أبحاث

خبرة (التعريب) في الحضارة الإسلامية

العدد 89

مقدمة:

يتوقف تحقيق الذاتية الثقافية على سيادة اللغة العربية في مجال التعليم العالي والبحث العلمي ، وهذه المسئولية تقع أساساً على عاتق الأساتذة الجامعيين والعلماء والباحثين في الوطن العربي ، وإن عدم استعمال اللغة العربية في التعليم والبحث العلمي عزل لهذه اللغة ووأد لها وإمعان في سياسة التقصير إزائها ، يؤدي إلى قصور اللغة نفسها. ومما تجدر ملاحظته أنه لا توجد لغة متخلفة من حيث الأساس ، وإنما هناك شعب متخلف وآخر متحضر. والشعوب المتخلفة تعكس نفسها على لغتها فتضعف وتنهار ، وبالعكس كانت اللغة الصينية قبل ثورة الصين سنة 1949م لغة متخلفة ، وها نحن نجدها الآن قد تحولت إلى لغة حية يستخدمها الصينيون في التعليم والبحث العلمي. والشئ نفسه يقال بالنسبة للغة اليابانية[1].

لقد جمدت اللغة العربية وتخلفت عندما ابتعد العرب عن العلم وتخلفوا حضاريّاً وفكريّاً ، وعندما كانوا عاكفين على العلم خائضين في أعماقه ، تطورت اللغة العربية وفرضت نفسها على جميع البقاع المتحضرة ، وأصبحت معرفتها من الشروط الأساسية المطلوبة في الأوربي المثقف ، وإن حركة الترجمة عن العربية التي بدأت منذ القرن الثاني عشر الميلادي كانت أحد المعايير الرئيسية التي نقلت الحضارة العربية الإسلامية إلى الغرب الأوربي ، ومنطلقاً للنهضة الأوربية الحديثة بعد ذلك في القرن الخامس عشر[2].

معنى التعريب:

والتعريب يساوي التفتح العربي على الحضارة العالمية ، اكتساباً للقدرة الذاتية ، وذلك عن طريق التعاون القائم على الاختيار الواعي لمصادر القدرة العالمية ، واستيعابها وعضونتها في نسيج الحياة العربية ؛ لتصبح قدرة إبداعية جديدة ، حتى لا يكون التعاون تقليداً عقيماً هو تعميق للتبعية وتوثيق لها[3].

والتعريب في هذا المعنى هو سبيل امتلاك القدرة العلمية ، وسبيل خلق المناخ العلمي الذي يستدعي مشاركة المجتمع كله ، لا طبقة واحدة أو فئة معينة ، فهناك العمال والفنيون والإداريون والمنظمون الذين يسهمون في هذه القدرة ، والذين عليهم أن يستوعبوها في لغتهم ، وهناك المستهلكون أنفسهم ، فالقدرة على الإتقان التكنولوجي تستلزم قدراً من الاستيعاب ، ففي كل سلعة تكنولوجية – عقاراً طبيّاً كانت أو آلة – تعليمات مكتوبة بمختلف اللغات لشرح مكوناتها وتوضيح طرق استعمالاتها ، وهكذا.

أثر الإسلام:

نشأ عن ظهور الإسلام تياران : توسع الإسلام ، وانتشار العربية ، وهما تياران متلازمان ابتداء ولفترة ليست قصيرة ، ولكن كلٌّ اتخذ وجهته فيما بعد ، وقد استمر تأثير الإسلام والعربية على العرب بتلازم واضح ، ولكن العربية (لغة وثقافة) هي التي رسمت – في النهاية – الحدود البشرية والجغرافية للأمة العربية ، وكان للعروبة دلالة بشرية ابتداء ، ولكنها تطورت لتجد في اللغة والثقافة أساسها ومعناها[4].

ولقد أكسب القرآن الكريم اللغة العربية حرمة ودفع إلى تعلمها ووسع آفاقها بالإسلام، وصارت اللغة أساس الهوية العربية في الإشارات القرآنية.

ويلاحظ أن الإمام الشافعي ناقش مسألة كون القرآن بلسان العرب بإسهاب ، وأورد الآيات التي تؤكد ذلك؛ مما يدل على أنها كانت موضع جدل في عصره.

وبينما كان على العربية أن تتخطى النظرة القبلية المحدودة قبل أن تستطيع تكوين قاعدة ثقافية عريضة ، فإن الإسلام كان يتوسع باستمرار ويكسب العربية قاعدة أرحب ونشاطاً متزايداً[5].

وكان الدخول في الإسلام يعني تعلم العربية ، وقد شارك البعض في الثقافة العربية كما فعل الكثير من الموالى ، ورأى البعض أن في دخول الإسلام انتماء إلى العرب ، وتكاد العربية أن تكون مرادفة للإسلام في الفترة الأولى في نظرة الشعوب الأخرى ، فحين سأل أبو جعفر المنصور مولى لهشام بن عبد الملك سنة 132 هـ عن هويته قال المولى : ((إن كانت العربية لساناً فقد نطقنا بها ، وإن كانت ديناً فقد دخلنا فيه)).

إذا كان هذا إشارة إلى أثر الإسلام في التعريب (لغة) ، فقد كان له أثره كذلك في التعريب (علماً) ، وذلك بما أضفاه على عملية اكتساب المعرفة وتحصيل العلم من قيمة عالية كانت أقوى الدوافع للعرب أن يمدوا أيديهم إلى نتاج حضارات سبقتهم كي يعرفوا ما وصلت إليه.

فلقد وردت في القرآن وفي كتب السنة الشريفة نصوص كثيرة تحض على التعلم وتبين فضل العلم وتهدي إلى طرق تربية المتعلمين وتأديبهم[6] ، ومن أمثلة ذلك قوله سبحانه وتعالى: (قُلْ هَلْ يَسْـتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونْ)[7] ، وقوله:(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[8]وقوله: (فَاسْــأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرَ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون)[9] ، وقوله: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِّينَ أٌوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[10] ، وقوله: (بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتٌوا الْعِلْمَ)[11]، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. وليس العلم والذكر في هذه الآيات هو علم الدين فحسب ، بل هو كل علم نافع يرفع من قدر الإنسان ، وينمي عقله ويجعله أكثر خبرة بالحياة واطلاعاً على أحوالها.

ويسعى الإنسان في الأرض طالباً العلم يتبادله مع العلماء ، ويصدق ذلك في قوله تعالى: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدَا)[12]. ويعلم الوحي الرسول صلى الله عليه وسلم ويتلقى نبي الرحمة العلم ليبثه للمسلمين كافة (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُلاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلَّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمَكٌمْ مَـا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون)[13].

ولم يستعمل القرآن كلمة (العلم) بالمعنى الذي استعمل بعد ذلك حين نقول: (علم النحو) أو (علم الجغرافيا) ، وهو ما يقابل كلمة science[14]، وإنما استعملها – على ما يظهر – بمعنى المعرفة بأوسع معانيها (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عَلْمٍ عَلِيمٌ)[15] ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لَكَيْلاَ يَعْلَمْ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً)[16].

وهو بهذا المعنى ، يطلق حتى على المعارف الدنيوية ، كما ورد على لسان قارون في حديثه عن ماله: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدَي)[17] ، أي معرفة بطرق كسب المال ، ولكن أكثر ما يستعمل في هذا النوع من المعرفة الذي يوصل إلى الهداية ، كأنه هو المعرفة التي يعتد الله بها.

وفي كتب السنة أحاديث عديدة رويت عن المعلم الأعظم ، في صحيح البخاري في كتاب العلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) ، وفيه أيضاً ((من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك به طريقاً إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم لرضى الله عنه ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء)) ، وقال صلى الله عليه وسلم لعلي ابن أبي طالب: ((….. فوالله لأن يهدى بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) ، وقوله لمعاذ لما بعثه لتعليم أهل اليمن: ((لأن يهدى بك الله واحداً خيراً لك من الدنيا وما فيها)) ، وقال: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) وفي رواية أخرى (ومسلمة) ، وقال: ((مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة)). وقال: ((من غدا إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلم خيراً أو ليعلمه كان له كأجر معتمر تام العمرة ، ومن راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلم خيراً فله أجر حاج تام الحجة)) ، وقال: ((تعلموا العلم وعلموه الناس ، وتعلموا الوقار والسكينة ، وتواضعوا لمن تعلمتم منه العلم ، وتواضعوا لمن علمتموه العلم ، ولا تكونوا جبابرة العلماء)) ، وعن معاذ ابن جبل عنه رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس من أخلاق المؤمن الملق إلا في طلب العلم))[18].

بل حث النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن يتعلموا لغة غير اللغة العربية؛ لما دعت الحاجة إلى ذلك – بعد انتشار الإسلام – ففي (البخاري) عن زيد بن ثابت قال:أُتِيَ بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ، فقيل: هذا من بني النجار ، وقد قرأ عليه فأعجبه ذلك ، فقال: ((تعلم كتاب (كتابة) يهود ، فإني ما آمنهم على كتابي ، فمضي لي نصف شهر حتى حذفته ، فكنت أكتب له إليهم ، وإذا كتبوا إليه قرأت له)) ، وفي حديث آخر ((عن زيد بن ثابت قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي أو ينقصوا ، فتعلم السريانية ، فتعلمتها في سبعة عشر يوماً))[19].

دوافع التعريب وعوامله:

هذه الحركة الضخمة للتعريب التي شهدتها الحضارة الإسلامية بدءاً من القرن الثاني الهجري إلى القرن الرابع ، ما دوافعها؟ وما عواملها؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في السطور التالية:

v    كان طبيعيّاً أن يعكف المسلمون في صدر الإسلام حتى القرن الثاني الهجري على نبع العقيدة الإسلامية وهو القرآن الكريم ، يتلونه ويحفظوه ويدرسونه ويستنبطون منه علوماً متعددة تزيدهم به وعياً واستهداء به إلى سواء الطريق.

فما أن بدأت الدولة الإسلامية ترسخ أقدامها وتثبت سلطانها وتعمق فهمها بكتاب الله عز وجل رأينا أهل البلدان المفتوحة من الروم والفرس يحببون إلى الخلفاء الاشتغال بعلوم الحضارات السابقة ، والتي أطلقوا عليها اسم (علوم الأوائل) أو (العلوم الدخيلة) ، وخصوصاً الطب والفلسفة ، والخلفاء لا يصغون ولا يقبلون ، وحكي أن ((ماسرجويه البصري)) من معاصري مروان بن الحكم كان عالماً في الطب ، وهو سرياني الجنس يهودي المذهب ، وكان في أيامه كتاب في الطب وهو كناش (حاوي) من أفضل الكنانيش ألفه القس أهرون بن أعين في اللغة السريانية فنقله ماسرجويه فحرضه بعضهم على إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به ، فاستخار الله في ذلك أربعين يوماً ثم أخرجه إلى الناس وبثه في أيديهم[20].

v    إن العهد الأموي كان عهداً بدويّاً – في الجملة – ظهرت فيه سيادة العرب على غيرهم من الأمم أوضح ظهور ، والعرب في ذلك العصر لم يتأصل فيهم ميل إلى فلسفة ، إنما كان يعجبهم الأدب العربي والتحدث بأيام العرب ، ولذة خلفائهم إنما هي في الإصغاء إلى قصيدة عربية ، والاستفسار عن لفظ غامض وما إلى ذلك ، فلما جاء العصر العباسي ، وأمعن المسلمون في الحضارة ، وسادت العناصر غير العربية ، رأوا أن حياة الحضارة لابد أن تستند إلى العلم ، فمالية الدولة تحتاج إلى حساب دقيق وعيشة الحضارة المركبة تحتاج إلى أدوية مركبة وعلاج مركب ، ومتى لجأ الناس إلى نوع أو نوعين من العلوم وأخذوا يعالجونه عن الأمم الأخرى ، دعاهم الشغف إلى تعرف ما عند الأمم المختلفة من العلوم جميعها ، ولو لم يكن لهم بها حاجة ماسة مباشرة[21].

v    كان العرب والعجم يعيشون جنباً إلى جنب ويختلطون بعضهم البعض ، وكانت بعض المساجد تخصص حلقات لتعليم الأعاجم الدين الإسلامي ، نستدل على ذلك من قصة موسى الأسوارى أحد علماء الدين الإسلامي المتوفى حوالي سنة 150هـ؛ حيث كان يجلس في المسجد فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره ، فيقرأ آية من القرآن ويفسرها للعرب بالعربية ، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية[22].

وكانت النتيجة الحتمية للاختلاط بين العرب والعجم أن بدأ العرب يرغبون في معرفة شيء من ثقافات الأمم الأخرى ، وكانت الأديرة من أهم المراكز الثقافية التي قصدها العرب للتعرف على ما فيها من ثقافة[23] ، حدث مالك بن دينار – المحدث عن نفسه – قائلاً: ((كنت مولعاً بالكتب ، أنظر بها ، فدخلت ديراً من الديارات ليالي الحجاج فأخرجوا كتاباً من كتبهم)). ومن أحد تلك الأديرة أفتى القس يعقوب الرهاوي بأنه يحل لرجال الدين النصارى أن يعلموا أولاد المسلمين التعليم الراقي؛ مما يدل على أن بعض المسلمين رغب في التعليم (العلم الراقي)[24].

ولم يقتصر الاختلاط مع الأمم الأخرى على ما كان داخل البلاد الإسلامية ، وإنما تعداه إلى الاتصال بالممالك الأخرى في ذلك العهد ، فقد كان لابد للمسلمين من أن يتصلوا دبلوماسيّاً على الأقل بالدول الأخرى ، فكانت السفارات مستمرة بين دمشق والقسطنطينية ، فهناكمثلاً بعثة الشعبي الذي أرسله عبدالملك بن مروان إلى ملك الروم ، وهناك سفارة بعث بها عمر بن عبدالعزيز[25].

v    ميل أفراد من الخلفاء في العصر العباسي إلى العلوم الفلسفية ، والحكام عادة أقدر الناس على الترغيب فيما أحبوا ، والناس أسرع ما يكونون إلى تحقيق أغراضهم والاهتمام بما اهتموا به ، وأكثر الخلفاء العباسيين ميلاً إلى ذلك كان المنصور والرشيد والمأمون. ويظهر أنه كان لكل منهم أسباب خاصة حملته على ذلك ، فالمنصور كان يشكو كثيراً من معدته ، ويظهر أن ذلك حمله على العناية بالطب والأطباء ، جاء في الطبري عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه أنه ان يقول: ((كان المنصور لا يستمر في طعامه ويشكو ذلك إلى المتطبين ، ويسألهم أن يتخذوا له الجوارشْنَات ، فكانوا يكرهون ذلك ويأمرونه أن يقلّ من الطعام ، ويخبرونه أن الجوارشنات تهضم في الحال ، ويحدث من العلة ما هو أشد منها عليه ، حتى قدم عليه طبيب من أطباء الهند ، فقال له ما قال غيره ، فكان يتخذه له سفوفاً جوارشنا يابساً فيه الأفاويه والأدوية الحارة ، فكان يأخذه فيهضم طعامه فأحمده))[26] ، وكذلك كان يعتقد في التنجيم فقرب إليه المنجمين ، والرشيد رباه البرامكة على حب العلم ، والمأمون رباه الرشيد والبرامكة ، وقد حذا حذو الخلفاء كثير من أفراد الشعب كبني موسى بن شاكر.

v    بدأ المسلمون في أواخر العصر الأموي يعقدون الحلقات والمجالس في المساجد الجامعة ويكثرون من المناقشة والمجادلة في القضاء والقدر ، وفيما إذا كان الإنسان مسيراً أو مخيراً ، فانقسموا إلى فئتين ، كل فئة تناصر أحد الرأيين؛ ولذلك احتاجوا في العصر العباسي إلى معرفة ما عند الأمم الأخرى مما يفيدهم في تلك المجادلات والمناظرات[27].

وأدى الجدل والمناظرات بين المسلمين واليهود والنصارى إلى أن يرى المسلمون أن اليهود والنصارى يجادلونهم بالفلسفة والمنطق اليونانيين فاضطروا إلى دراستهما لاتخاذهما وسيلة للدفاع عن الدين الإسلامي.

في أواخر مدة الدولة الأموية ثبتت سلطة الإسلام على جميع البلدان والأقطار التي دخلتها ألويته عنوة أو صلحاً أثناء الحروب المتواصلة والفتوح من أقصى بلاد ما وراء النهر في تركستان إلى منتهى المغرب والأندلس ، فعمت اللغة العربية أهل تلك الولايات والبلدان ، وغلبت على ألسنتهم الأصلية ، فأخذ المسلمون لهم من أي جنس أو ملة لا يستخدمون في الإنشاء والتأليف إلا لغة العرب ، فابتدأت وحدة الدين تستوجب أيضاً وحدة اللسان والحضارة والعمران ، فصار الفرس وأهل العراق والشام ومصر يدخلون علومهم القديمة في حضارة الإسلام[28].

يروي ابن النديم أن أحد الأسباب التي من أجلها تدافع المسلمون إلى تعريب علوم اليونان أن المأمون رأى في منامه كأن رجلاً أبيض اللون مشرباً حمرة ، واسع الجبهة ، أشهل العينين ، حسن الشمائل ، جالس على سريره. قال المأمون: وكأني بين يديه قد ملئت له هيبة ، فقلت: من أنت؟ قال: أنا أرسطوطاليس ، فسررت به ، وقلت: أيها الحكيم أسألك؟ قال: سل. قلت: ما الحسن؟ قال: ما حسن العقل ، قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم ما حسن في الشرع ، قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور ، قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم لا ، وفي رواية أخرى: قلت: زدني ، قال: من نصحك في الذهب ، فليكن عندك كالذهب ، وعليك بالتوحيد.

فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب ، فإن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات ، وقد استظهر عليه المأمون فكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة المدخرة ببلد الروم ، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع ، فأخرج المأمون لذلك جماعة ، منهم الحجاج بن مطر ، وابن البطريق ، وسلما صاحب بيت الحكمة وغيرهم فأخذوا مما وجدوا فاختاروا ، فما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل[29].

وقد قيل إن يوحنا بن ماسويه ممن نفذ إلى بلد الروم ، قال محمد بن اسحاق: ممن عني بإخراج الكتب من بلد الروم محمد وأحمد الحسن بنو شاكر المنجم ، وبذلوا الرغائب ، وأنفذوا حنين بن اسحاق وغيره إلى بلد الروم ، فجاءوهم بطرائف الكتب ، وغرائب المصنفات في الفلسفة والهندسة والموسيقى والأرثماطيقي والطب[30].

وحكى ابن أبي أصيبعة عن قصة منام المأمون: ((ولما رأى المأمون المنام الذي أخبره به أنه رأى في منامه كأن شيخاً بهي الشكل جالس على منبر وهو يخطب ويقول: ((أنا أرسطوطاليس ، انتبه (المأمون) من منامه وسأل عن أرسطوطاليس فقيل له: رجل حكيم من اليونانيين ، فأحضر حنين بن اسحاق؛ إذ لم يجد من يضاهيه في نقله وسأله نقل كتب الحكماء اليونانيين إلى اللغة العربية ، وبذل له من الأموال والعطايا شيئاً كثيراً))[31].

لكن أحمد أمين يسخر من مثل هذه الروايات وأمثالها ومعه حق في ذلك ، فإن مثل هذا لا يعقل أن يكون سبباً وإنما كانت للترجمة أسباب طبيعية هي تلك التي ذكرناها[32].

متغيرات مُمهدة:

تتطلب دراسة خبرة التعريب في الحضارة الإسلامية دراسة تاريخ التحول الثقافي الذي انتقلت بموجبه الفلسفة والعلوم اليونانية من المحيط الهيلليني إلى الجماعة الناطقة بالسريانية ، ومن ثم إلى العالم الإسلامي الناطق بالعربية ، وعن طريق هؤلاء انتقلت إلى العلماء اللاتين في أوربا الغربية. وهذا التحول الذي أخذ مجراه بالفعل ، معروف حتى من قبل المبتدئ في دراسة تاريخ العصر الوسيط ، أما كيف حدث هذا ، والمؤثرات التي دفعت إليه ، والتغير الذي حدث أثناءه فتبدو جميعاً وبوجه عام غير معروفة على نفس المستوى ، كما أن تفاصيل ذلك – المتناثرة في كتب مختلف الأنواع – لا تبدو سهلة المنال[33].

ويبدو أن الكثير من المؤرخين مقتنعون بالإشارة عرضاً إلى هذا الانتقال مع بعض الخلط التقويمي المستهجن في بعض الأحيان ، وهذا يبين أن المصادر المعتمدة هي كتاب العصر الوسيط الذين لم تكن لديهم معلومات ثابتة وتامة أبداً عن تطور الحياة الفكرية عند المسلمين.

والدارس لنتائج ما حدث من انشقاق ديني تمثل في الانشقاق (المونوفستي) والانشقاق (النسطوري) يستطيع أن يفهم سبب ترجمة تلك المادة الضخمة من الفلسفة اليونانية إلى السريانية ، وكانت الحركة النسطورية في الوقت ذاته هي السبب الفعال في صيرورة السريانية بالتدريج وسيلة لنقل الثقافة الهيلينية إلى أنحاء آسيا التي تقع خارج نطاق الإمبراطورية البيزنطية خلال القرون التي سبقت انتشار الإسلام مباشرة. ومن الواضح أن الفلاسفة الأرسطيين المتأخرين والأفلاطونيين المحدثين كانوا ذوي أهمية حيوية لكل من شغف بالجدل اللاهوتي في تلك الأيام ، وكان المنطق الأرسطي ذا أهمية مماثلة؛ حيث إن طريقة استعمال التعابير قد اعتمدت عليه. وبعد انفصال النساطرة والمونوفستيين عن الكنيسة اليونانية اتجهوا إلى استعمال لغة المسيحيين الدارجة؛ ولهذا فقد ترجمت مادة غزيرة من الفلسفة واللاهوت إلى السريانية ، وأقل منها إلى القبطية؛ ذلك أن المصريين لم يدعوا لمواجهة جدل كثير كإخوانهم في سورية[34].

وقد قام السريانيون بنشر الفلسفة اليونانية – وخاصة مذهب الأفلاطونية الحديثة – في العراق وما حوله ، وأخذوا ينقلون الكتب اليونانية إلى لغتهم السريانية ، وهي إحدى اللغات الآرامية – انتشرت فيما بين النهرين والبلاد المجاورة لها – وكان من أهم مراكزها ((الرُّها)) Edessa، و((نصيبين)) ، وفوق كل هذا كانت هي لغة الأدب والعلم لجميع كتاب النصرانية في إنطاكية وما حولها ، وللنصارى الخاضعين لدولة الفرس ، وأنشئت في هذه الأصقاع مدارس دينية متعددة كانت تُعَلَّم فيها اللغة السريانية واليونانية جميعاً في الرها ونصيبين وفي جنديسابور[35].

بل كانت اللغة السريانية أيضاً لغة الوثنية وآدابها ، وأشهر مراكز الوثنية السريانية مدينة ((حران)) – في جنوبي الرها – وقد ظلت هذه المدينة مركز الديانة الوثنية والثقافة اليوانية إلى ما بعد الإسلام ، فكانوا بعد الفتح الإسلامي يدرسون الرياضة والفلك والفلسفة على المذهب الأفلاطوني ، وهم الذين تسموا – بعد ذلك – في عصر المأمون وبعده بالصابئين ، وكان منهم كثيرون من المؤلفين ، ومن تولوا الترجمة بعد ذلك.

وكان هؤلاء السريانيون ينقلون العلوم اليونانية بدقة وأمانة فيما لم يمس الدين كالمنطق والطبيعة والرياضة ، أما الإلهيات ونحوها فكانت تُعَدَّلُ بما يتفق والمسيحية ، حتى لقد حولوا أفلاطون في كتاباتهم إلى راهب شرقي! وهذه هي الطريقة التي سلكها المسلمون فيما بعد ، ولم يقتصر السريانيون على الترجمة من اليونان بل ترجموا كذلك من الفهلوية ، فترجموا منها تاريخ الإسكندر ، فقد نقله الفرس عن اليونانية ، ثم نقله السريانيون من الفهلوية ، وكذلك ترجموا كليلة ودمنة إلى السريانية في القرن السادس الميلادي ، وقصة السندباد في القرن الثامن[36].

وقد عني الباحثون في اليونانيات والساميات منذ زمن بعيد بالكشف عن العصر الذي انتقلت فيه العلوم اليونانية إلى العرب ، وهو عصر غامض وممتع معاً ، ثم إنهم قد قدروا الدور الخطير الذي لعبه السريان وكتبهم الآرامية المترجمة إبان هذه الحركة ، فمنذ حوالي خمسين سنة قام (اشتيتسنيدر) في دراساته العديدة و(لوكلير) في كتابه عن تاريخ الطب عند العرب ، بجمع كل ما عرفه في هذا الباب في ذلك الحين ، ومن بعد ذلك عرض (بومشترك) و(أوليري) في إيجاز انتقال الفلسفة ، و(براون) انتقال الطب إلى العرب ، وكتب (كارادي فو) و(جراف) و(فرلاني) وآخرون غيرهم رسائل قيمة صغيرة عنيت أكثر ما عنيت بالكلام عن بداية الدراسات الفلسفية لدى العرب[37].

ومن المؤكد أن مدرسة الإسكندرية كانت لا تزال قائمة وقت أن فتح العرب مصر فكانت – تبعاً لهذا – المدرسة اليونانية البحتة الوحيدة في البلاد التي فتحها المسلمون في دفعتهم الأولى.

ومن المحتمل أنها لابد أن تكون قد قامت بدورها في نقل العلوم إلى العرب ، غير أن الدليل على طريقة الانتقال المباشر أعوز الباحثين حتى اليوم ، أو بعبارة أصح لم يسوقوه في وضوح وجلاء؛ ذلك لأن معرفتنا بحالة الحياة العقلية في الإسكندرية في القرن الخامس الميلادي ضئيلة تافهة على العموم ، وأوراق البردي التي عثر عليها في عشرات السنين الأخيرة لم تأت بشيء في هذا الصدد بعد أن أَمَّلَ المرء من وراء استغلالها الشيء الكثير ، فقد كشف لنا بطريقة لم تكن منتظرة مطلقاً عن التاريخ السياسي والاقتصادي والقانوني لمصر في العصر الهيلليني المتأخر وأوائل الإسلام ، لكن التاريخ العقلي لهذه الفترة ظل على غموضه المطبق الذي كان عليه من قبل.

وكل ما هنالك بضع وثائق في مجموعة ((كتب الآباء الشرقيين)) وما يشبهها ، تعطينا بعض إشارات إلى وجود أكاديميات ومدارس بالإسكندرية في القرن السادس الميلادي وإلى الحياة الدراسية الثقافية هناك[38].

وقبيل الفتح الإسلامي أصاب الدراسات العلمية في الإسكندرية بعض الانتعاش حيث وَجَدَ تُراث الإغريق الطبي من يرعاه مثل (آيتيوس) الأميدي الذي نبغ سنة 550م ، وبولس الأجنيطي الذي نبغ سنة 625م وأدرك فتح العرب لمصر سنة 641م ، وظهرت مبادئ جديدة لتدريس الطب مستندة إلى آراء جالينوس الرئيسية ، واشتهر في العلوم أناس آخرون أيضاً مثل يحيى النحوي واصطفن الإسكندراني فيلسوف بلاط هرقل[39].

وقد تأثرت الدراسات العلمية في العصر الأموي بعلماء من هذه المدرسة مثل أهرن وأدفر ، وفي عهد عمر بن عبدالعزيز انتقلت المدرسة إلى إنطاكية.

وإذا كان مايرهوف يرى أن سبب الانتقال من الإسكندرية إلى إنطاكية هو قرب هذه المدينة من الروم ، وبالتالي قربها من المخطوطات ، إلا أن هذا الرأي يؤخذ بتحفظ؛ وذلك أن رهبان الإسكندرية – وهم أهل التعليم في مدرستها – لم يكونوا مبهورين بمخطوطات اليونان كما حصل للعرب في العصر العباسي ، بل كانت عندهم هذه الكتب وشروحها وكتب غيرها.

ولو كان السبب هو الاقتراب من الروم بسبب المخطوطات لانتقلت المدرسة من زمن بعيد قبل الفتح الإسلامي ، وإنما السبب هو أن إنطاكية مركز ديني لم يسكنه العرب وظل نصرانيّاً بالكامل ، فقد كان هرقل آخر إمبراطور روحي قبل الفتح الإسلامي يسكن هذه المدينة ، وحين فتحها العرب أبقوها دون أن يحاولوا السكن فيها ؛ لأنها لم تكن ذات موقع استراتيجي على الجبهة ولا ذات حساسية وأهمية مثل دمشق والإسكندرية ، وقد كان الرهبان يبحثون عن مكان لا يزعجهم فيه الولاة المسلمون ؛ لأن التسامح المعروف عن الإسلام لم يطبق تماماً في عهد الأمويين ، على الرغم من أن شروط الفتح الإسلامي السماح ببقاء بذور الحضارات السابقة عند طوائف كبيرة من الأهالي الذين واصلوا التمتع بعاداتهم وقوانينهم ولغاتهم ، على شريطة أن يعطوا بانتظام قيم الجزية المفروضة على من لا يدخل في جماعة المسلمين[40].

ولم تتوثق أواصر العلاقات المتبادلة بين الفاتحين وأهل البلاد المفتوحة إلا في ظل العباسيين الأول ، كما أنه في نفس الوقت الذي أتيحت فيه حرية واسعة للأقطار ، كانت هناك حماية رسمية تشجع هذه العلاقات أيضاً. وهكذا وجدت الترجمات القديمة من اليونانية إلى السريانية تراجع وتصحح من جديد ، حتى بأمر أولي الشأن أنفسهم ، كما وجدت الترجمات الجديدة من السريانية إلى العربية تكمل حركة نقل العلم الغربي إلى الإسلام[41].

بدايات…

وهكذا تشير لنا الدراسات التاريخية إلى أمرين لهما علاقة كبيرة بالثقافة وحركة التعريب في بواكير الحضارة الإسلامية ، أولهما : كثرة الديارات التي أنشئت بعد انتشار المسيحية وبخاصة في العراق. وقد اتخذت فيها دور الكتب ، وصنفت فيها المصنفات المختلفة ، وكان العلماء الذين قاموا بتصنيفها يشتغلون بالانتساخ والترجمة من الأصول القديمة أو عن الأمم التي اقتبستها منها. وقد اشتملت مؤلفاتهم على الأمور الدينية والتاريخية والكيميائية والنجوم والأدب والفلسفة ، دونوها على الورق والرق بالآرامية والسريانية والعربية. ثانيهما: كثرة المدارس التي أنشئت في هذه البلاد ولا سيما في العراق الذي كان فيه يومئذ نحو خمسين مدرسة ، وقد كانت هذه المدارس عاملاً مهماً في نقل التراث القديم عن طريق الفرس وكذلك الإغريق[42].

وكان لسياسة التعريب التي اتخذها الأمويون والتي بدأها عبد الملك بن مروان أثرها البالغ في نشر العربية ، وشملت تعريب الدواوين ، والقراطيس ، وتعريب النقد وإصلاحه ، تناول تعريب النقد إلغاء آثار الصور والكتابات – فهلوية ويونانية – على النقود وإحلال كتابات عربية محلها ، ولشكل النقود أثر في تعزيز العربية والإسلام. ولم يقتصر الأمر على ذلك ، بل أعاد عبد الملك النظر في وزن النقود فجعل الدينار عشرين قيراطاً أو 4,25 جم (بدل 4,50جم) ، بينما جعل وزن الدرهم الفضي 2,98 جم (بدل 3,98 جم). ومثل هذا الإصلاح يتطلب أن تكون للدولة قوة اقتصادية كبيرة ليثبت. وقد نجح الإصلاح الجديد ، وكان له أثره في استقلال الخلافة اقتصاديّاً وفي ارتفاع شأن النقد العربي الإسلامي ليصبح عملة دولية في التجارة في الشرق والغرب[43].

ويهمنا في هذا المجال تعريب الدواوين المالية التي كانت تستعمل الفهلوية في المشرق واليونانية (مع القبطية) في مصر والمغرب لتحتل العربية محلها. وتعريب الدواوين يعني إغناء العربية بمصطلحات جديدة ، كما يعني دفع المثقفين من غير العرب إلى إتقان العربية للعمل في الدواوين ، وبالتالي دخولهم في خط التعريب. وهكذا أصبحت العربية لغة الثقافة والإدارة بصورة شاملة وللجميع في بلاد الخلافة.

وقد اختلف المؤرخون المعاصرون حول أول ترجمة تمت في العصر الأموي ، فصار كل واحد منهم يدلي برأي مختلف؛ وذلك لأن الثقافة والعلوم في ذلك العصر لم تؤرخ كما يلزم ، فنجد مثلاً (نللينو) يرى أن أول كتاب ترجم إلى العربية تمت ترجمته سنة 125هـ ، أي في أواخر العهد الأموي الذي كانت مدته من سنة 40 – 132هـ[44].

وبعض المؤرخين ينقل مباشرة ما رواه ابن النديم من أن أول ترجمة تمت على يد خالد بن يزيد بن معاوية حوالي سنة 80هـ[45] ، و((فيليب حتى)) يرى أن أول كتاب طبي علمي بلغة الإسلام كان ترجمة ماسرجويه قبيل عهد عمر بن عبد العزيز حوالي سنة 50هـ أو ما حولها.

ويرى لطف الله قاري أن أول ترجمة في العهد الأموي تمت على يد معاوية بن أبي سفيان الذي توفى سنة 60هـ[46].

فقد كان معاوية مغرماً بالاطلاع على سير الملوك وسياساتهم. وقد استقدم عبيد بن شرية الجرهمي أحد رواة اليمن ، وأمر أن تدون رواياته في كتاب طبع في عصرنا. ولم يقتصر اطلاع معاوية على المصادر العربية ، وإنما ترجمت له كتب أخرى كما يدل كلام المسعودي الذي تحدث عن برنامجه الخاص كل ليلة قائلاً:((ثم يدخل فينام ثلث الليل ، ثم يقوم فيقعد ، فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها والحروب والمكائد ، فيقرأ ذلك على غلمان له مرتبون ، وقد وكلوا بحفظها وقراءتها فتمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات))[47].

وقد رجح جرجي زيدان أن تلك الكتب كانت باللغتين اللاتينية واليونانية ، وأن العلماء كانوا يفسرونها له بالعربية. ويعتقد (قاري) أن عملية قراءة الكتب باليونانية أو (اللاتينية) ، ثم ترجمتها ترجمة فورية إلى العربية عملية مملة وشاقة في نفس الوقت ، وإنما الغالب هو أن الكتب قد ترجمت سلفاً إلى العربية فتقرأ له[48].

وخالد بن يزيد بن معاوية المتوفي سنة 85هـ[49] ، الذي يشيع لدى غالبية المؤرخين القول بأنه أول من ترجم ، هو حفيد معاوية الأكبر ويسمونه الحكيم ، وكان طامعاً في الخلافة بعد وفاة أخيه معاوية الثاني ، فغلبه على ذلك مروان ابن الحكم وانتقلت الخلافة من بيت أبي سفيان إلى بيت مروان ، فلما يئس خالد من الخلافة وهو ذو مطامع وذكاء ، انصرف ذهنه إلى اكتساب العلا بالعلم ، وكانت صناعة الكيمياء رائجة يومئذ في مدرسة الإسكندرية ، فاستقدم جماعة منهم راهب رومي اسمه مريانوس ، طلب إليه أن يعلمه صناعة الكيمياء ، فلما تعلمها أمر بنقلها إلى العربية فنقلها له رجل اسمه اسطفان القديم.

وكان خالد راغباً في علم النجوم أيضاً ، وأنفق الأموال في طلبه واستحضار آلاته ، ولعلهم ترجموا له شيئاً منه لم يصلنا خبره[50].

لقد كانت أولى دلائل التكيف الجديد في الفكر الإسلامي هو الإنتاج المتزايد في ترجمة الكتب التي تعالج الموضوعات الفلسفية والعلمية إلى العربية ، وكانت حصيلة ثمانين عاماً بعد سقوط الأمويين امتلاك العالم الناطق بالعربية نسخاً عربية لأكثر كتب أرسطو وكبار شراح الأفلاطونية المحدثة وبعض آثار أفلاطون ، والقسم الأعظم من أعمال جالينوس ، ومؤلفات أخرى في الطب وشروحها ، وكذلك بعض الكتب اليونانية العلمية الأخرى وكتباً هندية وفارسية عديدة[51].

وهكذا يتبين استفادة العرب من السريان؛ إذ ان ما قاموا به من ترجمة آلت فائدته إلى العلم عند العرب والفرس. والذين اشتغلوا بنقل كتب اليونان إلى العربية فيما بين القرنين الثامن والعاشر الميلادي ، يكادون يكونون جميعاً من السريان ، ونقلوا ما نقلوه (العرب) إما عن التراجم السريانية أو عن تراجم أصلحوها هم ، أو قاموا بها من جديد. وهذا الجانب المتعلق بكيفية انتقال التراث اليوناني للمسلمين ، نعني:

بداية الحركة الرسمية للنقل والترجمة من المراكز الخارجية ، قد جعل الباحثين يقررون – إلى مدة ليست ببعيدة – أن الإسلام لم يعرف الفلسفة اليونانية إلا حين بدأت تلك الحركة الرسمية في عهد المنصور العباسي ، وبلغت ذروتها أيام المأمون ، وأن اتصال الفلسفة اليونانية بالإسلام إنما تم حين استحضرت كتب الفلسفة اليونانية من الخارج (من بيزنطة مثلاً) وبخاصة أن العرب تخلصوا من مكتبة الإسكندرية ، حين أمر الخليفة عمر بن الخطاب قائده عمرو بن العاص بحرق مكتبة الإسكندرية ، ولكن الأبحاث الحديثة أثبتت بصورة قاطعة أن مراكز البحث الفلسفي كانت منتشرة في العالم القديم الذي فتحه المسلمون ، وأن هذه المراكز لم يتوقف عملها العلمي. كما أثبت البحث العلمي – أيضاً – كذب قصة حرق مكتبة الإسكندرية ، وتهافت تلك القصة التي استند إليها بعض مؤرخي العرب بغير تحفظ وبدون تمحيص علمي أو تثبت تاريخي[52].

ويمكننا أن نذكر أن الترجمة إلى العربية قد مرت بالأدوار التالية[53]:

        ‌أ-          الدور الأول في خلافة الأمويين: فقد بدأ العرب – كما رأينا – في تاريخ خلافة الأمويين يأخذون بالتدريج ما عند الأمم الأخرى شفاهاً وبصورة مجملة أول الأمر ، ثم بالترجمة المنظمة التي قام بها خالد بن يزيد ، وممن عني بهذا الأمر عمر بن عبدالعزيز أيضاً.

     ‌ب-       الدور الثاني من خلافة المنصور سنة 136هـ (753م) إلى نهاية خلافة الأمين سنة 198هـ (818م) ، ويتميز هذا الدور بترجمة العلوم العلمية كالطب والفلكفي عهد الرشيد ترجمة منظمة على أيدي علماء من العرب والفرس والسريان والهنود. أما في عهد الأمين فيظهر أن الخلاف بينه وبين أخيه المأمون والحروب التي دارت بينهما ومقتل الأمين وافتتاح جيوش المأمون لبغداد قد أثر ذلك كله في حركة الترجمة.

      ‌ج-        الدور الثالث من سنة 198هـ (823م) إلى سنة 300هـ (912م) ويتميز بترجمة الرياضيات ، والفلسفة ، والمنطق ، والقيام بالتأليف والتعليق والتلخيص.

       ‌د-         الدور الرابع بعد سنة 300هـ (912م) ويتميز بترجمة الكتب في مختلف العلوم حتى في الآداب التي نقلت في الغالب من أدب الفرس لقيام بعض رجالهم وبخاصة الشعوبية والزنادقة منهم بمباراة العرب ومنافستهم ، وبنشر أمجادهم وآدابهم التي قضى عليها الإسلام ، مثل تاريخ ملوك الفرس ، وآيين نامه (أي نظم الفرس وتقاليدهم وأعرافهم) وكتاب أفستا وكتاب مزدك ، وهزار فسانه ….إلخ[54].

مراكز التعريب:

يقتضينا الحديث عن أهم المراكز الثقافية التي كان لها دورها في التعريب في الحضارة الإسلامية أن نبدأ المسألة بالإشارة إلى عدد من المراكز البارزة وما جاورها مما كان يقع في بلاد الفرس:

v    الإسكندرية: يقسم مؤرخو هذه المدرسة تاريخها إلى عصرين:

الأول ، من قيام دولة البطالمة إلى غلبة الرومان (أي من سنة 306 ق.م – 30م) ، وقد عدت الإسكندرية في هذا العصر في مقدمة بلاد العالم في الآداب والعلوم.

والثاني ، من سنة 30م – 642م ، وهي سنة فتح العرب للإسكندرية ، ويمتاز هذا العصر بالمذهب الفلسفي الأفلاطوني الحديث, وكانت المدرسة في عصريها متصلة بالعالم الذي حولها تمده بنورها[55].

وعلى العموم عنيت مدرسة الإسكندرية بالبحوث التي فيها الدقة والتحديد ، كالبحوث الرياضية ، والطبيعية ، بدلاً من ميتافيزيقا الأفلاطونية الحديثة. ومع إهمالها الميتافيزيقا نوعاً ما ، أهملت أيضاً الفكرة الدينية القديمة وهي فكرة تعدد الآلهة في الديانات الشعبية الوثنية ، وبإهمالها الأمرين استطاعت أن توجد الصلة الأفلاطونية الحديثة أو على التحديد ما بقي منها من جهة ، والمسيحية من جهة أخرى ، وبالتدريج وبمرور الزمن على إهمال بحث ما بعد الطبيعة تحولت مدرسة الإسكندرية الفلسفية هذه إلى معهد للتثقيف في فلسفة الطبيعة والرياضة فقط[56].

وإذا كان بعض الباحثين يرون أنه من الصعب ، بل قد يكون من غير الممكن أن نفترض وجود مدرسة فلسفية عامة في العهد السابقعلى فتح العرب لمصر؛ لأن التعصب الديني منذ ذلك الحين قد اشتدت وطأته فجعل الحياة صعبة بالنسبة للمعلمين والطلاب الوثنيين ، حيث يجيء هذا الرأي تأييداً لآخر يذهب إلى أنه من الصعب افتراض وجود مكتبة كبيرة عامة حقّاً في الإسكندرية بعد نهاية القرن الرابع الميلادي ، نقول: على الرغم من هذا فمن الممكن القول بأن الإسكندرية شهدت استمراراً في عدد من المدارس والمكتبات الخاصة[57].

ومع ذلك فيجب الاعتراف بأن الأخبار التاريخية الخاصة بعصر ما قبل الإسلام لا تحدثنا عن مدرسة الإسكندرية في عصرها المتأخر ، بيد أن نشاطها الإيجابي يظهر في تكوين تلاميذ مشهورين ، فإلى جانب فلاسفة مثل (اصطفن الإسكندراني) – فيلسوف بلاط الإمبراطور هرقل ، وأشهر المعلمين في الإسكندرية ، تخرج في مدرسة الإسكندرية – الفيلسوف النصراني يوحنا الأفامي ، والطبيب الفيلسوف سرجيوس الرأس عيني ، والطبيب إيتيوس Aetiosالآمدي. وفي أوائل القرن السابع الميلادي كان هناك من الأطباء بولس الأجانيطي وأهرن ، وكان لكتب هؤلاء تأثير خطير في دراسات العرب الأولى[58].

ويرجح (ليكليرك) في كتابه (تاريخ الطب العربي) أن عملية استيعاب العلم اليوناني بدأت عند فتح العرب مصر ، وهو يحدد دوراً مهمّاً في هذه العملية لشخص يسمى يحيى النحوي كانت له حظوة كبرى عند عمرو بن العاص ، ويقول: إنه هو يحيى فيلوبونس شارح أرسطو[59] ، ويحيى النحوي ، هو الذي نجد أوفى ما كتب عنه لدى القنطي[60] ، لكن هناك جدلاً حول زمن هذا الشخص.

وقد اتصل المسلمون بمدرسة الإسكندرية في العهد الأموي ، فنرى خالد بن يزيد بن معاوية يترجم (اصطفن) له بعض الكتب ، ويلقبه القفطي (اصطفن الإسكندراني) ، ونرى ابن أبحر – وهو طبيب سكندري – يُسْلِم على يد عمر بن عبدالعزيز ويصحبه ، ويستطبه عمر ، ويعتمد عليه في صناعة الطب.

وفي العصر العباسي نرى ذكراً لبعض تلاميذ المدرسة الإسكندرانية ، فابن أبي أصيبعة يروي أن ((بليطيان)) كان طبيباً نصرانيّاً مشهوراً بديار مصر ، وكان بطريركاً على الإسكندرية في أيام المنصور ، فلما ولي الرشيد مرضت له جارية مصرية ، فطلب لها طبيباً مصرياً؛ لأنه أبصر بعلاجها ، فأُرْسِلَ له ((بليطيان)) ، وبعده كان سعيد بن توفيل طبيب أحمد بن طولون …. وهكذا[61].

v    جنديســابور: مدينة خوزستان ، أنشأها سابور الأول ، وأسكنها سبي الروم ، واشتهرت بمدرستها الطبية التي أنشأها كسرى الأول؛ حيث كانت تدرس فيها علوم اليونان المتأخرين باللغة الآرامية ، وقد بقيت هذه المدرسة حتى العهد العباسي[62] ، وتدين جنديسابور بشهرتها في معظمها إلى أهميتها من حيث هي مركز ثقافي له أثره في نهضة النشاط العلمي والعقلي في الإسلام ، وقد زاد في هذه الشهرة ارتباطها الوثيق بفرع دنيوي من فروع العلم هو الطب ، وكونها أبرز ممثلي الطب الإغريقي ، وكان ثمة مدرسة طبية في جنديسابور مرتبطة – فيما يرجح – أوثق الارتباط بالمستشفى الذي أنشأه كسرى فيها ، ويظهر أن الأثر المنتظم لجنديسابور في الطب العربي قد بدأ في عهد هارو الرشيد ، حين أخذ أطباء جنديسابور يقيمون في بغداد. والقريب إلى الاحتمال أن التعليم الطبي في جنديسابور كان على غرار التعليم في الإسكندرية وإنطاكية ، ولكنه أصبح أكثر تخصصاً وكفاية في هذا الوطن الفارسي الجديد ، وإذا صرفنا النظر عن أثر جنديسابور من حيث هي مركز طبي ، فإنا نستطيع أن نعدها بصفة أعم مكاناً انتقل منه التراث النسطوري للمعرفة الإغريقية في الرها ونصيبين إلى بغداد[63].

ويؤكد براون أن مدرسة جنديسابور كانت عند مولد النبي صلى الله عليه وسلم في أوج عظمتها ، فهناك التقت العلوم اليونانية والشرقية ، أما العلوم اليونانية فنقل جزء منها مباشرة عن طريق العلماء اليونانيين ، ولكن نقل معظمها يرجع إلى السوريين ذوي الجلد القادرين على الاستيعاب ، والذين عوضوا ما ينقصهم بالكد والمثابرة.

وكان سرجيوس رأس العين الذي ازدهر قبل ذلك التاريخ بقليل أحد هؤلاء الذين ترجموا أبوقراط وجالينوس إلى السريانية ، ولم يبق الكثير من هذه الترجمات الطبية السريانية الوسيطة ، التي نقل منها الكثير إن لميكن معظم الترجمات العربية في القرنين الثامن والتاسع[64].

ولكن الترجمة الفرنسية للترجمة السريانية لأقوال أبوقراط المأثورة التي حررها وطبعها م.هـ. بونيون M.H.Pognonوكذلك كتاب الطب السرياني للدكتور (بدج) W.Budgeيساعدنا على تكوين فكرة عن نوع هذه الترجمات وقيمتها ، ولا شك أن آسيا مدينة بالكثير للسوريين ، أيّاً كانت نقائصهم ، وهي مدينة للنسطوريين بصفة خاصة[65].

v    حران: مدينة قديمة جدّاً في أرض الجزيرة قر منابع نهر البليخ بين الرها ورأس عين ، وقد عرفها اليونان باسم كرّان ، والرومان باسم كارباي ، وبعض آباء الكنيسة باسم هيلينوبوليس (أي المدينة الوثنية) ، أما المسلمون فقد سموها (حران) وتتبع حران الآن تركيا[66] ، ويذكر ابن أبي أصيبعة أن الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز نقل مدرسة للطب من الإسكندرية إلى حران.

وكان لحران شأن مهم في الميدان الثقافي في العصر العباسي الأول؛ ذلك أنها كانت مئل مدرسة من أهم مدارس النقلة[67].

وسوف نشير فيما بعد إلى أهم المترجمين إلى العربية ممن كانوا في حران.

v    إنطاكية: كانت إنطاكية بمثابة حلقة الاتصال بين العالم القديم والعالم الحديث ، لذلك كانت مركز التقاء الحضارتين: الإغريقية ، والشرقية ، وإنها كانت تزخر بالإغريق المستشرقين ، والشرقيين المتأغرقين من جميع الطبقات ، وعلى مختلف درجات التعليم ، فقد أصبحت تشتمل على المذاهب الدينية التي زخرت بها المنطقة ، سواء أكانت إغريقية أم غير إغريقية. كذلك شهدت التغيرات التي عرفت بها الحقبة الأخيرة من العصر الهيلليني حينما كانت المذاهب الدينية والفلسفية القديمة آخذة في التحول إلى معتقدات فردية تبعاً لانصراف الناس إلى التماس العزاء الديني عن مشاكلهم ومطامعهم الشخصية[68].

وقد نقل عن الفارابي قوله[69]: ((انتقل التعليم (بعد ظهور الإسلام) من الإسكندرية إلى إنطاكية ، وبقى بها زمناً طويلاً ، إلى أن بقى معلم واحد ، فتعلم منه رجلان ، وخرجا ومعهما الكتب ، فكان أحدهما من أهل حران ، والآخر من أهل مرو ، فأما الذي من أهل مرو ، فتعلم منه رجلان: أحدهما إبراهيم المروزي ، والآخر يوحنا بن حيلان ، وتعلم من الحراني إسرائيل الأسقف وقويري. وسارا إلى بغداد فتشاغل إسرائيل (في الأصل إبراهيم) بالدين ، وأخذ قويري في التعليم. أما يوحنا بن حيلان فإنه تشاغل أيضاً بدينه ، وانحدر إبراهيم المروزي إلى بغداد فأقام بها …)).

ويشير مايرهوف إلى أنه لا يفهم لماذا أصبحت إنطاكية الموطن الجديد للمدرسة. نعم كانت هذه المدينة مركزاً للثقافة العلمية اليونانية ، إلا أنها عانت الكثير من الأحداث في القرون الأخيرة قبل أن يفتحها العرب (سنة 17هـ = 638م): فقد خربها غزو الفرس وخربتها الزلازل؛ ونظراً لوقوعها على الحدود القلقة بين الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية العربية ، بقيت في العصر الإسلامي موضع نزاع مستمر بين العرب واليونانيين. ومع هذا فيرى مايرهوف أنه من الممكن أن تكون قد اختيرت لأن هذا الموقع نفسه قد جعل من السهل إحضار المخطوطات اليونانية من آسيا الصغرى؛ لأن حركة التبادل كانت نشيطة دائماً على الحدود في الفترات الخالية من الحروب ، وكان القوم يجدّون في البحث عن أمثال هذه المخطوطات ، وذلك من أجل إيجاد مكتبة أو من أجل إكمال المكتبات القائمة من قبل. ومن المؤكد أن العناية في المدرسة الحديثة اتجهت إلى الترجمة إلى السريانية[70].

v    مدرسة نصيبين: في مدينة نصيبين الواقعة بين حدود دولتي الروم والفرس نشأت مدرسة دينية أنشأها الأسقف يعقوب كبير النصارى في ذلك الوقت (سنة 320م) ، فكانت في مبدأ أمرها تدرس الفلسفة الإغريقية بين النصارى الذين يتكلمون بالسريانية ، فكانت الكتب الإغريقية تترجم في تلك المدرسة[71].

وقد عين يعقوب لتلك المدرسة مديراً اسمه إبراهيم من شيوخ الكنيسة ، وعمل إبراهيم بإخلاص في سبيل رفع مستوى المدرسة ، واكتسب شهرة عظيمة ، وظل فترة تقارب ستين عاماً يرأس هذه المدرسة ، إلى أن كانت سنة 363م حين سلم الروم هذه المدينة إلى الفرس بموجب معاهدة صلح ، ففر النصارى اليعاقبة إلى الروم؛ لأن إبراهيم كان من أبطال الدفاع عن المدينة ، فلجأ إلى الرها حيث أس مدرسة يعقوبية سنة 373م.

وقد امتد نفوذ هذه المدرسة من شواطئ المتوسط إلى داخل البلاد ، وكان لها في هذه الفترة كثير من الأديرة في الداخل كانت معتادة على استعمال السريانية دون الإغريقية؛ ولذلك كان التدريس في نصيبين يجري بالسريانية بسبب أولئك الذين كانوا يقطنون الأديرة. وهكذا بدأت ترجمة الكتب اللاهوتية التي كانت تدرس في إنطاكية إلى السريانية ، هذا فضلاً عما أشرنا إليه من تدريس الإغريقية كي يتسنى للنصارى الناطقين بالسريانية أن يطلعوا عن كثب على حياة الكنيسة بإسهاب[72].

v    الرها: تعتبر هذه المدرسة المسيحية بعثاً لمدرسة نصيبين ، وفي أول أمرها كانت جماعة ليست لها صفة رسمية ، وكذلك ليست لها سند قانوني أو رسمي مثل مدرستي نصيبين وإنطاكية[73]إلا أن الإمبراطور زينو أغلقها عام 4339 بسبب طابعها النسطوري القوي ، فقاد برصوما – أحد تلاميذ إيباس Ibas(المتوفى سنة 457م) ، والذي كان أحد كبار الأساتذة البارزين في الرها – أعضاء المدرسة المطرودين ، واجتازوا الحدود الفارسية. واستطاع برصوما أن يقنع الملك الفارسي فيروز بأن الكنيسة الأرثوذوكسية – أو بكلمة أخرى: الرسمية ، موالية لليونان ، وأن النساطرة بعيدون عن الإمبراطورية البيزنطية بسبب المعاملة القاسية التي تلقوها فيها ، فاستقبلوا استقبالاً حاراً نتيجة لهذا الفهم ، وبقوا موالين للدولة الفارسية أثناء الحروب التي تلت مع الإمبراطورية البيزنطية ولقد أعاد النساطرة فتح المدرسة في نصيبين ، فأصبحت هذه بؤرة النشاط النسطوري الذي جاء بوجه شرقي للمسيحية ، وانتشرت البعثات النسطورية بالتدريج في اواسط آسيا والجزيرة العربية[74].

ومن الملاحظ أن معظم هذه المدارس كانت ذات طابع ديني ، وكانت القضية المسيطرة عليها هي قضية طبيعة المسيح ، والرأي حول طبيعة المسيح لم يكن واحداً ، وكان رؤساؤها أساقفة مسيحيين ، منشقين بعضهم على بعض ، فحملت هذه المدارس طابع الانشقاق.

وغني عن البيان تبيان الجهد الذي بذلته الجماعة الناطقة بالسريانية في دراسة المنطق والميتافيزيقا الأرسطوطوليسيين والاهتمام الذي أعاروه للدراسات الطبية والعلمية ، وليست هذه صورة مشرفة أو عبقرية للنشاط الثقافي؛ ذلك أن القسم الأكبر من هذا النشاط كان عبارة عن نقل النصوص التي وصلت إليهم وإعداد ترجمات جديدة لها ، وتعليقات عليها ، ورسائل توضيحية لأغراضها ، ولكن هذا أدى مهمة خطيرة ، ولم يغير الفتح الإسلامي شيئاً في مجرى هذه الدراسات ، فالأمويون لم يتدخلوا في شئون هذه المدارس ، كما أن الطلاب السريان مضوا في طرقهم الخاصة يعيشون حياة بعيدة تماماً عن حياة حكامهم العرب[75].

المترجمون إلى العربية:

من أوائل ما ترجم إلى العربية (ماسرجيس) الذي ترجم كتاباً لأهرن الطبيب من السريانية[76] وهو كناش (أي مجموعة مقالات مختلفة) في الطب ، وكان عدد مقالاته ثلاثين ، وزاد عليها ماسرجيس مقالتين. وكان أهرن من الأطباء الذين عاشوا في عهد هرقل (610 – 641م) وفي صدر الإسلام ، ووضع كتابه باليونانية ، ثم نقله إلى السريانية[77] ، وكان ذلك في أوائل عهد الدولة الأموية ، وظلت ترجمة الكتاب محفوظة في خزانة القصر لدى بني أمية حتى تولى عمر بن عبدالعزيز فنشره بين الناس[78] ، ويبدو أن هناك شخصين أحدهما (ماسرجيس) والآخر (ماسرجويه) الذي عاش في العصر العباسي وكان مشهوراً في زمانه ، وكان أستاذاً للرازي ومن أجل هذا نجد بعض الاضطراب في روايات عن ماسرجيس أو ماسرجويه[79].

كذلك ترتبط أولى آثار الترجمة بعبدالله بن المقفع ، أحد الموالي الفرس وكا زرادشتيّاً في الأصل ، غير أنه أعلن إسلامه أمام عيسى بن علي عم السفاح والمنصور ، وأصبح كاتباً له ، وقد قتل بأمر الخليفة المنصور سنة 142 أو 143هـ[80]. وعلى الرغم من أن ابن المقفع كان متقيداً بالإسلام ، إلا أنه كان يعتبر بشكل عام (زنديقاً) ، اسمه الأصلي ((روزبه بن داذويه)).

كان واسع الاطلاع ، مضطلع باللسانين العربي والفارسي ، نقل خير ما رأى باللغة الفهلوية إلى اللسان العربي ، وهو غزير المعاني إذا كتب ، يمعن في اختيار المعنى ، ثم يمعن في اختيار اللفظ له.

ومن أشهر المترجمين إلى العربية حنين بن إسحاق العبادي ، المتوفى سنة 264هـ (873م) أو في (877) على رواية أخرى. وهو عربي من اهل الحيرة ، وكان أبوه نسطوريّاً ، وقد درس على يحيى بن ماسويه في جنديسابور وأصبح صيدليّاً عنده ، وتعلم اللغة الإغريقية واستقر في البصرة وتعلم العربية فيها ثم توجه إلى بغداد ، ورعاه أبناء موسى بن شاكر الثلاثة: محمد وأحمد والحسن ، وهم من رعاة الحركة العلمية ببغداد ، وقدموه إلى الخليفة المأمون. ولما كان المأمون يهتم ببيت الحكمة ببغداد ويعنى بترجمة كتب الإغريق إلى العربية فقد جعل حنين بن إسحاق على رأس هذا المعهد ، وكان المأمون يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربية مثلاً بمثل وكانت الترجمة بالعربية والسريانية. وتمكن حنين من أن يأتي بأصدقائه الأطباء في مدرسة جنديسابور إلى بغداد وعنوا بدراسة العربية ، وكانت الترجمات تتم من مخطوطات إغريقية استحضر وكلاء الخليفة أكثرها من الإمبراطورية الرومانية بعد أن أنفقوا الأموال الطائلة لشرائها ، وجعل له المتوكل كُتَّاباً متميزين عالمين بالترجمة ، كانوا يترجمون ويتصفح ما ترجموا ، وكان عالماً بالعربية والسريانية والفارسية[81].

والذي لا شك فيه أن الأتباع الذين عملوا مع حنين بن اسحاق في (بيت الحكمة) شكلوا مدرسة ذات طابع مميز. والمدرسة هنا نشأت داخل العمل الذي ترأسه حنين والذي انبثق عن الدولة أصلاً ، وربما جاءت الإشارات التي أوردتها الكتابات المختلة لتؤكد أن قوام التلاميذ الذين التفوا حول الأستاذ وعملوا معه يتراوح عددهم بين التسعين والمائة. ويمكننا أن نحصل من بين الكتابات المختلفة والمتناثرة هنا وهناك على قائمة غير كاملة بعدد هؤلاء التلاميذ ، لكن الذي لا يدانيه شك أن كتب التراث حفظت لنا أسماء بعض هؤلاء الأعلام ، وأشارت إلى أعمالهم ، بل لدينا في كثير من الحالات مخطوطات ومؤلفات ترجمها ودونها هؤلاء الأتباع[82].

وبز في الترجمة كذلك ابنه (إسحاق بن حنين) المتوفي سنة 298هـ ، نقل من الكتب المهمة مثلما فعل أبوه ، واشتغل بالفلسفة والطب. قال عنه ابن النديم: ((أبو يعقوب إسحاق بن حنين ، يجاري أباه في الفضل وصحة النقل من اللغة اليونانية والسريانية إلى العربية ، وكان فصيحاً بالعربية ، يزيد عن أبيه في ذلك ، وخدم من خدم أبوه من الخلفاء والرؤساء))[83].

أما ابن أبي أصيبعة فكتب عنه يقول[84]: إنه ((كان يلحق أبيه في النقل وفي معرفته باللغات ، وفصاحته فيها ، إلا أن نقله للكتب الطبية قليل جداً بالنسبة إلى ما يوجد من كثرة نقله من كتب أرسطوطاليس في الحكمة وشروحها إلى لغة العرب)).

وبرز في مدرسة حنين بن إسحاق ، ابن أخته حبيش الذي أعد ترجمات عربية لكتب إقليدس ، ولأجزاء عربية لكتب إقليدس ، ولأجزاء عدة مما ألفه جالينوس وأبقراط وأرشميدس وأبولونيوس وغيرهم ، كما نقل إلى العربية (القوانين) و(الجمهورية) وطيماوس لأفلاطون ، والطبيعة والمقولات والأخلاق الكبير لأرسطو وشروح ثامسطيوس على الكتاب الثلاثين من الميتافيزيقا ، كما عمل ترجمة عربية للتوراة… إلى غير ذلك من مترجمات[85].

أما النقلة من السريان ، فأولهم جورجيس بن جبرائيل ، كانت له خبرة بصناعة الطب ، ومعرفة المداواة وأنواع العلاج ، وخدم بصناعة الطب عند المنصور ، وكان حظيّاً عنده ، رفيع المنزلة ، ونال من جهته أموالاً جزيلة ، وقد نقل للمنصور كتباً كثيرة من كتب اليونانيين إلى العربية[86] ، وكانت وفاته سنة 152هـ.

وهناك ابنه بختيشوع ، ومعنى بختيشوع: عبدالمسيح؛ لأنه في اللغة السريانية البخت: العبد ، ويشوع: عيسى عليه السلام ، وكان بختيشوع يلحق بأبيه في معرفته بصناعة الطب ومزاولته لأعماله ، وخدم هارون الرشيد وتميز في أيامه[87].

وخلفه ابنه جبريل ، وكان أيضاً حظيّاً عند الخلفاء ونال جوائزهم وعطاياهم ، ثم جاء ابنه بختيشوع بن جبريل ، وقد بلغ من عظم المنزلة والحال وكثرة المال ما لم يبلغه أحد من أطباء عصره ، ومنهم جبريل بن عبدالله بن بختيشوع خدم المقتدر العباسي ، وخلفه عبيدالله بن جبريل.

فهؤلاء الستة من آل بختيشوع ، كلهم من مهرة الأطباء ، ولم يعن بالترجمة منهم إلا جورجيس الأول[88].

وكان قسطاً بن لوقا البعلبكي ، من نصارى الشام ، وكان طبيباً حاذقاً وفيلسوفاً نبيلاً ، رحل إلى بلاد الروم في طلب العلم ، وكان عالماً باللغات اليونانية والسريانية والعربية ونقل كتباً كثيرة من اليونانية إلى العربية ، وكان جيد النقل وأصلح نقولاً كثيرة وألف رسائل عديدة في الطب وكان جيد العبارة جيد القريحة[89].

وهناك آل ثابت ، وأولهم ثابت بن قرة الحراني ، وكان من الصابئة المقيمين في حران ، وكان صيرفياًّ ثم تعلم الطب والفلسفة والنجوم ، وكان مع ذلك يعرف اللغة السريانية جيداً ، وكان جيد النقل إلى العربية ، وله تصانيف كثيرة في الرياضيات والطب والمنطق ، وله في السريانية كتاب في مذهب الصابئة ، وكان في خدمة المعتضد العباسي ، وبلغ عنده أجلّ المراتب ، يليه ابنه سنان بن ثابت ، وكان مقدماً عند القاهر بالله ، وله تصانيف كثيرة[90].

وكان غير هؤلاء:

v    يوحنا بن ماسويه المتوفي سنة 243هـ ، وكان يترجم للرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل ، وقيل: إنه أرسل إلى ملك الروم لجلب المخطوطات.

v    سلْم:صاحب بيت الحكمة ، أرسله المأمون إلى ملك الروم لجلب المخطوطات ونقلها إلى بغداد ، وكان ينقل معه سهل بن هارون (المتوفي سنة 215هـ) من الفارسية إلى العربية[91].

v    يوحنا بن البطريق ، أرسله المأمون إلى ملك الروم لجلب المخطوطات ، وكان ينقل من اليونانية.

v    سعيد بن هارون الكاتب ، كان شريكاً لسهل بن هارون في بيت الحكمة ، وكان يقوم بترجمة الفلسفة ، وكان من الفصحاء البلغاء بالعربية.

v    عمر بن الفرّخان الطبرى ، كان أحد رؤساء الترجمة ، ومن المؤلفين الكبار[92].

v    أبو حسان ، صاحب بيت الحكمة ، نقل المجسطي ، وقيل: إن الحجاج بن مطر نقله إلى العربية.

v    أبو زكريا يحيى بن عدي بن حميد ابن زكريا المنطقي التكريتي ، عمل مترجماً في بيت الحكمة ، وكان قد تتلمذ على أبي بشر متى بن يونس ، وكان يحيى يجيد السريانية ، وعنها نقل إلى العربية.

v    أبو بشر متى بن يونس ، كان من مترجمي بيت الحكمة ، وقد تتلمذ عليه أبو زكريا المنطقي التكريتي.

v    الكندي ، الفيلسوف العربي الشهير ، كان يراجع ما يترجمه العاملون تحت إمرته فيصحح وينقح ترجماتهم[93].

v    ماسرجويه ، متطبب البصرة ، وهو يهودي المذهب سرياني اللغة ، وكان ينقل من السريانية إلى العربية (العصر العباسي الأول).

v    آل الكرخي: أولهم شهدي الكرخي من أهل الكرخ ، وكان مرتب الحال في الترجمة ، ثم ابنه ، وكان مثل أبيه في النقل ، ثم فاق أباه في آخر عمره ، ولم يزل متوسطاً ، وكان ينقل من السريانية إلى العربية.

v    الحاج بن مطر ، كان في جملة من ترجم للمأمون ، وقد نقل كتاب المجسطي وإقليدس إلى العربية ، ثم أصلح نقله فيما بعد ثابت بن قرة الحراني.

v    ابن ناعمة الحمصي ، هو عبدالمسيح بن عبدالله الحمصى الناعمي ، كان متوسط النقل وهو إلى الجودة أميل.

v    اصطفان بن باسيل ، كان يقارب حنين بن إسحاق في جودة النقل.

v    موسى بن خالد ، ويعرف بالترجمان ، نقل كتباً كثيرة من الستة عشر لجالينوس[94].

مصادر التعريب ومجالاته:

يقول ((براون)): إن اللغة العربية لم تكن عند المسلمين جميعاً – دون نظر إلى أجناسهم – لغة الوحي والدين فحسب ، بل كانت لغة العلم والسياسة والتخاطب أيضاً. ولم يعن المسلمون بنقل الأدب والدراما عن اليونان إلا قليلاً. وقد تكفلت التراجم العربية في بعض الحالات بحفظ المؤلفات اليونانية التي فقدت أصولها[95].

ثم يقول في موضع آخر: إن ما تم تعريبه يشير إلى أن العقل العربي عقل نير إيجابي ، واللغة العربية لغة تتسم بشدة الانفعال والقوة ، وهي غنية بالفعل بما فيها من احتمالات كامنة. وكان العرب الأقدمون – كما يؤكد براون – قوماً يتصفون بحدة الذهن وقوة الملاحظة ، وعندهم لكل ما يقع تحت أنظارهم من أشياء طبيعية ألفاظ مناسبة بينها فروق دقيقة. وكان عليهم ، طبعاً في كثير من الحالات؛ لنقل كتب الطب اليونانية مثلاً إلى لغتهم – أن يقوموا باختراع مصطلحات جديدة مترجمة من اليونانية أو محاكية لها ، وغالباً لا يتيسر فهمها إلا بالرجوع إلى الأصول اليونانية ، ولكن لغتهم كانت تحتوي منذ قديم على مفردات تشريحية غزيرة إلى حد ما ، وكانوا فوق ذلك مولعين بتداولها في حياتهم العادية ، وكذلك في أشعارهم[96].

أما العلوم التي اتجهت إليها أكثر جهود التعريب ، فهي[97]:

1)    الرياضيات : كان أقليدس من علماء الإسكندرية ، وهو من الذين عنوا بدراسة الرياضيات ، وقد عرفه العرب جيداً عن طريق التعريب ، وأخذوا عنه الرياضيات ، كما أخذوا عن أرشميدس الفيزياء ، وهو من الرياضيين أيضاً ، ويمكن أن نذكر أن كثيراً من علماء الإسكندرية في الفلك والجغرافيا وقياس محيط الأرض وقطرها ، والنظريات الهندسية ، وينبغي أن نذكر أن بعض فلكييهم قد أخذوا كثيراً من معلوماتهم الفلكية عن البابليين. وبعد أن عرب العرب أكثر هذه المعارف والعلوم عن الإغريق استطاعوا أن يصلحوا كثيراً من المعلومات الفلكية عند الإغريق.

2)    الطب:فقد كانت كتب جالينوس بصفة خاصة (توفي سنة 200ق.م) ذات أهمية في الطب الإغريقي واهتم المسلمون بتعريبها ، وكانت تدرس في مدرستي الرها وجنديسابور.

3)    الفلسفة:ينبغي أن نذكر أن العداوة بين اليهودية والمسيحية كانت سبباً لأكثر الاضطهادات التي أصابت الكنيسة إن لم تكن جميعها ، وكان من جراء اضطهاد أباطرة الرومان للمسيحيين أن هاجر كثير من هؤلاء إلى خارج الإمبراطورية الرومانية ، من ذلك هجرتهم إلى العراق ، واتخاذهم الرها مركزاً لهم. وقد هيأت الكنيسة الطريق للثقافة الإغريقية ، وانتفعت الكنيسة من التعاليم الفلسفية التي كانت سائدة في العالم الإغريقي خلال القرون الأولى من الميلاد ، وقد قادت هذه الفلسفة المناظرات التي قام بها في الكنيسة كل من آريوس ونسطور وغيرهما. وكانت هذه الكنيسة تضم الفرس والعرب والشرقيين الآخرين. وبواسطة هؤلاء المسيحيين انتقلت العلوم والفلسفة وغيرها من التراث الإغريقي إلى العرب بوجه عام. وكان الرومان قد أخذوا العلم والفلسفة عن اليونان ، وقلما زادوا فيها ، أما المسلمون فلم يكتفوا بتعريب العلم عن اليونان واستبقائه على حاله ، بل درسوه وزادوا فيهمن نتاج قرائحهم وعقولهم ، وربما نقلوه من علوم الفرس والهند والكلدان[98].

المصدر اليوناني:

أما أشهر الكتب اليونانية التي تم تعريبها فهي:

v    كتب أفلاطون: أشار قدامى فلاسفة المسلمين إلى أن مؤلفات أفلاطون ((صعبة التركيب جداً))؛ لأنها جارية على سبيل المحاورة ، ينتقل فيها الحديث من موضوع إلى موضوع آخر بحيث يتعسر حصرها تحت نوع من الأنواع[99] ، ولكن إذا نظرنا إلى ما هو القصد من تلك المحاورات ، فقد يمكن ترتيبها على أربعة أقسام:

§        الأول: ما يختص بشروط العلم الصحيح ، وتميزه عن العلم المموه ، وتعلق علمنا بالمعاني وتعلق المعاني بعضها ببعض وارتقاء منها إلى الإله ، فهذا قسم يسوغ ام (الجدليات والإلهيات) عليه ، ومنه المحاورات الآتية: طاطيطوس ، قراطيلوس ، سوفسطس ، برمانيوس – فهذه المحاورات توجد أسماؤها في (الفهرست) لابن النديم وفي (تاريخ الحكماء) للقفطي.

والأرجح أن المسلمين لم يعلموا من مصنفات هذا النوع إلا (سوفسطس). قال صاحب الفهرست[100]: رأيت بخط يحيى بن عدي ((سوفسطس)) ترجمة إسحاق بتفسير الأمقيدورس: والأمقيدورس هذا هو ولا شك الفيلسوف الأفلاطوني المعروف بأولبيودورس ، عاش في القرن السادس بعد الميلاد ، وله عدة تفاسير على عدة محاورات أفلاطونية معروفة[101].

§        الثاني: ما يتعلق ((بالطبيعيات)) وهي ((طيماوس)) وهو الكتاب المعروف عند العرب بطيماوس الطبيعي الذي يصف فيه أفلاطون العالم الطبيعي ، وقد ترجمه حنين بن إسحاق ، وكان موجوداً بإصلاح يحيى بن عدي بشرح فلوطرخيس.

§        الثالث: ما يتعلق بالأغلب بعلم النفس والأخلاق ، ومنها (فيدون) في النفس وبقائها بعد الموت و((فيدورس)) في المحبة.

§        الرابع: ما يتعلق بالسياسة ، ومنها ((السياسة المدنية)) ترجمة حنين بن إسحاق ، وكتاب القواميس ترجمة حنين ثم ترجمة يحيى بن عدي[102].

v    كتب أرسطوطاليس: كان الأورغانون المنطقي بأكمله في اليد بالعربية ، وهذا بالطبع يشمل كتابي الخطابة والشعر وإيساغوجي لفرفوريوس. أما في العلوم الطبيعية فقد كان لديهم كتاب السماء والعالم وكتاب الكون والفساد وكتاب الحس والمحسوس وكتاب طبائع الحيوان[103] ، وكتاب الآثار العلوية وكتاب النفس.

وفي حقل العلوم العقلية والخلقية كان لديهم الميتافيزيقا والأخلاق إلى نيقوماخوس والأخلاق الكبير.

والغريب في الأمر أن كتاب السياسة لم يكن في عداد أورغانون أرسطو؛ إذ كان يحتل مكانة كتاب النواميس (القوانين) والجمهورية لأفلاطون. وبالإضافة إلى هذا نسب الطلاب العرب كتاب المعادن – الذي لا نعرف عنه شيئاً – وكتاب الحيل إلى أرسطو[104].

v    وكتاب السماء والعالم ، ترجمة ابن البطريق ، وتوجد ترجمة له بمكتبة باريس غير حاملة اسم الناقل. والفارابي شرح هذا الكتاب ، كما شرحه أبو هشام الجبائي المعتزلي الذي سماه ((المتصفح)). ويقول القفطي عن هذا الشرح: ((إنه أبطل فيه قواعد أرسطوطاليس ، وأخذه بألفاظ زعزع بها قواعده)). وكان يحيى بن عدي يقول: ((إن الجبائي تخيل أنه فهم أرسطوطاليس ، ولم يكن عالماً بالقواعد المنطقية ففسد الرد عليه)) ، ولابن الهيثم الرياضي رد على أبي هاشم فيما قاله ، وآخر على يحيى النحوي فيما انتقد عليه من كتاب ((السماء)) هذا[105].

أما كتاب ((النفس)) فقد عرّبه إسحاق بن حنين. وقد ذكر اليعقوبي في تاريخه أن غرضه الإبانة عن ماهية النفس وقوامها وفصولها ، وتفصيل الحس وتعديل أنواعه ، وفضائل النفس وعاداتها ، والأمور المحمودة منها ، والأمور المذمومة منها ، فالمحمودة: المنطق والعدل والحكمة… ولابن ماجة تعاليق علمية موجودة بمكتبة أكسفورد وبرلين ، ولابن سينا رسالة في النفس نشرت مراراً ، ولقسطا بن لوقا البعلبكي رسالة في الفرق بين الروح والنفس. نشرها الأب شيخو في المشرق والأستاذ فابرياني في روما ، وللإمام فخر الدين الرازي كتاب في النفس والروح وكلها مؤسسة على أفكار أرسطو وأفلاطون التي عربت[106].

ومن أبرز الثورات في هذا المجال الخاص بالأفلاطونية المحدثة هو ما سمي ب (أثولوجيا أرسطو) الذي ظهر في العربية حوالي سنة 226هـ ، والذي كان في الواقع مختصراً للكتب الثلاثة الأخيرة (4 – 6) من تاسوعات أفلاطونية ، وقد قام بترجمته ابن ناعمة الحمصي ، وانتشر هذا الكتاب انتشاراً عظيماً ، وعرف عموماً على أنه كتاب أصيل لأرسطو[107]. ويمكن أن يعبر هذا تزييفاً أدبيّاً ، غير أن من الممكن حقّاً أن يكون أفلوطين قد اختلط عليهم مع أفلاطون الذي يظهر اسمه في العربية (فلاطن) ويبدو أن هذا الإشكال بعينه كان سببه بعض الكتاب الآخرين ، وأن التراجمة تقبلوا الاعتقاد السائد الذي كان يعتقده جميع شراح الأفلاطونية المحدثة والمعلقون عليها ، القائل: إن تعاليم أفلاطون وأرسطو كانتا في الأساس شيئاً واحداً ، وإن هذا الاختلاف الطفيف الظاهر يمكن حله بسهولة[108].

v    أما ما بلغ العرب من مصنفات الأفلاطونية الحديثة ، فمنها:

·        ((إيساغوجي)) لفورفوريوس الصدري: ومعنى إيساغوجي المدخل ، ترجمه ابن المقفع ، ويعد مدخلاً لكتب أرسطو المنطقية ، وهو يشتمل على بحث الكليات الخمس التي تسمى في اصطلاح المنطقيين بالأصوات الخمسة أيضاً.

·        في قدم العالم ((لبرقلس)) وقد بلغ العرب عن طريق الكتاب الذي ألفه يحيى النحوي في الرد عليه. وفي كتاب ((الملل والنحل)) للشهرستاني تلخيص لآراء برقلس.

·        كتاب ((مبادئ الإلهيات)) لبرقلس أيضاً. ويظن ((سانتللانا)) أنه كتاب ((الخير المحض)) المنسوب إلى أرسطوطاليس ، والذي ذكره ابن أبي أصيبعة في جملة تصانيف أرسطو[109].

·        كتاب ((الرد على برقلس)) ويعرف بكتاب نقض الثماني عشر مسألة ((لديادوخس)) ، وهو لقب برقلس ، وهو كتاب مشهر بين العرب أورده البيروني غير مرة في ((تاريخ الهند)) ويحكي ((سانتللانا)) عن موسى بن ميمون في كتابه ((دلالة الحائرين)) أن هذا الكتاب أثر على متكلمي المسلمين من معتزلة وأشاعرة[110].

أما في الطب وفروعه ، فقد عربت الكتب التالية:

فمن كتب أبقراط[111]:

1)    كتاب عهد أبقراط: نقله حنين إلى السريانية وحبيش وعيسى إلى العربية.

2)    كتاب الفصول: نقله حنين لمحمد بن موسى.

3)    كتاب الكسر: نقله حنين لمحمد بن موسى.

4)    كتاب تقدمة المعرفة: نقله حنين وعيسى بن يحيى.

5)    كتاب الأمراض الحادة: نقله عيسى بن يحيى.

6)    كتاب أبيذيما: نقله عيسى بن يحيى.

7)    كتاب الأخلاط: نقله عيسى ابن يحيى لأحمد بن موسى.

8)    كتاب قاطيطيون: نقله حنين لمحمد بن موسى.

9)    كتاب الماء والهواء: نقله حنين وحبيش.

10)كتاب طبيعة الإنسان: نقله حنين وعيسى.

وبالنسبة لكتب جالينوس:

وأشهر كتب جالينوس الكتب الستة عشر ، وهي: كتاب الفرق ، الصناعة ، كتاب النبض ، شفاء الأمراض ، المقالات الخمس ، الأسطقصات ، كتاب المزاج ، القوى الطبيعية ، العلل والأمراض ، تعرف علل الأعضاء الباطنة ، كتاب النبض الكبير ، كتاب الحمايات ، البُحران ، أيام البحران ، تدبير الأصحاء ، حيلة البرء. وقد نقلها كلها حنين بن إسحاق إلى العربية إلا كتاب العلل الباطنة ، وكتاب النبض الكبير ، وكتاب تدبير الأصحاء ، وكتاب حيلة البرء ، فقد نقلها حبيش ، أما ما بقى من كتب جالينوس ، فقد ترجم حبيش الأعسم[112]: التشريح الكبير – اختلاف التشريح – تشريح الحيوان الحي – تشريح الحيوان الميت – علم أبقراط بالتشريح- الحاجة إلى النبض – علوم أرسطو – تشريح الرحم – آراء أبقراط وأفلاطون – العادات – خصب البدن – المني – منافع الأعضاء – تركيب الأدوية – الرياضة بالكرة الصغيرة – الرياضة بالكرة الكبيرة – الحث على تعليم الطب – قوى النفس ومزاج البدن.

وعرّب أصطفن وأصلحه حنين[113]:

حركات الصدر – علل النفس – حركة العضل – الحاجة إلى النفس – الامتلاء – المرّة والسوداء.

وعرّب حنين: علل الصوت –الحركات المجهولة – أفضل الهيئات – سوء المزاج المختلف – الأدوية المفردة – المولود لسبعة أشهر – رداءة النفس – الذبول – قوى الأغذية – التدبير الملطف – مداواة الأمراض – أبقراط في الأمراض الحادة – إلى ثراسوبولوس – الطبيب والفيلسوف – كتب أبقراط الصحية – محنة الطبيب….. وغير ذلك من كتب طبية.

أما الكتب التي عربت في الرياضيات والنجوم وسائر العلوم ، فمنها:

ويشتمل النظر في ذلك على علم النجوم والهندسة والحساب والموسيقى والميكانيكيات وخلاصة ما يذكره المؤرخون عنها[114].

1)    كتب إقليدس:منها أصول الهندسة ، نقله الحجاج بن مطر مرتين إحداهما تعرف بالهاروني (نسبة إلى هارون الرشيد) ، والثانية تعرف بالمأموني (نسبة إلى المأمون) ، ونقله كذلك إسحق بن حنين وأصلحه ثابت بن قرة ، وترجم أبو عثمان الدمشقي منه مقالات ، ومن كتب أقليدس التي لم يعرف مترجموها: كتاب الظاهرات ، وكتاب اختلاف المناظر ، وكتاب الموسيقى ، وهو منحول ، وكتاب القسمة ، إصلاح ثابت بن قرة ، وكتاب الفوائد ، وهو منحول ، كتاب القانون ، كتاب الثقل والخفة ، كتاب التركيب ، منحول ، كتاب التحليل ، منحول[115].

2)    كتب أرشميدس:وقد وصل من كتبه[116]: كتاب الكرة والاسطوانة: مقالتان ، كتاب تربيع الدائرة: مقالة ، كتاب تسبيع الدائرة: مقالة ، كتاب الدوائر المماسة: مقالة ، كتاب المثلثات: مقالة ، كتاب الخطوط المتوازية ، كتاب المأخوذات في أصول الهندسة ، كتاب المفروضات: مقالة ، كتاب خواص المثلثات القائمة الزاوية: مقالة ، كتاب آلة ساعات الماء التي ترمى بالبنادق: مقالة.

3)    أبولونيوس:صاحب كتاب المخروطات وكتاب قطع السطوح وقطع الخطوط والنسبة المحدودة والدوائر المماسة ، لم يعرف ناقلوها.

4)    منالاوس:له كتاب الأشكال الكروية ، وكتاب أصول الهندسة ، نقله إلى العربية ثابت بن قرة.

5)    بطليموس القلوذي:صاحب كتاب المجسطى الشهير ، وتم نقله وتفسيره على يد يحيى البرمكي ، ولبطليموس أيضاً كتاب الأربعة ، نقله إبراهيم بن الصلت وأصلحه حنين ، وكتاب الجغرافيا المعمور وصفة الأرض ، نقله ثابت إلى العربية نقلاً جيداً. ولبطليموس كتاباً آخر في الجغرافيا وغيرها لم يعرف ناقلوها.

6)    أبرخس:له كتاب صناعة الجبر ويعرف بالحدود ، وكتاب قسمة الأعداد ، لم يعرف ناقلهما.

7)    ذيوفنطس:له كتاب صناعة الجبر لم يعرف ناقله[117].

وهناك كتب عديدة في الرياضيات والهيئة والأزياج ونحوها ، ذكرها ابن النديم ولم يذكر ناقليها ، منها: كتاب العمل بالاسطرلاب المسطح لإبيون البطريق ، وكتاب جرم الشمس والقمر لأرسطرخس ، وكتاب العمل بذات الحلق ، وكتاب جداول زيج بطليموس المعروف بالقانون المسير ، وكتاب العمل بالأسطرلاب – وكلها لثاون الإسكندري.

وقد عربت كذلك كتب الموسيقى ، وكتب أخرى في الميكانيكيات[118].

ومن أبرز ما يثير الانتباه حقّاً أن المسلمين لم يقفوا عند حد النقل ، وإنما – وفقاً لتعبير فرنيه – ((أعمل المسلمون تفكيرهم النقدي))[119] ، ونتبين الجهد الذي بذله العرب في فهم ما ورثوه من علوم عن القدماء ، في التراجم الذاتية لبعض أولئك العلماء ، وهي تراجم أكثر عدداً مما يبدو لأول وهلة ، كما يتبين ذلك أيضاً في المقدمات التي كتبها العلماء المسلمون ، وفي العبارات العارضة التي ترد في كتاباتهم ، غير أنهم لم يوفقوا دائماً في فهم هذه الأصول ، مثال ذلك ما يقوله نصير الدين الطوسي في مقدمة ترجمته المنقحة لكتاب ((الكرة والاسطوانة)) لأرشميدس: ((إني كنت في طلب الوقوف على بعض المسائل المذكورة في كتاب الكرة والاسطوانة لأرشميدس زماناً طويلاً؛ لكثرة الاحتياج إليه في المطالب الشريفة الهندسية ، إلى أن وقعت إليّ النسخة المشهورة من الكتاب التي أصلحها ثابت بن قرة ، وهي التي سقط عنها بعض المصادرات لقصور فهم ناقله إلى العربية عن إدراكه وعجزه بسبب ذلك النقل ، فطالعتها ، وكان الدفتر سقيماً لجهل ناسخه فسددته بقدر الإمكان ، وجهدت في تحقيق المسائل المذكورة إلى أن انتهيت إلى المقالة الثانية ، وعثرت على ما أهمله أرشميدس من المقدمات مع بناء بعض مطالبه عليه ، فتحيرت فيه ، وزاد حرصي على تحصيله ، فظفرت بدفتر عتيق فيه شرح أوطوقيوس العسقلاني لمشكلات هذا الكتاب الذي نقله إسحاق بن حنين إلى العربية نقلا

 على بصيرة. وكان في ذلك الدفتر أيضاً متن الكتاب من صدره إلى آخر الشكل الرابع عشر من المقالة الأولى أيضاً من نقل إسحاق ، وكان ما يذكره أوطوقيوس في أثناء شرحه على متن الكتاب مطابقاً لتلك النسخة))[120].

وفي أعمال مؤلفين آخرين مثل إبراهيم بن سنان نجد التراجم ذاتية قيمة لا تهمنا منها النوادر الصغيرة التي تروى بوصفها تفاصيل ، ولكن يعنينا منها الدوافع التي حفزت المؤلف على القيام بعمله العلمي ، والأسباب التي جعلته يركز اهتمامه على موضوعات رياضية معينة دون غيرها ، ورأيه فيما قام به من عمل ، وتحليل كل من أبحاثه باختصار واحداً بعد الآخر ، وتبين لنا من هذا أن علماء المسلمين كانوا ، منذ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) واثقين – بفضل الجهد الذي بذلوه في عملهم – من أنهم يتقدمون في كل الميادين العلمية وأن ترجماتهم للنصوص القديمة كانت أدق بصورة عامة من المخطوطة الأصلية[121].

المصدر الفارسي:

ذكر ابن النديم عدداً من أبرز من تولوا تعريب بعض الكتب والآثار العلمية للفرس ، من هؤلاء[122]: عبدالله بن المقفع – آل نوبخت – موسى ويوسف ابني خالد – الحسن بن علي بن زياد التميمي – الحسن بن السهل  البلاذري – جبلة بن سالم – إسحاق بن زيد – محمد بن الجهم البرمكي – هشام بن القاسم – موسى بن عيسى الكردي – زادويه بن هاشويه الأصفهاني – محمد بن بهرام بن مطيار الأصفهاني – بهرام بن مردان شاه – عمر بن الفرضان.

وقد ترجم عبدالله بن المقفع ((كتاب خداينامه)) وهو كتاب في تاريخ الفرس من أول نشأتهم إلى آخر أيامهم ، وقد سماه ابن المقفع ((تاريخ ملوك الفرس)) ويبدو أن الطبرى قد اعتمد عليه في كتابه ((تاريخ الأمم والملوك)) عند كلامه عن الساسانيين ، وترجم كذلك كتاب ((آيين نامه)) ومعنى الآيين النظم والعادات والعرف والشرائع ، فالكتاب وصف لنظم الفرس وتقاليدهم وعرفهم ، وقد ذكر المسعودي أنه كتاب كبير يقع في آلاف من الصفحات[123].

كذلك ترجم ابن المقفع عن الفارسية ((كليلة ودمنة)) وكتاب ((مزدك)) وهو يتضمن سيرة مزدك الزعيم الديني الفارسي الشهير ، وكتاب ((التاج)) في سيرة أنوشروان ، وكتاب ((الأدب الكبير)) و((الأدب الصغير)) وكتاب ((اليتيمة)).

وقد عني المترجمون فترجموا كتباً عديدة من تاريخ الفرس ، يقول حمزة الأصفهاني: ((اتفق لي ثماني نسخ – من تاريخ الفرس – وهي كتاب سير ملوك الفرس من نقل ابن المقفع ، وكتاب سير ملوك من نقل محمد بن الجهم البرمكي ، وكتاب تاريخ ملوك الفرس المستخرج من خزانة المأمون ، وكتاب سير ملوك الفرس من نقل زادويه بن شاهويه الأصبهاني ، وكتاب سير ملوك الفرس من نقل أو جمع محمد بن بهرام ابن مطيار الأصبهاني ، وكتاب تاريخ ملوك بني ساسان من إصلاح بهرام بن مردانشاه موبذ ((كورة شابور)) من بلاد فارس ، فلما اجتمعت لي هذه النسخ ضربت بعضها ببعض حتى استوفيت منها حق هذا الباب))[124].

وقد ترجم من الكتب الدينية كتاب زرادشت المسمى ((أفستا)) وما عليه من شروح ، وينقل عنه حمزة الأصفهاني ، ويقول المسعودي: ((كانوا يقولون: إن رجلاً بسجستان بعد الثلاثمائة مُستظهر بحفظ هذا الكتاب على الكمال))[125].

وفي الأدب ترجموا عن الفرس أشياء كثيرة منها ما أشرنا إليه بالنسبة لابن المقفع ، ومنها كتاب ((هزار أفسانه)) ومعناه ألف حرفة ، وهو أصل من أصول ((ألف ليلة وليلة)) وكثير غيره من كتب القصص ، ككتاب يوسفاسي ، وكتاب خرافة ونزهة وكتاب الدب والثعلب ، وكتاب روزبه اليتيم ، وكتاب نمرود ، إلخ.

كما ترجموا في الأدب عهد أردشير ، وهو مخطوط بالعربية إلى عهدنا ، وكتاب موبذان ، وكتاب أردشير في التدبير ، وتوقيعات كسري ، وكتاب أدب الحرب ، إلخ.

المصادر الهندية:

نقل العرب عن اللغة الهندية (السنسكريتية) ، كثيراً من كتب الطب والنجوم والرياضيات والحساب والأسماء والتواريخ ، والكتب الطبية المنقولة عنها كثيرة وإن لم يصل إلينا من أخبارها إلا القليل؛ لأن بغداد كانت في إبان الزهو العباسي كعبة العلماء والأطباء والتجار والسياح من كل الملل ، وكان للبرامكة عناية باستقدام أطباء الهند إليها ، وقد بعث يحيى بن خالد فاستقدم بضعة صالحة ، منهم: ((كنكة ، وبازيكر ، وقليرفل وسندباز وغيرهم))[126].

ويظهر مما كتبه المسلمون بعد العصر العباسي في الأدب أو الطب أو الصيدلة أو السير أنهم اعتمدوا في جملة مصادرهم على كتب هندية الأصل ، فإننا إذا راجعنا مثلاً قانون ابن سينا أو الملكي للرازي أو غيرهما من كتب الطب الكبرى رأيناهم يذكرون بعض الأمراض ويشيرون إلى أن الهنود يسمونها مثلاً كذا أو يعالجونها بكذا أو كذا…. وإذا رأينا العقد الفريد لابن عبد ربه أو سراج الملوك للطرطوشي أو غيرهما من كتب الأدب المهمة رأينا مؤلفيها إذا ذكروا بعض الآداب أو الأخلاق أو نحوها قالوا: وفي تاب الهند كذا وكذا)).

على أننا نعلم مما كتبه صاحب كتاب طبقات الأطباء أنه اشتهر في العصر العباسي جماعة من علماء الهند في الطب والنجوم والفلسفة وغيرها ، منهم كنكة الهندي ، وهو من متقدميهم وأكابرهم وخصوصاً في علم النجوم فضلاً عن الطب ، وله مؤلفات كثيرة منها: كتاب النموذار في الأعمار ، وكتاب أسرار المواليد ، وكتاب القرانات الكبير والصغير ، وكتاب في الطب يجري جري الكناش ، وكتاب في التوهم ، ومنها أيضاً صنجهل وباكهر وغيرهما[127].

وقد نقل كثير من مؤلفاتهم في الطب والنجوم إلى الغة العربية ، إما رأساً أو بواسطة اللغة الفارسية بأن ينقل الكتاب من الهندية إلى الفارسية ، ثم ينقل من الفارسية إلى العربية ، منها كتاب سيرك الهندي ، وقد نقله من الفارسية إلى العربية عبدالله بن علي ، وكتاب آخر في علامات الأدواء ومعرفة علاجها ، أمر يحيى بن خالد البرمكي بنقله.

وكتاب فيما اختلف فيه الروم في الحار والبارد ، وقوى الأدوية ، وكتب أخر في فروع الطب.

ومن مشهوريهم منكة الهندي المتقدم ذكره بين المترجمين. وقد أتى بغداد بإشارة يحيى بن خالد لمعالجة الرشيد فشفاه ، فأجرى عليه الرشيد رزقاً واسعاً. وكان منكه يعرف الفارسية أيضاً ، فكان ينقل من الهندية إلى الفارسية ، وله حديث طويل ذكره صاحب طبقات الأطباء ، ومنهم صالح بن بهلة الهندي ، جاء العراق في أيام الرشيد أيضاً ، ونال شهرة واسعة وخالط أطبائها يومئذٍ واختلطوا به ، فإن لم يكونوا نقلوا شيئاً من كتبه فلابد أن يكونوا قد اقتبسوا شيئاً من آراء الهند فيه.

ومن مشهوريهم أيضاً شاناق ، وله كتاب في السموم خمس مقالات ، نقل عن اللسان الهندي إلى الفارسي منكه الهندي ، وأوعز يحيى بن خالد إلى رجل يعرف بأبي حاتم البلخي بنقله إلى العربية ، ثم نقل للمأمون على يد العباسي بن سعيد الجوهري مولاه ، ولجودر الحكيم كتاب في المواليد نقل إلى العربية أيضاً.

ومن الكتب الطبية التي نقلت من الهندية إلى لسان العرب في العصر العباسي غير ما تقدم ذكره[128].

§        كتاب أسماء عقاقير الهند ، نقله منكه لإسحاق بن سليمان..

§        كتاب استانكر الجامع ، نقله ابن دهن.

§        كتاب صفوة النجح ، نقله ابن دهن.

§        كتاب مختصر الهند في العقاقير ، لم يذكر ناقله.

§        كتاب علاجات الحبالى للهند لم يذكر ناقله.

§        كتاب روسا الهندية في علاجات النساء لم يذكر ناقله.

§        كتاب السكر للهند ، لم يذكر ناقله.

§        كتاب التوهم في الأمراض والعلل. لم يذكر ناقله.

§        كتاب رأي الهند في أجناس الحيات وسمومها ، لم يذكر ناقله.

أما في الرياضيات والكواكب فللهند شأن كبير ، ومن أبز ما يشار إليه هنا خبر السند هند ، وكان لنقل هذا الزيج تأثير كبير في علم النجوم عند العرب ، وقد قلدوه وألفوا على مذهبه[129] ، وممن ألف على هذا المذهب محمد بن إبراهيم الغزاري وحبش بن عبدالله البغدادي ومحمد بن موسى الخوارزمي وغيرهم.

والفزاري أول من عمل أسطرلاب في الإسلام. وما من فلكي من فلكيي المسلمين إزاء التوسع في علم النجوم إلا وطالع كتبهم ، إما في اللغة الهندية أو في ترجمتها إلى العربية. وأكثر المسلمين عناية في ذلك واطلاعاً على آداب الهند وعلومهم أبو الريحان البيروني المتوفي سنة 440هـ ، فإنه طاف بلاد الهند واطلع على علومهم وآدابهم ، ثم ألف كتاب: ((الآثار الباقية عن القرون الخالية)) وله من المؤلفات ما يعد بالعشرات. ومنها كثير في علوم الهند. إما ترجمة أو تصحيحات أو نقداً. ومما ذكره من كتبه التي ألفها في هذا الصدد قوله[130]:

((وعملت في السند هند كتاباً سميته ((جوامع الموجود لخواطر الهنود)) في حساب التنجيم ، جاء ما تم منه خمسمائة وخمسون ورقة. وهذبت زيج الأركند وجعلته بألفاظي؛ إذ كانت الترجمة الموجودة منه غير مفهومة وألفاظ الهند فيها متروكة لحالها. وعملت كتاباً في المدارين المتحدين والمتساويين ، وسميته بـ ((خيال الكسوفين عند الهند)) وهو معنى مشتهر فيما بينهم لا يخلو منه زيج من أزياجهم ، وليس بمعلوم عند أصحابنا وعملت تذكرة في الحساب والعدد بأرقام السند والهند في ثلاثين ورقة ، وكيفية رسوم الهند في تعلم الحساب ، وتذكرة في أن رأي العرب في مراتب العدد أصوب من رأي الهند فيها ، وفي راسكيات الهند ، وترجمة ما في أبرهم سدهاند من طرق الحساب ، ومقالة في تحصيل الآن من الزمان عند الهند ، ومقالة في الجوابات على المسائل الواردة من منجمي الهند ، ومقالة في حكاية طريقة الهند في استخراج العمر ، وترجمة كلب باره وهي مقالة للهند في الأمراض التي تجري مجرى العفونة وغير ذلك ، مما يشير إلى أن المسلمين عربوا عن الهنود كثيراً.

وأفاد الأدب العربي من الهند أموراً ثلاثة:

1)    ألفاظاً هندية عربت ، وقد كان ذلك أيام كان العرب يتاجرون مع الهند ، وينقلون سلعاً هندية ويحملون مع هذه السلع أسمائها ، وقد حكى السيوطي ألفاظاً هندية عربت ، ووردت في القرآن الكريم مثل زنجبيل وكافور ومما ورد في اللغة العربية من الألفاظ الهندية الأبنوس والببغاء والخيزران والفلفل والأهليلج وغير ذلك من أسماء النباتات والحيوانات الهندية[131].

ويضاف إلى ذلك آراء في الأدب والبلاغة نقلت إلينا عنهم ، وقد كان من أتى بغداد من أطباء الهند وغيرهم يحملون معهم كتباً وصحفاً في مواضيع شتى منها الأدب ، وكان العلماء يخالطونهم ويسألونهم في شتى المسائل ، وكان هناك تراجمة يترجمون من الهندية إلى العربية ، وكان هناك شوق لتعلم الناس ما عند كل أمة ليتعارفوا بينها ويأخذوا أحسنها[132].

2)    القصص الهندي ، وقد أولع العرب به ، ومن المعروف أن أصل (كليلة ودمنة) هندي نقل إلى الفارسية ثم من الفارسية إلى العربية ، مع زيادات على الأصل الهندي ، وقصة السندباد ، كما يدل اسمها هندية الأصل نقلت إلى العربية. وقد عدّد ابن النديم كتباً كثيرة للهند في الخرافات والأسمار والأحاديث ، منها: كليلة ودمنة والسندباد الكبير والسندباد الصغير ، وكتاب هامل في الحكمة ، وكتاب الهند في قصة هبوط آدم ، وكتاب دبك الهند في الرجل والمرأة ، وكتاب حدود منطق الهند ، وكتاب ملك الهند القتّال والسبّاح ، وكتاب شاناق في التدبير ، وكتاب بيدبا في الحكمة[133].

3)    أما النوع الذي عرّب فيه المسلمون عن الهند كثيراً ، فهو الحكم ، وهي نوع يتفق والذوق العربي ، فهو أشبه شيء بالأمثال العربية ، والجمل القصيرة ذات المعاني الغزيرة التي أولع بها العرب ، وهي نتيجة تجارب كثيرة تركز في جملة بليغة[134].

مصادر أخرى:

فقد رأينا فيما تقدم كتباً كثيرة فلسفية وطبية نقلت من اليونانية إلى العربية بوساطة اللغة السريانية أخت النبطية أو هي عنها ، فلا نتعرض لذكرها ، وإنما نريد هنا الكتب التي كانت مكتوبة في اللغة الكلدانية أو النبطية ، ونقلت إلى العربية رأساً ، ولولا نقلها لضاعت ، وأهم تلك الكتب[135]:

·        كتاب الفلاحة النبطية: فإنه فريد في بابه ، وقد نقله إلى العربية أحمد بن عليّ بن المختار النبطي المعروف بابن وحشية سنة 291هـ ، وظل مرجع أهل الزراعة إلى أمد غير بعيد ، وقد نقل إلى اللغات الأفرنجية ، ولولا نقله إلى العربية لضاع وخسره العالم – ما يؤخذ من مطالعة مقدمته – فقد قال ابن وحشية ، وهو يملي الكتاب على عليّ بن محمد بن الزيات سنة 318هـ: ((اعلم يا بنيّ أني وجدت هذا الكتاب في كتب الكسدانيين (الكلدان أو النبط) يترجم معناه في العربية كتاب فلاحة الأرض وإصلاح الزرع والشجر والثمار ودفع الآفات عنها ، وكان هؤلاء الكسدانيون أشد غيرة عليها؛ لئلا يظهر هذا الكتاب ، فكانوا يخفونه بجهدهم ، وكان الله عز وجل قد رزقني المعرفة بلغتهم ولسانهم ، فوصلت إلى ما أردت من الكتب بهذا الوجه. وكان هذا الكتاب عند رجل متميز ، فأخفى عني علمه ، فلما اطلعت عليه لمته في إخفاء الكتاب عنّي وقلت له: إنك إن أخفيت هذا العلم دُثر ومضى ولا يبقى لأسلافك ذكر ، وما يصنع الإنسان بكتب لا يقرؤها ولا يدع من يقرؤها فهي عنده بمنزلة الحجارة والمدر ، فصدقني في ذلك وأخرج إليّ الكتب ، فجعلت أنقل كتاباً بعد كتاب ، فكان أول كتاب نقلته كتاب دواناي البابلي في معرفة أسرار الفلك والأحكام على حوادث النجوم ، وهو كتاب عظيم المحل ، ونقلت كتاب الفلاحة هذا بتمامه))…إلخ.

·        كتاب طرد الشياطين ، ويعرف بالأسرار.

·        كتاب السحر الكبير.

·        كتاب السحر الصغير.

·        كتاب دوار على مذهب النبط.

·        كتاب مذاهب الكلدانيين في الأصنام.

·        كتاب الإشارة في السحر.

·        كتاب أسرار الكواكب.

·        كتاب الفلاحة الصغير.

·        كتاب في الطلسمات.

·        كتاب الأصنام.

·        كتاب الحياة والموت في علاج الأمراض.

·        كتاب القرابين.

·        كتاب الطبيعة.

·        كتاب الأسماء.

ومعظمها من تعريب ابن وحشية ، غير ما لابد من تعريبه من كتب الدين وأخبار الكلدان القدماء[136].

ولا ريب أن كثيراً من تعاليم اليهود وآدابهم في التوراة وغيره من كتبهم قد نقل إلى العربية ، وإن كنا لا نرى شيئاً منها مدوناً بصفة ترجمة؛ لأنهم كانوا ينقلونها شفاهاً إلى المسلمين ، وربما دونوا منها شيئاً وضاع ، وأما ما وصل إلينا خبره من المعرب عن العبرانية فترجمة أسفار التوراة ، عربها سعيد الفيومي المتوفي سنة 330هـ وهو أقدم من نقل التوراة إلى العربية مما وصل إلينا خبره ، وله أيضاً شروح وتفسيرات عليها[137].

ولا يبعد أن يكون قد نقل إلى العربية بعض الكتب عن اللاتينية؛ لأنها كانت تحوي كثيراً من العلوم الفلسفية والتاريخية والشرعية وغيرها ، وربما فات نقلة الأخبار ذكر ما نقل عنها. وقد رأينا في جملة المترجمين أن يحيى بن البطريق لا يعرف غير اللاتينية وأن ترجم عدة كتب ، فالظاهر أنه ترجمها عن اللاتينية.

وأما القبطية ، إذ لم ينقل العرب عنها رأساً فمن المحتمل أنهم نقلوا بعضاً من علوم المصريين بواسطة اللغة اليونانية وخصوصاً صناعة الكيمياء القديمة وغيرها مما برع فيه المصريون ، وأما الكيمياء فقد نقلت عن القبطي واليوناني معاً بأمر خالد بن يزيد[138].

خاتمة:

من كل ما سبق نستطيع أن نشير إلى بعض النتائج:

v    أنه قد عني في الدولة الأموية بالطب بعض عناية؛ لأن الناس في حاجة مادية إليه؛ ولأنه أبعد العلوم الأجنبية عن أن يؤثر في الدين ، ولهذا لم يتحرج من إجازة الترجمة فيه أنقى بني أمية عمر بن عبدالعزيز.

v    أن محاولة الترجمة في العهد الأموي كانت محاولة فردية ، تموت ويموت الأفراد القائمون بها ، أما في الدولة العباسية فكانت الترجمة عمل أمة لا عمل أفراد ، وإن شئنا فلنقل: إنه قد كان في الدولة العباسية مدرسة كبيرة للترجمة ، لا يضيرها موت فرد أو أفراد منها.

v    كانت الترجمة في العهد الأموي مقصورة على العلوم العلمية كالصنعة والطب والنجوم ، ولم يتعد ذلك إلى العلوم العقلية كالمنطق والفلسفة والهندسة ، وما إلى ذلك ، فهذه لم تكن إلا في الدولة العباسية.

v    نشوء الوراقة والوراقين ببغداد ، وانتساخ الكتب المترجمة لعدد كبير من الناس الذين كانوا يحرصون على اقتنائها أو بيعها ، كما كانوا يعنون بدراستها ومناقشتها في مجالس الأدب والمناظرة.

v    ولعل من أبرز المزايا التي اتصفت بها الترجمة في العصور العباسية: أخذها بترجمة الكتب العلمية كالطب والرياضيات والفلك والكيمياء والفلسفة لحاجتهم الماسة إليها ، دون الكتب الأدبية والدينية التي كان العرب يمتلكون منها ثروة طائلة كما أشرنا من قبل. هذا إلى جانب قيام المترجمين بالتعليق والتصحيح والتأليف ، وإنشاء المكتبات المعبرة في المراصد الفلكية ، والمساجد ، والمدارس ، والربط والمارستانات وإنشاء دور العلم ، والمكتبات الخاصة[139].

وبعد…

فلقد كان المسلمون في موقع قوة سياسية وعسكرية وثقافية ، وهذا أتاح لهم فرصة أن يعربوا وفقاً لمعايير استمدت من دينهم وثقافتهم وحاجاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ، وهو أمر يختلف عن موقف الأمة عندما تكون في حالة ضعف وتبعية ، في الحالة الأولى يجيء الوافد ليشكل عنصر إضافة وقوة إلى جسم الحضارة وجسم الأمة ، وفي الحالة الثانية يجيء الوافد في صورة (غزو) وما يتبع ذلك من إلحاق ، ففي الحالة الأولى يكون هناك ((تعريب)) ، وفي الحالة الثانية – إذا ضربنا مثلاً بما يجري – يكون هناك ((تغريب)).



[1]تعليق سلطان الشاوي على دراسة محيى الدين صابر عن ((الأبعاد الحضارية للتعريب)) د. محمد المنجي الصيادي وآخرين: التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي والوحدة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1982م، ص87.

[2]المرجع السابق. الصفحة نفسها.

[3]محيى الدين صابر، المرجع السابق، ص 76.

[4]عبدالعزيز الدوري: التكوين التاريخي للأمة العربية. دراسة في الهوية والوعي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1984م، ص 47.

[5]المرجع السابق، ص 51.

[6]محمد أسعد طلس: التربية والتعليم في الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت، 1975م، ص 45.

[7]الزمر: 9.

[8]فاطر: 28.

[9]النحل: 43.

[10]المجادلة: 11.

[11]العنكبوت، 49.

[12]الكهف: 66.

[13]البقرة: 151.

[14]أحمد أمين: فجر الإسلام، النهضة المصرية، القاهرة، 1961م، ص 144.

[15]يوسف: 76.

[16]الحج: 5.

[17]القصص: 78.

[18]عن محمد أسعد طلس، ص 46.

[19]عن أحمد أمين: فجر الإسلام، ص 142.

[20]جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، دار الهلال، القاهرة، د.ت، ج3، ص153.

[21]أحمد أمين:ضحى الإسلام، النهضة المصرية، القاهرة، 1960م، ج1، ص279.

[22]الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1975م، ج1، ص386.

[23]لطف الله قاري: نشأة العلوم الطبيعية عند المسلمين في العصر الأموي، دار الرفاعي للنشر والطباعة والتوزيع، الرياض، 1986م، ص51.

[24]المرجع السابق، ص52.

[25]المرجع السابق، ص53.

[26]عن أحمد أمين: ضحى الإسلام، ج1، ص280.

[27]ناجي معروف: أصالة الحضارة العربية، دار الثقافة، بيروت، 1975م، ص433.

[28]ضحى الإسلام، ج1، ص280.

[29]ابن النديم: الفهرست، دار المعرفة، بيروت، د.ت، ص339.

[30]المرجع السابق، ص340.

[31]ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، دار الثقافة، بيروت، 1981م، ج2، ص142.

[32]أحمد أمين: ضحى الإسلام، ج1، ص282.

[33]أوليري، دي لاس: الفكر العربي ومركزه في التاريخ، ترجمة إسماعيل البيطار، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1972م.

[34]المرجع السابق، ص38.

[35]أحمد أمين، فجر الإسلام، ص130.

[36]المرجع السابق، ص131.

[37]ماكس مايرهوف: من الإسكندرية إلى بغداد، بحث في تاريخ التعليم الفلسفي والطبي عند العرب في: عبدالرحمن بدوي: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1965م، ص37.

[38]المرجع السابق، ص38.

[39]لطف الله قاري: نشأة العلوم الطبيعية عند المسلمين في العصر الأموي، ص33.

[40]رضا كحالة: العلوم البحتة في العصور الإسلامية، مطبعة الترقي، دمشق 1972م، ص2.

[41]المرجع السابق، ص3.

[42]ناجي معروف: أصالة الحضارة العربية، ص431.

[43]عبدالعزيز الدوري: التكوين التاريخي للأمة العربية، ص56.

[44]عن: لطف الله قاري، ص65.

[45]ابن النديم: الفهرست، ص497ص.

[46]لطف الله قاري: ص66.

[47]المسعودي: مروج الذهب، تحقيق محمد محيى الدين عبدالحميد، دار المعرفة، بيروت، 1983م، ج3، ص41.

[48]لطف الله قاري، ص67.

[49]جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص227.

[50]المرجع السابق، ص228.

[51]أوليري، ص93.

[52]عصام الدين محمد علي: بواكير الثقافة الإسلامية وحركة النقل والترجمة، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1986م، ص28.

[53]ناجي معروف، ص432.

[54]المرجع السابق، ص433.

[55]أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج1، ص273.

[56]البهي: الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1967م، ص194.

[57]هوف في (التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية)، ص41.

[58]لمرجع السابق، ص43.

[59]وارد. ج.براون: الطب العربي، ترجمة أحمد شوقي حسن، الإدارة العامة للثقافة بوزارة التعليم العالي، القاهرة، 1966م، ص34.

[60]إخبار العلماء بأخبار الحكماء، دار الآثار للطباعة والنشر، بيروت، د.ت، ص232.

[61]أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج1، ص276.

[62]دائرة المعارف الإسلامية، طبعة الشعب، القاهرة، م12، ص359.

[63]المرجع السابق، ص360؟

[64]براون: الطب العربي، ص38.

[65]المرجع السابق: ص39.

[66]دائرة المعارف الإسلامية م14، ص56.

[67]المرجع السابق، ص57.

[68]محمد إبراهيم الفيومي، في الفكر الديني الجاهلي، دار المعارف، القاهرة، 1983م، ص47.

[69]ماير هوف، في (التراث اليوناني..)، ص61.

[70]المرجع السابق، ص69.

[71]لطف الله قاري، ص38.

[72]أوليري، ص28.

[73]الفيومي: في الفكر الديني الجاهلي، ص54.

[74]أوليري، ص34.

[75]المرجع السابق، ص47.

[76]الفهرست لابن النديم، ص413.

[77]لطف الله قاري، ص70.

[78]المرجع السابق، 71.

[79]المرجع السابق، ص75.

[80]أوليري، ص94.

[81]ناجي معروف: أصالة الحضارة العربية، ص437.

[82]ماهر عبدالقادر محمد: حنين بن إسحاق، العصر الذهبي للترجمة، دار النهضة العربية، بيروت، 1987م، ص148.

[83]الفهرست لابن النديم، ص415.

[84]ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء، ج2، ص165.

[85]أوليري، ص100.

[86]ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء، ج2، ص37.

[87]المرجع السابق، ص41.

[88]جرجي زيدان: التمدن الإسلامي، ج3، ص162.

[89]المرجع السابق، ص165.

[90]المرجع السابق، الصفحة نفسها.

[91]ناجي معروف، ص445.

[92]المرجع السابق، ص446.

[93]المرجع السابق، ص447.

[94]جرجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي، ج3، ص166.

[95]براون: الطب العربي، ص45.

[96]المرجع السابق، ص47.

[97]ناجي معروف: أصالة الحضارة العربية، ص427.

[98]المرجع السابق، ص428.

[99]محمد البهي: الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي، ص241.

[100]ابن النديم: الفهرست، ص343.

[101]الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي، ص242.

[102]المرجع السابق، ص243.

[103]أوليري: الفكر العربي ومركزه في التاريخ، ص101.

[104]المرجع السابق، ص102.

[105]الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي، ص246.

[106]المرجع السابق، ص247.

[107]أوليري، ص102.

[108]المرجع السابق، ص102.

[109]الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي، ص250.

[110]المرجع السابق، ص252.

[111]أحمد فريد رفاعي: عصر المأمون، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1927م، ج1، ص383.

[112]المرجع السابق، ص384.

[113]المرجع السابق، الصفحة نفسها.

[114]جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، ج3، ص175.

[115]ابن النديم: الفهرست، ص372.

[116]تاريخ آداب اللغة العربية، ج3، ص165.

[117]المرجع السابق، ص176.

[118]جوان قرنيه، في:شاخت وبوزورث (تراث الإسلام)، ترجمة حسين مؤنس وإحسان صدقي العمد، سلسلة عالم المعرفة (12)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر 1987، القسم الثالث، ص166.

[119]عن المرجع السابق، ص167.

[120]المرجع السابق، ص168.

[121]ابن النديم: الفهرست، ص342.

[122]أحمد أمين: ضحى الإسلام، ج1، ص185.

[123]عن المرجع السابق، ص186.

[124]عن المرجع السابق، ص187.

[125]أحمد فريد رفاعي: عصر المأمون، ص388.

[126]المرجع السابق، ص389.

[127]المرجع السابق، ص390.

[128]تاريخ التمدن الإسلامي، ج3، ص178.

[129]المرجع السابق، ص179.

[130]أحمد أمين: ضحى الإسلام، ج1، ص258.

[131]المرجع السابق، ص259.

[132]المرجع السابق، ص260.

[133]المرجع السابق، ص261.

[134]أحمد فريد رفاعي: عصر المأمون، ص392.

[135]المرجع السابق، ص393.

[136]تاريخ التمدن الإسلامي، ج3، ص181.

[137]المرجع السابق، ص182.

[138]أحمد أمين: ضحى الإسلام، ج1، ص285.

[139]ناجي معروف: أصالة الحضارة العربية، ص434.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر