أبحاث

الأدب – أسسه وطرق تدريسه

العدد 15

تعريف:

الأدب لون من ألوان النشاط الإنساني، وليس هناك نشاط إنساني حيادي فقد يكون النشاط خيراً أو شراً أو مزيجاً من الاثنين، بل إن ما هو خير يكون خيراً لأن الخير غالب عليه فقط، وما هو شر يكون الشر غالباً عليه فحسب، فلا يمكن لعمل إنساني أن يكون خيراً مجرداً أو شراً مجرداً لأن الله وحده هو الذي يفعل الخير

المحض والشيطان وحده هو الذي يفعل الشر المحض. والسؤال الذي يواجهنا: هل الأدب خير؟ وإذا لم يكن كذلك فإن علينا ألا ندرسه. وإذا كان خيراً فإن علينا أن نحدد لماذا هو خير؟ ويعني هذا أن علينا أن نعرف الأدب بعبارات محددة وأن نبين وظيفته.

 

الأدب هو ضرب من ضروب الكتابة يبتكره الإنسان بمساعدة اللغة ليستمتع باكتشافه لخبرات الحياة، وميزته الأساسية أنه خيالي. فالكاتب يبتكر صورة من صور الحياة ليودع فيها طريقة فهمه للحياة التي استمدها من خبرته. بينما العلم واقعي لأنه يدرس الحقائق ويستخلص النتائج من المعلومات التي تزوده بها الحقائق. والكاتب يستجيب لحقائق الحياة ويقدم للقراء فهمه الحدسي للحقيقة. وهكذا فإن الحقيقة تقدم لنا في الأدب وقد زينت بثوب من الجمال ويقصد الكاتب أن يقودنا إلى معرفة طريقة فهمه لمعنى الوجود. وهذه الصورة الجميلة خيالية وليست واقعية. والشعر والرواية والمسرحية هي صيغ التعبير عن تلك الصورة التي لاقت أوسع مدى من القبول حتى الآن.

الأدب كنوع من أنواع المعرفة:

إن الأدب إذن هو نوع من أنواع المعرفة، وهذه المعرفة جزئية إلا أنها مخلصة وأصيلة. هي جزئية لأ،ها تعرض خبرة شخص واحد في فهمه للحقيقة، ولا يمكن للفرد الواحد أن تكون معرفته بالحقيقة كاملة. فالله وحده هو الذي يعرف الحق كله. غير أن خبرة الإنسانية متوسعة باضطراد وبالتالي فإن المعرفة تتقدم كذلك وتتسع. واتساع المعرفة هذا يعني ولادة النفس من جديد في كل مرة لأن معرفة أي شيء خارج النفس يؤدي إلى جعل ذلك الشيء جزءاً من النفس. وهذا الفهم للنفس هو الذي يجعل الإنسان يدرك علاقته بالله وبالطبيعة وبالعالم ككل. وهذه النفس فيها جوهر الإنسان، الجوهر الذي قال عنه الله تعالى: “ونفخت فيه من روحي”. وتلك المعرفة قد أعطيت لآدم عليه السلام حينما علمه الله (الأسماء كلها) وأسماء الأشياء تعني في الحقيقة (جوهر كل شيء) وجوهر كل شيء بدوره هو إظهار لصفات الله ذاته. وهكذا فإن صفات الله كلها قد أودعت في نفس آدم وأصبح آدم خليفة الله بكونه تمثل كل صفات الله التي تعبر عنها أسماؤه. وهكذا فإن أعلى درجات الوعي النفسي هو وعي تلك الصفات ووعي كل المعاني المتصلة بتلك الحقيقة الكبرى المتمثلة في الله نفسه. ومن هذه الوجهة بالذات يكون الكون آية الله.

ولكن إدراك تلك الحقيقة لا يصل إليها الفرد بسهولة وذلك بسبب الطبيعة التي أودعها الله تعالى في الإنسان. فالله قد خلق الإنسان في أحسن تقويم ونفخ فيه من روحه غير أنه من جهة أخرى اختار الإنسان أن يعيش في عالم المادة وأعطاه نفساً أمارة تغريه لينزلق إلى أسفل سافلين، ولم يمنع الله تعالى الشيطان وهو عنوان الشر من أن يغري الإنسان ويضله عن سبيل الحق. وهكذا فإن الإنسان في صراع دائم مع قوى تعتمل داخله وقوى تحيط به. وهكذا فإن منهج الحق الذي يوحيه الله تعالى للإنسان عن طريق رسله المختارين (عليهم السلام) يستجيب له الإنسان بسبب الجوهر الإلهي في داخله، وفي الوقت ذاته فإن منهج الأنانية الذي تغريه قوى في داخله وقوى في خارجه لقبوله في سبيل نفع مؤقت في هذا العالم يخلق الصراع في داخل عقله. وإن حالة الصراع هذه هي التي تستجلب انتباه الكاتب. والخيال هو القدرة التي يمثلها الإنسان ويستطيع بها أن يدرك العلاقات ما بين الخبرات المختلفة والتصورات المختلفة. والخيال يعين الفرد كذلك على إحداث التركيب بين تصوراته بحيث يمكنه من إبصار الوحدة التي تكمن خلف أجزاء الكون المقسمة المتباعدة، فحواس الإنسان المختلفة تنتقل إلى عقله صوراً مختلفة حينما يرى أو يحس شيئاً، كالطاولة مثلاً. ولكنه يستطيع أن يفكر في الطاولة كوحدة لأن خياله تصوراً عن شيء موحد. وفكرة الوحدة هذه تعود في النهاية إلى مفهوم التوحيد الذي يتهيأ للفرد أن يدركه بفضل روح الله التي نفخها فيه. والخيال الشعري هو القدرة الإبداعية التي تعين الإنسان أن يتجاوز التقيد بالزمان والمكان اللذين تفرضهما الذاكرة على الإنسان من خلال صفوف الخبرات التي يتلقاها، ويساعد الخيال الشعري الفرد على إبداع عالم جديد من عالم خبراته يعطي من خلاله لقرائه صورة جميلة يعبر بها عن رؤيته للحقيقة.

وبعبارة أخرى فإن الخيال هو الموهبة المستقرة في نفس الإنسان والتي تنشئ صلة بين الروح والنفس وبالتالي بين الحقيقة الروحية والعالم المادي. فالخيال يمد الشاعر بالقدرة على إعادة توحيد صور الحواس واستنباطات الذهن ومدركات الروح ليجعل منها كلاً جديداً، وبذلك يعرض الصورة التي توصل إليها في أشكال وألوان متنوعة.

وعلى هذا فإن الخيال ينبغي اعتباره عامل توحيد. ولا بد من قبول هذه الحقيقة ذهنياً قبل أن يستطيع الناقد أن يستنبط الأسس النقدية التي يقوم على أساسها الأدب ويبين أي الأعمال الأدبية عظيم وله قيمة، ويبين الجيد منها والرديء.

والمشكلة التي تواجه كتاب القرن العشرين هي مشكلة فقدان الثقة بأي شيء روحي والإنسان يعيش اليوم ممزقاً، وهذا ما جعل بعض كبار الكتاب يسعون لإعادة التماسك للإنسان بصياغة القيم التي يعيش من أجلها وبتصوير طبيعته في سياق جديد. وهذا ما يحاول فعله (ازراباوند) و (يبتس) و (دي اتش لورنس). ولكن الصعوبة مع هؤلاء الكتاب أن كتاباتهم موجهة إلى فئة محدودة وفي أنهم لم يشعروا أن عملهم لا يزيد على كونه إيجاد قيم منوعة غير متماسكة. وإن إدراكهم لبعض الحقيقة افسده تأكيدهم أنهم قد كشفوا الحقيقة كلها. ولا ريب أن أولئك الذين لم يصلوا إلى عقيدة راسخة بالحقيقة الإلهية يمكنهم أن يبدعوا أدباً جديداً على شرط أن يتقبلوا الصراع الأصيل بين الخير والشر الذي يعرضه الدين. وهذا الإطار الأخلاقي للقيم هو الذي يمد مختلف الكتاب. وإن أصالة وصدق إدراك الكاتب يعتمدان على تقبله لذلك الإطار. ويبدأ ذلك التقبل دوماً من العادات الذهنية أو الاجتماعية للكاتب. فالكاتب يزداد فهمه لأهمية ذلك الإطار وتفاعله معه وجعله جزءاً من نفسه نتيجة للضغط والتوتر اللذين تفرضهما عليه الحياة كلما اضطر إلى اتخاذ قرار أو اختيار أمر من الأمور.

وهكذا فإن الكاتب كلما ازداد نضوجاً ينضج في نفسه كذلك فهمه لمعيار الأخلاق. والكاتب العظيم يمتلك النظرة الإنسانية التي تمكنه من إدراك الاحتمالات والاختيارات المتنوعة وإمكانية تعديل المفاهيم ومقاييس الإدراك. فكل لحظة بالنسبة له هي بداية جديدة. ولكن تلك البداية لا تعني التقدم والنجاح والتوسع إلا حينما يكون لدى الكاتب هدف نهائي وإطار جامع. وإلا فقد يدور الكاتب ويدور بدون أي هدف. والإسلام يمدنا بهدف نهائي للإنسان، ولم تعرف الإنسانية هدفاً أعظم وأسمى من هذا الهدف. ويستطيع الكاتب إذا وضع ذلك الهدف نصب عينيه وأدرك النظام الخلقي الذي يعين الإنسان على أن يزداد خبرة ونضوجاً يستطيع أن يتقدم نحو غاية جديدة وإنجازات جديدة في كل مرة.

مبادئ النقد وطرق التدريس:

يوفر الأدب أفضل مجال لتدريب أحاسيس الناس، ولهذا فإن تدريس الأدب يمكن أن يجعل منه وسيلة فعالة كي يدرك الطلاب عالمية وأزلية بعض القيم يرجع إليها الكتاب في دراستهم للإنسان والتي يعبرون على أساسها عن فهمهم العميق للحياة. وإن الشعور بالحقيقة وإدراكها هو في الغالب مسألة شخصية. وعظمة الأدب تكمن في حقيقة أن الأديب يتجاوز الحدود الشخصية حينما يعرض أمراً ذا قيمة عالمية. وبعبارة أخرى، فمع أن إدراكه شخصي في حد ذاته إلا نه يجعل من ذاته جسراً لتجاوز البيئة الاجتماعية والثقافية ولتجاوز الحدود الشخصية إلى ذلك المجال الذي يمكن أن يعتبر عالمياً ومطلقاً. وحتى حينما يكون الكاتب نفسه معتقداً بدين أو مبدأ ما فإن عليه أن يدرك أن ذلك المبدأ أو المعتقد ينبغي أن يعتبر حقيقة مكتسبة بالمعاناة ويشعر بها عن طريق ما يحسه في قلبه من معاناتها. وحينئذ فقط يمكن أن يصبح المبدأ قواماً للشعر. فالشعر الديني لا يمكن أن يصبح شعراً حقيقياً حينما يصبح الدين إدراكاً، وحينما تستطيع نفس المشاعر أن تنتقل إلى وعي جديد بعد أن تغوص في أعماق أزلية المطلق. وهنا يمكن للشعر الديني العظيم أن يبرز إلى الوجود. ومن الممكن كذلك أن يصبح الإطار الديني وسيلة لمعاناة الحياة وتكييف مواقف الفرد من حقائق الوجود. وبما أن الإسلام يمد أتباعه بمثل هذا الإطار فإنه يمكن ذلك الإدراك والموقف المستمد من الدين أن يجدا القبول لدى المجتمع. ولكن المشكلة تبرز حينما ينفصل المجتمع عن الأساس الديني وبهذا يفقد لا شعور الفرد موافقته الضمنية على الإطار الديني. وكذلك يشعر الكاتب بضعف ذلك التوافق بينه وبين قارئه ويبدأ بالبحث في خبراته عن أرضية مشتركة يخاطب بها القارئ بأسلوبه الأدبي. ويستطيع الكاتب أن يستمد بسهولة من الخبرات التقليدية ويستخدم الرمزية الكامنة في الصور المشاعة بين الناس، وهي ما يطلق عليها بونغ “النموذج الأولي”.

غير أن انفكاك الشعور الاجتماعي ينجم عنه ضعف الرابطة الروحية وتغيير الضمير الاجتماعي باستمرار يتعارض مع وجود إرث أصلي تاريخي. وهذا التعارض هو الذي يدفع بالكاتب أو القارئ ليجدا اليقين والأمان والخلود في نفسيهما أو يجبر الكاتب أن يصوغ آراءه وأفكاره في إطار شخصي محدود. وهذه مشكلة الكتاب الغربيين. بينما هذه المشكلة لم تبرز تماماً في العالم الإسلامي. فمع أن القوى العلمانية تزداد سيطرتها على السلطة بالتدريج في أرجاء مختلفة من العالم الإسلامي، ومع أن الشقة بين القوى العلمانية والقوى الدينية قد أدت في بعض البلاد مثل تركيا وأندونيسيا وبنغلاديش إلى الصراع المكشوف، ومع أن هناك في كل بلد إسلامية مجموعة غير قليلة قد ربيت حسب نظام التعليم الغربي اللاديني فإنه لا يزال بالإمكان تعليم الأدب بالاستناد إلى نهج أساسي من القيم المستمدة من الدين وغايتنا في هذا البحث هي طريقة الاستفادة من هذا النهج.

لكي نعلم الأدب كأدب من جهة وكوسيلة للتربية الأخلاقية والروحية من جهة أخرى نحتاج أولاً إلى منهج للنقد الأدبي تكون مبادئه متوافقة توافقاً مع مفهوم الإسلام للإنسان. ولا يستطيع كاتب أن يكتب إلا أن يكون لديه مفهوم ما عن الإنسان سواء أشعر بهذا أم لم يشعر. وحينما يحاول الكاتب أن له فكرته الخاصة عن الإنسان تبرز صعوبة التوافق مع المثل الدينية لأن إدراكه الخاص سيكون شخصياً بالتأكيد، وسيكون بالتالي محدوداً. وهذا هو السبب في ضرورة أن يكون لدى النقاد مفهوم واضح عن الخير والشر. وليس هناك أساساً صعوبة في تحديد ذلك المفهوم وذلك يعود بالدرجة الأولى إلى أن هناك اتفاقاً عالمياً على مبادئ معينة يمكن على أساسها الحكم على الإنسان. وقد أكد الإسلام أن الدين الحق واحد ولذا فإن هناك بالتالي نطاقاً عالمياً واحداً للأخلاق والخير والشر. وبما أن الأدب يتعلق بالدرجة الأولى بالحياة الإنسانية في هذا العالم فإن واجب النقاد أن يدرسوا ذلك النظام العالمي ويجعلوا الطلاب يدركون ما هو الأدب الجيد وما هو الأدب السيء.

وتبرز المشكلة حينما يحاول الكاتب فرض معتقده، فحينما يتحدث الكاتب حول الحب والعطف وبذل المعروف والرحمة وتعارضها مع المؤثرات الأخرى كما يظهر هذا التعارض في ظروف إنسانية فهو يتحدث حول أشياء ذات علاقة بكل الناس وفي كل الأعمال. ولكن حينما يحاول صياغة مبدأ على أساس خبرته فهو معرض للخلاف مع أفكار الناس الآخرين. وهو بذلك يتجاوز مجال الأدب المحض إلى مجال الفكر الفلسفي. ولنأخذ على سبيل المثال حالة (دي. اتش. لورنس). فطريقة عرضه للشخصيات الإنسانية وبعض المواقف الإنسانية فيه بعض الأصالة الطبيعية، ولكن الطريقة التي عرضها بها، والأسلوب الذي يثير به عواطف القراء ويطلب موافقتهم على نظام للحياة يكون للجنس فيه الدور الأول في التحكم والتأثير في الحياة يجعلان من الصعب بالنسبة للقارئ ذي الاتجاه الديني أن يتقبل تفسيره للحياة على أنه صحيح ومقبول. فكل ما أداه في عمله يتلخص في أنه جعل مفهومه الشخصي ينطبق على كل الناس. ونظام الحياة كما يفهمه ليس خاطئاً كل الخطأ، غير أنه متميز تماماً، وكونه متميزاً يجعله في شكل معتقد. فهذا الكاتب يصوغ أفكاره في نظريات، ولهذا يحق للناقد المسلم أن يبين للطلاب المسلمين كيف أن تصوره متميز تماماً وبالتالي أن معتقده حول الجنس ليس له تبرير كاف. لكن هناك خطراً في مثل هذا النقد أن ينقلب إلى معتقد بحد ذاته وإنما يمكن الوقاية من مثل هذا الخطر بتقييد النقد الأدبي ضمن حدود السياق الأدبي فيما يتعلق بتصوير الحياة الإنسانية والحوادث المعروضة.

ويمكننا الآن أن نختار مثالاً آخر من كاتب أعظم بكثير وهو شكسبير. فإذا نظرنا في مسرحيته “روميو وجولييت” نلاحظ حالاً أن شكسبير يعرض صراعاً بين الخير والشر ولكنه يتجنب فرض معتقده بأن يعرض الحب على أنه مصدر ابداع وتخريب في نفس الوقت. فالحادث الأخير من حوادث المسرحية وهو قتل روميو لنفسه بشرب السم وانتحار جولييت، يبدو من الواضح فيه –من طريقة العرض- أن المقصود هو إثارة تعاطفنا ونحن لا نصدر حكمنا ضد روميو وجولييت على أنهما مذنبان وإن كانا قد أقدما على الانتحار. ونحن من الجهة الأخرى نشعر شعوراً لا ريب فيه أن روميو وجولييت قد أثبتا فوزاً عظيماً بانتصارهما على الأنانية الشخصية من خلال الحب. فهل هذا الموقف الذي يقفه شكسبير من هذين العاشقين معارض للدين؟ كان من الممكن أن يعتبر موقفه معارضاً للدين لو أن شكسبير استثار في أذهان مشاهديه اعجاباً بفكرة الانتحار، غير أنه لا يفعل ذلك. كما أنه يعرض الحادثة على أنها ازهاق حياة شاب وشابة بسبب قوى خارجة عن إرادتهما، فالحب الذي ينبغي أن يكون مصدراً للابداع ومنح السعادة أدى عدم اشباعه إلى الأزمة والكارثة. فالصورة التي يعرضها شكسبير متوافقة توافقاً كبيراً مع النظرة الدينية.

وحتى إذا اخترنا مسرحية أكثر تعقيداً أي (انتوني وكليوباترا) فإننا نلاحظ أن شكسبير في هذه المسرحية أيضاً ليس مناوئاً للدين بصورة أساسية كما حاول (ويمسات) أن يبرهن. صحيح أن شكسبير عرض ما يمكن اعتباره عشقاً منحرفاً حراماً على أنه مصدر للمجد والشرف للمحب والمحبوب كليهما. ولكن حتى حينما يبدو أن كيلوباترا خرجت عن حدود الأنانية وترقت إلى درجة العاشقة النبيلة فإن القارئ يبقى شاعراً بأنه لا كليوباترا ولا أنتوني يحبا حباً صادفياً. بل يبدو كأن هناك صراعاً كالذي يعرضه هيجل بين الحق والباطل بين الواجب والحب. كما أن شكسبير يعرض هذا الحب على أنه قوة محطمة وليس طاقة تمنح المجد والقوة لنفس أنتوني أو كيلوباترا. فهزيمة أنتوني في المعركة قد عرضت بشكل يجعل القارئ أو المشاهد يصدران حكمهما ضد انتوني وكليوباترا كليهما لطيشهما. ولا يشعر القارئ أو المشاهد لحظة أن بذل انتوني لشرفه في سبيل انقاذ حياته هو أمر يستحق الثناء. ومن جهة أخرى فإن الشعور الذي يستثيره شكسبير هو الشعور بالضياع المأساوي، فكليوباترا لا تعرض مطلقاً بصورة العاشقة التي تجردت عن أنانيتها فحبها لأنتوني يختلط به دوماً أنانية شديدة. فحينما يدرس الأستاذ مسرحية أنتوني وكليوباترا لا يحتاج إلى نقد الصراع بين الخير والشر في هذه المسرحية اعتماداً على معتقده الديني، حيث أن الحالة الإنسانية المعروضة فيها متوافقة مع الشعور الديني، فالشعور الذي تثيره هو الضياع المأساوي المؤلم لقدرات الإنسان بسبب صورة من صور الحب لم تتجاوز حدود الأنانية.

فمن الممكن إذن تعلم كل أنواع الأدب دون التجني على المواقف الدينية أو معارضتها على شرط أن يبين المعلم لطلابه ما إذا كان الكاتب مقيداً أو غير مقيد ضمن الحدود الإنسانية العادية وما إذا كانت القيم التي يقررها مقيدة بفئة محدودة أو غير محدودة وشخصية أم لا وأنه يحاول أو لا يحاول فرض معتقده. والذي اعتقده أن للمعلم الحق في أن يقنع طلابه أن الأدب لا يحكم عليه بالاخفاق حينما يتجاوز الكاتب الحدود السليمة الطبيعية لمعنى الحقيقة التي تتبين من خلال الحياة إلى عالم الفلسفة والمعتقد حيث يستخدم الأدب كمجال لطرح فلسفة وطريقة للحياة قد لا يقبلها المتدين. وأنا أشعر شعوراً قوياً أن للناقد الأدبي الحق في تطبيق مفهومه الخاص للنقد الأدبي لأن الأديب ينشر فلسفة خاصة للحياة قد لا أتفق معه بخصوصها بسبب عقيدتي الدينية. وقد أجاري الكاتب وأؤجل معارضتي لأتمكن من تفهم الحالات الإنسانية التي يعرضها، غير أني حينما أرى أنه يعرض حالة منحرفة انحرافاً بالغاً وأرى الكاتب يمتدحها أو يعرضها في ثوب جذاب فإن علي في هذه الحالة أن أنقدها من وجهة نظر تتعدى النقد الأدبي إلى مجال الفكر.

والسؤال الذي يواجه الأستاذ هو إلى أي حد يستطيع أن يمضي في نقده؟؟ وما إذا كان عرضه لتلك الحالات يجعله في موقف من يستخدم معتقده لنقد الأدب؟ وهنا يبرز سؤال استقلال الأدب الاستقلال الكامل. فهل الأدب هو مجال ينبغي أن يعالج على أنه خارج عن كل مقاييس الأنظمة الأخلاقية والاجتماعية في الحياة؟ وهل إدراكه للحقيقة شيء مقدس إلى حد أن كل الحقائق الأخرى ينبغي أن تنسى وينبغي أن يهمل نظام الحياة ويتجاوز عن أحكام القيم حتى يستطيع القارئ أن يتذوقه؟ إنني شخصياً لا أوافق على هذه النظرة إلى الأدب. فإذا كان علينا أن نمنح الأدب الاستقلال الكامل، الاستقلال عن كل القوانين الاجتماعية والأخلاقية والروحية فإن علينا أن نمنح نفس الاستقلال للعلوم الطبيعية والاجتماعية ولكل فروع المعرفة الإنسانية. وحينئذ يصبح كل فرع من فروع المعرفة الإنسانية عالماً مستقلاً منفصلاً عن غيره بحيث لا يبقى هناك أي اتصال وثيق بين هذه الفروع ووحدة ترابطها والقبول بهذا الانفصال يؤدي إلى تمزق الشخصية الإنسانية كما حدث في الغرب. أما المفهوم الإسلامي للإنسان كما يعرضه لنا القرآن والسنة فهو صورة لشخصية متكاملة تحكمها قوانين فائقة، فائقة بمعنى أن القوانين ونظام الحياة تعتمد على قيم مطلقة وعلى هذا فإن إدراك الأفراد أو العلماء لجزء من هذه القيم في أي زمن من الأزمان لا يمكن أن يصل إلى حد الكمال أو التمام. والثقافة البشرية مرتبطة ارتباطاً محكماً بهذه القيم المطلقة ولكن التأكيد على بعض القيم في أي فترة من الفترات يرجع إلى تغير البيئة. وهذا التغير في البيئة يرجع بدوره إلى تطبيق الإنسان لما حصل عليه من المعرفة على الحياة. وهي عملية بدأت منذ آدم وحواء وسوف تستمر إلى أن تنتهي حياة الإنسان على الأرض. فالإنسان يبتكر دوماً وسائل جديدة لتطوير الحضارة وهذه الوسائل تغير البيئة الاجتماعية للأفراد والجماعات. وعظمة الأدب تكمن في قدرته على تجاوز البيئة المتغيرة إلى قضية الحياة الأصلية التي تتصل بالأمور المطلقة التي تشكل الأعراف الأولية للإنسان. وحينما يستطيع الكاتب أن يتخطى المظاهر للظروف ويفهم القضية الإنسانية أو بالأحرى قضية تمسك الإنسان بالقيم الأساسية في سياق الأحوال المتغيرة فهو بذلك قد وصل إلى الحقيقة التي تجعل صوته يصل إلى الأجيال التالية وهذه القدرة هي التي مكنت (اسكيلاس) و (سوفوكليس) و (هومر) و الفردوسي (وكتاب مسرحية نوه في اليابان) أن يعرضوا حالات نستطيع نحن في القرن العشرين أن نتذوقها ونتأثر بها.

فمدرس الأدب إذن يجب أن يقوم بدور الناقد. فعليه أن يقيس عمق الكتابات بحسب قدرة الكاتب على تجاوز الأشياء الظاهرة والظروف الاجتماعية والفردية والنفاذ إلى عالم الحقيقة إن على الكاتب أن يبصر ما وراء النزعات الفردية والمعتقدات المحدودة والفلسفات الضيقة ويرى حقيقة الإنسانية المجردة. ولا يستطيع كاتب أن يحوز المعرفة الكاملة وبالتالي فليس لناقد أن يدعي تلك المعرفة لأي أديب، كما أنه لا حق للكاتب في أن يطلب من القارئ أياً كان أن يقبل بمعتقده أو فلسفته. ووظيفة المدرس كناقد أن ينظر إلى أي حد تؤثر المعتقدات الخاصة بفئة ما أو الفلسفات المحدودة في طريقة تفكير الكاتب، وإلى أي حد يسيطر على تفاعل الكاتب العاطفي مع الحالات الإنسانية عاداته وتقاليده اليومية وإلى مدى استطاع الكاتب أن يركز نظره على قضية الإنسانية الأساسية العالمية وهي قضية تحيط بها زيادات اجتماعية ثقافية تسترها عن العيون أو قد يكون لها مظهر خاص وتعقيد ناجم عن الظروف الاجتماعية الثقافية المعاصرة.

ولا يستطيع الناقد (أو المدرس) أن يحقق ذلك إلا حينما تكون له نفس حساسة ويكون مدركاً للإنسانية الحقة. والإسلام يقوم بتعليم الناقد هذا المعنى من خلال نظام الحياة الذي يحتويه. ولكن لا يمكن لتلك النظرة إلى الإنسان وما يحيط بها من قضايا أن تصبح مسألة اكتشاف لذات الفرد حتى يمارسها ممارسة فعلية. ولذلك فإن المسلم الملتزم وحده هو الذي يملك تلك النفس الكبيرة الرحيمة التي تدرك حدود الإنسان ودوافعه الدنيا وتدرك عظمته كذلك. وما لم يكن للمدرس تلك النظرة الواسعة وعمق الإدراك والمثل الأعلى في النبل الإنساني والعظمة الكامنة في مفهوم الإنسان على أنه خليفة الله فلا يمكن أن يصبح ناقداً جيداً، ولا تكون قدرته على الإدراك نامية إلى حد تمييز الخبرات التي تمر عليه في الأدب. فالأدب يعرض الحياة كما فهمها ومارسها كتاب أفراد، وعلى هذا فلا يمكن اعتباره شيئاً مستقلا ًتماماً أو حتى خارجاً عن فهمنا لكلمة “الإنسانية”. وبما أن الإسلام يمنحنا أفضل مفهوم عن الإنسانية ويبين لنا طريق الحياة الذي يوصلنا إلى تلك القمة كما يبين الطريق الآخر الذي يؤدي إلى الهلاك فنحن نمتلك بذلك منهجاً أساسياً يعطينا مفاهيم للخير والشر والحق والباطل والصالح والسيء. والمدرس يتشرب ذلك المنهج ويتبناه إلى حد أن يخالط لا شعوره. وكلما تشرب هذا المنهج أكثر كلما كان حكمه على نفسه أكثر دقة ويستطيع نقل ذلك المنهج إلى التلاميذ. فالطلاب المسلمون ينبغي أن يتفهموا ذلك المنهج وتلك التصورات الأساسية حول مسئوليات الإنسان وواجباته بوصفه عبداً لله وبالتالي بوصفه رجلاً في بيته ومدرسته ومجتمعه وفي علاقاته مع الطبيعة. وهذه المفاهيم الأساسية ستمد الناقد (أو المدرس) بالمقاييس التي سيقيس بها من مختلف الزوايا موقف الكاتب من الحياة كما يتبين من خلال أدبه. كما أنها ستعينه في تقويم الكاتب ومدى المجال الذي يتحرك فيه والطريقة الخاصة الفردية التي تميز مواقفه من الأوضاع الإنسانية كما تتبين من خلال كتاباته.

والخطر الكبير يكمن في اعتبار ذلك المعيار كسلسلة من الوصفات المستمدة من الأنماط الاجتماعية بدون الانتباه إلى تعقد مجالات الاختبار الإنساني والحرية الإنسانية. لا شك أن المعيار الذي يقدمه الإسلام هو أرقى معيار عرفته الإنسانية ولكن في الوقت الذي يصبح فيه هذا المعيار نمطاً اجتماعياً مخصوصاً فإنه يصبح نظاماً محصوراً لا ينطبق إلا على المسلمين.

ومن جهة أخرى فإن الأنماط الاجتماعية المنظمة قابلة للتغير، وهي تتغير فعلاً، ولهذا فإن واجب الناقد ألا يطبق المعيار الإسلامي كما هو متمثل في صورة نمط اجتماعي مخصوص وإنما في صورة الأسس التي تتطور الأنماط الاجتماعية انطلاقاً منها. وتلتزم بها حيناً وتبتعد حيناً آخر. فالعلاقة بين الجنسين خارج حدود الزواج قد تقود فرداً ما  إلى اقتراف الجنس مع امراة غير زوجته. فإذا عرض الكاتب مثل هذه الحادثة في صورة المعجب بها فإن الناقد عليه أن يصدر حكمه بإدانة الكاتب لإشاعته معياراً منحرفاً للسلوك. غير أن الكاتب قد يستعمل نفس الحادثة كمصدر لبيان صراع الضمير للرجل والمرأة. فالكاتب في هذه الحالة قد تقبل المفاهيم الأساسية للنظام الأخلاقي.

أما إذا تبنى المدرس موقفاً متساهلاً ويتحدث حول الكاتب الذي يتبنى نظام حياة مخالفاً تمام المخالفة أو معاكساً للنظام الإسلامي تاركاً طلابه في الفراغ بحيث يتأثرون بالكاتب أو يتجاوبون معه حينما يروق لهم فهذا المدرس لم ينصف مع الموضوع الأدبي ولا مع طلابه. فالأدب قد يصبح ضرباً من ضروب الاغراء البالغة وقد يضلل أو يفسد أو يهلك. وقد بين البروفيسور “هوغارت” هذا بشكل واضح في كتابه “استخدام أوقات القراءة”. وهذا هو السبب في استخدام الأدب كوسيلة دعائية. وواجب المدرس هو تدريب حاسية الطالب بحيث لا ينهار أمام أية دعاية ويقيم أصالة النظرة الإنسانية دوماً بالرجوع إلى المعيار المطلق للسلوك البشري. فالكاتب الشيوعي مثلاً يصور الرجل الغني أو الرأسمالي دوماً في صورة الشخص الفاسد. وهذا يعني أن الصورة التي يعرضها هي الصورة التي يفهمها هو ولا تنطبق دوماً على ما نراه في المجتمع. فالكائن الإنساني يرجع بصورة لا شعورية إلى معيار يرتفع عن معيار الحياة اليومية المتغيرة كلما برزت مشكلة إنسانية أساسية. فإنسانيته هي أرفع من الرأسمالية أو الاشتراكية كليهما. والإسلام يؤكد على ذلك المعيار “الإنساني” الذي هو هبة من الله تعالى.

فالموقف الذي يحق للمدرس أن يقف هو موقف من يتقبل مسئولية الإنسان عن أعماله ولكن يدرك في نفس الوقت أن هناك قوى مختلفة تعتمل داخله –القوى التي يصفها القرآن الكريم على إنها اغواء الشيطان وأهواء النفس- ولا يستطيع المدرس أن يحسن اختيار الكتب الأدبية القياسية وأن يحلل  المواقف والدوافع بالرجوع إلى الواقع المتشابك للحياة الإنسانية ما لم يتخذ ذلك الموقف الواضح. وقد وصف علماء النفس وعلماء الاجتماع ذلك الواقع المتشابك وأعطوه تفسيرات مختلفة ولكنهم في بعض الأحيان يصورون الإنسان على أنه شبه عاجز أمام القوى الخارجية أو الداخلية التي تسيطر على سلوكه. وهنا تظهر عظمة التصور الإسلامي ومطابقته للواقع فهو يعرض الإنسان على أنه قد منح القدرة للوصول إلى الحقيقة لأن الله نفخ فيه من روحه. ولكنه قد  أحيط في نفس الوقت بقوى قد تحرفه عن الطريق السوي. ويمكن أن يدرس الأدب على أنه الطرق الفردية المتميزة لمختلف الكتب في إدراك ذلك الطريق السوي للإنسان. وإدراك الكاتب الفرد هو بالتأكيد جزئي وشخصي وإن كان يحاول دوماً أن يعمم نظرية لتصبح عالمية. ولما كانت الأفهام حول الحقائق الأخلاقية متنوعة مختلفة فإن على المدرس ألا يعتبر أي كاتب في مرتبة معرفة الحقيقة الكاملة حول كل أمر من أمور الحياة. ولهذا فإن اختيار النصوص التي ستدرس في الفصل ينبغي أن يكون متنوعاً. ولما كان الوقت ضيقاً جداً فإن على المدرس أن يركز على بعض الأعمال القليلة المختارة التي تعرض أنواعاً مختلفة من المفاهيم ووجهات نظر مختلفة عن الحياة. وعلى المدرس أيضاً أن يملك القدرة على إظهار العيوب الأخلاقية في نصوص الأدب القديمة والحديثة، وحتى في الأدب الرائع ولا يجوز له أن يعتبر كل الأدب الرائع كاملاً وإنسانياً من وجهة النظر الإسلامية. كما أن عليه أن يبين أن الأدباء قد تكون لهم نظرات مختلفة حول الشخصية الإنسانية. وهذا هو السبب في أن الكاتب الواحد لا يستطيع أن يستقطب اهتمام الأجيال المتتالية. وكلامنا هذا يقوم بالطبع على افتراض أن الإنسان بحد ذاته لا يعتريه التغير ولكن التغيرات الاجتماعية والزمنية خلال رحلة الحياة تجعل جوانب معينة من الشخصية الإنسانية تبرز في كل فترة من فترات التاريخ. ولذا فإن المدرس حين يعد المنهاج لا ينبغي أن يطلب الاسترشاد من النقاد المعاصرين فحسب، وإنما عليه أن يتجرد بحيث يستطيع أن ينظر نظرة كلية إلى الأدب يختار على أساسها الأعمال الأدبية الرائعة وكذلك الأعمال الدورية الجيدة ليجعل طلابه على صلة بتنوع الأدب وعمقه.

والمبدأ الثاني الذي ينبغي الانتباه إليه حين اختيار الأعمال الأدبية للدراسة في حجرة الدرس هو تنوع التأثيرات، وهذا المبدأ معروف بالطبع ومتبع في كل مكان لأن هناك نمطاً قد تطور وتقبلته كل الدول الآن. وهذا النمط يقسم التأثيرات المعروفة إلى مأساوية أو فكاهية، هزلية أو جدية، خفيفة، شعبية، أو لمجرد الترفيه. وكل من هذه التأثيرات تتصل اتصالاً وثيقاً بمبدأ أخلاقي. ويتضح لنا هذا حين نقرأ تحليل أرسطو للأثر المأسوي للشفقة والرعب. ويستطيع المدرس بتحليل تلك التأثيرات وصلتها بنوع الشخصية والحالات الإنسانية التي يعرضها الكاتب أن ينمي الإحساس الفني لطلابه بل وإحساسهم الخلقي. ولا يعني هذا بالطبع أن التأثير الأدبي هو نفس التأثير الخلقي ولكنه يعني بكل تأكيد أن أحكامنا الخلقية تدخل ضمن فهمنا للأدب. وهكذا ففي الوقت الذي نتفاعل فيه مع المشاعر الحزينة التي تستثيرها حوادث وأوضاع مسرحية مثل “الملك لير” فنحن نرجع إلى نظرتنا الخلقية لأن تفهمنا لشقاء الملك لير وآلامه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بادانتنا لمواقف وسلوك “جونيريل” و “ريجان” وحتى حينما ننظر في الحيرة في مسرحيات كمسرحيات “هارولد بنتر” مثلاً وفراغها من النتائج الخلقية فإن فرضياتنا فرضيات خلقية نستمدها من تربيتنا الإنسانية. فحينما نرى أن هناك اضطراباً وخلواً من الاتجاه نفهم أن هذه العوامل غير مستحبة في حياة الإنسان. وهكذا فإن من واجب المدرس أن يشعر طلابه بفقدان الاتجاه الذي نشاهده في هذا النوع من الأدب الحديث. وحتى إذا عرض على الطلاب نوع من الأدب الرخيص فإن على المدرس أن يبين السبب الذي يجعل ذلك الأدب تافهاً. وهنا يظهر مرة أخرى أن اختيار الأعمال الأدبية وطريقة التدريس كليهما يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالإطار الأخلاقي للحياة.

والأعمال الأدبية بحد ذاتها لا تمدنا بالإطار الأخلاقي الذي نقيس عليه فالأدب ليس مستقلاً عن الحياة. والاستقلال الوحيد الذي يستطيع الأدب أن يدعيه من الوجهة الخلقية هو حق الأديب في الاستقلال بذاته. غير أن الأديب لا يمكنه أن يدعي حق التحرر الكامل من اطار الحياة، الذي يعيش ضمنه لمجرد أنه ينبغي لكل أديب أن تكون له نظرته المميزة للحياة، فاستقلاله يكمن في أن يكون له فهمه الشخصي للحقيقة التي يعرضها من خلال أدبه. وذلك الفهم الجزئي كما هو واضح، ولكن حتى نستطيع تذوقه ونتعاطف معه يمكن أن نتخلى مؤقتاً عن أحكامنا الشخصية ونتصور أنفسنا في العالم الذي ابتكره الكاتب في عمله الفني، ولكن فهمنا هذا ينبغي أن يقاس ضمن سياق النظرة العامة للحياة التي تعرضها المفاهيم الموحى بها من الله تعالى. وبعبارة أخرى فإن هناك دوماً اطاراً مرجعياً ينبغي على الإنسان إذا أراد ألا يساق في اتجاهات متنوعة –كلما احتك بفكر أدباء متنوعين- أن يقوم الإطار الأخلاقي للعمل الفني ضمن سياق ذلك الاطار الكبير الذي يؤمن به والذي يرشد القارئ ارشاداً شافياً. والمسلم يعتقد بوصفه رجل عقيدة أن كل أنواع المعرفة الإنسانية جزئية وإدراك هذه الحقيقة جعلت الفرد يفهم علاقته بالله. والإسلام يزود المسلم ضمن سياق هذا الاطار بمنهاج كامل للحياة ينبغي عليه أن يتمثله بكامله حتى يكون مسلماً حقاً. فمهما كان متعاطفاً مع كاتب مثل “دي. اتش. لورنس” أو “كونراد: أو “دبليو. بي” أو “بيتش” أو “ماكسيم جوركي” فهو لا يمكن أن يتقبل إطارهم الأخلاقي كشيء أعلى من أن يناقشه الفرد كما أنه في نفس الوقت لا يمكن أن يعتبر ما توصلوا إليه شيئا ًنهائياً غير قابل للدحض ومقبول كما هو. وكل ما يمكن أن يمنحه للكاتب من فضل يرجع إلى مقدار الحقيقة التي يعرضها الكاتب عن الطبيعة البشرية والدوافع البشرية وأنواع الأحوال البشرية. وأفضل طريقة يستخدمها المدرس ليحصن طلابه من أن يتأثروا بكاتب معين هي أن يجعلهم يدرسون أعمال كتاب متعددين مختلفين فيما بينهم فيستطيع المدرس والطلاب في هذه الحال أن يمنعوا بشكل موضوعي في الاطار الأخلاقي لكل من الكتاب وينظروا في نقاط الخلاف في أحكامهم وأفهامهم. ومن المفيد جداً لثقافة الطلاب أن يدركوا كيف أن أولئك الكتاب بالرغم من اختلاف طرق إدراكهم فإنهم استطاعوا أن يعرضوا صوراً صادقة للإنسان في أحواله المختلفة.

فإذا اتبعت هذه الطريقة المقارنة أمكن استخدام الأدب كوسيلة لفهم الدوافع والعواطف البشرية. ومن ثم يستطيع المدرس أن يركز اهتمامه على مفهوم الشخصية مبيناً مظاهر تعقد الطبيعة البشرية من خلال مظاهر تعقد الدوافع البشرية. ويمكن للطلاب كذلك أن يدرسوا الشخصيات بدرجات مختلفة من الدقة. وعلى المدرس إذا أراد للطلاب أن يفهموا تفسير الحياة الخاص والشخصي عند كل كاتب عليه أن يسعى لأن يكون البحث محافظاً على موضوعيته. ويمكن للطلاب من خلال المقارنة والمقابلة أن يفهموا التنوع بين الكتاب وأن يحكموا على مقدرة كل كاتب ومدى تنويعه وعمقه. واعتماداً على البحث في الشخصيات المتنوعة التي يبتكرها الكتاب –يمكن للمدرس أن ينشئ عند طلابه الإحساس بالصعوبات الكامنة في فهم الطبيعة البشرية- وهذا ينطبق كذلك على دراسة الحالات الإنسانية التي يعرضها الكتاب. ويمكن للمدرس أثناء فحص العواطف التي تنطوي عليها تلك الحالات أن ينتقل بطلابه إلى ما وراء الأسباب الوقتية لتلك العواطف ليتحدث عن الأسباب الأزلية ويبين الجانب العالمي في المشكلات الفردية. وبما أن الأدب لا يزيد على أن يكون مجموعة من أمثلة مخصوصة تستخدم في دراسة الأوضاع والدوافع الإنسانية فمن الممكن للطلاب أن يتذوقوا عالمية المعضلات الخلفية التي يواجهها الناس من جهة وأن يتفهموا من جهة أخرى شخصياتهم المحدودة في أوضاعهم المخصوصة وأحوالهم التي تدل على بلاد مختلفة في أزمان مختلفة.

غير أن الأدب ينبغي أن يعامل كأدب وليس كبديل للتلقين الخلقي. فلا يمكن للأدب مطلقاً أن يحل محل الأخلاق أو الدين. فإحدى وظائف الأدب الأساسية توفير المتعة. وحتى حينما يعرض الأديب حالة مأساوية فينبغي أن تنتهي إلى أن توفر المتعة، وهذا شرط أساسي لكي تتجاوز المرارة الكامنة في الواقع وتتحول إلى ما نسميه بالأدب. وقد تناول “كانت” طبيعة العواطف التي يستثيرها الأدب بالبحث وتوصل إلى أن عواطفنا ذات طبيعة جمالية تؤدي إلى إدراك تأملي وليس إلى اتخاذ سلوك فعلي. فحينما نرى “عطيل” يقتل “ديدمونة” لا نندفع إلى خشبة المسرح لنمنعه من فعل ذلك الخطأ، مع أننا لو رأينا صديقاً يفعل ذلك في عالم الواقع ونحن نعلم أن فعه أحمق وخاطئ ترانا ننفع لنمنعه. والذي نفعله ونحن نشاهد ذلك المشهد من المسرحية أن نتأمل في الحالة التي يعرضها. وهكذا فإن عواطفنا تنفصل عن العمل الخلقي حينما نحاول تذوق الأدب. بينما لا تكون عواطفنا في تلك الحالة منفصلة عن الفهم الأخلاقي والتأمل الأخلاقي. ونحن نستمد المتعة التي تجدها من فهمنا للأحوال الإنسانية ومن تذوقنا للطريقة التي يعرض بها الأديب تلك الأحوال بأساليب فنية. ولا بد للمدرس إذن من أن يجعل طلابه يفهمون تلك الأوضاع الإنسانية وأن يتجنبوا إصدار أية أحكام أخلاقية مسبقة على الأوضاع الإنسانية المعروضة عليهم في الأدب. فالإطار العام للحياة كما يعرضه الإسلام يمكن القارئ من أن يرى نواحي القصور عند الكاتب ويتفهم الإطار المحدود الذي يقوم الكاتب ضمنه باستكشاف الشعور الإنساني، ولكن عمل الكاتب في تحويل العواطف العادية إلى عواطف في إطار الفن تساعد القارئ للوصول إلى حالة من الاستقلال تمكنه من أن يتأمل العواطف والدوافع والأوضاع البشرية؟ وإذا كان على المدرس أن يتذكر دوماً الإطار العام للحياة ويقوم بالإطار الأخلاقي الذي يعرضه الكاتب ويحكم بنجاح الكاتب أو عدم نجاحه في تكوين اطاره الخاص، فإنني أقترح أنه من الواجب عليه في نفس الوقت أن يدرس إحساس الطلاب بحيث يتمكنون من التأمل بالطريقة المناسبة وبالدرجة الكافية في العواطف والمشاعر التي يستثيرها العمل الأدبي. فوظيفة المدرس إذن ليست في أن يقرر مسبقاً كل المسائل الخلقية المحرجة. وإنما عليه أن يقوم باختيار أعمال فنية يتوقع أن يجد  الطلاب فيها وجهات مختلفة من النظرات الخلقية ويهيئ بعد ذلك نقاشات حرة وصريحة حول الإحساسات التي تتضمنها. ومن الواضح أن حكم المدرس الخلقي نفسه وتدريبه لطلابه سيكون لهما أثرهما أثناء تلك النقاشات.

نتائج وتوصيات

1-   حتى يستطيع المدرس أن يدرس الأدب بشكل فعال كان من الضروري أن يدرك مكانة الأدب في النظام العام للمعرفة، وهذا يعني أن النظام العام للمعرفة يجب أن يصنف -كلياً- من وجهة النظر الإسلامية.

2-   ومن الضروري ثانياً إنشاء مدرسة مناسبة للنقد الأدبي يكون من عملها تقرير العلاقة الوثيقة بين الأدب الجيد والقيم الدينية وأن تبين في نفس الوقت استقلال الأدب ضمن اطار تلك القيم. ويعني هذا إنشاء علاقة بين النظام العام للقيم كما بيناها فيما سبق وبين الجوانب المختلفة للشخصية الإنسانية والوظائف المختلفة التي يمكن للإنسان ويباح له أن يؤديها ضمن نظام الحياة العام.

3-   ولهذا فإن المدرسين يحتاجون إلى تدريبٍ كاف. فينبغي أن يكون المدرس قادراً على التفاعل وإحساسه الخلقي نامياً إلى حدٍ كافٍ من الناحية الدينية بحيث يصل إلى النضوج في قضية الإطار الخلقي للحياة. وينبغي أن تكون له نفس حساسة قادرة على التفاعل مع المشاعر التي يستثيرها الأدب، كما ينبغي أن يكون مالكاً للتقاليد الأدبية، أي تقاليد الشكل والتنظيمات والأساطير والصور والرموز في كل الألوان الأدبية بحيث يستطيع أن يوفر لطلابه الوسائل المناسبة للتحليل والتفهم. وينبغي أيضاً أن يكون مالكاً للغة التي كتب بها ذلك الأدب بحيث يستطيع أن يدرك بدقة ما تتضمنه العبارات ويعرف مقدار دقة الكلمات والعبارات والجمل ودقة العقل الذي تصدر عنه تلك اللغة ولكي يستطيع أن يحلل ويتذوق ويقوم قدرة العقل على التنظيم ومدى وعمق القدرة الإبداعية للكتاب. وهكذا فإن المدرس يستطيع أن ينظم عقول طلابه ويعلمهم كيف يقيسون المدى الذي تصل إليه الأعمال الأدبية المدروسة وعمقها في فهم الحياة.

4-   إنه ليس من الممكن منع الطلاب من قراءة الإنتاج الأدبي الرخيص إذا كان مثل ذلك الإنتاج الأدبي متوفراً في السوق، وليس من الممكن أيضاً منعهم من التأثر بالحياة الحديثة التي تزداد علمانية وبعداً عن نظام القيم الديني، ولذا فإن من الواجب أن يتضمن المنهاج دراسة موسعة للأعمال الأدبية التي عرفت بأنها من الأدب القيم الجدير بالبقاء بسبب الفهم العميق للإنسانية الذي يبدو فيها وبسبب الإطار الخلقي المتين الذي يتبناه الكاتب ولكن في نفس الوقت يجب أن يقوم المدرس بمقارنة تلك الأعمال بأعمال أقل قيمة وذلك لغرض واحد هو تمكين الطلاب من تذوق الفرق وتعويدهم كيف يفرقون بين الأدب الجيد والأدب الردئ.

5-   إن الأدب الجيد العظيم هو ذلك العمل المبدع الذي يتبنى ويرسخ تلك المبادئ المتعلقة بالحياة التي تعلمها الإنسان من الدين وهو ذلك الأدب الطبيعي والمنطقي بحيث يتذوقه ويتقبله الناس ذوو الأعمار المختلفة وفي مختلف أنحاء الدنيا. وأي فروق نلاحظها في الإدراك الفردي ترجع إلى اختلاف الأفراد في طريقة فهمهم للحقيقة ومدى إحاطتهم وعمقهم بها. وبما أن طريقة عرض ما توصل إليه الكاتب من فهم لا تقوم على العرض المنطقي أو إظهار الحجة العقلية وإنما تقوم على مخاطبة إنسانية الإنسان ونفسه الباطنة فإن من واجب المدرس أن يجعل إحساس الطلاب الأدبي نافذاً وقوياً ومتصلاً اتصالاً وثيقاً بإحساسهم الخلقي بحيث تكون نفس الطالب حصناً ضد المفاهيم الباطلة.

6-   ولا تعني الفقرات السابقة أن المدرس يحق له أن يفرض نفسه على طلابه ويلزمهم بمبادئه في التقويم والحكم. وإنما ينبغي عليه أن يدربهم على التجرد الذي يمكنهم من إدراك وجهة نظر الكاتب ورؤيته للحياة وعمقه الخلقي بدون أن ينجرفوا عن مبادئهم الخاصة. ومن جهة أخرى فإن الإحساس الأدبي ينبغي أن يكون جمالياً بحيث يمكن القارئ من تفهم نوعية الحياة المعروضة في العمل الأدبي. وهكذا فإن الطلاب يجب أن يتعلموا كيف يرتفعون على أنفسهم ويتفهمون المشاعر المتميزة الخاصة التي يستثمرها ذلك العمل الفني المتميز. وفي نفس الوقت فإن ذلك التجرد ينبغي ألا يؤدي إلى نوع من السلبية عند الطلاب لأنهم ينبغي أن يمتلكوا القدرة على الحفاظ على أسسهم الدينية الخاصة. فإذا ما تفهموا وجهة نظر الكاتب أو جهات نظر الكتاب المختلفين أمكنهم أن يقارنوا ويقابلوا بينها ويقوموا مزاياها النسبية.

7-   ومن الواضح من بحثنا السابق أن تدريب الإحساس الأدبي ينبغي أن يرتبط بالثقافة الخلقية. وما لم ينشأ الطالب كمسلم ملتزم فهو لن يكون قادراً على ربط التربية الفنية بالأخلاق. فإذا كان المراد بالتربية الفنية تطوير القدرة على إدراك الناحية الجمالية ومعناها في الفنون إدراكاً كاملاً وشافياً فإن تلك التربية ينبغي أن تتم بالتربية الأخلاقية بحيث يدرك الطالب ويتذوق العلاقة بين الجمال والخير. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا حين يفهم الشيء الجميل على إنه إظهار لمبدأ الجمال الذي هو في حقيقته صفة من صفات الله. عندئذ فقط يشعر الإنسان بأن الجمال والأخلاق يتكاملان ضمن إطار الحياة الموحد. والتنوع في الأحكام الفنية هو نتيجة لتركيز الاهتمام على نواحٍ مختلفة من الشخصية الإنسانية باختلاف العصور. واختلاف التركيز هذا يرجع بدوره إلى ظروف اجتماعية وتاريخية ناجمة عن وسائل الحضارة. وإلا فالإنسان هو نفس الإنسان في كل العصور وفي شتى بقاع الأرض.

8-   وحتى ترتبط تلك التربية الفنية قلباً وقالباً بتربية شخصية المسلم برمتها فإن من الضروري تحقيق التوازن بين الإدراك الروحي والعقلي والفني. ولا يمكن تحقيق ذلك التوازن إلا حين يفهم الحق والجمال على أنهما صفتان من صفات الله. وإذا حاولنا أن نؤكد أن هناك ما يسمى إدراك “الإحساس المجرد” أو “التفكير المجرد” أو “الجمال المجرد” فإننا نربي بذلك شخصية ممزقة. فإذا كان الحق والجمال من صفات الله وإذا كان كل هذا الوجود إظهاراً لكل صفات الله وقدرته أي إظهاراً لأسماء الله فإن عرض ذلك الجمال والحق في الأدب هو عرض لما هو جميل في الحياة. وهكذا فإن علم الجمال يصل ما بين الجمال في الفنون بالتعاليم الأخلاقية. ولهذا فإن من الضروري أن يكون كل مدرس على إدراك راسخ بالمبادئ التي تنبني عليها الحياة حتى يكون هو نفسه محققاً لمعنى العبودية لله. وهذا شرط أساسي حتى يستطيع هذا المدرس أن يغرس في شبابنا روح الإنسان الحق وعظمته ويغرس فيهم روح عدم التنازل للشرور المتمثلة في المادية والقصور الذي يحتوي عليه ما يسمى بالحركة الإنسانية.

ومن الضروري كذلك حتى تتحقق أهداف تدريس الأدب التي عرضناها فيما سبق أن تعد مواد لغوية وأدبية يقصد منها جمع التربية الخلقية للطالب وإحساسه الفني بشكل متكامل ضمن نظام ديني شامل للحياة. وفي نفس الوقت ينبغي أن ينشأ الطالب كشخص يتعشق استقلاله، وبحيث لا يكون إدراكه الخاص للحقيقة في خطر التأثر بمعتقد يفرض عليه فرضاً. إن الأدب سلاح فعال ولهذا فإن من الواجب إعداد برامج متكاملة من الأدب والتاريخ والعلوم الاجتماعية الأخرى تبدأ مع بداية الحياة المدرسية بحيث يتشرب الطالب فكرة شاملة عن الحياة من خلال المواد التي يقرؤها والطريقة التي يربى بها. وينبغي أن يعد برنامج مفصل لكيفية دراسة المواد المتكاملة المذكورة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر