المدرسي، بدون تاريخ، ج2، ص 121.

15ـ محمد تقي المدرسي. المصدر نفسه، ج2، ص 126.

16ـ محمد تقي المدرسي. المصدر نفسه، ج2، ص 126.

17ـ محمد تقي المدرسي. المصدر نفسه، ج2، ص 126.

18ـ عبد المجيد الشرفي. الإسلام والحداثة، تونس: الدار التونسية، 1991م، ص202. نقلا عن: محمد رشيد رضا. الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية وتوحيد المذاهب، دمشق: د.ت. ص202.

19ـ عبد الرزاق السنهوري. فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، ترجمة: نادية السنهوري، مراجعة وتعليق: توفيق الشاوي، القاهرة: الهيئة المصرية العامة لكتاب، 1993م، ص 57- 64.

20ـ محمد إقبال. تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة: عباس محمود، القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة النشر، 1968م، ص 199-203.

21ـ سورة آل عمران. آية 159.

22ـ علال الفاسي. مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، الدار البيضاء: مؤسسة علال الفاسي، 1991م، ص 118- 123.

23ـ محمد تقي المدرسي. التشريع الإسلامي مناهجه ومقاصده، ج2، ص 121- 124.

24ـ عبد الجبار الرفاعي. مقاصد الشريعة، دمشق: دار الفكر، 2002م، ص28.

25ـ محمد أركون. من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ترجمة: هاشم صالح، بيروت: دار الساقي، 1993م، ص 77-79.

26ـ عبد المجيد الشرفي. تحديث الفكر الإسلامي، الدار البيضاء: مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، 1998م، ص 18- 40.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر