أبحاث

الإجهاض في الدين والطب والقانون

العدد 35

في تصد لموضوع الإجهاض أبصرت ثلاثة مداخل، ارتأيت أن أدخل منها جميعا: المدخل الأول من قصة طالعتها في كتاب كليلة ودمنة عن سمكات ثلاث –كيسة وأكيس منها وعاجزة-
تسامعن بقدوم الصياد للغدير.. فأما الأكيس فاتخذت قرارها على الفور فنزحت من غدير إلى غدير وكأنها تترك ما يريب إلى ما لا يريب.. وأما الكيسة فما أبصرت شبكة الصياد يطرحها في الماء حتى احتالت وناورت فاتخذت لنفسها مدارا ومسارا فوق مرمى الشبكة فنجت منها.. وأما العاجزة فأصابتها الغفلة حتى احتوتها الشبكة فأطبقت عليها فأصبحت من الهالكين.

ولقد أصبح موضوع الإجهاض الآن موجة عالمية وأصبحت المجتمعات أمامها عاجزة وكيسة وأكيس. ولعل انتباهة قبل وقوع الأمر توفر جهدا كبيرا بعد وقوعه، والأمثلة صارخة متعددة في منطقتنا العربية.

والمدخل الثاني خواطر اتسقت في نفسي وأنا أتلو في قرآن الله الكريم: “بسم الله الرحمن الرحيم- يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم” (الممتحنة 12) ووقفت متأملا عند قوله “ولا يقتلن أودلاهن”.. وساءلت نفسي وهل كانت النساء يقتلن أولادهن؟ إن قتل الذرية الذي عرفته الجاهلية -وقد نهى عنه الإسلام- كان وأد البنات دون البنين.. فلا ينبئ عنها التعبير بكلمة أولادهن وهي تشمل البنين والبنات.. ثم تلك الجريمة جريمة الوأد كان يقترفها الرجال دون النساء لأن الرجل الجاهلي -دون المرأة- هو الذي انحاز للذكورة دون الأنوثة فيما ينجب فإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم أيمسكه على هون أم يدسه في التراب.

وساءلت نفسي بعد ذلك ماذا تكون تلك الجريمة التي تقترفها النساء ويذهب ضحيتها أولادهن ذكورا وإناثا؟ ووجدت نفسي تستريح إلى أن المقصود بقتل النساء أولادهن هو إحداث الإجهاض.

هذا التمييز بين جريمة ضحيتها الإناث فقط والدافع لها اتقاء العار، وبين جريمة أخرى ضحاياها الأولاد عموما والدافع إليها شيء غير خشية العار.. زاده القرآن وضوحا في قوله تعالى “ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم” (الإسراء 31) فهذه جريمة دوافعها اقتصادية بحتة. وضحاياها الأولاد ذكورا وإناثا وهو ما لم يعرف عن العرب إلا أن يكون القصد منه الإجهاض.. وتعبير “من إملاق” في الآية الأولى و “خشية إملاق” في الآية الثانية يشمل الإملاق الواقع فعلا والإملاق المخشي الذي لم يقع بعد.. ويبين أن كلا الإملاقين ليس من أسباب علاجه إزهاق حياة. ذلك اجتهادي، وقد أكون فيه مصيبا أو غير مصيب.

أما المدخل الثالث فهو أنني طبيب.. وأنني مسلم. وللطب أصوله وفروعه وكلياته ووقائعه وللإسلام أوامره ونواهيه وقواعده التي يعرف الناس بها الحلال والحرام بينين أو مشتبهين. ومسألة الإجهاض من المسائل التي تجابهني كل يوم خلال عملي طبيبا لأمراض النساء والولادة وتجابه غيري من الأطباء في مشارق الأرض ومغاربها ويؤود الطبيب وهو يتحرى ما يعمل أن مسألة الإجهاض في الزمن الأخير لم تعد مسألة طبية في أيدي الأطباء.. لقد نازعهم عليها وانتزعها منهم أهل التشريع وأهل الاجتماع وأهل الدراسات السكانية والاقتصادية وأهل المذاهب المعاصرة في فكر وخلق وسلوك. وهذه التي غيرت معالم العالم العربي في الزمن الأخير تغييرا شاملا لسنا بمعزل عنه ولا نستطيع أن نكون. فالعالم كمشته المواصلات وموجات الأثير والمطبعة حتى أصبح يحس كل من فيه بكل ما فيه.

وليت القول الفصل في مسألة الإجهاض يتأتى إن فتحنا كتابا فنقلنا ما فيه ولكن الله بجانب ما أنزل من تشريع لم يعف الأعين من أن تبصر والآذان من أن تسمع والأفئدة من أن تفكر. فقد جرت سنة الله أن تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا. وأدرك هذا فقهاؤنا الأوائل فكانت لهم الآراء تختلف وتتفق، بل كان للشافعي مذهبان، فيقال قال في القديم وقال في الحديث، بل إن عمر –رضي الله عنه- ليجيب عن السؤال إجابتين بينهما زمان فيقول أفتينا بما علمنا ونفتي بما نعلم.

وقد أصبحت مسألة الإجهاض في زمننا غير ما كانت عليه في زمن كثير مما بين أيدينا من الكتب وأصبحت أبعادها عالمية فهي كسعر العملة، ومناطق التوتر السياسي، وجبهات الحرب باردة وساخنة، وسريان الأوبئة، وقضايا الطاقة، لا يمكن أن تفهم إلا إن استوعبنا أبعادها العالمية وألممنا بالتيارات التي تحركها ودرسنا اتجاهها من أين وإلى أين.. فإذا عرفت العلة بان الحكم، فالأحكام في الإسلام –إلا أحكام التعبد أو ما فيه نص- مع العلل.. وبهذا أدخل إلى الموضوع.

تطور النظرة القانونية للإجهاض:

منذ قديم كان الإجهاض مقيتا وفي قسم أبقراط الذي تتوارثه المهنة عبر الأجيال يقسم الطبيب ألا يصف دواء يجهض به حاملا.. وحتى الأمس القريب كان الإجماع منعقدا على أنه ليس للإجهاض من مبرر إلا أن يكون استمرار الحمل مهددا لحياة الأم ولا زال هذا معمولا به في قوانين كثيرة من البلاد، بينها مصر والكويت ولبنان والأردن وسوريا وكمبوديا وفنزويلا والسنغال وبعض ولايات أمريكا وغيرها.. وقد تزاد العقوبة إن كان المجهض طبيبا أو صيدليا أو قابلة. ولكن شهدت السنوات الأخيرة تطورا في تشريعات الإجهاض يختلف من بلد لآخر.. وأعفي حضراتكم من تفاصيل القوانين في كل بلد.. فاعترف القانون بمبررات للإجهاض غير المبررات الطبية ووسع القانون معاذير الإجهاض فلم يصبح الإجهاض القانوني مردافا للإجهاض الطبي بل أوسع منه.

وأصبح القانون يعترف بمبررات للإجهاض هي:

1- الدواعي الطبية.. وهي ما أشرنا إليه آنفا.. ولكن وسع في بعض البلاد مدلولها وبوعد ما بين قوسيها.. فبدأت بالخطر على حياة الأم إن استمر الحمل، ثم الخطر على صحتها، ثم على صحتها الجسمية أو النفسية ثم عليهما في الحاضر والمستقبل المنظور، ثم على الصحة الجسمية أو النفسية لأفراد الأسرة الآخرين بما فيها الأبناء الشرعيون أو الأبناء بالتبني.

2- الدواعي الجنينية.. وهي ملحقة بالدواعي الطبية، في الحالات التي يتيقن أو يترجح فيها أن الجنين مصاب بمرض أو عاهة أو مات فعلا.

3- الدواعي الإنسانية.. مثل إباحة إجهاض الحمل الناتج عن الاغتصاب أو وقاع القاصر أو المجنونة.. ومن أمثلة ذلك قضية الأستاذ الدكتور بورن المشهورة في بريطانيا في الثلاثينيات إذ أجهض بنتا في الرابعة عشرة اغتصبتها ثلة من الجند.. ورغم أن دافعه كان إنسانيا إلا أن دفاعه في المحكمة كان طبيا إذ اعتبر أن صغر حجم الحوض بعظمه ولحمه يعرضها للخطر الشديد عند الولادة.. وأخذت المحكمة به وبرأته.

4- الدواعي الطبية الاجتماعية.. وهي تأخذ في الاعتبار غزارة الإنجاب أو تقارب الولادات والآثار الجسمية أو النفسية التي لا ترقى لدرجة المرض.. ومنها صغر السن أو كبره.. أحد الظروف الحرجة التي تتعرض لها الأنثى غير المتزوجة إن حملت.. ونذكر هنا أن القانون التونسي يبيح الإجهاض إن كان للسيدة خمسة أطفال أحياء. وأن القانون الأردني وإن كان يعتبر الإجهاض جريمة إلا أنه اعتبر طرفا مخففا أن يكون الإجهاض قد أحدث اتقاء فضيحة تمس الشرف.

5- الإجهاض حسب الطلب.. وهو الصيغة التي تود أن تتحرر حتى من التحايل على القوانين. وهي خاتمة المطاف للموجة الإجهاضية المعاصرة.. وقد شقت دعوته طريقها بمثابرة وإلحاح حتى اعترف بها القانون في بعض الدول الشرقية والغربية مثل هنغاريا وروسيا وبعض ولايات أمريكا.. وإن كانت روسيا تشترط أن تلقى المرأة لجنة تحاول إقناعها بالعدول وإلا فلها ما شاءت.

ماذا وراء التغيير والتطوير في تشريعات الإجهاض؟

واضح أن التشريعات التي استحدثتها كثير من الدول تهدف عموما للانتقال من تقييد الإجهاض إلى إطلاقه في درجات متفاوتة.

ولم يكن الإجهاض في ظل التشريعات التي تضيق رقعته مقيدا بالمعنى المتوقع.

دائما كان هناك أفراد من داخل المهنة الطبية أو خارجها مستعدون لاجراء الإجهاض سرا لقاء أجر متفاوت.. ومنهم من جمع ثروات طائلة من وراء ذلك. وكان هؤلاء المجهضون في الخفاء سببا خلال تجارتهم في إزهاق أرواح كثيرات.. أو إصابة كثيرات بمخاطر صحية تحيا بعدها الضحية بعلة مزمنة أو تفقد القدرة على الإنجاب. ولعل مآسي هذا النوع من الإجهاض الذي كان يسمى “الإجهاض الإجرامي” كانت أقوى حجج المطالبين بإباحة الإجهاض.. فما دام الإجهاض سيتم فمن الخير أن يتم في ظروف مأمونة وتحت رعاية طبية وافية.

وكما كانت القوانين تهدد بالاستخفاء منها كذلك كانت تهدد بالتحايل عليها.. وفي ظل القوانين التي وسعت رقعة الإجهاض بدافع الخطر على الصحة الجسمية أو النفسية، كان يكفي أن تقول الفتاة “سأنتحر إن لم تجهضوني”.. فيكتب الطبيب على أوراقها “نزعة انتحارية” ويكفي هذا مبررا للإجهاض.

على أن هناك ظاهرة لوحظت جديرة بالتسجيل.. فقد كان يظن أن إباحة الإجهاض بالقانون ستقضي على تجارة الإجهاض الإجرامي ولكن دهشت السلطات عندما تبين أن العكس هو الذي حدث. ففي هنغاريا قبل عام 1956 وهو العام الذي أبيح فيه الإجهاض كان عدد الإجهاضات غير القانونية في حدود مائة ألف إلى مائة وخمسين ألفا.. فإذا هي بعد الإباحة تصل مائة وستين ألفا في الستينيات.. وتجاوز المائتي ألف عام 1968.. وصدقت ذلك تجربة اليابان وغيرها من الدول الإسكندينافيا بعد إباحة الإجهاض.

وحري بالذكر كذلك أن بعض الدول التي أباحت الإجهاض بقصد تخفيف حدة الانفجار السكاني أو بمعنى آخر إقرار الإجهاض وسيلة لتحديد النسل، قادتها تجربهتا إلى مأزق بدأ يقض مضاجعها. ففي اليابان حيث الإجهاض مباح منذ 1948 هبط معدل الولادة إلى 12.5 في الألف.. وصحت السلطات على حقيقة مرة هي نقص عدد الشباب عن الوفاء بمطالب العمالة فإذا أضفنا أن العناية الطبية أدت إلى زيادة عدد المسنين في المجتمع، تبين أن الشريحة الحاملة وهي شريحة العاملين المنتجين قد تقلصت بالنسبة للشريحة المحمولة المكونة من الأطفال في جانب والعجائز في جانب آخر.

وفي رومانيا أبيح الإجهاض عام 1956 فزاد عدد حالات الإجهاض القانوني إلى ربع حالات الحمل كلها سنة 1958، وثلثها سنة 1959، ثم تفاقمت حتى جاوز عدد ما يجهض من الحمل عدد ما يكتمل إلى الولادة. ورأت الدولة أن الأمة تمارس لونا من الانتحار بالانقراض فبدأت تتراجع وتعود أدراجها بقصر السماح بالإجهاض على الدواعي الطبية، وتشجيع نمو الأمة بمنح مكافآت وعلاوات عن الولادة والمواليد، وتقرير إجازة أمومة براتب كامل، وإعفاءات ضريبية للأسرة الكبيرة.. وتبعت رومانيا غيرها من دول أوربا الشرقية.

أما القانون الإنجليزي الذي صدر في 1967 فقد أباح الإجهاض إن كان استمرار الحمل يحمل في طياته خطرا جسيما أو نفسيا على المرأة أو أي طفل من أطفال العائلة بما فيهم أبناؤها أو أبناء زوجها أو الأولاد بالتبني.. وفي قياس الخطر حض القانون على اعتبار الظروف البيئية الحاضرة أو التي ترتقب في المستقبل المنظور.

وعلى هذا فإن القانون يتسع لأن يقال إن أسرة تتبنى طفلا ثم تحمل الزوجة ولكن الطفل المتبني يؤذيه نفسيا قدوم الوليد الجديد فيباح أن تجهض المرأة.

وكان واضحا أن القانون الجديد لم يكن استجابة لطلب الهيئات الطبية. بل إن مجلس الجمعية الطبية الملكية لأطباء التوليد والقانونيين قدم طلبا لبحث الموضوع فأهمل طلبه. واجتاحت بريطانيا موجة إعلامية عاتية تنادي أن الإجهاض حق لكل من تريده وأنه لا يجوز أن تحمل المرأة جنينا لا تريده.

وقد أعلنها الدكتور السير توماس جنكويت في الإذاعة البريطانية، فقال إن قانون الإجهاض الجديد قد احتضنته مجموعة من المشاغبين قليلة العدد ولكن قوية التنظيم، غزت الرأي العام بالدعاية المغرضة المحرفة، وسخروا الصحافة في غسل مخ الأمة بشعار الإجهاض حسب الطلب، وبأموال مجلوبة من الخارج طبعوا وروجوا كتيبا يشرح القانون الجديد بأسلوب مغرض.. وعندما عرضنا المساهمة في البحث قال أحد أعضاء البرلمان نحن هنا لنشرع لا لنستمع لآراء الفنيين.

كان القانون الجديد إذن في غاية المرونة. وقد ترك الظروف للطبيب فماذا كان؟

كان أن الذي يحكم ضميره ظل يحكم ضميره.. ولكن الذي كان يتعاطى تجارة الإجهاض خفية جاهر بتعاطيها في ظل القانون وفي حمى شرعي لم يكن من قبل.. وكان أن الذين جاء القانون بدعوى حماية الناس منهم أصبحوا هم في حماية القانون.

وماذا كانت الآثار المباشرة لتنفيذ القانون؟ تبدت الملاحظات الآتية:

أ- زيادة مضطردة في حالات الإجهاض لدرجة شغلت من أسرَّة المستشفيات ومن وقت الأطباء الاختصاصيين ما عطل علاج المريضات بالأمراض الأخرى.

ب- كان من بين النساء المجهضات 44 بالمائة فقط سيدات متزوجات.. أما الـ 56 بالمائة الباقية فكانت أحمال سفاح من بنات (37 بالمائة) أو مطلقات وأرامل (9 بالمائة) وهو ما ينبئ عن حقيقة الحاجة التي يلبيها القانون الجديد.. وفي أمريكا بلغت نسبة حمل السفاح بين المجهضات درجة أعلى من ذلك.

ج- كانت ثلاثة مستشفيات خاصة في لندن تجري من الإجهاضات أكثر مما تجريه مستشفيات منطقة لندن المجانية الحكومية.. وهذا يدل على مدى الاستغلال التجاري للإجهاض.

د- ورغم إباحة موانع الحمل وإباحة الإجهاض فقد زادت ولادات السفاح بالنسبة إلى الولادات الحلال زيادة كبيرة.. مما يدل على أن لب القضية هو إشاعة جو من التسيب وعدم الخجل من الحرام وعدم الاكتراث بالروادع والزواجر والمسئوليات وبعبارة أخرى تفشي الإباحة الجنسية.

الخلفية الأخلاقية التي أفضت للإباحة:

الذي ذكرناه من تطويع القانون حتى أفضى لإباحة الإجهاض لا يمكن النظر إليه مجردا.. فهو جزء من صورة لا يفهم إلا بالنظر للصورة كلها وإلا كنا كمن قرأ “ولا تقربوا الصلاة” ثم سكت فموجة إباحة الإجهاض هي خيط من نسيج، وخطوة على طريق. وجزء من كل..

اجتاحت العالم بعد الحرب العالمية الأولى فلسفتان ولعلهما ذراعان لفلسفة واحدة.. الأولى تنكر الله أساسا وتنكر الدين متهمة إياه بأنه أفيون الشعوب. وتدعي أن الأنبياء كانوا مصلحين اجتماعيين أرادوا إغراء الناس باتباعهم فوعدوهم بمغانم لم يكونوا يملكونها.. ولهذا أحالوهم إلى مصرف وهمي يسمى النعيم في الآخرة، واتسعت هذه الفلسفة حتى أصبحت تبسط رواقها على أكثر من ثلث سكان الأرض.. وقد هدفت من البدء إلى إخلاء النفس من الله.

أما الذارع الثانية فرفعت في الغرب المسيحي شعار مذهب جديد اسمه “الفضيلة الجديدة” راكبة موجة التقدم العلمي والانتصارات التي حققها العقل البشري. وراح هذا المذهب يمجد هذا العقل وينادي بجعله الهادي والمرشد والمحور الذي تدور حوله الحياة.. والمرجع في تنظيم السلوك.. فما وافق عليه العقل فصواب وإلا فهو الخطأ.. ولما بلغ الغاية من تقديس العقل دعا إلى أن يعرض الإنسان عليه كل التراث الإنساني ليراجعه في تحرر من المورثات السخيفة البائدة أو التي آن لها أن تبيد. وفي دوره الجديد كسلطة عليا في حياة الإنسان أخذ العقل يقر ويستبعد، ويحرم ويحلل، ويثبت وينفي، وباختصار احتل العقل مكانة الإله.

وفي موجة عارمة من غسيل المخ لم ينتبه الناس إلى أن إلههم الجديد محدود وناقص. فالعقل يبصر حتى الأفق ولكن وراء الأفق آفاقا لا يحيط بها. والعقل ناقص العلم وإلا فما الحكمة من إقامة المختبرات ورصد الميزانيات للبحث العلمي. أليس كل يوم تأتينا بكشف جديد حجة علينا أننا كنا في اليوم السابق أقل علما أليس اجتهادنا الفائق في البحث العلمي مرادفا لإدراكنا أن هناك ما نجهله؟.

وراح العقل فيما راح يستعرض القيم والفضائل القديمة ويضع بدلا منها قيما وفضائل جديدة. وتحت رايات الحرية بشر الإنسان بأنه حر فيما يفعل ما دام لا يؤذي غيره.

وقامت تساند هذه الحركة حركة فكرية أخرى منفصلة عنها في الظاهر لا في الباطن. اسمها مذهب “الفضيلة بلا دين” داعية أن على الإنسان أن يحب الخير لذاته ويكره الشر استجابة لفطرته وبغير حاجة إلى اعتناق دين ما.. بل ها هو ذا الدين طالما فرق الناس وتسبب في المذابح حتى بين أبناء المسيحية ذاتها. وقالوا إن كان الدين ليهدي الإنسان للمحبة وحسن المعاملة والأمانة والخير، فإن أمكن تحقيق هذه الغايات عن غير الطريق الديني فقد غنمنا الخير محضا وأمنا التعصب والانغلاق وما يجرنا إليه.. إن على الإنسان أن يحتكم إلى ضميره فهذا هو الحكم المهم، وكم من صاحب دين يقيم الشعائر ويتمسك بالطقوس والعبادات وهو مع ذلك غشاش أو حاقد أو فاسد أو غير أمين.

ولقيت هذه الدعوة إلى الفضيلة هدى كبيرا في نفوس كثير من الفضلاء. وكان ذلك سببا كبيرا للحركة، فالمهم عندها ألا يكون للشر والخير ميزان ثابت لا يستطيع أحد أن يعبث به. ومتى زحزحت صخرة الإيمان وقام ضمير الإنسان مقام تعاليم الله فالأمر بعد ذلك من السهولة بمكان. فالحارس الجديد لطيف وطيب، وما دام قد تحرر من ردع العقيدة وتلبس بحرية الحركة فالمنافذ يسيرة دون أن يشعر بها، والإنسان نفسه قابل للتغيير والإيحاء بل إن الحديد ليلين بشدة الحرارة ومداومة الطرق.

كانت النتيجة الحتمية أن تقلص ظل الدين عن حياة الناس، وخفت صوت الله في نفوسهم. ومرت الأيام فإذا الرأي العام الغربي قد أدار ظهره لله بل اجترأ عليه، وربما ساعد على ذلك أن العقل المتفتح لم يعد يسيغ ما أدخله الكهنوت على المسيحية مما لم يكن فيها. ولقد دهشت ودهش الكثيرون دهشة بالغة حين طلع علينا أحد أعداد مجلة التايم سنة 1966 مصدرا بعنوان ضخم يسأل “هل الله ميت” وحسبت الأرض تزلزل زلزالها وتخرج أثقالها والمجلة من أوسع صحف العالم انتشارا.. ولكن ظلت المجلة تلوك الموضوع قرابة السنتين.. بين مؤيد ومعارض.. وفي عددها في 26/12/1969 أوردت مقالا اسمه “الكهنوت الجديد وإعادة الحياة إلى الله”. وكما يكون البذر يكون الثمر.. وغير عصي على الفهم كيف أن كثيرا من محرمات الماضي صارت من مباحات الحاضر.. وتحت شعار “الفضيلة الجديدة” ما دمت لا تؤذي فأنت حر.. ولم تلق لمفهوم الأذى إلا النظرة السطحية.. وتغير فيما تغير النظر إلى العلاقة الجنسية، وإذا الفضيلة الجديدة هي بعينها الرذيلة القديمة.

وأتبع ذلك موجة ضارية وهادفة من كل ما يبعث على الإثارة الجنسية من أفلام السينما وروايات المسرح والأغاني والرقصات والأزياء وكتب المتعة السريعة وكتب الفلسفة العميقة وبرامج الإذاعة والتليفزيون ومحاضرات عامة ولقاءات فردية.. حركة شاملة في عنان واحد إلى هدف واحد.. وصارت تيارا اجتماعيا يجرف المجتمعات زرافات لا وحدانا.. ولم تجد الحركة مجالا قصرت فيه.

أستاذ علم النفس في جامعة بريطانية كبيرة يحذر من العقد النفسية الناجمة عن الكبت الجنسي لدى الشباب. وبرتراند راسل يعلن في حديث تليفزيوني سعادته بتحقيق دعوته لإقامة علاقات الجنس بين الزملاء والزميلات من طلاب الجامعات ولكن شرط عدم الحمل.. وقد أصبح ذلك ممكنا بفضل موانع الحمل. ولم تنج الكنيسة ذاتها من هذا الغزو الفكري.. في مجلة التايم 28/10/1966 إن لجنة من مجلس الكنائس البريطاني تبارك الصلة الجنسية في الزواج ولكنها لا تصر على العفة قبل الزواج ولا الالتزام بعده، وتدعو لتهيئة وسائل منع الحمل للبنات غير المتزوجات ولمزيد من التراخي في تشريعات الإجهاض. وذكرت مقالا لأسقف إنجليزي في الخمسينيات يدعو لإيقاف استعمال كلمة “الله” لمدة جيل من الزمان، ويقول إن اتصال شاب بفتاة جنسيا بمحبة وبغير إكراه يشكل مبرة.. وذكرت آنذاك قول المسيح عليه السلام (من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه).

واقرءوا معي في نفس الجريدة قصة الشاب الأمريكي الذي تقدم لمنصب كنسي ثم اتضح أنه مصاب بالشذوذ الجنسي.. ولم ينكر ذلك، كتبت أمه للجنة المختصة تقول كان بإمكانه أن يكذب وينافق فقدروا فيه فضيلة الصدق. وسأله صحفي ألا يخشى من طبعه هذا على أحداث رعيته إن أصبح قسيسا فقال لا.. إنني لا أبتذل الجنس، وحسبي أن أعثر على الرجل الذي أستريح إليه فأستقر معه.. أليس هذا عجيبا؟ بل الأعجب منه أن الشاب حصل على الوظيفة.

هذه لمحة عن المناخ الحقيقي الذي لف الغرب، فلا غرو أن يترك طابعه على قيم كثيرة، منها التشريع. فتكون هذه التطورات التي منها قوانين الإجهاض الجديدة، والتي كان من أحدها عدم اعتبار اللواط جريمة ما دام بين بالغين راضيين مستترين.

وتحت ستار حرية المرأة قالوا ما دام الرجل حر في إتيان الجنس فلتكن للمرأة نفس الحرية.. بدلا من أن يقولوا ما دام الزنى غير لائق بالمرأة فهو كذلك غير لائق بالرجل.

وتهافت الشبان والشابات كتهافت الفراش على النار.. وأطلقت الهيئات الطبية كل صيحات الاستغاثة وهي ترى عودة الأمراض السرية إلى بلاد كبريطانيا كانت تظن أنها تخلصت منها إلى غير رجعة.. وفقدت جراثيمها الحساسة للبنسلين فعاد الزهري والسيلان بالوفرة التي كانا عليها قبل اكتشاف البنسلين، مع فارقين خطيرين؛ الأول أن سن الإصابة كانت حول الخامسة والعشرين للخامسة والثلاثين فأصبحت بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، وفي 1965 كان 27 بالمائة من الفتيات المصابات دون سن العشرين.

والفارق الثاني هو أنه في السابق كان معظم المصابين من الرجال وأقلهم من الإناث فارتفعت نسبة الإناث حتى ساوت ثم جاوزت نسبة الذكور، لم تعد المصابة هي مومس الأمس التي تصيب وحدها العديد من الرجال.. ولكن مريضة اليوم هي الفتاة العادية طالبة أو عاملة أو موظفة.

وفي أمريكا أعلن الدكتور براون من المركز الأمريكي لمكافحة المرض في سنة 1965 أن ستمائة وخمسين ألفا من شباب أمريكا ذكورا أو أناثا تحت سن العشرين يصابون سنويا بالزهري أو السيلان. كما أعلن الدكتور ماكنري بولوك من جمعية الصحة الأمريكية أن الإصابات شهدت مؤخرا تفاقما مروعا ودعا لإعلان حالة الطوارئ القومية.

وزاد الإجهاض وأغلب أحماله من سفاح.. وطغت نسبة ولادات السفاح على الولادات الشرعية في كثير من ولايات أمريكا، وقد حضرت مرة مرورا في جناح الحوامل بإحدى أمهات مستشفيات أمريكا فإذا كل من في الأسرَّة يقدمن لي بلقب الآنسة فلانة إلا واحدة هي التي قدمت بلقب السيدة.

وما راعني في نيويورك إلا مظاهرة من البنات الآنسات ترفع اللافتات وترفع العقائر مطالبة بإباحة الإجهاض.. ونشرت صورتها بالصحف.

كل هذه القرائن تمثل الدوافع والحافز والظمأ إلى التشريعات الجديدة التي تصر أن الإجهاض مباح كالماء والهواء للسيدات والآنسات على السواء.

كيف نهتدي للرأي الصواب في مسألة الإجهاض؟

مصادر الهداية في هذا السبيل ثلاثة سنتناولها واحدا واحدا، وهي:

أولا: وجهة النظر الأخلاقية.

ثانيا: دستور المهنة الطبية.

ثالثا: أحكام الشريعة الإسلامية.

القواعد الأخلاقية: ونفصل هنا الأخلاق عن الدين عمدا فليس كل إنسان بصاحب دين. وقد أباح لنا الدين بحمد الله أن نسلك سبيل الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن.. ولا نحجم إذن أن نناقش الأمر مناقشة علمانية عقلانية بحتة.

نُظر علميا لنشأة الحياة عبر تاريخها المعلوم.. فإذا أرقى صورها الإنسان، وإذا الذي يميز الإنسان عن سائر الحيوانات هو أن الإنسان انفرد بأنه الكائن الوحيد الذي تهفو نفسه لشيء فيردها عنه وهي قادرة عليه. بينما تتحرك نوازع الحيوان جوعا أو ظمأ أو جنسا فيستجيب لها استجابة مباشرة حالما تهيأ له الظرف.

إلا الإنسان فركاز إنسانيته وحضارته أن عنصر “كبح جماح النفس” يتفشى في حياته.. وبغير كبح جماح النفس يصبح المجتمع الإنساني غابة وحشية، وكم من حضارة فرطت في معنى جماح النفس ويسرت للأهواء والنزوات أيسر السبل فزلت فزالت.. وما حضارتنا المعاصرة باستثناء، ولو استمر الاتجاه الأخلاقي الذي رسمته فمن المؤكد أن حضارتنا قد غرست في جسمها جراثيم فنائها.

ونؤمن بما يرفعه فلاسفتنا الملحدين من شعارات الحرية والمساواة.. ونؤمن معهم بحق المرأة في الحرية متكافئة فيه مع الرجل.. بل وتحتكم معهم إليه من دعوتهم هم، ومن شعاراتهم هم، نقول إن بديهيات العدالة والمساواة تقول إن كل علاقة بين اثنين لا تكون نتائجها موزعة عليهما بالتساوي هي علاقة تنبو عن العدل والإنصاف والمساواة.

وقد أطلقوا الجنس للرجل والمرأة على السواء بدافع المساواة.. فهل تحققت المساواة؟ العكس هو الصحيح.. فلقد اتضح أن المرأة هي الخاسرة على طول الشوط.

إن عوشرت وهجرت فهي الخاسرة.

وإن حملت سفاحا وأجهضت فهي الخاسرة.

وإن ولدت سفاحا فهي الخاسرة، سواء أستبقت وليدا بغير أب أم تنازلت عنه لمن يتبناه. هذا حتى بمنطقهم ظلم عظيم.. حتى وإن أعفيناهم من قال الله وقال الرسول. أو يصورون أن الشبق الجنسي ضرورة لا تقاوم.. فكرة العفة عندهم شيء غير علمي.. وبالأمس يسروا التخلص منها بما أشاعوه من أن البكارة تزول بمزاولة أنواع الرياضات. وهو عذر لم يعودوا يحتاجون إليه الآن على أية حال.

العفة عندهم شيء نظري ليس في المقدور العملي.. ومجتمعاتنا الإسلامية تقدم الدليل القاطع على أنها هي الشيء الطبيعي، فما زالت نسبة البكارة في بناتنا قبل الزواج تقارب المائة بالمائة والحمد لله. إن مجتمعاتنا لديها ما تقدمه للغرب الضال في ظلماته.. فالفضيلة طب وقائي ولكن الأمر يقتضي أن ينشط المخلصون لمجابهة حركة الإفساد الشاملة الماكرة الهادفة القادرة.. التي تريد أن تقوض أركان المجتمعات حتى تنهار فيسهل عليها وراثتها.. حتى تكون طيعة لتحكمها الفئة التي تحسب نفسها الشعب المختار وأن ما سواها بهائم وعجماوات.

دستور المهنة الطبية: شهد العقد الأخير نشأة اختصاص جديد بين تخصصات الفروع الطبية.. جاء وسطا بين فرع طب التوليد وفرع أمراض الأطفال.. وذلكم هو “الطب الجنيني” الذي يعنى بالجنين قبل أن يكون وليدا.. ويشرف عليه وما زال في رحم أمه.. وقد أمكن الوصول إلى تشخيص طائفة من الأمراض التي تصيب الجنين.. وأمكن استنباط علاجات لبعض هذه الأمراض، وليست كل هذه العلاجات من قبيل التداوي بالعقاقير، بل إن منها إجراءات ذات طبيعة جراحية صرفة تجرى على الجنين في الرحم.

وقد يولد الجنين دون أوانه فسرعان ما يوضع في حاضنة صناعية تهيئ له الدفء والغذاء والنفس النقي والوعاء غير الملوث.. ولا يزال البحث العلمي يركض وراء اختراع مشيمة صناعية تخدم الجنين المجهض ولو كان صغيرا.

معنى هذا أن الجنين الإنساني أصبح بين يدي المهنة الطبية “زبونا” له حق “الزبون” وحرمته ومكانته. فكيف يجوز أن المهنة من جانب تسبل عليه الرعاية والعناية والحفظ، ومن جانب آخر تستبيح أن تمتد إليه يد الطبيب فتنتزع حياته وتنفذ فيه الإعدام لا لشيء إلا لأنه غير مرغوب فيه؟.

رأي الإسلام: حرمة الحياة مقررة في الإسلام كما هو معروف وينسدل هذا على الجنين. إلا أن بعض السلف الأقدمين من الفقهاء قسموا حياة الجنين قسمين.. يفصل بينهما بدء شعور السيدة بحركة الجنين في بطنها. ويكون هذا عادة في نهاية الشهر الرابع من الحمل. وتوهم هذا الفريق من الفقهاء أن هذا الأساس سببه دبيب الحياة في الجنين.. أو ما عبروا عنه بنفخ الروح.. وأجاز بعضهم إذن إجهاض الجنين قبل نفخ الروح.

كان هذا الحكم إذن دائرا على هذه العلة. إلا أن التقدم الطبي منذ عصرهم وحتى عصرنا الحاضر كشف أن إحساس السيدة بحركة الجنين لا ينبئ عن بدء هذه الحركة. فالحق أن الجنين يتحرك ويتحرك من قبل ذلك بزمن طويل ولكن السيدة لا تحس به لأن الكيس المائي الذي يسبح فيه يكون في البداية كبيرا فسيحا بالنسبة لجسمه الصغير.. ويمر زمن حتى يكبر الجنين فتستطيع لكماته وركلاته أن تطال جدار الرحم فتشعر بها السيدة بعد أربعة أشهر حملية. بل إن لدينا الآن من الأجهزة ما نسمع به دقات قلب الجنين وهو لم يبلغ الشهرين بعد. ولدينا من الأجهزة ما نرصد به حركة الجنين حتى من قبل ذلك. واستقر علميا أن الجنين منذ بدايته بيضة ملحقة تشرع في الانقسام والتكاثر فإنه كائن حي ينمو ويتطور بصورة متصلة ناعمة دائمة مستمرة دون أن يوجد خط فاصل له قبل وله بعد يتبعان الأخذ بما اجتهد إليه الأقدمون.

العلة إذن تغيرت فلا بد من أن يتغير الحكم، وعلى ما أفضى إليه التقدم العلمي تتأسس حرمة حياة الجنين في كافة أدوارها.

وهذا الرأي الحديث الذي وصل إليه العلم بالملاحظة المباشرة، وصل إليه فريق من الفقهاء القدامى عن طريق المنطق والاستدلال، فقالوا إن الجنين حتى قبل نفخ الروح فيه حياة محترمة هي حياة النور والإعداد فلا يجوز إسقاطه.. ومن هؤلاء الإمام الغزالي، فقد عرض لهذه المسألة وفرق بينها وبين العزل الذي كان يمارس لمنع الحمل.. فقال “وليس هذا (العزل) كالإجهاض والوأد.. لأن ذلك جناية على موجود حاصل.. وأول مراتب الوجود أن تقع المادة في الحمل وتختلط بالبويضة وتستعد لقبول الحياة.. وإفساد ذلك جناية، فإن صارت نطفة فعلقة كانت الجناية أفحش. وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشا، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيا. هذه مسألة..

المسألة الأخرى هي أن الفقهاء –وأقول أيضا الأطباء- قد أجمعوا على أن السيدة إن كانت مصابة بما يجعل استمرار الحمل خطرا على حياتها ضحي بالحمل استبقاء لها، لأنها هي الأصل والجنين الفرع. على أن الأعذار الأخرى التي وردت في السابق لتبرير الإجهاض كأن يكون لبن الأم ضعيفا والزوج فقيرا أن يستأجر المرضع، أو أن تخشى الأم أن تحمل أثناء الرضاع فترضع وليدها لبن الغيل أي لبنها وهي حامل، فهذه أسباب زالت ظروفها في زمننا هذا الذي تهيأت فيه وسائل منع الحمل وتهيأ اللبن الصناعي للإرضاع ومستحضرات المقويات والفيتامينات للمرأة حاملا أو مرضعا.

والحق أن الشريعة الإسلامية لم تقصر في التدليل على حرمة الجنين وصيانة حقه، وحسبنا في هذا أن نورد الشواهد الأربعة التالية:

أولا- إذا توفي رجل عن زوجة حامل فإنه لا يجوز التصرف في تركته قبل أن يرصد نصيب الجنين حتى يولد.. وعلى الورثة أن يتعهدوا إن وضعت الزوجة أكثر من جنين أن يردوا مما أخذوه نصيب الجنين الثاني أو من زاد على ذلك إن وضعت أكثر.

ثانيا- إذا أجهضت المرأة جنينا في أي دور.. وبدا على الجنين أية أمارة من أمارات الحياة كعطسة أو سلعة أو تحريك أصبع.. فإن الجنين يرث أيا من مورثيه الشرعيين مات بعد بدء الحمل.. ثم إذا مات هذا الجنين آلت تركته لورثته الشرعيين.

ثالثا- إذا حكم على امرأة بالإعدام وكانت حاملا تأجل الحكم حتى تضع وليدها وفي رأي آخر حتى تتم رضاعه. وقد أجل النبي صلى الله عليه وسلم رجم الزانية الحامل، مما يدل على أن حمل السفاح لا يبرر الإجهاز على حياة الجنين.

رابعا- شرع الإسلام عقوبة مالية على إحداث الإجهاض.. اسمها الغرة إن نزل الجنين ميتا أو نزل قبل تمام الشهر الرابع. والغرة عشر دية البالغ. فإن نزل بعد الشهر الرابع حيا كانت الغرامة دية كاملة. وتدفع لورثة الجنين الشرعيين.. فإن كان منهم من ساهم في إحداث الإجهاض دفع نصيبه من الغرامة ولكن حرم نصيبه من التعويض. والتعويض واجب وإن لم يكن هناك قصد.. فإن عمرا رضي الله عنه دعا إليه امرأة فخافت وقالت ويلها.. ما لها ولعمر.. وكانت حاملا فأجهضت في الطريق، واستشار عمر فأشار عليه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قائلا إن ديته عليك لأنك أفزعتها فألقته. وامتثل عمر.

وتتعدد الدية بتعدد الأجنة. ودفعها لا يعفي الجاني من العقوبات التعزيرية الأخرى التي يراها القاضي إن تبين أن العدوان مقصود، سواء كانت مالية أو غير ذلك.

وتغطي الغرة الحمل من أبكر أدواره.. بل قالوا إن المرأة لو ألقت بضعة أو دما أو غير ذلك مما لو عرض على ثقات شهدوا بأن فيه خلقا خفيا أو مبدأ خلق آدمي لو بقي لتصور، فالجاني مسئول أيضا.

وبديهي أن كل هذه الحقوق فرعية، تالية للحق الأصل وهو حق الحياة. وهو الذي يجب أن نصونه للجنين.. باسم الطب، وباسم الخلق، وباسم الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر