أبحاث

الإسلام والربا

العدد 24

يتم عرض الربا في إطار تعاليم الإسلام، وبيان حكم الشريعة بصدده، في أربعة مباحث:

مبحث تمهيد يخصص لبيان التعريفات اللغوية والشرعية للربا، وصور الربا الجاهلية وخصائصه.

أما المبحث الأول فيعرض حكم الربا في القرآن الكريم.

ويناقش المبحث الثاني موقف السنة من الربا.

وينتهي المبحث الثالث إلى تلخيص مسألة الربا بين ذاهب الفقه الإسلامي.

مبحث تمهيدي

تعريف الربا – صور الربا الجاهلي وخصائصه

1 – تعريف الربا

أولا: المعنى اللغوي للربا:

الربا معناه في اللغة الزيادة سواء كانت مطلقة، تنصرف إلى زيادة الشيء في ذاته أو نسبية، أي زيادة الشيء بالنسبة إلى سواه.

قال تعالى: (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) أي علت وارتفعت. وعلو الأرض وارتفاعها زيادة لها في ذاتها، فهي زيادة مطلقة. وقال جل شأنه (أن تكون أمة هي أربى من أمة)، أي أكثر عددا من غيرها. وهذه زيادة نسبية.

ثانيا: معاني الربا في الشريعة الإسلامية:

أبرز التعريفات الشرعية للربا هما تعريفا الأحناف والشافعية.

فالأحناف يعرفون الربا بأنه الفضل الخالي من العوض في البيع. وفي لغة أخرى يعرفون ربا الفضل بأنه “زيادة عين مال شرطت في عقد البيع على المعيار الشرعي. ويعرفون ربا النسيئة بأنه “فضل الحلول على الأجل، وفضل العين على الدين”.

أما الشافعية فيعرفون الربا بأنه “اسم لمقابلة عوض بعوض مخصوص، غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد. أو مع تأخير في البدلين. أو في أحدهما”. ويقصدون “ربا الفضل” بالشطر الأول من التعريف، بينما ينصرف الشطر الثاني إلى “ربا اليد” في مذهبهم، حيث أورد “العسقلاني”: “الربا ثلاثة أنواع: ربا الفضل. وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الآخر. وربا اليد، وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما، وربا النساء، وهو البيع لأجل”.

أما بقية المذاهب فتتلاقى أصولها تقريبا عند تعريف الأحناف أو تعريف الشافعية.

2 – صور الربا الجاهلي:

في الوقت الذي تنزل فيه القرآن، كان العرب يتعاملون بثلاث صور للربا الجاهلي:

أما الصورة الأولى فهي تقديم قرض لأجل معين، مشروط بالزيادة وهذه الصورة هي أشهر صور الربا في الجاهلية. فقد كان الدائن يقول للمدين، عند حلول أجل السداد: “أتقضي أمر تربي؟!”، حتى أصبحت هذه العبارة علما على الربا الجاهلي عند كثير من الفقهاء والمحدثين والمفسرين، فيقولون مثلا عندما يفحصون معاملة بعينها ويتحققون من ربويتها، أنه “يدخلها أتقضي أم تربي”.

والصورة الثانية تظهر بمناسبة “بيع النسيئة”، أي “البيع بثمن مؤجل”. حيث كان منشأ كثير من الديون، في العصر الجاهلي، هو عقود بيع بالنسيئة. فالمدينون بالربا، إلى ذلك العهد، كانت عامتهم من المحتاجين المعوزين. وكانت أصول ديونهم هي أثمان ما كانوا يحتاجون إلى شرائه من طعام وضروريات يشترونها بالنسيئة.

وكتب التراث مليئة بالإشارات إلى كلتا الصورتين السابقتين للربا الجاهلي:

ففيما هو متعلق بالصورة الأولى، وهي ربا الديون، يقول “الرازي”: ذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا، ويكون رأس المال باقيا. ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال، فإذا تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل. فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به”.

أما “الجصاص” فقد قال: “الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل، بزيادة على مقدار ما استقرض على مقدار ما يتراضون به… هذا كان المتعارف المشهور بينهم… إن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين لانه لا عوض لها من جهة المقرض”. وقال في موضع آخر: “معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلا من الأجل”.

وبصدد الربا الناتج عن بيع النسيئة فقد أورد السيوطي” الأثر المرجوع إلى “مجاهد” من أن عرب الجاهلية “كانوا يتبايعون إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا عليهم وزادوا في الأجل”. وكذلك الأثر الوارد عن “سعيد بن جبير”، ونصه “كان الرجل إذا حل ماله على صاحبه يقول المطلوب للطالب: زدني في الأجل وأزيدك على مالك، فإذا فعل ذلك قيل لهم: هذا ربا. قالوا: سواء علينا أن زدنا في أول البيع أو عند محل المال فهما سواء”. كما أخرج “الطبري” الأثر الوارد عن قتادة “ونصه” أن ربا الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه”.

والصورة الثالثة للربا الجاهلي كانت العرب تجربها في معاملاتها دون أن تعرف أنها من الربا. ومؤدى هذه الصورة زيادة المنفعة بتأخير أحد البدلين المتجانسين عند البيع أو الصرف، كبيع ذهب بذهب أو فضة بفضة نساء. يشير إلى ذلك قول “الجصاص”: “إن العرب لم تكن تعرف أن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة نساء – ربا، وهو ربا في الشرع”.

3 – خصائص المعاملات الربوية في العصر الجاهلي:

أ – أنها كانت مداينة نجمت، في معظمها عن شكلين من التعامل:

الشكل الأول هو عقود قروض مشروطة بالزيادة المقابلة للأجل، أي “قروض بفائدة” في المصطلح الجاري.

والشكل الثاني هو عقود بيوع بالنسيئة، أي بيوع آجلة” في العرف الحديث.

ب – أن من هذه المعاملات ما كان يكال أو يوزن أو يذرع أو يعد. ومنها ما كان في السن. فقد ورد في الأثر المحفوظ عن “زيد”: “إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن. يكون للرجل فضل دين، فيأتيه إذا حل الأجل، فيقول له: (تقضيني أو تزيدني؟). فإن كان عنده بشيء يقضيه قضي، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم حقه، ثم جذعه، ثم رباعية ثم هكذا إلى فوق. وفي العين. يأتيه فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا، فتكون مائة، فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة. يضعفها له كل سنة أو يقضيه”.

المبحث الأول

القرآن الكريم والربا

لم يبلغ القرآن من تفظيع أمر أراد من أمور الجاهلية ما بلاغ من تفظيع الربا. ولا بلغ من التهديد من بلغ من التهديد في أمر الربا. ولله الحكمة البالغة. فمهما كانت مفاسد الربا التي ظهرت في الجاهلية، فإنها لا تقارن بشرور هذا النظام، كما بدت اليوم وتكشف في عالمنا المعاصر ومن ثم فإن هذه الحملة الهيبة البادية في آيات الذكر الحكيم على النظام الربوي المقيت، إنما تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع الفاجع في حياة البشرية المعاصرة.

ولقد تناول التنزيل مسألة الربا في إطار من المنهج التعليمي للقرآن الكريم حينما يكون بصدد محاربة بعض الرذائل التي تكون قد تأصلت في العرف العام من خلال أزمات متطاولة. ذلك أن القرآن في محاربته لهذه الرذائل لا يأخذها مأخذ العنف والمفاجأة بل يتلطف في السير بها إلى الإصلاح على مراحل متريثة متصاعدة حتى يصل بها إلى غاية الكمال.

فلما كان الربا شائعا منتشرا بين الأعراب، لدن ظهور الإسلام، فإن تحريمه، حينئذ، دفعه واحدة، كان جديرا بأن يهز الحياة الاقتصادية والاجتماعية للقبائل العربية هزا عنيفا. ومن ثم تدرج القرآن في تحريمه للربا. وهذا هو أسلوب القرآن الكريم في اقتلاع جذور العادات الضارة بالمجتمع.

فهو لا يفاجئ الناس بالحكم القاطع حيث لم يتهيئوا نفسيا لذلك، بما يصعب عليهم الانصياع له، فيضلوا ويزيغوا. وإنما يأخذهم بالتدرج واللين والرفق، بما يؤدي إلى تهيئة الأفراد نفسيا لقبول الحكم النهائي، ومن ثم لا يحدث نفور أو مروق أو عصيان.

ولقد ورد ذكر الربا في القرآن الكريم في أربعة مواضع، كان أولها وحيا مكيا، والثلاثة الباقية مدنية. وهذه المواضع إنما تسجل لنا أربعة مراحل سلكها القرآن الكريم في تحريمه للربا. وهي:

المرحلة الأولى: وهي مرحلة التمهيد. حيث تتم تهيئة الأذهان، وتوطيد النفوس إلى ما سيكون من تحريم الربا. فيقول عز وجل من قائل: (وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله). فالملاحظ في هذه الآية، كما يقول أصحاب التفاسير، أن بعض الأفراد كان يحاول تنمية ماله بإهداء الهدايا منه إلى الموسرين من القوم، كي تعود إليه الهدية مضاعفة. فبين الله لهؤلاء أن هذا المنهج ليس هو الطريق الحقيقي للمناء المبارك. ورسم، جل شأنه في ذات الوقت الوسيلة الحقة للنماء الخير، ألا وهي الزكاة التي يبذلها الفرد بلا مقابل أو عوض، بل يقدمها ابتغاء مرضاة الله حيث يشاء القوي القادر للآية السابقة أن تكتمل على النحو التالي: (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون).

فهذه المرحلة لا تتضمن سوى إرشادا مجردا مفاده أن الربا لا مثوبة عليه من الله. ولكن القرآن لم يورد أن الله قد ادخر عقابا لأكلة الربا. ومن ذلك، فإن أسلوب التفريق بين الربا والزكاة كان كافيا وحده لإيقاظ النفوس الحية وتنبيهها إلى الجهة التي سيتجه إليها الشرع الحكيم.

المرحلة الثانية: وحتى بداخل هذه المرحلة لم يوجه القرآن للمسلمين النهي المباشر عن أكل الربا. وإنما سلك بقصد تقبيح الربا في نظر المسلمين مسلك الإرشاد الضمني والتوجيه غير المباشر، باتباع طريقة القصص التعليمي وممارسة أسلوب الموعظة القصصية. فهو يحدث المسلمين عن اليهود، فيخبرهم بأن الربا قد كان محرما على بني إسرائيل. ولكنهم تعاملوا به عصيانا منهم لأوامر خالقهم. فكان أن توعدهم الله سواء العذاب.

(فبظلم من الذين هادوا، حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وبصدهم عن سبيل الله كثيرا. وأخذهم الربا وقد نهو عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، واعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما).

فهنا الدرس والعبرة يسوقهما القرآن من سيرة اليهود الذين حرم الله عليهم الربا فأكلوه. وعاقبهم الله على عصيانهم أمره. وواضح أن هذه العبرة لا تقع موقعها إلا إذا كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين. ولكنه حتى الآن تحريم بالتلويح والتعريض، لا بالنص الصريح. ومهما يكن من أمره، فإن هذا الأسلوب كان من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقب وانتظار لنهي يوجه إليهم قصدا في هذا الشأن. وبالفعل استشرفت النفوس، إذ ذاك، إلى ورود نهي صريح فيه. وقد جاء هذا بالفعل في المرحلة الثالثة، ولكنه لم يكن إلا نهيا جزئيا: هو نهي عن الربا الفاحش الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة.

المرحلة الثالثة: وفيها ورد أول تحريم صريح للربا الجاهلي الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة.

(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة، واتقوا الله لعلكم تفلحون، واتقوا النار التي أعدت للكافرين).

والربا أضعافا مضاعفة هو “ربا الجاهلية” الذي كان معهودا لدي المخاطبين بهذه الآيات الكريمة لدن نزولها، وليس مطلق المعنى اللغوي للربا، والذي هو الزيادة، وبذلك يكون القرآن قد بدأ التحريم بالربا الفاحش، كخطوة أولى على طري التحريم النهائي لكافة أنواع الربا في المرحلة القادمة.

المرحلة الرابعة: وفيها أنزل الله تعالى، في تصريح قطعي، النهي عن الربا بكافة أنواعه وأشكاله. ومن تعامل به بعد هذا النهي فليأذن بحرب من الله ورسوله.

(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ ذلك أنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا. وأحل الله البيع وحرم الربا. فمن جاءه موعظة من ربه، فانتهى فله ما سلف، وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون. يمحق الله الربا ويربي الصدقات، والله لا يحب كل كفار أثيم…).

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله. وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون. وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وإن تصدقوا خير لكم، إن كنتم تعلمون).

وبهذه الآيات الكريمة ختم الله التشريع في الربا. بل ختم بها التشريع القرآني كله.

ومن هذه الآيات الكريمة، من سورة البقرة، نستخلص ما يلي:

1 – (الذين يأكلون الربا) وأكلة الربا، في نظر الشرع ليسوا هم المرابين الذين يحصلون على الربا فقط، وإن كانوا أول المقصودين بالوعيد والنذير، وإنما هم أفراد المجتمع الربوي كلهم. فعن “جابر بن عبد الله” رضي الله عنه قال: ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه، وقال: هم سواء”.

2 – (إنما البيع مثل الربا) فالجاهلون كانوا يحملون الربا محمل البيع، لا يفرقون بينهما. بل إن قولهم “إنما البيع مثل الربا”، وهو يجعل من البيع مشبها، والربا مشبها به، يكون مؤداه أن الربا هو الركن الأصيل للمعاملات. وقد سبق أن أورد الباحث في المبحث السابق، ذلك الأثر الذي نقله “السيوطي” عند “سعيد بن جبير” ونصه “كان الرجل إذا حل ماله على صاحبه، يقول المطلوب للطالب: زدني في الأجل وأزيدك على مالكن فإذا فعل ذلك قيل لهم: هذا ربا. قالوا: سواء علينا إن زدنا في أول البيع أو عند محل المال فهما سواء”.

والحق أن أخذ الربا مأخذ البيع ليس سوى مغالطة كبرى وخطأ فاحش.

فلقد كانت الشبهة التي ركنوا إليها هي أن البيع يحقق كسبا ومنافع، كما أن الربا يحقق كسبا ومنافع. وهي شبهة واهية، فالبيع والاتجار قابلان للربح والخسارة، وهو ما يتوقف على الجهد الشخصي والمهارة والظروف الاقتصادية والإجماعية والسياسية والنفسية المحيطة. أما العمليات الربوية فهي مؤكدة الفائدة، وهذا هو الفارق الرئيسي، وهو مناط الحل للبيع والتحريم للربا.

كذلك فإن البيع معارضة بين شيئين. أما الربا فهو زيادة على الدين لمقابلة الأجل فقط دون أي مقابل حقيقي. وما يؤخذ بغير مقابل فهو باطل. فكل ما فيه معاوضة صحيحة خالية من أكل أموال الناس بالباطل الذي لا يقابله عوض، يعد بيعا حلالا. وإنما تحرم الزيادة التي يأخذها صاحب المال لأجل الانتظار، وهي لا معاوضة فيها ولا مقابل لهما، فتكون ظلما باطلا.

وبظهور علة تحريم الربا جلية، على هذا النحو، ينتفي قول بعض المفسرين الذين رأوا في تحريم الربا أمرا تعبديا، بمعنى أن الله تعالى أحل هذا وحرم ذلك (وأحل الله البيع وحرم الربا) فيجب أن يطاع الأمر دون البحث عن مناط الحكم.

3 – (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى، فله ما سلف وأمره إلى الله)، أي فمن بلغه تحريم الله تعالى للربا، فتركه فورا بلا تراخ ولا تردد، فله ما كان قد أخذه فيما مضى من الربا. غير مكلف برده إلى من أخذه منهم، بل يكتفي منه بألا يضاعف عليهم بعد البلاغ شيئا. وأمره إلى الله من بعد ذلك يحكم فيه بعدله. وهو أعدل الحاكمين.

والقرآن هنا يرسم السبيل لتطبيق حكم تحريم الربا، حيث لا يسحب تاريخ سريان الحكم إلى ما قبل زمن نزول هذه الآيات. أي أن هذا الحكم بتحريم الربا لا يطبق، كما نقول في الاصطلاح العصري، بأثر رجعي. وبهذا يعالج القرآن الوضاع الربوية التي كانت سائدة في ذلك الزمان معالجة واقعية دون أن يتمخض العلاج عن حسابات أو تعقيدات شائنة، أو يؤدي إلى حدوث هزة اقتصادية واجتماعية. ولكن القرآن يصرح بأشد الوعيد لكل من أكل الربا بعد النهي عنه (ومن عاد فأولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون).

4 – (يمحق الله الربا، ويربي الصدقات) هنا يقارن القرآن بين وجهين متقابلين للتصرف في الأموال: الصدقة والربا. الصدقة عطاء وطهارة وزكاة وسماحة وتعاون وتكافل، والربا شح وأثره وفردية. فالصدقة نزول عن المال بلا عوض وبدون مقابل، والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مسلوبة من جهد المدين وعرقه. ومن ثم فإن حكم الشرع في هذين الوجهين المتقابلين للتصرف في الأمور ليس واحدا ولكن يمحق الله الربا ويربي الصدقات. وارباء الصدقات هو مضاعفة مثوبتها لفاعلها، بزيادة ثمرتها في الدنيا وأجرها في الآخرة. أما المحق في اللغة، فهو محو الشيء، والذهاب به. وعليه يكون المقصود بمحق الربا هو، على ما ذهب إليه جمهور المفسرين، إذهاب بركته وإهلاكه، أو إهلاك المال الذي يدخل فيه. وفي الحديث “أن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل”ن هذا في الحياة الدنيا. أما في الآخرة، فإن المحق يكون، كما قال “الضحاك” بأن يبطل ما يكون فيه مما يتوقع نفعه، فلا يبقى لأهله منه شيء”. وعن ابن عباس في تفسير قوله تعالى (يمحق الله الربا) أنه “لا يقبل منه صدقة ولا حجا ولا جهادا ولا صلة”.

5 – (وذروا ما بقي من الربا، إن كنتم مؤمنين) فالتنزيل هنا يعلق إيمان الفرد رهينة بانصياعه لأمر ربه في شأن ترك الربا. ويتفرع عن هذا أنه ليس بمؤمن من يتعامل بالربا، أو يقره كتنظيم اقتصادي للبشر.

6 – (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله)، فأذنوا أي فاعملوا وزنا ومعنى وهي قراءة الجمهور واختلف المفسرون حول ماهية الحرب التي يشنها الله ورسوله على المرابين فقيل هي حرب حقيقية يشنها الإمام على المرابين، كحرب المرتدين، إن كان بقاؤهم على أكل الربا عن استحلال له، وكحرب البغاة إن كانوا آكلين له مع اعتقادهم بحرمته. كما قيل بأن الإيذان بالحرب من الله ورسوله أعم من القتال بالسلاح من الإمام. فهذه الحرب معلنة على كل مجتمع يجعل من الربا قاعدة لنظامه الاقتصادي. وأسلحة هذه الحرب هي كل الشرور والآثام التي يحلقها النظام الربوي المقيت بالجامعة الإنسانية. وجمهور المفسرين على الرأي الأول.

7 – (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم. لا تظلمون ولا تظلمون)ز وهنا تنتهي الآيات الكريمة إلى إقرار حكم العدالة الإلهية في مجال الائتمان. فيقول عز وجل (وإن تبتم) ورجعتم عن الربا (فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون) غرماءكم بأخذ الزيادة (الربا) منهم (ولا تظلمون) بنقص شيء من أصل مالكم، بل تأخذونه كاملا غير منقوص. وهذا هو القرض الحسن، وهو نصف الصدقة.

8 – (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) فهذه الآيات إنما تندب المؤمنين إلى مرتبة الفضل، ودرجتان: الدنيا هي انتظار المدين المعسر لحين ميسرة، والكبرى هي التصدق بذات القرض للمدين المحتاج، ففي الصدقة خير (إن كنتم تعلمون).

تعقيب

والآن، وبعد استعراض نصوص التشريع القرآني مرتبة حسب تسلسلها التاريخي، بقيت للباحث كلمة في الرد على النفر الذين يزعمون أن القرآن يفرق بين الربا المعقول أو المعتدل والربا الفاحش أو المبالغ فيه.

والواقع أن هذه الفئة من الباحثين لم تكتف بأنها خالفت إجماع علماء المسلمين في كل العصور، ولا بأنها عكست الوضع المنطقي المعقول، حيث جعلت التشريع الإسلامي بعد أن تقدم إلى خاتمة المطاف في إتمام مكارم الأخلاق، يرجع على أعقابه ويتدنى إلى وضع غير كريم. بل أنها قلبت الوضع التاريخي، إذ اعتبرت المرحلة الثالثة للتشريع القرآني بصدد الربا مرحلة نهائية، بينما لم تكن هذه المرحلة سوى خطوة انتقالية في التشريع، لا يخالف في ذلك مفسر ولا محدث ولا فقيه – وحتى لو افترضنا هذا المجال ووقفنا معهم عند النص الثالث لا نتجاوزه، فإننا لا نجد فيه كسبا لقضيتهم أو تأييدا لوجهة نظرهم في التفرقة بين الربا المعتدل والربا الفاحش. فقبل كل شيء لا يوجد دليل على أن كلمة (أضعافا مضاعفة) في الآية شرط لا بد منه في التحريم. إذ من الجائز أن يكون ذلك عناية منه تعالى بذم نوع بعينه من الربا، وهو الربا الفاحش الذي يبلغ مبلغا فاضحا في الشذوذ عن المعاملات الإنسانية، من غير قصد إلى تسويغ الأموال المسكوت عنها التي تقل عنه في هذا الشذوذ.

ومن جهة أخرى فإن قواعد اللغة العربية تجعل كلمة (أضعافا) في الآية وصفا للربا لا لذات رأس مال القرضن كما يفهم من تفسير هؤلاء الباحثين. ولو كان الأمر كما يزعمون لكان القرآن لا يحرم من الربا إلا ما بلغ 600% من أصل القرض. لأن الربا لكي يكون (أضعافا) لا بد أن يصل إلى ثلاثة أمثال رأس المال على الأقل. فإذا ما كانت هذه الأضعاف (مضاعفة) كان الربا سنة أمثال القض على الأقل، وهذا لم يحدث في معاملة أجشع المرابين، ولم تقره حتى قوانين أشد المجتمعات تخلفا، ومن ثم يكون القرآن الكريم في رأيهم متخلفا عن جميع الشرائع السماوية والوضعية في هذا الشأن. بينما لو صرفنا وصف “الأضعاف المضاعفة” إلى ذات الربا، وفقا للمقتضى قواعد اللغة العربية، لتغير الموقف تغيرا تاما، ولأصبح أي ربا، مهما كان ضئيل القيمة، عملا محظورا غير مشروع بمقتضى التفسير الصحيح والمقبول للنص الذي يتمسكون به.

ولا تصلح هنا، في هذا الصدد، التفرقة بين معنيين مختلفين لكلمتي “الربا” و”الفائدة”، بحيث ينصرف معنى كلمة الفائدة إلى الزيادة المعتدلة أو المعقولة على أصل القرض، وتخصص كلمة “الربا” لمعدلات العائد على رأس المال المبالغ فيها إلى حد الفحش، فالواقع أن هذه التفرقة تقليد غربي حادث، ليس من تشريع الإسلام في شيء. ذلك أن المعنى اللغوي للربا إنما ينصرف إلى كل زيادة على رأس المال، قل أو كثرت.

بل وينبه الباحث إلى أن الحكم على سعر الربا، وما إذا كان معتدلا أو فاحشا إنما هو ما يجعل تطبيق أحكام الشرع محاطا بكثير من التضارب والاختلافات.

خلاصة كل ما تقدم، أنه لا يتأتى الوقوف بالتشريع عند هذا النص الانتقالي. فالحكم الأخير في القضية إنما تمثله الآيات من سورة البقرة الواردة في الموضع الرابع من التنزيل والتي تؤكد اتجاه الشريعة القرآنية كلها، ومنذ البداية إلى استنكار أية زيادة تؤخذ من المدين ثم أليس من قبيل التناقض المكشوف أن الشريعة التي تحض على انتظار المدين المعسر أو ترك أصل الدين له، تعود فتأخذ بالشمال ما منحته باليمين حين تأذن للغني بأن يطالبه ببعض الزيادة على الدين؟!!

المبحث الثاني

السنة والربا

جاءت السنة الشريفة بتحريم “ربا الجاهلية” وهو المعروف “بربا النسيئة” الذي نص على تحريمه القرآن الكريم، أيضا، حتى سمى “بربا القرآن”. ولكن السنة نصت على تحريم نوع آخر من الربا، يعرف “بربا البيوع” وهو ما يشمل كلا من “الربا الفضل” و”ربا النساء”. وبذلك أصبح “الربا على وجهين: حقيقي ومحمول عليه. أما الحقيقي فهو الديون… وأن الناس كانوا منهمكين فيه في الجاهلية أشد انهماك وكان حدث لأجله محاربات مستطيرة، وكان قليله يدعو إلى كثيره، فوجب أن يسد بابه بالكلية. ولذلك نزل في القرآن في شأنه ما نزل. والثاني ربا الفضل. والأصل فيه الحديث… وهو مسمى بربا تغليظا وتشبيها له بالربا الحقيقي… ثم كثرا استعمال الربا في هذا المعنى حتى صار حقيقة شرعية فيه أيضا”.

ويعرض الباحث موقف السنة الشريفة من مسألة الربا، في إطار مطلبين متتاليين.

يقوم الأول بعرض نصوص الأحاديث الشريفة الواردة في الربا، وبيان تعارض مدلولات الأحاديث وينهض الثاني بتفصيل محاولات إزالة هذا التعارض القائم بين مدلولات أحاديث الربا.

المطلب الأول

أحاديث الربا وتعارض مدلولاتها

يمكن تقسيم الأحاديث الشريفة الواردة في الربا إلى قسمين رئيسيين:

أما القسم الأول فينهي عن التعامل في سلع معينة، إلا بمراعاة شروط القسم الثاني إلى النهي عن نوع معين من الربا، وهو المعروف بربا النسيئة. وظاهر الأحاديث في القسم الثاني أنها تحصر الربا في هذا النوع فقط.

1 – أحاديث الأصناف الستة:

رويت هذه الأحاديث مرفوعة عن عدد كبير من الصحابة. منهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ومنهم عبادة بن الصامت وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وفضالة بن عبيد وأبو بكرة وأبو الدرداء وأبو أسيد الساعدي ورويفع بن ثابت وبريدة وغيرهم من جلة الصحابة. ومن هؤلاء الرواة سبعة من العشرة المبشرين بالجنة.

وأشهر الأحاديث الحديثان اللذان رواهما عبادة بن الصامت وأبو سعيد الخدري ولذا يذكرهما الباحث بالنص، كما يكتفي بهما في هذا الصدد.

أ – حديث عبادة بن الصامت:

روى أصحاب السنن الستة، ما عدا البخاري، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد”.

ب – حديث أبي سعيد الخدري:

عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء”.

وما تقدم هو لفظ الحديث رواه “مسلم” في صحيحه، وهو أتم ألفاظه. وفي لفظ آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تبيعوا الذهب بالذهب غلا مثل بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض. ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منهما غائبا بناجز” (متفق عليه).

2 – أحاديث ربا النسيئة:

أشهر هذه الأحاديث، وظاهرها حصر الربا في النسيئة، حديثا أسامة والبراء بن عازب ولذا يذكرهما الباحث نصا ويكتفي بهما في هذا الصدد.

أ – حديث أسامة:

عن أبي صالح الزيات أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: “الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم”. فقلت له “فغن ابن عباس لا يقوله”. فقال أبو سعيد “سألته فقلت: (هل)” سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أو وجدته في كتاب الله تعالى؟”. فقال: “كل ذلك لا أقول وأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولكن أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا ربا إلا في النسيئة” – رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري. روى في الصحاح بألفاظ أخرى، هي: “إنما الربا في النسيئة” و”أن الربا في النسيئة” و”لا ربا فيما كان يدا بيد”. وفي لفظتين رواهما “الطبراني”: “ليس الربا إلا في النسيئة والنظرة” و”لا ربا إلا في الدين”.

ب – حديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم:

روى هذا الحديث بألفاظ ثلاثة. إثنان في الصحيحين، والثالث في خارجهما.

اللفظ الأول: روى البخاري من حديث ابن جريح عن عمرو بن دينار وعامر بن مصعب عن أبي المنهال، قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف. فقالا: كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف، فقال: إن كان يدا بيد فلا بأس. وإن كان نساء فلا يصلح”.

اللفظ الثاني: روى مسلم عن محمد بن حاتم عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال، قال: باع شريك لي ورقا نسيئة إلى الموسم (أو إلى الحج)، فجاء إلي، فأخبرني، فقلت: هذا الأمر لا يصلح. قال: فقد بعته في السوق فلم ينكر ذلك علي أحد. فأتيت البراء بن عازب، فسألته، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نبيع هذا البيع، فقال: “ما كان يدا بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا” وائت زيد بن أرقم فإنه أعظم تجارة مني. فأتيته، فسألته، فقال مثل ذلك.

اللفظ الثالث: (وقد ورد خارج الصحيحين) رواه عبد الله بن الزبير الحميدي (صاحب الشافعي وشيخ البخاري) عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال، قال: “باع شريك لي بالكوفة دراهم بدراهم بينهما فضل”. فقلت: “ما أرى هذا يصلح”. فقال “بعتها في السوق فما عاب ذلك على أحد”. فأتيت البراء بن عازب، فسألته، فقال: “قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وتحادثنا هكذا، وقال: “ما كان يدا بيد فلا بأس، وما كان نسيئة فلا خير فيه”. وائت زيد بن أرقم، فإنه كان أعظم تجارة مني، فأتيته، فذكرت ذلك، فقال “صدق البراء”.

والواقع أن المطلع على هذين الصنفين من الأحاديث إنما يلحظ ظاهر التعارض بين أحاديث ربا النسيئة وأحاديث ربا الفضل. فظاهر أحاديث ربا النسيئة هو حصر الربا كله في هذا النوع، وهو ما يعني تطابق ربا السنة مع ربا القرآن، فتكون العلاقة بينهما علاقة تساوي، ويؤدي هذا إلى إباحة ربا الفضل، وهو محرم بنص أحاديث الأصناف الستة.

إن ظاهر التعارض بين أحاديث ربا النسيئة وأحاديث ربا الفضل قد حدا بفريق من فقهاء المسلمين إلى القول بجواز ربا الفضل حيث لا ربا إلا في النسيئة.

وإن كان من المعلوم أن هؤلاء الفقهاء قد عدلوا عن إنكارهم لربا الفضل، وبذلك صار الإجماع بين فقهاء التابعين، ومن جاءوا بعدهم، على تحريم ربا الفضل وربا النسيئة معا، فالأمر لم يزل بحاجة إلى وقفة متأنية بشأن إزالة ظاهر التعارض بين أحاديث الأصناف الستة وأحاديث ربا النسيئة، وهي مهمة المطلب التالي.

المطلب الثاني

إزالة التعارض بين مدلولات الأحاديث

أمام ظاهر التعارض بين مدلولات أحاديث الأصناف الستة وأحاديث ربا النسيئة، دار البحث حول إمكان الجمع بين هذين النوعين من الأحاديث، بتأويل أحدهما تأويلا من شأنه رفع ظاهر تعارضه مع النوع الآخر، أو القول بنسخ أحدهما لحكم النوع الآخر، أو الترجيح بينهما، أي ترجيح أحدهما على الآخر.

ويناقش الباحث هذه المحاولات على التوالي:

1 – التأويل:

أ – حديث أسامة:

ذكر بالنظر لهذا الحديث تأويلات أربعة، هي كالآتي:

1 – حملة على حصر الربا في النسيئة، باعتبار حالة البدلين من صنفين مختلفين وحيث تجيز أحاديث الأصناف الستة، في هذه الحالة، التفاضل ولا تحرم سوى التأخير (أي النسيئة) فقط.

2 – حملة على حصر الربا في النسيئة، باعتبار حالة البدلين المتماثلين من صنف واحد، حيث تجوز مبادلتهما حالا، أي باشتراط “الحلول” ولا تجوز نسيئة، بتأخير أحد البدلين.

وهذا التأويل بعيد، لأنه قائم على تقييدين ينافيان إطلاق الحديث. التقييد بالصنف الواحد، وظاهر الحديث إطلاق الربا بكل أنواعه. والتقييد بالصنف الواحد، وظاهر الحديث إطلاق الربا بكل أنواعه. والتقييد بالتماثل، بنفس زيادة أحد البدلين على الآخر. وظاهر معنى الربا هو الزيادة في مقابل الإنساء أي الأجل، لا الأجل الذي لا تقابله زيادة.

3 – حملة على غير الأصناف الربوية، كبيع الدين بالدين، وهو منهي عنه بالحديث “نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ”.

وهذا التأويل ابعد من التأويل السابق له، لأنه يقتضي حصر أنواع الربا، على ما هو ظاهر الحديث، في حالة واحد، فضلا عن أنه يوجد خلاف بين الفقهاء في حكم تحريمها، وهي بيع الكالئ بالكالئ، أي الدين بالدين.

4 – ذكر العلامة “ابن رشد” تأويلا رابعا، فقال: “يحتمل أنه يريد بقوله (لا ربا إلا في النسيئة) من جهة أنه الواقع في الأكثر. وإذا كان هذا محتمل والأول نص وجب تأمله على الجهة التي يصح الجمع بينهما.

وينبه الباحث إلى أن تقي الدين السبكي بعد أن عرض التأويلات الثلاثة الأولى، ذكر أنها متفقة على الجمع بين حديث أسامة وأحاديث الأصناف الستة. ومع ذلك فهو يشير إلى أن ابن الصباغ يرى وجود مانع من الجمع بين الحديثين. وينقل ابن السبكي من قول ابن الصباغ في كتابه “عدة العالم في أصول الفقه” ما يلي “أنه إن أمكن الجمع بين الحديثين جمع، إلا أن يقع الإجماع. مثل حديث ابن عباس (إنما الربا في النسيئة) وحديث أبي سعيد. فأنه يمكن أن يحمل حديث ابن عباس على الصنفين المختلفين، إلا أن الجماعة اتفقوا على تعارض الخبرين”. ومؤدى هذا أن ابن الصباغ لا يقر التأويل للإجماع على التعارض.

ب – حديث البراء وزيد:

ذكر بالنظر لهذا الحديث تأويلان:

الأول هو حمله على معنى بيع دراهم بشيء غير ربوي (أي ليس من الأصناف الستة)، ويكون الفساد لا بسبب التفاضل، بل بسبب التأخير إلى الموسم أو الحج (أي بسبب النسيئة). ذلك أن الموسم أو الحج غير محرر، ولا سيما على ما كانت العرب تفعل.

وهذا التأويل بعيد لتقييده للفظ “الصرف” وهو منطلق بالمعنى. هذا من جهة ومن جهة أخرى، فهو يخالف سياق الحديث، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم “إن كان يدا بيد فلا باس، وإن كان نساء فلا يصلح” فهذا الحكم لا يستقيم جوابا لسؤال عن حالة محددة خاصة بمبادلة ليس فيها ربا، وإنما فيها أجل غير منضبط.

والتأويل الثاني هو حمله على أن يكون البدلان من صنفين مختلفين، وهو مماثل لتأويل الشافعي – رحمه الله – لحديث أسامة.

وهذان التأويلان أوردهما تقي الدين السبكي. وهو يرى أن اللفظين الواردين في الصحيحين يحتملانهما، لأن فيهما السؤال عن الصرف مطلقا، وعن بيع الورق نسيئة بخلاف اللفظ خارج الصحيحين (دراهم بدراهم)، حيث لا يحتمل أيا من التأويلين.

ويشير ابن السبكي إلى موقف “البيهقي” من رواية اللفظ الثالث (دراهم بدراهم) حيث يرى البيهقي أنها خطأ عنده. ومستنده في ذلك ما يلي:

1 – أن الحديث بهذا اللفظ (دراهم بدراهم) رواه الحميدي عن سفيان بن عيينة، مخالفا بذلك ثلاثة آخرين رووا الحديث نفسه عن سفيان أيضا بلفظ ليس فيه التقييد الذي لا يحتمل التأويل. وعلى رأس الثلاثة على بن المديني (الذي روى عنه البخاري)، والاثنان الآخران هما محمد بن حاتم (الذي روى عنه مسلم) ومحمد بن منصور (الذي روى عنه النسائي).

2 – أن كلا من الحميدي وعلي بن المديني في غاية التثبيت. ويترجح ابن المديني في هذا الحديث على الحميدي بمتابعة الاثنين الآخرين له، وبشهادة ابن جريج له لأن ابن جريج روى اللفظ الأول (الذي أخرجه البخاري أيضا)، وليس فيه التقييد، بل فيه السؤال عن الصرف مطلقا. وقد روى ابن جريج هذا اللفظ عن عمرو بن دينار الذي روى عنه سفيان.

3 – كذلك تعزز رجحان رواية ابن المديني (والاثنين اللذين تابعاه) رواية أخرى رواها حبيب بن أبي ثابت، ونصها في صحيح البخاري كما يلي “حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة أخبرني حبيب بن أبي ثابت، قال سمعت أبا المنهال، قال سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم  رضي الله عنهما عن الصرف. فكل واحد منهما يقول هذا خير مني فكلاهما يقول نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا”.

في هذه الرواية تصريح بأن المقصود بلفظ “الصرف” هو “بيع الذهب بالورق” بما يؤيد تأويل الحديث بحمله على مبادلة بدلين مختلفي الصنف، وهو ما يخالف رواية الحميدي (دراهم بدراهم) التي لا تحتمل هذا التأويل.

وعقب تقي الدين السبكي على ما ذهب إليه البيهقي رحمه الله من تخطئة رواية الحميدي “دراهم بدراهم”، قائلا: “وقد لا يجسر الفقيه على الحكم بالتخطئة بمجرد ذلك. ونقول انه لا منافاة بين روايات عمرو بن دينار، فإن منهما ما أطلق فيه الصرف، ومنها ما بين أنها (دراهم بدراهم)، فيحمل المطلق على المقيد جمعا بين الروايتين، فإن أحدهما بين ما أبهمه الآخر.. وحينئذ يضطر إلى النسخ إن ثبت موجبه أو ترجيحه”.

وبذلك يكون ابن السبكي قد دفع مستند البيهقي في تخطئة رواية الحميدي لحديث البراء وزيد. وبوجود هذه الرواية يصبح الحديث غير محتمل التأويل، وهو ما يقتضي اللجوء إلى النسخ أو الترجيح بين هذا الحديث وأحاديث الأصناف الستة.

2 – النسخ

رأى بعض الفقهاء أن حصر الربا في النسيئة منسوخ. ومنهم عبد الله بن الزبير الحميدي راوي حديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم بلفظ (دراهم بدراهم) الذي لا يحتمل التأويل، حيث قال الحميدي عقب إثبات الرواية “هذا منسوخ لا يؤخذ بهذا”.

وذكر تقي الدين السبكي أن “الحاوي” (وهو من علماء الشافعية) قد تعقب دعوى النسخ فأوضح ما يلي:

1 – إن من ادعى النسخ قد استند إلى حديث من رواية “بحر الشفاء” عن عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم “نهى عن الصرف قبل موته بشهر وهذا حديث واهي الإسناد، وبحر الشفاء لا تقوم به الحجة.

2 – هناك حديث يدل على أن النهي كان يوم غزوة خيبر. والحديث لفضالة بن عبيد، حيث قال: “كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود أوقية الذهب بالدينارين والثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبايعوا الذهب إلا وزنا بوزن”. وبهذا يكون النهي قد تقرر قبل موت النبي ببضع سنوات لا بشهر.

3 – فإذا ما كان النهي قد ورد يوم خبير، فإن الأمر يقتضي البحث عما إذا كان أسامة قد سمع حديثه من النبي صلى الله عليه وسلم قبل يوم خيبر، فيثبت النسخ، وبغير ذلك لا يثبت وحينئذ فلا مناص من الذهاب مذهب الشافعي في تأويل للحديث جمعا بينه وبين أحاديث الأصناف الستة.

وقد سجل الحاوي أنه جد في البحث عما إذا كان هناك حديث يؤكد رواية أبي بكرة، وبين تقدم حديث أسامة، حتى يمكن قبول دعوى النسخ، فلم يجد لمدعي النسخ سندا من هذا القبيل، غير ما أشار إليه الحميدي، عقب روايته لحديثه، من أنه منسوخ.

ويتضح مما تقدم أن كلام الحميدي لا ينهض، في نظر الحاوي، حجة للقول بالنسخ.

وقد ذكر ابن السبكي أن “الماوردي” جزم بالنسخ في حديث البراء وزيد، لأنه على حد قول الماوردي “مروي عن أول الإسلام قبل تحريم الربا”.

خلاصة كل النقاش المتقدم أنه لا توجد الأسانيد التي تدعم دعوى النسخ. وأن النسخ لا يثبت بالظن، حيث أن مجرد احتمال النسخ لا يصلح لإثبات وقوع النسخ فعلا. ومن ثم فلا مناص من اللجوء إلى الترجيح.

3 – الترجيح

ذكر في ترجيح أحاديث ربا الفضل (أحاديث الأصناف الستة) على حديث أسامة وجهان:

الوجه الأول أورده الشافعي – رحمه الله – في كتاب “اختلاف الحديث” حيث قال “فأخذنا بهذه الأحاديث” أحاديث ربا الفضل “التي توافق حديث عبادة، وكانت حجتنا في أخذنا بها وتركنا حديث أسامة بن زيد، إذ كان ظاهره يخالفها، قول من قال أن النفس على حديث الأكثر أطيب لأنهم أشبه أن يحفظوا من الأقل. وكان عثمان بن عفان وعبادة بن الصامت أسن وأشد تقدم صحبة من أسامة، وكان أبو هريرة وأبو سعيد الخدري أكثر حفظا عن النبي، فيما علمنا، من أسامة”.

فالشافعي يرجح أحاديث ربا الفضل على حديث أسامة الخاص بربا النسيئة بالنظر إلى أن روايتها أكثر عددا وأكبر سنا وأطول صحبة للنبي صلى الله عليه وسلم من أسامة بن زيد.

والوجه الثاني أورده الحافظ بن حجر في شرحه لصحيح البخاري المسمى فتح الباري، والعلامة ابن رشد في كتابه “بداية المجتهد”. ويورد الباحث عبارتيهما في هذا الصدد.

أ – عبارة ابن حجر: “وأيضا فنفى تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد لأنه دلالته بالمنطوق”.

ب – عبارة ابن رشد: “فصار الجمهور إلى هذه الأحاديث (أحاديث ربا الفضل) إذ كانت نصا في ذلك. وأما حديث ابن عباس فإنه ليس بنص في ذلك، لأنه روى فيها لفظان. أحدهما أنه قال (إنما الربا في النسيئة)، وهذا ليس يفهم منه إجازة التفاضل إلا من باب دليل الخطاب، وهو ضعيف، ولا سيما إذا عارضه النص، وأما اللفظ الآخر، وهو (لا ربا في إلا النسيئة) فهو أقوى من هذا اللفظ، لأن ظاهره يقضي أن ما عدا النسيئة فليس بربا”.

تعقيب

بقيت للباحث ثلاث ملاحظات انتهائية يثبتها في هذا التعقيب.

فأولا: يرى الباحث، بالنظر إلى ظاهر التعارض بين أحاديث ربا الفضل وأحاديث ربا النسيئة، أن التأويل الذي قال به الشاه ولي الله الدهلوي وما ماثله من تأويلات ابن القيم والحافظ بن حجر هي الأقرب إلى المنطق المبسط للأمور وهو ما ينتهي بالباحث إلى القول بتقسيم الربا جلي أو مغلظ أو حقيقين وهو ربا النسيئة أو ربا الديون المتعارف عليها في الجاهلية، وفيه يتجسد المعنى اللغوي للربا. وهو الربا الذي جاء القرآن بتحريمه. وربا الفضل وهو الربا الخفي وإنما يسمى ربا للتغليظ والتقبيح، لأنه يمهد السبيل إلى الربا الحقيقي، فكان تحريمه من باب سد الذرائع، وبذلك يكون ربا النسيئة محرما لذاته، بينما يكون ربا الفضل محرما لغيره.

ولقد دفع الباحث إلى قبول هذا التأويل إلى القاعدة التي تنص على عدم اللجوء إلى النسخ أو الترجيح إلا عند تعذر التأويل جمعا بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض وقد بين الباحث مدى ضعف دعوى النسخ؛ لعدم ظهور أسانيد مقنعة للقول بها. أما الترجيح فهو آخر مخرج يلاذ به عندما تسد بقية السبل.

ثانيا: أن ظاهر التعارض بين أحاديث ربا الفضل وأحاديث ربا النسيئة قد أصبح غير ذي بال بعد إجماع علماء الفقه الإسلامي على تحريم ربا الفضل. وهو ما أورده السبكي في تكملة المجموع” عن النووي وابن عبد البر، وحصره في ثلاثة أوجه:

الأول هو دعوى إجماع العصر الأول من غير خلاف. استنادا إلى أن قلة عدد المخالفين تجعل خلافهم غير معتبر.

والثاني هو دعوى رجوع المخالفين وصيرورة التحريم أمرا مجمعا عليه قبل انقراض العصر الأول.

والثالث هو دعوى انعقاد الإجماع متأخرا بعد انقراض العصر الأول الذي حدث فيه الخلاف.

وأيا كان الوجه الذي تم عليه إجماع فقهاء الإسلام على تحريم ربا الفضل، فإن هذا الإجماع، وهو يجعل التحريم منصبا على ربا النسيئة وربا الفضل معا، إنما يضعف من حجة القول بتعارض مدلولات الأحاديث الورادة فيهما. إذ أن الحكم الشرعي بصددهما واحد، وهو التحريم.

ثالثا: يلاحظ الباحث أن موقف السنة من قضية الربا قد تم وروده ضمن مسألة تنظيم المبادلات (البيوع)، وحيث يحدث تقسيم الأشياء التي يتم تبادلها في ثلاثة أنماط.

النمط الأول خاص بتبادل الأشياء من نفس الصنف كالذهب بالذهب والحنطة بالحنطة، حيث يخضع التبادل لشرطين اثنين: المماثلة، أي التساوي في الحكم، والحلول، أي الفورية في إجراء التبادل بعدم تأخير أحد البدلين عن الآخر.

وينتج عن تخلف شرط المماثلة ما يعرف بربا الفضلز كما ينجم عن تأخير أحد البدلين ما يعرف بربا النساء أو النسيئة.

والنمط الثاني متعلق بتبادل الأشياء من صنفين مختلفين من جنس واحد، كالذهب بالفضة والقمح بالشعر. وهنا يخضع التبادل لشرط واحد، وهو الحلول أي الفورية فقط، حيث يجوز التفاضل أي اختلاف الكم بين البدلين، بينما لا يزال تأخير أحد البدلين حراما يدخل في باب ربا النسيئة.

والنمط الثالث ينصرف إلى تبادل الأشياء مختلفة الأجناس كالفضة بالطعام وهنا لا يخضع التبادل لأي قيد أو شرط، بل يصير حرا.

وهكذا جعلت السنة جميع صفقات المبادلات تخضع لقاعدة التحريم على درجات متفاوتة في تدرج حكيم ينتقل من الحظر الكلي إلى الإباحة التامة، مرورا بكل الدرجات المتوسطة بينهما. فكلما كان البدلان من طبيعتين مختلفين تماما الاختلاف، حيث لا توجد شبهة القصد إلى البدلان من طبيعتين مختلفين تمام الاختلاف، حيث لا توجد شبهة القصد إلى القرض الربوي، فإن الشريعة لا تضع أمام حرية التبادل حدا من الحدود، اللهم إلا المبدا العام في المعاملات، وهو تحرى الصدق والأمانة. على أنه إذا ما أخذت طبيعة البدلين تتقارب. بدون أن تتحد، نجد لدي المشرع شيئا من الحذر المعقول المبني على احتمال أن يكون المتبادلان قد قصدا إلى معاملة ربوية. ولذلك نجده، مع ترخيصة لهما بتفاوت البدلين في الكم، يحظر عليهما تأجيل أحد العوضين، سدا للطريق أمام فكرة القرض المحرم تحت ستار البيع. أما إذا اتحد الصنف في البدلين “حتى مع التفاوت في الأوصاف والقيم” فإنه من السهل أن نفهم الحكمة التي من أجلها منع الشارع تأجيل أحد البدلين أو تفاضلهما. فإن من شأن التأجيل أو التفاضل أن يحمل في طية فكرة محظورة، وهي فكرة القرض الربوي تحت ستار البيع.

ومع ذلك فإننا ما زلنا في حاجة إلى تفسير الحكم الشرعي القاضي بتماثل البدلين من جنس واحد على الرغم من أن مستوى الجودة قد يختلف بين البدلين. ذلك أن ظاهر هذا الحكم إنما يوحي بأن الشرعية إنما الشرعية إنما تغفل فروق الجودة ونوعية المواصفات في كل من البدلين. ذلك أن ظاهر هذا الحكم إنما يوحي بأن الشرعية إنما تغفل فروق الجودة ونوعية المواصفات في كل من البدلين. على أن هذا اللبس سرعان ما يزول عندما نتذكر ذلك الحديث الشريف الذي رواه مسلم، في جامعه الصحيح، من أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من التمر. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “ما هذا من تمرنا”. فقال الرجل: “يا رسول الله. بعنا تمرنا صاعين بصاع”. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ذلك الربا. ردوه ثم بيعوا تمرنا، ثم اشتروا لنا من هذا” وهنا يظهر الهدف من اشتراط التماثل بين لابدلين. فليس من شأن هذا الشرط أن يفرض على المتبادلين – اعتباطا أو تعنتا – تساوي الكمية بين نوعين مختلفين من صنف واحد، بل أنه على العكس من ذلك، قد فتح لهما باب الاختيار بين أمرين يمتنع معهما كل قهر وإلزام حيث خيرهما بين أن يتغاضيا عن فروق الجودة بين النوعين، أو أن يلجأ في تقدير هذه الفروق إلى حكم مقياس القيم الاقتصادية: النقود.

وهذا الحكم إنما ينطوي على حكمة عملية عميقة، ومغزي اخلاقي عظيم. وذلك انه حيث تكون هناك كميتان متساويتان من صنف واحد. ولكن إحداهما تمتاز بجودة أوصافها فإن الذي يقبل النوع الأقل جودة إنما يقبله بملء إرادته وبمطلق حريته عن سماحة نفس وكرم طبع، فهو عالم بما يفعل، فضلا عن أن له أنه يرفض. وليس الأمر كذلك طبع، فهو عالم بما يفعل، فضلا عن أن له أن يرفض. وليس المر كذلك في الحال التي تكون فيها الجودة من ناحية تقابلها وفرة في الكم من ناحية أخرى، إذ يتم هنا تقابل بين أمرين ليس بين طبيعتهما مقياس مشترك يصلح لتقويم كل منهما بالنسبة إلى الآخر. والواقع أنه في هذا النوع من التبادل يلجأ كل من المتعاملين إلى فكرة كامنة في أعماق نفسه، وهي الرغبة في النزول عما هو أدنى في سبيل الحصول على ما هو أثمن. وهكذا يصبح قبولهما الظاهري للصفقة قبولا زائفا، ولا مخرج من هذا اللبس إلا بالرجوع إلى النقد حيث يتم التقويم النقدي لكل بضاعة على حدة، ثم تجري المقارنة بين الأثمان. وهذا هو المغزي الذي أرادت السنة إبرازه، حتى يكون كل من طرفي العقد على بينة في معاملاته وحتى يتجنبها التدليس ويتطهرا من السحت المأخوذ بالحلية والمكر.

وبذلك يكون التشريع النبوي، في باب المبادلات قد هدف إلى غرض مزدوج.

فهو من جهة قد نظم عمليات تداول النقود والأطعمة، وهما أهم حاجات الجماعة وأعظم مقومات حياتها. وقد جاء هذا التنظيم بما يمنع وسائل احتكارهما أو تعريضهما للتقلبات العنيفة للأئمان.

وهو من ناحية أخرى قد تضمن حماية الفقراء والأغرار من طرق الغبن والتدليس والاستغلال التي يتبعها التجار الجشعون.

المبحث الثالث

الربا في الفقه

تنحصر أهم مباحث الربا في الفقه الإسلامي في ثلاث مسائل:

المسألة الأولى هي بحث العلة في الربا وتنصرف إلى تحديد مناط التحريم في المعاملات أي تعيين الوصف المؤثر الذي يتحققه، في غير الأصناف الستة، ينطبق عليها حكم حرمة الربا بطريق القياس.

والمسألة الثانية تنصرف إلى بحث عدة أمور فرعية، ترجع إلى طريقة كل مذهب في فهم نصوص الأحاديث، واستنباط ما يعتبر مكملا لمناط التحريم الذي حققه كل مذهب في بحث العلة. كاشتراط (أو عدم اشتراط) التقابض (بالإضافة إلى شرط الحلول). وكاشتراط (أو عدم اشتراط) العلم بالمماثلة بين البدلين.

أما المسألة الثالثة فتنصرف إلى بحث بعض العقود التي يصفها بعض الفقهاء بالربوية رغم أنها، في ظاهرها، بيوع أو معارضات عادية. كبيع العينة، وبيع وقرض معا أو صفقتين في صفقة، وبيع الوفاء ثم القرض يجر نفعا.

ويعرض الباحث لهذه المسائل في مطالب ثلاثة على التوالي.

المطلب الأول

مذاهب الفقه وعلة الربا

فيما يتعلق بعلة الربا، انقسمت مذاهب الفقه إلى فريقين متميزين:

الفريق الأول، يرى حصر الربا في نطاق الأصناف الستة فقط، فلا يتعدى حكم التحريم سواها. وهؤلاء هم المنكرين لحجية القياس في الشرع (مثل قتادة)، أو القائلين بعدم جواز إعماله في مسألة الربا بالذات، لاعتبارات تجعلهم لا يطمئنون إلى صحة هذا الإعمال. ومنهم “عثمان البتي”، الذي يرى “عدم جواز القياس على الأصول إلا أن يقوم دليل في أصل، على جواز القياس عليه. ويرى أن هذا الدليل غير موجود في قضية الربا” وكذلك “ابن عقيل”، وذلك لان “علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة”. ومن هذا الفريق أيضا مذهب أهل الظاهر، حيث ذهب الظاهرية إلى إنكار القياس عامة، بل وفي مسألة الربا على نحو خاص. ويرى الظاهرية “أن الربا لا يكون إلا في بيع أو سلم أو قرض. وأن الربا لا يقع في البيع أو السلم إلا في الأصناف الستة الواردة في الأحاديث. أما في القرض، فإن الربا يقع في كل شيء فلا يحل بحال لمقرض أن يسترد أكثر من قرضه أو يستبدل به شيئا من صنف آخر. والفرق بين البيع والسلم وبين القرض هو أن البيع والسلم يكون في صنف بصنف آخر، وفي صنف بصنفه، ولا يكون القرض إلا في صنف بصنفه”.

أما الفريق الثاني، فيرى أن الأصناف الستة ليست مقصودة لذاتها، ومن ثم يجب ألا يقتصر عليها في تحريم الربا، بل يتعدى حكم التحريم إلى كل الأصناف، عداها، مما يشتمل على علة التحريم، لأن أحاديث الأصناف الستة لا تنص على حصر الربا في هذه الأصناف الستة لا تنص على حصر الربا في هذه الأصناف فقط. غاية الأمر، أن ذكر هذه الأصناف إنما جاء بسبب أن عامة المعاملات كانت فيها. وأصحاب هذا الرأي هم القائلين بحجية القياس في المسائل الفقهية، ولا يرون ما يمنع من إعماله في موضوع الربا.

ولقد اختلف مذاهب هذا الفريق، فيما بينهما، حول علة الربا المحرم. أي حول بيان الوصف المؤثر الذي بتحققه، في غير الأصناف الستة، تنصرف إليهما حرمة الربا بطريق القياس. ومن ثم يمكن القول بوجود تسعة مذاهب مشهورة بداخل هذا الفريق، بيانها كالتالي.

1 – مذهب أبي بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم، وفيه أن علة التحريم هي كون الصنف نافعا.

2 – مذهب ابن سيرين وأبي بكر الأودني (من الشافعية)، وفيه أن العلة هي اتحاد الصنف. ومن ثم يحرم الربا في كل شيء يباع بصنفه، كالتراب بالتراب متفاصلا والثوب بالثوبين والشاة بالشاتين.

3 – مذهب الحسن البصري، وفيه أن العلة هي الثمنية (القيمة) في الصنف.

فيجوز عنده بيع ثوب قيمته دينار بثوبين قيمتهما معا دينار، ويحرم بيع ثوب قيمته دينار بثوب قيمته ديناران.

4 – مذهب سعيد بن جبير، وفي أن على الربا هي تقارب المنفعة في الصنف. ومن ثم يحرم التفاضل في معاوضة الحنطة بالشعير وكذلك الباقلاء بالحمص والدخن بالذرة.

5 – مذهب ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وفيه أن علة التحريم هي كون الشيء صنفا تجب فيه الزكاة. حيث حرم الربا في أي صنف تجب فيه الزكاة كالمواشي والزروع وغيرها، ونفاه عما لا زكاة فيه.

وتتبقى، بعد هذا الحصر، آراء الأئمة الإعلام أصحاب المذاهب الأربعة الذائعة، وهم أبو حنيفة وابن حنبل والشافعي ومالك. ويود الباحث لو يعرض لبيان علة الربا عندهم بشيء من تفصيل.

وتتشابه العلة في مذهبي الأحناف والحنابلة من جهة، وتختلف عن العلة في مذهبي الشافعية والمالكية، والذين تتقارب العلة فيهما كذلك. ومن ثم يوضح الباحث العلة لدي كل مذهبين متشابهين على التوالي.

1 – العلة عند الأحناف والحنابلة

أ – العلة في ربا الفضل:

العلة عند الأحناف هي القدر (ويقصدون به كون الشيء مما يقدر بالكيل أو الوزن) مع اتحاد الصنف في البدلين. حيث تحرم زيادة مقدار أحد البدلين عن الآخر، كما في بيع القمح بالقمح (وهو من الأطعمة) والجص بالجص، لأنهما مكيلان. وكذلك بيع الذهب بالذهب (وهو من الأثمان). والحديد بالحديد، لإنهما موزونان.

ولا تختلف العلة عند الحنابلة عنها عند الأحناف (في ظاهر مذهب أحمد، إلا في اعتبارهم اتحاد الصنف في البدلين شرطا في ربا الفضلن وليس جزء علة كالأحناف.

ب – العلة في ربا النسيئة (النساء).

عند الأحناف تنحصر العلة في وجود القدر (بالكيل أو الوزن)، أو اتحاد الصنف في البدلين، حيث لا يجوز الأجل. كما في مبادلة الحنطة بالحنطة (لوجود الكيل) والحديد بالحديد (لوجود الوزن)، والثوب بالثوب (لاتحاد الجنس). ولكن يجوز الأجل (الإنساء) عندما يكون البدلان الموزونان غير متفقين في طريقة الوزن (كحديد بذهب) حيث يوزن الأول بالقبان والثاني بالميزان.

وتتشابه العلة عند الحنابلة (في ظاهر مذهب أحمد) مع العلة في فقه الأحناف إلا أن أتباع أحمد لا يتكلفون لإخراج مبادلة مثل الذهب بالحديث من ربا النساء بما تكلفه الأحناف من التقييد بطريقة الوزن. وإنما يستثنون هذه المعاملة، حيث يقولون بأن “ربا النسيئة يجري في كل صنفين اتفقا في علة ربا الفضل ليس أحدهما نقدا”.

2 – العلة عند الشافعية والمالكية

أ – العلة في ربا الفضل:

يرى الشافعية أن العلة في ربا الفضل، في الأصناف الستة ما عدا النقدين، هي كون البدلين طعاما يقتاته الإنسان، ويشرط اتحاد صنف البدلين (وذلك في المذهب الجديد الشافعي). والعلة في النقدين كونهما من جنس (أو جوهر) الأثمان غالبا. وتعرف هذه بالعلة القاصرة، لإنهما ليست موجودة في غير الذهب والفضة، فلا يتعدى حكمها إلى سواهما.

والعلة في ربا الفضل عند المالكية كالعلة عند الشافعية فيما يتعلق بالنقدين، أي كونهما من الأثمان. وفي الأصناف الأربعة الباقية، كونها طعاما للإنسان. صالحا للاقتيات وللادخار، وبشرط صنف البدلين أيضا.

ب – العلة في ربا النسيئة:

العلة في ربا النسيئة عند الشافعية والمالكية هي علة ربا الفضل نفسها، دون اشتراط اتحاد الصنف.

خلاصة بحث العلة في مذاهب الفقه:

من كل ما تقدم يرى الباحث أنه لا تظهر للشارع علة جلية قصد بها أن تكون هي المؤثرة في الحكم بوقوع الربا من عدمه فهذه العلة غير واردة بأي طريق من طرق الدلالة المقبولة.

وعلى ذلك فيرى الباحث أنه يكون مقبولا القول بان التحريم المنصب في الأحاديث على الأصناف الستة إنما ورد على سبيل المثال لا الحصر. فقد خصمت الأحاديث هذه الأصناف حيث كانت في عصر الرسالة. فتحريمها، من ثم، جاء لتحصيل غرض عام، وهو استئصال مصدر الشر في ذلك الحين.

وناتج ذلك أن تكون العلة في الربا هي الزيادة المشروطة في أحد العوضين دون مقابل. فكل الأصناف التي يجري فيها الربا بهذا المعنى حاضرا، أو يمكن أن يجري فيها مستقبلا، إنما تعد من الأصناف الربوية بالإضافة إلى الأصناف الستة المنصوصة. ومن ثم يحرم فيها ربا النساء (النسيئة) وربا الفضل إذا اتحد صنف البدلين، كما يحرم فيها ربا النساء فقط، دون ربا الفضل، إذا اختلف الصنف.

المطلب الثاني

مكملات المناط

1 – اشتراط التقابض (ربا اليد)

قال جمهور الفقهاء بوجود التقابض قبل التفرق في معاملات الأصناف الستة. حيث لم يكتفوا في ذلك باشتراط الحلول ونفي الأجل، واعتبروا مخالفة ذلك نوعا آخر من الربا أطلقوا عليه اسم “ربا اليد”، وذلك أخذا من عبارة “يدابيد” في أحاديث الأصناف الستة، وبخاصة أن في بعض روايات هذه الأحاديث “عينا بعين”. فيعتبرون الأخيرة “عينا بعين” موجبة للحلول، والأولى “يدا بيد”، على ظاهرها، موجبة للتقابض قبل التفرق. كما يستندون في ذلك إلى حديث عمر الواردة فيه “إلاهاء وهاء” – أي خذ وهات، مما يوجب التقابض أيضا.

ويخالف الأحناف ذلك، فلا يرون وجود التقابض، استنادا إلى حجتين:

الأولى: أن قوله تعالى (وأحل الله البيع) دال على أنه “لا يبطل (البيع) بالافتراق قبل القبض”، حيث أن التقابض ليس شرطا في البيع. أما آية الربا (وحرم الربا) فالمحرم فيها هو الزيادة (الربا)، وهي إما في المقدار (ربا الفضل)، أو في ميعاد الاستحقاق (ربا النساء)، وإما في الجودة. وخلاصة ذلك ألا يكون تأخير التقابض من الربا في شيء، ما دامت المعاوضة تتم على أساس اعتبار القيم الجارية للبدلين. وبذلك يكون اشتراط التقابض زيادة على كتاب الله.

والثانية هي أن القبض موجب للعقد، إذ بالعقد يجب الأقباط. فكيف يكون إذن شرطا فيه، وحق الشرط أن يقترن بالعقد؟!. ومن ثم لا يلزم لصحة عقد البيع سوى التعيين فقط دون القبض.

وعبارة “يدا بيد” الواردة في الحديث كما تحتمل أن تكون لوجوب القبض، باعتبار اليد أداته، فإنها تحتمل كذلك أن تكون للتعيين، باعتبار اليد أداة الإشارة والتعيين. فحمل العبارة على المعنى الأخير هو المتعين، حيث تأيد هذا الاحتمال بالنص المأخوذ من الكتاب.

فالتعيين هو المقصود في الربويات، وفي السلم أيضا. وعلى ذلك فإذا اسلمت دراهم في حنطة وجب اقباض الدراهم لتتعين، منعا لبيع الكالئ بالكالئن حيث أن الدراهم عند الأحناف لا تتعين إلا القبض، ولذلك فهم يوجبون فيهان دون باقي الأصناف الستة، القبض لغرض التعيين، لا لأنهم يقولون بربا اليد فيها.

والواقع أن القول بربا اليد إنما ينجم عن تمسك جمهور الفقهاء بظاهر ألفاظ الأحاديث وهي تنص على وجوب التقابض في عبارتي “يدا بيد” و”هاء وهاء”. وإن كان الباحث يرى رأي الأحناف من عدم لزوم ذلك، حيث قصدت نصوص الأحاديث لا إلى اشتراط التقابض وإنما إلى منع كل ذريعة لربا النسيئة.

2 – اشتراط العلم بالمماثلة

كذلك أقر جمهور الفقهاء، عدا الأحناف، قاعدة “الجهل حال العقد بالمماثلة كحقيقة المفاضلة” أو “الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل”.

والمماثلة والتماثل بمعنى التساوي. ولهذه القاعدة تطبيقات كثيرة.

– منها عدم جواز بيع حفنة بحفنتين، وذلك لوجود الفضل (الزيادة) على القدر.

– ومنها عدم جواز بيع صنف من الأصناف الستة مع عرض بصنف منها.

مثل مسالة “مد تمر ودرهم بمدين”، ومعنى ذلك بيع مقدار كيل عند العرب (كان يسمى مدا) من تمر ومعه عرض أو درهم بمدين. ومثله أيضا بيع قلادة من ذهب وخرز بذهب. حيث رأى الشافعي وأحمد ومحمد بن الحكم المالكي عدم جوازه، استنادا لحديث فضالة بن عبيد حيث قال: اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا، فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثنى عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي، فقال: “لا يباع حتى يفصل” هذا وقد قال الحنفية والثورة بجواز هذا البيع إذا كان الذهب المنفرد أكثر من الذي في القلادة.

– ومنها بيع الرطب من الحب أو الثمر باليابس منهما. قال جمهور الشافعية بحرمة ذلك، وذهب الحنفية فيه إلى الجواز.

– ومنها بيع صبرة من قمح أو تمر أو غيرهما من الأصناف الأربعة – غير النقدين – بصبرة من جنسها جزافا، أو بخرصها كيلا.

– ومنها بيع صنف من الأصناف الربوية وسط في الجودة بصنفين أحدهما أجود منه الآخر أردا. مثل بيع مدين من تمر وسط بمدين من تمر أحدهما أعلى منه والثاني دونه. قال الشافعي بحرمة هذا البيع لأنه ينظر إلى التفاضل في الصفة، وحيث لا ضمان أن زيادة الطيب على الوسط مثل نقصان الرديء عنه.

المطلب الثالث

عقود مشروعة في ظاهرها ويعتبرها بعض الفقهاء ربوية

1 – بيع العينة

صورة هذا البيع أن تباع السلعة بثمن مؤجلن ثم يشتريها البائع من المشتري بثمن معجل أقل مما باع به. وقيل أنها سميت بذلك لان المشتري يأخذ بدل سلعته عينا – أي نقدا حاضرا، وقيل لأن البائع يعود إليه عن ما باعه.

وقد قال بحرمة هذا البيع مالك وأحمد، لأنها حيلة لربا النسيئة. وحجتهما حديث عائشة رضي الله عنها حينما أخرتها أم محبة بأنها كانت لها جارية فباعتها لزيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى عطائه، وأنه أراد بيعها فابتاعتها منه بستمائة. فقال عائشة “بئسما شريت وبئسما اشتريت، فابلغي زيد أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يتوب”. فقال لها: “أرأيت عن لم آخذ منه إلا رأس مالي؟”، فقال عائشة: “فمن جاءه موعظة من ربه، فانتهى، فله ما سلف”.

وقال الشافعي بجواز هذا البيع، حيث لا يثبت عنده وأصحابه حديث عائشة، ولأن زيدا قد خالفها. وإذا اختلفت الصحابة فالمذهب القياس. وروى مثل هذا القول عن ابن عمر.

ويستند القائلون بالجواز (الشافعي وأصحابه) إلى ما ورد في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استعمل رجلا على خيبرن فجاء بتمر جنيب فقال له الرسول: “أكل تمر خيبر هكذا؟”. قال: “لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بثلاثة”. فقال النبي “لا تفعل. بع الجميع بالدرهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا”. فاعتبر الشافعي هذا التعليم النبوي بمثابة الحيلة للتخلص من الحرام وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر بذلك لم يقيده بما إذا كان الشراء من المشتري الأول أو من سواه.

هذا، ولا يرى الباحث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببيع الجميع بالدراهم وشراء الجنيب بها من قبيل الاحتيال على التخلص من الربا. ولكن الرسول يعلم أن حرمة بيع التمر بالتمر مع التفاضل إنما كانت سدا للذريعة إلى ربا النسيئة المحرمة لذاته (ربا القرآن)، وإذ يعلم صلى الله عليه وسلم أن النسيئة لم تكن هي المقصودة في بيع الجمع بالجنيب، حيث قصد الحصول على نوع أجود من التمرن أشار ببيع الرديء بالدراهم التي تستعمل في شراء الجيد منه، وذلك ليتمكن الناس من الحصول على حاجتهم في أمثال هذه الحالة بطريقة تبعد مظنة الذريعة إلى الربا المحرم لذاته وبذلك لا يكون النبي قد أباح محرما عن طريق الاحتيال وإنما ظن الشافعي وأصحابه هذا لتوهمهم أن ربا الفضل محرم لذاته، فإذا ما أبيح عن أي طريق كان ذلك احتيالا للتخلص من الحرمة. وحاش لصاحب الشرع أن يقول بذلك ويعلمه للناس.

ويرى الباحث إمكان الاستدلال على تحريم العينة بما ذكر “الأوزاعي” عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع”. ويرى ابن القيم “إن هذا الحديث، وإن كان مرسلا، فإنه صالح للاعتضاد به، بالاتفاق، وله من المسندات ما يشهد له، وهي الأحاديث الدالة على تحريم العينة”. ويقصد بها حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم” ويعلق الشوكاني بقوله “من المعلوم أن العينة عند من يستعملها إنما يسميها بيعا، وقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد، ثم غيرا اسمها إلى المعاملة وصورتها إلى التبايع الذي لا قصد فيه البتة، وإنما هو حيلة ومكر وخديعة لله تعالى.

2 – بيع الوفاء

صورة بيع الوفاء أن يبيع البائع العين، على أنه إذا رد الثمن على المشتري رد الأخير العين عليه. ووجه تسميته كذلك لأن فيه عهدا بالوفاء من المشتري بان يرد المبيع على البائع إذا رد هذا له الثمن. ومغزاه بذلك كونه حيلة ترمي إلى التخلص من حرمة الربا بترير انتفاع المشتري بريع المبيع مدة بقائه.

وبعض الفقهاء فقال بحله عند الحاجة للتخلص من وصمة الربا. وعلى أن الباحث يرى أن المسالة برمتها ليست مسالة الفرار من صورة الربا، أو التحايل لتحاشي الوقوع في دائرة الربا المحرم. فذلك أن هذه المعاملة لا تعتبر بربا إلا في ظاهرها فقط، بينما هي، في جوهرها، أقرب إلى وصف الرهن الحيازي. ومن ثم يمتلكه المشترين وإنما يكون له حق الرقبة فقط. وهو بالتالي لا ينتفع به إلا بإذن مالكه. والمشتري ضامن لما أكل من ثمرة وأتلف من شجرة، ويسقط الدين بهلاكه.

3 – القرض يجر منفعة

يقصد الفقهاء بالقرض يجر منفعة، أن تتضمن شروط عقد القرض تحقيق نفع للمقترض. ويقولون بحرمة ذلك بناء على الخبر “كل قرض جر نفعا فهو ربا” ولأن المنفعة شبه الربا، حيث أنها “فضل لا يقابله عوض” ولأن القرض “عقد ارفاق. فإذا شرطت فيه المنفعة خرج عن موضوعه”.

أما إذا لم تشترط المنفعة في القرض، بل جاءت تطوعا من المستقرض، فلا بأس بها لقوله صلى الله عليه وسلم: “فإن خياركم أحسنكم قضاء”.

وقد أورد “السرخسي”، (باب القرض والصرف فيه)، أمثالا للقرض يجبر منفعة بقوله: “روي عند زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنها قالت: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا وخمسين وسقا من تمر خيبرن وعشرين وسقا من شعير. فقال لي عاصم بن عدي: أعطيك تمرا هنا آخذ تمرك بخيبر. فقالت: لا، حتى أسأل عن ذلك. فسألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فنهاني عنه وقال: كيف بالضمان فيها بين ذلك؟”. ويعلق صاحب المبسوط: “وبه (أي بحديث عمر) نأخذ. فغن هذا إن كان بطريق البيع، فاشتراط إيفاء بدل له حمل ومونه (مؤونة) في مكان آخر مبطل للبيع، وهو مبادلة التمر بالتمر نسيئة. وإن كان بطريق الاستقراض، فهذا قرض جر منفعة، وهي إسقاط خطر الطريق عن نفسه ومونة الحمل. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قرض جر منفعة، وسماه ربا”.

ثم روى “أن عمر كان يداين أبي بن كعب في قرض، فبعث له هذا رطبا من نخل له فردها عمر. ولكن أبي بن كعب أفهمه أنه لم يهده بسبب القرضن وعرض عليه سداد ما عليه فاستعاد عمر الهدية لما عرف هذا، ثم قال لو رد المستقرض أجود مما قبض فإن كان ذلك عن شرط لم يحل لأنه منفعة القرض: وإن لم يكن كذلك فلا بأس به”.

ثم ذكر ما رواه عطاء من “أن الزبير رضي الله عنه كان يأخذ بمكة الورق من التجار، فيكتب لهم إلى البصرة أو إلى الكوفة فيأخذون أجود من ورقهم. قال عطاء: فسألت ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: لا باس بذلك، ما لم يكن شرطا”.

وإذا عرف عن شخص عادة أنه إذا استقرض زاد في العوض، ففي إقراضه وجهان: أحدهما لا يجوز إقراضه إلا أن يشرط عليه رد المثل لأن المتعارف المشروط. والثاني أنه يجوز لأن الزيادة مندوب إليها.

4 – البيع مع السلف، أو الصفقتان في صفقة

يرى بعض الفقهاء، ومنهم الأحناف والشافعية، عدم جواز البيع مع السلف أو القرض. ويرجعون ذلك إلى أحاديث كثيرة مروية. فمنها ما روى عن عمر رضي الله عنه من أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عتاب بن أسيد رضي الله عنه إلى مكة، وقال: “أنههم عن شرطين في بيع، وعن بيع وسلفن وعن بيع ما لم يقبض، وعن ربح ما لم يضمن”. ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما أو الربا”. وفي لفظ “نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة”.

وعن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: “نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقته”. قال سماك: “هو الرجل يبيع البيع، فيقول: هو بنسأ بكذا، وهو بنقد بكذا وكذا” وعن ابن حبان – موقوفا “الصفقة في الصفقتين ربا”.

وقد أردف صاحب المبسوط روايته للحديث الأول بقوله: “وبه (أي بالحديث) نأخذ وصفة الشرطين في البيع أن يقول: بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا، وذلك غير جائز. والبيع مع السلف أن يبيع منه شيئا ليقرضه، أو يؤجله في الثمن ليعطيه على ذلك ربحا”. وظاهر هنا أن العلة في عدم الجواز، في الصورتين، عند الأحناف، هي الربا. فالسرخسي في الصورة الأولى جعل الأجل في الثمن مقابلا بالزيادة فيه صراحة، فهي زيادة في الدين بغير عوض. وهو معنى الربا. وفي الصورة الثانية يحتال على الربا في القرض ببيع شيء من المحاباة في ثمنه بمقابل القرض.

وقد فسر الشافعي البيعتين في بيعة بما فسرها به صاحب المبسوط، وبتفسير آخر هو أن يقول الفرد: “بعتك هذا الغلام مثلا بألف، على أن تبيعني دارك بكذا. فإذا وجبت لي دارك وجب لك غلامي”. وأبطل الشافعي هذا التصرف.

وقال الشوكاني في تفسير البيعتين في بيعة: “هو أن يقرض شخص غيره دينارا في قفيز حنطة إلى شهر. فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة، قال: بعني القفيز الذي لك على إلى شهرين بقفيزين، فصار ذلك بيعتين في بيعة لأن البيع الثاني قد دخل على الأول، فيرد إليه أوكسهما، وهو الأول”. ثم قال: “والعلة في تحريم بيعتين في بيعة هو عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين.

تعقيب

ختاما لا يفوت الباحث أن يسجل أن الإسلام قد وضع إلى جانب كل قانون، بل فوق كل قانون، قانونا أعلى يقوم على الضرورة التي تبيح كل محظور. أن الله تعالى يقول: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطرر ثم إليه). ويقول جل شأنه: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم). والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “لا ضرر ولا ضرار”. والإسلام كله مبني على قاعدة اليسر ورفع الحرج والعسر. ومن ثم فكل تصرف اقتصادي تم عن تراض بين أطرافه، دون أن يتضمن ضررا لأحدهم أو لغيرهم من الناس، هو تصرف مشروع ومباح.

على أن تطبيق قانون الضرورة، على مسألة ما، تطبيقا حكيما لا يكتفي بصدده أن يكون المرء عالما بأصول الشرع الحنيف، بل يجب أن يكون له من الورع والتقوى ما يحجزه عن التوسع في تطبيق الرخصة في غير موضعها. ومن ثم يرى الباحث أن تكون مهمة تحديد ضرورة الأمة من اختصاص أولى الأمر وأهل الحل والعقد من الأمة، وهم أصحاب الفكر والرأي. فيها، والعلم بمصالحها. ويضمون كبار العلماء والمفكرين، ورجال الاقتصاد والمال، وأرباب الأعمال، ورجال التشريع والقضاء وغيرهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر