أبحاث

في رحاب الطب النبوي (1)

العدد 23

الطب النبوي مجال رحب فسيح، ونحن نتناوله هنا بإيجاز كبير، بأسلوب البحث العلمي المحايد الذي يستند إلى الدليل والبرهان والتجربة، وبهذا الخصوص توفرت لدينا، النصوص الصحيحة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم السلوك الحي لمحمد
وصحابته، ثم تأتي بعد ذلك الدراسات الحديثة التي تثبت بالدليل القاطع، والتي حاولنا أن نعقد بينها وبين تراثنا المقارنات الواضحة دون تحيز أو تحايل أو انفعال ذاتي، فالموضوعية في مثل تلك الدراسات العلمية أول ما يلزم الباحث الجاد المنصف.. ومن المؤسف حقا أن تراثنا العريق في العلوم العامة، وفي الطب خاصة، قد ترجم منذ قرون إلى اللغات الأوروبية، فكان أساس نهضتها وتقدمها، فبدأوا من حيث انتهينا، بينما توقفت جهود الأقدمين، وتعثرت خطواتهم في أنحاء العالم الإسلامي المتمزق، وذلك لانحسار الثقافة الإسلامية، وغلبة المفاهيم المستوردة المنحرفة وتجاهل التراث.. العظيم الذي يعد بالكنوز وبألوان المعرفة الحية الخالدة..

لقد بدأت رحلة الطلب النبوي الشريف من الداخل.. من قلب الإنسان وضميره ونفسه، ثم شملت بدنه، وانتقلت إلى بيئته التي يعيش فيها، وإلى أفراد المجتمع الذي يخالطه واهتمت بالجوانب العلاجية والوقائية والغذائية  والترفيهية، وعلاقته الاجتماعية المتنوعة، ووضعت الإنسان تحت منظار من الفهم الدقيق، والوعي الشامل، في إطار منهاج متكامل لا يغفل جانبا من الجوانب، في حياة الفرد، ولم يغفل حتى الجوانب الشديدة الخصوصية كالمسألة الجنسية فتعرض لها بشجاعة وإدراك، كجزء هام من حياة الرجال والمرأة فوضع لها آدابها، والاحتياطات الواجب اتخاذها، والهدف من ورائها، وحصنها بالتوصيات التي تحميها من الخلل، أو تنحرف بها عن الجادة…

وربط الطب النبوية بين الصحة والعبادة، فكانت الصالة وكان الصوم، وكان الوضوء، وكانت الرياضة، وكانت قواعد الغذاء والشراب والنوم والراحة، وكان العلاج والوقاية، كل ذلك في نسيج واحد..

الحق أن الطب النبوي جانب من جوانب الإعجاز التي يزخر بها ديننا الحنيف، وسوف نحاول في هذه الصفحات أن نسلط الأضواء على معالمه الأساسية والله من وراء القصد…

(1) الطب النبوي ومفهوم الصحة والعلاج

لعل من الأمور اللفتة للنظر تلك الشمولية أو ذلك التكامل الذي تتصف به… العقيدة الإسلامية فكرا وسلوكا، فلا نكاد نسأل عن قضية من القضايا أو مسالة من المسائل أو علما من العلوم إلا ووجدنا قدرا لا باس به – قل أو كثير – في تراثنا العريق، وهذا لا شك جانب من جوانب الإعجاز، تتجلى فيه القدرة الإلهية، فيزداد الإنسان إيمانا ويقينا ويظل يرد النبع الصافي للإسلام كي ينهل منه في أي عصر من العصور.

وحيث يقرا الباحث في كتاب الله، أو يطلع على الأحاديث النبوية الشريفة، وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام وحياه من صحابته واتباعه، وفي بيته ومسجده وفي جهاده وسلمه، وفي حله وترحاله، وفي علاقته المتنوعة حينما يلقي الإنسان نظرة شاملة على عالم الرسول الرحب الفسيح يجد للطلب وللصحة مكانة كبيرة، ليس هذا فحسب، بل إن مفهوم الطب النبوي مفهوم شامل يبعث على الدهشة، ويدعو إلى الإعجاب… لأننا حينما نقيس الطب النبوي بالمقاييس العلمية الحديثة في أسسه العامة، نجد أنفسنا أمام إعجاز قاهر لكل نوازع الشك والتردد. فالطب النبوي يتمثل كل ما له علاقة بصحة الإنسان كالتغذية والنظافة والانحرافات العضوية والنفسية وبعض طرق العلاج، وكافة النواحي البيئية والاجتماعية والشخصية وغيرها مما يتعلق بالصحة العامة.

ونحن إذا نظرا ي التعريف الحديث الذي وضعته “منظمة الصحة العالمية” عن مفهوم الصحة، لوجدنا أن ذلك التعريف يؤكد أن الإنسان الصحيح ليس هو السليم بدنيا فحسب لإن صحة البدن جانب واحد من جوانب الصحة، ومن ثم لكي تكون الصحة في صورتها المثالية المكتملة لا بد وأن تشمل على سلامة النواحي البدنية والنفسية والعقلية والاجتماعية في هذا الإطار العام يتحدد مفهوم الصحة لدي تلك المنظمة الكبرى التي يديرها ويشرف عليها نخبة من كبار أطباء العالم، وأمهر الباحثين والخبراء في مجال الصحة.

وإذا عدنا إلى الطب النبوي لنتدارس من خلاله التعريف الصحيح للصحة لوجدناه يتفق وذلك المفهوم الحديث لدي منظمة الصحة العالمية أن لم يفقه برغم مرور القرون الطويلة، وبرغم المنجزات الحديثة في مجال البحوث، وتطور الدراسة ووسائلها وإمكانياتها المذهلة فكيف يمكننا أن نفسر هذه الظاهرة المبهرة؟؟ كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسي تلك الأسس التي لم نستطيع الوصول إلى بعضها إلا بعد أن استعملنا المجاهر (الميكروسكوبات) والمختبرات ومزارع الميكروبات، وأجهزة الكمبيوتر، والتجارب المضنية على الحيوان وعلى الإنسان أحيانا، كيف يستطيع أن نفسر ذلك إلا إذا آمنا أن المصطفى (ما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى).

إن الرسول صلى الله عليه وسلم يضع قاعدة صلبة لينطلق منها البحث العلمي والجهد الدائب، من أجل الوصول إلى أسباب الداء، والعثور على الدواء، بحيث لا يتقاعس الناس عن أداء الواجب إزاء عدوهم اللدود: المرض، ومن هنا كان أمره صلى الله عليه وسلم بالتداوي، بل كان يبعث ببعض المرضى على طبيب العرب في ذلك الزمان “الحرث بن كلدة” كما كان يقترح عليه بعض الأدوية، وحينما يأمر النبي بالتداوي، فمعنى ذلك أنه يرفض التواكل أو الإهمال ويدعو الناس للأخذ بالأسباب، وبذل الجهد في محاربة الداء، حتى يقوي الإنسان بدنا وروحا وقلبا وعقلا، فيستطيع أن يؤدي رسالته بين مجتمعه، يحمل الأمانة التي كلفه الله بها، ويسعد في حياته كما تسعد أسرته.

“روى مسلم في صحيحه من حديث ابن الزبير، عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

“لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برأ بإذن الله عز وجل”.

وفي الصحيحين، عن عطاء عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى عليه وسلم: “ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء”.

وفي مسند الإمام أحمد، من حديث زيادة بن علاقة عن أسامة بن شريكن قال:

“كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنتداوي فقال: نعم يا عباد الله، تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء، إلا وضع له شفاء غير داء واحد، قالوا: ما هو؟ قال: الهرم “في لفظ” إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله”.

وفي المسند والسنن عن أبي خزامة، قال، قلت يا رسول الله أرأيت رقي نسترقيها، ودواء نتداوى به، فقال وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟؟ فقال هي من قدر الله وهكذا وضع الرسول صلى الله عليه وسلم قواعد هامة كان لها أعمق الأثر في تطور العلوم الطبية سواء في مجال الأمراض والعقاقير وأساليب العلاج المختلفة، ومن م استطاع الأطباء المسلمون في القرون التالية أن يستنيروا بهديه، ويجدوا في البحث والتجارب والتأمل والمشاهدة والوصول إلى كثير من الحقائق العلمية وتطبيقها في مجال العلاج والتشخيص، منها ما يتعلق بالدواء، ومنها ما يتعلق بالغذاء، ومنها ما يتعلق بأسلوب حياة المريض من حيث العمل أو الراحة، والنوم أو اليقظة ومنها يتعلق بروحه المعنوية، أو حالته النفسية، فالأحاديث التي ذكرناها أقرت عدة حقائق:

أولها: الأمر بالتداوي، وهو أمر من المصطفى صلى لله عليه وسلم، يلتزم به المسلم لأنه يرتبط بما يتعلمه ويؤمن به من آداب إسلامية أو سلوك صحيح يرضى عنهن وهذا الأمر بالتداوي يتضمن رفضا لأساليب التواكل والتراخي والإهمال.

ثانيها: إن إقرار الرسول بأن لكل داء دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله.. يفتح باب الأمل دائما، أمام الباحثين والعلماء كي يطوروا تجاربهم وأبحاثهم حتى يصلوا إلى الدواء المنشود، كما أنه يفتح باب الرجاء أيضا أمام المرضى حيث يستقر في قلوبهم يقين بان الدواء موجود، وأن الله سبحانه قادر أن ييسر لهم أسلوب العثور عليه.

ثالثهما: أن الاهتمام بالعلاج أو التداوي واجب ديني من ناحية أخرى قد تخفي على الكثيرين فقد يدهش البعض حينما يعرف أن العلاج جزء من الوقاية، لأن علاج أي مريض قد تجنب غيره الإصابة بالمرض إذا كان المرض معديا، لأنه إذا بقي على حاله دون علاج تفشي الداء وكثر المرض، وحاق بالأسرة أو المخالطين، أو المجتمع عموما ضرر بليغ ومن ثم فإن الأمر بالتداوي ليس مجرد حفاظ على فرد بعينه، ولكنه وقاية للمجتمع ككل كما يمكننا أن نضيف إلى ذلك أيضا أن ترك الداء دون علاج قد يؤدي إلى مزيد من المضاعفات أو العاهات، فيصبح المريض حتى بعد أن يشفى من مرضه، عاجزا عن أداء دوره في الحياة، بضعف في إبصاره أو شلل في طرف من أطرافه، أو تلف في جهاز من أجهزة جسمه.

ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بمعاجلة بع المرضى بنفسه أو يصف لهم الدواء، كما أنه كثيرا ما كان يلجأ لعلاج بعض الأدواء التي تصيبه بالدواء أو الغذاء أو وسائل العلاج الأخرى وقيامه على هذا النحو، واهتمامه بالأمر، مما يؤكد لأصحابه وللمسلمين أن ذلك السلوك في مجال الصحة، يعتبر جزءا من السلوك العام بالنسبة لكل فرد في المجتمع يثاب عليه، وينال رضى الله.

مثال ذلك ما جاء في الصحيحين، من حديث المتوكل عن أبي سعيد الخدري “أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ان أخي يشتكي بطنه: وفي رواية استطلق بطنه فقال: اسقه عسلا، فذهب ثم رجع، فقال قد سقيته، فلم يغن عنه شيئا، وفي لفظ: فلم يزده إلا استطلاق (اسهالا) مرتين أو ثلاثة، كل ذلك يقول له اسقه عسلا فقال له في الثالثة أو الرابعة: “صدق الله وكذب بطن أخيك”.

ويرى ابن قيم الجوزية أن هذا الذي وصف له النبي العسل كان استطلاق بطنه، ويضيف رحمه الله: وفي تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع، وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب حال الداء، إن قصر عنه لم يزله بالكلية وإن جاوزه أوهن القوى، فأحدث ضررا آخر، فلما أمره أن يسقيه العسل، سقاه مقدارا لا يبلغ مقدار الحاجة، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برئ بإذن الله واعتبار الأدوية وكيفياتها بمقدار قوة المرض والمريض، من أكبر قواعد الطب.. وفي قوله “صدق الله، وكذب بطن أخيك” إشارة على تحقيق نفع هذا الدواء، وإن بقاء.. الداء، ليس لقصور الدواء في نفسه ولكن لسوء حال المريض واستحكام الداء، مما يحتاج لزيادة في كمية العلاج وفي الجرعات اللازمة.

هذا مثل من الأمثلة العديدة التي كان الرسول يقول فيها مقام الطبيب، فيوصى بالعلج عن يقين وثقة، مستندا إلى وحي الله، وإلى ماضي التجارب التي عايشها الناس في عصره وقبل عصره، فالعسل، كما ورد في القرآن الكريم – (فيه شفاء للناس) واساطين الطب في ذلك الزمان كانوا ينظرون إليه كدواء وغذاء وفي عصرنا اليوم صدرت مؤلفات عديدة عن العسل تناولته من شتى الوجوه، فهناك في روسيا أجريت دراسات عن استعمال عسل النحل في علاج حروق العين، وقد كانت تلك الحروق تسبب في فقدان نسبة كبيرة في الأبصار، وقد أثبتت التجارب نجاح المحاولة بحيث… ارتفعت نسبة التحسن، وقلت المخاطر، كما أجريت في أوروبا دراسات عن إمكانية احتواء العسل على مواد قاتلة للميكروبات فوضعت فيه أنواع مختلفة من البكتريا ويغرها مثل ميكروبات فوضعت فيه أنواع مختلفة من البكتريا وغيرها مثل ميكروبات التيفود والتيفوس ومسببات الدوسنتريا والمكور السبحي والعنقودي وغيرها، وتبين أن تلك الميكروبات قد قضي عليها على فترات متفاوتة.. ثم ماذا يفعل الطب الحديث اليوم أمام النزلات المعوية أو ما نسميه نوبات الإسهال ذات الأسباب المختلفة أن أول شيء يعطى للمريض هو المحاليل التي تقاوم الجفاف الناجم عن الإسهال، لأن خطورة المرض تكمن في فقدان سوائل الجسم وبعض الأملاح كالصوديوم والبوتاسيوم مما يؤدي إلى فشل الدورة الدموية، وتعثر وظائف الكلى أو توقفها. وتخثر الدم والوفاة، مثال ذلك ما يحدث، في حالة النزلات المعوية عند الأطفال… وفي حالة الإصابة بمرض الكوليرا… والأطباء يرون أن العلاج الحاسم.. بل العلاج الوحيد في معظم الأحيان هو المحاليل أو السوائل التي تعوض الحسم عما فقده…وتحميه من الجفاف، والعسل الممزوج بالماء، أو العسل الذي يتبعه شراب الماء، يعتبر خطوة هامة في مجال تحسن حال المريض بل إنقاذه، لأن العسل يحتوي على ماء ونوع سهل الهضم من السكر الممتاز، بالإضافة إلى بعض المواد الأخرى الضرورية… ثم إمكانية وجود مواد قاتلة للميكروبات في العسل، وبالطبع نحن نعرف قيمة العسل من الناحية الغذائية، وسرعة استفادة الجسم من سكره وخاصة في تلك الظروف العاجلة الملحة… ظروف الجفاف القاتل الذي يهدم بنيان الجسم في وقت قصير!!

ولقد أشار ابن قيم الجوزية في معرض تعليقه على هذا الحديث إلى أمور جديرة بالاعتبار والنظر مما يؤكد متانة الأسس التي قام عليها الطب النبوي وخلودها، وهي أمور هامة اليوم في مجال العقاقير الطبية منها.

(أ) كمية الدواء وهو ما نسميه (الجرعة).

(ب) مدة العلاج.

(جـ) عدد الجرعات اليومية.

وتلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في بعض الأحيان يوصى بتعاطي العلاج لثلاثة أيام مثلا، مرة كل يوم، وقد يوصى باستعمال الدواء لسبع ليال، وقد كان صلى الله عليه وسلم يلجأ لبعض أساليب ما نسميه بالعلاج الطبيعي في عصرنا، فيعصب رأسه في بعض حالات وهو ما يفعله بعض الأطباء في عصرنا إذ … يضغطون على بعض الشرايين الموصلة للمخ فيقل فيه الاحتقان لقلة تدفق الدم… وتخف حدة الصداع، كما أوصى صلوات الله عليه باستعمال ما نسميه “بالكمادات البادرة” في أيامنا هذه عند ارتفاع درجة الحرارة، حينما قال “الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء”. وما زالت مستشفياتنا وعياداتنا تستعمل تلك الأساليب” وخاصة عندما تفشل العقاقير الطبية، أو نتوجس خيفة من استعمالها في بعض الحالات نظرا لما قد تؤدي إليه من مخاطر ومضاعفات جانبية.

والأطباء المحدثون يرى عدد كبير منهم أن فريضة الصوم فمن الناحية الصحية تلعب دورا بارزا في مجال الوقاية والعلاج، وسوف نتحدث عن ذلك فيما بعدن ولكن الذي يهمنا الآن هو التأكيد على أهمية الصوم في علاج كثير من الاضطرابات المعوية وعسر الهضم وأمراض القولون (المصران الغليظ) وعلاج مرض السكر عند البدناء أو في حالة مراحله الأولى ومساعدته على اخفاض ضغط الدم المرتفع، والسمنة وما يحلق بها من مضاعفات.

وهكذا تتدخل الفرائض الإسلامية والآداب الدينية مع الأساليب السليمة في السلوك الصحي، حماية لصحة الناس وعلاجا لأمراضهم، ومن هنا كانت نظرة الإسلام إلى الإنسان جسدا ونفسا وعقلا ولبنة في بناء المجتمع، فالذي يعالج بدنه يكتسب المنفعة الدنيوية كما يكتسب الأجر والثوابت في الآخرة. والذي يرتبط بالقيم الإسلامية المتعلقة بالنظافة والوقاية من مختلف الأمراض يدخل من الطائعين والمنفذين لأوامر الله ورسوله، إنها داخلة ضمن طاعة الله، والآداب التي نادى بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنها تكسب أهمية تقترب من القداسة ما دام المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، ولقد لاحظت من خلال (تجاربي الشخصية وأنا أدير شؤون الثقافة الصحية).. التوعية الصحية أن ربط شؤون الآداب الصحية بالقيم الإسلامية، كان له أعمق الأثر في اقتناع الناس بالتعود على السلوك الصحي والعادات السليمة، مما انعكس أثره على الفرد والمجتمع بالفوائد الكثيرة، بل إشراك خطباء المساجد والوعاظ في حملات التربية الصحية أتى بأكبر المنافع في هذا المجال… وإذا كان المصطفى هو قدوتنا في مناحي الحياة المختلفة فإن طبه الخالد يجب أن يظل منارة لنا في حياة صحية سليمة، حماية لنا ولأجيالنا من خطر الأمراض.

(2) أسس الطب الوقائي النبوي

إن الحكمة النبوية العليا تتجلى أروع ما تكون في مجال الطب الوقائي بالذات فقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم الخطوط العريضة لما نسميه في عصرنا بالوقاية التي تعتبر خط الدفاع الأول ضد الأمراض المعدية وغير المعدية، ذلك لحماية الفرد والمجتمع من التعرض لخطر المرض، وصدق الشاعر العربي القديم حتى قال:

توقى الداء خير من تصد         لأيسره وأن قرب الطبيب

ولنبحث في البداية عن بعض النصوص الصريحة التي وردت عن رسول الله فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله “أنه كان في وفد” ثقيف رجل مجذوم. فأرسل الرسول صلى الله صلى الله عليه وسلم إليه: ارجع فقد بايعناك “وروى البخاري في صحيحه تعليقا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: فر من المجذوم كما تفر من الأسد” وفي الصحيحين، في حديث أبي هريرة “لا يوردن ممرض على مصح”.

وفي الصحيحين: عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم في مجال الحديث عن الطاعون قال:

(فإذا سمعتم به بأرض، فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها فرارا منه).

ولقد ذكرت في كتب التراث واقعة زيارة الخليفة عمر بن الخطاب “لعمواس” إحدى مدن الشام وكان قد تفشى فيها الطاعون، وهو مرض معد، وتوقف عمر ولم يدخل على المدينة الموبوءة، وخاصة بعد أن روى له حديث رسول الله السابق… ولقد قال أبو عبيدة بن الجراح لعمر يا أمير المؤمنين: أفرارا من قدر الله تعالى؟ فقال عمر: لو قالها غيرك يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى، أرأيت لو كان لك أبل فهبطت واديا له عدوتان أحداهما خصبة والأخرى جدبة، ألست أن رعيتها الخصبة رعيتها بقدر الله تعالى وإن رعيتها الجدبة رعيتها بقدر الله.

ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا فقال: إن عندي في هذا علما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا … سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه”.

وهذا التصرف يعني ما نسميه في عصرنا بالحجر الصحي “الكارنتينا” والمقصود بالحجر الصحي هو عزل الأماكن والناس عند تفشي الأمراض المعدية المعينة منها الطاعون والكوليرا والجدري والتيفوس وغيرها، ولا شك أن منع دخول الناس إلى الأماكن الموبوءة وكذلك منع الخروج منها يساعد على حصر الوباء والتغلب عليه وعدم انتشار عدواه بين الناس، وإذا أكانت اللقاحات، والطعوم قد اكتشفت في عصرنا هذا إلا أن الحجر الصحي ما زال هو الأساس أو القاعدة، وخاصة بالنسبة لبعض الأمراض التي لم يكتشف لها طعوما أو لقاحات حتى الآن وأيضا بالنسبة، للأمراض المعدية التي لا تساعد التحصينات اللازمة على الوقاية منها فتطعيم الكوليرا مثلا لا يكاد يقي إلا حوالي 35% من مجموعة المطعمين في رأي أغلب الأطباء والباحثين، ومن ثم فغن العزل أو الحجر الصحيح يعتبر الوسيلة ا لفعالة لمنع انتشار المرض مضافا إلى ذلك ما يقوم به الأطباء من إسعافات وعلاجات ثانوية أخرى وفي مسند البزار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود،.. فنظفوا أفناءكم وساحاتكم ولا تشبهوا باليهود يجمعون الأكباء (الزبالة) في دورهم” كما صح عنه “إن لله حقا على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، وإن كان له طيب أن يمس منه” ونحن نعلم أن القمامة وتراكمها في البيوت يكون سببا في تكاثر الحشرات كالذباب والصراصير والبعوض، كما يساعد على تكاثر الميكروبات ونقل الأمراض الجرثومية والفطريات والطفيلية إلى الإصحاء، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن أن تكون المراحيض داخل البيوت، وقد روى عنه أيضا أنه أوصى بعدم قضاء الحاجة في الماء أو في الظل أو على قارعة الطريق وهذا ما نسميه في عصرنا بصحة البيئة التي تعتمد أساسا على نظافة البيت الذي نقضي فيه معظم أوقاتنا وخاصة أوقات الراحة والنوم وتناول الطعام، وقد وضع العلماء مواصفات عدة للسكن الصحي، وهي في جملتها لا تخرج عن الإطار الذي رسمته السنة النبوية الشريفة، كل ذلك من أجل الوقاية من الأمراض والعلل المعدية.

وقد حرص الإسلام على نظافة الفرد – والنظافة من الإيمان – فهي العامل الأساسي لحماية صحة الإنسان من الأخطار لهذا نرى أن الوضوء يؤدي دورا بارزا في هذا المضمار وفي دارسة لمنظمة الصحة العالمية في بنجلاديش أن مجرد استعمال الماء النظيف في غسل اليدين مثلا يزيل حوالي 90% من الميكروبات كما أن الإسلام أوجب على المسلمين الغسل في مناسبات مختلفة مثل الجنابة والحيض والنفاس كما أستن الاستحمام في أيام الجمعة والأعياد، وغيرها، وأوصت الآداب الإسلامية بنظافة الثياب (وثيابك فطهر) كما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بنظافة الشعر وترجيله ودهانه بالمواد الدهنية أو الزيتية وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك قدوة لأصحابه كما أوصى بتقليم الأظافر حيث أن الشيطان يختبئ في الأظافر الطويلة، وفي الدراسات التي أجراها الباحثون أتضح أن الترسبات التي تكمن تحت الأظافر تحتوي على عدد من الميكروبات الضارة المختلفة التي يمكن أن تنتقل إلى الطعام أثناء الأكل أو إلى البشرة أثناء حمها، بل عن طفيل “الاكزيورس” ممكن أن تنتقل عداوة من إنسان لإنسان عن طريق اليد، بل إن الإنسان الذي لا يغسل يده بعد الذهاب إلى المرحاض قد تنتق العدوى من برازه إلى فمه وفي هذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: بورك ف طعام غسل قبله وغسل بعده، كما أوصى أصحابه أن يغسلوا أيديهم بعد القيام من النوم قائلا: فأن أحدكم لا يدري أين باتت يده”.

وفي الصحيحين عن سعد بن عجرة قال: كان بي أذى من رأسي فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك ما أرى “وفي رواية أمره أن يحلق رأسه”.

ولذلك حلق النبي رؤوس بني جعفر، ومن المعروف أن يوضع الدواء بعد ذلك على الرأس، وما زال الأطباء في أيامنا هذه عند علاج القمل أو القراع يحثون على حلق الرأس كبداية للعلاج فلا تجد الحشرات وبيضها ما تلتصق به أو تختبئ فيه.

وقد جاء في حديث للرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في القدح ولكن ليبن – أي يبعد الإناء عن فيه، وقد روى مسلم في صحيحه عن حديث جابر بن عبد الله قال:

“سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: غطوا الإناء وأوكوا السقاء” روى البخاري في حديثه عن ابن عباس “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن الشراب من في السقاء.

ونستطيع أن نقول في إيجاز أن نظافة الفرد أو نظافة الشخصية وكذلك نظافة البيئة أو ما يسميه الأطباء بصحة البيئة من الأمور التي اهتم بها الرسول صلى الله عليه وسلم وجعلها أساسا لوقاية البدن من العدوى والانحرافات التي تسببها العلل المختلفة.

وإذا انتقلنا إلى مجال صحة الإنسان والفم وحاولنا أن نقارن بين ما نرى عليها السلف الصالح من آداب صحية عريقة وبين ما يوصي به أطباء الأسنان اليوم من نصائح لوجدنا أن تلك القرون العديدة التي بيننا وبين عصر النبوة لم نضف كثيرا في هذا المجال، والمعرفة أن الفم هو المدخل الذي يأتي إليه الطعام والشراب وأن صحة الإنسان تتأثر سلبا وإيجابا بحالة الأسنان، ومما هو معروف علميا أن الفم لا يكاد يخلو من الميكروبات وأن بقايا الطعام وخاصة النشويات تلعب دورا كبيرا في الإصابة بنخر (التسويس) الأسنان، وكل ما يستطيع أن يوصى به الأطباء إزاء هذه المشكلة هو نظافة الفم واستعمال الفرشاة التي هي بديل للسلوك، وقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة”.

وفي صحيح البخاري تعليقا عنه صلى الله عليه وسلم “السواك مطهرة للفم مرضاة للرب” وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك، وصح عنه أنه استاك عند موته.

إن عمل الأسنان هام جدا بالنسبة لمضغ الطعام وإتاحة الفرصة لبعض الأنزيمات الموجودة في الفم كي تختلط بالكتلة الغذائية أثناء فترة المضغ لتساهم في عملية الهضم، وإلا تلكأت هذه العملية ووجدت المعدة صعوبة في أداء عملها مما ينتج عنه عسر الهضم وما يصحبه من انتفاخات وآلام واضطرابات مختلفة كما أن إصابة الأسنان قد يكون لها علاقة ببعض الأمراض التي تصيب أعضاء كثيرة في جسم الإنسان كالكلي والعينين والمفاصل وغيرها لأن البؤر الصديدية في الأسنان.. أو كالكلي والعينين والمفاصل وغيرها لأن البؤر الصديدية في الأسنان.. أو اللثة تكون مكمنا لكثير من الميكروبات والسموم وهذه تستطيع أن تنتقل عن طريق اللثة تكون مكمنا لكثير من الميكروبات والسموم وهذه تستطيع أن تنتقل عن طريق الدم إلى مختلف أعضاء الجسم، فلا عجب إذا قرأنا في السنن عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أنه قال “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يستاك وهو صائم” وقال البخاري: قال ابن عمر: “يستاك أول النهار وآخره”.

ومما لا شك فيه أن تلك الآداب الصحية التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تضع الخطواط العريضة والأسس القويمة لحياة ينعم فيها المرء بالمعافية والسعادة فإن الصحة من أجل نعم الله علينا وقد حذر الرسول الله صلى الله عليه وسلم من التخمة فقد أثبتت الدراسات المعاصرة علاقة التخمة وما يتبعها من بدانة بكثير من الأمراض المختلفة مثال ذلك صلة البدانة بمرض السكر وعلاقتها بأمراض القلب وتصلب الشرايين وأمراض مفاصل الأطراف السفلى وغيرها، وقد جاء في المسند وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما ملأ آدمي وعاء أشر من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا بد فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه”.

وتعليقا على هذا يقول ابن قيم الجوزية: “ومراتب الغذاء ثلاثة أحدها مرتبة الحاجة والثانية مرتبة الكفاية والثالثة مرتبة الفضلة.. فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب فإذا أورد عليه الشراب ضاق عن النفس وعرض له الكرب والتعب وصار محمله بمنزله حامل الحمل الثقيل هذا غلأى ما يلزم ذلك من فساد القلب وكسل الجوارح عن الطاعات وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع فامتلاء… البطن من الطعام مضر للقلب والبدن.

وفي هذا أيضا يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: “الشبع يثقل البدن ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة”.

وذكر أبو نعيم عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان ينهي عن النوم على الأكل ولا ينام عقبه، ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أن يشرب على طعامه.

ومن المعروف أن كبار السن وخاصة مرضى القلب يتعرضون للنوبات القلبية التي قد تقضي عليهم عقب أكلة كبيرة يعقبها النوم مباشرة، ولهذا يوصي الأطباء بالبقاء متيقظين لمدة ساعة على الأقل بعد الأكل وقاية من تلك النوبات نظرا لأن التخمة ترهق القلب وخاصة القلب المصاب بقصور في الدورة الدموية.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم وضح العافية وهي تمام الصحة، من أجل نعم الله على العبد بعد اليقين، ففي مسند الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

“سلوا الله اليقين والمعافاة، فلما أوتي أحد بعد اليقين  – خيرا من العافية”.

وفي الترمذي أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونروك من الماء البارد؟؟ “ومن ههنا قال من قال: من السلف في قوله تعالى: “ثم لتسئلن يومئد عن النعيم” – قال عن الصحة.

نحن إذن أمام صورة متكاملة من صور الطب النووي في مجال الاعتزاز بنعمة الصحة، ثم وقاية الجسم من الأمراض، هذه الصورة الباهرة المعجزة تشمل عديدا من الواجبات التي تحمي الإنسان من العلل والانحرافات نستطيع أن نوجزها في النقاط التالية:

أولا – الصحة نعمة من أجل نعم الله.

ثانيا – الصحة أمانة في عنق كل فرد، فليحفظ كل أمانته ويحمها من التلف والضرر.

ثالثا – ضرورة حماية المجتمع من انتشار الأوبئة أو الأمراض الفتاكة، وذلك بتطبيق قوانين العزل أو الحجز الصحي.

رابعا – تقف النظافة في مقدمة الحصون التي تحمي الجسم من تقبل العدوى وغيرها من الأمور التي تنهك الجسد.

خامسا – تجنب التخمة وما تجلبه من مضاعفات.

سادسا – نظافة المأكل والملبس والمأكل.

سابعا – مكافحة الحشرات والميكروبات بالأساليب المناسبة.

ثامنا – ضرورة التداوي والعلاج لكبح جماع المرض، وتجنب المضاعفات والعاهات، ووقف تفشي المرض بين الأصحاء.

تاسعا – وقاية الأسنان التي تعتبر منفذ العديد من الانحرافات والعلل التي تؤثر على أجهزة الجسم المختلفة وفي مقدمتها الجهاز الهضمي والجهاز البولي والجهاز البصري والمفاصل.

عاشرا – اعتبار المحافظة على الصحة، والوقاية من الأمراض، طاعة الله ورسوله… يؤجر عليها المرء في آخرته ويسعد بها في دنياه.

وبعد،

هل استطاع الطب الحديث في خطوطه العريضة، وفي أسسه العامة، أن يقوم ويقدم تصورا أعمق من هذا التصور في مجال الوقاية تلك التي أصبحت بحق – وباعتراف أساطين هي المعول الأكبر في خلق جيل من الأطباء؟؟. وهل يستطيع باحث أن يرينا المبالغة فيما قررنا من تلك الحقائق الدامغة، التي كانت حقيقة واقعة في حياة الرسول وصحبه، وفي حياة التابعين الذين نهجوا على منواله، وساروا على المحجة البيضاء التي لا يحيد عنها إلا هالك؟؟

(3) الطب النبوي النفسي

يحتل الطب مكانة كبيرة في عالم اليوم، وعند تصنيف المرضى إلى … مصابين بأمراض عضوية ومصابين بأمراض نفسية، نجد أن القسم الأخير يشمل أعدادا هائلة في كل أنحاء العالم، لهذا تخصص الكثيرون من الأطباء في الأمراض النفسية، وأنشئت لذلك المصحات والعيادات، وتنوعت أساليب العلاج بحيث أصحبت متداخلة متشابكة، تضم العقاقير الطبية، والصدمات الكهربائية والتحليل النفسي، والتنويم المغنطيسي والإيحاء وإدخال التعديلات على أساليب الحياة أو معالجة بعض الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تتعلق بالاضطراب النفسي الذي يؤثر في طبيعة المريض وتصرفاته..

وتقف العقاقير المهدئة أو المطمئنة أو المنومة في مقدمة أنواع العلاج المختلفة، ونظرة واحدة إلى الإحصاءات العالمية، تؤكد لنا ضخامة الكميات التي توزع على نطاق واسع، وخاصة في أوروبا وأمريكا والمجتمعات المتحضرة أو الصناعية، تلك المجتمعات التي تنتشر فيها الاضطرابات النفسية وتتعدد المشاكل، وتندلع الصراعات المادية والمذهبية، وتغلب عليها صفات التنافس والجشع والتساب على نيل المنع، والانقلاب والإفلات من قيود القيم الروحية والأخلاقية الحميدة.. ولقد أتضح في السنوات الأخيرة، إن تلك العقاقير النفسية لم تعد ذلك السحر الذي يقلب الشفاء إلى نعيم، والتعاسة إلى سعادة، والمرض إلى صحة، هذه العقاقير ثبت أنها قد تؤدي إلى الإدمان، وتؤثر في الجهاز العصبي إذا طال استعمالها – تأثيرا دائما، فتضعف المواهب والقدرات، وتبعث الاضطرابات والخلل في النسق الإلهي البديع الذي خلق على هداه الإنسان، كما أنها تؤثر على الكلي والكبد والجهاز الهضمي وغيرها، فهي مهما تغيرت أسماؤها تمت من قريب أو بعيد للمخدرات.

لا أريد أن أستطرد ف علاج الأمراض النفسية، أو أتصدي تفصيليا للقيمة الحقيقية للعقاقير المهدئة أو المطمئنة، لكن الذي أود أن أشير إليه هو أن هذه العقاقير ليست كل شيء بل مجرد عامل مساعد – كما يقول الأطباء النفسيون – لتحريك عملية ا لعلاج – ولا يمكن الاعتماد عليها ولا الاستمرار في تعاطيها إلا لأجل محدود، حتى تمر الأزمة ثم يأتي بعد ذلك العلاج الأساسي، وهو البحث عن “السبب” الذي حرك كوامن النفس، وأثار فيها الاضطراب، ومكن فيها للقلق والحيرة والتوتر والاكتئاب والعزلة والخوف.. واليأس والملل والقنوط،بل الرغبة أحيانا في التخلص من الحياة.. فهل استطاعت العقاقير أو الكيماويات أن تحل المشكلة.

ولقد سمي علم الأمراض النفسية في تراثنا الإسلامي القديم “بطب القلوب”، وأهتم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما كتب عنه علماء المسلمين المتخصصون في الطب وغير المتخصصين فترى مثلا عالما من أبرز علمائنا وهو ابن قيم الجوزية يسرد عشرين صفة للطبيب، ومن ضمن هذه الصفات (الصفة السابعة عشرة) يقول في مصنفه “الطب النبوي” ص/ 113: “أن يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها، وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان فإن انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمر مشهود، والطبيب إذا كان عارفا بأمراض القلب والروح وعلاجهما كان هو الطبيب الكامل، والذي لا خبرة له بذلك – وإن كان حاذقا في علاج الطبيعة وأحوال البدن. نصف طبيب لك طبيب لا يداوي العليل يتفقد قلبه وصلاحه وتقوية أرواحه وقواه بالصدق وفعل الخير والإحسان، والإقبال على الله والدار الآخرة فليس بطبيب متطبب قاصر ومن أعظم علاجات المرض فعل الخير والإحسان، والذكر والدعاء والتضرع والابتهال إلى الله والتوبة ولهذه الأمور تأثير في دفع العلل، وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية ولكن بحسب استعداد النفس وقبولها، وعقيدتها في ذلك ونفعه..”.

ونلاحظ دائما – كما في هذا النص – اهتمام أئمة الطلب الإسلامي بالربط بين علل القلب والبدن أي العلاقة بين الأمراض النفسية والأمراض العضوية وهي علاقة وطيدة أصبحت بديهية في علوم الطب الحديث، وهناك فرع من الأمراض يطلقون عليه الآن (Psycho – Somatic disease) الأمراض النفسية العضوية وخاصة بعد أن تأكد أن للحالة النفسية تأثيرا على وظائف الأعضاء الفسيولوجية فالتوتر العصبي والقلق النفسي، والأرق والخوف وما إلى ذلك، قد ترفع من ضغط الدم، أو تساعد على قرحة المعدة أو اضطرابات القولون، أو الذبحة الصدرية، وقد ترفع نسبة السكر في الدم، وهناك أنواع من الشلل النفس والعمى النفسي، وفقدان النطق العارض من الأعراض النفسية، وفي بعض العلل التي يشكو صاحبها من أعراض بدنية، عندما يفحصها الطبيب لا يكاد يجد أي علاقة تشير إلى خلل عضوي، فالاختبارات الإكلينيكية  والتحاليل المعملية والصور الإشعاعية، كل ذلك يؤكد سلامة العضو، ولكن المريض يشكو حقيقة وهو لا يكذب في دعواه، وعندئذ يتبين للطبيب أن العلة أساسها نفسي.

هذا التصور للرباط الوثيق بين النفس والجسم، أو بين الانحرافات البدنية والاضطرابات النفسية، كان تصورا واضحا تماما في أذهان أساطين الطب… القديم الإسلامي، بل إنهم أدركوا أن المصاب بعلة بدنية حقيقية تتحسن حالته إذا ما رفعنا روحه المعنوية، وبشرناه بالشفاء العاجل، وأدخلنا السرور على نفسه وجعلناه ينعم بالتفاؤل والأمل، وأحطناه بجو من الثقة والإيمان.

روى ابن ماجة في سننه، من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل، فإن ذلك لا يرد شيئا، وهو يطيب (أو تطيب نفس المريض).

ولا شك – كما يقول أسلافنا – أن تفريح نفس المريض، وتطبيب قلبه وإدخال ما يسره عليه له تأثير عجيب في شفاء علته وخفتها فإن الأرواح والقوى تقوي بذلك، فتساعد الطبيعية على دفع المؤذي وقد شاهد الناس كثيرا من المرضى تنتعش قواهم بعيادة من يحبونهم ويعظمونهم ورؤيتهم ولطفهم ومكالمتهم إياهم.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل المريض عن شكواه وكيف يجده… ويسأله عما يشتهيه، ويضع يده الشريفة على جبهته أو يضعها بين ثدييه، ويدعو له، ويصف له ما ينفعه في علته، ويدخل السرور على قلبه.

وأطباؤنا القدامى في مصنفاتهم ذكروا تفصيليا أسباب بعض العلل والأعراض ولم يغفلوا الجانب النفسي كمسبب في بعض الأحيان، فمثلا الصداع من الأعراض التي ترافق عديدا من الأمراض العضوية… والاضطرابات… الوظيفة في جسم الإنسان لكن الدراسات النفسية الحديثة، وقد أثبتت (دكتور تالبوت) أن هناك نسبة عالية من حالات الصداع سببها نفسي، وبعض الباحثين قد يصل بهذه النسبة إلى أكثر من خمسين بالمائة من حالات الصداع.. وعلى الرغم من أن أسلافنا لم يتعرضوا لنسبة حالات الصداع ما يحدث بسبب نفسي إلا أنهم سجلوا في مصنفقاتهم أن من ضمن الصداع: ما يحدث من الأعراض النفسانية كالهموم، والغموم، والوساوس، والأحزان والأفكار.. الرديئة، هكذا قالوا..

لكن السؤال الهام هنا: ما هو أساس النظرة الإسلامية للأمراض النفسية وللعلاج النفسي؟؟

لقد استعرضنا فيما سبق بعض الشواهد والنصوص التي توضح لنا أن الطب النبوي كان على بينة تامة بما نسميه المرض النفسي وكما اشتمل على ثبت كبير لوسائل العلاج النفسي وهي وسائل مهما كان قدمها إلا أنها ما زالت هي الأساس في العلاج حتى يومنا هذا.

فالإنسان في العلاج في نظر الإسلام يولد على الفطرة، ثم يعايش ما يحوله ومن حوله ويتلقف التجارب، ويختزن الخبرات ولكل إنسان إمكانياته الحيوية والعقلية والنفسية والاقتصادية فهناك القوى والضعيف، والجاهل والعالم، والهادي، والصاخب، والمنطوي والاجتماعي والمريض والصحيح، ويمضي الإنسان – كل حسب طبيعته في رحلة الحياة الطويلة، ولا يستطيع أن يواصل سيرته بغير زاد…

وزاد المؤمن هو الإيمان بالله والاطمئنان بعدله والرضى بقضائه وقدره، والصبر على بلائه والثقة في عونه ورحمته وحفظه، والقناعة برزقه، والعمل من أجل الكسب والطاعة والحرص على أداء فرضه الله من عبادات ومعاملات من أجل الكسب والطاعة والحرص على أداء ما فرضه الله من عبادات ومعاملات من أجل دك أي اختلال يتناول بناء الفرد الداخلي، أو يضعف من إيمانه أو يشحنه بالغضب والحقد، أو يورثه الفزع والقلق، فسوف يؤدي به حتما إلى ما نطلق عليه الاضطرابات النفسية أو الأمراض النفسية.

فلا عجب إذا رأينا انتشار الأمراض النفسية بنسبة عالية في بلدان متقدمة، حققت انتصارات باهرة في الرفاهية والعلم والسياسة والاقتصاد وذلك بسبب الخواء الداخلي وانهيار البناء العقائدي، وضعف الوازع الديني أو القيم الروحية، وتحضرني في هذه الحالة قصة ذلك الطبيب النفساني الإنجليزي، الذي قضى عشرين عاما يعالج المرضي في المصحات النفسية وظل ويجرب وسائل العلاج المختلفة، ويقارن عليها وبينها، وأخيرا لم يجد وسيلة أقوى وأفعل سوى بث الإيمان في نفوس مرضاه وإمام هذه التجربة جدد ذلك الطبيب إيمانه، وعاد إلى الدين، وتشر تجربته في كتاب تحت عنوان “عدت إلى الدين” وترجم إلى العربية، ضمن سلسلة كتب للجميع تحت عنوان “شفاء الروح”.

نعود فنقول أن الطب النبوي هو تطبيق للمفهوم الإسلامي الشامل الذي.. ينظر إلى الإنسان نظرة واقعية تضع في الاعتبار تكوينه الجسدي والعقلي والنفسي وطبيعة البيئة التي يعيش فيها والنوازع والأهواء التي تتقاذفه، وقوى الجذب والطرد التي تؤثر فيه داخليا وخارجيا، ولذلك جاءت تعاليم الإسلام مراعية لهذه الظروف كلها والسير على منوال تلك التعاليم، يعطي للنفس صحتها وقوتها، ويحضن بالخير والحب إرادتها ويحبب إليها الالتزام، ويهبها قوة تواجه بها عواصف القهر والفشل والغدر والخيانة أنه يخلق نفسا سوية… تستعصي على الانهيار وتتأبى على الدمار، ومن ثم فإن تلك النفس لا تصعقها هزيمة ولا يوئسها مرض، ولا يذهب باتزانها عامل من عوامل التلف والفساد… الطارئة.

فإذا كانت عقاقير المهدئات والمطمئنات ذات الجرعات المحدودة والتي توزن عقاقير بالمليجرامات، بحيث لا تزيد وإلا قتلت، وتلا تنقص وإلا لم تفد، إذا كانت تلك العقاقير لم يعد لها سوى فعالية محدودة موقوته وإذا كانت الصدمات الكهربائية لا تستعمل إلا في حالات معينة وتحت اشتراطات خاصة. فإنه لم يبق أمامنا سوى العودة إلى الأساليب الواعية، تدرس الأسباب وتهتم بالظروف المحيطة وتعالج الصدمات العاطفية والاجتماعية، وذلك عن طريق تقديم العون الممكن سواء أكان ماديا أو معنويا بأسلوب التفاهم وتحليل المشكلة إلى عناصرها الأولية ومحاولة الوصول إلى جذورها، ثم بث الثقة واليقين والأمل في نفس المريض، لم تزل هي الأسباب الأمثل في العلاج النفسي، بالإضافة إلى ما يحتاجه مثل هؤلاء المرضى من ترفيه وترويح، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معناه روحوا عن قلوبكم ساعة بعد ساعة، إن القلوب إذا كلت عميت، ولعل من الأموال المذهلة، تلك النزعة البناءة الخلاقة في العلاج النفسي، إذ يوصى الرسول بعض أصحابه في مجال علاج الهموم بدفعها بالجهاد وهو يقر ذلك النوع الفذ من العلاج الذي يلجأ إليه المعالجون النفسيون اليوم تحت عناوين مختلفة، فأحيانا يسمونها “التسامي بالغرائز” وأحيانا أخرى يطلقون عليها ملء الفراغ أو إحلال أمر مكان آخر، وبتعبير أوضح يأخذون بيد المرضى النفسيين إلى حيث يمارسون هواياتهم الفنية المختلفة، أو يجيبون إليهم عملا من الأعمال يتفق وميولهم، ومن ثم ينصرفون إلى تلك الأعمال البناءة وينسون تدريجيا همومهم وأشجانهم فتصح نفوسهم، وتتضاءل أحزانهم.

والواقع أن الإسلام قدم حلولا مبسطة وشاملة لقضايا الزواج والحب والعواطف المختلفة، وعلاجها من شتى جوانبها، بحيث لو طبقت على أي مستوى من المستويات لجنب الكثيرين عديدا من الاضطربات والانحرافات النفسية ولقد ألمحنا قبل ذلك إلى موضوع ربط الآداب الصحية بالعبادة ونضيف هنا أمورا عدة تتعلق بفريضة الصوم، وأثرها من الناحية النفسية، وهذا شيء أفاض فيه العلماء القدامى والمحدثون، حيث شرحوا لنا أثر الصوم في تربية الإرادة القوية والعزيمة وتدريب المرء على الالتزام بالقوانين والشرائع وكسر شهوة النفس والبدن. بحيث تتعود على الحرمان والصبر عند المكاره، وعدم الرضوخ بطغيان الملذات على اختلاف أنواعها، ثم أن الصوم يخرج بالصائم عن مألوف عاداته فهو مضطر إلى أن يترك فنجان قهوة الصباح ويبتعد عن التدخين إذا كان مدخنا… ويتجاهل المادة المخدرة إذا كان مدمنا، ويسكت نداء المعدة إذا كان شرها، ولذا يصبح الصوم مدرسة نفسية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى… أو بمعنى آخر مصلحا نفسيا تتخلص النفوس عن طريقه من فورانها وجشعها، وخاصة إذا ما تذكرنا أن الصوم مرتبط بأمور أخرى لها أهميتها التربوية وأثرها النفسي كالصلاة، وزكاة رمضان وعدم الخوض في أعراض الناس، وترك المفاسد وشهادات الزور والظلم…الخ.

الواقع أن المجال الرحب الواسع للطب النبوي إنما يكمن أساسا في دائرة الطب النفسي تلك الدائرة التي تحفل بالكثير والكثير لأننا مهما حصرنا العقاقير والأدوية والممارسات المختلفة التي تتعلق بعلاج البدن وعلله في الطب النبوي، نقول مهما حاولنا حصر تلك الأشياء لوحدناها – برغم أهميتها – قليلة جدا إذا ما قيست بمئات الألوف من العقاقير المستحدثة أو إذا ما قيست بالإنجازات الرائدة للطب النبوي النفسي..

الطب النبوي النفسي يعتبر – كما قلنا في مجال الطب الوقائي النبوي آية فذة من آيات الله العلي القدير، يرتبط ارتباطا وثقا بالبناء الإسلامي الكبير.

(4) الغذاء والطب النبوي

في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر لألوان من الطعام والشراب، لقيمتها وأهميتها، ثم نجد أيضا تخصيص أنواع غذائية بعينها لحالات مرضية، هذا بالإضافة إلى اعتبار الغذاء المناسب أول بند من بنود العلاج بالنسبة للمرضى، فالطعام في ضوء الطب النبوي غذاء ودواء، وعندما نحاول أن نتحرى ما كان يأكل الرسول سوف نجد نماذج مختلفة تدل على معرفة حقيقة لماهية العناصر الغذائية، فمثلا نلاحظ أنه صلى الله عليه وسلم كان يشرب العسل ممزوجا بالماء على الريق، ومن وصايا صلى الله عليه وسلم – في جامع الترمذي يقول: … وإذا سقي لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وزودنا منه، فإنه ليس شيء يجزئ من الطعام والشراب. إلا اللبن.

وكان صلوات الله عليه وسلامه يقبل على اللحم، ويقول عنه “هو سيد طعام أهل الدنيا والآخرة”.

وثبت في صحيح مسلم “أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتبذ له أول الليل، ويشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجئ والليل الأخرى، والغد إلى العصر.

وهذا النبيذ هو ماء فيه تمر بحيلة، ولم يكن يشر به بعد ثلاث خوفا من تغيره إلى الاسكار.

وكان يأتدم الخبز والثريد باللحم، ويحب الفواكه، ولا يأكل الطبيخ البائت الذي يسخن ولا المتعفقن، كما روى عنه الثقات أنه لم يكن لتزم بنوع واحد من الغذاء، بل يستفيد من الأصناف المختلفة التي تقبل عليها نفسه..

ونستطيع من خلال تلك النصوص وغيرها أن نوجز الأسس الغذائية العامة في إطار الطب النبوي على النحو التالي:

أولا – شمول الغذاء على مختلف العناصر الضرورية كالبروتينات والدهنيات والنشويات والفيتامينات والمعادن، هذا في وقت لم تكن الدراسات الغذائية التحليلية قد تيسرت لها الأدوات والقوانين الكيميائية.

ثانيا – التأكيد على أهمية بعض الأنواع الغذائية خاصة مثل اللبن – واللحوم – والعسل والتمر والفاكهة فاللبن كما نعلم يعتبر بحق من أكمل المواد الغذائية لاحتوائه على نسبة معقولة من البروتينات والدهنيات والسكريات والمعادن وبعض الفيتامينات ولهذا جعله الله الغذاء الوحيد للطفل عند ولادته، وتعتبر العناصر المكونة للبن أسهل هضما وامتصاصا وأجل فائدة، وخاصة بالنسبة لكبار السن والناقهين والأطفال والحوامل والمرضعات ويوصي علماء التغذية المستخرجة من اللبن، كما تعددت وسائل حفظه، وأنواعه وأشكاله.

فلا عجب أن تؤلف فيه الكتب، ويصبح من الأطعمة التي تلتزم بع الحكومات بتوفيرها للشعب، باعتباره ضرورة من الضرورات ولا عجب أيضا أن نقرأ لرسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان يقول: “فإنه ليس شيء يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن.

أما اللحوم على اختلاف أنواعها فهي غنية بالبروتينات الحيوانية الممتازة وبالأحماض الأمينية – الأساسية الضرورية بالإضافة إلى نسبة كبيرة من الدهون الحيوانية تتفاوت من نوع لآ×ر فتكثر في البط مثلا، وتقل في الدجاج والأرانب واللحوم الحمراء عموما، كما أن اللحوم بها نسبة من المعادن الهامة وبعض الفيتامينات واللحوم كمصدر هام للبروتينات تلعب دورا رئيسيا في نمو أنسجة الجسم وتعويض التالف منها. وخاصة عقب الأمراض والعنف وسوء التغذية والإصابات والحوادث المختلفة والواقع أن البروتينات النباتية لا يمكن أن ترتفع إلى مستوى البروتينات الحيوانية، ولذا فإن القيمة الغذائية للحوم تتضح بجلاء من خلال الدراسات المختلفة التي جاءت مطابقة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم “اللحم هو سيد طعام أهل الدنيا والآخرة”.

وبالنسبة للعسل فقد أوجزنا في مكان آخر مدى أهميته الغذائية للأصحاء.. والنظر إليه كدواء بالنسبة للكثير من الحالات المرضية، ذلك لما يحتوي من عناصر مفيدة ولما يتميز به من سرعة الهضم والامتصاص والوصول إلى الدم والأنسجة في وقت قصير، وإمداده الجسم بطاقة كبيرة تقاس بالسعرات الحرارية، بالإضافة إلى خاصية قتل بعض الميكروبات التي ذكرها بع الدارسين.

أما التمر أو البلح فإن احتواء كل منها على نسبة عالية من السكريات يرفع من القيمة الغذائية لها، فضلا عن وجود بعض المواد المعدنية والألياف، القابضة للرحم فتمنع النزيف، وكذلك وجود مواد تقاوم الشيخوخة، ثم هناك الفيتامينات التي تتراوح نسبها كما ونوعا طبقا للحالة المتعلقة به هل هو طازج أم لا.

أما الفواكه والخضروات الطازجة، فقد تعرض لها الأطباء القدامى الذين تربوا في أحضان الطب النبوي العريق، وأثنوا عليها الثناء العاطر، وهو كلام في جملته لا يقل عما أبرزته الدراسات المعملية أو المختبرية في العقود الأخيرة، والتي أكدت ضرورة احتواء الطعام اليومي على الفواكه والخضروات الطازجة لما تحتويه من فيتامينات هامة، ومعادن ضرورية ومواد سكرية ونشوية، وفيتوجينات وو… الخ.

وكلها تؤثر في حيوية الجسم وقوته، وحمايته من مختلف الأمراض.. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها، ولا يحتمي عنها، وهذا أيضا من أسباب حفظ الصحة كما يقرر الأقدمون – فإن الله جعل في كل بلد من الفاكهة ما ينتفع به أهلها في وقته فيكون تناوله – كما يقول ابن القيم الجوزية – في أسباب صحتهم وعافيتهم ويغني عن كثير من الأدوية. ولا نكاد نجد إنسانا أهمل الفاكهة إلا وهو من أسقم الناس جسما، وأبعدهم من الصحة والقوة.. وكان الرسول يوصي دائما بوجبة العشاء، ولو بكف من التمر ويقول ترك العشاء مهرمة”.

هذا وقد ورد في القرآن أسماء أطعمة كثيرة كالعسل واللبن والتفاح والرمان والسمك واللحم والبقول والتين والزيتون والرطب والفاكهة عموما.. وغير ذلك كثير أيضا ورد ذكر بعضها في الأحاديث النبوية، بمناسبتها وأحيانا بفائدتها، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على اهتمام الطب النبوي بالأسس الصحية للغذاء، وأفضل الوسائل لإعداده، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم رسم لنا طريقة الأكل، وطريقة الجلوس أمام الطعام، وعدم النوم بعد الأكل مباشرة، وعدم الشرب أثناء الأكل أو عقبه مباشرة، وعدم الشرب أثناء الأكل أو عقبه مباشرة، لأن كثرة الماء تؤثر – كما نعلم اليوم على عملية الهضم – وتخفيف العصارة الهاضمة، فيقل تركيزها، ويضعف مفعولها، وتتسبب في عسر الهضم ومتاعبه…

ثالثا  – التأكيد على خصوصية أكل المريض، بمعنى أن بعض ما يصلح للغذاء بالنسبة للأصحاء، قد يضر المرضى، ولهذا حرص الطب النبوي بالنسبة للمريض على أمرين هامين:

أ – عدم إجبار المريض على الطعام، والاستفادة من الحمية عند الضرورة.

ب – تقديم الطعام السهل الهضم الذي لا يثقل على معدة المريض.. فبالنسبة للنقطة الأولى، قد يصبح حجب الطعام العادي عن المريض أمرا ضروريا، ولهذا نرى الأطباء الآن يستعيضون عن ذلك بإعطاء المحاليل… المختلفة عن طريق الوريد أو تحت الجلد أو عن طريق الشرج، خاصة وان بعض المرضى قد يكونون مصابين بالقيء الشديد فلا يكاد يستقر شيء في معدتهم وقد يلجأ الأطباء لعمليات نقل الدم كإنقاذ لحياة المريض، وسواء أكانت هناك سوائل تعويضية مطلوبة أم لا، فإن منع الطعام عن المريض في بعض الحالات يعتبر أمرا ضروريا، وقد روى الترمذي في جامعه وكذلك ابن ماجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “لا تكرهوا مرضاكم على الطعام فإن الله عز وجل يطعمهم ويسقيهم”.

ولا يكون الإكراه في الطعام إلا في حالات معينة كمرضى التخلف العقلي أو المضطرين عقليا ولا ينكر أحد أنه في بعض الحالات المرضية كثيرا ما يصاب الإنسان بفقدان للشهية ولا تعود شهيته المفقودة إلا إذا تماثل للشفاء.

وتتصل هذه بالنقطة الثانية ألا وهي تقديم الطعام السهل الهضم للمريض، لأنه لا يثقل على معدته، ويلاقي القبول في معظم الأحيان، مثال ذلك بعض الأنواع من الحساء (الشوربة) وعصير الفواكه والمحاليل السكرية واللبن وغيره من الأغذية الخفيفة التي وردت في أحاديث الرسول وفي تصانيف علماء الطب النبوي في العصور التالية، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قيل أن فلانا وجع لا يطعم الطعام، قال عليكم بالتلبينة فاحسوه إياها ويقول: والذي نفسي بيده أنها تغسل بطن أحدكم كما تغسل أحداكن وجهها من الوسخ.

“والتلبين” هو الحساء الرقيق المتخذ من دقيق الشعير بنخالته وهناك أيضا العنب وقد ذكره الله سبحانه وتعالى في ستة مواضع في كتابه، ويذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب العنب والبطيخ، ومن المعروف علميا أن سكر العنف سهل الهضم والامتصاص والاحتراق، وهو من الأغذية التي يوصى بها الأطباء في حالات الحميات المختلفة، والتهاب الكبد الوبائي وغير ذلك من الأمراض.

رابعا – حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على نظافة الطعام والاستفادة منه.. بعد إعداده ما أمكن، وعدم رغبته صلى الله عليه وسلم ف الطبيخ البائت، وهذا بأسلوب العصر يعني تحاشى تلوث الطعام من الحشرات أو الخبار أو المخالطين، وترك الطعام المطبوخ في أوانية فترة طويلة، عند عدم توفر أساليب الحفظ المختلفة، يؤدي إلى تعرضه للتلوث والتسمم، فلو أضفنا إلى ذلك تأكيده صلى الله عليه وسلم على ضرورة غسل اليدين قبل الطعام وبعده، ودعوته إلى تقليم الأظافر، وعدم التنفس في الإناء، أدركنا حرصه الشديد على نظافة ما نأكل وما نشرب، وقد أوردنا بعض الأحاديث والوقائع التي تشتمل على هذا المعنى الصحي الهام.

خامسا – عدم الإكثار من الطعام، أو تجنب الشراهة والتخمة، ولقد وضع الرسول الكريم قاعدته الشهيرة في ذلك حين قال عند قوم “لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع، وحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه،” ومما لا شك فيه أن التخمة وما تؤدي إليه من السمنة لم يعد الخطر فيها قاصرا على المضاعفات البدنية وحدها وحدها وإنما يتعدى ذلك إلى أضرار اجتماعية ونفسية واقتصادية وعقلية، وكانت التجربة أصدق دليل على ذلك في القديم أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الحديث على أيامنا، وإذا تجولنا عبر التاريخ استطعنا أن نستشف المآسي المختلفة في عصور الرفاهة والشهوة والرخاء المادي مع الجفاف الروحي، وعلى النقيض من ذلك نزع الإنجازات الباهرة والانتصارات العظيمة، حينما تسو أشواق الروح على مطالب الجسد، ويلتزم الناس بالمبادئ والقيم الخالدة في سلوكهم ومعاملتهم ومطعمهم ومشربهم ومسكنهم، كما أن تصدي الزحف الإسلامي الأول – بقلة عدده وعدده جحافل الفرص والرومان (أقوى مملكتين آنذاك”، والنصر المؤزر الذي أفاض الله به على المسلمين -، ذلك كله ما نهدف إليه من معنى، حينما تتكلم عن ضوابط الغذاء وشهوات الطعام والشراب والنساء في الإسلام.

سادسا – وكان رسول الله يقبل على المشوي من اللحوم ويطلبه، فعن عبد الله ابن الحرث قال: “أكلنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم شواء في المسجد” وعن مغيرة بن شعبة قال: “ضفت رسول الله ذات ليلة، فأمر بجنب مشوي، ثم أخذ الشفرة فجعل يحز لي بها منه الخ… الحديث.

ولقد أصبح من الواضح أن المشوي أقل دسامة من المقلي، ولذلك يوصي الأطباء الآن بتفضيل المشوي على المقلي تجنبا للمواد الدهنية التي أصبحت زيادتها في الطعام سببا من أسباب تصلب الشرايين وعسر الهضم والبدانة وغير ذلك من المضاعفات والمتاعب المتختلفة.

سابعا – الجمع بين الطازج والمطبوخ في الوجبات الغذائية.

ثامنا – وضع آداب اجتماعية وسلوكية للأكل، كأن يأكل الإنسان مما يليه، وأن يتناول طعامه في روية دون عجل، وألا يسرف فيما يأكل، بحيث يجعل ثلثا لطعامه وثلثا لشرابه، وثلثا لنفسه على أقصى افتراض.

خلاصة القول أن الطب النبوي اعتبر الغذاء عنصرا أساسيا للصحة، لا يمكن الاستغناء عنه وميز بين أصنافه المختلفة، وأعطى تصورات حقيقية ثبت صدقها بالمقاييس العلمية والتجريبية، لتأثير بعض الأنواع، وأرشدنا إلى الواجبات الصحية، والخطوات المختلفة الواجب اتخاذها لحماية هذا الطعام والشراب من التلوث والتلف، ومع الأهمية التي أعطاها للغذاء، إلا أن الطب  النبوي وضع القاعدة للصحة حيث نفر من التخمة، وأوصى بالقصد في المأكل وفي المشرب، وحظر من مضار امتلاء المعدة بالطعام… لقد جمع الطب النبوي بين الأهمية الكبرى للغذاء، والمحاذير التي يجب الالتفات إليها بالنسبة لغذاء الأصحاء والمرضى.. وهو كمال ما بعده كمال.

وصدق الله العظيم إذ يقول: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا)

(ومن أصدق من الله قيلا) ؟؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر