أبحاث

ابن رشد بين الغرب والإسلام

العدد 86

كان ابن رشد ـ أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد- (520 – 594هـ – 1126 ـ 1198م) ـ فيلسـوفاً حكيمـاً، ومتكلمـاً مسـلماً، وفقيهـاً مالكيـاً، وقاضياً للقضاة، وطبيباً عظيماً، وأديباً، ولغويـاً، أبدع في ميادين هذه الفنون والعلوم آثاراً خالدة، تشهد علي«التخصص ـ العميق»مع«الموسوعية»التي أحاطت بكل هذه الميادين..

فله في علم الكلام: (مناهج الأدلة في عقائد الملـة)، وفي المنهج: (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال).. وفي الفقه: (بداية المجتهد ونهاية المقتصد).. وفي اللغة والأدب والنحو: (تلخيــص كتاب الشعر) و (الضروري في النحو) و (كلام علي الكلمة والاسم المشتق)… وله في الطب أكثر من عشرين كتاباً، أشهرها: (كتاب الكليات).. أما في الفلسفة ـ التي صارت أشهر ميادين إبداعاته ـ فله من الشروح والتاليف ما يزيد علي التسعين كتاباً..

وإذا كانت الشهرة بالفلسفة قد غلبت علي ابن رشد، فان مرجع ذلك لم يكن فقط إمامته لهذا الفن في عصره، وانما لغلبة ملكة التفلسف عليه في كل فن أو علم كتب فيه.. فهو قد فلسف علم الكلام الإسلامي، فارتفع ببراهينه عن جدل المتكلمين الذي غلب علي الاحتجاج فيه.. وفلسف علم الفقه، عندما جعل كتابه (بداية المجتهد) موسوعة في فلسفة اختلاف الفقهاء فيما اختلفوا فيه.. وكذلك كان (فصل المقال) و (تهافت التهافت) كتابين في فلسفة المنهج، وحمة الاختلاف بين الفلاسفة والمتكلمين..

تلك حقائق لا يختلف فيها العارفون بأبي الوليد..

وإذا كان (ابن الأبار) [595ـ 658 هــ – 1199 ـ 1260 م] قد أجاد التصوير لمكانة ابن رشد بين علماء عصره، وفي سياق العلم الإسلامي والعالمي، عندما تحدث عنه فقال: و كانت الدراية أغلب عليه من الرواية.

درس الفقه والأصول وعلم الكلام، وغير ذلك. ولم ينشا بالأندلس مثله كمالاً وعلماً وفضلاً. وكان،، علي شرفه، أشد الناس تواضعاً وأخفضهم جناحاً. عني بالعلم من صغره إلى كبره، حتى حكي عنه انه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه وليلة بنائه علي أهله، وانه سوَّد في ما صنف وقيد وأَّلف واختصر نحواً من عشرة آلاف ورقة. ومال إلى علوم الأوائل، فكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره. وكان يُفزَع إلى فتواه في الطب كما يٌفزَع إلى فتواه في الفقه، مع الحظ الوافر من الإعراب و الآداب، حتى حكى عنه أبو القاسم بن الطيلسان: انه كان يحفظ شعري حبيب والمتنبي، و يكثر التمثيل بهما في مجلسه، ويورد ذلك أحسن إيراد»[1].

فان أهمية هذا الوصف تتعدي تصوير (الموسوعية ـ المتخصصة) لابن رشد، إلى الإشارة إلى كماله العلمي، وفضله الخلقي، والتواضع الذي زان شرف مكانته الاجتماعية و العلمية، فجعله جامعاً إلى العلم العدالة الجامعة التي اشترطها الإسلام و حضارته في العلماء قبل الأمراء !..

فابن رشد، الذي كانت حياته الفكرية تجسيداً للصراع الفكري بين تيارات الفلاسفة وفرق المتكلمين، هو الذي يضع ضوابط العدالة لهذا الصراع فيقول «ان العالم، بما هو عالم، انما قصده: طلب الحق، لا إيقاع الشكوك و تحير العقول»[2].. وهو الداعي إلى ان تكون حياة العالم تجسيداً لفكره ؛ وذلك حتى يجد فكره طريقاً ممهدة إلى القلوب والعقول«فانما تكون الأقاويل التي يٌحَثّ بها علي السنن مقنعة، إذا كان المشيرون بها ذوي صلاح وحسن فعل ؛ حتى تكون هذه الأشياء المذكورة ها هنا معلومة لنا وموجودة فينا، فانه إذا وٌجد فينا الخٌلق الذي نحث عليه كان قولنا في الحث عليه أشد إقناعاً»[3]

أما العدالة الجامعة بين انصاف«الآخرين» بين الاعتصام بالحق الذي نؤمن به كمسلمين، فان ابن رشد يحدد منهاجها، فيقول «فقد يجب علينا ان ألفينا لمن تقدم من الأمم السالفة نظراً في الموجودات، واعتباراً لها، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، ان ننظر فيالذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها في موافقاً للحق قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه. وما كان منها غير موافق للحق، نبهنـا عليه، وحذرنا منه، وعذرناهم»[4]!..

وإذا كانت الأرض ممهــدة لدارسي «ابن رشد الفيلسوف» أو «ابن رشد الفقية».. أو»ابن رشد الطبيب«.. فانها ليست كذلك بالنسبة لدارسيه «مفكراً»…. أي دارسي موقعه الفكري بين تيارات الفكر ومذاهب النظر والخيارات المطروحة علي الأمم في التقدم والنهوض.. ففي هذا الميدان احتدم الخلاف حول موقع ابن رشد، منذ عصره.. وحتى كتابه هذه الصفحات !….

ولم يكن «ســــــــوء الظــن»أو«الاختلاف في موقع ابن رشد من مذاهب النظر وألوان الفكر ومذاهب النظر  وألوان الفكر ومذاهب التقدم» نابعاً من غموض في منهاج فيلسوفنا، أو نقص في وضوح فكرة، بقدر ما كان نابعا من «الهوى» حيناً، ومن النظرة الجزئية وحيدة الجانب إلى قطاع معزول من فكرة ـ عن بقية القطاعات ـ في أغلب الأحــيان !..

فالذين رأوه شارحاً لأرسطو [384 ـ 322 ق. م] قد حملوه احمال فيلسوف اليونان !.. والذين رأوه نـــاقداً لفرق المتكلمين الإسلاميين، حملوه على «الفلسفة» بالمعني اليوناني، وعلى «العقلانية» التي لا «نقل» فيها…

فخلت هذه النظرات الجزئية لقطاعات مبتورة من أعمال أبي الوليد، خلت من المنهاج الذي حدده الرجل للناظرين في مذاهب النظر وتيارات الفكر.. وهو المنهاج الذي لم يبتدعه، وانما استخلصه من معيار النظر الإسلامي وهو: عرض «الحكمة» – التي هي «الإصابة في غير النبوة» أي الصواب الذي يصل إليه «العقل البشري» بصرف النظر عن دين صاحبه واتجاه مذهبه ـ على «الحكمة» التي نزل بها الكاتب العزيز ـ أي الإصابات التي جاءت بها الرسالة السماوية الخاتمة ـ فما اتفقا فيه ـ العقل.. والنقل ـ كان هو الحكمــة بإطلاق ؛ لانهمـا هدايتان من الخـالـق الواحــد ـ الذي انزل الكتاب والحكمة ـ لهداية خليفته الانسان..

فإذن كان الرسـول، صلى الله عليه وســلم، قد بعـث إلى الناس ليعلمهم الكتاب والحكمة (ربنا وابعث فيهم رســولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتـــاب والحكمـــــــة ويزكيهم)[5]. وإذا كانت «الحكمة»- كمـــا عرفها الحديث النبوي ـ هي «الإصــابة في غير النبـوة»[6].

فان النظر العقلي فريضة إلهية، والإصابة العقلية التي يثمرها هذا النظر ضرورة دعت إليها آيات الحي والتنزيل ؛ ليتزامل الكتاب والحكمة في هداية الانسان..

«فالحكمة ـ [عند ابن رشد] ـ هي النظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان»[7] والبرهان هو: «النظر بالعقل في الموجــودات»[8]

فان هذا النظر في الموجودات بالعقل هو السبيل الإسلامي لمعرفة الصانع الواحد لهذه الموجودات ـ وفي ذلك جواهر الدين و أولى فرائضه -، لأ ذلك هو سبيل «الاعتبار في الموجودات، ودلالة الصنعة لا يعرف المصنوع، ومن لا يعرف المصنوع لا يعرف الصانع»[9].

ولذلك جاء الكتاب بإيجاب هذه الحكمة ـ النظر العقلي والبرهاني في الموجودات ـ فلقد «أوجبه الشرع (فأعتبروا يـا أولي الأبصـــار)[10].

(أولم ينظروا في ملكوت الســــموات والأرض ومــا خلق الله من شئ)[11].

(أفـــلا ينظرون إلى الأبل كيف خلقت، وإلى الســــــــماء كيف رفعت)[12].

(ويتفكرون في خلق الســــــــــموات والأرض)[13].».[14]

فالنظر العقلي، والفحص في الموجودات بالبرهان: «حكمة.. إسلامية» أوجبها الشرع ؛ لانها هي طريق الوصول إلى جوهر الدين والتدين – معرفة الذات الإلهية -.. ومن هنا تأتى علاقة المؤآخاة بين هذه «الحكمة»  وبين «الشريعة» في المنهاج الإسلامي الذي صاغه ابن رشد.. وياتى ضبطه الذي يميز إسلامية الحكمة إذا هي التزمت العدالة الإسلامية في النظر، والفضيلة والخلق الإسلاميين في صناعة البرهان.. وبعبارة ابن رشد «فمن كان أهلاً للنظر.. هو الذي جمع بين أمرين: أحدهما: ذكاء الفطرة. والثاني: العدالة الشرعية، والفضيلة العلمية والخلقية..» [15]

لكن…. ومع كل هذا الوضوح والتحديد في المنهاج الرشدي للنظر العقلي ـ الذي بلور فيه منهاج الإسلام في جعل الحكمة العقلية  فريضة إلهية، والأخت الرضيعة للشريعة السماوية ـ وهو المنهاج الذي شهدت إبداعاته الفكرية لدقة تطبيقه له وشدة التزامه به.. فقد اختلف الناس في الموقع الفكري لابن رشد اختلافاً شديداً… فوقف به البعض عند «ذكاء الفطرة» دون العدالة الشرعية، عندما رأوا في «حكمته» الفلسفة التي لا تلتزم بالشريعة، ولا تعرض «إصابة العقل» على «إصابة النبوة».. بل واشتط البعض فرآه داعية لإقامة الفلسفة _ اللاإسلامية _ على انقاض الدين ؟!..

ففرح انطون [ 1291 ـ 1340 هـ 1874 ـ 1922 م ] ـ وهو علماني ماروني ـ يقول «ان فلسفة ابن رشد عبارة عن مذهب مادى قاعدته العلم» [16].

والقس يوحنا قمر، يقول: «ان ابن رشد هو أبعد فلاسفة العرب، بعد المعرى، عن الإسلام» [17].

والدكتور مراد وهبه ـ وهو «ماركسى ـ من اخواننا الاقباط -.. وأستاذ للفلسفة الغربية» – يقول: «ان ابن رشد يخضع الدين للعقل.. وداعية لفصل الدين عن الدولة.. ومؤسس للتنوير الغربي والعلمانية» [18].

ولقد جاءت هذه الأحكام – مع افتراض حسن النية وسلامة الطوية –  من ان هؤلاء الباحثين قد انطلقوا للحكم على ابن رشد من دراستهم لتيار «الرشديين اللاتين»، الذي صارع الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا إبان  بدايات النهضة الأوربية ـ والذي لعب دوراً ملحوظا في التأسيس للتنوير والعلمانية ـ فحسبوا مقالات «الراشديين اللاتين» على فليسوف قرطبة المسلم.. غير ناظرين إلى الدراسات الجادة والكثيرة التي قومت فلسفة ابن رشد، وحددت موفعه الفكري انطلاقاً من ابداعاته الفكرية واضافاته وانتقاداته المبثوثة في شروحه على أرسطو، وفي ضوء مقارنة هذه الابداعات  بمقولات «الرشديين اللاتين» وهي الدراسات التي جعلت «رينان» [1923 ـ 1892 م] ـ وهو من أبرز دارسى ابن رشد من فلاسفة الغرب المحدثين ـ يقول: «ان القدر قد جرى بان يكون ابن رشد ذريعة لانطلاق أشد الأحقاد اختلافاً، وأشد ضروب الصراع العقلي عنفاً، كما جرى بان يكون اسمه علما يخفق على تلك الآراء التي لم يفكر فيها مطلقاً على وجه التأكيد» [19].

وجعلت «أسين بلاسيوس» [ 1871 ـ 1944 م ] ـ وهو من أبرز المستشرقين الغربيين، وأخبرهم بتراث الإسلام، وأعدلهم أحكاماً ـ يقول: «ان من الواجب ان نشير إلى تلك الفكرة الوهمية التي كان جميع المؤرخين ضحية لها، وهي انهم متى وجدوا جماعة من «المدرسين» الذين نطلق عليهم في العصور الوسطى وعصر النهضة أسم الراشدين، فانهم لا يترددون ان يلقوا على رأس ابن رشد كل النظريات التي قالت بها هذه الجماعة [20].

كما جعلت الإمام محمد عبده [ 1295 ـ 1323 هـ  1849 ـ 1950 م ] وهو من أفقه الناس بإبداعات ابن رشد – يقول ـ في ختام نقده لآراء فرح انطوان ـ وبعد عرض فلسفي لمذهب ابن رشد -: «فهل بعد هذا يعد الفليسوف مادياً، ومذهبه مذهباً مادياً قاعدته العلم ؟.. لا بل إلهي، ومذهبه مذهب إلهي قاعدته العلم، قائل بخلود النس، وسعادتها وشقائها وعذابها ونعيمها..» [21].

لقد أرادت النهضة الغربية الحديثة ـ بالوضعية.. والعلمانية.. وعقلانية التنوير ـ اللادينية ـ إقامة قطيعة معرفية مع اللاهوت النصرانى، وحذف «جملته المعترضة» من سياق تطورها الحضاري ؛ لتاسيس نهضتها الحديثة على تراثها الإغريقي.. فقدمت، لذلك، نظرية الحقيقتين:

أ- العقلية العلمية الوضعية.. التي تؤسس عليها النهضة..

ب- والدينية ـ التي لا تخضع لمناهج العلم، ولا ترقى إلى مستوى الحقيقة العلمية.

ولقد نسبوا القول بالحقيقتين إلى ابن رشد.. وسمى فريق من رواد هذه الدعوة انفسهم «بالرشديين» ولقد كانوا – في الحقيقة ـ منطلقين من الأرسطية ـ كما رأوها في شروح ابن رشد لأرسطو وليس من الرشدية ـ التي قدمها ابن رشد في ابداعه الخاص.. ومن هنا جاءت جناية النظرة الجزئية، وحيدة الجانب، لهؤلاء الذين لم يروا من ابن رشد سوى الشروح على أعمال فليسوف اليونان.

وإذا كان فرح انطوان ـ وهو طليعة العرب الذين نقلوا هذه النظرة المغلوطة إلى لغتنا العربية ـ انما صنع ذلك، وهو يؤسس مع مجموعة المثقفين الموارنة الذين سعوا ـ تحت مظلة السلطة الاستعمارية في بلادنا ـ إلى احلال النموذج الغربي في النهضة والتقدم ـ النموذج الوضعي العلمانى ـ محل النموذج الإسلامي ـ الجامع، بشمولية منهاجه، بين الدين وسائر ميادين العمران الدنيوى فسعى إلى الاحتماء بفليسوف مسلم، وهو يقدم الخيار الحضارى اللا إسلامى إلى الأمة المسلمة.. فان خلفاء فرح انطوان ـ الذين تجاوزوا «وضعيته المنطقية»، التي جاورت بين «الدين» و «العلم» مع الفصل بينهما ـ إلى «الوضعية المادية»، بتأويله، فتخضعه للعلم والعقل ـ إخضاع إلغاء، وليس وقوفا عند الفحص والنظر والفقه -.. هؤلاء الخلفاء، يصنعون اليوم ـ في مواجهة تعاظم ظاهرة الإحياء الإسلامي ـ ذات الصني مع ابن رشد.. صنيع الاستدعاء القسرى لفليسوف قرطبة ؛ لجعله «الساتر» الذي يتحصنون به وهم يحاولون إقامة قطيعة معرفية مع الإسلام، وذلك بإحلال التنوير الغربي ـ الوضعي ـ العلماني الغربية ـ اللادينية ـ محل الوحي والغيب والشريعة، عزلاً للسماء عن الارض، وإحلالا «للدين الطبيعي» محل الدين السماوي، واستبدالا عاما وكاملا «للنسبي» «بالمطلق» «وللعقل» «بالنقل» و «للسلطة البشرية» «بالسيادة الشرعية» بحسبان هذه الثنائيات، في الإسلام، كما هي في الفكر الغربي، من «المتقابلات.. المتناقضات»..

ولقد سلكوا إلى ذلك أبواباً عدة، في مقدمتها، ومن أهمها  باب التزييف لمذهب ابن رشد في التأويل… حتى لقد صوروا دعوتهم إلى إحياء فلسفة ابن رشد: دعوة إلى تبنى الخيار الغربي العلمانى في التقدم والنهوض، دون مواربة او تأويل.. الأمر الذي جعلنا نختار ـ تحديد موقعه الفكري بين خيارى النهضة: الغربي.. والإسلامي، وتحرير حقيقة مذهبه في التأويل ؛ تبياناً لحقيقة مكانه من مذاهب الحكمة وتيارات الإصلاح..

الدعوى:

يقول أصحاب هذه الدعوى – «الجديدة ـ القديمة» – التي تربط ابن رشد بمقولات «الرشدين اللاتين» وبتأسيس التنوير الغربي والعلمانية الغربية، ان الاتهامات التي أصدرها أسقف باريس، في مارس 1277 م، والتي حرمت ثلاث عشرة قضية فكرية للرشديين اللاتين.. ومنها:

1- انكارهم علم الله للجزئيات الحادثة.

2- وانكار العناية الإلهية فيما يخص الأفعال الانسانية.

3- وقولهم بقدم العالم.

4- وتقدي الفلسفة على الشريعة.

5- وانكارهم الخوارق والمعجزات.

6- وقولهم بحقيقتين مختلفتين، فلسفية ودينية، وصادقتين معاً.

يقولون: ان هذه القضايا هي أفكار ومقولات رشدية.. وان أهمها «هو نظرية الحقيقة المزدوجة» ومفادها:

إمكان صدق نتيجتين متناقضتين في ان واحد، أى إحداهما صادقة في مجال العقل والفلسفة، والأخرى صادقة في مجال الايمان الديني.. وان فلسفة ابن رشد – هذه ـ قد أفرزت تياراً رشدياً في أوروبا أسهم في الإصلاح الديني وفي التنوير» [22].

بل لقد تجاوزوا هذه الحدود لهذه الدعوى ـ التي سبقتهم إليها فرح انطون ـ إلى إدعاء ان ابن رشد «قد أخضع الدين للعقل.. بالتأويل».. وهو إدعاء يفضى إلى ان ابن رشد قد تجاوز و ألغى الحقيقة الدينية، عندما اعتمد ـ بالتأويل ـ حقيقة واحدة، هي الحقيقة العقلية…. و رأوا انهم بهذا التجاوز قد اكتشفوا ما لم يكتشفه فرح انطون.. فلقد «اتجه فرح انطون إلى ضرورة الفصل بين العلم الدين.

وحجته في ذلك ان العلم يوضع في دائرة «العقل»؛ لان قواعده مبنية على المشاهدة والتجربة. أما الدين فيوضع في دائرة «القلب» لان قواعده مبنية على التسليم بما ورد في الكتب من غير فحص في أصولها. ومعنى ذلك ان لكل منهما دائرة يتحرك فيها بحرية كما يشاء دون ان يكون أحداهما تابعاً للآخر».

ويضيف الدكتور مراد وهبة ـ متجاوزا ً دعوى فرح انطون ـ فيقول: «وفي رأيي ان هذه الاتجاه مخالف لما يذهب إليه ابن رشد ؛ اذ ان ابن رشد يخضع الدين للعقل بفضل ما لدى العقل من قدرة على التأويل من أجل الكشف عن المعنى الباطن للنص الديني الذي يتفق ومقتضيات العقل. وأعتقد ان هذا المفهوم عن التأويل لابن رشد هو الذي أصبح مقبولا في أوروبا، بل أصبح أساسا ً لما يسمى بـ «الهرمنيوطيقا» أي علم التأويل [23].

ونحن لن نقف مُكَتَفين ـ في رد دعوى تأسيس ابن رشد لعلم التأويل، بمعناه الوضعي الغربي ـ والذي يعنى تجاوز الدين وإخضاعه للعقل ـ لن نقف عند تناقض هذه الدعوى مع ما قاله صاحبها من ان هذا التأويل الغربي قديم قدم الفلسفة اليونانية «فالهرمنيوطيقا» Hermeneutics لها علاقة بهرمس Hermes والهرمنيوطيقا واحد من مؤلفات أرسطو عن الهرمنيوطيقا ـ Peri Hermeneius [24]».

وانما سنعمد إلى الإبداع الفكري لابن رشد، عارضين مقولات «الرشديين اللاتين » على هذا الإبداع ؛ لنرى هل هناك نسب حقيقي بين هذه المقولات وبين فكر أبي الوليد ؟..

ولنتبين حقيقة الموقع الفكري لفليسوف قرطبة من مذاهب النظر وتيارات الفكر ومذاهب الأمم في التقدم والنهوض.

1- العلم الإلهي بالجزئيات:

لقد كان انكار «الرشديين اللاتين» علم الله، سبحانه وتعالي، للجزئيات الحادثة، هو فهمهم لمقتضى التصور الأرسطي لنطاق فعل الذات الإلهية… فالله، في ذلك التصور، قد خلق العالم وحركة، ثم أصبح لا يدري من أمر تدبيره شيئا ً… فهو كصانع الساعة ، الذي انتهت علاقته بها بعد صنعه لها.. ومن ثم فهو لا يعلم  ما يحدث في هذا العالم من جزئيات.. وليس هكذا التصور الإسلامي لنطاق فعل وتدبير ورعاية الذات الإلهية لكل الموجودات…. فالله ليس مجرد خالق للعالم، وانما هو أيضا مدبر للكون المادي والاجتماع البشري.. والقران يقدم هذا التصور (ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين) [25]. (قال فمن ربكما يا موسى، قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) [26] – في مقابل التصور الوثني الجاهلي ـ المماثل للتصور الأرسطي ـ (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولون الله) [27]. والذي جعلهم يرجعون بما وراء «الخلق» من التدبير والعلم بالجزئيات الحادثة، إلى الطواغيت الأوثان.. فالخلق لله.. والتدبير لغير الله (فقالوا هذه لله بزعمهم وهذا لشركائنا) [28].

ولقد كان فكر ابن رشد في هذه القضية إسلاميا ً خالصا ً.. فالله، سبحانه وتعالي،  عنده، عالم بالجزئيات، كما هو عالم بالكليات.. لكن هذا العلم الإلهي مفارق لعلمنا الانساني ؛ لان علمنا الانساني صادر عن الموجودات، ومسبب عنها، ومتغير بتغيرها، ومعلول لها.. بينما العلم الإلهي سبب في وجود هذه الموجودات.. فالمغايرة ليست بين الكلي والجزئي في العلم الإلهي.. وانما هي بين كل العلم الإلهي وبين علم الانسان..

«ان علمنا معلول للمعلوم به، فهو محدث بحدوثه، ومتغير بتغيره، وعلم الله، سبحانه، بالوجود على مقابل هذا، فانه علة للمعلوم الذي هو الموجود، فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصهما واحدة، وذلك غاية الجهل.. وكيف يتوهم على المشائين ان يقولوا انه، سبحانه، لا يعلم بالعلم القديم الجزئيات، وهم يرون ان الرؤيا الصادقة تتضمن الانذارات بالجزئيات الحادثة في الزمان المستقبل، وان ذلك العلم المنذر يحصل للانسان في النوم من قبل العلم  الأزلي المدبر للكل، والمستولى عليه !..»[29]«فالعلم القديم انما يتعلق بالموجودات على صفة غير الصفة التي يتعلق بها العلم المحدث لا انه غير متعلق أصلا..»[30].

وإذا كانت التصورات الأرسطية والوثنية ـ كذلك التصور النصراني ـ لنطاق فعل الذات الإلهية، والتي تراه مجرد خالق للعالم، غير مدبر له، فتدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، هي المنطلقات للتصور العلماني، الذي يحرر العالم من حاكمية الشريعة الإلهية.. فان قطع ابن رشد بان «الله تبارك وتعالي، هو الفاعل للكل وموجده، والحافظ له: وهو المدبر للكل، والمستولي عليه» [31].. يجعله على النقيض من التصور العلماني لنطاق عمل وفعل وتدبير الذات الإلهية، ومن ثم ينفي علاقة فكره بتأسيس العلمانية الغربية.. كما ينفي علاقة هذه الفكر الرشدي بمقالة الرشديين اللاتين في نفي العلم الالهي بالجزئيات.

2- علاقة العناية الإلهية بالافعال الانسانية:

وإذا كان «الرشديون اللاتين» قد أسسوا تنويرا ً وضعيا ً وماديا ً يقف بالانسان عند  حدود هذا العالم، منكرا ً العناية الإلهية فيما يخص تدبير الانسان وأفعاله الانسانية… فان ابن رشد ـ الذي رفض أدلة المتكلمين التي استدلوا بها على وجود الذات الإلهية ـ قد حصر هذه الأدلة في دليلين اثنين:

أولهما: دليل العناية الإلهية بالانسان، وخلق جميع الموجودات من أجل العناية به..

وثانيهما: اختراع  الله، سبحانه وتعالي، جواهر الأشياء والموجودات.. فقال عن ليلى «العناية» و «الاختراع »: انه إذا استقرئ الكتاب العزيز، وجدت الطريقة الشرعية ـ التي نبه الكتاب العزيز عليها، واعتمدها الصحابة ـ للإقرار بوجود البارئ سبحانه، تنحصر في جنسين:

أحدهما: طريق الوقوف عل العناية بالانسان، وخلق جميع الموجودات من أجلها ولنسم هذه: دليل العناية.

والطريقة الثانية: ما يظهر من اختراع  جوهر الأشياء الموجودات، مثل اختراع  الحياة في الجماد والإدراكات الحسية والعقل، ولنسم هذه: دليل الاختراع » [32]. وفي علاقة «العناية الإلهية»، والتقدير والقضاء الإلهيين، بالأفعال الانسانية، لا يدع ابن رشد مجالا ً لأي شبه بين مذهبه الإسلامي وبين المذاهب المادية والوضعية للتنوير الغربي.. فهو يقطع بان الإرادة الانسانية، في الفعل والترك، انما يتدخل في ايجادها وفي تحديد نطاق فعلها العوامل والظروف والأسباب والملابسات التي خلقها الله خارج الانسان ومن حوله، بل وفي داخله، مما لا دخل للانسان الفاعل فيها… فالإرادة والفعل الانسانيين محكومان بخلق الله وعنايته وقضائه وقدره.. «فالله، تبارك وتعالي، قد خلق لنا قوى نقدر بها ان نكتسب أشياء هي أضداد. ولكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء ليس يتم لنا إلا بمواتاة الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج، وزوال العوائق عنها، كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعا ً… بإرادتنا، وموافقة الأفعال التي من خارج لها وهي المعبر عنها بقدر الله.

وهذه الأسباب التي سخرها الله من خارج ليست متممة للأفعال التي نروم فعلها أو عائقة عنها فقط، بل هي السبب في ان نريد أحد المتقابلين. فان الإرادة انما هي شوق يحدث لنا عن تخيل ما، أو تصديق بشئ. وهذا التصديق ليس هو لاختيارنا، بل هو شيء يعرض لنا من الأمور التي من خارج.. ولما كانت الأسباب التي من خارج تجرى على نظام محدود، وترتيب منضود، لا يخل في ذلك بحسب ما قدرها بارئها عليه، وكانت إرادتنا وأفعالنا لا تتم، ولا توجد بالجملة إلا بموافقة الأسباب التي من خارج، فواجب ان تكون أفعالنا تجرى على نظام محدود، أعني انها توجد في أوقات محدودة، ومقدار محدود، وانما كان ذلك واجبا ً ؛ لان أفعالنا تكون مسببة عن تلك الأسباب التي من خارج، وكل مسبب يكون عن أسباب محدودة مقدرة، فهو ضرورة، محدود مقدر. وليس يلغي هذا الأرتباط بين أفعالنا والأسباب التي من خارج فقط، بل وبينها وبين الأسباب التي خلقها الله تعإلى في داخل أبداننا.

والنظام المحدود الذي في الأسباب الداخلة والخارجة، أعنى التي لا تخل، هو القضاء والقدر، الذي كتبه الله تعإلى على عباده، وهو اللوح المحفوظ»[33].

هكذا جعل ابن رشد «العناية الإلهية» محيطة بالانسان، ترعاه وتدبر أمره، وتسهم في تحديد فعله وتركه، بل وتسهم في صنع إرادة الفعل والترك لدى الانسان… فأين من هذا المذهب الرشدي و «الرشديين اللاتين» ؟!.

وفي ضوء هذا الربط الرشدي بين الأفعال الانسانية والإرادية وبين العناية الإلهية، نرى مذهب ابن رشد في السببية..

فعلى حين اجتمعت مذاهب التنوير الغربي على «اكتفاء الطبيعة بذاتها» واستغنائها – في إفراز المسببات – بالأسباب ـ الذاتية، الموجودة في ظواهرها وقواها، عن أية أسباب فوق الطبيعة ووراءها.. نجد لابن رشد في السببية، مذهبا ً إسلاميا ً، يرد كل الأسباب الطبيعية إلى مسبب الأسباب وموجدها، سبحانه وتعالي، فهو في تقرير العلاقة بين الأسباب والمسببات، ينبه على ان رفع هذه العلاقة – علاقة السببية ـ أو انكارها يوقعنا في مذهب «الصدفة» و «المادية» فيقول: انه «متى رفعنا الأسباب والمسببات لم يكن ها هنا شئ يرد به على القائلين بالاتفاق، أعني الذين يقولون: لا صانع ههنا، وانما جميع ما حدث في هذا العالم انما هو عن الأسباب المادية» [34].. فالقول بعلاقة الأسباب بالمسببات – برأى  ابن رشد – لازم لكل مؤمن بوجود فاعل وموجد للوجود – وهذا نقيض المذاهب المادية – ولكن قيام علاقة السببية بين الأسباب والمسببات لا يعني، عند ابن رشد، انكار الفعل الإلهي، المسبب لجميع الأسباب، والقائم عليها، وفوقها.. وبهذا بجمع ابن رشد بين فعل الأسباب وبين سلطان خالقها عليها – ومن ثم على المسببات – وهو ما غفل عنه الباطنية وبعض المتكلمين.

وفي صياغة هذا المذهب – الذي ينهي الخلاف المفتعل حول السببية في الفكر الإسلامي – يقول ابن رشد «.. وانما الذي قاد المتكلمين من الأشعرية إلى هذا القول – [نفي علاقة الضرورة بين الأسباب والمسببات] – الهروب من القول بفعل الطبيعة التي ركبها الله في الموجودات التي ههنا، كما ركب فيها النفوس، وغير ذلك من الأسباب المؤثرة. فهربوا من القول بالأسباب لئلا يدخل عليهم القول بان ههنا أسبابا ً فاعلة غير الله».

ثم يقدم ابن رشد الحل لهذا الذي أشكل على بعض المتكلمين، فيقول: «وهيهات،  لا فاعل ههنا إلا الله، إذ كان مخترع الأسباب، وكونها أسبابا ً مؤثرة هو بإذنه وحفظه لوجودها، وأيضا ً فانهم خافوا ان يدخل عليهم من القول بالأسباب الطبيعية ان يكون العالم صادرا ً عن سبب طبيعي، ولو علموا ان الطبيعة مصنوعة، وانه لا شئ أدل على الصانع من وجود موجود بهذه الصفة في الإحكام لعلموا ان القائل بنفي الطبيعة قد أسقط جزءا ً عظيما ً من موجودات الاستدلال على وجود الصانع العالم، بجحده جزءا ً من موجودات الله. وذلك ان من جحد جنسا ً من المخلوقات الموجودات فقد جحد من أفعال الخالق سبحانه، ويقرب هذا من جحد صفة من صفاته.

«ان من جحد كون الأسباب مؤثرة بإذن الله في مسبباتها، فانه قد أبطل الحكمة وأبطل العلم، وذلك ان العلم هو معرفة الأشياء بأسبابها، والحكمة هي المعرفة بالأسباب الغائية، والقول بانكار الأسباب جملة هو قول غريب جدا ً عن طباع الناس» [35].

وبهذا المذهب الرشدي في «العناية الإلهية».. وفي السببية – التي وضعها في إطار العناية الإلهية – يقف ابن رشد على النقيض من مذهب «الرشديين اللاتين» الذين انكروا العناية الإلهية لأفعال الانسان.. وعلى الضد من فلسفة التنوير الغربي – المادية والوضعية – التي قررت «إكتفاء الطبيعة بذاتها»، نافية التأثير فيها والتدبير لها من فوقها وورائها.

 

3- قدم العالم:

أما دعوى قدم العالم، التي قال بها «الرشديون اللاتين» – ومن بعدهم كل المدارس الوضعية والمادية في فلسفة التنوير الغربي – فان ابن رشد يقدم فيها مذهبا ً يخرجها من هذا الاستقطاب الذي قام إزاءها بين الفلاسفة القدماء وبين المتكلمين الإسلاميين.. فيقول:

«وأما مسألة قدم العالم، وحدوثه، فان الاختلاف فيها بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعا ً للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء.

وذلك انهم اتفقوا على ان ها هنا ثلاثة أصناف من الموجودات، طرفان، وواسطة بين الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين، واختلفوا في الواسطة.

فأما الطرف: فهو موجود وجد من شئ غيره، وعن شئ أعنى عن سبب فاعل، ومن مادة، والزمان متقدم عليه، أعنى على وجوده. وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك. فهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع، من القدماء والأشعريين، على تسميتها محدثة.

وأما الطرف المقابل لهذا، فهو: موجود لم يكن من شئ، ولاعن شئ، ولا تقدمه زمان. وهذا، أيضا ً، اتفق الجميع، من الفرقتين، على تسميته قديما ً. وهذا الموجود مدرك بالبرهان، وهو الله، تبارك وتعالي، الذي هو فاعل الكل وموجده والحافظ له، سبحانه وتعإلى قدره.

وأما الصنف من الموجود الذي بين هذين الطرفين فهو: موجود لم يكن من شئ، ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شئ، أعنى عن فاعل، وهذا هو العالم بأسره.. فهذا الموجود قد أخذ شبها من الوجود الكائن الحقيقى، ومن الوجود القديم، فمن غلب ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث، سماه قديما ً، من غلب عليه ما فيه من شبه المحدث، أسماه محدثاً. وهو في الحقيقة، ليس محدثا ً حقيقيا ً ولا قديما ً حقيقيا ً، فان المحدث الحقيقى فاسد ضرورة والقديم الحقيقى ليس له علة»  [36].

فابن رشد، هنا، يقد – في الخلاف حول قدم العالم وحدوثه – مذهبا ً ثالثا ً فيه حل للخلاف الذي أحدث استقطابا ً بين الفلاسفة وبين بعض المتكلمين… وليس قائلا ً بالقدم الحقيقى للعالم… وهو مذهب يجعله على النقيض من مذاهب التنويريين، الماديين والوضعيين.. وذلك انه ينتصر، بهذا المذهب، للفكر الإلهي الذي جعل العالم وسائر الموجودات مخلوقة للخالق الواحد القديم.

فليس من الأمانة ولا من الموضوعية «حشره» في أطار التنوير الوضعي والمادى والعلمانى.. فضلا ً عن جعله المؤسس لهذا التنوير!

4- علاقة الفلسفة بالشريعة:

لقد جعل التنوير الغربي شعاره: «انه لا سلطان على العقل إلا للعقل».. ولم يكن ذلك لمجرد الانتصار للعقل في مواجهة اللاهوت الكنسي، وانما كان ذلك لان فلسفة هذا التنوير كانت «وضعية ومادية» تقف عند معارف وحقائق هذا العالم وحده، عالم الشهادة، التي رأت العقل قادرا ً على ان يستقل بإدراكها دون عون من الوحى والدين، ولان هذا التنوير كان وضعيا ً في كل الحالات، وماديا ً في بعض الحالات، فهو لم يستغن – مجرد استغناء – عن معارف وحقائق عالم الغيب، وانما انكر ان تكون هذه المعارف جديرة بما هو ضرورى للمعارف من الصدق والوثوق.. فهي عنده، طور طفولة العقل البشرى، التي تجاوزها إلى الميتافيزيقا، والتي جاء التنوير ليأخذ بيده إلى الوضعية التي تحصر المعارف الحقة في العالم والواقع، وتقف بسبل هذه المعارف عند العقل والتجربة.. فلا غيب في مصادر المعرفة، ولا وحى ولا وجدان في سبل اكتسابها..

ولهذه المنطلقات والمواقف الثابتة في فلسفة التنوير الغربي، كان تقديم الفلسفة – وهي ثمرة عقلية على الشريعة الدينية – بل، إذا شئنا الدقة، إحلال الفلسفة محل الشريعة، واتخاذها «شريعة عقلية» بدلا ً من الشريعة السماوية..

والإستغناء عن الشريعة  كمصدر للقانون، «برد القانون إلى أصول فيزيقية وتاريخية» !.

كذلك انكر هذا التنوير الخوارق والمعجزات، انطلاقا ًمن مبدأ إكتفاء الطبيعة بذاتها، وانكاره وجود موجود غير مادي، مفارق للطبيعة قادر على تبديل القوانين الطبيعية والأسباب الذاتية بالخوارق والمعجزات.

هذا هو موقف التنوير الغربي من العقل.. ومن علاقة الفلسفة العقلية بمبادئ الشريعة الدينية وبالخوارق والمعجزات..

فهل كانت فلسفة ابن رشد – عبر «الرشديين اللاتين – مؤسسة لهذا التنوير ؟! – كما يدعى «التنويريون الجدد» في واقعنا الثقافي هذه الأيام ؟!..

ان مفهوم العقل، عند ابن رشد، مخالف لمفهومه عند فلاسفة التنوير الغربي.

فعلى حين يقول «دولباك» [ 1723 – 1789 م]: «ان الفكر وظيفة الدماغ».. ويقول «كابانيس» [ 1757 – 1801 م]: «ان الدماغ يفرز الكر كما تفرز الكبد الصفراء» [37].

نجد ابن رشد ملتزما ً بالرؤية الإسلامية التي رأت العقل «ملكة» و «لطيفة ربانية» وليس عضوا ً في جسد الانسان.. «فالعقل ليس هو شيئا ً أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها، وبه يفترق عن سائر القوى المدركة.. ان العقل ليس ينسب إلى عضو مخصوص من الانسان.. وليس يكون قولنا في الانسان: انه عالم كقولنا: انه يبصر.. بعضو مخصوص.. وأما إذا لم يكن للعقل عضو يخصه فتبين ان قولنا فيه: عالم، ليس من قبيل ان جزءا ً منه عالم..  وذلك انه ليس بظهر ان ههنا عضوا ً خاصا ً من عضو من الأعضاء كالحال في قوة التخييل والفكر والذكر، وذلك ان مواضع هذه معلومة من الدماغ» [38].

فالعقل ليس «الدماغ»، الذي يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء.. وانما هو – على عكس التصور المادي لفلسفة التنوير الغربي – كما عند ابن رشد – «ملكة إدراك الموجودات بأسبابها».. وكما عند الشريف الجرحانى [ 470 – 816 هـ – 1340 – 1413 م]: «جوهر مجرد عن المادة في ذاته، مقارن لها في فعله» [39].

وإذا كان الغرب قد عاد ويعود – بسبب «الفيزياء الذرية المعاصرة التي نأت بالعلم عما كان يتسم به من اتجاه مادي في القرن التاسع عشر» – عاد ويعود إلى تبني النظرة الإسلامية لمفهوم العقل.. وقال علماء منه: «فيا له من أمر مثير ان نكتشف ان العالم يستطيع، بدوره، ان يؤمن عن حق بوجود الروح.. وإذا كان العقل والإرادة غير ماديين، فلا شك ان هاتين الملكتين لا تخضعان بالموت للتحلل الذي يطرأ على الجسم والدماغ كليهما» [40].

فهل نعود نحن – بالإدعاءت – إلى صب ابن رشد في القوالب الوضعية والمادية، التي يراجعها ويتراجع عنها اليوم كثير من الفلاسفة والعلماء الغربيين ؟..

وكذلك الحال عند مقارنة الموقف الرشدي من علاقة الفلسفة بالشريعة بنظيره التنويرى الغربي.. فابن رشد لا يحل الفلسفة العقلية محل الشريعة الإلهية – كما يصنع الماديون الغربيون – ولا يجعلهما متجاورتين ومنفصلتين انفصال الغرف المعزولة – كما يرى الوضعيون – وانما يؤسس الفكر عليهما معا ً، بعد التوفيق والمؤاخاة بينهما، ولهذا المقصد عقد ابن رشد كتابه المنهجى (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال).. وفيه قدم هذا الموقف – الذي لا يحل الفلسفة محل الشريعة.. ولا الشريعة محل لفلسفة.. ولا يفصلهما عن بعضهما – وانما ينطلق من النظرة القرانية التي علمتنا ان الله هو الذي انزل «الكتاب» و«الحكمة»، أى جعل للإصابة مصدرا جاء به الوحي إلى الانبياء والرسل.. ومصدرا ً يستقل به العقل الانساني.. فهما – الإصابة في النبوة – هدايتان من الخالق الواحد للانسان المستخلف في إقامة العمران.. فهما أختان رضيعتان، ليس بينهما تناقض أو شقاق.. وفي ذلك يقول أبو الوليد: «ان الحكمة هي صاحبة الشريعة، والأخت الرضيعة.. وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة» [41]… فهل يجوز أو يسوغ حشر هذا الموقف الرشدي في قوالب التنوير الغربي المادي والوضعي ؟! والإدعاء بان «ابن رشد يخضع الدين للعقل بفضل ما لدى للعقل من قدرة على التأويل» ؟! [42].

5- الموقف من الخوارق والمعجزات:

وإذا كان التنوير الغربي – لوضعيته وماديته – قد انكر الخوارق والمعجزات، فانه قد اتخذ هذا الموقف لانه قد رآها خارجة عن الادراك العقلي، وهو قد نفي صفات المعرفة والحقيقة والصدق والعلم عن كل ما لا يدرك بالعقل والتجربة المحسوسة، وجعل شعاره «لا سلطان على العقل إلا للعقل»..

أما موقف ابن رشد، من هذه القضية، فهو على النقيض من موقف التنويريين الغربيين.. فهو يعلن – صراحة.. وفي الكثير من النصوص، والعديد من الكتب – ان هناك «أمورا ً إلهية تفوق العقول الانسانية» مثل «مبادئ الشريعة» و«المعجزات» وان «كيفية وجودها هو أمر إلهي معجز عن إدراك العقول الانسانية».. وان واجب الكافة، عامة وخاصة جمهورا ً ومتكلمين وحكماء هو «التسليم بها والتقليد أسبابها».. ومن لا يسلم بهذه المبادئ الشرعية والمعجزات فهو كافر زنديق !.

نعم يسوق ابن رشد هذا الموقف الإسلامي – المناقض لفلسفة التنوير الوضعية والمادية – في نصوص واضحة الدلالات، فيقول: «فالخطأ في الشرع على ضربين: إما خطأ يعذر فيه من هو من أهل النظر في ذلك الشئ، الذي وقع فيه الخطأ، كما يعذر الطبيب الماهر إذا أخطأ في الحكم، ولا يعذر فيه من ليس من أهل هذا الشئ.

وإما خطأ ليس يعذر فيه أحد من الناس، بل ان وقع في مبادئ الشريعة فهو كفر، وان وقع فيما بعد المبادئ فهو بدعة. وهذا الخطأ الذي يكون في الأشياء التي تقضى جميع أصناف طرق الدلائل إلى معرفتها، فتكون معرفة ذلك لا شئ بهذه الجهة ممكنة للجميع، وهذا مثل الإقرار بالله، تبارك وتعالي، وبالنبوات، وبالسعادة الأخروية والشقاء الأخروى. وذلك ان هذه الأصول الثلاثة تؤدى إليها أصناف الدلائل الثلاثة، التي لا يعرى أحد من الناس عن وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلف معرفته، أعنى: الدلائل الخطابية، والجدلية، والبرهانية. فالجاحد لمثل هذه الأشياء، إذا كانت أصلا ً من أصول الشرع، كافر، معاند بلسانه دون قلبه، او بغفلته عن التعرض إلى معرفة دليلها، لانه ان كان من أهل البرهان فقد جعل له سبيل إلى التصديق بها بالبرهان، وان كان من أهل الموعظة فبالموعظة. ولذلك قال عليه السلام: (أمِرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويؤمنوا بى). يريد: بأى طريق اتفق لهم من طرق الإيمان الثلاثة» [43].

فالجحد لمبادئ الشريعة كفر، لا عذر لصاحبه، من الخاصة كان أو من الجمهور.. وجزاؤه – عند ابن رشد – القتل فهل في هذا المذهب الرشدي تأسيس للتنوير الغربي، الذي استبدل الدين الطبيعى بالدين الإلهي ؟!..

والمعجزات، التي انكرها التنويريون ؛ لان العقل لم يدرك أسبابها.. يراها ابن رشد – كمبادئ الشريعة – مما لا يعذر انسان في عدم التصديق بها.. وجاحدها، عنده، زنديق يجب قتله.. وفي ذلك يقول: «أما الكلام في المعجزات.. فقدماء الفلاسفة يرون انها من مبادئ الشرائع، والفاحص عنها والمشكك فيها يحتاج إلى عقوبة عندهم، مثل من يفحص عن مبادئ الشرائع العامة، مثل هل الله تعإلى موجود ؟ وهل السعادة موجودة ؟ وهل الفضائل موجودة ؟.. [وعندهم] – انه لا يشك في وجودها، وان كيفية وجودها هو أمر معجز عن إدراك العقول الانسانية، والعلة في ذلك ان هذه مبادئ الأعمال التي يكون بها الانسان فاضلا ً، ولا سبيل إلى حصول العلم إلا بعد حصول الفضيلة، فوجب ان لا يتعرض للفحص عن المبادئ التي توجب الفضيلة قبل حصول الفضيلة.. والذي يقوله القدماء في أمر الوحى والرؤيا انما هو عن الله تعإلى بتوسط موجود روحانى ليس بجسم، وهو واهب العقل الانسانى عندهم، وهو الذي يسميه الحذاق منهم العقل الفعال، ويسمى في الشريعة ملكا ً..» [44].

فعلى حين أسس التنوير الغربي العلم على الواقع، المدرك بالعقل والتجربة، مع انكار معارف الغيب وطرق المعرفة الشرعية.. تحدث ابن رشد عن تسليم الفلاسفة القدماء بمبادئ الشريعة – في الألوهية.. والنبوة.. والسعادة والشقاء الخرويين – وبالمعجزات – التي تعجز العقول الانسانية عن الاستقلال بإدراك كيفية وجودها.. ولذلك فهي تحتاج في إدراك ذلك إلى الوحى – الذي سلم به الفلاسفة القدماء – بل ورأوه واهب العقل الانسانى !..

ولان هذا هو موقف الفلاسفة الإلهيين القدماء، من مبادئ الشريعة، ومن المعجزات.. كان دفاع ابن رشد عن موقفهم هذا في رده على الإمام الغزالي [ 450 – 505 هـ – 1058 – 1111 م] – وهو رد يؤكد على موقفهم هذا من مبادئ الشريعة من المعجزات.. قال:

«وأما ما تسميه – [ الغزالي إلى الفلاسفة ] – من الإعتراض على معجزة إبراهيم عليه السلام – [تحول النار عندما ألقى فيها إلى برد وسلام ] – فشئ لم يقله إلا الزنادقة من أهل الإسلام، فان الحكماء من الفلاسفة ليس يجوز عندهم التكلم ولا الجدل في مبادئ الشرائع، وفاعل ذلك عندهم محتاج إلى الأدب الشديد، وذلك انه لما كانت ل صناعة لها مبادئ، وواجب على الناظر في تلك الصناعة ان يسلم مبادئها، ولا يتعرض لها بنفي لا إبطال، كانت الصناعة العملية الشرعية أخرى بذلك، لان المشى على الفضائل الشرعية هو ضرورى عندهم، ليس في وجود الانسان بما هو انسان، بل وبما هو انسان عالم ؛ ولذلك يجب على كل انسان ان يسلم بمبادئ الشريعة وان يقلد فيها، فان جحدها والمناظرة فيها مبطلان لوجود الانسان ؛ ولذلك وجب قتل الزنادقة. فالذي يجب ان يقال فيها: ان مبادئها أمور إلهية تفوق العقول الانسانية، فلابد ان يعترف ها مع جهل أسبابها. ولذلك لا تجد احدا ً من القدماء تكلم في المعجزات، مع انتشارها وظهورها في العالم، لانها مبادئ تثبيت الشرائع، والشرائع مبادئ الفضائل، ولا فيما يقال بعد الموت. فإذا نشأ الانسان على الفضائل الشرعية كان فاضلا ً بإطلاق، فان تمادى به الزمان والسعادة إلى ان يكون من العلماء الراسخين في العلم، فعرض له تأويل في مبدأ من مبادئها، فيجب عليه أ، لا يصرح بذلك التأويل، وان يقول فيه كما قال تعإلى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به)[45]. هذه حدود الشرائع، وحدود العلماء» [46].

فمبادئ الشريعة، والمعجزات «أمور إلهية تفوق العقول الانسانية».. وواجب العلماء الراسخين في العلم – الذين عقلوا وجود الخالق للأسباب، القادر على إحلال أسباب أخرى غير معتادة، تؤدى إلى معجزات وخوارق ومسببات أخرى غير معتادة – ان يعترفوا ويسلموا ويقلدوا في هذه الأمور التي لا تستقل العقول الانسانية بإدراك «كيفية وجودها».. وحتى إذا عرض للراسخين في العلم تأويل في شئ من ذلك فواجب ان لا يصرحوا بذلك التأويل… فليس فرضا على العقول الفحص فيما لا قِبل لها بإدراكه.. وانما فرضها ان تقول كما قال الله تعإلى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به)..

فهل هناك حد أدنى من الفقه والصدق والعدالة العلمية لدى الذين يضعون هذا الفكر الرشدي في سلة التنوير الغربي الوضعي والمادى ؟!..

6- التـــــــــــــأويل العربــي.. والتــــــأويل الغربي:

ليس هناك مذهب إسلامى لم يقل أعلامه بالتأويل، على نحو من الانحاء، وفي عدد من النصوص والمشكلات.. وبعبارة الإمام الغزالي – الذي بلغ في التقعيد للتأويل والتفصيل في مراتبه ما لم يبلغه ابن رشد – والذي كان ابن رشد مقتديا ً به في هذا الفن ! – فانه «ما  من فريق من أهل الإسلام إلا وهو مضطر إلى التأويل، فالحنبلي مضطر اليه وقائل به.. وكذلك الأشعري والمعتزلي» على تفاوت بينهم في الاقتصاد والتوسط والتوغل في مواضعه.. ومع اتفاق الفرق على الدرجات الخمس في التأويل: الوجود الذاتي.. والوجود الحسي.. والوجود الخيالي.. والوجود العقلي.. والوجود الشبهي..» واتفاقهم «وأيضا على ان جواز ذلك التأويل موقوف على قيام البرهان على استحالة الظاهر..» [47]..

وعلى مذهب الغزالي هذا – الذي جعل التأويل «جائزا ً» عند «قيام البرهان على استحالة الظاهر» أي في بعض المواضع، لا في كل الأمور – سار ابن رشد.. فاستشهد على انه «لا يقطع بكفر من خرق الإجماع  في التأويل»، إذا كان الإجماع ظنيا ً بآراء الغزالي وإمام الحرمين – الجوينى – (419 – 478 هـ – 1028 – 1085م).. وأشار على سبق الغزالي إلى تحديد مراتب التأويل..[48].. ونبه على ان التأويل العربى – أى في اللغة العربية – ضوابط حددتها هذه اللغة، فهو لا يجوز إلا في المواطن التي تتوفر فيها للنص هذه الضوابط اللغوية، وذلك عندما قال: «ومعنى التأويل: هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير ان يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز، من تسمية الشئ بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازى» [49]. كما نبه ابن رشد في الإجماع الإسلامي على ان التأويل جائز في بعض نصوص الشرع، فلقد «أجمع المسلمون على انه ليس يجب ان تحمل ألفاظ الشراع كلها على ظاهرها، ولا ان تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل» [50]. فما ثبت فيه «الإجماع بطريق يقينى لم يضح» فيه التأويل [51]

كما نبه على وجود شواهد في النصوص تعين مواطن التأويل ومواضعه فكان «ظاهر الشرع» هو سبيل من سبل التحديد لمواطن «التأويل» ؛ «لانه ما من منطوق به في الشرع، مخالف بظاهره لما ادى اليه البرهان إلا إذا اعتبر وتصفحت سائر اجزائه، وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل، أو يقارب ان يشهد» [52].

وخلص إلى ان المقصد من التأويل، القائم «على قانون التأويل العربي» هو «الجمع بين المعقول والمنقول» [53].

وليس إحلال المعقول محل المنقول.. هكذا أعلن ابن رشد التزامه بالمذهب الإسلامي في التاويل:

أ- التأويل (جائز)..

ب- في المواطن التي يقوم فيها البرهان على أستحالة الظاهر..

جـ – وبشرط تحقق شروط اللغة العربية في المجاز – الذي تخرج فيه دلالات اللفاظ من حقيقتها إلى مجازها..

ء- وفيما لم يثبت فيه إجماع يقينى على ان المراد هو ظاهر الألفاظ..

هـ – وبترشيح دلالات التأويل في بعضها..

و- ومن أجل الجمع بين المعقول والمنقول – لا المقابلة بينهما، والانحياز لأحدهما، تجاوزا ً للآخر أو نفيا ً له -.. ومع كل هذه الضوابط التي أحاط بها ابن رشد قضية التأويل.. رأيناه يؤكد على ان هذا التأويل هو حق للخاصة من الراسخين في العلم، لا يصرح به للعامة، ولا يثبت في الكتب الجمهورية – حتى ولو كان تأويلا صحيحا، مستجمعا لشروط التأويل وضوابطه «فهذا التأويل ليس ينبغى ان يصرح به لأهل الجدل، فضلا عن الجمهور، ومتى صرح بشئ من هذه التأويلات لمن هو من غير أهلها… أفضى ذلك بالمصرح له والمصرح إلى الكفر. فليس يجب ان تثبت التأويلات الصحيحة في الكتب الجمهورية، فضلا عن الفاسدة.. وأما المصرح بهذه التأويلات لغير أهلها فكافر» [54].

إذن فإقامة الثقافة العامة، والفكر الجمهوري، وتأسيس النهضة الحضارية على التأويل – كما حدث في التنوير الأوربى، النهضة الغربية – هو – في رأي ابن رشد – كفر من المتأولين أصابوا به من أشاعوا فيهم هذا التأويل !…

وفيما يتعلق بعالم الغيب ومبادئ الشريعة، وكل ما لا يستطيع العقل الاستقلال بإدراك كنهه، أوجب ابن رشد أخذه على ظاهره، دون تأويل ؛ لان هذه المواطن، عنده، مما تعلم بنفسها، بالطرق الثلاث للتصديق: الخطابية.. والجدلية.. والبرهانية.. ولذلك «لم نحتج ان نضرب له أمثالا، وكان على ظاهره، لا يتطرق اليه تأويل. وهذا النحو من الظاهر ان كان في الأصول فالمتأول له كافر، مثل من يعتقد انه لا سعادة أخروية ها هنا ولا  شقاء، وانه قصد بهذا القول ان يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وانها حيلة، وانه لا غاية للانسان إلا وجوده المحسوس فقط.. ان ها هنا ظاهرا ً من الشرع لا يجوز تأويله، فان كان تأويله في المبادئ فهو كفر، وان كان فيما بعد المبادئ فهو بدعة..» [55].

ففي هذا النص يقطع ابن رشد بكفر تأويل الذين قالوا «بالدين الطبيعي»، الذي يهدف إلى «ان يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم» لان غاية الانسان، عندهم، «وجوده المحسوس فقط».. وهذا هو عين تأويل فلاسفة التنوير الغربيين !..

ولقد حدثنا ابن رشد عن ان تشدده هذا في ضرورة «موقفا ذهنيا خاصا لا يصرح به المتأول» انما كان مذهب الصدر الأول للإسلام و المسلمين، وان التخلى عنه قد اصبح بدعة أدت إلى اضطراب أمر الأمة، وإشاعة الفرقة والتكفير في صفوفها.. فقال: «ان الصدر الأول انما صار غلى الفضيلة الكاملة والتقوى باستعمال هذه الأقاويل – _ التي ثبتت في الكتاب العزيز) – دون تأويلات فيها، ومن كان منهم وقف على تأويل لم ير ان يصرح به.

وأما من أتى بعدهم، فانهم لما استعملوا التأويل قل تقواهم، وكثر اختلافهم، وارتفعت محبتهم وتفرقوا فرقا. فيجب على من أراد ان يرفع هذه البدعة عن الشريعة، أ، يعمد إلى الكتاب العزيز، فيلتقط منه الاستدلالات الموجودة في شئ مما كلفنا اعتقاده، ويجتهد في نظره إلى ظاهرها ما أمكنه من غير ان يتاول من ذلك شيئا ً إلا إذا كان التأويل ظاهرا ً بنفسه، أعنى ظهورا ً مشتركا ً للجميع..» [56]. ذلك انه «لما تسلط على التأويل في هذه الشريعة من لم تتميز له هذه المواضع، ولا يميز له الصنف من الناس الذي يجوز التأويل في حقهم، اضطراب الأمر فيها، وحدث فيهم فرق متباينة يكفر بعضهم بعضا، وهذا كله جهل بمقصد الشرع وتعدٍ عليه» [57]..

ذلك هو مذهب ابن رشد في التأويل – وهو مذهب أكثر محافظة من مذهب الغزالي فيه – على عكس ما يظن كثيرون من الذين يقابلون بين الرجلين دون فقه لمجمل إبداعهما في هذا الموضوع – ![58]

ولقد أدرك حقيقة هذا المذهب الرشدي – في التأويل – الدكتور زكي نجيب محمود, فقال:«ان ابن رشد يريد ان يضيق حدود التأويل بحيث لا نلجأ إليه إلا فيما لا حيلة لنا أمامه إلا ان نؤول ظاهر الشريعة فيه. وحتى في هذه المجالات لضرورية سنجد في ظاهر الشريعة مواضع أخرى تؤيد تأويلنا» [59].

لكن الذين أرادوا «التستر» بابن رشد لإيهام الأمة المسلمة ان تأويل فيلسوفها المسلم هو ذاته تأويل فلاسفة التنوير الغربي قذ قفزوا على حقائق وضوابط هذا المذهب الرشدي.. فادعى فرح انطون: ان «التأويل الذي يلجأ إليه ابن رشد.. باب واسع يسع كل الآراء والتعاليم» [60]

وانتقد الدكتور مراد مراد وهبة رأي زكي نجيب محمود قائلاً:«انه يطمس ملامح التفرقة بين المعنى الظاهر والمعنى الباطن, فيقضي على مقولة التأويل» [61]..

وادعى ما ترفضه نصوص ابن رشد – التي سبق وأوردنا طرفا منها -.. ادعى ان ابن رشد – على عكس الغزالي – قد «أوجب التأويل في كل الأمور» [62]..

فوقف – مراد وهبة – مع فرح انطون بعيداً عن فقه آراء ابن رشد والغزالي في التأويل لانهما – وهبة… وانطون – قد انطلقا من تراث «الرشديين اللاتين» لامن إبداعات الغزالي وابن رشد !..

ويشهد على تلك الحقيقة – حقيقة رؤية «الرشديين اللاتين» بحسبانهم ابن رشد – تلك الأخطاء التي وقع فيها أستاذ الفلسفة الدكتور مراد وهبة – والتي يستغرب وقوعها من طالب فلسفة – من مثل قوله:«ان الغزالي يدخل من بين العوامل الأساسية في تفسير محنة ابن رشد المتجسدة في محاكمته ونفيه وحرق مؤلفاته..» [63].

فابن رشد لم يحاكم.. ومحنته كانت لأسباب سياسية غلفت بأغلفة فكرية.. ثم, كيف يكون الغزالي من عوامل محنة ابن رشد وإحراق مؤلفاته.. وهو – الغزالي – كان مضطهداً في المغرب والأندلس – حيث عاش وامتحن ابن رشد – وكتبه قد أحرقت هناك, وظل فكره ممنوعا لسنوات أطول بكثير جداً من سنوات محنة أبي الوليد ؟!

وإذا كان ابن رشد قد أفرد كتابه المنهجي (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) لإثبات المؤاخاة بين العقل والنقل.. بين الفلسفة والشرع, اعتمادا على التأويل, الذي سار فيه على القواعد التي أرساها الغزالي. فمن أين أتى الدكتور مراد وهبة بمقولة: ان (فصل المقال) كتاب (كرسه ابن رشد للرد على الغزالي) مثل (تهافت التهافت) [64].. مما يوحي بغربة الرجل عن هذا التراث الذي يشير إلى عناوين كتبه ؟!..

ان الرجل – عندما كتب قصة الفلسفة – قد اختزل إبداع أمتنا, في سياق التراث الفلسفي الانسانى, بأقل من سطرين !..

وهو فيما كتبه أخيرا عن ابن رشد كانت عينه على مقولة يريد ان يروج لها, وهي:«ان مفهوم ابن رشد عن التأويل قد أحدث تأثيراً في بزوغ حركتين فلسفيتين في أوروبا, هما الهومنيوطيقا – (علم التأويل), والتنوير»[65].. وذلك ليجعل من تأويل ابن رشد «التأويل التنويرى الوضعي», الذي ينصب على وجود الله, وعالم الغيب, والنبوات, ومبادئ الشريعة.. والذي يهدف إلى إحلال الدين الطبيعى» محل «الدين الإلهي» والذي يلغي «المنقول» لحساب «المعقول».. وصولا إلى إحلال النموذج الغربي في التقدم والنهوض محل النموذج الإسلامي في النهضة والإصلاح !..

وهي مقاصد تقطع الطريق عليها إبداعات ابن رشد, التي أشرنا إلى طرف منها في هذه الصفحات !

 

7- حقيقة واحدة ؟.. أم حقيقتان ؟؟:

صحيح ان أسقف باريس «أتين نامبيه» قد حرم ـ من القضايا الفكرية «الرشديين اللاتين»: «قولهم بحقيقتين مختلفتين، وفي ذات الوقت صادقتين، إحداهما دينية إيمانية والأخرى فلسفية عقلية».. وصحيح، كذلك، ان القول بالحقيقتين – وليس بوحدة الحق والحقيقة –  هو التعبير عن منهاج الفلسفة الوضعية من الدين، وعلاقته بالعلم.. فهي ترى ان المعارف الدينية قلبية وجدانية، لها دورها النفعي بالنسبة للعامة من الناس، الذين لا تضبطهم الفلسفات العقلية، بينما المعارف العلمية عقلية برهانية، تخضع للفحص والاختيار اللذين لا تحتملهما المعارف الدينية القلبية الوجدانية، وان من النافع وجود الحقيقتين، متجاورتين، تجاور الغرفتين المستقلتين، لكل منهما نظامها ومعاييرها وجمهورها.. فالحقيقة الدينية اللاعقلية واللاعلمية صادقة بالنسبة لجمهورها، والحقيقة العقلية الفلسفية صادقة بالنسبة للخاصة المدركة لها..

تلك هي الفلسفة الوضعية الغربية في الحقيقتين، التي بشر بها «الرشديون اللاتين»، في مواجهة احتكار اللاهوت الكنسي لحقائق عالم الشهادة وعالم الغيب جميعا.. وهي التي ورد النص عليها في مراسيم التحريم الكنسية لفكر «الرشديين اللاتين»..

لكن الزعم بان ابن رشد هو من القائلين بثنائية الحقيقة، لا بوحدة الحق [66]… هو الإدعاء الذي تنقضه وتنفده إبداعات فكر هذا الفليسوف العظيم.. فالتأويل عند ابن رشد – كما سبق وأوردنا نصوصه فيه – هو سبيل إلى وحدة الحقيقة، وليس إلى تعددها ؛ لانه موقف من تعدد طرق ومستويات الناس في التصديق بالحقيقة الواحدة، وليس سبيلا ً لإثبات ثنائية الحق والحقيقة.. وله في ذلك عشرات النصوص التي لا لبس فيها ولا غموض..

فهو يؤكد على وحدة الحقيقة، في الذات الإلهية.. وفي الشريعة الإلهية.. وفي المخلوقات، مع تعدد طرق التصديق بالحقيقة الواحدة، تبعا ً لتعدد جبلات وطبائع الناس – جمهورا ً.. وحكماء.. ومتوسطين بينهما – فيقول: «انا نعتقد، معشر المسلمين، ان شريعتنا هذه الإلهية حق، وانها التي نبهت على هذه المعرفة بالله عز وجل، وبمخلوقاته، فان ذلك متقرر عند كل مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلته وطبيعيته من التصديق، وذلك ان طباع الناس متفاضلة في التصديق، فمنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان بالبرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية. وشريعتنا قد دعت الناس من هذه الطرق الثلاث.. ولذلك خص عليه الصلاة والسلام بالبعث إلى الأحمر والأسود، أعنى لتضمن شريعته طرق الدعاء إلى الله تعالي، وذلك صريح في قوله تعإلى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) [67]…» [68].

فالحق واحد.. والتعدد هو في طرق التصديق بهذا الحق الواحد.. ولان الحق واحد في ذاته، والمعاني واحدة في نفسها، ضربت للجمهور مثالات ليدرك هذا الحق الواحد وهذه المعانى الواحدة، دون تعدد للحق أو المعنى.. فالمثالات سبل لإدراك الحقيقة الواحدة، التي يدركها البرهانيون دون مثالات.. «وانت إذا تأملت الشرع وجدته، مع انه ضرب للجمهور في هذه المعانى المثالات التي لم يمكن تصورهم إياها دونها، قد نبه العلماء على تلك المعانى انفسها التي ضرب مثالاتها..» [69]..

فالمعانى واحدة، والحق واحد، والمثالات طرق وسبل للتصديق بالمعانى نفسها، التي يدركها الراسخون في العلم ويصدقون بها ذاتها دون مثالات.. والتمايز بين الناس – حكماء.. وجمهورا ً.. ومتوسطين بينهما – ليس في تمايز الحقائق والمعانى التي يدركها فريق عن الآخر… وانما هو في «القدر والنصيب» الذي يستطيع إدراكه كل فريق من ذات الحقيقة الواحدة.. «فالطريقة الشرعية التي دعا الشرع منها جميع الناس، على اختلاف فطرهم، إلى الإقرار بوجود البارى سبحانه.. والتي نبه الكتاب العزيز عليها، واعتمدها الصحابة.. تنحصر في جنسين: دليل العناية، ودليل الاختراع … ولقد تبين ان هاتين الطريقتين هما بأعينهما طريقة الخواص، وأعنى بالخواص العلماء، وطريقة الجمهور. وانما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل، أعنى ان الجمهور يقتصرون من معرفة العناية والاختراع  على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على عام الحس، وأما العلماء فيزيدون على ما يدرك من هذه الأشياء بالحس ما يدرك بالبرهان، أعنى من العناية والاختراع ، حتى لقد قال بعض العلماء: «ان الذي أدرك العلماء من معرفة أعضاء الانسان والحيوان هو قريب من كذا وكذا آلاف منفعة. والعلماء ليس يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط، بل ومن قبل التعمق في معرفة الشئ الواحد نفسه. فان مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات مثالهم في النظر إلى المصنوعات التي ليس عندهم علم بصنعتها، فانهم انما يعرفون من أمرها انها مصنوعات فقط، وان لها صانعا ً موجودا ً. ومثال الدهرية في هذا، الذين جحدوا الصانع سبحانه، فمثال من أحسن مصنوعات فلم يعترف انها مصنوعات، بل ينسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته» [70]..

فالحقيقة في طرق معرفة الذات الإلهية واحدة بالنسبة للجميع، جمهوراً وعلماء, و التفاوت هو في تفاصيل معارف كل فريق من الحقيقة الواحدة – دليلي العناية والاختراع  -.. كما ان حقيقة أعضاء جسم الانسان والحيوان واحدة, والتفاصيل بين مستويات العارفين بها في كثرة أو قلة ما يدرك كل فريق من هذه الحقيقة الواحدة.. ففي الكثرة, والتعمق يكون التفاوت والتمايز لدى الفرقاء «في معركة الشئ الواحد نفسه» بعبارة أبي الوليد -.. القاطعة بوحدة الحقيقة مع تفاوت طرق إدراكها, والنسب المدركة منها, وعمق الإدراك لها..

وابن رشد عندما مايز في تاليفه بين الكتب التي توجه بها إلى الجمهور – مثل «مناهج الأدلة» – والتي وجهها إلى حكماء – مثل «فصل المقال» – لم يصنع ذلك لتعدد الحقيقة واختلافها باختلاف المخاطبين بهذه الكتب – كما فهم الكثيرون من عباراته -.. وانما أراد – في «مناهج الأدلة» مخاطبة الجمهور المعتقد – خطأ – مخالفة الحكمة للشريعة, فعرض لهذا الجمهور أصول الشريعة, وذلك لإثبات انها لا تخالف الحكمة.. كما أراد – في (فصل المقال) – مخاطبة المنتسبين إلى الحكمة, المعتقدين – خطأ – مخالفة الحكمة للشريعة, فعرض لهم أصول الحكمة, وذلك لإثبات انها لا تخالف الشريعة.. فاختصاص كل كتاب بالتوجه إلى فريق من الفرقاء, والبدء معه بعرض الأصول التي ينحاز إليها, نابع من تحيز كل فريق – أحدهما لأصول الشريعة.. والثاني لأصول الحكمة – مع توهم التعارض بينهما, وذلك وصولا بالفريقين, كل من نقط انحيازه, إلى إثبات الحقيقة الواحدة وهي تآخى الحكمة والشريعة دائماً وأبدا..

وفي نص حاسم لهذه المسألة التي لعبت دوراً كبيراَ في شيوع قول ابن رشد بتعدد الحقيقة باختلاف الجمهور, وتميز الكتب التي يخاطب بها كل فريق.. يقول ابن رشد: «فالصواب ان تعلم الفرقة من الجمهور التي ترى ان الشريعة مخالفة للحكمة انها ليست مخالفة لها, وكذلك الذين يرون ان الحكمة مخالفة لها, من الذين ينتسبون للحكمة, انها ليست مخالفة له, وذلك بان يعرف كل واحد من الفريقين انه لم يقف على كنههما بالحقيقة, أعنى لا على كنه الشريعة ولا على كنه الحكمة, وان الرأى في الشريعة الذي أعتقد انه مخالف للحكمة هو رأي إما مبتدع في الشريعة لا من أصلها, وإما رأي خطأ في الحكمة, أعنى تأويل خطأ عليها.. ولهذا المعنى اضطررنا، نحن، في هذا الكتاب – «مناهج الأدلة» – ان نعرف أصول الشريعة، فان أصولها إذا تؤملت وجدت أشد مطابقة للحكمة مما أول فيها. كذلك الرأى الذي ظن في الحكمة انه مخالف للشريعة يعرف ان السبب في ذلك انه لم يحط علما ً بالحكمة ولا بالشريعة ولذلك اضطررنا، نحن أيضا ً، إلى وضع قول أعني: «فصل المقال في موافقة الحكمة للشريعة» [71]. فمعنى ان كتاب «مناهج الأدلة» موجه إلى الجمهور، هو انه رد على شبهات الجمهور المعتقد مخالفة الشريعة للحكمة، يعرض أصول الشريعة، ليثبت انها لا تخالف الحكمة.. ومعنى ان كتاب «فصل المقال» موجه إلى المنتسبين إلى الحكمة، انه رد على شبهاتهم التي حسبوا بسببها مخالفة الحكمة للشريعة، وذلك بعرض أصول الحكمة، وإثبات انها غير مخالفة للشريعة..

والحقيقة واحدة… والحق لا يتعدد، في كل الحالات، وعلى اختلاف أصناف فطر المخاطبين. فالقصد من «التأويل» عند ابن رشد، هو «الجمع بين المعقول والمنقول» [72].. لان الحقيقة في المعقول والمنقول واحدة..

والسبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هو اختلاف فِطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق، والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها» [73]. فالظاهر والباطن لاختلاف الفطر في طرق التصديق بالحقيقة الواحدة، وليس لتعدد الحقيقة، والتاويل جامع بين الفطر وليس معددا ً للحقيقة..

«وان مبادئ الشريعة.. مثل الإقرار بالله، وبالنبوات، وبالسعادة الأخروية والشقاء الأخروى، تقضى جميع أصناف طرق الدلائل – الخطابية، والجدلية، والبرهانية – إلى معرفتها ؛ فتكون ممكنة للجميع» [74].

«ولا يجوز التأويل في مبادئ الشريعة – [ لان التأويل هو عمل العقل في الانتقال بدلالة اللفظ من الحقيقة إلى المجاز – وفق قوانينه – ]- وهذه «المبادئ أمور إلهية تفوق العقول الانسانية.. وواجب كل انسان ان يسلم بها ويقلد فيها» – فحقائقها لا تتعدد، لإدراكها بجميع أصناف طرق الدلائل.. ولعجز العقول عن ان تدرك «كيفية وجودها ؛ لان هذا الوجود أمر معجز عن إدراك العقول الانسانية» لا تستطيع ان تدرك فيه غير ما يدركه الجميع «بأصناف طرق الدلائل» [75].

تلك هي حقيقة «الرشدية الإسلامية» التي عبرت عنها إبداعات فكر ابن رشد، إذا نحن قارناها «بالرشدية اللاتينية»، التي ألصقت مقولاتها، زورا ً وبهتانا، بفليسوفنا الإسلامي، إبان الصراع الذي خاضته الكنيسة الأوربية ضد «الرشديين اللاتين»..

وإذا كان التزوير، الذي استظل باسم ابن رشد في القرن الثالث عشر الميلادى لينسب اليه نقيض فلسفته، انما يعد «اغتيالا ً لإسلامية فليسوفنا».. فان هذا التزوير يعود اليوم على يد دعاة التنوير – الوضعي والمادى الغربي – محاولا ً «اغتيال إسلامية فلسفة ابن رشد» مرة أخرى، وذلك عندما يزعمون ان «الرشدية اللاتينية» هي حقيقة فلسفة ابن رشد، وانه هو المؤسس للتنوير الوضعي العلمانى اللادينى، الذي تبلور في الغرب بالقرنين السابع عشر والثامن عشر.. فهم يتوسلون «بالتزوير» لنبتلع طعم «التنوير الغربي»، الذي يريدون إحلاله محل الخيار الإسلامي في التقدم والنهوض..

وإذا كانت هذه الصفحات قد أبرزت تناقض «الرشدية الإسلامية» مع مقولات «الرشدية اللاتينية» فلعل في الإشارة إلى معالم مقولات التنوير الغربي الوضعي والمادي – التي استخلصناها من كتابات فلاسفته – كما عرضها دعاته – ما يشهد على زيف دعواهم تأسيس ابن رشد لهذا التنوير..

ان من أبرز مقالات التنوير الغربي:

1-             «ان االانسان حيوان طبيعي – اجتماعي، فهو جزء من الطبيعة، وهي التي تزودها، فهو أقرب إلى الحيوان منه إلى الله – فليس خليفة لله، خلقه، وكرمه بان نفخ فيه من روحه، وفضله على سائر المخلوقات.. وسعادة هذا الانسان دنيوية محضة، يجدها في العاطفة والشهوة وحدهما».

2-             «وحصر الاهتمامات الانسانية بقضايا العالم الراهنة، والطبيعة المحسوسة، لا العالم الآخر، أو ما وراء الطبيعة»..

3-             «والوقوف، في الدين، عند «الدين الطبيعي» الذي هو إفراز بشري من صنع العقل، «الدين السماوي»، المتجاوز للطبيعة.. واعتبار الشعور الديني مزيجا ً من الخوف الخرافي والرغبة في تغيير ظروف مؤلمة»..

4-             «وتحرير العقل من سلطان الدين، وإعمال العقل دون معونة من الآخرين، وجعل السلطان المطلق للعقل، بحيث لا يكون هناك سلطان على العقل إلا للعقل وحده».

5-             «وإحلال العلم محل الميتافيزيقا.. وعدم تجاوز الملاحظة والتجربة إلى ما وراءهما من سبل المعرفة «النقلية» و «الوجدانية»..

6-             «واعتبار الفكر وظيفة الدماغ.. فالدماغ يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء. وليس هناك نفس في الانسان».

7-             «وإثارة الشكوك في مشروعية المطلق، فالانسان هو مقياس المطلق»..

8-             «واستنباط الأخلاق من الطبيعة الانسانية.. وحصر علاقتها بالسعادة واللذة لا بالفضيلة والاحتياجات الروحية.. مع جعل الأولوية للإحساسات الفزيقية على المفاهيم الأخلاقية والعقلية، فالأخلاق من صنعنا، ومن ثمرات خبراتنا، وهي مستندة إلى الحالة الفزيقية»..

9-             «وإحلال «الاجتماعية» محل «الدينية» سبيلا لتحقيق السعادة الدنيوية – بالعاطفة والشهوة -، فالطبيعة هي التي أوجدت الانسان والمجتمع هو المسئول عن سعادته».

10-        ورد القوانين إلى أصول فيزيقية وتاريخية.. وتحرير التاريخ من السنن الإلهية، وتفسيرة بمفاهيم طبيعية، او مفاهيم خلقية تابعة من الطبيعة الانسانية».[76]

تلك هي «الوصايا العشر» للتنوير الغربي، الوضعي العلماني.. كما صاغها فلاسفته، وعرضها دعاته، الذين يجددون اليوم محاولات أسلافهم «إغتيال إسلامية الفلسفة الرشدية»  ؛ ليتسللوا بهذا «التنوير – اللاديني» إلى عقول الأمة المسلمة، تحت ستار اسم الفليسوف المسلم، والمتكلم، والفقيه، والقاضي، والطبيب أبي الوليد ابن رشد.. [77]..

فهل من علاقة حقيقية، يدركها عقل نزيه، بين فكر أبي الوليد – الذي وفق بين الحكمة – وهي الإصابة في غير النبوة – وبين الشريعة – التي هي الإصابة في النبوة – انطلاقا ً من ان الله، سبحانه وتعالي، هو مصدر الكتاب والحكمة جميعا؟.. والذي فلسف علم الكلام الإسلامي، وبرهن بالنظر العقلي على صدق الإيمان الإسلامي؟.. كما فلسف – كفقيه مالكي – اختلاف اجتهادات الفقهاء المسلمين؟.. وقاضى القضاه الذي عاش حياته يقضى بين الناس بشريعة الإسلام؟.. هل من علاقة حقيقية، أو حتى متخيلة، يمكن ان تقوم بين فكر أبي الوليد وبين الخيار الحضارى الغربي، المؤسس على التنوير الوضعي العلماني ؟ أم ان الموقع الفكري لفليسوف قرطبة، هو كما رآه بحق الإمام محمد عبده: «فيلسوف إلهي، ومذهبه مذهب إلهي، قاعدته العلم..» ؟

نأمل ان تكون هذه الصفحات قد حملت الإجابة الشافية والموضوعية عن هذا السؤال.. وان تكون المكانة الفكرية – البارزة.. والراسخة – لابن رشد في النسق الفكري الإسلامي قد نفضت عنها غبار المتغربين وشبهات أصحاب الشبهات.

والله من وراء القصد.. منه نستمد العون والتوفيق…

 


الهوامش :

[1]إرنست رينان، (ابن رشد والرشدية) ص435،436. ترجمة عادل زعيتر ، طبعة القاهرة ، 1957 م.

[2](تهافت الهافت) ص 67 . طبعة القاهرة 1321 هـ.

[3](تلخيص الخطابة) ص 140 ، 141 . تحقيق: د . محمد سليم سالم .

[4]) فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) ص28. دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة . طبعة القاهرة 1982 م .

[5]البقرة: (129).

[6]رواه البخارى.

[7](تهافت التهافت)ص101.

[8]( فصل المقال ) ص 22.

[9]المصدر السابق . ص 26.

[10]الحشر: 2.

[11]الأعراف: 185.

[12]الغاشية: 17.

[13] آل عمران: 191.

[14]( فصل المقال ) ص 22، 23

[15] المصدر السابق . ص 28.

[16] [ابن رشد وفلسفته ] ص 33 ، 37 . طبعة الاسكندرية 1903 م .

[17] [ابن رشد [ جـ 2 ص 31 . طبعة بيروت . المطبعة الكاثوليكية .

[18] [مدخل إلى التنوير ] ص 141 ، 156 ، 159 . طبعة القاهرة والكويت 1994 م .

[19] د. محمود قاسم [ ظرية المعرفة عند ابن رشد وتأويلها لدى توما الاكوينى ] ص 41 . طبعة القاهرة . مطبعة الانجلو المصرية .

[20] المرجع لا سابق . ص 20 ، 21 .

[21] [ الاعمال الكاملة للامام محمد عبده ] جـ 3 ص 527 . دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة . طبعة القاهرة 1993 م .

[22] [ مدخل إلى التنوير ] ص 134 ، 135 ، 141 .

[23] المرجع السابق . ص 155 ، 156 .

[24] المرجع السابق . ص 139 .

[25] الأعراف: 54 .

[26] طــــــه: 49: 50 .

[27] العنكبـــوت: 63 .

[28] الانعــــام: 136 .

[29] [ فصل المقال ] ص 39 . وانظر كذلك [ تهافت التهافت ] ص 110 ، 112 ، 114.

[30] ضميمة فى العلم الالهى [فصل المقال ] ص 76.

[31] المصدر السابق .ص 41 ، 39.

[32] [مناهج الادلة] ص 150 . دراسة وتحقيق: د. محمود قاسم . طبعة القاهرة سنة 1955 م.

[33] المصدر السابق: ص 225- 227 .

[34] المصدر السابق: ص 200 .

[35] المصدر السابق: ص 202 ، 204 ، 231 .

[36] [ فصل المقال ] ص 40 – 42 .

[37] [ مدخل إلى التنوير ] ص 56 ، 63 ، 64 .

[38] [ تهافت التهافت ] ص 123 ، 129 ، 130 .

[39] [ التعريفات ] طبعة القاهرة سنة 1938 م .

[40] روبرت م أغروس ، جورج ن . ستانسيو [ العلم فى منظوره الجديد ] ص 39 ، 42 ، 43 . ترجمة كمال خلايلى . طبعة الكويت سنة 1989 م .

[41] ( فصل المقال ) ص 67 .

[42] [ مدخل إلى التنوير ] ص 156.

[43] [ فصل المقال ] ص 45 ، 46 .

[44] [ تهافت التهافت ] ص 121 ، 122 .

[45] آل عمران: 7 .

[46] ( تهافت التهافت ) ص 124 ، 125 .

[47] ( فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقو ) ص 9 – 11 . طبعة القاهرة 1907 م.

[48] ( فصل المقال ) ص 34 ، 35 ، 46 .

[49] المصدر السابق . ص 32

[50] المصدر السابق . ص 32

[51] المصدر السابق . ص 34

[52] المصدر السابق . ص 32

[53] المصدر السابق . ص 32 .

[54] المصدر السابق . ص 58 ، 59 ، 61 ، 62 وانظر كذلك ص 51 . و ( مناهج الأدلة ) ص 244 ، 245 .

[55] المصدر السابق . ص 47 ، 48 .

[56] المصدر السابق . ص 65 .

[57] ( مناهج الأدلة ) ص 249.

[58] نرجو ان نوفق لدراسة مقارنة بينهما في هذا البحث من مباحث فلسفتهما , تبديدا لوهم ( عقلانية ) ابن رشد .. ( ولا عقلانية ) الغزإلى !

[59] أعمال مهرجان ابن رشد – الجزائر 1978م . انظر ( مدخل إلى التنوير ) ص 12 .

[60] ( فلسفة ابن رشد ) ص 63 . طبعة القاهرة  1993 م

[61] ( مدخل إلى التنوير ) ص 12.

[62] المرجع السابق . ص 151

[63] المرجع السابق . ص 145

[64] المرجع السابق . ص 145

[65] المرجع السابق . ص 138

[66] المرجع السابق . ص 135 ، 138 ، 150 ، 151 .

[67] النحل: 125

[68] ( فصل المقال ) ص 30 ، 31

[69] ( مناهج الدلة ) ص 191.

[70] المصدر السابق . ص 150 ، 153 ، 154 .

[71] المصدر السابق . ص 184 ، 185.

[72] ( فصل المقال ) ص 32.

[73] ( المصدر السابق ) . ص 33 ، 34 .

[74] ( المصدر السابق ) . ص 45 ، 46 .

[75] ( تهافت التهافت ) ص ، 124 ، 125 .

[76] ( مدخل إلى التنوير ) ص 25 ، 70 .

[77] المرجع السابق . ص 134 ، 135 ، 138 ، 141 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر