أبحاث

الاحتساب وحرمة الحياة الخاصة

العدد 53

تمهيد:

الانسحاب والعوة من مقومات الحياة الإنسانية، بغيرهما لا يستقر الوضع البشري- طبيعة وشرعاً وعقلاً- وإذا كان الانسحاب يؤكد حاجة الإنسان إلى الانفراد باعتباره جواهر (( الخصوصية )) فإن العودة تجسد الحقيقة الاجتماعية للكائن الإنساني.

والخصوصية لا ترادف العزلة التي هي رفض للآخر ونفي له، إنما الخصوصية جزء من ماهية الإنسان الذي لا يحيا بغير الحرية، حرية الانسحاب عن الآخرين، والخصوصية وهى تتجه إلى الانسحاب عن الآخرين تقتطع من عالمنا مساحة تعتبرها مستودع أسرارها، و (( جغرافيا )) خلوتها، مطالبة الآخرين باحترام الحياة الخاصة للإنسان في هذه المساحة، بحيث لا يدخلها أحد بغير دعوة أو استئذان، (( جغرافيا )) الخلوة عند الإنسان لها جانبان، جانب مادي هو حرمة المسكن بما فيه ومن فيه، وجانب معنوي هو حرمة أسراره وما حفى من أفكاره.

وقد عرف الإنسان منذ كان (( جغرافيا الخلوة )) بما لها من حرية وحماية، يشير إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى (( يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده ))(1) فالمسكن في المفهوم القرآني يعني الأمن والحماية والحرمة، ويأتي قيدا على ولي الأمر والأفراد على سواء، وإذا كانت الخصوصية ضرورة إنسانية فإنها مثل كثير من الضرورات عرض لها الانتقاض والحرمان، إلا أن العقود الأخيرة شهدت تطورات علمية ضخمة جعلت خصوصية الإنسان تتعرض لجزء لا مد وراءه، كما صور ذلك تشاوم (( أورويل )) واقعا مريرا، واغتيلت الخصوصية بأيدي (( التكنولوجيا )) الحديثة بما خرجت به من أجهزة التصنت والتسجيل والاقتحام، حتى تعرض الإنسان المعاصر- أمام أساليبها المتطورة- وربما لأول مرة في تاريخه الطويل- إلى التعري نفسيا وفكريا وجسديا وأصبحت جغرافيا الخلوة وهما، ففقد الإنسان الإنسان أمنه وأضاع راحته وصدق قول الشاعر:

وهل راحة فى أمة نصف أهلها                  على النصف الثاني عيون تطلع؟

وإذا كان إهدار الخصوصية يعني حرمان الإنسان من وجوده السوى، فإن تصوير الخصوصية على أنها من الحقوق المطلقة ينطوي على إنكار بالغ للوجود الجماعي وفعاليته، الأمر الذي يستدعي الموزانة الحكيمة بين الحياة الخاصة وحقيقة الإنسان الاجتماعية.

وقد جاء الإسلام- باعتباره الدين الخاتم- ليحدث هذا التوازن في صيغة مرنة ورصينة، ذلك أن حقوق الإنسان في الإسلام هى فرع من أصل هو نظرته لقضايا المبدأ والخلافة والمصير، وفي إطار هذه النظرية العامة يأتي حديثنا عن (( الاحتساب وحرمة الحياة الخاصة- قراءة في تراث الفقه  الإسلامي )) محاولة منا لرصد جوانب من البناء الفقهي الشامخ الذي أقيم على أساس من النصوص التي تتناهى ليحكم الوقائع اللامتناهية، واهتمامنا بالفقه ينطلق من رقضنا لمقولات مطروحة ترى في النصوص الإسلامية- قرآنا وسنة- مجرد توجيهات خلقية لا تقوى على رفع نظام تشريعي أو بناء فقهى وهو ما يدخضه التاريخ العقلي والتشريعي للمسلمين، وهذه المقولات المطروحة لحمتها وسداها تنحية الإسلام عن دائرة التطبيق وحصره في نطاق العقيدة دون الشريعة، من نكد الدنيا في يوم الناس هذا أن يتطرف العلمانيون في دعوة قومنا إلى تمجيد الغرب تاريخا وفكرا، وفقها وتشريعا، وفي المقابل يدعوننا إلى أن نلقي في البحر بكل تراثنا الفقهي لنبدأ اجتهادا مزعوما ينسخ الأصول بدعوى حرية العقول.

وينقسم حديثنا إلى مبحثين:

المبحث الأول: الإسلام وحرمة الحياة الخاصة: وهو بمثابة خلفية تضع بحثنا في إطار الرؤية الشاملة لنظرية الإسلام العامة في مجالى الحقوق والواجبات.

المبحث الثاني: الاحتساب وحرمة الحياة الخاصة: ويأتي من النظرية بمثابة النموذج التطبيقي، ومنهجنا فيه تركيبي، يضع أقوال الفقهاء- في مكانها المتصور، بقصد تقديم الرأي الفقهي بأكبر قدر من الوضوح.

الإنسان في الإسلام مكرم ومسئول، ومن موجبات تكريمه ومسئوليته أن يحافظ له على ضروراته وأن تصان حرماته،  لهذا جاءت النصوص الإسلامية في القران والسنة- وهما مصادر الفقه- آمرة بدعم الحياة الخاصة، وهو أمر يوجب صيانتها ويمنع هتكها ويحظر كل ما يؤدي إبى ذلك، وتأتي عناية النصوص الإسلامية بالمسكن- وهو محور الخصوصية- دليلا على الحماية الكاملة التي يوفرها الاسلام للحياة الخاصة للإنسان.

وجاء الفقه الشرعي- في صناغته للنظرية العامة للحقوق والواجبات- وسهل حمايتها- مدينة وجنائية- ليقدم التفاصيل التي تجعل مبدأ الحماية قواعد تحكم الممارسة في دنيا الناس.

ولا خلاف عند فقهاء جميع المذاهب الإسلامية على حرمة الحياة الخاصة، بل إن الفقه الشرعي يقيم بعض فروعه على أساس من هذه الحرمة، فلو لم يكن المسكن وحرمته لما كان للحرز معنى، ولما كان للاستئذان أثره في بعض العقبات، وبعد الاستئذان عند بعض الفقهاء دارئا لحد السرقة لتمكن الشبهة في الحرزية، فلا يقطع السارق من امرأة ابنه أو زوج أمه أو امرأة أبيه إذا سرق من المنزل المضاف إليه فلا يلزمه القطع(3)، والضيف إذا سرق من بيت المضيف لا يقطع لأنه مأذون بالدخول في الحرز(4).

والسكن- كما يقول الراغب الأصفهاني- السكون وما يسكن إليه، ومن معانيه الأمن وزوال الرعب والمسكن اسم مكان والجمع مساكن(5) وعنصر الاختصاص ضروري هنا، لأنه سبيل الانفراد والخصوصية، وقد أشار القرطبي(6) إلى ذلك في تفسير قوله تعالى ﴿ يا أيها الذين أمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها… ﴾، يقول: ﴿ لما خص الله ابن آدم الذي كرمه وفضله بالمنازل، وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها أو يلجوها دون إذن أربابها، أدبهم بما يرجع إلى الستر عليهم لئلا يطلع أحد منهم على عورة ﴾.

فالمكان هنا يندمج في الإنسان ليكون شاهدا على تكريمه، ودليلا على ضرورة انفراده بالمنزل الذي يستر العورة ويحجب العيون، ويملك الاستماع به على الانفراد- على حد تعبير القرطبي- وهذا قمة الخصوصية.

وحماية للمسكن ينهي الإسلام عن أمرين:

أولهما: دخول المسكن بغير استئذان.

ثانيهما: التجسس على المسكن بما فيه ومن فيه .

والنهي في قوله تعالى ﴿ لا تدخلوا ﴾ يفرض حكمه على الجميع ولاة وعامة والإذن الوارد في الآية إنما يقول على رضاء صاحب المسكن- مالكا أو مستأجرا أو منتفعا به بإذن دون معارضة- رضاء غير مشوب بعيب، وجاء النقص القرآني بتعبير ((  حتى تستأنسوا )) لإبراز هذا المعنى، فلا يعد إذن ولي الأمر بتفتيش المسكن إذنا في معنى الآية بل هو أمر لا إذن.

فحرمة المسكن إذن- وهو مستودع الحياة الخاصة- تأتي قيدأ على كل من ولي الأمر والأفراد. ويمنع كل ما يؤدي إلى هتك هذا السياج سواء كان اقتحاما  أو تجسسا أو فتح مطلات وفي الجملة كل ما يؤدي إلى كشف المحجوب، فالإذن أمر لازم في مواجهة الجميع (( فلا يجوز دخول بيت شخص إلا بإذنه مالكا كان أو مستأجراً أو مستعيراً، وسواء أكان الباب مغلقاً أو مفتوحاً ))(7).

ومفهوم السكن محل الحماية يتسع فلا يتخصص بالبناء، بل بكل ما يأوى إليه الإنسان على سبيل الاختصاص، سواء كانت الإقامة فيه على سبيل التأقيت أو الديمومة، يشير إلى ذلك قوله تعالى: (( والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ))(8) ، ولهذا قال الفقهاء أن الخيمة في الصحراء كالبيت في البنيان(9)، وهو ما يمكن أن يتحقق فيها ما اشترطه ابن حزم من مواصفات وهى أن يقي شتاء من المطر، وصيفا من الشمش، ودائما من عين المارة(10).

والحماية التي تقررت للخصوصية هنا- مجسدة في المسكن- جنائية ومدنية وتوجب على صاحب المسكن الدفع عن حرمة بيته ولا ضمان عليه في الرأي الراجح عند الأحناف والشافعية والحنابلة وقال به بعض المالكية وسندهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من اطلع في بيت قوم بغير اذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه، ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص ))(11)

أساس الحماية:

فالشريعة الإسلامية إذن تقرر حماية الحياة الخاصة، وتفرض حرمة المسكن فتحظر التفتيش، والتطلع واستراق السمع، وأدلة ذلك في الكتاب والسنة لا تحتاج إلى مزيد فما هو أساس هذه الحماية؟

يرجع أساس هذه الحماية إلى أن من مقاصد الشريعة حفظ المصالح وصيانة الضروريات يقول الجويني (( فأما المساكن فإني أري مسكن الرجل من أظهر ما تمس إليه حاجته، والسكن الذي يؤويه وعيلته وذريته، مما لا غناء عنه… فإذا تقرر الحاق المساكن بالحاجات، بطل النظر إلى الملوك والمستأجر لعموم التحريم ))(12).

ويقول الشاطبي (( تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام أحدها أن تكون ضرورية.. ومعناها أنه لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، الحفظ لها يكون بأمرين أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها من جانب الوجود، والثاني ما يدراً عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها وذلك من جانب العدم… فأصول العادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود، وأيضا تناول المأكولات، والمشروبات، والملبوسات، والمسكونات، وما أشبه ذلك ))(13).

واعتبار المسكن من الضرورات، لا يعني اطلاق يد الإنسان فيه، ذلك أن الحرية في الإسلام (( وضع مقيد موصوف في حدود النصوص والمقاصد الشرعية ))(14).

فالإنسان في نظر الإسلام لم يمنح حرية مطلقة حتى في خاصة نفسه (( فليس له التسليط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف… فالعادات يتعلق بها حق الله من وجهين أحدهما من جهة الوضع الأولى الكلى الداخل تحت الضروريات، والثاني من جهة الوضع التفصيلي الذى يقتضيه العدل بين الخلق وإجراء المصلحة وفق الحكمة الحكمة البالغة ))(15) وتأسيسا على ذلك قال البعض- بحق- إن نظرية التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي تشمل في نطاق تطبيقها الحقوق والحريات العامة على سواء وقد كان الصحابة (( في فقههم وفتاويهم لا يفرقون بين تقييد الحق وتقييد الرخصة إذا أفضى أي منهما إلى الإضرار بالغير من الفرد أو الجماعة كما رأينا في قضاء عمر علي محمد بن مسلمة، وفي أمره بمنع التزوج من الكتابيات، والأول استعمال لحرية التزوج(16) ، وقد حرم الإمام (( القرافي )) التصرف في حق الحياة على وجه يؤدي إلى الهلاك في غير مقصد شرعي كالانتحار، أو التصرف في حق الحياة على وجه لتضييع والعبث(17)، والأول تصرف في حرية عامة، والثاني تصرف في حق الملكية.

ورأينا أن الشمول في نظرية التعسف يمتد إلى غالب النظريات العامة في الفقه الإسلامي مثل نظرية الضرورة الشرعية، ومظرية دفع المحظور بما يحدد نطاق الإباحة والتحريم… وهو ما يترك أثره في مجال الحقوق والواجبات عامة أو خاصة، ذلك لأن طلب الإنسان لحظة حيث أذن له لابد فيه من مراعاة حق الله وحق المخلوقين(18).

وخلاصة القول أن اعتبار المسكن من الضرورات هو أساس حماية الشارع للمسكن بوجه خاص ولحق الخصوصية بوجه عام، لأن حماية المسكن إنما قصد بها حماية الانفراد والخصوصية، لا الملكية التي قرر الشارع لصيانتها حدا في العقاب على السرقة، بالإضافة إلى التعازير وضمان المتلفات، ولو كانت الحماية للملكية لما قررها الفقهاء للمستأجر والمستعير وكلاهما ليس مالكا.(19)

المبحث الثانى

الاحتساب وحرمة الحياة الخاصة

فى معنى الاحتساب:

يميل الفقه الشرعي إلى بحث الحسبة باعتبارها ترادف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما تواتر عليه كثير من الباحثين في القديم والحديث، بل إن البعض قال باعتبار كل الولايات الإسلامية من قبيل الحسبة، وهو ما لا يمكن التسليم به إلا إذا قلنا أن الحسبة هى احتساب الأجر عند الله، وهو أحد معانيها اللغوية ولكنه لا يصلح حدا لها في إطار الدراسة العلمية.

والرأي عندنا أن الاحتساب لا يرادف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما هو أحد تطبيقاته باعتباره أصلا إلهيا عاما، وهذا التحديد للاحتساب يجعلنا نستوعب وظيفته الاجتماعية، وصياغته الفقهية، ولعل في اشتراك الحسبة مع مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السند الشرعي- كتاباً وسنة- ما يبرز الصلة الوثيقة بينهما دون حاجة إلى القول بالترادف، والاحتساب في الإسلام فرض على كل مسلم قادر، وهو نظام لم يفوض ولي الأمر في الأخذ به أو تركه، بل إن مضمونه واجب تأثم الأمة المسلمة بتقاعسها عن القيام به، ولا يلزم لوجوب الحسبة قيام الدولة المسلمة لأن الاحتساب على نوعين:

ولاية الحسبة: ويقوم بها موظف معين من قبل الدولة المسلمة، ولا يوجد إلا معها.

الاحتساب الفردي: ويقوم به المسلمون في كل مجتمع متى تحقق موجبه، وجدت الدولة أو لا، ودون إذن من السلطة في حالة وجود الدولة(20

فالاحتساب إذن واجب شرعي، يحفظ للأمة الإسلامية فاعليتها، وعلى الشريعة الإسلامية علوها، فيوجد بوجود الإسلام والمسلمين، دون ارتباط بالكيان السياسي الذي يحمل اسم الدولة، أو السلطة السياسية وهى ولي الأمر، يقول الجويني: (( لا يتخصص بالأمر بالمعروف الولاة بل ذلك ثابت لآحاد الناس ))(21).

غاية الاحتساب:

يرى البعض في الاحتساب أنه (( الوسيلة العملية للإرادة الشعبية في النظام الإسلامي ))(22) وهو رأي لا يلملم أطراف الاحتساب التي أمرها إلى الولاة والأفراد على سواء، والرأي عندنا أن الاحتساب له غاية أساسية هى المحافظة على ما يسمى في مصطلح الفقه الوضعي بسيادة القانون(23).

يؤكد ذلك ما يراه الشاطبى من أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر (( يرجع إلى  حفظ الجميع- أى كل الضروريات- من جانب العدم ))(24)  وموجب الحسبة هو المحظورات الشرعية متى ظهرت وتتمثل في أمرين: ترك المعروف، وفعل المنكر. وهنا يجب المنع حتى لا يضيع المعروف ولا يقع المنكر على حد تعبير القاضي عبد الجبار(25).

متى يجب الاحتساب:

لا يجب الاحتساب إلا بتوافر شروط في موجبه، أهمها من زواية بحثنا الظهور والحلول، والظهور في مجال الاحتساب ضد الاستتار ومعناه اللغوي البدو، وقد جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته، نقم الحدّ عليه )) وإبداء الصفحة يتعلق بالفعل كما يتعلق بالفاعل، ولا يشترط لقيام الموجب أن يظهر الفعل مع فاعله، فالظهور وصف في الموجب ذاته، ومؤدي هذا أن الظهور يتحقق إذا ظهر المنكر ولو كان مرتكبه غير ظاهر(26).

ولا يتحقق الظهور الموجب للحسبة فيما إذا سمع المحتسب عيارا ناريا أعقبته استغاثة، دون أن يرى من أطلق العيار ولا من استغاث وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل عن الرجل الذي سمع صوت الطبل والمزمار ولا يعرف مكانه فقال وما عليك؟ وقال: ما غاب لا تفتش(27) فالسماع في ذاته مجردا عن المكان والإنسان لا يتحقق به الظهور الموجب للحسبة.

والظهور الموجب للحسبة لا ينفصل عن الحلول فهو في حقيقته يتضمن الحلول وإلا تخلف الموجب، ذلك أن الاحتساب لكل مسلم ويقتضي الفورية يقول ابن نجيم (( لكل مسلم إقامته- أى الاحتساب- حال مباشرة المعصية وأما بعد الفراغ منها فليس ذلك لغير الحاكم ))(28). ويقول العز بن عبد السلام (( إنما وجب النهي عن المنكر على الفور لأن الغرض منه زوال المفسدة والمعصية، وكذلك يجب على الفور الأمر بالمعروف كيلا نتأخر مصلحته عن الوقت الذي وجب فيه ))(29). ولا يتحقق الظهور الموجب للاحتساب بالتوقع بالتوقع ولو كان من أصحاب التهم ذلك (( أن المتعلقين بضبط الأحوال- وهم الولاة- قد يرون ردع أصحاب التهم قبل إلمامهم بالهنات، والسيئات والشرع لا يرخص بذلك ))(30). والحلول بهذا المعنى متفق عليه قال به الأحناف والشافعية والحنابلة وهو ما يقوله المالكية حيث يرون أنه (( إذا لم يطلع على المنكر حتى انقضى فعله، وفات محله فسبيل النظر فيه للقضاة والحكام لأنه من باب الأحكام لا التغيير لفوات دفع المنكر ))(31).

فإذا انتفى الحلول انتفى الظهور الموجب للاحتساب لفوات محله

الظهور ليس هو العلانية

وإذا كانت العلانية تعني لغة الإظهار والجهر والإشهار بما يوحي أنها ترادف الظهور المشترط في موجب الاحتساب، فحقيقة الأمر خلاف ذلك، أن فكرة العلانية(32) تتصل على نحو ما بالقانون في كل فروعه، وفي المجال الجنائي تأتي العلانية في صور عدة، فقد تكون العلانية جريمة، وقد تكون عقوبة، وقد تكون ركنا في الجريمة، وقد تكون ظرفا مشددا، وفي كل الأحوال قد تكون العلانية فكرة قانونية، أو حالة واقعية، والعلانية فكرة أو حالة بشروطها في التشريع العقابى أضيق نطاقا من الظهور، فمن رأى منكرا في مكان خاص فقد تتحقق الظهور المشترط في موجب الحسبة ولم تتحقق العلانية، ومن اغتاب أحدا عند صديق له فقد تحقق الظهور، رغم غياب العلانية، والمكان عاما أو خاصا لا أثر له في الظهور المشترط في موجب الاحتساب، وخصوصية المكان تنفي العلانية في المجال الجنائي، إن العلانية مناطها الإدراك الحسي المباشر، أما الظهور المشترط في موجب الاحتساب فمناطه العلم سواء تم بالمباشرة أو الإخبار أو الاستخبار، وقد اتجه رأي فقهي معاصر إلى القول بأن الظهور لا يتحقق إلا بالإدراك الحسى (33). وهذا الرأي- على الرغم من دقته المنطقية- يكاد يطابق بين العلانية والظهور، وسنده القول بأن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من رأى منكم منكراً فليغيره… )) علق الأمر بالتغيير على                (( رؤية )) المنكر لا على (( العلم ))، وعندنا أن الفعل (( رأي )) في السنة يمثل هذا التعدد، وإن جاء استعماله الغائب بمعنى (( العلم )) ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )) والرؤية هنا بمعنى العلم(34) وأن اتسعت لغيره في عمومها وقد قيل (( لو كان الشرع يقتضى الخصوص واللفظ يقتضي العموم اعتبرنا خصوص الشرع  ))(35).

العلانية لاتؤثر فى الاحتساب

والعلانية في مفهوم القانوني غالبا ما تؤثر في انحسار الحماية، فانتفاء العلانية يترتب عليها انحسار الحماية متى أوجب القانون إشهار بعض التصرفات، وفي المجال الجنائي فان المرأة التي تتجول على الشاطيء برادء البحر، أو في الطريق العام بثوب شفاف أو قصير لايمكن أن تقرض على الآخرين غض البصر عن ما كتشفته من العورة، وفي المفهوم الإسلامي لا تلازم بين العلانية وانحسار الحماية، فأيمار رجل أو امرأة تعري في طريق العام فلا يباح النظر إلى عورته، وفعل الناظر والمتعري كليهما منكر ظاهر يقوم به الاحتساب، بل إن الناظر يفسق عند الجمهور الفقهاء، واستثنيت حالة نصت عليها بعض المذاهب وهى تعمد النظر إلى العورة للشهادة بالزتى (( فإذا شهدوا عند القاضي أنهم تعتمدوا النظر إليه وهو يجامعها ليشهدوا عليه بالزنى فتشهادتهم جائزة لأن النظر لإقامة الحسبة فلا يعتبرون به فسقة(36)، وفي هذه الحالة يشترط لإباحة النظر اكتمال العدد اللازم لإثبات الزتى والراجح عند الشافعية أن من هتك حرمة نفسه له منع من نظر إليه وهو مكشوف العورة(37)، ذلك أن الأمر بالستر اجتمع فيه حق الله وحق العبد.

الظهور والتلبس:

عرضت المادة 30/أ/ح للتلبس بقولها (( تكون الجريمة متلبسا بها حال ارتكابها، أو عقب ارتكابها ببرهة يسيرة، تعتير متلبسا بها إذا تبع المجني عليه مرتكبها، أو تبعته العامة مع الصياح أثر وقعها، أو إذا وحد مرتكبها بعد وقوعها بوقت قريب حاملا آلات أو أسلحة أو أمتعة أو أوراقا يستدل منها على أنه فاعل أو شريك فيها، أو إذا وجدت به في هذا الوقت آثار أو علامات تفيد ذلك )).

أولأ: ما يلاحظ على التلبس في هذا النص هو تحديد حالاته على سبيل الحصر، والظهور المشترط في موجب الاحتساب لا ينحصر.

ثانياً: يلاحظ على هذا النص أنه يحصر (( التلبس )) في الجرائم، وهذا أمر طبيعي لأن المشرع الجنائي يدور مع الجريمة، أما الظهور في مجال الاحتساب فيتعلق بكل المحظورات الشرعية ومفهومها يتسع ليشمل الجرائم وغيرها.

ثالثا: أهم آثار التلبس هى السلطات الممنوحة لمأموري الضبط القضائي، وهى سلطات تمس خصوصية الإنسان وحرياته الفردية، أما الظهور فله أثر شرعي وحيد هو وجوب الاحتساب على الجميع السلطة والفرد.

رابعاً: حالات التلبس التي أوردها النص لا يوجد منها ما يتحرك له المحتسب إلا ما يتعلق بمشاهدة الجريمة حال ارتكابها، أما الحالات الأخرى فيمنع فيها الاحتساب لانتفاء شرط الحلول. وأهم ما ينبغي الإشارة إليه في هذا الصدد، أن ظهور المنكر وبغض النظر عن وسائله يوجب الاحتساب، أما التلبس فإنه لا يصح إلا إذا تمت المشاهدة بطريق مشروع، وعدم المشروعية يترتب عليه بطلان إجراءات التفتيش واقتحام المنازل والقبض، والتلبس في واقع الأمر يقصد به تنحية كثير من الضمانات التي منحت للفرد فى مواجهة السلطة، والحسبة لا تعرف ذلك ولا تستهدفه، والظهور في موجب الاحتساب إنما يفرض واجهات لابد من أدائها قدر المستطاع.

ضرورة استمرار الظهور:

الظهور في موجب الاحتساب شرط ابتداء وشرط بقاء، لأنه عندنا يعني العلم، والعلم متى وجد ينبغي أن يستمر حتى لا يسقط واجب الاحتساب والظهور- وهو العلم- ثابت في حق من تعلق به سواء رئي المنكر بعد ذلك أو احتجب(38).

الظهور والتجسس:

الظهور باعتباره شرطا في موجب الحسبة يقيد المحتسب، ويحدد نطاق الاحتساب، فحرمة الحياة الخاصة تمنع المحتسب من هتكها سواء كان ذلك بغية التطلع المجرد أو بهدف الاحتساب، والتجسس الممنوع لا يتعلق بحرمة المسكن فحسب بل يستوعب حرمة الاتصالات وحرية المرسلات، ومعنى التجسس هو طلب الأمارات المعرفة كما يقول الغزالي(39)، ونصوص القرآن والسنة صريحة في النهى عن التجسس أو طلب الأمارات المعرفة بقصد الاحتساب، وعلى ذلك فقه الصحابة، قال عمر بن الخطاب (( من ملأ عينيه من قاعة بيت قبل أن تؤذن له فقد فسق ))، أما فقه المذاهب الفقهية فقد اجتمع على منع التجسس، يقول المالكية (( ويشترط ظهور المنكر من غير تجسس ولا استراق سمع، ولا استنشاق ريح، ولا بحث عما أخفي بيد أو ثوب أو حانوت فأنه حرام ))(40)، ويقول الغزالى: (( الشافعى )) (( لا ينبغي أن يسترق السمع على دار غيره لسماع صوت الأوتار، ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبروه عما يجرى في داره ))(41)، ويقول ابن الجوزى (( الحنبلي )) (( لا ينبغي له أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع الأوتار، ولا يمس ما قد ستر بثوب ليعرف شكل المزمار ولا يستخبر جيرانه ليخبروه بما جرى ))(42).

ومنع التجسس يشمل نطاق الخصوصية كله ولا يختص المنع بالمسكن، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس يتوعد المسترق السمع (( فمن استمع إلى حديث قوم صب في أذنه الآنك )). وهو الرصاص الخالص المذاب كتابة عن العقاب الأخروى الشديد، وقد قال الأوزاعي (( ويدخل في التجسس سماع قوم وهو له كارهون ))(43) والتجسس الممنوع يستوعب التطلع المباشر والاستخبار صغار أهل الدار عما يقوله الأهل والجيران من كلام، وما يعملون من أعمال ))(44).

هل تسقط الحسبة بالتجسس: لا خلاف- كما سبقت الإشارة- في النصوص الشرعية وفي المذاهب الفقهية على حرمة التجسس حماية للحياة الخاصة، ولا خلاف في منعه سواء قام به الأفراد أو ولي الأمر، ولكن واجب الحسبة لا يسقط بالتجسس حتى بالنسبة لفاعله، لأن الاحتساب واجب والواجبات في الشرع لا تسقط إلا بالأداء، وأثر التجسس على فاعله لا يتعلق بإسقاط حسبته وإنما وإنما ببطلان شهادته لفسقه، وليس كونه فاسقا أو ممن يفعل المنكر يخرجه عن خطاب التغيير لأن طريق الفرضية متغاير (( وحرمة الإقدام على ذلك- أي التجسس- لا تمنع وجوب النهي بعد ذلك ))(45

متى يحل التجسس: لا يعرف التشريع الإسلامي فكرة الإطلاق في الحقوق، ذلك أن الحقوق منح من الشارع رخص في استخدامها دون تعسف أو تجاوز، بداية لاخلاف على أن اتصال الآخرين- خارج الدار- بالمنكر بأي طريقة من طرق العلم يعد ظهوراً يوجب الاحتساب فالخلاف ليس على وجوب الاحتساب وإنما على حل الاقتحام للدار بقصد الاحتساب وإتمام المنع؟ والأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة- على تباين في التفاصيل- يرون الاقتحام(46) فهذا قدر متفق عليه عندهم، بل وفي غير مذاهب أهل السنة، ثم يختلفون في التفاصيل فبعض الفقهاء يشترط لحل الاقتحام خطورة في المحظور بحيث يصل إلى درجة المصلحة التي يفوت تداركها(47)، وبعضهم لا يشترط ذلك(48) ويتجه آخرون ومنهم الأحناف والمالكية إلى التمييز بين والى الحسبة والمحتسب الفرد، فيجيزون الاقتحام للأول ويمنعونه بالنسبة للثاني- وهم هنا يمنعون الاقتحام فحسب لا مطلق الاحتساب لأن ذلك مرهون بموجبه(49)- فإذا سمع الحاكم غناء في بيت إنسان هجم عليه.  وبعض فقهاء المذاهب يفرقون بين من اعتاد الفسق وأنواع الفساد وبين المستور الحال، الأول لا بأس من الهجوم على بيته أما المستور الحال فلا(50).

ثم هم بعد ذلك يختلفون- بعد حل التجسس بوجود محله- هل يجوز أم يجب؟

ووجهة نظري أن الماوردي- وهو على رأس القائلين بالجواز- كان منطقيا مع نظرته الفقهية، فهو لا يرى الاقتحام إلا في حالة الضرورة أي عندما تكون هناك مصحلة يفوت تداركها مثال ذلك من خلا برجل ليقتله، أو امرأة ليفسق بها، أما غيره من القائلين بالوجوب فبعضهم أقامه مثل الماوردي على حالة الضرورة، وقولهم بالوجوب هنا محل نظر، وآخرون أقاموه على أساس الدفاع الشرعي- العام والخاص- فتحتم القول بالوجوب.

ورأينا أن الاقتحام هنا مصدره الدفاع الشرعي لا الضرورة، ولا نفصد بالدفاع هنا دفع الصائل فحسب، بل منع كل محظور، فالاقتحام واجب سواء خلا رجل باخر بقصد القتل أو اختلى رجلا بنفسه بقصد الانتحار، وسواء كانت الخلوة بغير الزوجة بقصد الفسق مطاوعة أو بإكراه، والقول بالوجوب هنا يأتي تابعا لوجوب الاحتساب، فإذا كان الاحتساب واجبا وهو لايتم إلا بدخول المنزل وجب ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجب كوجوبه(51). ومتى ثبت الوجوب فلا نرى انفراد فلا نرى انفراد الولاة بالاحتساب في هذه الحالة بل هو لأحاد والولاة، والقول بغير ذلك معارض لعموم الأدلة من ناحية، ويوقع المكلف في الحرج من ناحية ثانية، حيث يلزمه برفع الأمر إلى الحاكم بينما هو مخير بين الستر والإبلاغ والستر أولى (( فكل ما تقبل فيه شهادة الحسبة مما هو من حدود الله تعالى فالمستحب للشاهد ألا يشهد به لأنه مندوب إلى ستره ))، وإن قيل أن في ذلك معارضة لقوله تعالى في سورة البقرة ﴿ ولا تكتموا الشهادة ﴾ وتقييد المطلق بخير الواحد لا يجوز، فالجواب- كما يقول العيني- أن الآية محمولة على حقوق العباد(52).

وأساس حل الاقتحام هنا ليس ظهور موجب الحسبة وإنما لزوم الاقتحام، فلا يمتد ذلك إلى الدليل المترتب عليه، فالتجسس يوجب الحسبة ويبطل الدليل- والتجسس المبرر والممنوع في ذلك سواء وهو قول عدد من الرعيل الأول من الفقهاء، قال إبراهيم الحربي والشعبي (( لا تجوز، شهادة المختبيء ))(53) وقال المالكية (( إن استراق السمع وطلب التعرف لما عليه الناس ولو أوصله تعرفه إلى دليل من أدلة السوء كنغمات الملاهي، وأصوات السكارى، وانتشار رائحة الخمر فما كان من ذلك على وجه التجسس… يجب تغييره لأنه منكر في نفسه ))(54) فوجوب الحسبة لا يتعدى فيثبت مشروعية الدليل.

هل يكفى الظن لحل الاقتحام والإنكار :

على الرغم من قيام كثير من الأحكام الشرعية على الظن الغالب إلا أن بعض الفقهاء حرصا على حرمة الحياة الخاصة ذهب إلى ضرورة العلم والقطع يقول أبو يعلى الفراء- شيخ الحنابلة في القرن الخامس الهجري- إنكار المنكر لا يجب إلا بعد العلم والقطع بحصول المنكر، فأما إذا ظن وقوعه منه، لم يجب عليه إنكاره خلافا لمن قال يجب إذا غلب على الظن حصول المنكر… لأنه لا يأمن أن يكون الأمر على خلاف ما ظنه فوجب ترك ذلك(55) وهذا يعنى من باب أولى أن الاقتحام والإنكار كلاهما لا يجبا بالتوقع. وإذا كان التجسس يحل متى لزم، فإنه يحرم اقتحام المنازل، وهتك الحياة الخاصة بقصد الوصول إلى المنكرات، فحل الاقتحام هنا لمنع المحظورات لا لكشف المستور، وقد صرح الفقهاء بذلك فقالوا (( ما أخفاه المختفي ولو كان معلنا بالفسق فلا يجوز كشفه لمعرفة حقيقته ما هو؟ ))(56).

وخلاصة القول (( أن الشريعة الإسلامية تحظر تفتيش الشخص والمسكن واستباحة الحياة الخاصة بغرض التحقيق من وقوع الجريمة، وإنما هى تسمح بذلك فحسب إذا قامت القرائن والدلائل على وقوع الجريمة، وهذا الحكم من صميم الشرع ))(57).

الاحتساب والضمان:

الاحتساب إذن- داخل هذه الحدود- يدور مع موجبه في الابتداء والانتهاء، فلا يبدأ قبله ولا يبقى بعده لفوات محله في الحالين، فإذا تجاوز المحتسب حد اللزوم كان مسئولا مسئولية جنائية ومدنية. أما مسئوليته الجنائية فبلا خلاف وقد صرح ابن نجيم من الحنفية بذلك فقال: (( للمحتسب- يقصد الوالي- أن يعزر المعزر إن غزره بعد الفراغ منها ))(58) والتعزير هنا ليس إلا نتيجة لقيام المسئولية الجنائية، ومناط ذلك ما رآه الفقه من شروط في الموجب حتى يجب المنع، ومن اشتراط للترتيب حتى يقبل الدفع، فإذا بدأ بالمنع بعد فوات محله عزر، وكذلك إذا لم يراع الترتيب، فيجب المنع بالأخف، فان أمكن بكلام واستغاثة حرم الضرب أو يضرب بيد حرم سوط، أو بسوط حرم عصا، أو بقطع عضو حرم قتل(59) فالمحتسب مأمور بمنع المحظور بالأهون فالأهون، والأمر بالترتيب هنا للوجوب كما يفهم من كلام الفقهاء إلا إذا انسد الأمر عن الضبط سقط مراعاة الترتيب(60)، وهذا يعني أن حل اقتحام الحياة الخاصة مرهون بتناسب الفعل ومراعاة الترتيب.

أما المسئولية العامة في حالة الاحتساب فلها جانبان:

ضمان متلفات، وضمان تجاوز.

أما ضمان المتلفات فهو يتعلق بمالية الشيء المتلف وتقومه، وأليها يعود اختلاف الرأي في ضمان اتلاف الخمر وكسر أوانيها وكسر آلات اللهو مما تحفل به كتب المذاهب. أما ضمان التجاوز وهو ما يعنينا في نطاق الاحتساب فقد قال الفقهاء (( إن المدافع متى خالف وعدل إلى رتبة مع إمكان الاكتفاء بما دون ضمنه وحرم عليه )). وقال الزيدية من الشيعة (( إن عدل إلى الأشد وهو يندفع بالأخف ضمن(61) والحكم ذاته عند الشيعة الإمامية(62). والضمان يستوعب المسئولية المدنية والجنائية.

تأصيل واجب الاحتساب:

إذا كان الاحتساب على هذا المستوى من الأهمية وتراثه الفقهي- كما وضح- بالغ الثراء والخصوبة فما هو تأصيله النظري؟ لقد طرح الفقهاء- في مجالى الشريعة والقانون- نظريات عدة لتأصيل الدفاع الشرعي- العام والخاص منه- وكلها وضعت تحت المجهر تشريحا ونقدا ومن أحدث ما طرح في الفقه المعاصر نظريتان:               

النظرية الأولى(63): وتؤسس الدفاع الشرعي على فكرة الإباحة الأصلية، ونقدنا الرئيسي لهذه النظرية أنها لاتفسر لنا وجوب الاحتساب.

النظرية الثانية(64) : وتؤسس الدفاع الشرعي وبالتالي الاحتساب على فكرة بطلان العصمة، ونقدنا الرئيسي لهذه النظرية أن بطلان العصمة، ونقدنا الرئيسي لهذه النظرية أن بطلان العصمة حكم والأحكام سبيلها إلى الحكام لا الأفراد، فهي ليست من التغيير الذي يلتزم به المحتسب. والرأي عندنا أن الاحتساب يجد أصله في قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وهى قاعدة عامة تفسر لنا الاحتساب ونطاقه، وتفسر لنا في مجال بحثنا لماذا نطالب المحتسب بالإقدام في حالة ولو ترتب عليها استباحة حرمة الحياة الخاصة، بينما نطالبه في حالة أخرى بالإحجام والتوقف. إن وجوب المنع في مجال الاحتساب يتعلق بكل المحظورات الشرعية. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتساويان في الوجوب، ومنع الصغائر مثل منع الكبائر، والكل مطلوب منعه، فإذا تعددت وجب المنع على الجمع، فإذا قدر على منع المنكرين دفعة واحدة لزمه، وإن قدر على دفع أحدهما دفع الأفسد فالأفسد(65)، وإذا اجتمعت مصلحة ومفسدة، درئت المفسدة لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فكلما كانت مصلحة إنكار المنكر أرجح من مصلحة ترك التجسس وجب، وكلما كانت مفسدة ترك إنكار المنكر أقل من مفسدة التجسس امتنع، وعلى ضوء هذا التأصيل نفهم ما جاء تراثنا الفقهي من الفروع والتفاصيل.

الحمد لله رب العالمين

الهوامش

(1) سورة النمل: الآية 18.

(2) روائي انجليزي شهير له عدد من المؤلفات الروائية في تصوير محنة الإنسان والعدوان على حرماته الشخصية والعامة مثل (( 1984)) أو طغيان السلطة و (( مزرغة الحيوانات )).

(3) السرخسى: المبسوط جـ 9ص 188.

(4) المرجع السابق ص 141.

(5) الراغب الآصفهاني: المفردات تحقيق محمد سيد الكيلاني ص 236، 237.

(6) الجامع لأحكام القرآن. ط دار الكتب تصوير بيروت. جـ 12 ص 212 وما بعدها.

(7) الخطيب الشربيني: مغني المحتاج جـ 4ص 199.

(8) النحل: الآية 80.

(9) الخطيب الشربين: مغني المحتاج. جـ 4ص 198. القرطبي: أحكام القرآن جـ 10ص 153، حيث تمتد الحماية إلى كل المساكن دائمة ومؤقتة فعدم التأقيت ليس صفة في المسكن محل الحماية.

(10) ابن حزم- المحلي- ط بيروت جـ 6ص 156.

(11) الفتاوي الهندية جـ 6ص 89، روضة الطالبين جـ 10ص 197، المغني جـ 10ص 355، شرح منح الجليل جـ 4ص 561. والرأي الراجح عند المالكية وبعض الأحناف يقول بالضمان ودليلهم قوله صلى الله عليه وسلم ( لا يحل دم امرىء يشهد أن إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث نفر النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة.

(12) الجويني: الغبائي. تحقيق د. عبد العظيم الديب- قطر- ط 1400 ص 486، 487 باختصار.

(13) الموافقات: تحقيق عبد الله دراز جـ 2ص 322- 323 مع الاختصار.

(14) د. مصطفى كمال وصفي الإسلام والنظام الإداري. ط 1974، ص 147.

(15) الموافقات. جـ 2.ص 223.

(16) د. فتحي الدريني: نظرية التعسف في استعمال الحق ط 2بيروت 1977 ص 285- 286.

(17) القرافي: الفروق جـ 2ص 140 وما بعدها.

(18) الموافقات: جـ 2ص 188.

(19) الخطيب الشربيني: مغنى المحتاج. جـ 4ص 199.

(20) وقد بدأت ممارسة الاحتساب، ونشأ التفكير الفقهي فيه، منذ عصر الرسالة، فاحتسب الـــرسول، وكلف بعض أصحابه بالاحتساب، وقام الصحابة به خلفاء وولاة وأفرادا، إلا أن التأليف في الحسبة جاء متأخرا، وفي مرحلته الأولى لم يفرد للكتابة عن الاحتساب، بل ورد مختلطا بالمباحث الفقهية، وعلى شكل إشارات في كتب الفقه، ثم جاءت المرحلة الثانية لتقدم دراسات مستقلة عن الاحتساب تؤكد تطوره باعتباره مؤسسة حكومية، وقد أشارت المراجع إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم رحل إلى الرفيق الأعلى وسعيد بن العاص على سوق مكة، وعمر بن الخطاب على سوق المدينة، إلا أن أول إشارة عن الحسبة والمحتسب باللفظ جاءت في أوائل القرن الثاني الهجري فيما كتبه وكيع بن الجراح عن تعيين مهدي بن عبد الرحمن ثم اياس بن معاوية محتسبين في واسط، وعاصم الأحوال محتسبا في الكوفة، وأول كتاب وصلنا مما أفرد عن الحسبة هو كتاب (( أحكام السوق )) للفقيه المالكي يحيي بن عمر، فعنوانه يحمل مسمى الحسبة في المغرب العربي والأندلس إلا أن أواخر القرن الثالث الهجري شهد مؤلفا عن الحسبة عنوانه (( الاحتساب )) كتبه الإمام الزيدي ناصر الحق الأطروش، وأهمية الكتاب تأتي من كونه أول مؤلف مستقل ترد فيه مصطلحات الاحتساب والحسبة والمحتسب.

(21) الجويني: الارشاد، تحقيق محمد يوسف موسى. ط الخانجي ص 368.

(22) د. مصطفى كمال وصفي: النظام الإداري فى الإسلام. ص 117.

(23) د. صلاح الدين الناهي: نصوص قانونية وشرعية. بغداد 1969 ص 183.

(24) الشاطبي: الموافقات. جـ 2ص 9.

(25) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة، تحقيق د. عبد الكريم عثمان. ط أولى ص 741، ويرى جانب كبير من الفقهاء أن المنكر هو موجب الحسبة وقد انتقد أستاذنا الدكتور عوض محمد- بحق- هذا الرأي وانتهى إلى أن موجب الحسبة هو المفسدة عموما وقسمها بالنسبة إلى مصدرها ألى منكرات ونوازل، والرأي عندنا أن موجب الحسبة هو ترك المعروف، وفعل المنكر وكلاهما محظورات شرعية- راجع د. عوض محمد موجب الحسبة- بحث مخطوط ص 3، 4.

(26) د. عبد الفتاح الصيفي: شرط الظهور الموجب للحسبة- مجلة (( هذه سبيلي )) الرياض عدد 3ص 254، د. عوض محمد المرجع السابق ص29.

(27) أبو بكر الخلال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحقيق عبد القادر عطا، ط1، 1975 ص115، وعكس هذا الرأي راجع أستاذنا الدكتور عبد الفتاح الصيفي: شرط الظهور الموجب للحسبة، المرجع السابق ص254، وقد ضرب لرأيه المثال المذكور بالمتن.

(28) ابن نجيم: البحر الرائق جـ5 ص42.

(29) العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام، ط دار الجيل جـ 1ص 250.

(30) الجوينى: غياث الأمم، ص 229، قارن الغزالي إحياء علوم الدين جـ2. ص 2843.

(31) أبو عبد الله التلمساني: تحفة الناظر وغنية الذاكر، تحقيق على الشنوفي ص19.

(32) د. محيى الدين عوض: العلانية في قانون العقوبات، رسالة حقوق القاهرة 1955.

(33) وهو رأي أستاذنا الدكتور عوض محمد فى بحثه القيم عن موجب الحسبة. راجع ص32.

(34) خاصة وأن اللمس والشم والذوق كما يقول الجويني عبارة عن الاتصالات وليست هى الإدراكات، راجع الإرشاد- ص 185، 186.

(35) الحموي: غمز عيون البصائر. جـ1ص 204 والعبارة وردت أصلا في الأشباه والنظائر لابن نجيم.

(36) الصدر الشهيد: شرح أدب القاضي للخصاف. تحقيق د. هلال سرحان. جـ 4ص 242.

(37) أبو زكريا الانصاري: أسنى المطالب جـ 4 ص 169.

(38) قارن أستاذنا د. عوض محمد (( موجب الحسبة )) حيث يرى أن الظهور شرط لوجوب الحسبة لا لاستمرار وجوبها، ولكنه ينتهى إلى رأي قريب من الرأي المذكور في المتن عندما يقرر أن طروء الاحتجاب لا ينافي الظهور، لأن احتجاب المنكر بعد ظهوره لا يعني زواله، ولا ينفي استمرار العلم بوجوده، فإن شرط الظهور يظل متحققا بحكم الاستصحاب بالنسبة لمن رأى المنكر رغم طروء الاحتجاب.

(39) إحياء علوم الدين جـ 2 من 286.

(40) الخرشي على مختصر خليل، جـ ص 110.

(41) الغزالي: إحياء علوم الدين. جـ، ص 374، وأيضا ابن حزم (( الفصل )) جـ، ص 174، أبو يعلى الفراء  (( المعتمد في أصول الدين )) ص 196- 197.

(42) المقدسي: الآب الشرعية والمنح المرعية. ط1، 1349، جـ 1ص 320.

(43) القاسمى: محاسن التأويل جـ5 ص 121.

(44) الصناعي: سبل السلام. جـ4 ص 199.

(45) حاشية العدوى: على هامش الخرشى: جـ3 ص11.

)46) ابن نجيم: الرسائل. ص 128- 130، الماوردي: الأحكام السلطانية. ص 202، الغزالي: إحياء علوم الدين. جـ 2ص 324، أبو عبد الله التلمساني: غنية الذاكر. ص 20، 21، المقدسي: الآداب الشرعية، ص 320 جـ1.

(47) الماوردي: الأحكام السلطانية. ص 253.

(48) الغزالي: احياء علوم الدين ص 324، المقدسي: ص 320. الأداب الشرعية.

(49) أبو عبد الله التلمساني- غنية الذاكرة. ص 20.

(50) ابن نجيم: الرسائل ص 129- 130.

(51) الشوكاني: السيل الجرار. جـ 4ص 590 وما بعدها.

(52) ابن أبي الدم: أدب القضاء. تحقيق هلال سرحان. جـ 2ص 103.

(53) البناية شرح الهداية: المجلد السابع. ص 121- 122.

(54) السمناني: روضة القضاء، جـ 1ص 205، قارن الخطيب الشربيني، مغني المحتاج. جـ 4ص 196.

(55) المعتمد في أصول الدين- ص 197.

(56) غنية الذاكر. ص 20.

(57) د. عوض محمد: دراسات في الفقه الجنائي الإسلامي ط. 2ص 123.

(58) ابن نجيم: البحر الرائق، جـ 5ص 42.

(59) الخطيب الشربيني: مغنى المحتاج. جـ 4 ص 196.

(60) أبو زكريا الأرنصاري: أسنى المطالب. جـ 4ص 167.

(61) أحمد قاسم: التاج المذهب. جـ 4ص 315.

(62) المحقق الحلي: شرائع الإسلام. جـ 4ص 190. والذي يتأمل نص أهل السنة ونص الزيدية يرى اهتمام أهل السنة بإبراز البعد الديني في النص على التحريم الذي يصبح به المحتسب آثما قضاء وديانة بينما اكتفى الزيدية بالضمان أي بالإثم قضاء.

(63) د. داود سليمان العطار: تجاوز الدفاع الشرعي، رسالة حقوق القاهرة 1977، مطبوعة على الآلة الكاتبة ص 26. حيث طرح هذه النظرية بديلا عن النظريات المنتقدة.

(64) د. محمد سيد عبد التواب: الدفاع الشرعي في الفقه الإسلامي، رسالة ط 1سنة 1983. ص 133. وقد طرح فيها هذه النظرية.

(65) العز بن عبد السلام: قواعد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر