أبحاث

تعقيب على بحث الاجماع في أصول الفقه من الشورى إلى النظام النيابي

العدد 141- 142

– 1 –

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:

فالمقام الرَّفيع الذي احتلَّه الإجماع واقِعًا وتشريعًا في قلب الإسلام يُسوِّغ المصير إلى دراسات مستفيضة في شتى مناحيه، ومسائله التفصيلية. ولا يتعلق الأمر بالماضي التشريعي، أو الاجتماعي، أو السياسي لجماعة المسلمين فقط؛ بل يتعدَّى ذلك إلى التفكير في مستقبل أمة الإسلام والمسلمين انطلاقًا من الأهداف الكبرى للإجماع(1).

والبحث الذي قدَّمه الدكتور/ زكي الميلاد بعنوان: “الإجماع في أصول الفقه .. من الشورى إلى النظام النيابي” يَتَّسِم بلغة تستثير الهِمم نحو فتح آفاق من النقاش حول هذا المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي؛ من خلال:

– البحث حول فكرة الإجماع، وكيف أن الله تعالى شرَّف به الأمة الإسلامية؛ حيث جعلها تملك عن طريق إجماعها مصائرها بيدها في تنظيم شؤون حياتها، والتخطيط لمستقبلها الاجتماعي والسياسي والتشريعي مسترشدة بالقرآن والسنة اللذين أعطياها حقَّ التشريع عن طريق إجماعها.

– البحث في فكرة الإجماع نفسها؛ تقعيدًا وتأصيلا؛ بمعنى صياغة أهم القضايا المتعلِّقة بهذا المبحث في صيغ تقعيدية؛ موجزة في ألفاظها؛ جامعة في معانيها؛ تعبِّر عمَّا استقرَّ عليه علماء أصول الفقه؛ ليسهل تناولها على الباحثين في العلوم الأخرى غير المتخصصين في علوم الشريعة الإسلامية. لترسم لهم هذه القواعدُ خريطةَ الإجماع عند المسلمين واضحة جليَّة غير مشوَّشة.

– البحث في كيفية تفعيل دور الإجماع، والاستفادة به في حل مشكلاتنا المعاصرة.

– البحث في طبيعة العلاقة بين هذا المبحث كواحد من مباحث علم أصول الفقه الذي يمثل منهج البحث والمعرفة عند المسلمين؛ وبين أحد فروع العلوم الاجتماعية؛ وهو علم السياسة.

– البحث في المبدأ الذي انبثقت منه فكرة الإجماع؛ وهو مبدأ الاجتهاد الجماعي؛ ومدى أهميته؟ وكيف يمكن للأمة تطبيقه؟ وهل تكفي في ذلك جهود الأفراد، والهيئات، والمؤسسات؟ أم أن الأمر صار بحاجة إلى جهود دوليَّة على مستوى الأمة الإسلامية؟ حتى يمكن الاستفادة من هذا المبدأ على النحو المطلوب.

هذه بعض الأمور التي ثارت في ذهني عند مطالعة بحث: “الإجماع في أصول الفقه .. من الشورى إلى النظام النيابي” ومجرد إثارة النقاش وفتح الحوار حول هذه الموضوعات هو من محاسن هذا البحث.

أما من حيث التفصيل فإن هناك بعض النقاط التي تستدعي الوقوف معها؛ انطلاقًا من قول الباحث الكريم – في فقرة النتائج والملاحظات- : “إن المعرفة لا تكتمل إلا بالنقد؛ وإن النقد يمثِّل حاجة، وحاجة مستمرة لنمو المعرفة، وتجددها وتطورها”.

وسأسرد أهم هذه النقاط تحت العناوين الآتية:

* تحرير مصطلح “الإجماع”.

* نشأة فكرة الإجماع.

* مرتبة الإجماع بين الأدلة.

* وظيفة الإجماع في القضايا الشرعية، والحاجة إلى تفعيله لحلِّ مشكلات العصر.

* الإجماع والمنحى النقدي.

– 2 –

تحرير مصطلح “الإجماع”

عند طرح قضية مهمة مثل قضية الإجماع؛ لابد من وضوح المصطلح وضوحًا جليًّا حسبما أصَّله المتقدِّمون، واستقر عليه المتأخرون من الأصوليين؛ مع الأخذ في الاعتبار ضرورة التفرقة بين التقعيد الأصولي المنضبط لقضية الإجماع من جهة؛ وما صاحب التطبيق في كتب الفروع والخلاف من التجوُّزِ والتسامح في ادِّعاء الإجماع في كثير من المواضع من جهة أخرى.

أما مصطلح الإجماع؛ فيُقصد به عند إطلاقه ما تقرِّره القاعدة الأصولية: “الإجماعُ المعتبر هو إجماعُ الخاصَّة إجماعًا عامًّا” هذا هو الإجماع الذي قرَّر العلماء أنه المصدر الثالث للتشريع؛ والذي يكشف عن حكم الله تعالى؛ وتحرم مخالفتُه؛ وتصير الأحكامُ الثابتةُ به قطعيةً خارجة عن دائرة الاجتهاد.

والمقصود بكونه إجماع الخاصَّة: أي أنه إجماع من أهل تخصُّصٍ بعينه؛ بمعنى أن المعتبر في الإجماع الذي يتعلق بقضية شرعية إجماع المجتهدين؛ فمن لم يكن من علماء الشريعة المجتهدين فلا عبرة بمخالفته؛ وإن كان عالمًا في تخصص آخر. والمعتبر في مسائل اللغة إجماع أهل اللغة؛ وفي مسائل الطب إجماع علماء الطب .. وهكذا.

والمقصود بكونه إجماعًا عامًّا: أي أنه إجماع كُلِّ المجتهدين؛ سواء كان صريحًا، أو سكوتيًّا؛ أما إجماع بعض المجتهدين كإجماع علماء المدينة عند المالكية، أو إجماع أهل البيت عند الشيعة؛ أو إجماع الخلفاء الراشدين فحجيتها محل خلاف بين العلماء؛ وليست هي المقصود عند إطلاق مصطلح الإجماع(2).

– 3 –

نشأة فكرة الإجماع

يقول الدكتور/ زكي في الفقرة الثانية من بحثه بعد أن عرَض ثلاثة نماذج – من الدراسات الحديثة – حول صلة فكرة الإجماع ببيعة أبي بكر t: “هذه بعض الإشارات التي تلفت النظر إلى طبيعة العلاقة بين السياسة وأصول الفقه من جهة فكرة الإجماع، وكيف أثَّرت مسألة الخلافة والبيعة في انبثاق هذه الفكرة”.

وأرى أن في الربط بين انبثاق أصل فكرة الإجماع وبيعة أبي بكر اختزالا لهذه الفكرة في صورة من صورها، ومظهر من مظاهرها؛ إذ الإجماع على بيعة أبي بكر t هو تطبيق عمليٌّ من تطبيقات الإجماع؛ شأنه شأن إجماع الصحابة y على جمع عثمان t القرآنَ في مصحف واحدٍ(3).

كما أن هذا الربط بين نشأة الإجماع وبيعة أبي بكر t يقلب المثال إلى أصل؛ في حين أن الأصل في نشأة فكرة الإجماع ما قرَّره القرآن الكريم من اعتبار سبيل المؤمنين الأجدرَ بالاتباع، وما قرَّرته السنة النبوية من أن الجماعة عاصم عن الخطأ في مجموعها(4)؛ وكذلك الوقائع المتكاثرة التي تدل على مشروعية الاجتهاد من حيث الأصل، وكيف أن النبي r كان يقرُّ أصحابه y في اجتهاداتهم دون تعنيف. يقول ابن القيم: “وقد اجتهد الصحابة y في زمن النبي r في كثير من الأحكام؛ ولم يُعنِّفهم”(5).

ومن ذلك إقراره r لصنيعهم؛ حينما أمرهم يوم  الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق، فهمًا منه أن المراد سرعة النهوض، واجتهد آخرون وأخَّروها إلى بني قريظة فصلوها ليلا؛ التزامًا بظاهر اللفظ(6). وغير ذلك من الوقائع التي تدل على إذنه r بالاجتهاد في عهده(7).

وقد كانت مصادر التشريع في هذا العصر هي الكتاب، والسنة، والاجتهاد بمفهومه الواسع الذي يرجع في النهاية إلى إقراره r. أما بعد وفاته r فقد ظهر لون جديد من ألوان الاجتهاد، وهو الاجتهاد الجماعي – إذا لم يجدوا الحكم في الكتاب أو السنة – حيث كان الخليفةُ يجمع كبار الصحابة وحفاظهم فيشاورهم في الأمر؛ فإذا اتفقوا على أمر كان الرأي الجماعي هو المرجع، وإلا حسم الخليفة الأمر(8). ومما يشهد لتأصيل فكرة الاجتهاد الجماعي:

1- ما روى ابن عبد البر بسنده إلى علي بن أبي طالب t قال: “قلت يا رسول الله: الأمر ينـزِل بنا؛ لم ينـزل فيه قرآن، ولم تمض منك فيه سنة؟ قال: اجمعوا له العالمين – أو قال العابدين – من المؤمنين؛ اجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد”(9).

2- ما روى ابن سعد في الطبقات من حديث أبي هريرة t: “أن النبي r كان يخطب وهو مستند إلى جذع؛ فقال: إن القيام قد شقَّ عليَّ؛ فقال له تميم الداري: ألا أعمل لك منبرًا كما رأيت يصنع بالشام ؟ فشاور النبي r المسلمين في ذلك؛ فرأوا أن يتخذوه…”(10).

فهذه الوقائع وغيرها أصَّلت لمبدأ الشورى أو الاجتهاد الجماعي، وساندت، وساعدت في تبلور فكرة الإجماع حتى وصلت هذه الفكرة إلى ما هي عليه في عصر التدوين في أصول الفقه. وهكذا يظهر لنا اعتبار الإجماع عند الصحابة y كجزء من عملية الشورى أو الاجتهاد، وما كانت بيعة أبي بكر t إلا صورة من صوره، وليست العلة الوحيدة التي نشأت عليها فكرة الإجماع.

– 4 –

مرتبة الإجماع بين الأدلة

يحتل الإجماع المرتبة الثالثة بين مصادر التشريع؛ حيث تأتي منـزلته بعد الكتاب والسنة؛ غير أنه قد نقل عن بعض العلماء تقديم الإجماع على النص؛ ولعل المقصود من ذلك: أن الممارسة العملية تحتم على المجتهد حينما يطلب الحكم أن يبدأ بحثه أولا بالتفتيش في مواطن الإجماعات الصحيحة الثابتة؛ فإن لم يجد انتقل إلى النصوص الشرعية؛ فإن لم يجد لجأ إلى الاجتهاد. أو أن المقصود تقديم الإجماع فيما علم من الدين بالضرورة على النص؛ لأن النص الذي أُجمع عليه قد اكتسب القطعية التامة فأصبح قطعي الثبوت قطعي الدلالة، فهو من باب تقديم النص على النص، ولا إشكال في ذلك(11).

إذا اتضح ذلك فقول الدكتور/ زكي الميلاد – ص5 -: (أهل السنة يرون الإجماع حجة، وينـزلونه منـزلة تقرب من القياس) ليس بسديد

إذ يفهم منه أن القياس أعلى مرتبة من الإجماع عند أهل السنة؛ والعكس هو الصواب؛ فإن منزلة الإجماع أعلى من منزلة القياس في ترتيب الأدلة؛ ولذلك فقد اشترطوا لصحة القياس عدم مخالفة الإجماع(12).

– 5 –

وظيفة الإجماع في القضايا الشرعية، والحاجة إلى تفعيله لحلِّ مشكلات العصر

القاعدة المقرَّرة عند الأصوليين أنه: “لا إجماع إلا عن مستند”(13) أي: عن دليل يستند إليه؛ ومستند الإجماع إما أن يكون دليلا تفصيليًّا، وإما أن يكون دليلا إجماليًّا؛ فإن كان دليلا تفصيليًّا ففائدة الإجماع ووظيفته نقلُ ذلك الدليل التفصيلي من الظنية إلى القطعية بحيث لا يجوز البحث في معناه ودلالته بعد الإجماع، إضافة إلى تأكيد ذلك الدليل التفصيلي؛ وتكثيرِ الأدلة.

وإن كان مستند الإجماع دليلا إجماليًا مأخوذًا من القواعد الكلية للشريعة؛ كتحقيق المصالح، ودرء المفاسد، ورفع الحرج والضرر، وغير ذلك فإن وظيفة الإجماع وفائدته أنه كاشِفٌ عن الدليل، وحافِظٌ على الأمة أمر دينها(14).

أما تفعيل الإجماع في حل مشكلات العصر فقد لقي ذلك اهتمامًا في بعض الدراسات المعاصرة؛ وممن ألَّف في وجوب اتخاذ الإجماع مصدرًا لحل مشكلاتنا العصرية الدكتور/ أحمد حمد في كتابه: (الإجماع بين النظرية والتطبيق) كما سيأتي.

ويقول الدكتور/ علي جمعه في كتابه (الإجماع عند الأصوليين): “ونحن أحوج إلى هذا المصدر في عصرنا الحاضر في حياتنا السياسية، والاجتماعية، وشؤون الحياة. والإجماع واقع إلى يوم القيامة، ونرى إجماع العلماء في عصرنا على جواز استخدام الطائرات، واستخدام القنابل والأسلحة الحديثة في الحروب، ولم يُحرِّمها أحد”(15).

إذا اتضح ما سبق فإن قول الدكتور/ زكي – ص5 – (جرت في الدراسات الأصولية عند علماء الإمامية مناقشات علمية معمقة حول فكرة الإجماع؛ ظلت تتسع وتتجدد وتتراكم منذ عصر السيد المرتضى في القرن الخامس الهجري إلى اليوم؛ هذه المناقشات على أهميتها وقيمتها لا نجد لها حضورا واهتماما في الدراسات الأصولية عند علماء السنة). كلام لا يعكس الواقع.

لأن المتتبع للمصادر الأصولية عند علماء السنة قديمًا وحديثًا؛ يدرك بجلاء المساحة التي شغلها مبحث الإجماع في تلك المصادر؛ والمناقشات المستفيضة التي دارت بينهم على المستويات الثلاثة التي جعلوها محاور أساسية في بحث قضية الإجماع:

المستوى الأول: إمكان وقوع الإجماع.

المستوى الثاني: إمكان العلم به من المجتهدين.

المستوى الثالث: إمكان نقله للأمة نقلا صحيحًا.

فلا يكاد يخلو مصدر من المصادر الأصولية عند السنة منذ بداية تدوين علم الأصول وحتى عصرنا هذا من تلك المباحث؛ وإن كان الغالب على المصادر القديمة الجانب التنظيري دون الخوض في الجانب التطبيقي؛ الذي ظل رهنًا بكتب الفروع، ومطولات الخلاف؛ كما هو الحال في سائر المباحث الأصولية وليس الإجماع فحسب.

ومع ذلك فأحيانًا ما كان يشير بعض العلماء إلى ضرورة تمحيص دعاوى الإجماع، ويقوم بذلك؛ كما فعل النووي حينما تعقَّب بعض إجماعات ابن عبد البر؛ وفعل ابن تيمية حينما تعقَّب بعض إجماعات ابن حزم.

وقد أحصى بعض الباحثين المعاصرين أربعة عشر موضعًا من الإجماعات التي تعقَّبها ابن تيمية لابن حزم؛ قال عنها ابن تيمية: “لم يكن قصدنا تتبع ما ذكره من الإجماعات التي عرف انتقاضها فإن هذا يزيد على ما ذكرناه”(16).

ثم ظهرت بقوة في الدراسات الأصولية المعاصرة عند السنة محاولات تفعيل الإجماع وتحويله من مبحث نظري إلى أداة عملية؛ يمكن الاستفادة منها في واقعنا المعاصر. وذلك من خلال أمور أربعة:

الأمر الأول: بيان حقيقة الإجماع؛ وحجيته والاستفاضة في مناقشة منكريه؛ كما فعل الشيخ عبد الغني عبد الخالق في كتابه: “حقيقة الإجماع وحجيته” وهو بحث أعدَّه سنة 1397هـ(17). وكما فعل الدكتور/ محمد فرغلي في كتابه: “حجية الإجماع وموقف العلماء منها”(18).

الأمر الثاني: الاهتمام برصد الإجماعات المنقولة في كتب الخلافيات والفروع؛ وترتيبها؛ ليسهل على الباحث الاستفادة منها؛ دون مراعاة لتمحيص هذه الإجماعات أو دراستها نقديًّا. ومن ذلك كتاب: “موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي” لسعدي أبو جيب؛ وقد حشد فيه مؤلِّفه ما وقف عليه من المسائل التي نُقِل فيها الإجماع.

الأمر الثالث: البحث في الإجماعات المنقولة ونقدها، وتمحيصها؛ ومن أهم هذه المحاولات: ما ذكره الدكتور محمد فرغلي في كتابه المشار إليه سلفا؛ حيث أفرد فيه فصلا تحت عنوان: إجماعات يجب تحقيق ما قيل فيها من ص409 إلى ص420.

الأمر الرابع: دراسات تبحث في تفعيل مبحث الإجماع؛ وطرح محاولات للاستفادة منه في الواقع المعاصر؛ ومن ذلك:

1- كتاب “الإجماع بين النظرية والتطبيق” للدكتور أحمد حمد

وقد قسَّمه إلى قسمين: القسم الأول: نظري، والقسم الثاني: تطبيقي؛ قال عنه: “ومنهجنا في هذا القسم هو دراسة واقع الأمة، واستقراء معالم الإجماع فيها، وتوجيه الأنظار إلى الخطة الراشدة في اتخاذ الإجماع مصدرًا عمليًّا في حقل التشريع، وسياسة الأمة”.

2- كتاب “الإجماع عند الأصوليين” للأستاذ الدكتور/ علي جمعة  مفتي جمهورية مصر العربية(19)؛ الذي أوضح فيه أهمية الإجماع؛ كضابط لهوية دين الإسلام؛ حيث يحول الظني في ثبوته أو دلالته إلى قطعي؛ فيخرج بذلك من مجال الاجتهاد، ويحافظ على ما اتفق عليه المسلمون من الثوابت التي لا تختلف باختلاف الزمان، أو المكان، أو الأشخاص، أو الأحوال. وقد عقد المؤلِّف مقصدًا من مقاصد هذا الكتاب حول الإجماع والعصر الحاضر؛ تناول فيه قضيتين هامتين:

القضية الأولى: العلاقة بين الإجماع والرأي العام. وانتهى فيها إلى بطلان ما ذهب إليه بعض المعاصرين من حجية ما أسماه الإجماع الشعبي.

القضية الثانية: الإجماع والمجامع الفقهية. ناقش فيها إمكان استعمال دليل الإجماع لحل مشكلات الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها؛ عن طريق المجامع الفقهية باتخاذ رأي موحد في القضايا الكلية التي تتعلق بسائر الأمة. ثم عَرَض لبعض المشكلات التي قد تواجه هذه الآلية من خلال طرح الأسئلة التي تحتاج في الإجابة عليها إلى بحث إجرائي يضمن الجدية والتلقائية لعملية الاجتهاد الجماعي.

ومن الجدير في هذا الصدد الإشارة إلى تساؤل أثاره أحد الباحثين المعاصرين(20) حول مدى كون فتاوى وقرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي ملزمة للدول التي يمثلها؛ لا سيما وأن هذا الإلزام قد يكون محقِّقًا لمصلحة المسلمين العامة. وضرب لذلك مثلا بفتاوى إنشاء صندوق تضامني للزكاة يضم البلدان الإسلامية ينظِّم جمع الزكاة وصرفها بما يحقق المصلحة الشرعية من هذه الفريضة؛ لا سيما وأن هذه التجربة قد نجحت في بعض الدول كدولة الكويت.

3- “أحكام الإجماع والتطبيقات عليها من خلال كتابَي ابن المنذر وابن حزم في بابَي الطهارة والصلاة”(21).

وقد ركَّز مؤلِّفه على الجانب التطبيقي للمسائل الفقهية المبنية على أصل الإجماع في بابي الطهارة والصلاة من كتابي الإجماع لابن المنذر ومراتب الإجماع لابن حزم. بحيث يذكر المسألة، والإجماع المنقول فيها، ثم يتتبع تلك المسألة في كتب الخلاف؛ للتثبت من حكاية الإجماع فيها. فإذا وجد مخالفًا نص على انتقاض الإجماع، وبيَّن عدم صحته.

4- كتاب “مناقشات الاستدلال بالإجماع دراسة تأصيلية تطبيقية” لفهد محمد السدحان. وهو بحث ينادي بدراسة الإجماعات المنقولة في الكتب وفحصها ونقدها. وقد نشرته مكتبة العبيكان.

– 6 –

الإجماع والمنحى النقدي

آثرت أن أجعل هذه الفقرة بنفس عنوانها في البحث محل التعقيب؛ لأني وجدت صنيع الباحث فيها يحتاج برمته إلى إعادة نظر.

ذلك أنه قسَّم المنحى النقدي للإجماع إلى نمطين: النمط الأول: النقد الإسلامي؛ وقصد به النمط الذي يتخذ من المعرفة الإسلامية أداة للنقد. والنمط الثاني: النمط الحداثي؛ وقصد به النمط الذي يتخذ من الحداثة أداة في النقد.

وضرب للنمط الأول مثالا بموقف الشيخ محمد مهدي شمس الدين من الإمامية؛ وللنمط الثاني مثالين: أولهما موقف الدكتور محمد أركون من الجزائر، وثانيهما موقف الدكتور عبد المجيد الشرفي من تونس.

وقد جاءت الأمثلة الثلاثة أقرب إلى دحض فكرة الإجماع من جذورها، واستئصال شأفتها. وقد يكون هذا متوافقًا مع منهج التفكير الذي يتبناه صاحبا الموقفين الأخيرين كمثال للنمط الحداثي على حد تعبير الباحث.

لكن اللافت للنظر أن يؤتى بمثال يتم إدراجه تحت النمط الإسلامي – على حد تعبير الباحث – مع أن موقف صاحبه (الشيخ محمد مهدي شمس الدين) يكاد لا يعترف بفكرة الإجماع من أصلها؛ ويرى أنها أضرت بالفقه الإسلامي، والاجتماع السياسي الإسلامي، وأنها أدت إلى شلل إرادة الأمة، وتعطيلها عن التصدي للنقد، وأن استخدام الشيعة لمصطلح الإجماع إنما جاء نتيجة لتأثر الفكر الأصولي الشيعي بالفكر الأصولي السني؛ ليكون أداة في الرد على الاحتجاج السني بالإجماع في المجال السياسي.

وأعتقد أن الأحرى بالأمثلة الثلاثة أن تصنَّف في اتجاه النقض – وليس النقد – لفكرة الإجماع. أما إذا أردنا أن نمثِّل للنمط النقدي للإجماع فلا بد أولا أن يكون ذلك ممن يعترف بالإجماع من حيث التأصيل، والأهمية، ثم يرى أن الممارسة التطبيقة للإجماع في المصنَّفات والمصادر التراثية قد شابها نوع من الخلل يجب بحثه، والتعرف على أسبابه؛ ليمكننا الاستفادة من المنهج وليس هدمه.

ولعل من الأمثلة الصحيحة لهذا النقد ما تمت الإشارة إليه في الفقرة رقم (5) من الدعوات التي نادى بها العلماء، وقاموا بجزء منها بهدف تمحيص دعاوى الإجماع؛ كما في:

– تعقبات النووي لإجماعات ابن عبد البر؛ وتعقبات ابن تيمية لإجماعات ابن حزم(22).

– كتاب: (الفقيه والمتفقه) للخطيب البغدادي؛ فقد عقد فيه بابًا قصيرًا؛ تكلم فيه عن أنواع الاعتراض الذي يرد على سبيل القدح في الدليل المستدل، ثم بيَّن ما يختص بكل دليل من الاعتراضات، ومن ذلك الإجماع. فذكر ثلاثة اعتراضات ترد على دليل الإجماع؛ هي المطالبة بتصحيح الإجماع، والمخالفة، والاعتراض بنقد ما نُقِل من كلام المجمعين(23).

– ما ظهر في الدراسات المعاصرة من بحوث تهتم بدراسة وقائع الإجماع؛ كما في كتاب: “المسائل الفقهية التي حكى فيها الإمام النووي الإجماع – دراسة أصولية تطبيقة” لعلي بن أحمد العميري الراشدي(24).

– كتاب: “أحكام الإجماع والتطبيقات عليها” للدكتور خلف محمد المحمد. وهي دراسة توثيقية نقدية لإجماعات ابن المنذر وابن حزم في بابي الطهارة والصلاة(25).

– كتاب: “قوادح الاستدلال بالإجماع والجواب عنها” للدكتور سعد بن ناصر الشثري(26)؛ الذي اهتم فيه مؤلفه بحصر الاعتراضات التي يمكن توجيهها على الاستدلال بدليل الإجماع، وكيفية الجواب عنها. وهو بحث يشبه صنيع الأصوليين في تناول قوادح العلة في باب القياس، وكيفية الجواب عنها.

وقد جعل الدكتور الشثري كتابه في ثمانية أبواب:

الباب الأول: الاعتراض على الإجماع من جهة ذاته؛ كأن يعترض بأن هذا الإجماع من باب الأخذ بأقل ما قيل وليس من باب الإجماع.

الباب الثاني: الاعتراض بعدم حجية الإجماع؛ كأن يعترض بأن هذا الإجماع إجماع سكوتي وهو ليس بحجة.

الباب الثالث: الاعتراض على الإجماع من جهة مستنده؛ كأن يعترض بأن هذا الإجماع لا مستند له، أو بأن مستنده غير قطعي.

الباب الرابع: الاعتراض على الإجماع من جهة المخالفة؛ كأن يعترض بأن هذا الإجماع حُكي فيه مخالفة بعض العلماء، أو يعترض بمخالفة التابعي لإجماع الصحابة.

الباب الخامس: الاعتراض على الإجماع من جهة صفته؛ كأن يعترض بانقراض العصر قبل تمام الإجماع، أو بعدم بلوغ المجمعين عدد التواتر.

الباب السادس: الاعتراض على الإجماع من جهة سنده؛ كالمطالبة بإثبات الإجماع، أو بكون الإجماع ثابتا بطريق الآحاد.

الباب السابع: في الاعتراضات التي ترد على الإجماع من جهة وجه الاستدلال؛ كأن يعترض: بأن المستَّدِل بالإجماع لا يقول بما استدلَّ به، أو لا يقول بموجَب الدليل الذي استدل به.

الباب الثامن: في الاعتراضات التي ترد على الإجماع من جهة معارضة غيره من الأدلة له؛ كأن يقال: هذا الإجماع معارَض بالكتاب، أو السنة، أو بإجماع آخر.

***

 

الهوامش

(1)  زهير كبي: الإجماع لأبي بكر الجصاص – دراسة في فكرته من خلال تحقيق باب الإجماع ص19 ط: دار المنتخب العربي –  الطبعة الأولى 1413هـ.

(2)  أبو يعلى: العدة 4/ 1133 ط: المحقِّق؛ والشيرازي: شرح اللمع 2/ 720 ط: دار الغرب الإسلامي – الطبعة الأولى 1408هـ؛ والغزالي: المستصفى ص143؛ وأبو الخطاب: التمهيد 3/ 250 ط: مؤسسة الريان؛ والمرداوي: التحبير 4/ 1557؛ وابن الوزير: المصفى ص 390؛ وعلي جمعه: الإجماع عند الأصوليين ص11 ط: دار الرسالة – الطبعة الأولى 1424هـ.

(3)  أبو داود: المصاحف ص30 ط: دار الكتب العلمية؛ وانظر: الآجري: الشريعة -كتاب الإيمان والتصديق بأن الجنة والنار مخلوقتان؛ وابن أبي شيبة: تاريخ المدينة – كتابة القرآن وجمعه؛ وصفوان داوودي: قواعد أصول الفقه وتطبيقاتها 2/ 729 ط: دار العاصمة – الطبعة الأولى 1431هـ.

(4)  زهير كبي: الإجماع لأبي بكر الجصاص – دراسة في فكرته من خلال تحقيق باب الإجماع ص7.

(5)  ابن القيم: إعلام الموقعين 1/ 155.

(6) البخاري: صحيح البخاري – كتاب الجمعة – أبواب صلاة الخوف –  باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء.

(7)  الجصاص: الفصول في الأصول 4/ 304 ط: وزارة الأوقاف الكويتية، الطبعة الثانية 1414هـ؛ والمرداوي: التحبير 5/ 2330 ط: مكتبة الرشد، الطبعة الأولى 1421هـ؛ والصنعاني: إجابة السائل ص393 ط: مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1986م.

(8)  زهير كبي: الإجماع للجصاص ص 9 – 11.

(9)  ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله – باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين النزول.

(10)  ابن سعد: الطبقات الكبرى – ذكر منبر رسول الله r – حديث رقم: (555).

(11)  ولكن من ناحية الاحتياط في التعبير يبدو من غير المقبول أن يقال: “تقديم الإجماع على النص” بإطلاق ، وإن كان الأصوليون لا يخشون خطرًا على النص في هذا ؛ إذ أن الإجماع الذي يدَّعون تقديمه لا يكون إلا على نص؛ وفيما علم من الدين بالضرورة. أما في غير هذه الحالة فهو في المنزلة الثالثة كما هو معلوم. انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى 19/ 267 ، 268؛ ومحمد أديب صالح: مصادر التشريع الإسلامي ص 176.

(12)  انظر: التفتازاني: شرح التلويح على التوضيح 2/ 68 ط: مكتبة صبيح بمصر؛ والشافعي: الرسالة للإمام الشافعي ص476 ط: مكتبة دار التراث؛ والرازي: المحصول 3/ 357 ط: مؤسسة الرسالة؛ وأبو الخطاب التمهيد 2/ 188.

(13) الآمدي: منتهى السول ص306 ط: دارالكتب العلمية؛ وابن النجار: شرح الكوكب المنير ص238 ط: السنة المحمدية؛ وعبد العزيز البخاري: كشف الأسرار 2/ 228؛ وخلفان السيابي: فصول الأصول ص266 ط: وزارة التراث القومي والثقافة في سلطنة عمان؛ والتفتازاني: شرح التلويح على التوضيح 2/ 103 ط: مكتبة صبيح بمصر؛ وأحمد بن يحيى المرتضى: البحر الزخار 1/ 187 ط: دار الكتاب الإسلامي؛ وابن أمير الحاج: التقرير والتحبير 3/ 109 ط: دار الكتب العلمية؛ وصفوان داوودي: قواعد أصول الفقه وتطبيقاتها 2/ 696 ط: دار العاصمة – الطبعة الأولى 1431هـ.

(14)  علي جمعه: الإجماع عند الأصوليين ص80 – 81؛ وزهير كبي: الإجماع لأبي بكر الجصاص ص19.

(15)  المرجع السابق ص81.

(16)  خلف محمد المحمد: أحكام الإجماع والتطبيقات عليها ص183 -193 ط: المكتبة المكية.

(17)  عبد الغني عبد الخالق: حقيقة الإجماع وحجيته – مذكرة خطيَّة.

(18)  محمد فرغلي: حجية الإجماع وموقف العلماء منها ط: دار الكتاب الجامعي.

(19)  علي جمعه: الإجماع عند الأصوليين.

(20)  محمد إبراهيم شقرة: صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي – مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة الرابعة.

(21)  وهي رسالة دكتوراه لخلف محمد المحمد بجامعة أم القرى ، وقد نشرتها المكتبة المكية بالتعاون مع مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع.

(22)  انظر: خلف محمد المحمد: أحكام الإجماع والتطبيقات عليها ص183 -193 ط: المكتبة المكية.

(23)  البغدادي: الفقيه والمتفقه 2/ 49- 50؛ وسعد بن ناصر الشثري: قوادح الاستدلال بالإجماع ص6 ط: كنوز إشبيليا.

(24)  علي بن أحمد العميري الراشدي: المسائل الفقهية التي حكى فيها الإمام النووي الإجماع ص 5 وما بعدها ط: دار الفضيلة، الطبعة الأولى 1431هـ.

(25)  خلف محمد المحمد: أحكام الإجماع والتطبيقات عليها من خلال كتابي ابن المنذر وابن حزم في بابي الطهارة والصلاة ص8 ط: المكتبة المكية، الطبعة الأولى 1423هـ.

(26) انظر: قوادح الاستدلال بالإجماع (الاعتراضات الواردة على الدليل من الإجماع والجواب عنها) ص12 وما بعدها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر