عرض ونقد كتب

قراءة في كتاب: حوارات من أجل المستقبل د. طه عبد الرحمن

العدد 105

على سبيل التقديم:

الدكتور طه عبد الرحمن فيلسوف مجدد ومفكر مبدع، يعترف بهذه الحقيقة خصومه من الذين يخالفونه وقد يناصبونه العداء ويحرشون ضده في كتابات ومنتديات عدة، ثم إن كتبه بما توفر لها من العمق والدقة في الفكر والصياغة والتحليل، تقف هي الأخرى شاهد إثبات على أن بداية القرن الواحد والعشرين، وفيما يتعلق بالفكر الفلسفى المغربي، ستعرف امتداد ظل هذا الفيلسوف على جغرافيته وتاريخه، بعدما أفل نجم الكثيرين ممن سلبوا عقول الشباب المغربي والعربي لمدة نصف قرن أو يزيد كطه حسين، وحسين مروة ، والعروي ، وأدونيس، والجابري إلى حد بعيد ، هؤلاء ممن كشف النقد المعرفي الرصين تورطهم في إيديولوجيات مضللة تضخم مفعولها في مشاريعهم على حساب الإبستمولوجيا والعلم والحقيقة، فلم تعذرهم سنن البحث العلمي الدقيق وطوحت بهم في واد سحيق، وفي المقابل سطع نجم الدكتور طه عبد الرحمن، بعدما كان محاصرًا ومقهورًا من قبل تجار الفكرانيات، لكنه كان يعمل في صمت ويكتب بإحكام ، ويوجه الضربات تلو الضربات للجدار السميك لفكر الزيف في المغرب الحديث، حتى انهار، فخرج على الناس كاتبًا من نوع جديد، يعلن بكل قوة وعزة انتماءه إلى هذا الدين القويم، وصياغته لمنهجه في المعرفة والنقد من تراثه المجيد، من غير عقدة أو تهيب ، مع إبراز قدرة كبيرة على الاستفادة من معرفة الآخر بعد نقدها وتقويمها، في أصولها وفروعها، ثم إن الدكتور طه يتقن لغات عدة إلى جانب إحكامه المثير للأساليب العربية ودقائقها .

حوارات من أجل المستقبل:

وإذا كان الكثيرون ممن يقدرون هذا المفكر ظلوا يشكون من صعوبة أسلوبه وتعقد تراكيبه، لندرة الكتابة الاستدلالية في واقعنا الفكري وطغيان الأشكال السردية والعرضية، فإن كتاب (حوارات من أجل المستقبل) يدخل في إطار تقريب أو قل (تيسير) المحاور والموضوعات الكبيرة التى يدور حولها فكر الدكتور طه عبد الرحمن في هذه المرحلة، ليسهل تناولها لعامة المثقفين والناس عمومًا بعدما كانت كتابته موجهة بالأساس إلى المتخصصين والأكادميين، يقول الدكتور طه عبد الرحمن : [وقد أعدت ترتيب الأسئلة في هذه الحوارات بحسب الموضوعات التى دارت عليها، وحتى أسهل على القارئ تحصيل رأي جامع في كل واحدة من المسائل التى شغلت بها ذهنى وملأت بها صدرى نحو (التراث) و(الفلسفة) و(المنطق) و(الترجمة) و(الإسلام) و(التصوف) و(الرشدية) و(العولمة) مؤملاً من وراء ذلك أن يظفر فيها القارئ بنظرات مجملة وميسرة للنظريات المفصلة والمعمقة التى تضمنتها مؤلفاتي المنشورة، نظرات قد تبعث فيه الرغبة في اقتحام تفاصيل هذه النظريات في مواضعها من كتبي] . (ص9).

وفي التقديم تحدث الدكتور طه عبد الرحمن عن الحوار والحوار وحده ولا شيء غير الحوار واستعاد بعض أفكاره، التى كان قد بثها منذ مدة عن الحوار وآلياته في كتابه القيم (في أصول الحوار وتجديد علم الكلام) (1987) ، وأكد أن الحوار بمنزلة الحقيقة، فنحصل إذًا على (الحقيقة الحوارية) التى تظهر من وجوه ثلاثة، وهي: أن طريق الوصول الموصل إلى الحق ليس واحدًا وإنما طرق شتى لا حد لها، فما دام الحق متجددًا ، فلا بد أن يكون الطريق الموصل إليه متعددًا، ثم إن تواصل الحوار بين الفئات المتعددة يفضى مع مرور الزمن إلى تقلص شقة الخلاف بينهم، كما أن الحوار يسهم في توسيع العقل وتعميق مداركه بما لا يوسعه ولا يعمقه النظر الذي لا حوار معه، فبالنظر إلى الأشياء يتقلب العقل حتى يبلغ النهاية، وذلك هو العقل الحي الكامل (ص4 _ 5) .

ويقارن الدكتور طه بين أشكال الحوار التى بدأت تبرز اليوم في الحياة السياسية المغربية بين المكونات والفاعلين، وبين ما تشهده الحياة الفكرية حيث انعدام هذا الحوار وانكماش كل مفكر داخل ذاته وبرجه، معتصمًا بأفكاره ولو كانت تنسب إلى الشذوذ من باب خالف تعرف، وهذا ما يشكل خطرًا على الإنسان بعامة؛ إذ غياب الحوار يميت في الإنسان روح العقلانية النافعة وكذا روح الجماعة الصالحة .

وكل هذا يضيق من نطاق عقل الإنسان، ويوسع من نطاق هواه، وفي غياب هذه الآليات الحوارية يدعو الدكتور طه إلى التعجيل بوضع خطة تربوية دقيقة وشاملة توفر لمجتمعنا الناهض تكوينًا متينًا في منهجيات الحوار وأخلاقه، لا سيما وأن لنا في غيره من المجتمعات المتقدمة أسوة حسنة، كما لنا في تراثنا وتاريخنا الكثير مما يفيدنا في تأصيل هذه التربية وتسهيل انتشارها بين الفئات والأفراد مما نلمسه من خلال مجالس المناظرات ، وكذلك ما دونوه عن مسألة الحوار تأريخًا ووصفًا وضبطًا وتنسيقًا (7 _ 8) .

وإذا كان كتاب (حوارات من أجل المستقبل) عبارة عن حوارات سبق وأن نشرتها مجموعة من الجرائد المغربية والعربية، فإن حوار الدكتور طه للجريدة لا يعنى دردشة أو كلامًا مرتجلاً ومطلقًا على عواهنه، بقدر ما هو تأمل وتفكر لا يقل عما نجده في كتبه المخصصة لقضية ما، وهذا ما يرقى بالصحافة المغربية والعربية إلى مستوى فكري رفيع بعيد عن الإسفاف والإخبار الشكلي ، والتحليل المخل، فالتيقظ والاستعداد المطلوبان في القارئ لمجالسة كتب الدكتور طه عبد الرحمن مطلوبان أيضًا للاطلاع على حوارته الصحفية لدقة اجتهادها وعمق تجديدها!

وعن قضية التراث والدراسات المنهجية والمعرفية التى تناولته في إطار مشاريع معروفة أثبت الدكتور طه أن مسألة التراث لم تجد حلها النهائي بعد، ومطلب التراث ما زال قائمًا من حيث إنه يمثل الهوية والذات وما به تقوم وتقوى، ثم إن العلاقة مع التراث ليست نظرية مجردة بل هي عملية وجدانية نحياها بكلياتنا، كما أنها علاقة اضطرارية لابد لنا من الدخول فيها لا الخروج منها، أما الذين يدعون إلى القطيعة مع التراث وتهميشه من دعاة (الحداثة) ، جاعلين الحل النهائي في الأخذ بالمعارف الحديثة كما جاء بها الغرب، فإنما يقعون في انحراف منهجي ويسقطون في خطأ حضاري، ذلك أنهم يهجرون تراثهم ليعيشوا في تراث غيرهم، وهم يتجاهلون أن المعرفة الغربية إنما تستند إلى التراث الغربي وتحمل سماته وآثاره برغم ما ينسب إليها من (الموضوعية) و(العلمية) و(العقلانية) أو (الشمولية) و(الكونية)، وهؤلاء الضائعون من الباحثين في تراث الغير يعجزون عن تبين (النسبية) و(المحلية) في ذلك التراث الغربي، بله نقده وتصحيح مناهجه ومعارفه، في وقت أصبح أهله يتجاوزونه ويبرزون حدوده (ص13)، وانتقد الدكتور طه المشاريع التى اشتغلت على التراث من جهة ضعف قدرة أصحابها على امتلاك أدوات منهجية وفكرانية مما توسلوا به في أبحاثهم.

ويقارن الدكتور طه بين التراث ومفهومي (الثقافة) و(الحضارة)، فإذا كانت الثقافة هي إنتاج خطابي وسلوكي يستند إلى قيم قومية حية مرغوب فيها، والحضارة إنتاج خطابي وسلوكي يستند إلى قيم إنسانية حية، فإن التراث يشتمل على قيم حية وأخرى ميتة، وعلى قيم إنسانية حية وأخرى ميتة غير مرغوب فيها ، وعليه يكون التراث بنظر الدكتور طه [عبارة عن جملة المضامين والوسائل الخطابية والسلوكية التى تحدد الوجود الإنتاجي للمسلم العربي في أخذه بمجموعة من القيم الإنسـانية حية كـــــانت أم ميتة] (ص16).

ولقراءة النص التراثي قراءة سليمة ومنتجة يقترح الدكتور طه قواعد أربع هي:

1_ الاعتناء بآليات النص التراثي والتوسل بها في فهم مضامينه.

2_ اعتماد المستجدات في باب المناهج لاستخراج الآليات التراثية وتحديث إجرائيتها.

3_ نقد وتمحيص الآليات المقتبسة من التراث الأجنبي قبل تنزيلها على التراث العربي الإسلامي ؛ (فالعقلانية) مثلاً لا تصلح آلية لنقد التراث العربي الإسلامي من حيث إنها مبنية في الفكر الغربي أساسًا على التجريد النظري، بينما (العقلانية) الإسلامية مبنية على التسديد العملي.

4_ ازدواجية التنقيح والتلقيح بين الآليات الإسلامية والآليات الغربية لتخصيب الآليات الأصلية وفتح آفاق جديدة أمام الآليات الحديثة لم تخطر على بال واضعيها.

ويمثل كتاب (تجديد المنهج في تقويم التراث) أبرز مثال على توظيف واستثمار تلك القواعد المذكورة ؛ فالكتاب يبرز قدرة الدكتور طه على معرفة التراث من حيث محدداته الموضوعية ومقوماته الذاتية على مقتضى موجبات النظر العلمي الخالص بناء على البحث في الوسائل والآليات التى تم بها إنشاء مضامين التراث وتبليغها وتقويمها عكس ما ذهبت إليه مشاريع قراءات معلومة من تمسك بمضامين ومحتويات التراث باعتبارها أهم ما فيه، فقسمته أقسامًا متعددة وجزأته أطرافًا مفرقة مع إعمال آليات الانتقاء والتفاضل بين عناصره بحجة الاستجابة لمتطلبات الحداثـــة وغيرها من المبررات الفكرانية (الإيديولوجية) المعلومة، أما الدكتور طه فإن الخطأ التراثي عنده لا يقل عن صوابـــه ما عملنــا على طلب أسبـابه. (ص19) .

وهكذا عمل الدكتور طه على النظر في الآليات الداخلية للتراث مركزًا على الآليات المنطقية واللغوية من غير إهمال للأسباب المضمونية الخارجية في هذا التراث.

وإذا كانت المشاريع الأخرى قد تضخم فيها السؤال عن الفعل التاريخي فإن من الآليات الداخلية للتراث ما لا يعنى بصددها السؤال التاريخي شيئًا مهمًّا؛ ويمثل الدكتور طه لذلك بآلية (القلب) فهي آلية يتم بموجبها تغيير أوضاع العناصر في تركيب مخصوص، تغييرًا يجعل أولها آخرها وآخرها أولها، وهي تقرير اصطلاحي لتسمية عملية مخصوصة لا تختلف من زمان إلى زمان ولا من أمة إلى أمة، ومن هنا لا فائدة للبحث في تاريخية القلب. وجملة الآليات التى استخرجها الدكتور طه من التراث من هذا الصنف، وعلق على نقده الصارم لمشروع الجابري واعتبره من باب تصحيح المعرفة وتنويع الإنتاج والاشتراك في طلب الحقيقة مع إلزام النفس باتباع أفضل آداب الاعتراض المعروفة بين المتحاورين. والتزام قواعد النقد المعرفي الموضوعي هو الذي جعل الدكتور طه يقف في مشروع الجابري على عثرات في المنهج وأخرى في المعلومات، مما يشكك في صلاحية استثمار مقرراتها في مجال الدرس التراثي (ص26) ، أضف إلى ذلك أن الآليات التى اشتغل بها الجابري نحو : (القطيعة) و(النظام المعرفي) و(البنية) و(اللامعقول) و(الاكسيومية) عبارة عن آليات منقولة تم إقحامها في التراث بما لا يوافق بنيته في كليتها، فهي وضعت في أصلها لموضوعات مغايرة لموضوع التراث وعلى مقتضى شروط مخالفة لشروطه، ولكن إنزالها على التراث دون سابق نقد عليها هو تصرف في التراث بغير أحكامه اللازمة، مما يخرجه على صورة لا تحافظ على بنيته في تداخل أجزائها وتساند عناصرها، بل تم الفصل بين هذه الأجزاء والعناصر فعلاً، وضرب بعضها ببعض مع تفاضل وانتقاء مخلين!

وفي مقابل هذا التصور التجزيئي وضع الدكتور طه نظرة تكاملية للتراث تتجه إلى البحث في الآليات والمضامين على اعتبارها كلاًّ متكاملاً لا يحتمل التجزيء ، ووحدة مستقلة لا تقبل التبعية لغيره، فوضع محددات ثلاثة لهذه النظرة هي: المحدد التداولي، والمحدد التداخلي، والمحدد التقريبي (ص28) ، وتكامل التراث ، بنظر الدكتور طه شرط أساس لكمال الذات، أو قل : التكامل مدخل للكمال!

وفي فصل (فلسفيات) نقد الدكتور طه بقسوة الفيلسوف العربي، باعتباره مثقفًا مقلدًا لا جديد عنده ومتعلمًا تابعًا لا متبوعًا، وركز نقده على جانبين، واحد سلوكي وآخر خطابي؛ إذ الآفة السلوكية عند المتفلسف العربي هي الخلط بين الفلسفة والسياسة.

وقدم الدكتور طه تصورًا سلبيًّا للسياسة من حيث إنها لا أخلاق فيها، فالمقبل عليها متنازل بالضرورة عن كل قيمه ومبادئه وأخلاقه وداخل في عالم الأنانيات والمصالح الضيقة . إن الفيلسوف الحقيقي ، بنظر الدكتور طه، أخلاقي بطبعه، فلا يتحزب ولا يتقلب، ولا يتيامن أو يتياسر، ولا يساوم أو يناور، ولا يتأمَّر أو يتآمر، وإنما يطلب الحق حيثما جاز وجوده، لا يضره أن يسلم به لمخالفه إن وجدهُ عنده ولا يسره أن ينتصر لموافقه إن لم يجده عنده. (ص35) ، وبرغم هذا الرفض الحاد للسياسة ، يرى الدكتور طه أن الفيلسوف منخرط في هموم أمته ومساهم في التغيير من موقعه الخاص، إذا علمنا أن التغيير له وجوه متعددة، فكيف يعتبر الفيلسوف غير مشارك في الأحداث وهو يكد ليل نهار لإصلاح العقول والأخلاق؟

أما الآفة الخطابية التى وقع فيها المتفلسف العربي المقلد فهي الفصل بين الفلسفة والمنطق لفساد تصوره عن المنطق وادعاء إمكان الاستغناء عنه، في حين لا معرفة فلسفية تصح بغير منطق يضبطها، أو قل بغير المنهج الضابط لها، ثم إن المتفلسفة المقلدين يقللون من دور المنطق لجهلهم به، فالغالب على هؤلاء أن يقصروا نظرهم على المضامين الفكرية لمفاهيم الحداثة وأحكامها دون الأصول المنطقية التى انبنت عليها، ولا الوسائل المنهجية التى استعملت في تبليغها، فينقلون هذه المفاهيم والأحكام تقليدًا لغيرهم، وهم لا يدرون كيف يضعون مفاهيم حديثة مثلها، ولا يهتدون إلى ضبط أحكامها بما يقوى إنتاجيتها، ولا بالأولى إلى وضع هذه المفاهيم والأحكام في نسق واحد يجمعها ويولد بعضها من بعض، كل ذلك بسبب النقص في تكوينهم المنطقي، وحتى أولئك الذين كتبوا في المنطق كتبًا مدرسية لم يستفيدوا منه في بناء فكرهم بما يستوفي شرائطه، اللهم إلا ما كان من تقليد أهل الغرب في بعض النتائج التي توصلوا إليها في استعمالاتهم الخاصة للمنطق كإنكار القضايا الميتافيزيقية أو إثبات اللغة الفلسفيـــة ( نحو الوضعيـــة المنطقية ) (ص39) وهذا التبرم أوهم القارئ بأن التأليف الفلسفى مثله مثل الإنشاء الأدبي أو التحرير الإعلامي.

إن إبداعية المتفلسف العربي، بنظر الدكتور طه، لن تتحقق إلا باتصاله بمجاله التداولي ، أي مجاله اليومي بمقوماته ومحدداته قيمًا ومعارف ومشاكل وهمومًا وآفاقًا وأمور الواقع ككل، من هنا جاء اهتمام الدكتور طه بالترجمة، وعمل على وضع تصور نظري وتطبيقي ضابط لها بهدف إقدار المتلقى العربي على التفلسف في النص المترجم وكتاب (فقه الفلسفة: الفلسفة والترجمة) مثال بارز على ذلك؛ إن الترجمة يعتبرها الدكتور طه أداة لتربية العقل على التفلسف خطوة خطوة، وهذه هي الحداثة الحقيقية، [فكل من يدعى الحداثة وليس في فكره جديد يأتى به من عنده، ولا في سلوكه فعل على وفق هذا الجديد الخاص به، فليس هو صاحب حداثة بل هو على الحقيقة صاحب تقليد، فحقيقة الحداثة إذن هي الإحداث المستحدث، أي الفعل المبدع، فالحداثة الفلسفية هي السلوك الفلسفى الذي يوصــل إلى الفعــل الفلسفــى المبدع ] (ص43) .

ويشرح الدكتور طه طبيعة أسلوبه الذي ينعت بالصعوبة والتعقيد، ويرجع ذلك إلى أربعة أسباب:

1_ التمييز بين مستوى الإبداع الفلسفى ومستوى التنظير لهذا الإبداع، فالمستوى الثاني يلزم أن يكون في غاية الدقة في المضمون والتقنية في الاصطلاح ثم إن لغة الدكتور طه الفلسفية إلى العلمية أقرب، واللغة العلمية لغة خاصة!

2_ سبب إرادي للتبرم من التعبيرات والألفاظ المبتذلة التى راجت على الألسن، لا وجود فيها ولا هي من إبداع الأمة، ومن هنا سعى الدكتور طه إلى طلب الكلمات والتراكيب لا الغريبة التى ينفر منها الطبع ويمجها السمع، وإنما السليمة التى تبعث على الاندهاش، وهذا ما ساعدت عليه ممارسة الدكتور طه للإبداع الشعري مبكرًا، إذ كان يكتوي بالحرف، وكما يقول: اكتواء العاشق بمعشوقه، ثم بتأمله العميق في عجائب اللغة.

3_ فقر اللغة الفلسفية المستعملة في الكتب العربية الحديثة، وضعف الإبداع في وضع المقابل العربي، إذ شلت هذه الترجمات التعسفية المنطق الداخلي للغة الفلسفية العربية، وقطعت عنها كل دينامية تأتيها من ذاتها، لهذا السبب حمل الدكتور طه على عاتقه توسيع اللغة الفلسفية وتحرير منطقها الداخلي وبعث ديناميتها الذاتية من جديد؛ وعليه نجد الدكتور طه يوظف كثيرًا من الإمكانات الاشتقاقية والدلالية للسان العربي، وكذلك أبدع في استخراج صيغ تعبيرية واستدلالية من التراث ذات إجرائية منطقية وقدرة فائقة على الأداء للمعاني الفلسفية، كل ذلك في إطار شروط العصر المتجدد، ومقتضيات البيان للسان العربي إذ لا يفهم لغة الدكتور طه إلا من أشرب عقله وقلبه ولسانه لغة القرآن.

4_ اتباع الدكتور طه منهج (الكتابة الاستدلالية) عكس الكتابات السردية أو التاريخية أو التقريرية ؛ والكتابة الاستدلالية ذات طابع تنسيقى، وقد عرف كبار الفلاسفة عبر التاريخ بهذه الطريقة كعلماء الأصول مثل الغزالي في المستصفى، وفلاسفة الغرب ككانط وأقطاب المدرسة الأنجلوسكسونية … إن الكتابة الاستدلالية إجهاد للنفس وللعقل؛ لأنها تحتاج إلى فهم ثان من قبله فهم أول ! (ص49).

وتميز مشروع الدكتور طه بنقده لآلية العقلانية ، وعرف من بين الفلاسفة والنقاد بقوله بتعدد العقلانيات، ففى كتابه (في أصول الحوار وتجديد علم الكلام) ركز على وجود عقلانيتين هما (العقلانية البرهانية) و(العقلانية الحجاجية) ، وفي كتاب (العمل الديني وتجديد العقل) ميز بين عقلانيات ثلاث : ( العقلانية المجردة) و(العقلانية المسددة) و(العقلانية المؤيدة) ، وأما في كتاب (اللسان والميزان) فقد قال بتعدد العقلانيات إلى ما لا نهاية، ووضع مصطلحًا دقيقًا وجديدًا لإفادة هذا المعنى وهو (التكوثر العقلي) .

ودافع الدكتور طه في كتابه (حوارات من أجل المستقبل) عن المنطق حتى اقترن اسمه به ؛ إذ كان أول من أدخل دراسة المنطق الحديث إلى الجامعة المغربية، وكان بحثه لنيل الدكتوراه يتناول مسألة استخدام أدوات المنطق الحديث في دراسة الظواهر اللغوية ، وألف فيه كتبًا، كـ : (المنطق الصوري) الذي درس فيه علاقة المنطق باللسانيات، وكتاب (في أصول الحوار وتجديد علم الكلام) قدم فيه صياغة منطقية رمزية لمنهج المناظرة عند المسلمين ، وكتاب (اللسان والميزان) أو التكوثر العقلى، وخاصة دراسته حول (السببية عند الغزالى من وجهة نظرية العوالم الممكنة) ومقالات كثيرة في أعداد من مجلة المناظرة.

وتحدث الدكتور طه عن منهجه في الإبداع في مجال الدراسات المصطلحية ؛ إذ عمل على إنتاج مصطلحاته الأصلية وتحديد كامل لأوصافها الإجرائية، بحيث تكون فائدتها إما وصفية أو تحليلية أو تفسيرية ، ولم يباشر الدكتور طه هذا الإبداع الاصطلاحي إلا بعدما حصّل ملكة منطقية قوية أهلته لبناء المناهج والنظريات والنماذج بحسب الحاجة ، ويعتمد الدكتور طه في إنتاج المصطلح على المستوى الفلسفي والمنطقى على معايير ثلاثة:

1_ استثمار أحدث الضوابط والشروط النظرية والمنهجية في وضع المصطلح العلمي.

2_ استثمار الإمكانات التعبيرية والتبليغية التى تختص بها اللغة العربية.

3_ مراعاة التوجهات العملية للتراث الإسلامي العربي التي تجعل له خصوصية معينة. وانضباط الدكتور طه لهذه المعايير بشكل صارم هو الذي ساعده على إنتاج فكر متجدد ومتميز، وتجاوز المحاولات التقليدية العقيمة التى تبحث اليوم في مجال الاصطلاح.

وانتقد الدكتور طه بعض المتمنطقين القدامي الذين خرقوا في أبحاثهم المنطقية ضوابط المجال التداولي الإسلامي العربي، أي جملة القواعد والمبادئ التي تضبط العقيدة واللغة والمعرفة ، والتى يشترك في التسليم والعمل بها كل المنتسبين إلى المجتمع الإسلامي العربي، فأثبتوا أفكارًا تخالف الشرع الإسلامي بالاعتماد على المنطق البرهاني كقِدم العالم، وعدم معرفة الله للجزئيات، وكما سلكوا في التعبير مسالك تخرج على عادات العرب في البيان والإيجاز ، وتكلموا في أمور ليس تحتها عمل ولا وراءها منفعة ولا تستند إلى أصول الشرع.

إن المنطق بنظر الدكتور طه ليس هو أكثر من جملة من الآليات الاصطناعية التى تفيد في الترتيب والتركيب والتنظير (ص61)، من هنا وجب استخدامه في بيان مقاصد الشرع.

ورفض الدكتور طه، في إطار تصوره المنطقى، مقولة وجود مبادئ ثابتة للعقل، في وقت أن مطلب العقل هو التقيد بالنسق الذي يختاره، كما أن العقل عقول لا بالمعنى القومي أو بالمعنى الفردي، ولكن بالمعنى الإجرائي، وتعدد العقول بتعدد الأنساق، ثم إن العقل على خلاف ما جرى عليه الاعتقاد يعتبره الدكتور طه من الأفعال يصدر عن الإنسان كما يصدر عنه السمع والبصر والكلام، وليس ذاتًا قائمة في الإنسان .

وفي المقابل أشاد الدكتور طه عبد الرحمن بمجهود ابن تيمية في نقد المنطق  الأرسطى ووضعه لمنطق جديد قريب إلى التداول اليومي وبعيد عن اللغة الفلسفية المجردة ، ولكن للأسف، لم يستثمر الفكر المنطقى لابن تيمية، لا عند المنتصرين له ولا عند خصومه، بالرغم من أن منطق ابن تيمية منطق تجريبـي حي لا منطق صوري جامد كمنطق أرسطو (ص 66) .

كما أوضح الدكتور طه استثماره لأدوات وآليات علم أصول الفقه في تحليل إشكالياته الفلسفية أو اللسانية أو المنطقية ، وربط ذلك بالأسباب التالية:

1_ أنها ، أي آليات علم الأصول، العطاء المنطقى الإسلامي غير الأرسطى البارز في عموم التراث الإسلامي العربي، ومن ثم فالمنطق جزء من علم الأصول وليس العكس كما ادعى الغزالي!

2_ قوة المنهجية الأصولية في دراسة الظاهرة الخطابية ما زالت فائدتها الإجرائية مستمرة إلى اليوم.

3_ موسوعية المنهجية الأصولية حيث تتداخل فيها علوم متعددة وتتعارض فيما بينها، بما يجعلها أوسع المنهجيات الإسلامية على الإطلاق.

4_ رغبة الدكتور طه في ربط الصلة بالعطاء المعرفي الماضى من غير جمود عليه، بواسطة المنهجية الأصولية، ولما تتميز به من إبداع وتكامل وانفتاح..

وفي فصل (ترجميات) اعتبر الدكتور طه أن الترجمة بالنسبة للفلسفة العربية مسألة حياة أو موت ، وانتقد الفلسفة العربية واعتبرها جامدة لفساد ترجمتها وعقمها، فهي تعتمد طريقة بكماء لا تنطق، ولا إبداع بغير منطق، وطريقة عمياء لا تبصر ، ولا إبداع بغير إبصار، فهي تريد أن تنطق لغة أجنبية في لغة عربية، وتريد أن تبصر مجالاً أجنبيًّا في مجال عربي (ص 69) ، فالنقل الذي تعتمده الترجمة العربية يعتمد الألفاظ القلقة والمفاهيم المستغلقة مما يشل قوة الفهم عند المتلقى، فيزيد في ألفاظ الأصل وتبليغ مضامينه، كما أن هذا النقل يعتمد المفاهيم الغربية والحقائق المصادمة للشرع مما يشل قوة الإرادة عند المتلقى فيزيد في عجزه، فلابد من ترجمة مبصرة متوسلة بالمجال التداولي العربي في تقريب وترسيخ المفاهيم والحقائق المنقولة، والطريق الناطق والمبصر في الترجمة يتطلب قدرة على الإبداع الفلسفى حتى يستوى فعل الترجمة وفعل التفلسف.

وابتليت الثقافة العربية، بنظر الدكتور طه، بترجمات بكماء وعمياء منذ القديم، إذ الذين تكفلوا بمهمة ترجمة التراث اليوناني كانوا أطباء أو فلكيين ولم يكونوا فلاسفة مبدعين، أما الترجمة الحديثة فتولاها المبتدئون الطالبون للشهرة والعاجزون، تمرنًا على التحرير.

وشرح الدكتور في كتابه (حوارات من أجل المستقبل) مشروعه الفكري في جزئيه الصادرين إلى الآن : (الفلسفة والترجمة) و(القول الفلسفى) ، وحدد غاية هذا المشروع في وضع طريق بين يدي الإنسان العربي تجعله قادرًا على التفلسف من غير تقليد، ودافع عن استخدامه لفظ (فقه) الفلسفة وليس علم الفلسفة أو المعرفة الفلسفية؛ ذلك أن لفظ فقه، بخلاف المعرفة أو العلم ، يدل على المعرفة بالشيء مع العمل بهذه المعرفة (ص73)، وانبنى تصور الدكتور طه للترجمة في مشروعه على القول بضرورة إعادة النظر في التصور التقليدي للفلسفة الذي يجعل منها معرفة كلية وتجريدية وبرهانية، وضرورة استبدال صفات أخرى مكانها تناسب صفات الترجمة التى تقوم على مبدأ تعدد اللغات واختلافها (ص75) ، وعاب الدكتور طه على بعض النقاد الذين تعرضوا لمشروعه ، وقوفهم عند جزئياته دون أصوله وكلياته ، وعزوفهم ، لأغراض فكرانية واضحة، عن مناقشة الآفاق التى يفتحها هذا المشروع في تنمية القدرة الفلسفية عند المتلقى العربي . وهذا المسلك التجزيئي في النقد مرده الاستعجال في الكتابة والقصور في العدة المنهجية والرغبة في الهدم، أما عدم الاهتمام بمشروع الدكتور طه فراجع لأسباب أخرى منها ما يتعلق بالمشروع ذاته وهو طابعه العلمي الفلسفى العميق ومنهجه المنطقى اللساني الدقيق، ومنها ما هو متعلق بالفضاء الفكري العربي اليوم، من شيوع النزعات الطائفية والقبلية والحزبية الضيقة، إذ كل فئة أو حزب أو جماعة لا تظهر إلا مفكرها وابن تنظيمها، أم الدكتور طه فيعتبر مشروعه عبارة عن مجهود إنسان متوحد لا يستفيد مما يستفيد منه مفكرو القبائل الأخرى.

والحقيقة أن مشروع الدكتور طه ليس مشروع مفكر واحد متفرد، بل أصبح مشروع أمة، وحركة فكرية إسلامية عارمة، قد لا ينتبه له اليوم ، لفشو الجهل والأمية الفكرية داخل قطاع كبير من الإسلاميين أنفسهم، ولنظرتهم الضيقة لليقظة الإسلامية ومتطلباتها وعدم إحساسهم الحاد بخطورة الفكر ومحوريته في أي مشروع، وبالرغم من كل هذا فإن الأكيد أن مشروع الدكتور طه  سيكون له في المستقبل القريب شأن عظيم!

أما كتاب (المفهوم والتأثيل) فيجمل الدكتور طه أفكاره في النقط الآتية:

1_ أن للفيلسوف تقنية خاصة في الاصطلاح على مفاهيمه والاشتغال بها.

2_ أن هذه التقنية تقتضى التحرك على مستوى العبارة وعلى مستوى الإشارة (وللإشارة والعبارة معنى خاص في مشروع الدكتور طه).

3_ الفيلسوف يستمد جانب مفاهيمه الإشاري من محددات ومقومات مجاله التداولي.

4_ أن الجانب الإشاري من المفهوم يشتمل على دلالات مضمرة تفيد في الاستشكال الفلسفى لهذا المفهوم وعلى بنيات مضمرة تفيد في الاستدلال المنطقى به وعليه.

5_ أن الأصل في إبداع المفهوم الفلسفى هو التوسل بالمضمون الإشاري في تقرير المضمون العباري، وإلى أن يدل الدليل على خلاف ذلك (ص82).

ويرى الدكتور طه أن هذه الطريقة في الاصطلاح كفيلة بجعل المتلقى العربي ينتهض إلى صنع المعرفة الموصولة بمجاله كما يصنعها غيره، ويمكن الاستفادة منها في خطابات أخرى علمية وفكرية وأدبية…

وفي فصل (رشديات) أوضح الدكتور طه لماذا هو ليس رشديًّا؟ ولماذا ينبغي أن لا نكون رشديين؟ فوقف بدقة عند حقيقة فلسفة ابن رشد وإضافته، وقام بكشف الغطاء الفكراني الذي يلف دراسات العلمانيين، ممن أظهروا اهتمامًا زائدًا بفلسفة ابن رشد .

وابن رشد ينطلق من استقلال العلوم وعدم تداخلها، فهو بذلك فقيه وفيلسوف وليس فقيهًا فيلسوفًا؛ لأنه لم يستثمر تكوينه الفقهي في اجتهاده الفلسفى كما فعل الشاطبي مثلاً في مقاصده وموافقاته، كما أنه ليس فيلسوفًا فقيهًا؛ لأنه لم يستخدم معارفه الفلسفية في المجال الفقهي كما فعل الغزالي في استخدام العدة المنطقية في علم الأصول، فابن رشد إذن، بنظر الدكتور طه، لم يبدع في الفلسفة عن طريق الفقه، كما لم يبدع في الفقه عن طريق الفلسفة.

أما شهرة ابن رشد فيردها الدكتور طه إلى حاجة الغربيين إليه لتقريب فلسفة أرسطو ومواجهة سلطان اللاهوت الكنسي، كما ترجع هذه الشهرة إلى فتاوى التحريم التى أصدرتها الكنيسة في حق فلسفته، وانقسم حوله المفكرون الأوربيون بين مؤيد ومعارض، فهذه العوامل: الحاجة إلى الشارح والحاجة إلى الظهير، والدخول في الصراع والإفتاء بالتحريم، ولما كان العلمانيون العرب مقلدين لا مجتهدين ، جعلوا شهرة ابن رشد بينهم كشهرته بين الأوربيين مع اختلاف الأحوال والعوامل.

والحقيقة الأخرى التى يكشفها الدكتور طه، هي أن اهتمام بعض المثقفين العرب بابن رشد اليوم هو برغبة بث روح (العلمانية) في نفوس المسلمين والعرب، فالرشدية (اللاتينية) عرفت بخروجها عن الفلسفة اللاهوتية للكنيسة في القرن الثالث عشر، وهذه الفلسفة تقوم على ضربين من المبادئ: مادية تخالف المعتقد المسيحي السائد، إذ تقول بوحدة العقل ، وقِدم العالم ، وتنكر العناية الإلهية ، والحرية وخلود النفس والمعجزات، ومبادئ منهجية تقول بتكافؤ الحقيقة الدينية والحقيقة العلمية، فسمى ابن رشد (الفيلسوف ذا الحقيقتين) ، وهو مبدأ يؤدى إلى الاستغناء عن إحدى الحقيقتين، ومن ثمة التخلى عن اللاهوت المسيحى لفائدة الفلسفة الأرسطية، كما أن هذه الروح الرشدية (اللاتينية) ستتطور لتصبح فصلاً تامًّا بين الدين والفلسفة مما انتشر بين أصحاب عصر التنوير وانتقل إلى المحدثين ، فلا عجب أن ينصب ابن رشد إمامًا للعقلانيين والعلمانيين والحداثيين، وتكون بذلك إرادة الانتساب إلى ابن رشد إرادة الانتساب إلى العلمانية في أطوارها المعروفة (ص88) ، أما المهرجانات المتنوعة احتفاءً بابن رشد، فإن لأصحابها مآرب أخرى غير التكريم والتقدير وهي الرغبة في التشبه بالأسياد من الغربيين والمستشرقين وإرضائهم أو البحث عن لقب حداثي أو علماني ، وكذا الإرادة الشرسة للعلمانيين لتصفية الحساب مع التيار الإسلامي.

وعليه، لم يكن الدكتور طه عبدالرحمن من ضحايا هذه الفتنة الفكرية بابن رشد لسابق علمه بهذا الفيلسوف في الفلسفة والكلام والفقه، فاطمأن إلى أن ابن رشد كان مقلدًا في الفلسفة ، وتقليده لأرسطو لا ينحصر في شروحه وتفاسيره وملخصاته وجوامعه، بل يتعداه إلى كتبه التى تعتبر من التأليف الإبداعي (كتهافت التهافت) و(الكشف عن مناهج الأدلة) و(فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال)، فالكتاب الأول دفاع عن التقليد في وجه المعترضين عليه ممثلين في شخص الغزالي، والكتاب الثاني دفاع عن التقليد في وجه المتكلمين ممثلين في الأشاعرة ، والكتاب الثالث دفاع عن التقليد في وجه رجال الدين ممثلين في الفقهاء (ص91)، والتقليد الذي يدعونا إليه ابن رشد يرجع إلى تاريخ سحيق يتجاوز، بل يتجاهل، فترة المد الفكري الإسلامي وكأنه لا يعتبرها، فكان بذلك واضع أصول التقليد وآلياته في الفلسفة بامتياز.!

فلا عجب أن يتهافت العلمانيون العرب على الفكر الغربي ينقلون ويجترون ما دام ابن شد تهافت هو الآخر على فكر أرسطو يشرح ويفسر، وفي التاريخ أشباه ونظائر فظنوا أنهم دخلوا عصر الحداثة، وهيهات! إذ كيف تجتمع الحداثة والتقليد!

ويخلص الدكتور طه إلى أن انبعاث الأمة الإسلامية لن يكون عن طريق فكر ابن رشد ولو استنفر الرشديون عددهم وعدتهم كلها لبثه في النفوس، بالترغيب أو الترهيب، إلا أن ينسلخوا عن جلدتهم ويلبسوا غيرها فيذوبوا في أهلها ذوبان الثلجة في البحر، أما أن يطمعوا في أن يحققوا لهذه الأمة انبعاثها بواسطة هذا التقليد مع بقائهم هم أنفسهم، عربًا مسلمين متميزين عمن يقلدون فذاك أمر دونــه ولوج الجمــل في ســـم الخياط. (ص92).

إن فلسفة ابن رشد فلسفة مفصولة أي منقولة لكنها لم تتداخل مع المعارف الإسلامية ولا تعاطت للتوافق مع مقتضيات المجال التداولي الإسلامي، وكانت قريبة من الفكر الغربي بعيدة عن الفهم الإسلامي.

وفي مقابل الانتساب لابن رشد وفلسفته شرح الدكتور طه في كتابه أوجه التقائه مع الغزالي من غير تقليد ولا انبهار، ولكن جمعتهما معطيات معرفية ومنهجية، فقد اشتغل الدكتور طه بالمنطق كما اشتغل الغزالي ، لكن خالفه الدكتور طه في نزعته الأرسطية، واشتغل بعلم الأصول كما اشتغل الغزالي، واختلف معه في علاقة علم الأصول بالمنطق، فالغزالي يعتبره جزءًا من المنطق، والدكتور طه يعتبر المنطق جزءًا من علم الأصول، واشتغل بالفلسفة كما اشتغل بها الغزالي، لكنه لا يجرم أهلها كما جرمهم الغزالي ، وخاض الدكتور طه التجربة الصوفية على مقتضى أهل السنة كما خاضها الغزالي ويختلف معه في الأسباب المفضية إلى الدخول في هذه التجربة.

وفي نهاية الفصل تحدث الدكتور طه عن علاقته بابن خلدون ، واستفادته منه بقدر في قضايا منهجية ومعرفية كمصادر المعرفة والكتابة العلمية الاستدلالية، وتطويع اللغة العربية للاصطلاح العلمي، كما أنهما يشتركان في الفلسفة المنطقية التى بنى عليها كل واحد مشروعه.

وفي فصل (صوفيات) تحدث الدكتور طه عن مقاصده من تأليف كتابه ( العمل الديني وتجديد العقل) الذي اعتبره البعض سيرته الذاتية، إذ نفى الدكتور ذلك ووحد تلك المقاصد في رغبته توضيح أن التجربة الروحية لا تتعارض أبدًا مع المعرفة العقلية، بل قد تكون سببًا من أسباب إثرائها والتغلغل فيها، كما أن الكتاب يوضح أن القوى الإدراكية للإنسان على اختلافها متصلة بعضها ببعض، ثم إن العقل ليس مرتبة واحدة، إنما مراتب متعددة، بعضها أعقل من بعض..

وأشار الدكتور طه إلى تجربته الصوفية الفريدة، وميزها عن تجربة الغزالي الذي دخلها شاكًّا وفارًّا، أما الدكتور طه فدخل فيها عن طواعية واختيار .

كما تكلم في هذا الفصل عن الحدس والاستدلال ، واعتبر المعرفة الحدسية في ذاتها تعتمد استدلالاً مطويًّا، فالحدس والاستدلال عنده بمنزلة لغتين أو وجهين لحقيقة واحدة، مخالفًا في ذلك (ديكارت) و(بيرجسون) وغيرهما من الحدسيين، إن الحدس إذن، بنظر الدكتور طه، استدلال مطوى، كما أن الاستدلال حدس منشور (ص109).

ومن الطريف في هذا الفصل، أن الدكتور طه قدم نظرته للجمال والفن، فميز بين البعد الجلالي والبعد الجمالي في الإنسان ، إذ الأول مرتبط بأسباب القوة والبأس والثاني بالرقة واللطف، وهو ما تحققه الفنون والآداب المتنوعة ، ومعلوم أن الدكتور طه عبد الرحمن، مما لا يعرف عنه، أنه تلقى دروسًا في الجماليات وتاريخ الفن بمعهد الفنون الجميلة بباريس، كما ابتدأ حياته الإبداعية بقول الشعر، وكانت آخر قصائده (في طريقى إلى القصيدة) إذ غادر محراب الشعر إلى معهد الفلسفة والفكر ، وهو متشوق، كما يذكر في كتابه، إلى العودة إلى الشعر مرة أخرى بعدما يتم مشروعه الفلسفى ؛ لأنه يعتقد أن بالشعر تستكمل الإنسانية وكذا الوجود ، وبه يغطس الإنسان في بحار اللامتناهي، ففى الغطس ، بتقدير الدكتور طه ، بعث جديد لروحانيته … (ص114) .

وفي فصل (أصوليات) أكد الدكتور طه على أن المسلم اليوم مطالب بأن يكون متمكنًا من الوسائل العلمية والعملية التى بإمكانها أن تبين للغير حقيقة الإسلام وتقنعه بضرورته الحضارية المتميزة ، وعاب على المفكرين والحكام الطريقة التى يقدمون بها الإسلام، حتى إن الإسلام يظهر أنه لا يحمل من القيم  أكثر مما تحمله ثقافة الغرب.

وانتقد الدكتور طه بقسوة وعمق تجربة الصحوة الإسلامية ، بدءًا من الاعتراض على الاسم وتعويضه (باليقظة) لأنها أغنى دلالة وأوغل في تاريخ الممارسة العقدية، أما (الصحوة) فهو تفصيح لمدلول دارجي مصري!، وهذه اليقظة الإسلامية، وبنظر الدكتور طه، لن تسلم ولن تقوى ما لم يتزود أصحابها بنصيب من العلم يفوق ما حصله خصومهم منه، حتى يقتدروا على مقارعة الحجة بالحجة ، ويظهروا عليهم فيما يدعون من الأخذ بالأسباب (العقلانية) و(العلمية) و(الموضوعية)، كما عاب على أهل (اليقظة الإسلامية) ضعفهم الأخلاقي ، وانشغالهم بالتسيس والتجريد، إذ ليست الأخلاق وكما يعتقد الكثير من الإسلاميين ، أوصاف معنوية تكميلية وترفيهية تختص بالفرد وحده مع تخييره في فعلها وتركها، بل الأخلاق هي عين الإنسانية في الإنسان ، وليس التراث ولا الثقافة ولا الحضارة إلا جملة أخــلاق وكــل ما اتصــل بالإنسـان ، [فالعقل خلق ما قام على الحق، والعلم خلق ما طلب النفع، والعمل خلق ما سعى إلى الصلاح، والحياة خلق ما أفادت حفظ النفس] (ص121) .

وأشار الدكتور طه إلى ثلاثة ثقوب غائرة في جسد اليقظة الإسلامية وهي:

1_ صلة المعرفة الإسلامية بالمنهجية المنطقية، إذ ما زال بعض الإسلاميين المغاربة يعضون بالنواجذ على فتوى ابن الصلاح في تحريم الاشتغال بالمنطق، والواقع أن الباحث الإسلامي ليس يحتاج، بنظر الدكتور طه، في سياق التيقظ الذي تشهده الساحة الإسلامية، إلى شيء قدر احتياجه إلى تحصيل أسباب المنهجية المنطقية؛ حتى يتسنى له امتلاك القدرة العقلية على مواجهة التحديات الفكرية الكبيرة التى تهدد مصيره.

2_ صلة الدين بالتسيس : فأغلب الإسلاميين يرون أن التدين والتسيس لا يفترقان ، إلا أن تصورهم وممارستهم للتسيس لا يختلفان في شيء عن تصورات وممارسات خصومهم الذين يقولون بافتراق الدين عن السياسة، وقد شرح الدكتور طه تصوره لهذه القضية بإسهاب في كتابه (العمل الديني وتجديد العقل) .

3_ صلة الدين بالتصوف: فكثير من الإسلاميين يبغضون التصوف وأهله ، وخاصة الإسلاميين من أهل الطائفة السلفية ذات التوجه الوهابي، في حين لا يرى الدكتور طه في التدين إلا تصوفًا، فالتدين تخلق، والتصوف إنما هو اسم اختص بالدلالة على طلب كمال التخلق الذي هو أصل لكل الأفعال الإنسانية حتى العضوية منها والمادية، فما بالك بالأفعال المعنوية، فسؤال الخلق هو سؤال الفلسفة الأول، وليس ما ادعاه المتقدمون، أي : ما الوجود؟ ولا المتأخرون، أي : من أنا؟ إنما السؤال الفلسفي الكبير هو: كيف أكون على خلق؟ أو قل (كيف أكون إنسانًا؟).

إن اليقظة الإسلامية المعاصرة في حاجة اليوم، بنظر الدكتور طه، إلى أن تتأسس على دعامتين كبيرتين: الأولى: القوة الروحية لتجديد الإنسان المسلم تجديدًا وإحياءً، والثانية: كمال القوة العقلية لإثبات، أي اليقظة ، أنها عاقلة قوة وفعلاً …

ولما لم تسع هذه اليقظة الإسلامية لتحصيل هاتين الدعامتين ، فقد فشلت في صياغة البدائل الإسلامية الحقيقية، ولم تستطع التحرك في المجالات غير السياسية كالعلم والفكر والأخلاق والاجتماع، والفلسفة والفن، ولا عجب في هذا ما دامت قد غرقت متعجلة في إثبات وجودها على إثبات عقلها، إننا في حاجة اليوم وبإلحاح ، كما يقول الدكتور طه إلى يقظة ثانية، تنتزع هذه اليقظة الأولى من العمل السياسي الفرعي، وتردها إلى العمل الروحي والعقلي الأصليين.

وفي الفصل الأخير (عولميات) انتقد الدكتور طه العولمة المعاصرة ورغبتها الجامحة في محو وسحق خصوصيات الأمم، ولكنه اعتبرها ظاهرة حضارية ملازمة للتاريخ البشرى في كليته وتتداولها الأمم التى وجهت هذا التاريخ. كما نبه إلى خصوصية (التعولم) المعاصر الذي هو ازدواج العامل الاقتصادي بالعامل الإعلامي، مستتبعًا العاملين السياسي والثقافي، ودعا في المقابل إلى عدم تهويل هذا التقويم حتى نتوهم أنه نهاية الإنسان أو التاريخ، بضغط من مقولات فلاسفة مسيحيين كهيجل .. بل إن هذا التعولم سيذهب ويبقى الإنسان ، والإنسان ليس كما أرادته العولمة منظومة من الوقائع والوسائل بل هو مجموعة من القيم والمقاصد.

ودافع الدكتور طه عن إرادة الإنسان، وقدرته على قهر العولمة، وتجنب إفرازاتها الضارة مستشرفًا مستقبلاً سيكون فيه للفكر الغلبة والريادة.. ثم دعا المفكرين العرب إلى ميثاق شرف أخلاقي وفكري يتجاوز حالات الانغلاق والتآمر والمزاحمة والحسد والريادة المغتصبة إلى حالات التواصل والعطاء والمساندة لتحديد مسار فكري دقيق يحفظ مكانة الأمة ويضمن انخراطها العقلاني في العالم الجديد، كما دعا إلى ضرورة نقد ومحاسبة المشاريع الفكرية المضللة التى تخلى عنها أصحابها وألزموا بها الأمة في وقت ما ، وكذا مراقبة تطور المفكرين وانتقالهم بين الأيديولوجيات ، دون حسيب أو رقيب، من ماركسية إلى ليبرالية… بعدما تورطوا في تقطيع أوصال التراث ، وتحطيم أصحابه وتشويه إنتاجه ، وتجزيئه أقسامًا بتقليد غيرهم..

ويخلص الدكتور طه في نهاية كتابه إلى أن الدعوة السليمة إلى التجديد هي تلك التى تجعل من الإنسان العربي أو الإنسان المسلم، لا آلة، أي منظومة ميتة من الوسائل والوقائع، وإنما تجعل منه آية أي مجموعة حية من المقاصد والقيم ، ولا يمكن لمثل هذه الدعوة إلا أن تصادم أشد ما تكون المصادمة برنامج العولمة أو قل (العولبة) المرسوم لشعوب العالم .

على سبيل الختام:

فمن التراثيات إلى العولميات مرورًا بالفلسفيات والمنطقيات والترجمات والرشديات والصوفيات والأصوليات، نكون قد تجولنا في حقول معرفية ومنهجية متعددة، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك، ما أكدناه في المقدمة، وهو أن الدكتور طه عبد الرحمن، فيلسوف ومفكر مبدع، توفر له من الدقة المنهجية… والموسوعية المعرفية والصياغة المحكمة، ما يجعل مشروعه الفلسفى الضخم إعلان ميلاد جديد للمعرفة الإسلامية، ولا عجب أن يسطع نجمه مع بداية القرن، فالله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

(*) جامعة القاضي عياض ، مراكش المغرب .

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر