أبحاث

الخدمات المصرفية في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية

العدد 26

مقدمة: حدود الأعمال المصرفية:

المقصود بالأعمال المصرفية هو جميع الأعمال التي تباشرها المصارف على اختلاف تخصصاتها وترد هذه الأعمال على النقود والمعادن الثمينة وكذلك الأوراق المالية والتجارية على اختلاف أنواعها.

والتقسيم التقليدي لأعمال المصارف كما يتناولها في ثلاث مجموعات على الوجه التاليصلى الله عليه وسلم[1]):

أ- مجموعة أعمال الخدمات المصرفية:

وتشمل هذه المجموعة من الخدمات قبول المصروف للودائع المختلفة لعملائها، وتحصيل الشيكات والحوالات والأوراق الأخرى المستحقة لهم، وغير ذلك من الأمور كبيع وشراء الأوراق المالية لحسابهم، وعمليات الاعتمادات المصرفية وخطابات الضمان والكفالة ونحوها إذا كانت مغطاة بالكامل. فإن لم تكن كذلك، فإنها إلى جانب كونها خدمات، تعتبر أيضا من قبيل التسهيلات المصرفية. كما يندرج ضمن الأعمال الخدمية التي تتولاها المصارف تأجير الخزائن وحفظ المستندات المودعة وتقديم المعلومات عن المراكز المالية التجارية لمن يزاولون النشاط الاقتصادي.

ب- مجموعة أعمال التسهيلات المصرفية:

تقدم المصارف القروض والتسهيلات المصرفية المختلفة الأخرى لعملائها. ومصطلح التسهيل المصرفي أعم من مصطلح القروض في العرف المصرفي، لأن التسهيلات المصرفية تشمل ما كان من قبيل الكفالات والضمانات التي قد تنتهي إلى قرض بالفعل، كما قد لا تنتهي إلى شيء من ذلك.

وقد لا تتلاحم أعمال التسهيلات المصرفية من أعمال الخدمات المصرفية أو تندمج فيها. فالاعتمادات المصرفية أصلا. ولكنها، إذا كانت غير مغطاة غطاءا كاملا، اعتبرت تسهيلات في نفس الوقت بالمقدار المكشوف منها دون غطاء، وهي بقدر ما تعتبر تسهيلات تندرج في نطاق القروض التي تقدمها المصارف لعملائها.

ج- مجموعة أعمال الاستثمار:

ويقصد بالاستثمار، توظيف المصرف لجزء من أمواله الخاصة أو الأموال المودعة في شراء الأوراق المالية والتي تكون غالبا في شكل سندات، وخاصة الحكومية منها، وذلك توخيا للربح، وحفاظا على سيولة المركز المالي للمصرف. ويدخل في نطاق الاستثمار، بوجه خاص، ما تباشره المصارف المتخصصة من استثمارات عقارية وصناعية وزراعية وبوجه عام، كل ما يتصل بالنشاط التنموي.

ويناقش الباحث تفصيلا مفردات الأعمال المصرفية، ويتولى بيان حكم الشريعة الإسلامية بصدد هذه الأعمال، في إطار مباحث ثلاثة متتالية.

 

الخدمات المصرفية في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية

المطلب الأول

الإيداع

تتلقى المصارف من عملائها عدة أنواع من الودائع، هي صلى الله عليه وسلم[2]):

1-     الودائع الجارية صلى الله عليه وسلمأو الودائع تحت الطلب): حيث يتمتع أصحابها بالحق في سحق ودائعهم صلى الله عليه وسلمكلها أو بعضها) في أي وقت يريدون. ومن هنا فلا تتمتع المصارف بكامل الحرية في استثمارها لهذه الودائع؛ درءا لأخطار تجميدها في أصول قليلة السيولة. ولا تدفع المصارف، في المعتاد، فوائد على هذا النوع من الودائع، ما لم تبلغ قدرا وافرا بل تتقاضى رسوما نظير خدماتها إذا قل الرصيد عن مبلغ معين.

2-     الودائع الثابتة: وتشمل الودائع لأجل والودائع بإخطار، وتتألف من الأرصدة التي يودعها أصحابها لدى المصارف بقصد تكديس الأموال، توطئه لتوجيهها في المستقبل إلى وجه معلوم من وجوه الاستثمار. ولا يلتزم المصرف بدفع هذه الودائع إلا في ميعاد معين صلى الله عليه وسلمالودائع لأجل) أو بعد إخطاره بوقت معين متفق عليه سلفا صلى الله عليه وسلمالودائع بإخطار).

3-     ودائع التوفير: وتلتقي فيها خصائص النوعين السابقين من الودائع. وتتألف من ا لمدخرات التي يحتفظ بها أصحابها لدى المصارف كرصيد لمواجهة الطوارئ. ويخضع سحبها من المصارف لقيود معينة.

وبالنظر إلى تمتع المصرف بحرية أوفر في استثمار النوعيين الأخيرين من الودائع، فإنه يدفع للمودعين لها فوائد على أرصدتهم.

 

الحكم الشرعي على عمليات الإيداع المصرفي:

معلوم أن الوديعة، في الشرع، توكيل في حفظ المال. أي هي عقد مقتضاه تسليط شخص على أموال غيره لحفظها صلى الله عليه وسلم[3]). وهي من العقود التي يقرها الإسلام لحفظ أموال الناس وصيانتها وردها عند الطلب. والوديعة أمانة. قال تعالى: ﴿أن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها﴾صلى الله عليه وسلم[4]) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول «لا دين لمن لا أمانة له»صلى الله عليه وسلم[5]). والسلف الصالح قد فهم الأمانة على أنها شاملة لكل شيء: الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم والكيل والوزن والودائع. قال ابن عباس t: «لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة»صلى الله عليه وسلم[6]).

وعقد الوديعة قد يكون بأجر أو بغير أجر، فيجوز للمودع أن يؤدي للمستودع أجرا مقابل الحفظ والصيانة.

ومن أحكام الشريعة الإسلامية في الوديعة أن ليس للمستودع أن ينتفع بالوديعة أي انتفاع فإذا انتفع كان معتديا بانتفاعه. فإذا تلفت ضمئها. ولو أذنه المودع بالانتفاع صارت ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ مع بقاء عينها، أو صارت قرضا إذا كانت نقودا، حيث أن النقود لا تعاد بما أنها تستهلك عند الانتفاع بها، والقرض مضمون برد المثل صلى الله عليه وسلم[7]).

ومقتضي ما تقدم أن تكون يد المصرف على الوديعة هي يد الضمان، لأن المصرف يخلط ودائع العملاء ببعضها. ويستثمرها كلها صلى الله عليه وسلمبالنسبة للودائع الثابتة) أو معظمها صلى الله عليه وسلمبالنسبة للودائع الجارية)، وضمان الوديعة يكون بأداء مثلها أن كانت مثلية، أو بأداء قيمتها أن كانت قيمية.

أما حكم العائد المتحصل عن استثمار الوديعة فيختلف بحسب ما إذا كان هذا الاستثمار يتم بإذن صاحب الوديعة أو بغير إذنه.

فإذا قام المستودع بالانتفاع بالوديعة بغير إذن المودع، فإن عائد الانتفاع يكون للمستودع المنتفع مقابل ضمانه الوديعة. ذلك أن «من اتجر بوديعة فذلك مكروه. والربح له لأنه ضامن صلى الله عليه وسلم[8])» هذا هو حكم عامة الفقهاء. ويرى الأمامية عكس ذلك حيث يقرون أن عائد الانتفاع يكون لصاحب الوديعة، ذلك «أن الوديعة أمانة لا يضمنها المستودع إلا مع التفريط، ولا تصرف فيها باكتساب ضمن، وكان الربح للمالك صلى الله عليه وسلم[9])».

أما إذا انتفع المستودع بالوديعة بإذن من مالكها، فلعائد الانتفاع أحكام ثلاثة بحسب الأحوال، كما يلي:

‌أ-        فتارة يكون من حق المستودع دون المودع، إذا ما كان إذن المودع متجها إلى الانتفاع بوديعته لخاصة المستودع.

‌ب-      وتارة ثانية يكون من حق المودع دون المستودع، إذا كان الإذن في التصرف على سبيل الوكالة أو الإنابة.

‌ج-      وتارة ثالثة يكون من حق المودع والمستودع معا إذا كان الإذن في التصرف على سبيل المضاربة صلى الله عليه وسلمالمشاركة).

وأمام هذه الأحوال الثلاث، يقدم الباحث ثلاثة تخريجات لتكييف عملية الإيداع المصرفي بقصد استخلاص الحكم الشرعي بصدد هذه العملية.

التخريج الأول: عقد قرض أو عقد عارية بحسب الأحوال:

فإذا ما كان إذن المودع متجها إلى الانتفاع بوديعته لخاصة المستودع، فإن الوديعة تتحول إلى قرض، إن كانت نقدا، كما تتحول إلى عارية، إن كانت عينا وبحسب أحكام الشرع، فالقرض مضمون الأداء، وما نتج عن استثماره يكون للمقترض ولا شيء للمقرض، كذلك فللمستودع أن ينتفع بالعارية مع ضمانه رد عينها للمودع.

وبالتأمل في عمليات الإيداع لدى المصارف يخلص الباحث إلى:

1-    أن الودائع الجارية طالما لا تتضمن حصول المودع على فوائد عنها، وحتى لو ارتبطت بدفع نفقات صيانتها ومؤونة حفظها للمصرف، تدخل في نطاق الأمور المباحة شرعا.

2-    أن الودائع الثابتة إنما ترتبط ببعض قيود سبق إيرادها صلى الله عليه وسلمومثلها ودائع التوفير)، الغرض منها هو إطلاق يد المصرف، بدرجة أكبر من الحرية، في استثمار هذه الودائع، وبذلك فإنها تتحول مجازا إلى قروض مقدمة من أصحابها إلى المصارف التي يودعون فيها أموالهم وتأخذ هذه الودائع الحكم الشرعي للقرض، حيث لا يجوز لأصحابها أن يحصلوا على فائدة من أقراضها، لأن كل قرض جر نفعها في حرام. وبناء على هذا فإن الودائع الثابتة بفائدة محرمة شرعا.

التخريج الثاني: الوكالة:

وتصوير ذلك أن المصرف ينوب عن أصحاب الودائع في اتخاذ الإجراءات المتعلقة بحفظ وصيانة ودائعهم، وكذلك اتخاذ التدابير اللازمة لاستثمار هذه الودائع في أفضل الظروف الممكنة. ويترب على هذا التصوير أمران:

1-     إقرار حق المصرف في تقاضي نفقات الصيانة ومؤونة الحفظ من أصحاب الودائع. وذلك أن الوكالة من الأمور المقررة شرعا، وهي جائزة بأجر أو بغير أجر. وإذا سكت العاقدان في الوكالة عند الأجر، حكم العرف صلى الله عليه وسلم[10]).

2-     إذا تم تخريج تصرف المصرف في الودائع لديه بالاستثمار على أنه على سبيل الوكالة أو الإنابة عن المودعين، فإن المستودع صلى الله عليه وسلمالمصرف) يتحول إلى وكيل للمودع أو نائب عنه في التصرف في الوديعة، وما نتج عن تصرف المستودع إنما يلحق بذمة المودع، لأنه الأصيل صلى الله عليه وسلمصاحب الوديعة)، دون أن يلحق منه شيء بالوكيل أو النائب.

وبناء على هذا  التخريج فإنه يجوز تقاضي المصرف مقابل الصيانة والحفظ، دون تجويز حق المودعين في اقتضاء المصرف فوائد إيداعاتهم لديه.

وخلاصة كل هذا أن يكون تقاضي الفوائد على الودائع لدى المصارف من الأمور المحرمة شرعا.

التخريج الثالث: المضاربة:

إذا ما اتجه إذن المودع إلى أمر المستودع بالتصرف في ودائعه للانتفاع بها على سبيل المشاركة، تحولت العلاقة بين الطرفين إلى عقد مضاربة مقتضاه، بحسب أحكام الشرع أن يتحول المستودع إلى عامل مضاربة، لأنه يكون شريكا بنفع بدنه وجهده ومهارته، كما يتحول المودع إلى المضارب بماله للتصرف فيه بقصد الربح. وما نتج عن التصرف فللعامل نصيب منه على حسب الاتفاق، ولرب المال الباقي، ويتحمل الأخير وحده الخسارة إن وجدت.

وقد ورد في كتب الفقه «أن الودائع إذا خلط الوديعة بماله أو مال غيره، بإذن مالكها فإن ذلك يكون شركة ملك بينهما صلى الله عليه وسلم[11])». كما رأى بعض المجتهدين «إن اشتراط بعض الفقهاء استواء المالين، وكونهما نقدا، واشتراط العقد، لم يرد ما يدل على اعتباره. بل مجرد التراضي بجمع المالين والاتجار بهما كاف صلى الله عليه وسلم[12])». بل أنه يكفي للمضاربة حالة المشاركة صلى الله عليه وسلمهذا ينفع ماله وهذا ينفع بدنه)صلى الله عليه وسلم[13]).

ولكن هل يمكن بحق تخريج العلاقة بين المصرف والمودعين لديه على أنها عقد مضاربة بالصورة الشرعية؟.

الحقيقة لا. وذلك لسببين:

الأول: هو أنه لو كانت العلاقة بين المصرف ومودعيه علاقة مضاربة شرعية، لوجب ألا تحدد الفائدة مقدما، عند الإيداع، كنسبة محددة من رأس المال المودع. إذ يجب تحديدها في نهاية مدة المضاربة وكنسبة من الربح دون الخسارة.

والثاني: هو أن معظم استثمارات الودائع تتم عن طريق المتاجرة بالنقود، باعتبارها سلعة، حيث يتم الإيداع بفوائد منخفضة يدفعها المصرف للمودعين، ثم يتولى إقراض المحتاجين بفوائد مرتفعة. وفرق الفائدتين هو ربح المصرف، وهو ما يعني أن المصرف تاجر نقود، وأن ربحه بذلك فتات من حرام. والمشاركة بالتالي لا تحل فيه شرعا.

وخلاصة كل هذه التخريجات الثلاثة هي ما يلي:

‌أ-        أن الوديعة عقد جائز مشروع، وقد تكون واجبة كما إذا خاف صاحب المال هلاك ماله أو تلفه إن بقي معه، ووجد أمينا يحفظه له. فإنه يجب عليه أن يودعه في هذه الحالة ويجب على الأمين أن يقبله فإن حفظ المال واجبصلى الله عليه وسلم[14])، ويجوز للأمين أخذ أجر مقابل الحفظ والصيانة.

‌ب-      أن الودائع الجارية لدى المصارف، وهي لا ترتب أية فوائد لأصحابها، تعتبر جائزة شرعا، بينهما الودائع الثابتة صلى الله عليه وسلموودائع التوفير) ذات الفائدة محرمة بالشرع، حيث لا يجوز للمصرف دفع أية فائدة مقابل إيداعات الأفراد.

‌ج-      إذا اتجهت النية إلى تنقية حسابات الإيداع من شبهة الربا، فالسبيل هو تحويل هذه الحسابات إلى شركة صلى الله عليه وسلممضاربة)، وبحيث يصبح المصرف وكيلا عن المودعين في إدارة هذه الشركة لاستثمار الأموال وتوزيع الربح والخسارة.

المطلب الثاني

الحسابات الجارية

الحساب الجاري، بلغة المصارف هو تعامل مخصوص بين المصرف والعميل بإيداع مبلغ من المال بالمصرف أو فتح اعتماد من المصرف لصالح العميل بمبلغ معين، ويصبح للعميل الحق في سحب كل المبلغ أو بعضه، عند اللزوم، بواسطة شيكات أو أوامر صرف، بمجرد الطلب. شريطة توفر إمكانية تداخل وتشابك العمليات بين ا لمصرف وعميله، بمعنى أن يقوم كل من الطرفين بدور الدافع أحيانا والقابض أحيانا أخرى – أي أن يكون مدينا مرة ودائنا مرة أخرى، حتى ولو جعلت ظروف الواقع البحت من أحد الطرفين مدينا دائنا، ومن الآخر دائنا دائما حتى نهاية الحساب صلى الله عليه وسلم[15]).

أنواع الحساب الجاري صلى الله عليه وسلم[16]):

من التعريف المتقدم يتضح أن الحسابات الجارية تنقسم إلى نوعين رئيسين:

1-    حسابات جارية دائنة: أي أن العميل يبدأ بإنشاء الحساب بإيداع مبلغ معين من المال بالصرف.

2-    حسابات جارية مدينة: بمعنى أن المصرف يبدأ بإنشاء الحساب بفتح اعتماد مصرفي بمبلغ معين لصالح العميل.

عائد المصرف من فتح الحساب الجاري صلى الله عليه وسلم[17]):

1-    عمولة تتقاضاها المصارف مقابل إدارتها لعمليات الحساب الجاري.

2-    فائدة على المبلغ المفتوح به الاعتماد إذا بدأ الحساب بسلفة من المصرف. ويختلف معدل الفائدة باختلاف ظروف كل حالة على حدة، من حيث قيمة السلفة ومدتها وسمعة العميل.

3-    عائد استثمار المبالغ المودعة بالحساب، إذا بدأ الحساب بإيداع مبلغ معين من العميل.

عائد العميل من فتح الحساب الجاري صلى الله عليه وسلم[18]):

1-    حفظ أمواله بعيدا عن الأخطار المختلفة كالسرقة والحريق، لأن المصرف ضامن لها مسئول عنها.

2-    يستطيع كبار العملاء من ذوي المراكز المالية المتينة الحصول على فوائد عن إيداعاتهم بحساباتهم الجارية لدى المصرف، شريطة ألا يقل رصيد الحساب الجاري لأي منهم عن مبلغ معين.

3-    الانتفاع بالخدمات التي يؤديها المصرف لعملائه، مثل التعامل بالشيكات مما يهيء وسيلة سهلة لإجراء المدفوعات للغير وتسجيلها حتى لو تمت بدون مستندات. وكذلك الاستفادة من المعلومات التي يمد بها المصرف عميله، متعلقة بالحالة المالية لرجال الأعمال الذين يريدون العميل التعامل معهم، حتى يكون على بينة من حقيقة هذا التعامل.

الحكم الشرعي على الحسابات الجارية:

1-    الحساب الجاري الذي يبدأ بسلفة من المصرف صلى الله عليه وسلمفتح اعتماد) يدفع عنها فوائد، يكون حكمه حكم القرض بفائدة، وهو حرام.

2-    الحساب الجاري الذي يبدأ بإيداع العميل لمبلغ في المصرف يتقاضى عنه فوائد يكون حكمه حكم الوديعة بفائدة ربوية، وهي حرام.

3-    الحساب الجاري الذي يودع فيه العميل ويسحب منه بدون فوائد، بل يدفع صاحبه للمصرف عمولة لمقابلة أعباء إدارة الحساب، يكون حلالا شرعا. والحكم الشرعي على هذا الحساب يتم من وجهتين:

‌أ-        وجهة الإيداع – ذلك أن إيداع العميل أمواله بالحساب الجاري لا يأخذ صفة الوديعة بالمعنى الشرعي، لأن المصرف يخلطها بغيرها ويتصرف فيها. وإنما تأخذ في عرف الشرع حكم القرض. ويلحق به من الضمان ورد المثل وانتفاء الربا. وبما أن المودع يودع حسابه الجاري دون فوائد فإن هذا التصرف حلال شرعا.

‌ب-      وجهة السحب. فالواقع أن العميل عند السحب لا يسترد من عين ماله المودع بالحساب، حتى يكون التصرف استردادًا لبعض حقه. وبهذا يكون السحب أشبه شيء بالقرض حيث يكون كل من المصرف وعميله دائنا للآخر ومدينا له في نفس الوقت، ومن ثم يجري المصرف مقاصة عقب كل عملية إيداع أو سحب لاستخلاص الرصيد بغرض تحديد موقف الحساب.

ويلاحظ الباحث:

أولاً: أن علاقة المصرف بعميله من خلال عمليات الإيداع والسحب هي علاقة مقرض بمقترض والعكس، ولا تتوفر فيها شبه الربا، وإنما توجد عمولة ومصاريف يدفعها العميل للمصرف مقابل فتح الحساب وإدارة معاملاته، فالمصرف هنا «أجير مشترك» ذلك أن «الأجير المشترك هو من يقتبل العميل من كثير من الناس في وقت واحد صلى الله عليه وسلم[19])». ويجمع الفقهاء على جواز ضمان الأجير المشترك إذا اشترط عليه ذلك صلى الله عليه وسلم[20]). وواضح أن المعقود عليه في الإجارة هو العمل، ويكون الحفظ واجب عليه تبعا.

والعمولة هي أجرة المصرف على فتح الحساب وإدارته، ولا ش أن الأجرة غير الربا فهي مباحة لقوله صلى الله عليه وسلم: «من استأجر أجير فليعلمه أجره صلى الله عليه وسلم[21])». أما المصاريف فهي متعلقة بالبريد والتمغة، وتقابل أعباءا حقيقية تكبدها المصرف بمناسبة إدارة عمليات الحساب. ومن ثم يكون من حق المصرف أن يتقاضى هذه المصاريف من العميل المنتفع.

ثانيًا: أن المقاصة بين عمليات السحب والإيداع بالحساب الجاري تكون، بحسب الشرع، عملية إجبارية تحدث دون طلب كلما تجدد الإيداع أو السحب صلى الله عليه وسلم[22]). وعند الشافعية أنه «من كان له عند صيرفي دينارا فأخذ منه درهما من غير عقد، فالدينار له والدرهم عليه فطريقهما أن يتباريا صلى الله عليه وسلم[23])».

وخلاصة هاتين الملاحظتين أن يكون الحساب الجاري الدائن الذي يأخذ عليه المصرف العمولة والمصاريف حلالا شرعا. وما عداه من أنواع الحسابات الجارية حرام.

 

المطلب الثالث

خصم وتحصيل الأوراق التجارية

الأوراق التجارية هي صكوك ليست لها خصائص النقود، ومع ذلك فقد جرى قبولها في الحياة الاقتصادية كأداة وفاء، بدلا من النقود، بالنظر لكونها تمثل حقا نقديا ثابتا يستحق الدفع بعد الإطلاع أو بعد أجل قصير. وأنواع الأوراق التجارية هي الكمبيالة والسند الاذني الشيك صلى الله عليه وسلم[24]).

وتحصيل الأوراق التجارية يقصد به إنابة المصرف في تحصيل الأموال المدونة بهذه الصكوك من المدينين وتسليمها إلى المستفيدين. أما خصم الأوراق التجارية فالمقصود به قيام حامل الورقة بنقل ملكيتها، عن طرق التظهير، إلى المصرف، قبل حين استحقاقها، مقابل حصوله على قيمتها الحالية وهي تنقص عن قيمتها الاسمية المدونة بها بمقدار تكاليف القطع.

ويعود على البنك من عملية التحصيل شيئان: أحدهما معنوي يتمثل في ثقة العميل في المصرف ومظهرها قبول الأول إنابة الثاني في تحصيل الأموال. وهذه سمعة طيبة يسعى إليها المصرف. والآخر مادي يتمثل في عمولة التحصيل التي يتقاضاها المصرف من عملية الموكل.

أما في حالة الخصم صلى الله عليه وسلمأو القطع) فتتقاضى المصارف ما يسمى «بالأجيو» الذي يتألف من العناصر الثلاثة الآتية صلى الله عليه وسلم[25]):

1-    مبلغ الخصم صلى الله عليه وسلمالفائدة) ويتحدد سعر الخصم بناء على اعتبارين. الأول هو مدى الثقة في العميل وثقل مركزه المالي، فضلا عن أهمية الورقة المخصومة. والثاني هو سهولة إعادة خصم الورقة لدى المصرف المركزي، فضلا عن سعر إعادة الخصم صلى الله عليه وسلمسعر المصرف) Bank Rate الذي يستعمله المصرف المركزي في خصم الأوراق المقدمة لإعادة الخصم من جانب المصارف التجارية.

2-    العمولة، وهي نسبة مئوية من القيمة الاسمية للورقة المخصومة يحصل عليها المصرف في مقابل الخدمات المصرفية المتعلقة بخصم الورقة ثم تحصيلها في تاريخ استحقاقها.

3-    مصاريف التحصيل ويقصد منها تغطية نفقات الانتقال والإخطارات البريدية وغيرها.

الحكم الشرعي على عمليات خصم وتحصيل الأوراق التجارية:

أولاً: التحصيل:

أن عملية تقديم الأوراق التجارية للمصرف للتحصيل لا تخرج في جوهرها عن كونها عملية توكيل بأجر، لأنها عملية إنابة لها مقابل.

والتوكيل، شرعا، هو إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في مصرف معلوم جائز له حال حياته صلى الله عليه وسلم[26]).

والوكالة جائزة شرعا. سواء أكانت بأجر أو بغير أجر. وإذا سكت العاقدان في الوكالة عن الأجر حكم العرف، فإن كان يقضي بإعطاء مثل هذا الوكيل أجرا في هذه الحال كان له أجر المثل، وإلا فلا أجر له صلى الله عليه وسلم[27]). ويجوز التوكيل في تقاضي الدين وقبضه من غير رضا الخصم صلى الله عليه وسلمالمدين) سواء أكان الموكل حاضرا أو غائبا صحيحا أم مريضا صلى الله عليه وسلم[28]).

وبالتأمل في مفهوم الوكالة ومضمون عملية تحصيل الأوراق التجارية يرى الباحث أن المصرف يستحق شرعا عمولة التحصيل كأجر عن وكالته وسواء تم التحصيل أم لا، طالما قام المصرف من جانبه بالإجراءات المتعلقة بمطالبة المدين بالسداد في تاريخه، ورتب كافة وسائل التحصيل الواجبة، حيث يكون المانع هو عسر المدين أو مماطلته. ومثل المصرف في هذا كمثل المحام الذي يستحق الأجر مقابل وكالته في الدفاع، سواء كسب القضية أم خسرها. وهذا مقرر شرعا.

ثانيًا: الخصم:

ورد أن تكاليف القطع صلى الله عليه وسلمالأجيو) إنما تتألف من عناصر ثلاثة، هي الخصم والعمولة والمصاريف.

أما الحكم الإسلامي على الخصم والمصاريف فسهل، وأما الحكم على العمولة فموضع خلاف ناشئ في الأصل، عن التكييف القانوني والعملي لماهية العمولة صلى الله عليه وسلم[29]). ومع ذلك وحسما للنزاع، يرى الباحث اعتماد الرأي الغالب الذي يرى العمولة بمثابة الأجر المقابل لخدمة مصرفية حقيقية ونافعة، وليست فائدة مستترة. وبذلك تكون العمولة مشروعة من الوجهة الإسلامية.

ومن هذه الزاوية أيضا يمكن النظر إلى مشروعية مصروفات التحصيل، فهي مصاريف انتقال ورسم بريد وغيرها مما يتحمله المصرف فعلا، وهو بصدد أداء الخدمة، ومن ثم تلحق هذه المصروفات الشخص المستفيد من الخدمة المصرفية.

بقي للباحث أن يفحص التكييف الشرعي للفائدة التي يحصلها المصرف بمناسبة القطع. يستطيع الباحث أن يحصر الآراء الفقهية التي قال بها الفقهاء، بهذا الصدد، في ستة تخريجات يعقبها رأي الباحث حول هذا الموضوع.

والتخريج الأول: يرى في عملية القطع بيع دين بدين على اعتبار أن الأوراق التجارية وأوراق البنكنوت ليست كلتاهما سوى صكوك ديون، وتشتمل بالمنطق على تعهدات أو أوامر بالوفاء، وإن اختلف مصدر الحق الثابت بالورقة وشخص المدين والمتعهد عنه بالوفاء بين النوعين من الصكوك.

فأوراق البنكنوت تمثل حقا لحاملها على قدر محدد بقيمتها من رصيد المجتمع من السلع وتيار الخدمات. فالمدين هنا هو المجتمع بأسره والمتعهد بالدفع هو المصرف المركزي نيابة عن المجتمع. بينما تمثل الأوراق التجارية حقا للمستفيد منها تجاه المدين فيها، والذي قد يكون الساحب نفسه، فهو يتعهد بالوفاء صلى الله عليه وسلمكما في السند الأذني) أو يأمر المسحوب عليه بقبول الوفاء أو بدفع الدين الثابت بالورقة صلى الله عليه وسلمكما في الكمبيالة أو الشيك).

وبحسب هذا التكييف، يكون كل من أوراق البنكنوت والأوراق التجارية صنفان لجنس واحد، وبالتالي يتوقف صحة البيع أو المبادلة فيها على الشرطين التاليين:

1-    عدم النسيئة أي اشتراط الفورية في التبادل والتقابض في المجلس.

2-    تساوي البديلين بسبب اتحاد جنسهما.

وتبعا لهذا التخريج تكون أعمال المصارف في خصم الأوراق التجاري أعمال محرمة شرعا للسببين التاليين:

‌أ-        أن أوراق البنكنوت تمثل حقا حالا على رصيد المجتمع من السلع والخدمات. بينما الأوراق التجارية لا تمثل إلا حقا مؤجلا على هذا الرصيد، حقا لا يحين إلا بحقول أجل الوفاء بها صلى الله عليه وسلمميعاد استحقاقها)، وبحسب هذا التصوير تصبح عملية  القطع عملية بيع غائب بناجز، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.

‌ب-      أن عملية القطع إنما يتحقق فيها عنصر التفاضل رغم اتحاد الجنس، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.

وينهض التخريج الثاني: على أساس أن كلا من أوراق البنكنوت والأوراق التجارية عملتان مختلفتان من حيث الجنس، ومن ثم يجوز استبدالهما على التفاضل شريطة التقابض في المجلس، وهذا هو في الواقع مضمون عملية القطع، حيث يتسلم المصرف الورقة ويدفع أقل من قيمتها الاسمية فورا.

وبناء على هذا التصوير تكون عملية القطع مباحة شرعا.

ولا شك أن لهذا التخريج ما يؤيده من مذاهب الفقهاء فالشافعية يرون علة الرباء، كما تقدم، في الثمنية والجنس، ويلاحظ الباحث أن الثمنية متحققة في هذا العقد وفي الأوراق التجارية مع اختلاف الجنس بينهما، وهو ما يجيز البيع مع التفاضل. وتبع مذهب أهل الظاهر، فإن ا لتفاضل في هذا الصدد يجوز لأنهم يقصرون التحريم على ما ورد فيه نص، ولم تشمل النصوص هذا التعامل وكذلك فللحنفية رأي في النقود المأخوذة من غير الذهب والفضة، إذا جعلت ثمنا، حيث يصح عندهم بيعها بعضها ببعض مفاضلة، ولا يشترط فيها التقابض من الجانبينصلى الله عليه وسلم[30]).

وبرغم وجاهة هذه الحجج إلا أن الباحث يدفع هذا التخريج بالنظر إلى التصوير الخاطئ الذي ينبني أصلا عليه، فاعتبار الورقة التجارية عملة نقدية مذهب غير صحيح على إطلاقه، بالنظر إلى التكييف القانوني الحقيقي للأوراق التجارية، فمهما كان حظها من قصر الأجل فإنها لا تتمتع بالقبول العام، ولا تتصف بالقوة القانونية للإبراء، بل وليست كل الأوراق التجارية تقدم المصارف على قطعها، حيث لا تقطع المصارف من الأوراق التجارية إلا هذه المسحوبة على عملاء حسنى السمعة بما يضمن للمصارف اعتبار هذه الأوراق، عند حلول أجلها نقودا محققة صلى الله عليه وسلم[31]).

خلاصة ما تقدم أن هذا التخريج إنما ينبني على تكييف خاطئ لماهية الأوراق التجارية حيث يعتبرها عملة. وغاية أمرها إنها عملة مختلفة الجنس عن العملة الإلزامية. وبالتالي فإن هذا التخريج يعد باطلا، وتسقط عنه بالتالي كل المؤيدات التي أخذت من مذاهب الفقه لتجويزه.

وينصرف التخريج الثالث: إلى تصوير عملية القطع باعتبارها عملية بيع دين بنقد. حيث أن الأوراق التجارية صكوك ديون صلى الله عليه وسلمأي تعهدات بالوفاء)، بينما أوراق البنكنوت عملة إلزامية، وهذا التصوير يجيز بيع العوضين مع التفاضل.

والواقع أن عملية ا لدين بالنقد لغير المدين قد أجازها المالكية بشروط، وافقهم عليها فقهاء الشافعية في المشهور عندهم. هذه الشروط هي صلى الله عليه وسلم[32]):

1-    أن يكون الدين مما يجوز بيعه قبل قبضه، كأن يكون من قرض أو نحوه.

2-    أن يباع بثمن مقبوض، لئلا يكون دينا بدين.

3-    أن يكون الثمن من غير جنس الدين، أو من جنسه على التساوي، حذرا من الوقوع في الربا.

4-    أن يكون الثمن ذهبا حيث يكون الدين فضة، لئلا تؤدي الرخصة إلى بيع النقد بالنقد من غير مناجزةصلى الله عليه وسلم[33]).

5-    أن يكون المدين حاضرا في بلد العقد، ليعلم حاله من عسر أو يسر، ليمكن تقدير قيمة الدين لأنها تبع ذلك.

6-    أن يكون المدين مقر بالدين، حتى لا يستطيع إنكاره بعد.

7-    أن يكون المدين ممن تناله الأحكام، ليكون الدين مقدور التسليم.

8-    ألا يكون بين المشتري وبين المدين عداوة، لئلا يتوصل بذلك إلى ضرره والتسلط عليه.

وبالتأمل في هذه الشروط، يلاحظ الباحث ما يأتي:

‌أ-        أن الشروط الأربعة الأولى يغنى عنها شرط واحد يشملها جميعا، وهو ألا يؤدي بيع الدين إلى محظور شرعي كالربا أو غيره من المحرمات.

‌ب-      أن الشروط الأربعة التالية يغنى عنها شرط واحد يشملها جميعا، وهو أن يغلب على الظن الحصول على الدين.

ولما كانت المصارف لا تقبل القطع لكل الأوراق التجارية المقدمة لها، ولا لكل عميل يتقدم إليها بهذه الأوراق، بل تتوقف التسهيلات المقدمة لعمليات القطع على شخصية العميلة ومدى الثقة فيه ومتانة مركزه المالي ورأي السوق فيه ومركز عملائه المدينين بقيمة هذه الأوراق ونوع الورقة التجارية، حيث تفضل تلك التي تمثل دينا تجاريا عن توريد بضائع أو  تقديم خدمات تجارية، فهذه كلها اشتراطات وتحوطات يراد بها أن يغلب على ظن المصرف حصوله على دينه، وبذلك نضمن لنا هذه التعاليم نفاذ مفعول الشر الشرعي الثاني، بينما يبقى الشرط الأول، وهو ألا يؤدي البيع إلى محظور شرعي، معطلا بعيدا عن الصيانة في عمليات القطع، وذلك بسبب زيادة أحد العوضين عن الآخر بمقدار الفوائد الربوية المستحقة للمصرف عن إجراء القطع، وبذلك تصير عملية خصم الأوراق التجارية، بالصورة المعروفة عليها الآن لدى المصارف، محرمة من الوجهة الشرعية.

أما التخريج الرابع: فإنه يجعل عملية القطع مشابهة لعملية الحوالة بأجر، وذلك أخذ بأسلوب القياس:

ومفهوم الحوالة يتضمن أحد معنيين صلى الله عليه وسلم[34]).

‌أ-        عملية بيع دين بدين.

‌ب-      أو عملية استيفاء.

ومعلوم أن المعاملة الخاصة ببيع الدين بالدين هي من الأمور المحرمة شرعا. على أن اتفاق الجمهور القائم على إمكان الترخيص فيها متى توفرت اعتبارات العلم والرضا لدى طرفي المعاملة، ومع ذلك فللمتأثم من تبعه هذه المعاملة أن يحمل عملية القطع محمل عملية الحوالة بأجر الاستيفاء واستخلاص الحقوق. ويكون المراد من هذه المعاملة أن يقتضي المشتري للحوالة ذلك الدين لأنه أقدر على اقتضائه، لظروف قد تتعلق بعجز الدائن عن اقتضاء دينه بنفسه، أو توقف ذلك على نفقات كثيرة، وكلاهما ضار به، ومن ثم فمن اضطر إلى ذلك أن يأخذ ما يأخذ من المصرف أو غيره من أنه دين يحوله بقيمة أو بأكثر منه على مدينه، ويجعل الزيادة أجرة على الحوالة.

الواقع أن هذا المعنى الثاني للحوالة يستطيع شرعا أن يجيز تقاضي كلا من عمولة البنك ومصاريف التحصيل، لأن كلا منهما يكون مقابلا لخدمات حقيقية قدمها المصرف. ويتبقى بعد ذلك الفائدة، ولا يقوى هذا التخريج على إباحتها، اللهم إلا إذا أدمجت الفائدة مع العمولة وأصبحت كلتاهما أجرا، وهو تصور يأباه العرف والقانون.

والتخريج الخامس: يكيف عملية القطع على أنها قرض بضمان أوراق تجارية، وتوكيل بأجر لتحصيل واستيفاء قيمة الأوراق التجارية من المدينين بها. وواضح أن هذا التخريج مركز من أمرين.

1-    قرض بضمان أوراق تجارية.

2-    توكيل بأجر من العميل للمصرف لاستيفاء قيمة الدين الثابت بالأوراق التجارية ويخصم الأجر مقدما من القرض المضمون الذي يقترضه العميل من المصرف.

والعملية بهذا التصور لا تتضمن أي محظور شرعي بالنظر إلى:

‌أ-        أن الإسلام يقر القرض المضمون كما يقر حق المصرف في النفقة والمؤونة المترتبة على القروض.

‌ب-      أن الإسلام يقر الوكالة بالأجر.

وبحسب هذا التخريج يتم توزيع عائد القطع صلى الله عليه وسلمالأجيو) إلى ثلاثة أقسام: نفقة القرض وأجر الوكالة ومصاريف التحصيل ويون هذا التخريج جائز شرعا بالنظر إلى أن عناصر «الأجيو» هي الفائدة والعمولة والمصروفات، ويسلم هذا التخريج بذلك من الاعتراض، اللهم إلا الغلو في تقدير نفقة القرض، فضلا عن الاحتيال في تسمية الأشياء بغير أسمها، حيث تعتبر الفائدة بمثابة نفقة القرض، وصولا للحل والإباحة وخروجا من الحرمة والمنع صلى الله عليه وسلم[35]).

والتخريج السادس والأخير يعتبر عملية القطع بمثابة مبادلة مع إسقاط وإبراء، بالنظر إلى التجويز الشرعي لاقتضاء أصل مما يستحق بعقد المداينة وجعل الفرق متنازلا عنه على سبيل الإبراء والإسقاط.

ولقد اتفق الجمهور على أن التنازل عن طريق المعارضة حرام، لأنه يكون ربا – بينما التنازل عن طريق الهبة والإبراء صحيح ومباح.

والتكييف الشرعي لعملية القطع بناء على هذا التخريج هو كنها عملية تنازل على سبيل الإبراء. ومظاهره أن العميل هو الذي يذهب إلى المصرف باختياره، ويقبل دفع «الأجيو»، وكان من الممكن أن ينتظر ميعاد استحقاق الصك بنفسه، فينال كل الحق وبهذا التخريج يكون الباحث قد صحح تصرفا شائعا بدلا من تحريمه ما دام في النفقة فسحة.

تعليق:

رغم أن لكل من التخريجين الخامس والسادس ظلالا تتفق مع روح الشريعة الإسلامية فالباحث يميل بعد تصفية كافة التخريجات السابقة إلى القول بالتحريم الشرعي لعملية القطع بصورتها الراهنة لدى المصارف، لأننا بصدد معاملة قائمة محددة المعالم. والحكم إنما يكون على ما هو قائم وثابت. وفي عملية القطع يأخذ المصرف الفائدة الربوية، وهي حرام شرعا، بما أن الفائدة تقابل الأجل، وإذا أردنا للمصارف تعاملا صحيحا خاليا من شبهة الربا، في عملية القطع، فلابد من إلغاء عنصر الفائدة من عائد «الأجيو» للمصرف والاستعاضة عنها بتقرير النفقة المناسبة للقرض، وحتى لا يكون في النفس المؤمنة شيء..

المطلب الرابع

تأجير الخزائن الحديدية والمحافظ الجلدية

يقوم المصرف، رغبة منه في خدمة عملائه وجذب ثقتهم، بإعداد خزائن حديدية لحفظ الوثائق الهامة والمستندات السرية والأشياء الثمينة والنقود. ولكل خزنة مفتاحان، يسلم أحدهما للعميل المستأجر ويحفظ الآخر لدى المصرف بوضعه في مظروف من القماش يختم بالشمع الأحمر بختم المصرف. ويوقع العميل على أطرافه الأربعة لضمان عدم فتحه. ولا يستعمل المفتاح بإدارة المصرف إلا بضياع المفتاح لدى العميل.

ويصرح للعميل بالدخول إلى الخزانة التي استأجرها في مواعيد العمل الرسمية للصرف لإيداع أو سحب أي شيء منها، شريطة ألا يكون هذا الشيء مواد ملتهبة أو متفجرة أو أسلحة أو مخدرات مما لا يجوز حيازته قانونا.

وحرصا من المصرف على خدمة عملائه الذين يريدون أن يودعوا خزائنهم المستأجرة لديه أشياء ثمينة من مستندات ومجوهرات ونقود وخلافه، في غير مواعيد العمل الرسمية خشية تعرض هذه الأشياء للسرقة أو الضياع أو الحريق، أن هي استمرت في حوزتهم، فقد أعد المصرف محافظ جلدية صغيرة، تحمل كل محفظة رقما خاصا، ولها مفتاحان أيضا، يسلم أحدهما إلى العميل المستأجر ويبقى الآخر لدى إدارة المصرف، ويخضع في حفظه لنفس الإجراءات المتبعة في حفظ مفتاح الخزينة.

ويقوم العميل الراغب في حفظ بعض متعلقاته بالخزانة خاصته بالمصرف، في غير أوقات العمل الرسمية، بوضع هذه المتعلقات بداخل المحفظة الجلدية التي معه، ويقفلها بالمفتاح، ويدخلها من فتحه بالجدار الخارجي لبناء المصرف، فتهبط بداخل خزانة حديدية معدة لذلك. وفي صباح اليوم التالي تفتح المحفظة بحضور صاحبها أو وكيلهصلى الله عليه وسلم[36])، لإيداع محتوياتها بالخزانة الحديدية المؤجرة له، ليسترد المحفظة لإعادة استخدامها.

ويتفاوت أجر الخزانة الحديدية من بنك لآخر، وهذا يتوقف أيضا على حجم الخزانة وعادة يتراوح بين 10 و50 جنيها في السنة، وكذلك ثلاثة جنيهات لكل محفظة جلدية وتبدأ الإجارة من يوم التوزيع على عقد الإيجار.

الحكم الشرعي على تأجير الخزائن والمحافظ:

يمكن تخريج عملية تأجير الخزائن إسلاميا باستخدام تخريجين شرعيين، ويبرز منهما صورة من صور التعامل الإسلامي.

التخرج الأول: عقد الوديعة:

ذلك أن العميل يوكل لمصرف في حفظ وصيانة الأشياء التي يودعها الخزانة، وأن الخزانة لا تختلط بغيرها اختلاطا يذهب بصفاتها، كما أن المصرف لا يستطيع التصرف فيها. كذلك فإن العميل لا يستطيع أن يصل إلى خزانته إلا بواسطة المصرف الذي يحدد له إجراءات ذلك.

والوديعة عقد جائز شرعا. والرسول قد اشتهر بين عرب ما قبل البعثة بالأمين. وكان الناس يودعونه أماناتهم لحفظها، فلما أزمع الهجرة سلم الودائع إلى «أم أيمن» واستخلف «عليا» في ردها صلى الله عليه وسلم[37]).

ومن الفقهاء من إجازة أخذ أجرة على الوديعة لحفظها، وبهذا تصبح مضمونة، حيث ورد «أن المودع إذا أخذ أجرة على الوديعة، فإنها إذا هلكت يضمن،… فإن الحفظ واجب عليه مقصودا ببدل، فلذا ضمن صلى الله عليه وسلم[38])».

التخريج الثاني: عقد إيجار:

ذلك أن العميل صلى الله عليه وسلمأو وكيله) هو الذي يحمل مفتاح الخزانة، وله الحق في إيداعها ما يريد دون علم المصرف. ويستطيع تركها فارغة. وكذلك فالخزنة ملك خاص للمصرف وليس للعميل سوى الانتفاع بها مقابل الأجر.

كذلك فواضح أن المحافظ الجلدية تنطوي تحت عقد الإيجار فقط، دون عقد الوديعة لأن ملكيتها للمصرف ولا يحوزها العميل إلا للمنفعة مقابل الأجر. وإن كانت تتحول إلى وديعة بمجرد وضعها في الفتحة المعدة لإيداع المحافظ في جدار بناء المصرف، حتى يتم إيداع محتوياتها في اليوم الثاني في الخزانة الخاصة بالعميل.

وعقد الإيجار جائز شرعا ما لم يؤد إلى محظور شرعي. فالأنبياء قدموا خدماتهم وجهودهم بالأجر. والله تعالى يسجل استئجار شعيب لموسى بناء على طلب ابنته «يا أبت استأجره» صلى الله عليه وسلم[39])، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» فقال أصحابه «وأنت؟»، قال «نعم. كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة»صلى الله عليه وسلم[40])، واستأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل، ثم من بني عبد بن عدي، هاديا خزينا صلى الله عليه وسلم[41])، ويقول صلى الله عليه وسلم: «من استأجر أجيرا فليعلمه أجره» و«أعطوا الأجير أجرة قبل أن يجف عرقه صلى الله عليه وسلم[42])». وكما يجوز الأجر على المجهودات البدنية، فإنه يجوز كذلك المجهودات الذهنية، ومن هنا وجب أجر الوزان والقسام والخراص.

ومؤدي هذين التخرجين أن تصير عمليات المصارف في تأجير الخزائن الحديدية والمحافظ الجلدية من الأمور المباحة شرعا.

المطلب الخامس

إيداع أوراق مالية بصفة أمانة

تشترط بعض الشركات المساهمة في مساهميها الراغبين في حضور اجتماعات الجمعية العمومية للمساهمين فيها، ضرورة حيازة حد أدنى من أسهم الشركة يتم إيداعه لدى مصرف معين، مقابل الحصول على المستند المثبت لذلك، حتى يمكن حصول المساهم على بطاقة دعوة لحضور اجتماعات الجمعية العمومية.

وهذا النوع من الإيداع لا يمكن أن ينتفع به المصرف أو يتصرف فيه إلا بإذن وتوكيل من العميل لهذا يتقاضى المصرف بهذا الصدد رسوما تسمى رسوم الإيداع، هي بمثابة الأجر المقابل للخدمة المصرفية المتعلقة بعمليات حفظ الأوراق وتحرير المستند المثبت لذلك صلى الله عليه وسلم[43]):

الحكم الشرعي على عمليات إيداع الأوراق المالية لدى المصارف بصفة أمانة:

هذا النوع من التعامل جائز شرعا، ويأخذ حكم الوديعة بأجر.

المطلب السادس

إدارة عمليات الاكتتاب في الأوراق المالية

غالبا ما تلجأ الشركة المساهمة المزمع تكوينها إلى المصارف تنشد عونها فيما يتعلق بطرح أسهمها على الجمهور للاكتتاب فيها. بهدف الترويج بالدعاية والإعلان فضلا عن تسهيل إجراءات الاكتتاب على الجمهور.

وللمصارف في أداء هذه الخدمة للشركات المساهمة تحت التكوين، طريقتانصلى الله عليه وسلم[44]).

الأولى: أن يشتري المصرف كل حصص الأسهم التي تبغي الشركة طرحها لاكتتاب الجمهور، بسعر شراء أقل من القيمة الاسمية للسند، على أن يتولى المصرف عملية عرض الأسهم على الجمهور بالتدريج، في خصم عملة دعاية موجهة، ويتم بيع الأسهم للجمهور الراغبين في الاكتتاب بالسعر الاسمي، ويكسب المصرف الفرق بين سعري الشراء والبيع.

والثانية: هي قيام المصرف بتقديم كل دعاية ممكنة لترويج بيع الأسهم، على أن يتقاضى مقابل تقديم هذه المساعدة عمولة عن كل ورقة تباع بواسطته للجمهور.

الحكم الشرعي على إدارة عمليات الاكتتاب:

أن السهم صك يمثل جزء من رأس مال الشركة المساهمة، وحامله شريك يتحمل عبء المضاربة، حيث يشارك في ربح الشركة وخسارتها، على حسب الأحوال، بنسبة نصيبه في رأس المال، والمصرف عندما يقدم على شراء أهسم أية شركة عند طرحها للاكتتاب، ثقة منه في نجاحها مستقبلا، فإنه يصبح شريكا فيها له ما لكافة الشركاء وعليها ما عليهم.

والشركة كانت معروفة قبل الإسلام. فقد شارك النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، فقد أورد أبو داود وابن ماجة ما صححه الحاكم من قول السائب المخزومي للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: «كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك، لا تداري ولا تمارئ ولما جاء الإسلام أقر هذا النوع من المعاملة لحاجة الناس إليهاصلى الله عليه وسلم[45]) ، وقد روى أبو داود عن أبي هريرة t أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال حكاية عن الله تعالى: «أنا ثالث الشريكين، ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما»، فالشركة مشروعة، بل هي فوق بذلك، مطلوبة على وجه الندب عند الحاجة عليها، وذلك حيث جعلت سببا ووسيلة لما يمنحه الله تعالى للشركاء من معونة وتوفيق ونجاح صلى الله عليه وسلم[46]).

ولا يجوز الاعتراض بأن الشركة المساهمة ليست ضمن الشركات التي عرض لها فقهاء الإسلام بالبحث والدراسة، حيث يرى الباحث رأي الفقيه الشافعي «أبو طالب صديق القنوجي البخاري» من «أن الأسامي التي وقعت في كتب الفروع لأنواع من الشركة كالمفاوضة والضمان والوجوه والأبدان، لم تكن أسماء شرعية ولا لغوية، بل اصطلاحات حادثة متجددة والحاصل أن جميع هذه الأنواع صلى الله عليه وسلممن الشركات) يكفي للدخول فيها مجرد التراضي ولا يتحتم اعتبار غيره صلى الله عليه وسلم[47])».

من هذا يتضح أن شراء المصرف لأسهم الشركات المساهمة، وهذا هو مقتضى الطريقة الأولى، وقيامه بدفع قيمتها سواء أكان الدفع نقدا يدا بيد، أم عن طريق الحساب الجاري للشركة لدى المصرف، أمر جائز شرعا.

كما يجوز للمصرف بيع الأسهم، بعد شرائه لها، بالقيمة الإسمية المحددة للسهم ولا اعتراض على البيع تأسيسا على أن المصرف اشترى بأقل مما يبيع لأن مؤسسي الشركة باعوا الأسهم للمصرف، بأقل من ثمنها، على سبيل الإبراء والإسقاط تسهيلا للتعامل، وكان تنازلهم باختيارهم، وبالاتفاق مع المصرف.

والإبراء أمر جائز شرعا، كذلك أجازت الشريعة بيع الشريك نصيبه إلى الغير، متى كان النصيب معلوم المقدار، معروف النوع لكل من البائع والمشتري، وحيث لا يكون في بيعه غرر أو جهالة صلى الله عليه وسلم[48]).

أما الطريقة الثانية، وهي تقديم المصرف لكافة التسهيلات اللازمة لترويج بيع الأسهم مقابل العمولة، فهذا الأمر جائز شرعا، أيضا حيث يكون موقف المصرف أشبه بالوكيل بأجر، والأجر هنا هو العمولة، وسبق القول بالجواز الشرعي للوكالة بأجر.

والخلاصة أن الاكتتاب في الأوراق المالية صلى الله عليه وسلمالأسهم) بواسطة المصارف، حلال شرعا.

المطلب السابع

تقديم المعلومات المصرفية

حرصا على الائتمان النظيف، وتوخيا لحماية التصرفات المالية والتجارية، من الطبيعي أن يلجأ أفراد كثيرون، في ظروف مختلفة، إلى المصارف، طلبا لمعلومات وبيانات تتعلق بشخص أو أشخاص آخرين، عملاء أو غير عملاء للمصرف، بهدف الدخول معهم في صفقات وتدور هذه المعلومات حول المركز المالي ومدى متانته وملاءته، وكذلك الكفاءة والقدرة على إدارة الأعمال، ونوع السمعة فيما يتعلق بالتعامل في السوق من سابق علاقات بالغير.

وقانونا فإن المصرف إذا كان يعلم عن الغير معلومات من مصلحة عملية أن يعرفها، وإلا أصيبت مصالحة الضرر، وجب على المصرف أن يحيط عملية بهذه المعلومات، متى طلب العميل ذلك، وإلا كان المصرف مسئولا أمام هذا العميل عن سكوتةصلى الله عليه وسلم[49]).

أما إذا كان طالب المعلومات شخصا من الغير يسعى للحصول على معلومات عن عميل للمصرف، فإن من حق المصرف أن يرفض الأداء بشيء خشية أن يعتبر ذلك منه إفشاء لسر المهنة صلى الله عليه وسلم[50]).

ومتى كان للمصرف أن يقدم معلومات وفعل ذلك، وجب أن يكون صادقا، وإلا كان مسئولا أمام الغير الذي إصابة الضرر بسبب المعلومات الكاذبة أو المضللة التي أمده بها المصرف عن عمد صلى الله عليه وسلم[51]),

والعادة أن يتقاضى المصرف أجرا أو عمله عن قيامه بجمع وتجهيز وتقديم المعلومات لطالبها، وهذا الأجر يقابله عمل فعلي، فهو أجر مستحق شرعا.

المطلب الثامن

التأمين ضد استهلاك السندات

يقصد بهذا التأمين، ضمان المصرف لصاحب السند عدم الحرمان من كافة الامتيازات التي يتمتع بها سنده، من الفوائد وجوائز الحظ، وكذلك الفرق بين القيمة الاسمية والقيمة السوقية للسند عند استهلاكه، عن طريق كفالة المصرف بقاء السند في ذمة صاحبه دون استهلاكه ضمن مراحل الاستهلاك المتعاقبة، دون المرحلة الأخيرة.

ويلزم التأمين المصارف بأن تعويض المستأمنين بقيمة الفرق بين القيمة السوقية والاسمية للسند يوم استهلاكه، أو أن تعطي المصارف لهم سندات أخرى من نفس النوع المستهلك، ويتمتع بكافة الامتيازات، مقابل استلام السند المستهلك بشرط ألا يكون هذا الاستهلاك هو الأخير، وإلا دفع المصرف القيمة السوقية للسند حسب سعر البورصة، وهي عادة أعلا من القيمة الاسمية.

والتأمين يكون إجباريا بالنسبة للسندات التي تكون تحت يد المصرف بصفة ضمان لقرض أو فتح اعتماد. ويكون اختياريا بالنسبة لمودعي الأوراق بصفة أمانة، ولمن يحتفظون بالسندات في خزائنهم الخاصة صلى الله عليه وسلم[52]).

ويتم هذا التأمين نظير أجر يتقاضاه المصرف يزيد على احتمال تقلب ثمن السند حيث أن التأمين لا يجري إلا قبيل عملية الاستهلاك بمدة قصيرة تقدر بأسبوعين على الأكثر وهي مدة لا تسمح بتقلب الثمن واسعا.

الحكم الشرعي على التأمين ضد استهلاك السندات:

للباحث بهذا الصدد ملاحظتان:

أما الأولى: فمحصولها هو أن السند صك قرض ربوي، وهو عقد محرم شرعا.

والثانية: هي أن الأجر الذي يحصله المصرف في مقابل إجراء التأمين لا يتحدد بما يكفي لتغطية الخسارة الناجمة عنه بالكاد، بل أنه يزيد عن احتمال الخسارة، فالغرض من التأمين إذن ليس هو التعاون والتضامن في الخير، وإنما هو الكسب والمرابحة.

وترتب هاتان الملاحظتان النتائج الأربع التالية:

‌أ-        فينتج عن الملاحظة الأولى أنه إذا عوض المصرف عميله بإعطائه سندات أخرى غير تلك المؤمن عليها المستهلكة، وإن كانت من نفس نوعها، فإن هذا التصرف يؤدي إلى استمرار علاقة محرمة شرعا. ويكون التأمين بذلك حراما.

‌ب-      وينتج عن الملاحظة الثانية الخاصة بحصول المصرف على فائض زيادة عن احتمال الخسارة الناجمة عن فرق السعر بين القيمة الاسمية والسوقية للسند، أن يحصل المصرف على كسب حرام، فالإسلام يمنع أخذ أية زيادة على القرض، فمن أعطى مائة يستردها مثلها عدد بغض النظر عن قيمتها السوقية صلى الله عليه وسلم[53])، ويكون التأمين بذلك أيضا حراما.

‌ج-      لا ينفي حكم التحريم هنا قيام المصرف بأخذ السندات بقيمتها السوقية عند التأمين عليها. ذلك أن السند إنما يمثل حقا للدائن بمبلغ محدد في مواجهة المدين، مبلغ أخذ على سبيل القرض وليس المشاركة وعملية الاستهلاك ليست سوى عملية إنهاء للقرض، وهي تستلزم شرعا سداد قيمته المحددة دون زيادة أو نقصان، سواء أربح المقترض أم خسر سداد قيمته المحددة دون زيادة أو نقصان، سواء أربح المقترض أم خسر ولا حجة لتقلب القيمة السوقية للسند في البورصة شرعا.

‌د-        أن قيام المصرف بدفع القيمة السوقية للسند مقابل تنازل العميل عنه يعتبر عملية بيع دين لغير المدين، وفضلا عن أنه لا يصح بيع الدين مطلقا بأكثر من قيمة، لأن الزيادة ربا، فإن بيع الدين لغير المدين محل خلاف بين الفقهاء. فمنهم من حرمه قطعا، ومنهم من قال بجوازه بشروط سبق أن سجلها الباحث، منها ألا يؤدي البيع إلى محظور شرعي، وفي التأمين يتحقق المحظور الشرعي متمثلا في الفرق بين القيمة الاسمية والسوقية للسند، وهذا هو الربا بعينه.

وترتب كل هذه النتائج أن يكون التأمين بصورته المألوفة لدى المصارف حاليا، أمرا محرما شرعا صلى الله عليه وسلم[54]).

 

المطلب التاسع

عمليات الصرف الأجنبي صلى الله عليه وسلمالكمبيو)

«الكمبيو» كلمة لاتينية، معناها مبادلة العملة الوطنية بالعملة الأجنبية أو العكس.

وتقوم أقسام الكمبيو في المصارف بمباشرة الأعمال التالية صلى الله عليه وسلم[55]):

1-    تحويل النقود الداخلية.

2-    تحويل النقود خارجيا.

3-    شراء وبيع العملة الورقية الأجنبية وسبائك ومسكوكات الذهب والفضة.

4-    شراء الشيكات المصرفية المسحوبة على المصرف.

5-    إصدار الشيكات والتصديق على شيكات العملاء لجعلها شيكات مقبولة الدفع.

ويقتصر البحث هنا على تناول ثلاثة فقط من الأعمال السابقة لأهميتها.

صلى الله عليه وسلم1) تحويل النقود داخليا:

المقصود بالتحويل النقدي الداخلي هو نقل المصرف النقود من مكان لآخر بنفس الدولة بناء على طلب عملائه، وشرط أن يقوم العميل طالب التحويل بإيداع المبلغ المطلوب تحويله لدى المصرف، أو يكون له حساب جاري به يغطي هذا المبلغ، يقوم المصرف بتحويله إلى الشخص الذي يحدده العميل على العنوان المقيم به المستفيد من التحويل.

ويتم التحويل الداخلي بثلاث طرق هي صلى الله عليه وسلم[56]):

1-    التحويلات الخطابية، فالمصرف المحول يأمر المصرف المحول إليه، خطابيا، بدفع قيمة التحويل إلى المستفيد.

2-    التحويلات التليفونية أو البرقية، حيث يتم إبلاغ المصرف المحول إليه تليفونيا أو برقيا بدفع التحويل إلى المستفيد.

3-    الشيكات المصرفية، وهي عبارة عن أمر بالدفع يتسلمه العميل نفسه ليرسله إلى المستفيد بالتحويل ليتولى صرفه.

ويتم التحويل في كافة الطرق السابقة بدون نقل فعلي للنقود، وإنما عن طريق إرسال إشعار إضافة من المصرف القائم بالتحويل إلى المصرف المحول إليه، وتبقى المعاملات المالية بين المصرفين مستمرة إلى أن تحدث المقاصة بينهما.

عائد المصارف من عمليات التحويل الداخلي.

‌أ-        عمولة المصرف عن التحويل.

‌ب-      مصاريف التليفون أو البرق أو البريد.

‌ج-      أجر تحويل المبلغ.

الحكم الشرعي على التحويل الداخلي صلى الله عليه وسلم[57]):

أولاً: أن عملية تحويل النقود داخليا تبرز فيها صورة الوكالة، وهي جائزة شرعا بأجر أو بغير أجر، والعمولة هنا هي الأجر، فهي جائزة.

ثانيًا: أن المصاريف التي يحصلها المصرف إنما هي مصاريف فعلية تكيدها المصرف، تسهيلا وتأكيدا لمصلحة العميل، فهي جائزة.

ثالثًا: أن عملية التحويل تمت بدون نقل فعلي للنقود، وإنما عن طريق إرسال الإشعارات بالإضافة. وهذا ما يكاد يضع أجر المصرف عن التحويل في دائرة الحرمة شرعا حيث لا تحويل فعلي. ومع ذلك فإن في نظام المصارف ما يبرر تقاضي هذا الأجر، بالنظر إلى وجود غرفة المقاصة التي تقوم بتسوية الدائنية والمديونية الناجمة عن عمليات التحويل بين المصارف. فلا  شك أن كل مصرف يتحمل أجر مندوبه ونفقاته، أما المصارف غير المشتركة في غرفة المقاصة فإنها تسلك طريقة فتح الحساب الجاري، وبالطبع فإنها تتحمل نفقة فتح الحساب وإمساكه، ومن ثم يجب أن تتم تغطية هذه النفقات عن طريق حصول المصرف على أجر التحويل.

خلاصة كل ما تقدم أن يكون العائد الذي يحصل عليه المصرف، في مباشرته لعمليات التحويل الداخلي، أمر مباحا شرعا.

صلى الله عليه وسلم2) تحويل النقود خارجيا:

التحويل الخارجي هو نقل المصرف النقود من دولة لأخرى، سواء كان هذا النقل وفاءا لثمن بضاعة أو سدادا لمديونية أو كان المقصود به الاستثمار أو الإنفاق في الخارج، ولا يقوم المصرف بعملية التحويل إلا بعد إيداع العميل المبلغ المراد تحويله لديه أو أن يأمر بخصمه من حسابه الجاري لدى المصرف.

طرق التحويل الخارجي صلى الله عليه وسلم[58]):

بالإضافة إلى الطرق الثلاثة المعروفة في التحويل الداخلي، وهي التحويلات الخطابية والتليفونية والبرقية والشيكات المصرفية، وهي طرق متبعة في التحويل الخارجي، توجد طريقتان إضافيتان، هما:

1-     خطابات الاعتماد، وهي رسالة صادرة من مصرف وطني لمصرف أجنبي، أو عدة مصارف أجنبية تقع في دول مختلفة.

ويرتبط المصرف الوطني بهذه المصارف بعلاقات مالية. وتتضمن هذه الخطابات دفع مبلغ معين لحاملها صلى الله عليه وسلمالمستفيد).

2-     الشيكات السياحية، وهي شبيهة بالشيكات العادية إلا أنها تحتوي على نموذج لتوقيع المستفيد للتأكد من شخصيته عند صرف الشيك في الخارج. وتتداول هذه الشيكات بسهولة في الفنادق والمتاجر ومحطات السكك الحديدية والمطارات، فضلا عن المصارف.

وتتم التحويلات الخارجية عن طريق القيود الحسابية بين المصارف بدون نقل أية مبالغ فعلية.

عائد المصرف من عملية التحويل الخارجي.

‌أ-        عمولة المصرف عن التحويل.

‌ب-      مصاريف التليفون أو البرق أو البريد.

‌ج-      أجر التحويل.

‌د-        فرق السعر بين العملتين، على أساس سعر الصرف في اليوم نفسه الذي يخطر فيه المصرف الوطني المصرف الأجنبي المحول إليه. ومعلوم أن سعر الصرف لمختلف العملات الأجنبية إنما يتحدد يوميا تبعا لظروف العرض والطلب لكل عمله. كذلك فإن لكل عملة سعر بيع يرتفع قليلا عن سعر الشراء لها، وحيث يربح المصرف الفرق بين السعرين.

الحكم الشرعي على التحويل الخارجي:

1-      سبق القول بجواز العناصر الثلاثة الأولى للعائد المصرفي من عمليات التحويل الخارجي، ألا وهي العمولة والمصاريف، وأجر التحويل، فلا داعي للتكرار.

2-      أما بالنسبة لحصول المصرف على فرق السعر بين العمليتين، فإن نص أحاديث الأصناف الستة صريح في جواز التبادل مع التفاضل على شرطين: اختلاف الصنف بين البدلين، وضرورة التقابض في المجلس.

وبالنسبة للشرط الأول، فلا شك أن العملة الوطنية صنف آخر يختلف عن العملة الأجنبية، ومن ثم يجوز استبدالها مع التفاضل.

أما بالنسبة للشرط الثاني، وهو التقابض في المجلس، فقد أجمع الفقهاء على ضرورة أن يتم الصرف ناجزا، واختلفوا مع ذلك في الزمان الذي  يفسر الإنجاز. فيرى أبو حنيفة والشافعي أن الصرف يقع ناجزا ما لم يفترق المتصارفان، تعجل القبض أو تأخر. بينما يرى مالك أن تأخر القبض في المجلس يبطل الصرف، وإن لم يفترق المتصارفان، حتى كره المواعدة فيه. وواضح أن سبب الخلاف هو ترددهم في مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم«الإهاء وهاء صلى الله عليه وسلم[59])».

الواقع أن شرط القبض في المجلس بالصورة المألوفة في العصور الإسلامية الأولى، على وفق قاعدة اليد باليد «خذ وهات» هو أمر لا يتوفر في التحويل الخارجي. ومع ذلك فإن الباحث يرى لهذا الشرط، على هذه الصورة، شبيها في ع ملية التحويل الخارجي. ذلك أن المصرف بمجرد الاتفاق مع العميل طالب هذا التحويل، واستلام المبلغ يقوم حالا بإجراء القيود الحسابية المتعلقة بعملية التحويل والعميل مازال قائما في مجلس الاتفاق.

والباحث يميل إلى القول بسلامة هذا القياس، وبالتالي جواز عمليات التحويل الخارجي بالنظر إلى قاعدتين شرعيتين:

الأولى: هي تحكيم العرف الجاري، حيث يجمع رجال الفقه على أن الإذن العرفي أقوى من اللفظي في أكثر المواضع صلى الله عليه وسلم[60]).

والثانية: هي جواز حدوث الإيجاب والقبول من طرف واحد صلى الله عليه وسلم[61]).

وأعمال القاعدة الشرعية الأولى يعني تحكيم العرف في القبض، العميل هدفه تحويل المبلغ، ثم توصيله إلى عميله الأجنبي في مقر إقامته بالخارج. وتسليم العميل المبلغ إلى المصرف، وإقراره لإجراءات التحويل، وقبوله دفع فرق السعر، هذه كلها دلائل صادقة على توكيل العميل للمصرف بصدد عمليات الصرف والتحويل.

وأعمال القاعدة الشرعية الثانية يعني أن تصبح القيود الحسابية الخاصة بالتحويل إيجابا وقبولا عرفا من المصرف بالأصالة عن نفسه ونيابة عن العميل.

وبناء على التصوير المتقدم، يكون التقابض قد تم في مجلس العقد.

وبذلك فإن التحويلات الخارجية، وهي ترتب للمصرف تقاضي العمولة والمصاريف والأجر وفرق السعر، تكون جائزة شرعا.

صلى الله عليه وسلم3) النقد الآجل:

يقصد بالنقد الأجل، في العرف المصرفي، التحديد الحال لمبلغ محدد من عملة معينة بما يساويه من عملة أخرى مطلوبة، على أن يتم تسليم العملة في ميعاد مستقبل متفق عليه.

والهدف من عمليات النقد الأجل هو تغطية الأخطار التي تنجم عن تقلبات أسعار صرف العملات، عن طريق تجميد السعر على نحو معين، بما يستبعد معه احتمال الربح أو الخسارة مستقبلا.

والحاجة لممارسة عمليات النقد الآجل إنما تنشأ في غمار مباشرة المصرف لشكلين من الأنشطة المصرفية، هما صلى الله عليه وسلم[62]):

‌أ-        الاعتمادات المستندية، كأن يقوم مُصدّر بعقد نقد آجل في نفس الوقت الذي يُصدّر فيه بضاعته، وذلك للتأكد من قيمة حصيلة التصدير عند قبضها. أو يقوم مستورد بعقد نقد آجل في نفس الوقت الذي يتعاقد فيه على الاستيراد، وذلك للتأكد من تكلفة الواردات بعملته المحلية.

‌ب-      التحويلات الخارجية، كما في حالة استثمار شخص لأمواله خارج وطنه أو إيداعهما بالخارج، حيث يرغب هذا الشخص في التأكد من المبلغ الذي سيحصل عليه عند عودة أمواله من الخارج.

كيفية إدارة عمليات النقد الآجلصلى الله عليه وسلم[63]):

عندما يطلب عميل من مصرف أن يبيع له نقدا آجلا فلابد للمصرف من تغطية هذه العملية، إذ من النادر أن يوجد عميل آخر يرغب في شراء نقد آجل باستبداله بنفس النقد الذي يطلبه العميل الأول، فضلا عن نفس المبلغ ونفس تاريخ التسليم، وتتم التغطية بأن يشتري المصرف حالا النقد الأجنبي المطلوب مستقبلا، ويحتفظ به في الخارج حتى ميعاد التسليم.

عائد المصرف من عمليات النقد الآجل صلى الله عليه وسلم[64]).

1-     الفوائد على الأرصدة الأجنبية المحتفظ بها في الخارج عن الفترة من تاريخ الشراء والإيداع حتى ميعاد التسليم للعميل.

2-     تحصيل فرق الفائدة بين الداخل والخارج صلى الله عليه وسلمإن وجد) وبيان ذلك أنه إذا اشترى المصرف نقدا أجنبيا حاضرا وأودعه بالخارج بالفائدة، فإذا كانت أسعار الفائدة في الداخل أعلا من نظيرتها بالخارج، فإن المصرف سيتحمل خسارة حيث كان يمكنه الاحتفاظ بالعملة المحلية في الداخل، دون تحويلهما، وتحصيل الفائدة المرتفعة أما وقد أقدم المصرف على شراء النقد الأجنبي في ظل هذه الظروف، فإنه تعويضا لخسائره يضيف فرق السعر إلى سعر المصرف الذي يحاسب العميل طالب الشراء على أساسه، وهنا يقال أن سعر الصرف الآجل بعلاوة قدرها كذا على السعر الحاضر، أما لو كانت أسعار الفائدة في الخارج أعلا من نظيراتها في الداخل، فإن المصرف يجني ربحا يحوله لعملية بطريق استنزال فرق الفائدة من سعر الصرف الحاضر، ويقال في هذه ا لحالة أن سعر الصرف الآجل بخصم قدره كذا من السعر الحاضر. ويطلق على الفرق بين السعر الحاضر والآجل اصطلاح «احتياطي الأجل»ويمكن أن يكون علاوة أو خصما.

الحكم الشرعي على عمليات النقد الآجل:

يمكن تخريج عمليات النقد الآجل في إطار تخريجين فقهيين: بيع باطل، وبيع صحيح.

التخريج الأول: عملية بيع باطل:

إن حكم الشريعة يمنع بيع أحد النقدين بالآخر مع تأجيل القبض، وإن أجاز التفاضل لقوله صلى الله عليه وسلم في نهاية حديث الأحناف الستة «فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد» وقد قال ابن عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: «أتي أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع الدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذا وأعطي هذا من هذا» فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء» صلى الله عليه وسلمرواه الخمسة وصححه الحاكم)صلى الله عليه وسلم[65]).

وأعمال هذا الحكم الشرعي يترتب عليه بطلان عمليات النقد الآجل ولسببين:

الأول: هو أنها لا ترعى شرط التقابض، وهذا يعني أنها تتضمن «ربا اليد».

والثاني: هو أنها ترتب تصرفا محرما شرعا، وهو إيداع الأموال بفائدة ربوية.

التخريج الثاني: عملية بيع صحيح:

يقوم هذا التخريج على أساس أن النقد الآجل هو مجرد مواعدة واتفاق يسبقان عملية البيع الحقيقية، والتي يتم فيها التقابض فورا بمجرد الانتهاء من إعطاء الوعد والاتفاق على السعر، والتقابض إنما يتم من شخص واحد يمثل إرادتين بالأصالة عن نفسه، وبالنيابة عن غيره، ذلك هو المصرف.

ومع ذلك فإن هذا الحكم لم يزل في حاجة إلى مزيد من الإيضاح، ومن ثم يفرق الباحث بين وضعين:

‌أ-        عمليات النقد الأجل المتولدة عن فتح الاعتمادات المستندية بمناسبة عمليات الاستيراد والتصدير.

باستلام المصرف المبلغ ثمن البضاعة من المستورد ليحوله إلى المصدر بشروطه، وبقبول المصدر الأسلوب التعامل هذا، فإن المصرف يصبح ممثلا لإرادتين: المصدر والمستورد، ووكيلا عنهما إلى جانب شخصيته المستقلة وإرادته الخاصة التي يتعامل بها لخاصة نفسه في ذات الوقت.

وبمجرد استلام المصرف المبلغ فإنه يقوم ببيعه في الحال بالعملة المطلوبة، باستخدام سعر الصرف الجاري. على أن المصرف لا يسلم العملة المشتراة إلى المصدر في الحال بل يحتفظ بها باسمه في أحد المصارف الأجنبية، ولما كان المصرف وكيلا للمصدر، فإن بذلك يتحقق شرط القبض في مجلس العقد، كما يتحقق مبدأ «خد وهات» من شخص واحد يمثل إرادتين بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن غيره. وهذه كلها أمور جائزة.

‌ب-      عمليات النقد الأجل المتولدة عن التحويلات الخارجية بمناسبة عمليات الاستثمار الخارجي والإيداع الخارجي.

الواقع أنه يمكن تحليل مثل هذه العمليات إلى عناصر ثلاثة:

‌أ-        عملية شراء لعملة البلد المحول إليها.

‌ب-      دفع المبلغ المحول للاستثمار الخارجي أو للإيداع الخارجي إذا ما كانت الفائدة في الخارج أعلا من مثيلتها بالداخل.

‌ج-      عملية بيع آجل للعائد الدوري للتحويل، فضلا عن مبلغ التحويل نفسه في نهاية مدة الاستثمار أو الإيداع، وتتم عملية البيع هذه في نفس وقت شراء العملة الأجنبية.

أما عمليتا الشراء للعملات الأجنبية وكذلك الاستثمار أو الإيداع للعملة المشتراه، فلا تأباهما صراحة أصول الشريعة، لأن التقابض مع التفاضل قد تم في مجلس العقد على الطريقة العرفية للمصرف، وهي القيود الدفترية بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن العميل.

وأما فيما يتعلق بعملية البيع الآجل للعائد، فضلا عن أصل المبلغ المحول بعد انقضاء مدة الاستثمار أو الإيداع الخارجيين، فإن الباحث يلاحظ أن المصرف، وهو يتفق مع عميل على سعر البيع، لا يسلم للعميل المبلغ المقابل لمبلغه في الخارج، ومن ثم لا يتوفر عنصر «خذ وهات»، وبذلك لا تصير عملية النقد الآجل عملية بيع حقيقة، على أنها في نفس الوقت ليست بعملية بيع غائب بناجز وبالتالي تنحصر في كونها عملية مواعدة بين المصرف وعمليه.

والمواعدة في الصرف كرهها الإمام مالك، وحيث أن الكراهة غير التحريم، ولما كان مالك نفسه قد أجاز تحديد يوم يتم الصرف على أساسه صلى الله عليه وسلم[66])، وحيث أن عملية البيع سيعقد لها مجلس آخر يتم فيه التقابض على أساس المواعدة والاتفاق السابق، فلا مانع عند الباحث أخدًا بقاعدة التيسير وإزالة الحرج، من قبول هذا الصنيع.

 

([1]) Sheldon (H.P.): the practice and Law of Banking. 8th edition, Macdonald and Evans, London, 1958. p.21-23.

([2]) Sheldon: op. cit., p.59-65.

([3]) الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري. جـ3، جـ1، ص377 وما بعدها.

([4]) النساء، 58.

([5]) ابن حجر الهيثمي (المتوفى بمكة سنة 1974): الزواجر عن اقتراف الكبائر. الطبعة الأولى، المطبعة الأزهرية، القاهرة. ج1، ص216.

([6]) مصطفى عبد الله الهمشري: مرجع سبق ذكره. ص165.

([7]) علي الخفيف: أحكام المعاملات الشرعية. ص209 – 213.

([8]) محمد جمعة عبد الله، الكواكب الدرية في فقه المالكية. مطبعة المستقبل، دمنهور جـ3، ص70 – الطبعة الأولى.

([9]) أبو  القاسم الدين جعفر بن الحسن: المختصر النافع في فقه الأمامية. دار الكتاب العربي. ص150.

([10]) علي الخفيف: مرجع سبق ذكره، ص196.

([11]) الفقه على المذاهب الأربعة. جـ3، ص347.

([12]) أبو الطيب صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري: الروضة الندية شرح الدرر البهية. جـ2، ص142.

([13]) ابن القيم: أعلام الموقعين. جـ1، ص336.

([14]) الفقه على المذاهب الأربعة، جـ3، ص344.

([15]) Sayers (R.S.): Modern Banking. 4th ed. Clarendon press, Oxford, 1958. p.30-42.

([16]) المرجع السابق.

([17]) المرجع السابق.

([18])

([19]) الشيخ علي الخفيف: أحكام المعاملات الشرعية، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، ص192.

([20]) حاشية ابن عابدين، جـ5، ص45.

([21]) البيهقي: السنن الكبرى. جـ6، ص120.

([22]) محمد سلام مدكور (د.): المدخل للفقه الإسلامي. دار النهضة العربية، القاهرة 1965. ص736.

([23]) تقي الدين السبكي: مرجع سبق ذكره، جـ10، ص168.

([24]) Edward W.Reed: commercial Bank Management. Harper & Row. New York, 1963. p.165 – 184.

([25]) محمد قدري باشا: مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان في المعاملات الشرعية. المطبعة الأميرية. القاهرة 1927، ص131 – 140.

([26]) المرجع السابق.

([27]) المرجع السابق.

([28]) المرجع السابق.

([29]) ثار خلاف في الفقه القانوني حول تكيف العمولة: أهي أجر أم فائدة مستترة؟ فالمشرع الفرنسي حين يحاول تحليل ماهية العمولة ينتهي إلى إنها لو حملت على أنها فائدة إضافية مستثمرة فإنه لو زاد مجموعها، هي والفائدة الأصلية التي يتقاضاها البنك خصما من القيمة الاسمية للورقة، عن الحد الأقصى للفائدة الاتفاقية (7%) لوجب ردها إلى القدر القانوني. أما لو حملت على أنها أجر من مقابل خدمة حقيقية أداها البنك للعميل، فإنها تجب أيا كان مقدارها. ولقد اتجه القضاء الفرنسي، ابتداء من عام 1886، إلى التوسع في تقدير معنى الخدمة التي تبرز طلب العمولة، كما تساهل في ما هي الإثبات الذي يجب على البنك تقديمه لبيان طبيعة هذه الخدمة ولم يعد ينظر إلى العمولة بوصفها فائدة مستترة إلا إذا ثبت غش البنك.

Sheldon: op. cit, p.108.

وفي مصر نصت المادة 227 من القانون المدني الجديد في فقرتها الثانية على أن «كل عمولة أو منفعة أيا كانت نوعها، اشترطها الدائن، إذا زادت، هي والفائدة المتفق ع ليها عن الحد الأقصى (7%) تعتبر فائدة مستترة، وتكون قابلة للتخفيض إذا ما ثبت أن هذه العمولة أو المنفعة لا تقابلها خدمة حقيقية أو منفعة مشروعة يكون الدائن قد أداها». عبد الرازق السنهوري (د.): الوسيط. جـ2، ص908.

([30])

([31]) توفيق لبيب: التسهيلات المصرفية قصيرة الأجل، محاضرة بمعهد الدراسات المصرفية، يونيو 1966، ص10.

([32]) عبد السميع إمام: نظرات في أصول البيوع الممنوعة، دار الطباعة المحمدية، القاهرة، ص107 وأيضا حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ص 55، الطبعة الثانية، المطبعة الأميرية.

([33]) خص الذهب والفضة بالذكر لأنهما كانا الوحدة المعيارية للثمنية في هذا العصر ولا شك أن ما يقوم مقامها اليوم يأخذ حكمها.

([34]) الصنعاني: سبل السلام، جـ3، ص82.

([35]) الإمام أبو محمد محمود بن أحمد العيني (762 – 855هـ): رمز الحقائق في شرح كنز الدقائق – فقه حنفي، المطبعة البهية المصرية، القاهرة 1327هـ، جـ2، ص137، شرح العيني على متن الكنز، جـ2، ص137.

([36]) في انجلترا لا يلزم صاحب المحفظة أو وكيله، إذ يكتفي بموظف البنك

J.Mines Holden: Jones’s Stulies in practical Banking pitman, London, 1957,p.197.

([37]) أحمد بن يحيى المرتضى: البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، مطبعة أنصار السنة المحمدية، جـ4، ص168.

([38]) ابن عابدين: مجموعة رسائل ابن عابدين، مطبعة محمد هاشم المكتبي، جـ2، ص178.

([39]) القصص، آية 26.

([40]) شرح الزبيدي، دار الكتب المصرية، جـ2، ص209.

([41]) صحيح البخاري، جـ2، ص30.

([42]) الإمام البيهقي (أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي): السنن الكبرى، مطبعة دار المعارف العثمانية بحيدر آباد والدكن بالهند، طبعة 1312 هـ، جـ6، ص120.

([43]) Milnes Holden: op. cit: p.201 – 202.

([44]) Sayers: op.cit. p.52-56.

([45]) الصنعاني: سبل السلام، شرح بلوغ المرام من جميع أدلة الأحكام. راجعة وعلق عليه: عبد العزيز الخولي، مطبعة الحلبي، جـ3، ص86.

([46]) الفقه على المذاهب الأربعة، جـ3، ص89 وما بعدها، وأيضا: شرح العيني على متن الكنز، جـ2، ص280، وكذلك: تحفة الفقهاء لعملاء الدين السمرقندي (وهي أصل بدائع الصناع). جـ2، ص3-5.

([47]) غريب الجمال (د.): المصارف والأعمال المصرفية في الشريعة الإسلامية والقانون دار الاتحاد العربي للطباعة. القاهرة 1973، ص321، 322.

([48]) القنوجي البخاري (أبو الطيب صديق بن حسن بن علي الحسيني): الروضة الندية، شرح الدرر البهية، مطبعة إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة جـ2، ص142 – 143.

([49]) Sheldon: op. cit. p. 215 – 227.

([50]) المرجع السابق.

([51]) المرجع السابق.

([52]) Reed: op. cit. p. 472.

([53]) الفقه على المذاهب الأربعة، جـ2، ص239.

([54]) عبد السميع إمام (أ): نظرات في أصول البيوع الممنوعة، دار الطباعة المحمدية، القاهرة 1951، ص110.

([55]) Reed: op. cit . p. 210 -213.

([56]) Reed. Op. cit . p. 215.

([57]) مصطفى عبد الله الهمشري: مرجع سبق ذكره، ص184 – 185.

([58]) Reed: op. cit , p. 217.

([59]) محمد بن أحمد بن محمد بن رشد (الحفيد): بداية المجتهد ونهاية المقتصد، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة ، جـ2، ص197.

([60]) ابن القيم: أعلام الموقعين، سبق ذكره، جـ3، ص323.

([61]) يقر المالكية والحنابلة صحة التعاقد بإرادة واحدة في جميع العقود. وبذلك تمثل عبارة العاقد عبارتين وإرادته إرادتين، كما في حالة الوكيل عن أكثر من شخص، حيث أن الحقول في العقود إنما تعود إلى الموكل (الأصيل) بل أجاز الحنابلة للشخص أن يكون وكيل عن المدعي وعن المدعي عليه في نفس الوقت، وكذلك أجاز المالكية والحنابلة أن يباشر شخص العقد بإرادته المنفردة، باعتباره أصيلا ووكيلا في نفس الوقت، كان يكون وكيلا عن المشتري في شراء شيء فيبيعه ما عنده، ويباشر العقد منفردا بإرادته، أنظر: محمد سلام مدكور (د. ): المدخل للفقه الإسلامي، سبق ذكره ص579.

([62]) Milnes Holden: op. cit, p. 208.

([63]) Milnes Holden: op. cit, p. 209.

([64])

([65]) الصنعاني: سبل السلام، سبق ذكره، جـ3، ص22.

([66]) موطأ مالك، جـ2، ص77-78.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر