أبحاث

العلاقات الدولية في فكر ابن خلدون

العدد 133- 134

تمهيد:

تحاول هذه الورقة ممارسة نوع من التدرّب المنهجي على استعمال أحد المقتربات المطروحة ضمن عملية منظور حضاري في العلاقات الدولية، وفي نفس الوقت إبراز بعض من معالم تراث العلاقات الدولية في فكر أحد رموز الحضارة العربية والإسلامية؛ ألا وهو العلامة ابن خلدون.

تتناول هذه الورقة عددًا من فصول مقدمة “ابن خلدون”، يراها الباحث ذات صلة واضحة بالعلاقات الدولية، من خلال منهجية قراءة النص التي طرحها بعض أساتذة العلوم السياسية في دائرتنا العربية. ولا يعني هذا أن نقتطع هذه الفصول من سياقها داخل المقدمة، لكن لا يسع إطار هذه الورقة تناول أكثر من هذه الفصول بالمنهاجية التي سيتم عرضها لاحقًا. وهذه الفصول من مقدمة ابن خلدون تقع بين البابين الثاني (الفصل 11) والثالث (أربعة فصول أخرى)، وعناوينها هي:

  1. “إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع”.
  2. “كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها”.
  3. “في أن عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة”.
  4. “في اتساع نطاق الدولة أولاً ثم تضايقه طورًا بعد طور”.
  5. “في أن الدولة المستجدة إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة”.

من خلال هذه الفصول نحاول وضع تصور حول أفكار “ابن خلدون” عن العلاقات الدولية في عهده، وهل استطاع أن يتوصل إلى نظرية متكاملة متوسطة المدى على الأقل من خلال أفكاره؟ وذلك باستخدام منهجية “قراءة النص”، هذه المنهجية التي تسعى للإحاطة بالنص بأقصى الإمكان، وتحليليه بشكل موضوعي، بحيث نتفادى أخطاء وقعت فيها قراءات سابقة. فهناك تصنيف طرحه د. محمد أحمد الزعبي للقراءات التي تعرضت لمقدمة “ابن خلدون” ونصوصه(1)، حيث قسمها إلى:

–    قراءة أوروبية كولونيالية: تعتمد على جمع معلومات عن العلاقات الاجتماعية والخصائص السلالية للسكان المحليين وعن ظروف حياتهم ونشاطهم الاقتصادي، وفي تقدير من استخدم هذه القراءة أن كتاب العبر “لابن خلدون” يستخدم هذه الطريقة بوضوح.

–         قراءة عنصرية: تعتمد على التشابه الظاهري لأفكار “ابن خلدون” وآخرين، من أمثال: “ماركس، كونت، دانتي، مونتسكيو” وغيرهم.

–    قراءة أوروبية من كاتب عربي: مثل قراءة “طه حسين” الذي اعتبر المثل الغربية هي المثل العليا، ونزل بها على أفكار “ابن خلدون”، الرجل الذي عاش قبل النهضة الأوروبية، وبكل تأكيد فقد حمل في ذهنه مفاهيم تختلف دلالاتها الثقافية عن تلك المستخدمة من جانب “د.طه حسين”.

قراءة إسلامية: تتناول “ابن خلدون” كمفكر إسلامي ينتمي بالأساس للحضارة الإسلامية.

قراءة قومية: تخرج أفكار “ابن خلدون” على أساس أنها النواة الحقيقية للقومية العربية، التي شهدت ذروتها ومجدها في فترة الستينيات من القرن الماضي.

ومع كامل التقدير لكل هذه القراءات، فإن كثيرًا منها وقع بين الإفراط والتفريط. فهناك من قوّل ابن خلدون ما لم يخطر بباله، وهناك من هبط على أفكاره بمفاهيم حضارية تختلف عن الحضارة والمفاهيم التي كان يتبناها وينتمي إليها “ابن خلدون”، وهناك من سيطر عليه فرضية معينة أراد أن يثبتها أضعفت موضوعيته في محاولة إثبات هذه الفرضية. وهناك من تعاطف معه؛ فوضع عليه هالة قدسية تحجب النظر عن أخطاء في تحليل “ابن خلدون” للأحداث التاريخية، على الرغم من أن “ابن خلدون” ذاته أكد في نهاية المقدمة أن ما قام به في هذه المقدمة إنما هو اجتهاد لشخصه، ويناشد كل من يأتي بعده ويدقق النظر في هذا العمل أن يصلح ما به من خلل. بعبارة أخرى: كان البعض خلدونيًّا أكثر من “ابن خلدون” نفسه.

وفي محاولة لتفادي هذه المآخذ، نقدم هذه الورقة البحثية، وفق خطة تنطلق من مشكلة بحثية وتساؤل مفاده: هل قدم “ابن خلدون” نظرية مترابطة في العلاقات الدولية؟ ومن ثم فالافتراض الرئيس هو أن: “ابن خلدون” قدم بعض الأفكار والرؤى التي يمكن الاستفادة منها في العلاقات الدولية. أما المنهج المتبع فهو كما أشرنا منهج “قراءة النص”. فمقدمة “ابن خلدون” نص تراثي حضاري. وهذا النوع من النصوص يحتاج لتعامل خاص، وقراءته تحتاج العناية بأسس وضوابط وقواعد خاصة(2). وتحضرني هنا رؤية د.حامد ربيع، عند تعامله مع نص حضاري مهم هو: “سلوك المالك في تدبير الممالك”. فقد تكلم عن ضرورات لابد أن تقوم بها “قراءة النص”، وأنه لكي تكتمل هذه القراءة لابد من القيام بثلاثة أنواع من القراءات:

‌أ-   لابد أن تكتشف قراءة النص “الإطار الفكري للوجود السياسي” الذي يسعى الكاتب لتحليله وتقديم خصائصه، وكذلك اكتشاف الإطار الفكري للنص، والمفاهيم الفكرية التي تسيطر على مدركات الكاتب.

‌ب- محاولة اكتشاف الباطن الذي لم يكتبه المؤلف، وإنما عبر عنه بوسائل غير مباشرة وترك القارئ يستنتج المفاهيم والتصورات من خلال التراكمات اللفظية والمفاهيم المستترة خلف التراكمات اللفظية.

‌ج-    وفى القراءة الثالثة يحاول القارئ، أن يكتشف فلسفة الكاتب ورؤيته(3).

ولقد ترجم هذه الأفكار د. سيف الدين عبد الفتاح، لاحقًا في المنهاجية التي نستعملها في هذه الورقة البحثية إلى خمس قراءات، كفيلة بأن تحيط بمعظم تفاصيل النص وأفكاره؛ وهي:

  1. القراءة العالمة: أي أن أقرأ النص حتى أصير عالمًا به. وللوصول لهذا فلابد من وضع خريطة للنص تحدد طبوغرافيته، والخريطة لا بد من وضعها بشكل جيد لأنها هي المفتاح للخطوات التالية. ثم يتم تحليل سياق النص: (اللغة، التاريخ، المؤلف، الفكرة). ثم التحليل الحججي، والمفاهيمي للنص. ثم تحديد العبارات المرجعية وأنواعها. وأخيراً المسكوت عنه من جانب الكاتب وهل سكت عليه اتفاقاً، أم لغير هذا (تواطؤًا، أم خوفًا).
  2. القراءة الجامعة: وهي قائمة علي جامعية الفكرة. فالنص الخلدوني علي الرغم من صغر حجمه، ولكن يوجد به فيض كبير من الأفكار التي تطورت حديثاً في فروع العلوم السياسية مثل الوظيفة التغلغلية للدولة، القوة، .. كيف تطورت هذه المفاهيم منذ القدم حتى الآن، وخاصة في ظل المدرسة الواقعية للعلاقات الدولية.
  3. القراءة الفاعلة: وبها يتم الكشف عن أهم إسهامات المؤلف في عصره هو، وإسهاماته في عصرنا، وماذا كان سيقول في عصرنا.
  4. قراءة النص كرسالة اتصالية: مع تقسيم النص على شاكلة الرسائل لتحديد: من هو المرسِل؟ من هو المستقبِل؟ ما الرسالة: مضمونها ولغتها؟ وما البيئة والوسط المحيطان بها، والأداة المستخدمة في ذلك، والهدف من الرسالة؟
  5. قراءة في أفق النص: وهي قراءة تحاول الإجابة عن عدد من الأسئلة، وإجاباتها ما هي إلا تلخيص للقراءة السابقة، ابتداء بالخريطة، وانتهاءً بإسهامات النص(4).

وتنقسم هذه الورقة إلى ثلاثة محاور؛ يتناول كل منها قراءة للنص الخلدوني في ضوء القراءات الثلاث المذكورة؛ وهي على الترتيب: القراءة العالمة، والقراءة الجامعة، والقراءة الفاعلة، ثم خاتمة.

المحور الأول- القراءة العالمـة

في البداية، وقبل أن ننتقل إلى القراءة العالمة فالجامعة، نشير إلى أنه أثناء البحث عن العلاقات الدولية في فكر ابن خلدون لابد أن نحترس جيدًا، بحيث لا نُسقط على ابن خلدون وعصره معنى “العلاقات الدولية الحالية”، فمعنى “الدولة” لدى ابن خلدون -كما سبق- يختلف شكلًا ومضمونًا عن “الدولة القومية” التي نعنيها اليوم، والتي تحكمها قواعد القانون الدولي كما هو مفترض. فكما رأينا، يتعامل ابن خلدون مع الدولة كإنسان بنظرته العضوية لها، والقانون الحاكم لها في علاقاتها مع الدول الأخرى هو قانون الغاب والقوة.

ملاحظة أخرى: أن ابن خلدون نبه في عصره إلى العلاقة الواضحة بين القوة الذاتية للدولة وأمنها. فمفهوم القوة الذاتية لديه المتمثل في قوة العصبية كثيرة العدد ذات المال والسلاح، والتي تعيش طور البداوة، هو الحاكم لقصر وطول عمر الدولة. وفي مفهومه للعصبية أشار إلى تماسك العصبية الواحدة وعدم التنازع والصراع بين قادتها. وأكد على دور الإيمان في حالة بداية الدولة الإسلامية، وتأثيره على اختراق المسلمين لأحد قواعده فيما يخص استيلاء الدولة المستجدة على الدولة المستقرة، فقد كانت أداة المسلمين المناجزة وليست المطاولة لما لديهم من إيمان وقوة وعزم.

وتشتمل القراءة العالمة على رسم لخريطة النص، وأهم أفكاره، وكشف للسياقات المحيطة به، ومدخله الحجاجي والمفاهيمي، والمسكوت عنه في النص؛ بغرض الإحاطة به من خارجه، ومن معالمه العامة، وذلك قبل أن نتفاعل مع تناوله لمجال العلاقات الدولية. فالقراءة العالمة هي بمثابة التحضير المعمق والموسع لإحسان الاستفادة من النص. ونتناولها على النحو التالي:

أ- خريطة النص: التي تحدد طبوغرافيته، ويمكن إجمالها من خلال الرسم التوضيحي لطبوغرافيا الفصول الخمسة موصولة ببعضها البعض، على النحو التالي:

تعذر تحميل الأشكال

ب- الأفكار الرئيسة التي عرض لها ابن خلدون في نصه:

والفكرة الرئيسة في هذا النص تتلخص في: أن “قوة الدولة، المتمثلة في عصبيتها، هي المحدد الأساسي لنصيبها من الممالك والأوطان، وبالتالي عمر هذه الدولة”.

وهي الفكرة التي أراد ابن خلدون أن يشرحها خلال هذه الفصول ضمن شرحه لمفهوم العصبية ودورها في الحياة السياسية للدول في عصره. فقد أكد أن لكل دولة حدودًا طبيعية تتطابق مع نصيبها من الممالك والأوطان الذي يتم تحديده بناءً على قوة العصبية. ففي حالة وجود عصبية قوية في دولة فإنها تتوسع في حدودها وتغير على نصيب جيرانها من الممالك والأوطان. وقد أعطي أمثلة كثيرة على ذلك. ولم تكن قوة العصبية وحدها هي الفيصل في اتساع نطاق الدولة، لكن أيضًا وحشية الأمة. فقد أكد ابن خلدون على أن الأمم الوحشية لها نصيب أكبر من الممالك، حيث يكونون كالحيوانات المفترسة التي تنقض على فريستها، كما أنهم أقل ارتباطًا بوطن معين أو بلد بعينها، ويجنحون إلى أوطان في أطراف البلاد والأقاليم البعيدة. وبنفاذ توزيع أهل العصبية (الأسرة الحاكمة) على هذه الممالك تكون قد تحددت الحدود الطبيعية للدولة. وتوزيع العصبية على الممالك يكون بغرض إمضاء أحكام الدولة: “الجباية والردع”. وتجاوز الحدود الطبيعية للدولة يعني عدم وجود عصبية لإمضاء أحكام الدولة في الممالك الجديدة، وبالتالي يتم تعريض هذه الممالك للإغارة من العدو، وتكون بداية نهاية الدولة(5).

وبغض النظر عما إذا كانت الدولة التزمت بحدودها الطبيعية لتأدية وظيفتها التغلغلية أو لم تلتزم، فإن لكل دولة أجلاً محتومًا مثل الإنسان؛ لأن الدولة بعد أن تستقر لعصبيتها الأمور وتزداد جباياتها وأموالها، ينتقل أهل عصبيتها من “طور البداوة” إلى “طور الترف والحضارة”، فترق أخلاقهم ويميلون للكسل والجبن. يبدأ كل أمير ينظر لما في يد أخيه، فيتنازعون الرياسة، ويقتل بعضهم بعضًا، ويقل عدد الأمراء وتنكسر شوكة الدولة ويصيبها الخلل الأول. كذلك تقود الحضارة والترف عند ابن خلدون لزيادة المصروفات عن الإيرادات بسبب البذخ، فيحاول القائم على الأمر أن يوازن بين الدخل والمصروف، فيشعر أهل الأطراف بقوتهم وضعف مركز الدولة التي ينتسبون إليها، وتقوم الدولة المستجدة على حساب الدولة المستقرة(6).

لكن لعصبية الدولة المستجدة حالين: الأول- أن يكونوا على أطراف الدولة وعصبيتهم الضعيفة لا تتطلع لأكثر مما تملك من الأطراف؛ أي إنها لا تتطلع لمركز الدولة. أما الثاني- فحال الدعاة الخارجين على مركز الدولة وقلبها، فهم يتطلعون للسيطرة على القلب، لكنهم سرعان ما يرتدون لأن الدولة المستقرة في تصورهم لازالت أقوى لما لها من جباية ثابتة وجذور راسخة وإن ضعفت. فيلجأ أهل عصبية الدولة المستجدة إلى المطاولة لا المناجزة، حتى يتمكن الهرم من الدولة المستقرة ويقضي الله أمرًا كان مفعولاً، فينكشف حال الدولة المستقرة لأهل المستجدة (الذين عزلوا لمعارضاتهم ولما تبين منهم من الخروج على الحاكم)، فتنبعث همتهم لتقضي على ما تبقى من الدولة المستقرة بالقتال(7).

كذلك فالعصبية تحدد عمر الدولة بطريق غير مباشر، حيث إن قوة العصبية تحدد نصيبها من الممالك؛ أي اتساع الدولة: فالعصبية القوية تعني دولة متسعة. وعند انتهاء عمر الدولة طبقًا لدورة ابن خلدون، تبدأ بفقدان الأطراف، وإذا كان فقدان كل طرف يتخذ قدرًا من الزمن، فالدولة المتسعة يطول عمرها عن الدولة محدودة الرقعة. هذا إذا ما كان أهل عصبية الدولة المستجدة في أطراف الدولة، أما إذا كانوا من الخوارج والدعاة في قلب الدولة، فتكون نهاية الدولة المستقرة بنهاية مركزها.

في قلب ما سبق، طرح ابن خلدون فكرة قوة الدولة ووظيفتها في المركز والأطراف. ففي البداية قال: إن هزيمة مركز الدولة تعني النهاية الفورية لها، بينما هزيمة الأطراف تعني اللجوء للمركز. ثم عاد مستبعدًا ذلك أو قائلاً إنه نادرًا ما يهزم مركز الدولة لأن قوة المركز في الدولة أكثر كثيرًا من أن تهزم، وأن الأطراف هي التي قد تهزم بسهولة ويتم سلبها من الدولة سواء من الولاة الموكلين من جانب مركز الدولة؛ حيث يشجعهم بعدهم عن المركز على الخروج، أو من قبل العدو الذي يرى سهولة الإغارة على الطرف وسلبه من الدولة المركز(8).

ومما سبق نستقي عدة أفكار عن ابن خلدون:

  1. قوة الدولة لدي ابن خلدون هي قوة العصبية التي هي بالكثرة والوفرة والوحشية.
  2. للدولة حدود طبيعية تحددها قوة عصبيتها، ووحشية أهل العصبية.
  3. “عضوية الدولة”: فالدولة لديه مثل الإنسان “أطوارها، عمرها، وصفها (مركز، وأطراف)”.
  4. للدولة عمر محدد تحدده قوة عصبيتها، وقد تطرق لعمر الدولة في فصل آخر واضعاً عمر الدولة في قالب حتمية خلدونية حيث يتراوح من 100: 120 سنة، سواء قامت بوظيفتها التغلغلية أم لا.
  5. للدولة وظيفة في ممالكها وأوطانها، يقوم عليها أهل العصبية، وإذا غفلت عنها تصبح الممالك مطمعًا للأعداء. هذه الوظيفة هي “الجباية والردع”.
  6. تمر الدولة ما إن استقرت بمراحل الترف والحضارة بعد أن كانت في مرحلة البداوة والخشونة.
  7. تتغلب الدولة المستجدة على الدولة المستقرة بالمطاولة في البداية ثم بالمناجزة فيما بعد.
  8. عمر الدولة هو بالأساس سنة الله في خلقه.

ج) التحليل السياقي للنص:

ينطوي التحليل السياقي ضمن القراءة العالمة على:

1- سياق اللغة:

تتميز عبارات ابن خلدون بالسهولة واليسر، ومراعاة السجع في كثير من الأحيان. ولكن من ناحية اللغة المعنوية لا اللفظية فيلاحظ كذلك:

‌أ-     الجمع بين لغة العقلانية واللغة الدينية: فهو يدلل بصفة مستمرة على حجته بقوانين طبيعية مثل: “والعلة الطبيعية في ذلك هي قوة العصبية من سائر القوى الطبيعية. وكل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال، فشأنها ذلك في فعلها”. كذلك تكراره في نهاية فصوله لعبارات دينية مثل “سنة الله في خلقه، سنة الله التي قد خلت في العباد… وغيرها”(9).

‌ب-    ومن حيث الصياغة يصوغ ابن خلدون أفكاره في شكل حجج منطقية يُجمل نتائجها النهائية في عناوين فصوله، ثم يبدأ بتفصيل المقدمات ليكمل برهانه، بعرض علمي سلس يستخدم فيه التفصيل بعد الإجمال.

‌ج-    وابن خلدون كثير التشبيهات التي يستنبطها من مخزون تجاربه. كذلك يستخدم أسلوبًا استقرائيًّا يعتمد على أمثلة الواقع، فبعد أن يطرح فكرته عامة يبدأ بسرد عدد من الأمثلة الواقعية والتاريخية التي تؤيدها مثل “شأن العرب أول الإسلام، لما كانت عصائبهم موفورة كيف غلبوا على ما جاورهم من الشام والعراق”(10).

‌د-    صك العديد من المفاهيم الجديدة التي لم تستخدم من قبل، حتى وإن كان لها أساس قرآني مثل “العمران، والعصبية، ووازع عصباني، وتكاليف إنشائية، وخطط خلافية”، وهذا ما عبر عنه ابن خلدون نفسه بعبارة “آداب مخصوصة بهم، واصطلاحات في ألفاظ”.

2- سياق المؤلف:

وهو شأن معروف للمهتمين بابن خلدون؛ بداية من جهة شخصه الذي أهله للاستئثار بلقب ابن خلدون دون سابقيه ممن عرفوا بنفس الاسم وطغت شهرته عليهم، منذ ولد في تونس عام 1332م، مرورًا بنشأته وخلفيته العلمية وتعلمه العلوم الفقهية والعقلية، وتأثره ابن خلدون بأصدقاء أبيه من العلماء، مثل “الآبلي” و”عبد المهيمن” عندما كان مختبئًا بعد ثورة أهله على السلطان(11)، وانتهاء بحياته العلمية والعملية: منذ تنازعه كل من حب الملك والجاه، ونهم العلم، فكلما جذبه العلم شدته السياسة والأحداث من حين لآخر، وعمله السياسي لعشرين عامًا ما بين كاتب، وحاجب، وقاض، وسفير، وإلى انزوائه لكتابة “المقدمة” في قلعة ابن سلامه حوالي أربع سنوات(12). ومن سيرته يمكن أن نستخلص التالي:

‌أ-     كان ابن خلدون كثير الترحال والسفر، شاهد الكثير فتنقل من الأمصار للبادية، وبين السلاطين وشيوخ القبائل، من الأندلس، تونس، المغرب إلى مصر، دمشق والحجاز، مما أكسبه خبرات متنوعة وعديدة، دون أن يمحو أثر تجربة المغرب العربي على ذهنه، والتي استقى منها أفكاره الأساسية.

‌ب-    جمع ابن خلدون في شخصيته بين براعة الكاتب وطالبع العلم، وخبرة رجل السياسة المحنك في فترة تقلبات ضخمة، شارك ضمنها في إمارات مستقرة ومؤامرات ثورة. وإنني لأشك كثيرًا لو أن ابن خلدون لم يمر بمثل تلك التجارب السياسية لكان من الصعب عليه أن يُخرج مثل هذه المقدمة أو يصبح ابن خلدون ذاته(13).

3- السياق التاريخي:

عاش ابن خلدون في مرحلة ضعف الدولة الإسلامية: خروج الأندلس من تحت سيطرة المسلمين، تفكك المغرب إلى ثلاث دول بعد نهاية الموحدين، أغلب الثورات والتقلبات في المغرب بين الدول الثلاثة كانت تعتمد علي القبلية سواء عربية أو بربرية، مصر والشام تحت حكم المماليك وكانت مشاكلهم أقل كثيرًا. وفي هذه الفترة كانت هناك قوة شرقية تتبلور: فـ”تيمور لينك” أنجز فتوحات كثيرة من الصين شرقًا وحتى العراق غربًا، ولكن سرعان ما انهارت دولته، بينما كانت الدولة العثمانية تخطو خطى بطيئة وراسخة، مكنتها من الاستمرار لفترة طويلة بعد ذلك. لقد بدا أثر هذا في كتابات ابن خلدون خاصة فيما يختص بفكرة التربية وبفكرة الإصلاح (إصلاح حال الأمة)، شأنه شأن المفكرين الذي يكتبون وقت الأزمة(14).

4- العرض الحججي:

عندما يكتب الكاتب عن فكرة معينة، فإما أن يكون ناقلاً لها عن آخرين؛ وبالتالي فهو مطالب بصحة المصدر، وإما أن يكون مدعيًا لهذه الفكرة فيذكر الدليل. والدليل هو الحجة. وابن خلدون ينتقل بمقدمته من التأريخ الذي يتوقف على صحة النقل إلى التحليل والتفسير الذي يقوم على ما أسماه بالبرهان الطبيعي أي الواقعي. ومن ثم أقام نصه على طريقة حجاجية. وقد تعاملنا مع النص محل الدراسة ككتلة واحدة لا تنفصل عن بعضها البعض، ونستأنف هذا في العرض الحججي للنص الخلدوني.

تعذر تحميل الأشكال

استخدم ابن خلدون منهجًا لبناء حججه يكاد يكون موحدًا على مدار النص محل الدراسة، حيث يقوم بعرض حجته الرئيسية كعنوان الفصل، ثم يبدأ بتفصيله، ويستخدم عددًا من الحجج، فيبدأ بحجج منطقية متسلسلة بعد تفصيل الفكرة، وهذه الحجج المنطقية بعضها يقوم باستنباطه والبعض الآخر يستنتجه بالقياس على قوانين الطبيعة (أثرًا عن ثقافته العلمية الواسعة)، ثم يتبعها بحجج تاريخية تؤكد ما يقوله ويستنبطه. وهذه الحجج الأخيرة تنتج من معرفته من التاريخ وخبرته بالسياسة العلمية، وغالباً ما يختم النص بحجه دينية برهانية.

فمنهجه يعتمد علي الانطلاق من الحجة الرئيسية مخاطبًا العقل ومؤيدًا ذلك بأدلة طبيعية، ثم يبرهن بأدلة من واقع التاريخ كمعمل للتجربة، وأخيرًا يخاطب إيمان القارئ.

ويبين الشكل السابق أن النص ااحتوى على ست حجج رئيسية، وليثبت ابن خلدون كلاًّ منها استخدم عـددًا من الحجج الفرعية. ونضرب لها مثالين:

أ‌- “كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها” واستخدم ليثبت هذه الحجة، الحجج الفرعية التالية بهذا التسلسل:

(1) عصبية الدولة ووفرتها هي التي تحدد حصة ممالك الدولة.

(2) لا بد من نفاذ العصبية في توزيعها على الممالك؛ حيث إن كل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال شأنها في ذلك فعلها.

(3) ومن الأمثلة التاريخية الدالة على ذلك أن العرب أول الإسلام لما كانت عصائبهم موفورة أغاروا على ممالك غيرهم، ولما تفرقوا علي الممالك ونفذت عصائبهم أقصروا عن الفتح.

ب‌-   “عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها على نسبة القائمين بها قلة وكثرة”. وبيانه:

(1)  الملك يكون بالعصبية، وأهم العصبية هي الحامية الذين ينزلون بممالك الدولة فبكثرة عددهم تكثر أوطانهم.

(2)  تزايد أعداد المسلمين هو ما أتاح لهم فتح ممالك الغير.

(3)  وهذا شيء طبيعي، وعمر الدولة بذلك يطول لأن عمر الحادث من قوة مزاجه ومزاج الدولة بعصبيتها.

(4)  لأن قوة العصبية تؤدي إلى اتساع الممالك وابتعاد الأطراف عن المركز، وانتقاص هذه الأطراف عند نهاية الدولة ينتقص من الزمن، فتعدد الأطراف وبُعدها عن المركز يزداد عمر الدولة. وهذا كله هو سنة الله التي قد خلت في عباده(15).

5- التحليل المفاهيمـي:

بداية تجدر الإشـارة إلى أن ابن خلدون عندما بدأ يكتب هذين الفصلين، كان قد انتهى تقريباً من بناء المفاهيم الأساسية التي بناهما عليها؛ مثل: العصبية، والدولة، والعمران، والتوحش، والحضارة، والترف، والمركز والأطراف. وهذا ما جعل التحليل المفاهيمي في هذا النص البسيط فقيرًا يصعب وضعه في شجرة أو شبكة مفاهيمية. ويمكن أن نتناول ثلاثة مفاهيم أساسية منها على النحو الآتي:

العصبية: وهي صلة الأنساب التي تولد التعاطف والتكاتف، ومن هنا ينبع الانتصار بين الأفراد وتصبح لهم شوكة. والعصبية عند ابن خلدون مفهوم أساسي وعائلي، له جذور وله أحفاد، كما يتضح من الرسم التالي عند ابن خلدون:

ومنهج بنائه للمفهوم هو المنهج التجريبي المعتمد على الاحتكاك بالواقع وخبرته الحياتية، وكذلك اعتماده على الأساس القرآني لسورة يوسف في استخراجه لمفهوم العصبية. وقد استخدم هذا المفهوم المفتاحي كأساس يتحدد بقوته عمر الدولة، واتساعها، ونصيبها من الممالك والأوطان وحتى نهاياتها(16).

‌أ- أهل العصبية: هم الحامية الذين ينزلون بممالك الدولة وأقطارها وينقسمون عليها، وكثرتهم تحدد نصيب الدولة من الممالك، وكذلك عمر الدولة وكذلك يقومون بإمضاء أحكام الدولة بهذه الممالك(17). وكان منهجه في هذا التعريف وظيفيًّا حيث ركز على وظائف أهل العصبية، في حين أنه ركز قبل ذلك في المقدمة على رابطة الدم والنسب بين أهل العصبية.

‌ب- الدولة: هي عند ابن خلدون الدولة العضوية التي تشبه الإنسان في كثير من جوانبه، كما سبقت الإشارة. كذلك تكلم عن أنواع الدول: فهناك الدولة المستقرة وأخري مستجدة. و للأخيرة نوعان: الدولة المستجدة على الأطراف والأخرى المستجدة في قلب الدولة(18). وقد استخدم المنهج الوصفي في وصف الدولة، ثم دمج هذا الوصف في ظل نظام حيوي شبيه بالإنسان.

6- المسكوت عنه:

في البداية أود أن أشير إلى أن المسكوت عنه ما هو إلا عملية اجتهاد من القارئ، في تفاعله مع النص، يحاول من خلاله استحضار حالة الكاتب النفسية وتاريخه وتجربته والبيئة النفسية والمادية التي أحاطت به عند كتابة هذا النص. ومن هنا لابد من التذكرة ببعض النقاط المهمة التي سبق أن أشرنا إليها من خلال سياق الكاتب وسياق تاريخه التي هي مفيدة للغاية عند كتابة المسكوت عنه. ولا داعي لتكرارها.

وننطلق من أسباب السكوت عن الشيء في ظل النقاط السابقة:

يصعب القول إن ابن خلدون سكت عن شيء في نصه من باب الخوف أو النفاق. لكننا نعتقد أنه السكوت اتفاقًا وتواطؤًا وارد للغاية في هذا النص. فعلى سبيل المثال: يمكن القول إن ابن خلدون سكت عن أن “قانون القوة والغاب” هو الذي يحكم علاقات الدول الإسلامية في المغرب، فالكبير يتوسع على حساب الصغير طاردًا من حساباته القيم الإسلامية، ومفهوم “البنيان يشد بعضه بعضًا”. كما سكت ابن خلدون عن معنى “القوة المعنوية”، مثل: الإيمان، الجهاد، في سبيل الله ونشر الدين، وركز على أن قوة الدولة من قوة عصبيتها، وقوة العصبية بأعدادها. وربما يكون ابن خلدون سكت عن هذا النوع لأنه لم يعاصره في تجربته في المغرب والأندلس، فلم يكن للدولة الإسلامية فتوحات في عصره، وكانت الحروب بين المسلمين بعضهم بعضاً في شكل تنافس على الدول والممالك؛ الأمر الذي دفع بالبعض لاتهام ابن خلدون في تحليلاته بالعلمانية، ودفع البعض لاتهامه بالاعتماد على المنهج المادي في تحليله.

والأغلب أنه وعي جيداً “القوة” بمفهومها الشامل المادي والمعنوي، وخاصة أنه هو شخصياً كانت قوته ورأسماله في لسانه وعقله، واستمالته للعديد من القبائل والملوك، ولكنه سكت عن القوة المعنوية الدافعة للحروب في المغرب مثل الطمع والرغبة في الجاه والسلطان.

وعمومًا، فإن المسكوت عنه لدى ابن خلدون في هذه الفصول يبدو قليلاً للغاية.

المحور الثاني- القراءة الجامعــة

القراءة الجامعة تتجاوز قراءة وفهم النص إلى طريق آخر يحدده أحدى أساليب هذه القراءة نفسها. فإما أن نذهب إلى “تطور الفكرة” عند المؤلف عند الحديث عن جامعية المؤلف، أو نتحدث عن تطور الفكرة عند مفكرين آخرين ضمن “جامعية الفكرة”.

والحقيقة أن النص الحالي الذي نتناوله غزير بالأفكار التي تطورت حديثًا. فقد التقى مكيافيللي وأفكاره عن “القوة” و”الاستعمار” مع أفكار ابن خلدون، ونتطرق هنا فقط لفكرة “القوة” وجامعيتها في العلاقات الدولية مقارنة بين المدرسة الواقعية، ومفهوم “القوة” عند ابن خلدون.

أما تطور مفهوم “القوة” في المدرسة الواقعية فنجد أنه:

  • سيطر مفهوم للقوة لفترة طويلة على العلاقات الدولية: باعتبار أن القوة “علاقة سببية يقوم فيها فاعل معين بالتأثير في سلوك، واتجاهات ومعتقدات فاعل آخر حتى في قدرته”. و قد رفض العديد من منظري المدرسة الواقعية الأحدث هذا التعريف. مثلاً رفضه “كينيث والتز” بسبب فكرة السببية، واقترح تعريفًا آخر: “القوة هي أن الفاعل أقوى بمقدار ما يؤثر على الآخرين أكثر مما يؤثرون عليه”. وفي تعريف آخر “لنيكولاس سبيكمان”: “القوة هي القدرة على الدفع بفرد أو جماعة في اتجاه معين مرغوب فيه عن طريق الإقناع، الشراء، استخدام الوسائل الاقتصادية، المقايضة، القهر. وعند أرنولد ولفرز: هي “القدرة على دفع الآخرين ليقوموا بما يريده فاعل ما ويمتنعوا عما يريدهم أن يمتنعوا عنه”. أما لدى روبرت جيلبرت فهي “تتضمن القوة المقومات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية للدولة، أما المكانة فهي تصور الدول الأخرى عن مقومات قوة الدولة وقدراتها واستعدادها للتعبير عنها.

واقترح “والتز” مقومات القوة للدول بناءً على مجموعة عوامل هي: حجم المكان، المساحة، الموارد الطبيعية، المقومات الاقتصادية، القوة العسكرية، الاستقرار، الكفاءة. بينما يفرق ولفرز بين “القوة” و”النفوذ”، فالقوة تتم عن طريق القهر والحرمان أو التهديد بهما، والنفوذ عن طريق الترغيب بالوعود أو الهبات.

وفي المدرسة الواقعية، أشكال مختلفة للقوة، أهمها:

  • المكانة: الاحترام الذي تتمتع به القوة.
  • النفـوذ: القدرة على التأثير في قرارات الآخرين.
  • الإجبار: استخدام الوسائل المادية للتأثير في القرارات.
  • السيطرة: عندما يؤثر فاعل ما على أغلب قرارات فاعل آخر ولا يتلقى منه أي تأثير تقريبًا.
  • في نفس السياق يبرز مفهوم “الاعتماد المتبادل”، وهو يساوي قيام الدول بالتأثير في قرارات أخرى ولو بشكل عمدي.
  • الاعتمادية: علاقة تتضمن الاعتماد الكامل أو شبه الكامل من فاعل على آخر في إمداده بمورد معينة.

أما مفهوم القوة عند ابن خلدون: فقد ركز فيه على “قوة الدولة”. وقوة الدولة – بنظره- هي قوة مزاجها، وقوة المزاج هي قوة العصبية وكثرة عددها. وهنا نتساءل: ألم يعِ ابن خلدون الجانب المعنوي للقوة؟ الحقيقة وقد استبعدنا هذا الاحتمال تماماً خاصة في عنصر “المسكوت عنه”، وخاصة في ظل المعني الديني للعصبية عنده، وكتابته فصلاً تحت عنوان “لن يكون للعرب ملك إلا بالدين…”. فإذا أضفنا إلى ذلك خلفيته التاريخية، وأن مفهوم العصبية “المفهوم الأساسي عنده” مفهوم حضاري محمل بالقيم، وإشاراته إلى دور الإيمان في فتوحات المسلمين، حتى لو اخترق هذا الدور إحدى قواعده المنهجية أو الفكرية(19).

خصائص القوة:

في المدرسة الواقعية يرتبط مفهوم القوة بموقف معين، وبرغم أن القوة ليست قابلة للنقل والتحويل بسهولة شديدة كالمال، إلا أنها ليست جامدة تمامًا، وكل مكون من مكوناتها له قابلية للتحول في مواقف معينة أكثر من غيره من المكونات، فلا يمكن تصنيف الدول كقوى عظمى وصغرى إلا حيال مواقف معينة. ويذكر “ميشيل سوليفين” في محاولته تجميع الجهود المختلفة في قياس القوة: أن الأنواع أو الأنماط المختلفة من السلوك الدولي لا يمكن تفسيرها بنفس مقياس القوة، وأن الدول الكبرى عادة ما تكون هي الأكثر تأثيرًا، إلا أن هناك استثناءاتٍ لهذا القاعدة. وأنه بجانب مقاييس القوة الذاتية هناك مقاييس على مستوى النظام مثل: عضوية التحالفات والمنظمات، وتوزيع مقدرات الدول داخل تلك المنظمات والتحالفات.

وعلى الجانب الآخر، نلاحظ أن ابن خلدون عند حديثه عن العصبية أكد إمكانية الانتساب لعصبيات لم يكن الأفراد منتسبين لها، وأن العصبية الضعيفة قد تعضد نفسها بالانتساب إلى عصبية أخرى، في إشارة منه إلى مفهوم “التحالف”.

كذلك يجب أن نفرق بين “القوة الساكنة” و”الديناميكية”، فالبعد الساكن هو المتعلق بتحديد مقوماتها وركائزها ومقارنتها بين أكثر من فاعل، أما البعد الديناميكي فهو المتعلق بتعبئة القوة من خلق هدف محدد أو مسألة استراتيجية وتعريفها “تنظيم ركائز القوة بطريقة معينة مدروسة بهدف تنظيم إمكانيات نجاحها في تحقيق أهداف معينة علي المدى الطويل والقصير(20).

وأخيراً جاء “جوزيف ناي” ليعرف القوة وأنواعها: فأكد ناي أن هناك نوعين من القوة:

1- القوة الصلبة: المتمثلة في الأمر والملموسة من قوة اقتصادية، عسكرية وغيرها.

2- القوة الرخوة: علي حد تعبيره هي قدرة الدولة علي جذب الآخرين لها من خلال مشروعية السياسات لهذه الدول والقيم التي تشكل أساساً لها.

وتقاس مثل هذه القوة بمؤشرات مختلفة، وقد تبدو غريبة مثل: استطلاعات رأي الشعوب عن دور هذه الدول في قضايا: الأمن، السلام، التنمية، الفقر، الاستماع للإذاعات التي تبثها هذه الدولة(21).

وفي النهاية أود أن أشير إلى أن “جامعية الفكرة” السابقة، ليست أكثر من إظهار تطور لتعريف ومعنى القوة، وعلاقتها بفكر ابن خلدون تراكمية وليست تناقضية. فابن خلدون أدرك معنى القوة المادي والمعنوي، وإن كانت الشاكلة التي توصل لها حديثًا “جوزيف ناي” مثلاً عن مفهوم “القوة” تختلف عما رصده ابن خلدون بجانبيه المادي والمعنوي، فإن هذا التغير الحادث إنما هو بفعل اختلاف العصر والزمان والتقدم التكنولوجي، الذي أدى إلى أن دولة تستطيع أن تسيطر على أخرى اقتصادياً، أو عسكريًّا، أو ثقافيًّا دون أن ترسل إلى أرض الأخيرة جنديًّا مسلحًا واحدًا. فقد تطور معنى السيطرة وأساليبها، فإن كنا نحيا في عالم جرّم بالفعل استخدام القوة العسكرية في العلاقات الدولية، إلا أنه لم يصل بعد لمرحلة تجريم كل أشكال الضغط والسيطرة التي تم استحداثها للقضاء عقب الاستعمار قديمًا، وخلف أنواعًا جديدة من السيطرة وخاصة الثقافية، والتي تجعل المواطن والحاكم في دولته ينطلق من قواعد غريبة للتعرف على وطنه وأحواله، فيصبح غريبًا عن هذا الوطن ويعاني من الاغتراب السياسي(22).

– ابن خلدون ومكيافيللي:

هناك العديد من الذين تناولوا كلاًّ من ابن خلدون، و”نيقولو مكيافيللي” بالمقارنة، لما بينهما من نقاط كثيرة متشابهة. وكثيرون يؤكدون أن ابن خلدون أدى في الحضارة الإسلامية نفس الدور الذي أداه مكيافيللي في الحضارة الغربية. فقد وجد المفكران في بيئة متشابهة للغاية؛ حيث عاش كل منهما في فترة انحدار للحضارة التي ينتمي إليها، وظهر هذا جليا فيما عرضته عن ابن خلدون.  أما مكيافيللي فقد وجد في أوروبا التي كانت ترضخ تحت الظلام تائهة في عصوره الوسطى، والولايات الإيطالية التي كان ينتمي لإحداها (فلورنسا) مفتتة ومتحاربة يسيطر عليها عدد من رجال الكنيسة المستفيدين من هذا الوضع، بالإضافة لرموز النظام الإقطاعي، ويرفضون تغيير ذلك النظام. وكانت وحدة إيطاليا بالنسبة لهم الكابوس الذي يجب تجنبه، بينما كانت هذه الوحدة هي حلم مكيافيللي الذي رأى أنه لا خلاص لإيطاليا بدونه(23).

ورغم أن الكثيرين يرون نقاط التشابه بين كل من المفكرين، ولكني أرى نقاط اختلاف واضحة. ففي حين رأى كثيرون أن ابن خلدون -شأنه شأن مكيافيللي- رائد العقلانية والعلمانية في حضارته فإن هذا الرأي غير دقيق؛ لأن من يقول بذلك يقيس مفهوم “الدين” في الحضارة الغربية على ابن خلدون، فالدين مضاد للعقلانية ومتوافق مع الخرافة. وإن كان هذا الرأي قد ينطبق على مكيافيللي لتجربته المجتمعية التي عانى بها من استغلال الدين لإبقاء المجتمع في حالة تخلف يستفيد منها فئات معينة داخل المجتمع، فقد رأى ابن خلدون أن البعد عن الدين والأخلاق هو سبب ما تعانيه المجتمعات الإسلامية من تفتت. وفي حين أكد ابن خلدون على الالتزام الديني والأخلاقي وأهميتهما في مصير أي دولة، تكلم مكيافيللي عن ضرورة فصل الأخلاق – ليس فقط الدين- عن السياسة عند الضرورة السياسية “Necessita” لتبرير سلوك الحاكم من خيانة وعنف وقتل في كتابه الشهير “الأمير”(24).

وفي حين كان ابن خلدون رجل سياسة يعيش في بلاط الملوك، كان مكيافيللي رجلاً دبلوماسيًّا، وبينما قدم الأول تجربته في شكل تجربة حياتية منقحة بالدراسة والتحليل، قدم الأخير تجربته كما هي فقد كان مصلحًا وناشطًا سياسيًّا. وبينما اهتم ابن خلدون بالتاريخ من أجل غرض أكاديمي خاص بالوصول لفلسفة للتاريخ من خلال وصوله لتعميمات، اهتم مكيافيللي بالتاريخ لاستخدامه من أجل حاضر ومستقبل الوحدة الإيطالية(25).

أما فيما يخص رؤية كل منهما للعلاقات الدولية، فنجد التشابه جليًّا. فقد اتفقا على أن “قانون القوة والغابة” الواقعي هو الحاكم للعلاقات بين الدول، وكان هذا هو المدخل الطبيعي الذي تأسست عليه فيما بعد المدرسة الواقعية. فالعلاقات الدولية تنافسية وصراعية في جوهرها، ومن يفوز بها هو الأكثر قوة ومهارة. وبينما رأي ابن خلدون أن الدين والأخلاق مصدران للقوة، رأى مكيافيللي أن الأمير لابد أن يكون مستعدًا للتخلي عن الأخلاق في أي وقت؛ فالأنبياء أنفسهم لم ينتصروا إلا حين كانوا يمسكون بالسلاح في أيديهم. وفي حين أكد ابن خلدون أن إصابة الدولة بالهرم يؤدي إلى طمع الآخرين فيها، وافقه مكيافيللي، فإذا لم تكرس الدولة جهدها للاستعمار ستصبح هي ذاتها هدف للتوسع من جانب الآخرين.

وعلى الرغم أن مكيافيللي لم يتحدث عن مفهوم “العصبية” إلا أنه حذر من الجنود المرتزقة؛ لأنهم لن يستميتوا في الدفاع عن البلاد؛ لأن الديار ليست ديارهم(26). و بهذا هو يتفق مع ابن خلدون الذي أكد على العصبية وأهميتها، هذه العصبية القائمة على النسب وتتمثل ثمارها في النعرة والنصرة.

وأخيرًا: رغم تشابه التجربة التي مر بها كل منهما، فتظل التجربة المجتمعية والأهداف لكل منهما مختلفة. وقد انعكس هذا بشدة في أفكارهما وتكوينهما العام، والمقارنة بينهما تبقى محفوفة بالمخاطر ما لم يقرأ الباحث المقارن كل كاتب في إطاره وتجربته.

ثالثًا- القراءة الفاعلـة

تقوم هذه القراءة على محاسبة الكاتب ابن خلدون، على إسهامه في عصره ثم في عصرنا نحن. ويجري الحديث هنا عن إسهامات عامة سواء تتعلق بالمقدمة أو بالنص محل الدراسة.

1- إسهامات ابن خلدون في عصره:

مثلت مقدمة ابن خلدون في عصره إسهامًا خاصًا للغاية، فقد مثلت ثورة منهجية حقيقية، على إثرها بدأ العلماء يتحولون في تناولهم العلمي للظواهر للتركيز على جانب مهمل للغاية في هذه الفترة؛ وهو النزعة العقلانية المنطقية. مثلت مقدمة ابن خلدون البداية والميلاد الحقيقي لعلم الاجتماع والعمران في عصره، وإلى الآن، أتى بمفاهيم لم يأتِ أحد بها من بعده، ما زالت ذات أهمية ومحل دراسة إلى الآن. لقد كان مجَدِدًا حقيقيًّا، أثار في كتاباته عددًا من القضايا ذات الأهمية القصوى في عهده، فكما سبقت الإشارة أن ابن خلدون عاش في فترة تدهور وانقسام للعالم الإسلامي وهذا ما غلّب عليه الطابع الإصلاحي، وما جعل ثلث المقدمة يتكلم عن منظومة للتفكير: عن التربية والإصلاح، والمواطنة.

أما فيما يخص النص المتناول هنا: فقد أفاد ابن خلدون رجال السياسة في عصره وفي عصرنا من خلال وضعه قواعد لفهم العلاقات الدولية في عصره، خاصة فيما يخص نصيب الدول من الممالك والأوطان. فعلي سبيل المثال الدولة عند ابن خلدون في تصرفها في علاقاتها هي الدولة أحادية التصرف، وأن ما يحكم توسعها على غيرها من الدول هو عصبيتها؛ مما يعني “فوضوية في النظام الدولي” في هذا العصر.

كذلك لفت النظر بشدة إلى أن الدولة عليها “وظائف” تقوم بها عصبية الدولة وإذا لم تقم بها فإنها تعرض أطراف الدولة: إما للخروج عليها من جانب الولاة، أو تعريضها للعدوان من جانب العدو. وحديث ابن خلدون عن قوة الدولة في مركزها وضعفها في الأطراف بدا وكأنه يتحدث عن المركزية واللامركزية في عصرنا.

كما تكلم ابن خلدون عن “قوانين العلية” التي تربط الشيء بسببه. وكذلك عن عنصري المقارنة: التشابه: بين خصائص المجتمعات البشرية، والتباين: كقانون تجريبي يحتاج التجريب لإثباته.

2- إسهام ابن خلدون في عصرنا:

أقام ابن خلدون قواعد علم الاجتماع الحالي، ولا زالت أفكاره محل دراسة وبحث وتدريس في معظم جامعات العالم المهتمة بعلم الاجتماع البشري.

وأثر ابن خلدون بصفته عامة على كل من قرأه من بعده من العلماء والمفكرين مثل مكيافيللي الذي بذر البذور الحقيقية للمدرسة الواقعية في العلاقات الدولية. وكما أشرت سابقاً: إن أفكار ابن خلدون لها علاقة قوية بالمدرسة الواقعية من حيث حديثه عن مفهوم “قوة الدولة”: “قوة العصبية” كمفهوم محوري لديه، وتصرف الدولة بشكل أحادي، وفوضوية النظام الدولي، … وكلها أسس للمدرسة الواقعية في العلاقات الدولية.

كذلك أثر ابن خلدون على أحد أهم العلماء المحدثين والذي أثر بدوره على معظم مفكرين اليوم في الإسلام؛ وهو الإمام “محمد عبده“. ونجد التشابه بينهما عند الحديث عن “التربية” كمنظومة فكرية. أيضًا تسبب ابن خلدون بشكل غير مباشر في مشكلة منهجية لا زلنا نعاني منها حتى اليوم في عالمنا العربي في التحليل الاجتماعي والسياسي للظواهر، وهي “مركزية ظاهرة الدولة كوحدة للتحليل”، وإهمال الظواهر الاجتماعية الأخرى في المجتمع كوحدات للتحليل، وإن كان هذا مبرَّرًا بالنسبة لعصر ابن خلدون، ولكنه أصبح حقيقة نعيشها. فالتاريخ الإسلامي مقسم طبقاً للدولة: “راشدة، وأموية، وعباسية …”، على عكس التاريخ الأوروبي الذي يعكس في تسمياته حال المجتمع: “عصر النهضة والتنوير، عصور الظلام..”(27).

وفيما يخص النص المتناول: نجد أن ابن خلدون تحدث عما تكلم عنه “جابرئيل ألموند” من وظيفة تغلغلية للدولة. فعدم اهتمام الدولة بالقيام بوظائفها في أطرافها قد يؤدي لفقدان هذه الأطراف من جانب العدو أو من جانب ثورة هذه الأطراف على المركز. وهذا يبدو واضحاً في العديد من الحالات الحديثة. كذلك ما تكلم عنه ابن خلدون من هزيمة مركز الدولة وأطرافها، فإنه يفسر بشكل كبير ما حدث لبريطانيا وفرنسا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فعلى الرغم من انتصارهما في هذه الحرب إلا أنهما فقدتا هيبتهما وتراجعتا كثيرًا عن المستعمرات الخاصة بهما خارج أوروبا؛ نتيجة تعرض مركزهما لدمار شامل وحاجاتهما لاستعادة توازنهما وإعادة بناء مركزها من جديد.

كذلك حديثه عن العلاقة بين مركز وأطراف الدولة له علاقة قوية بالمركزية واللامركزية والحكم المحلي اليوم وأهميته. أيضًا ربط ابن خلدون قوة “العصبية” بنصيبها من الممالك والأوطان ويعتبر هذا تقدمًا مهمًّا في طريق التحليل السياسي.

عمر الدولة وعلاقته بعصبيتها وتحديده لها مثل عمر الإنسان يشبه أن يكون حتمية خلدونية تثير الدهشة والغرابة، في رجل أكد على قانون السُّنة طوال المقدمة، وهو ما يعارض حاليًا بشدة. فوقوع الهرم بالدولة لا يعني نهايتها، ويوجد كم هائل من النظريات المتعلقة بالإصلاح لإعادة شباب هذه الدولة(28).

الدولة العضوية” عند ابن خلدون: فكما أشرت سابقًا، الدولة عند ابن خلدون دولة عضوية شبيهة بالإنسان في عمرها، ومراحل هذا العمر، ومكوناتها من قلب وأطراف. وبمقارنة ذلك بأفكار “ديفيد إيستون” عن استخدام مفهوم “النظام” في تحليل النظم المقارنة، ذلك المفهوم المستمد من العلوم الطبيعية والبيولوجية، لا يوجد تطابق بينهما في الأفكار ولكن يمكن أن نجد أنهما اشتركا في فكرة أن “الدولة نظام” به مكونات بينها “تفاعل”؛ ففكرة التفاعل بين أعضاء الدولة ومكوناتها تتضح بشدة عند “إيستون” وكذلك عند ابن خلدون.

كذلك أثر كل من ابن خلدون أو مكيافيللي في فكر معظم واضعي نظريات “الأمن القومي” الحديثة للدول النامية التي تركز علي الانسجام الداخلي والتوافق في نظام الحكم، والعمل على القضاء على أي احتقان سياسي داخلي لأنه يعرض الدولة لخطر تفتت حقيقي.

كان من الصعب على ابن خلدون ومكيافيللي أن يتحدثا عن نظام حكم ديمقراطي بالنظر إلى إطارهما التاريخي، ولكن كلاًّ منهما تكلم عن التوافق والتماسك الداخلي في العصبية لدى ابن خلدون، وعلاقة الأمير عند مكيافيللي بالرعية كمصدر للقوة، وقوة الدولة الذاتية ترتبط ارتباطًا طرديًّا مباشرًا بأمنها كما أكد على ذلك ابن خلدون(29).

بهذا ننتهي من “القراءة الفاعلة” محاولاً محاسبة ابن خلدون والتعرف على إسهاماته في عصره وعصرنا.

خاتمة:

في النهاية، وقبل أن أتطرق للفرضية البحثية وهل تم إثباتها أم لا، فإنني أود أن أتطرق لمفهوم النظرية في ذاته. فالنظرية العلمية إنما تقوم على افتراضات تتكون من علاقة بين متغيريْن أو أكثر مترابطة، يتم اختبارها عدة مرات بشكل إمبريقي ويثبت نجاحها حتى يتم تعميمها كقاعدة عامة. ولكن العلوم الاجتماعية بما فيها العلوم السياسية المتفرع منها العلاقات الدولية لم تصل إلى الآن لهذا المستوى من النظريات ذات الدقة العلمية الكبيرة الجامعة، لكن توصلت إلى نوعين من النظريات: نظريات كبرى “Grand theory”، ونظريات متوسطة المدى “”Middle theory range. والفرق بين هذين النوعين من النظريات أن الأولى تهدف للتفسير بطريقة تعميمية لنطاق واسع من الظواهر الدولية مع ترك المتغيرات التفصيلية للحالات الخاصة، والمثال هنا نراه في النظرية الواقعية والنظرية الليبرالية. أما النوع الثاني من هذه النظريات فهو مصمم لتفسير نطاق محدود من الظواهر مع عدد قليل من المتغيرات، والمثال الذي ينطبق على هذا النوع من النظريات المصممة لمعرفة التأثير المناسب للبيئة الجغرافية أو التكامل في قطاع ما محدد(30).

والتساؤل الذي يطرأ على أذهاننا: هل قدم ابن خلدون من خلال البناء الفكري سابق الرصد والتحليل أي من النوعين السابقين من النظريات؟

الحقيقة أن الإجابة بنعم أو لا على هذا التساؤل بها إجحاف واضح بابن خلدون، حتى لا نقع في نفس الخطأ الذي سبقت إليه تحليلات لابن خلدون وأفكاره؛ وهو قياس ابن خلدون بمعيار زمننا الآن. فابن خلدون لم يكتب هذه المقدمة لإنشاء نظريات في العلاقات الدولية، في وقت لم يكن تعتبر السياسة -ومن قبلها علم الاجتماع- علومًا تم تقنينها وتحليلها. وقد أنشأ ابن خلدون علم الاجتماع دون أن يقصد ذلك بالمعنى المعاصر أثناء محاولته إنشاء علم التاريخ.

فإذا عاملنا ابن خلدون على أساس عصره، نجد أن بناءه الفكري الخاص بالعلاقات بين الدول والممتد عن أفكاره عن الدولة وأحوالها داخليًّا وقوتها، نجد أن هذه الأفكار تمثل تقدمًا علميًّا كبيرًا في عصره، يمكن أن يستخدمها علماء التاريخ في رصد الظاهرة السياسية في منطقة المغرب العربي في هذه الحقبة الزمنية. ولكن ابن خلدون لم يبرز أفكاره في شكل مترابط وبناء مقولب؛ مما يجعلنا نرى أن جهوده هذه أسهمت – مثل أفكار مكيافيللي- في بذر بذور المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية. هذه النظرية التي تعتبر على رأس النظريات الكبرى في العلاقات الدولية، ورغم كل النقد الموجَّه إليها، فإنها لا تزال على قمة النظريات؛ لأنه لا يوجد حتى هذه اللحظة نظرية استطاعت أن تحل محل النظرية الواقعية، فقد رأى ابن خلدون علاقة الدول في عهده صراعية، وهذا ما يتوافق مع النظرية الواقعية، مع اختلافه في تحديد معنى “القوة” ومصادرها كنتيجة واضحة لاختلاف الزمان والمكان والبيئة والحضارة.

الهوامش

(1) محمد أحمد الزعبي، في بدون محرر، الفكر الاجتماعي الخلدوني، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، مارس 2004 ص14

(2) لمزيد من التفصيل انظر: نصر محمد عارف، في مصادر التراث الإسلامي: دراسة في إشكالية التعميم قبل الاستقراء و التأصيل، الولايات المتحدة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1994، ص79-82.

(3) شهاب الدين أحمد بن محمد ابن أبي الربيع، تحقيق وترجمة وتعليق حامد عبد الله ربيع، سلوك المالك في تدبير الممالك، القاهرة: دار الشعب، 1980، ص282-283.

(4) سيف الدين عبد الفتاح “محاضرات شفوية في مادة  النظرية السياسية لطلاب الفرقة الثالثة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة”،2004/2005.

(5) محمد عابد الجابري ، فكر بن خلدون:العصبية والدولة ..معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي (يناير 1992)، ص212-215.

(6) ابن خلدون، علي عبد الواحد وافي “محقق”، “المقدمة لابن خلدون”، القاهرة: دار الشعب للصحافة والطباعة والنشر – ص 265: 267.

(7) المرجع السابق. ص268-271.

(8) المرجع السابق. ص145.

(9) Gibb, H.A.R, “The Islamic Background of Ibn Khaldun’s Political Theory” in: Shaw and Polk (Ed.), Studies on the Civilization of Islam (Boston,1962)

(10) المرجع السابق، ص 146

(11) أبو خلدون ساطع الحصري، “دراسات عن مقدمة ابن خلدون” ، القاهرة: دار الكتاب العربي  مكتبة الخانجي ، 1967، ص 14.

(12) محمد بن تاويت الطيج، نوري الجراح محرر. رحلة ابن خلدون:1352-1401، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003، ص381.

(13) حورية توفيق مجاهد، ” الفكر السياسي من أفلاطون إلي محمد عبده”، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1992، ص 267،268.

(14) محمد بن تاويت الطيج، مرجع سابق، ص401-411.

(15) ابن خلدون، مرجع سابق، ص145-147.

(16) Mohammed Mahmoud Rabi, The Political Theory of Ibn Khaldun, PHD, unpublished, Amsterdam University,1967P.128-131

(17) ابن خلدون. مرجع سابق، ص146

(18) نظر ابن خلدون نظرة أفقية للدولة علي أساس امتداد حكم عصبية الدولة علي إقليم واحد فتصبح دولة خاصة، أو ممتدة عبر عدة أقاليم فتصبح دولة عامة، أما نظرته الرأسية فكانت علي أساس عدد القائمين بالسلطة، فالدولة الشخصية يحكمها شخص واحد من العصبية و تنتهي بانتهائه، أما الدولة الكلية التي يتعاقب علي حكمها عدد من الحكام من ذات العصبية. لمزيد من التفصيل انظر:

محمد عابد الجابري. مرجع سابق،ص210-212.

(19) محمد عابد الجابري، مرجع سابق، ص212-215.

(20) James E. Dougherty and Robert L. P faltzagroff, Jr., “Contending theories of International Relations, a Comprehensive Survey”, (New York: Longman). Fifth Edition, P. 63-70.

(21)  Joseph S. Nye, Jr. ,”the of America s soft power: why Washington should worry”, foreign Affairs, Vol. 83, May, June 2004, p.35-39.

(22) Joseph S. Nye, Soft Power: The Means to success in world politics, Public Affairs, USA, p30-33.

(23) حورية توفيق مجاهد.مرجع سابق،ص303-304.

(24) ليس معني ما سبق أنني مؤمن برأي من يري مكيافيللي شيطانا و مبدع لقاعدة الغاية تبرر الوسيلة، و لكني أري أن مكيافيللي كشخص مصلح يختلف كثيرا عن هذه الأوصاف، و هذا ما يكشفه كتابه “المطارحات”، وأن رغبته العارمة في تحقيق حلم الوحدة الإيطالية هو الدافع وراء هذه الأفكار التي ذكرها علي سبيل الاستثناء الذي لا يجوز التوسع فيه، لمزيد من التفاصيل انظر:

Erwin I.J. Rosenthal, Political thought in medieval Islam: an introductory out line, Cambridge press, UK,1962, p.84-113.

(25) M.Judd Harman, political thought from Plato to the present, Mc Graw Hill Book Company,1964,p153-165

(26) نيقولوا مكيافيللي، تعليق بنيو موسوليني، تعريب خيري حماد، الأمير، بيروت: المركز التجاري للطباعة والنشر، 1970، ص109-112.

(27) محمد بشير صفار، محاضرات لطلبة الماجستير في العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، غير منشورة،2005/2006.

(28) سيف الدين عبد الفتاح، محاضرات لطلبة الماجستير في العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، غير منشورة،2005/2006.

(29) Abdul Monem M. AL-Mashat. Considerations in the analysis of National Security in the third world, PHD, USA: Chapel Hill Unversity,1982

(30) James E. Dougherty and Robert L. Pfaltzagraff, Jr., Op. Cit. , P17-20.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر