أبحاث

الأحزاب السياسية ونمط القيادة في الدولة الإسلامية

العدد 44

شكّلت الأحزاب السياسية لب التقاليد الديمقراطية البريطانية في القرن التاسع عشر. تلك التقاليد التي كانت محط إعجاب الكثيرين. واستمرت مصداقية هذا النظرة وبنفس القدر ـــ الذي لا يدانيه أمر ـــ حتىٰ الربع الأول من القرن العشرين.

ومنذ ذلك الحين بدأ البندول يتحرك في الاتجاه المعاكس, حتىٰ ظهرت مع مقدم القرن الاخير من القرن العشرين مجموعة كبيرة من الآراء المتنوعة التي أسفرت ـــ وبشكل محيّر ـــ علىٰ زوال نظام الأحزاب, أو علىٰ قرب زواله ـــ ولم يكن هذا الأمر ذا بال بالنسبة لبعض النقاد ـــ خاصة في العالم الثالث, ولم يروا فيه سوىٰ حلقة دائرية من الأحداث المتعاقبة خلفت فيه طبقة محدثي الثراء من أرباب الصناعة وطبقة الأستقراطيين من أصحاب الأرضي, وأعقبت من ورائها طبقة البيروقراطين .. مستهدفة كلها إستغلال الفقراء. ويعتبر هذا الرأي نظام الأحزاب في العالم مصدراً للإِبتزاز ـــ ظاهراً أو خفياً ـــ طبقاً لكيفية الاعتماد عليه.

ولا ريب أن هناك جدلاً عاماً يدور حول وضع نظام لأحزاب وهل هو الآن في طور الإحتضار أو أنه قد صادف أجله المحنوم فعلاً, وأنه يمر بطور نمائي خفيض يخرج بعدها بشكل جديد في المستقبل القريب, بينما يرىٰ هذا الوضع, كما أن هناك أيضاً شكلاً من أشكال الجدل حول الدور الحقيقي لنظام الأحزاب في العالم الثالث.

وكلما حاولنا البحث في الأسباب التي أدت بنظام الأحزاب إلىٰ هذا الوضع ـــ سواء كنا نعتبره نظاماً زائلاً أو أمه في الطريق الىٰ الزوال ـــ تقفز أمام أعيننا كثير من الأسئلة حول النظام الإِجتماعي ذاته, حول السلطة, القوة, وفجوة الثقة, والمسؤلية, وفوق كل شيء الدور المتغير لنظام الأحزاب ذاته, فإن فكرة القيادة ذاتها تتعرض للمراجعة المستمرة والتغيير الشامل. وفي العالم لثالث ـــ وخاصة في العالم الإِسلامي ـــنجد علاوة علىٰ هذه التساؤلات أسئلة أخرىٰ عديدة, فبينما يعتقد البعض أن نظام الأحزاب يناقص تعاليم الإِسلام ـــ وهو ما يحتاج إلىٰ تحقيق دقيق سنتطرف له في حينه ـــ يكفي البعض الآخر بإستبعاده حيث أن قيادة الأفراد أكبر من المقاومة إذا ما سمح لهم بالانتظام في جماعات.

ولقد تميز فعالية الأحزاب السياسية في كافة أنحاء العالم الإِسلامي بتدني المستوىٰ, خاصة في فترة ما بعد الاستقلال, حيث تحطمت صورة الاستقلال وتحطمت معها الآمال العديدة المنعقدة عليها, والتوقعات الكثيرة المحيطة بها, وألقىٰ كثير من المحللين السياسيين بالتبعة علىٰ الأحزاب السياسية واعتبروها مسئولية مباشرة عما حدث اهذا الإِنجاز من تشويه.

واتسمت قيادة ما بعد الاستقلال ـــ رغم ما رفعته من شعارات تنادى بالاشتراكية والمساواة بين البشر ـــ بطابع الاستغلال, بينما اندفع الأفراد الذين كانوا يشكلّون طبقة الصفوة في مرحلة ما قبل الاستقلال ليأخذوا نصيبهم من الغنيمة. وظلت هذه القيادة بسياستها البيروقراطية بمعزل عن مشكلات الناس لا تلقى لها بدلاً, رغم ما دعت إليه من إشتراكية ـــ بل وبدرجة أكثر مما فعل المستعمرون في الأعوام السالفة. ولم نر أي تحول فعّال عن سياسة المستعمر الهادفة إلىٰ حكم الشعب أو حتىٰ إقرارٍ لمفهوم خدمة الشعب بدلاً عنها. وإزداد الفساد و انتشرت المحسوبية وعمّ انتهاك الحقوق والاضطهاد أكثر من ذي قبل, برغم الوعود التي تؤكد محو كل ذلك.

إن رؤية قيادة إسلامية حكيمة شجاعة ذات تكامل أخلاقي, قد تحطمت مراراً علىٰ أرض الواقع.  وما تعرض له العالم الإِسلامي في السنوات الأخيرة من أشكال الإِذلال المتلاحقة سواء علىٰ الجبهات العسكرية أو السياسية في البناء الإِجتماعي. وتلاشىٰ الحوار بين الحكام والمحكومين إلا من بعض قدامىٰ المخلصين. وساد إحساس بالإِرهاق العميق مع صمت كصمت القبور. وخطرت لذوي العقول الجادة أسئلة خطيرة حول إمكانية تواجد المجتمع الإِسلامي وما يمثله من قيم.

إن الأحزاب السياسية هي مطايا القيلدة, وحاملة القوة. إنها المؤسسات المعتمدة التي تأتي السلطة السياسية من خلالها, وتُحل الخلافات سلمياً عن طريقها, ويتغير الواقع بها, وتقف في مواجهة كل أشكال الطغيان والاستبداد. إنها تشَكّل نقطة التجمع التي يتلاقىٰ فيها كثير من التوجهات السياسية بمسّمياتها المختلفة, سواء كانت علىٰ هيئة أفكار أو آراء أو منابر أو قُوىٰ. كما تعتبر أداة فعالة للعمل الجماعي, فلا تقتصر علىٰ مساندة المرشحين الذين يتمتعون بتأييد كبير, ودعم برامجهم, أو استبعاد المرشحين الذين لا يرقون إلىٰ ذلك, علىٰ المستوىٰ القومي, وكذا برامجهم, بل تقوم أيضاً باختيار المرشحين, وتقديم البرامج الانتخابية. ويستمر عليها بعد الانتخابات فتساند الحكومات الموجودة في السلطة أو تسعىٰ لإِزالة ما تبقىٰ من نقاط الإِختلاف, وفي سبيل الاعداد للجولة التالية من الانتخابات, وذلك في النظام السياسي الذي يسمح بتواجد المعارضة فيه.

وتأتي الأحزاب السياسية في هيئات مختلفة, وبأشكال متعددة, بل إنها قد تمر بتحولات عديدة داخل البلد الواحد عبر فترة زمنية محدودة. وإذا ما دخل تاريخ الحزب علىٰ اعتبار خضوع الفرد لسلطة المؤسسة, فلم يكن من غير المألوف أن يصبح الحزب مجرد أداة في يد زعيم جماهيري أو قائد قوي, ويتحول إلىٰ وسيلة للسيطرة بهدف النفعية أو الاستبداد, ونتيجة لذلك استقرت في عقول الناس شكوك واضحة لا يمكن إغفالها حول قيمة الأحزاب السياسية وجدواها, وأصبح إضمحلال أهميتها من الأمور المسلّم بها, وإن دار الجدل للعوامل المؤدية إلىٰ ذلك. كما يصدق القول اليوم بأن هناك قدر لا يستهان به من الخلط المشوش حول دورها, بل وعدم وضوح هذا الدور في المجال السياسي المفترض له. بل إن البعض مازال غير قادرٍ علىٰ تحديد هوية الأحزاب السياسية بإعتبار هذه الهوية عاملاً هاماً في المساومات السياسية.

لقد جاء وقت بدا فيه أمراً معقولاً أن يؤكد كاتب مثل مايكلز Michels في عمله المبدع المعنون «الأحزاب السياسية» علىٰ أن الحزب السياسي شأنه شأن أي جماعة إنسانية أخرىٰ, وينزع إلىٰ التكوين الهرمي. فيُصبح حكم الأقلية فيه أمراً حتمياً حين يأخذ البعض زمام القيادة, وتقنع البقية بالتعبية, ويسوق مايكلز مثلاً توضيحياً علىٰ ذلك هو تكوين الحزب الديمقراطي الاشتراكي في المانيا, ويبين كيف أن هناك من الأسباب المعقولة ما يجعلنا نعتقد بأن ما نشهده من هذه النزعات في حقيقته هو سمة عامة لا تقتصر علىٰ حزب معين. فلقد نشأت في عصره أحزاب كثيرة إستهمت مبادئها من مباديء ماركسMarx ولينين Lenin وكانت هذه الأحزاب تشاركه في هذا الاعتقاد ولكنها كانت تختلف معه حول مبرراته. ومع ذلك فإننا نجد حتىٰ بين معاصري مايكلز الكثيرين أمثال لوكاكس Lukacs و جرامسي Gramasci وليفي Levi وكورش Korsch من يعارض بشدة البيروقراطية المتفشّية في نموذج الحزب السياسي كما يراه مايكلز. وكما يتبين أيضاً من واقع الماركسية اللينينية في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية. وطالما أننا نذكر هؤلاء المعارضين فيجب ألا نغفل ذكر روازا لوكسمبرج Rosa Luxemberg ويرىٰ هؤلاء النقاد المعارضون أن الحزب السياسي يجب أن يكون إتحاداً حراً وتجمعاً اختيارياً نابعاً من التزام مشترك بُمثل عليا تصحبه رؤية واضحة لما يجب عمله. ويُطلق علىٰ أصحاب هذا الرأي «الشيوعيون اليساريون» وهؤلاء لم تكن لهم شعبية كبيرة في العالم الشيوعي حيث ـــ والحق يقال ـــ لا تستطيع أي إمريء أن يكون يسارياً أكثر من الحزب الحاكم, فمن يعتنق مثل هذه الآراء فإنه إما أن يلقىٰ حتفه غالية (مثل روزا لوكسمبرج) أو ينتحر (مثل ليفي) أو يكون محظوظاً فيلقىٰ في السجن (مثل جرامسي) أو يُنفي (مثل كورش, ولوكاكس).

ونجد في التراث الليبرالي الغربي أن فكرة الحزب السياسي بإعتباره اتحاداً إختيارياً من الأفراد الأحرار يستهدف تحقيق أهداف سياسية مشتركة ـــ نجد مثل هذه الفكرة شعاراً عاماً بين الأحزاب, رغم أنها عند التطبيق لم تكن تحظىٰ بالقبول التام. فبينما نجد أغلب الأحزاب السياسية تضع هذه الفكرة أساساً لقيام الحزب, إلا أننا نلاحظ أم تلك الأحزاب قد تعمدت ـــ مع نهاية الربيع الأول من هذا القرن ـــ أن تترك الخطوط العامة لبرامجها بلا تحديد. حتىٰ أن أغلب الناس قد تواجههم صعوبه حقيقية إذا ما أرادوا تحديد عشر نقاط تميز المجهوريين عن الديمقراطيين في الولايات المتحدة. وكذلك الأمر بالنسبة لأحداث الأحزاب مثل الحزب الديمقراطي الاشتراكي في بريطانيا, فستواجهنا نفس الصعوبة إذا ما حاولنا تمييز برامجه عن برامج حزب العمال.

ولقد مرِّ زمن كانت فيه الأحزاب تتحدد طبقاً لمنشأ قيادتها. فقامت الطبقة الأرستقراطية بتشكيل «الأحزاب المحافظة» وقامت الطبقات العاملة بتشكيل «أحزاب العمل» وعلىٰ نفس المنوال كانت أفراد الطبقة الأستقراطية والمليونيرات ينتمون إلىٰ الحزب الجمهوري بينما ينتمي أفراد الطبقات العامة إلىٰ الحزب الديمقراطي. ولكن هذا التحديد لم يعد يصدق علىٰ تكوين الأحزاب فليست تلتشر أكثر أرستقراطية من ريجان. وفي الجانب الآخر لم يكن آل كنيدي من الطبقة العاملة أكثر مما كان آل ركفلر. إن لعبة الكراسي الموسيقية في تبادل الأدوار, وما صحبها من تبادل الهويات نتيجة لإِزدياد معدل الرخاء والتحول الديمقراطي داخل الثقافة ـــ كل ذلك جعل الناس يغيرون من لآرائهم ويبدلونها علىٰ نفس المنوال. ولما كانت هذه التغيرت فجائية فلم تترك لهم فرصة يستعيدون فيها توازنهم. ومن ثم فإن «السلطة» بمفهومها المتعارف عليه من تخصيص بالأمر ووجوب الطاعة علىٰ الآخر لم تكن لتبرز أو تنشأ أو أنها إن وُجدت فقد فشلت في أن يكون لها قاعدة محددة يمكن التعرف عليها. وهكذا أصبحت المشكلة الرئيسة تكمن في فقدان التماسك وما يؤدي إليه ذلك من إحباط نجد مثالاً واضحاً عليه عند دراستنا للقيادة الحزبية في الولايات المتحدة الامريكية.

إن أحد الأمور التي غالباً ما تعتبر من متطلبات قيام ديمقراطية قابلة للتطبيق في أي بلد هو وجود اتفاق عام علىٰ الأولويات القومية. ولذا ففي أي بلد تنتعش فيه الديمقراطية يحتم وجود اتفاقات في قطاعات لا يستهان بها تفوق ما قد يظهر من خلافات. ولكننا نجد أنفسنا ـــ حتىٰ في حالة التقبل التام لمثل هذا الرأي ـــ عاجزين عن تفهم ظاهرة التآكل الجماعي التي يتعرض لها نظام الأحزاب في العالم الغربي الحر, فرغم وجود اتفاق عام حول الأولويات إلا أننا نجيد موقف القيادة الحزبية هناك في غاية السوء.

والرأي الذي يطرحه مايكلز بأن القيادة داخل الحزب تكون للأقلية و الإِتباع يكون علىٰ البقية ـــ حتىٰ وإن صدق ـــ لم يعد قادراً علىٰ إمدادنا بالتفسير المقنع لما يحدث, فالتصويت لم يعد يتبع الخط الذي يسير عليه الحزب بالدقة المنشودة, كما تتزايد الصعوبة في تحديد أولئك الذين لهم القيادة وأولئك الذين عليهم الإِتباع, فغالبية القضا يحسون بالرضا إذا ما نُصّبوا في موقعهم حتىٰ وإن لم تكن لهم القيادة الفعلية, ويستهلكون كل ذكائهم وقدراتهم في محاولة التعلم والتفوق قليلاً علىٰ جيرانهم فيما تأتي به الرياح. ويكمن السبب وراء ذلك في أن مهمة القيادة قد أصبحت أكثر صعوبة بالنسبة لأولئك الذين يدّعونها. ويبين الأتجاه الحديث في الانتخابات التي تجري في الولايات المتحدة الأمريكية كيف أن القتراع في المراحل المبدئية يفرض مرشحاً معياناً علىٰ كبار الشخصيات داخل الحزب. إن ما نشهده فعلاً هو تغير جذري يتحدىٰ غالبية التفسيرات المعهودة ولا نرىٰ فيه إلا ثورة هادئه غير محددة المعالم تتناول شروط القيادة.

ويحفل التاريخ الحديث بالقيادات التي تعتمد علىٰ إفتتان الجماهير والتي يتخطىٰ فيها القائد التسلسل الهرمي داخل الحزب, ويحطم نطاقة, فيتلقى الولاء له من الشعب مباشرة. وفي الجانب المقابل نجد افراد الشعب يتجاهلون ـــ من أجل هؤلاء القادة ـــ كل الروابط التي يمكن ان تجمعهم سواء كانت روابط دينية أو روابط دنيوية او روابط حزبية أو روابط الجيرة أو الجماعة, ونجد امثلة علىٰ ذلك في محمد علي جناح, وسوكارنو, وعبدالناصر, وغيرم ممن قادوا بلادهم إلىٰ الحرية. ولكننا نجد ان القائد الذي إمتد به عمره ليحتل منصب القيادة في فترة ما بعد الاستقلال يعاني من تضاؤل الافتتان به بمرور الزمن. كما أن كثير من الزعماء الجماهيريين في العالم الثالث قد بدوا كالطبل الأجواف عندما لم تكن إنجازتهم علىٰ مستوىٰ نا أعطوه من وعود. ونجد الكثير من هذا النمط في الفترة ما بعد الاستقلال, فكم من قائد أبعدوه بنفس القدر من الحماس الذي رفعوه به.

وتبفىٰ الحقيقة القائلة بأن الأحزاب السياسية تحت قيادة الزعامة الجماهيرية لا تحقق ـــ فيما يبدو ـــ مكانة أو كيانا بل تبدأ في الانهيار والزوال بمجرد إختفاء القائد من الساحة. وتلك الظاهرة لا يصعب علينا فهمها, فالجماعة لم تبرز إلىٰ الوجود أو تنشيء لها ذلك الكيان الهش إعتماداً علىٰ أساس من الاتفاق علىٰ مباديء معينة, وأنما إعتمدت علىٰ دفعة حياتية جديدة تستند إلىٰ الاتفاق علىٰ القدرة المطلقة أو الملهمة للقائد الزعيم, الذي تقوم العلاقة معه علىٰ أساس التصديق له بلا رذّ والأبوة منه بدلا نقد, ولذا تنهار الجماعة عند إقصائه أو مع موته.

ونادراً ما يشجّع الزعماء الجماهيريون النمو الثقافي عند أتباعهم حتىٰ يلجأ إليهم هؤلاء الاتباع كما يلجأ الأبناء للآباء يلتمسون عندهم الحل للمشكلات التي يواجهونها, خاصة في الفترات التي تواجه فيها الأمم والجماعات مشكلات من النوع متعدد الجوانب, الذي يستعصي علىٰ الاستيعاب الواضح أو الحلول السهلة, ففي مثل هذه الفترات العصبية العسيرة تولد الزعامة الجماهيرية.

ومع ذلك فقد كانت الفارة ما بعد الحزب العالمية الثانية ذات طابع محيّر بشكل مخالف نوعاً ما. فإذا ما كانت المشكلات قد زادت فقد زاد معها الرخاء ورَبًتْ معها القدرة العامة في الانجازات في مختلف المجتلات, وتواجدت وحدات أصغر من الأمة ولكنها أكثر منها إقناعاً ومبعثاً للرضا. وأفرزت هذه الظاهرة مجموعات ضغط ذات أشكال مختلفة ظهرت علىٰ المسرح السياسي.

وأذا ما نظرنا خلال العقود الثلاثة الماضية لتبيّن لنا أن النظام الحزبي داخل الأنظمة الديمقراطية الغربية قد تحول إلىٰ مجموعات ضغط كما تحول في أنظمة العالم الثالث إلىٰ مجموعات إقطاعية إقليمية كثيرة. وحيثما كان للنظام الحزبي مقام كان حاجة إلىٰ زعيم ذي إرادة حديدية وفطنة سياسية متقدمة حتىٰ يؤلف بين هذه المجموعات. والسمة الأخرىٰ للبناء الحزبي السائد والتي لا يمكن أن تغيب عنا هي أن مستوىٰ الصف الثاني من القيادة والذي يلي الزعيم الجماهيري مباشرة كان عادياً جداً وبنفس القدر من الضعف في التزامه.

وإذا ما نحينا الأفراد جانباً فإن الظاهرة التي تسود العالم اليوم هي أن مستوىٰ الزعامة فيه من النوع العادي. وبغضّ النظر عن بعض الحالات القليلة الصادقة من الزعامات الجماهيرية الحقة فإننا نجد البقية تنتمي إلىٰ الفئة العادية التي ليس لها السحر الجماهيري أو السلطة المؤثرة, وهم في الواقع الأمر لم يفشلوا في إقامة الحجة لأنفسهم بسبب نقص في مقدرتهم فحسب, بل ولأن الناس وجدوا من العسر عليهم أن يصدقةهم او يقتنعوا بما يعرضونه عليهم. ففي مجال الرؤية الواضحة المبيّنة للأحداث الواقعة أو في مجال الثقة بالنفس في مواجهة الظروف المعادية او في مجال التماسك الخلفي و العصبي لم يثبت القائد العادي جدارة تفوق مستوىٰ أحد الأفراد العاديين من رعيته.

ونجد كل أحزاب العالم الثالث تقريباً, تأتي نهاية فترة حكمها وقد فقدت شعبيتها بدلاً من ان تزيد, ومرجع ذلك إلىٰ سببين أولهما أن ذلك امر حتمي فليس هناك من يرتفع مستوىٰ أدائه إلىٰ مستوىٰ ما وعد به أو إلىٰ مستوىٰ الذي تكون عليه الآمال المعلقة عليه, وثانيهما ما وقع من أخطاء خطيرة تحتاج إلىٰ تحليل.

سمة أخرىٰ يختص بها النظام الحزبي المعاصر وهي ان أي من الأحزاب لم تنجح ــــ إبّان تواجده خارج مقاعد الحكومة ـــ في تقديم بديل قابل للتطبيق لما تنتهجه الحكومة من سياسات. وغالباً ما يكون مردّ ذلك إلىٰ استغراقه قي حالة من العطل أو فقدان الجهد الأصيل كما قد يكون نتيجة الرغبة في تجنب الخلافات الداخلية التي يفُرزها الجدل عندما يدور داخل الجماعات الواهنة. فلا نجد من يبذل جهداً ثابتاً لجمع البيانات او استغلال المناخ منها بطريقة فعالة. بينما كان نقد هذه الأحزاب للبرامج التي تفرضها الحكومة صاخباً هستيرياً لا طائل من وراءه, ومن ثم فيرفضه الأكفاء ويتجاهله الأقوياء. ومع حرمان غالبية القادة السياسيين من عقد المؤتمرات الشعبية و إنكار حقهم في إلقاء الخطب الحماسية فإن مكانتهم تتضاءل حتى أنه قد لا يعترف بهم بل و بأحزابهم أكثر منهم, وما من طريق آخر لإِستثارة قلب الفرد العادي وعقله أو الاقتراب منها حتي الآن سوىٰ تلك الأساليب. فالإِذاعة المسموعة و المرئية في العالم الثالث ـــ وحتىٰ في العالم الثاني ـــ مازالت تحت سيطرة الحكومة.

وفي الحكومات التي تتشكل دون إشترا الحزاب السياسية, نجد السلطة تقتسمها البيروقراطية والقوات السلحة وكبار رجال الأعمال وذلك إذا ما كانت الدولة مرتبطة بالغرب, اما إذا كانت مرتبطة بالاتحاد السوفيتي فإن السلطة تقتسمها البيروقراطية والجيش و الحزب الاشتراكي, وحتي  حين ينتظم أفراد من الشعب في حزب سياسي وتجتمع إرادتهم علىٰ كسر تحكم هذا المجموعات الثلاثة, فإنهم لا يجدون إلىٰ ذلك سبيلاً (مثلما حدث في بولندا) وتنهار سلطة هذه المجموعات الثلاثة عندما تسقط أو عندما يبرز زعيم جماهيري يستحوذ على ولاء القطاعات الرئيسة داخل كل فئة فيكسر بذلك تماسكها الداخلي (مثلما حدث في إيران). ومن جهة أخرى فإن الإِرادة المشتركة ستكون بلا جدوىٰ إذا ما لجأ الكيان السياسي القائم إلىٰ تفريق الشعب ومنع كل أشكال التجمع من بدايته.

أن الافتراض القائل بأن الأحزاب السياسية التي تمثل الإِرادة للشعب يجب ان تفوز في النهاية لا يصدق ـــ علىٰ الأقل نسبياً ـــ في العالم الحديث. ففي البلاد الديكتاتورية التسلطية التي ترفع أعلام الماركسية اللينينية نجد حتىٰ تلك ألإِرادة المشتركة بلا فاعلية تقريباً في مواجهة الإِرادة المتحدة للمجموعات الثلاثية المشار إليها في النظاميين (مثلما حدث في بولندا).

إن انهيار الأشكال التقليدية للسلطة في كل أنماط الجماعات الإِنسانية المعاصرة قد أصبح إلىٰ

حد ما ظاهرة جديدة تزامنت مع التحول الكبير في القوة الاقتصادية أو السياسية داخل المجتمع ـــ كما تغيرت المعايير السياسية والإِجتماعية تغيراً فاق كل تصور ـــ مع زيادة المعرفة الإِنسانية والإِنجازات التقنية. إن المعرفة الإِنسانية تزايدت لآلاف السنين بمعدل منتظم نسبياً وبشكل يمكن احتواؤه قد تزايدت في القرن العشرين علىٰ هيئة إنفجار لم يستطع الناس معها أن يجدوا وقتاً يعيدوا فيه تشكيل كيانهم الأخلاقي والعقلي. وكان من النتائج المباشرة لهذا الأمر تضعضع المؤسسات التقليدية وما ارتبط بها من سلطة, فالسلطة تنشأ من اليقين الذي ينهار في فترات التغير السريع. ولهذا التفسير جاذبية النظرة الأولىٰ التي يتضح بعدها أنه لا يسلم من تحفظات عديدة. فنحن نعرف عصوراً تعرضت لثورات كبيرة ولم تسد فيها الفوضىٰ فعلىٰ سبيل المثال أدىٰ ظهور الإِسلام إلىٰ الانهيار الكامل للنظام الإِجتماعي والإِقتصادي القبلي الذي كان موجوداً قبله, ومع ذلك لم ينقص مقدار الثقة أو اليقين, بل ذاد, ووقفت الأمة جبهة واحدة لثورة حقة باقية وقد صدق رسول الله ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ حين قال في حطبته في حجة الوداع «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوع». مما يعني الانهيار الكامل له. ورغم ذلك فقد كانت فتره حكمه ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ وحكم خلفائه فترة أمن للجميع.

وقد أعقب تحرر أوروبا من ربقة الكنيسة في المجالات الفكرية والأخلاقية ـــ أن تعرضت لإِنقلابات عديدة تباينت في أثارها بين الشدة والضعف. ولم ينشأ إجماع حول ما هية المعرفة الجديدة التي أدت إلىٰ انهيار النظام القديم, وهل يمكن السبب فيما أدت إليه النظريات العلمية الحديثة من معرفة أكيدة. لقد كانت الإِجابة حينئذ بالإِيجاب, ولكننا اليوم غير متيقنين من ذلك. فالنظريات العلمية الحديثة (مثل الداروينية) وكثير غيرها من النوع ذاته, لم تكن صحيحة تماما, ومع ذلك فقد جاء عصر ساده نوع جديد من الإِيمان بالعلم. ذلك العلم الذي ما من شيء إتسم بسمته أو إندرج تحت لوائه إلا وتفوق علىٰ غيره وبزّه في مصداقيته, وكان عند الناس مقبولاً. حتىٰ ذلك التنظير القائم علىٰ الحدس فقد تال قدره من الإِحترام إذا ما ألبسوه لباساً علمياً. وبدأ العالم يأخذ نظرة جديدة كانت فيها السمة العلمية المعاصرة ـــ والتي صبغت كل شيء ـــ معياراً يهيمن علىٰ كل أمر في مجالات قد لا يربطها ببعضها رباط البتة. ونجد في ملاحظات الأستاذ العالم دارالنجتون C.D Darlington وهو من الذين يؤمنون إيماناً يقينياً بنظرية الانتقاء الطبيعي ـــ ما يوضح لنا هذه الظاهرة .. حين يقول :

«لقد استطاع دارون أن يفرض أراءه ليس من خلال ما يتمتع به من تكامل علمي وإنما من خلال إنتهازيته ومراوغته ونقص الحث التاريخي لدية. ورغم أن ذلك لا يروق أتباعه ومريديه ـــ فإنه لم يحقق ثورته تلك بفضل الأسلوب العلمي بنفس القدر الذي حققها به عن طريق ما يتسم به من ضعف شخصي وموهبة تكنيكية». تلك الملاحظة التي أوردها تايلور في صفحة 42 من كتاب « سرّ التطور العظيم ».

كما نجد آدم سميث ـــ عندما يقدم لنظريته في السوق ـــ يرجع إلىٰنيوتن ونظريته في الجاذبية فيشيد به وبها .. State & Welfare by David Reisman, P.212. بل أن دارون نفسه اعترف بأن نظريات مالتس كانت مصدر إلهامه عندما ألّف نظريتيْ الإِنتقاء الطبيعي والبقاء للأصلاح. فقد عاش داروين في عصر لم تكن أوربا تسمع فيه سوىٰ أناشيد الحرب ودعاوى الصراع بإعتبارهما طريق النمو والارتقاء. وقد لجأ هربرت سبنسر Spenser في انجلترا وجمبلوفيتش Gumplowicz في النمسا إلىٰ تلك الفكرة كأساس لبناء نظرياتهما. وكانت أوروبا بمدّها الإِستعماري الجديد تقوم بتوزيع أنصبة هائلة من الأنفال. وهكذا وضح أمامنا كيف أن الدوال التي إحتوت أصحاب النظريات العلمية تلك ـــ هذه الدول تملكّتها مشاعر الحرب واستغرقتها شهوة بناء الإِمبراطوريات. ولا غرو أن الباحثين في مجال المجتمعات الحيوانية وجماعات الحشرات والذين عاصروا هذه الفترة, قد تواصلوا إلىٰ أن هذا المبدأ يشكّل قاعدة التعامل في هذه المجتمعات التي تعتبر دون المجتمعات الإِنسانية. ويبقىٰ السؤال قائماً لماذا إستغرق الأمر قروناً قبل أن تسيطر تلك النوبة الإنفعالية التي اتخذت من فكرة البقاء للأصلاح محوراً لها ـــ فتملكت المفكرين ومن هم غير ذلك علىٰ حد سواء. ومما لا شك فيه أنه قد تمر عقود قبل أن تتحول فكرة واخية علىٰ الهامش فتصير فجأة ي المركز وتشكّل الموجة المهيمنة. ولكن لماذا ؟ إن التطبيق المادي للأفكار أو ما يسمىٰ بقوىٰ التاريخ ليس بالإِجابة الشافية علىٰ هذا التساؤل, وإن كانت هذه الاجابات وما شابهها تلقي هوي بين العالمين في تلك الحقب التي تبدأ فيها الأحزاب السياسية صعودها لكي تسيطر علىٰ النخبة الحاكمة. ومع ذلك فعندنا يضرب التحلل أطنابه في مؤسسات الأحزاب السياسية فإن مايكلز يؤكد أن تلك المؤسسات لا تسقط فريسة لسيطرة الصفوة, فلإِنحدار له أسباب عديدة ظاهر متباينة.

إن ظاهرة إنحدار السلطة والظهور المتزامن للسياسات المتعددة اللأحزاب ـــ تحتاج إلىٰ مزيد من التفسير. فهناك المظهر الخادع الذي يتخذه الموقف المعاصر من تحول حاسم من قواعد عالمية عريضة إلىٰ قضايا محدودة, وليس الأمر هو استبدال بعض المؤسسات الجديدة بالقديمة, فالأحزاب السياسية القديمة إستمرت في التواجد ولكن بغير فاعلية, وغالباً ما يؤدي غياب العمل الفعال للأحزاب السياسية الكبيرة إلىٰ نشوء تكوينات ذات قاعدة فكرية واحدة.

وإذا ما وقفنا في هذا الأمر من الناحية المقابلة فإن الحالة الحاضرة للنظام الحزبي تثير التساؤلات الآتية :

ماذا نتوقع من الحزب السياسي ؟ إن الاجابات التي يمكن أن تشكل رداً علىٰ هذا السؤال تبدو بسيطة وواضحة : (1) أن يمدنا بالقيادة, (2) أن يهيئ الأفكار والوسائل لحل مشكلات المجتمع, وأخيراً (3) أن يحقق الاعتمادات المالية.

وفي الحال يبرز التساؤل عن سبب عجز النظام الحزبي عن الارتفاع إلىٰ مستوىٰ هذه التوقعات, وعن سبب عجز القيادة المتواضعة التي يدفع بها هذا النظام إلىٰ السلطة, وعدم قدرتها علىٰ التحكم في الجهاز الحزبي, وعن سبب إفتقار الأحزاب في الأفكار والوسائل .. فهي أيضاً غير مهيئة أساساً للتعامل مع هذه الموضوعات, وحتىٰ إذا ما كان لدىٰ الأحزاب بعض من هذا التهيؤ فهو في شكل عدد من الأشخاص الذين لا تصل كفاءتهم إلىٰ المستوىٰ الأمثل. كماأن الأحزاب كلها تقريباً تتفق في رفضها لتمويل البحوث المنخصصة المتعمقة فر رفضها لتمويل البحوث المتخصصة المتعمقة الناصحة المستقلة في توجهاتها, وعندما يتيسر التمويل  فهو غالباً ما يستهدف خدمة الأولويات التي تحددها مصادر هذا التمويل, بل إنه في بعض الأحيان عندما يتوصلون إلىٰ مادة تساعد في تشكيل سياسات الحزب ينحونها جانباً في سبيل الأولويات الشخصية أو النزعات الحدسية عند القادة. ويلجأ القادة إلىٰ تبرير مسلكهم هذا بناءً علىٰ ما يعتقدون ضمنياً بأن هذه الأفكار ستكون عديمة الجدواىٰ أن لم تساندها قوة سياسية. وعلىٰ هذا فإن الأولوية الحقيقية لما يجب أن يضطلع به المثقفون هي أن يكشفوا الطريق والوسائل التي يستطيع بها السياسيون أن يصلواإلىٰ مقاعد السلطة وبأسرع السبل, حيث يتيسر بعد ذلك جهاز بيروقراطي أكثر كفاءة وشمولاً, ذو قبضة أمتن وأوسع في هيمنتها علىٰ الموارد, إلىٰ جانب كونه ذا معرفة مكينة بنقاط التضييق بينما تقتصر مهمة البحث بالنسبة لقادة الحزب علىٰ إضفاء المزيد من الزخرف علىٰ اقوالهم.

كما أن قضية تمويل الحزب قد أخذت أبعاداً جديدة, فلأموال التي كانت تعطى خالصة في سبيل دعم الحزب أصبحت ضئيلة, وإقتصر إعطاؤها علىٰ تأكيد قضايا محددة أو دعم شخصيات معينة أو ضمان الحياد تجاه بعض القضايا. واختيار هذه القضايا أو تلك الشخصيات لا يُرجع فيه إلىٰ الحزب بل يتم دون إستشارته.

ويتضح من تحليلنا السابق أن الروابط الداخلية في الحزب قد أصبحت واهنة. فهل يرجع ذلك إلىٰ أن تحقق الأهداف الرئيسية من تحسين الأحوال العامة قد أدىٰ إلىٰ تقلص الاعتماد علىٰ الحزب ؟ أو أن ذلك يرجع إلىٰ أن «مبدأ الرفاهية عن طريق الاشتراكية» يعتبر موجهاً في أساسه إلىٰ إيجاد نوع من التجزئة الذرية داخل المجتمع ؟ ومن خلال هذه العملية يحظىٰ بدعم من وسائل الإِعلام الحديثة التي تزود كل فرد علىٰ حدة بالمعلومات والأفكار وأنماط التسلية بطريقة تضيع معها إمكانية الحوار. أو أن هناك شكلاً جديداً من أشكال التفرد يأخذ طريقه إلىٰ الظهور, ذلك التفرد الذي لا تقوم فيه الروابط المتبادلة بدور رئيسي ويعيش فيه كل فرد داخل عالم خاص به بدلا يشاركه فيه أحد. فالموسيقىٰ التي يسمعها الفرد خلال سماعات خاصة من مذياع نقالّ موسيقىٰ خاصة وشخصية, والجو المكيف الذي يستمتع به في سيارته الخاصة لا يشاركه فيه أحد, بينما تقوم السينما وأجهزة المرناة والتسجيل المرئي الخاصة, بتهيئة مجالات خاصة بالفرد لا يكون للغير معه فيه موضع أو اعتبار. وعلاوة علىٰ ذلك فإن مشاعر الحب والتواد قد أنهكها التعرض المستمر للأعمال الدرامية الروائية ذات المحتوىٰ الإِنفعالي الزائد التي تزحم بها وسائل الإِعلام, فصارت هي الأخرىٰ ذات طبيعة فردية.

ولكنّ هذا العالم المزدحم ذا المشروعات الخاصة وأوحه التسلية الشخصية يزخر بالمشكلات الجماعية التي تنشأ مع التزايد الفائق للطلب الذي يصاحبه تزايد في الموارد, ولكنها برغم ذلك تظل محدودة. فإذا رأينا أن المجموع الكلي لأوجه «القوة»التي أصبحت في متناول المجتمع البشري قد تزايد, فإن إشباع الأبعاد المختلفة التي يتطلبها الأفراد من الحياة قد تزايد بصورة أكبر. فلو أننا رجعنا لمئة سنة إلىٰ الخلف لوجدنا أن ما يطلبه الشخص العادي من الحياة أو ما يحصل عليه منها كان بسيطاً جداً.

ويستطيع علماء الإِجتماع أن يعتبروه كائناً بشرياً بسيطاً عندما ينتظرون إليه في إطار الأحوال المعاصرة. فهو إما أن يكون «شخصاً إقتصادياً» أو « كائناً جنسياً» أو «شخصاً أخلاقياً» اعتماداً علىٰ وجهة نظر المشاهد وقدرته علىٰ العرض. ليس هناك من شيء يثير الإِعجاب به. وهكذا نجد أصحاب النظريات المختلفة مثل ماركس Marx وميل Mill بيرك Burke وغيرهم لا يشعرون إلا بالاحتقار تجاه هذا الإِنسان العادي. فلقد كانوا من أنصار حكم الصفوة الذين يخالفون الانفعال الجياش وقوة الاندفاع الذاتية الفكرية لأفراد البشر العاديين, ولم تختلف وجهة نظر نيتشه Nietzche ووبر Weber وشبنجلر Spengler بهذا الخصوص ـــ عن وجهة نظر زملائهم.

ورغم ذلك كله فإن هناك عاملاً جديداً جداً أدىٰ إلىٰ تغيير الطبيعة المعقدة للمشكلات كمل أدىٰ في الوقت ذاته إلىٰ إبطال الوسائل القديمة في حلها, ذلك هو تفجّر المعرفة والأساليب التقنية الجديدة, ففي كل مجال من مجالات الأنشطة البشرية نجد المعرفة الجديدة والأساليب التقنية الحديثة قد أبطلت مفعول الخبرة الإِنسانية المتراكمة لآلاف السنين. إننا نشهد ثورة تطورية سواء في مجال الزراعة أو في مجال إنتاج السلع أو في مجال الإِتصالات أو في مجال تسخير القوىٰ الطبيعية. وأصبحت الخبرة التي توصلنا إليها من آلاف السنين وما صاحبها من فكر, أمراً غير ذي بال وأصبحت معها الأساليب التقنية القديمة هي أيضاً عديمة النفع والأثر. ولكننا عُلمنا أن نتبع أسلوباً يحافظ فيه علىٰ حكمة الماضي وننقلها إلىٰ الحاضر, فلا نعرف مع هذا الأسلوب سبيلاً سريعاً إلىٰ التخلص مما قد نراه أموراً بطلت جدواها. ومن ناحية أخرىٰ فإننا نجد بين العلماء المتخصصين في التقنيات والعلوم ميلاً إلىٰ التخلص من الكثير من الأمور حتىٰ تلك التي تعتبر أساسية أو جديرة بالحفظ بإعتبارها عديمة الفائدة. وتلك مشكلة تفرض نفسها بشكل حاد علىٰ القيادة المعاصرة.

لقد إنقضىٰ الزمان الذي كان فيه النضج وكبر السن بما يمثلانه من خبرة يعتبران من المؤهلات الرئيسة للإِضطلاع بمهمة القيادة. وأصبح كبر السن دليلاً علىٰ تدهور القدرة علىٰ مسايرة الحديث من الأمور. تلك الأمور التي زادت في معدلاتها حتىٰ أن كبر السن وما يصاحبه عادة من إتجاهات محافظة تندرج في فئة المعوقات.

إن أدنىٰ متطلبات القيادة تتمثل في القدرة علىٰ الحداثه المنبثقة لوضع الإِنسان وكذا في الإِرادة والمقدرة علىٰ التمكن من التقنيات الحديثة, كما تتمثل في الحكمة والثقة لتحديد ما يجب أن نحافظ عليه وما يمكن أن نستغني عنه, وإذا ما استعرضنا أنماط القيادة الموجودة لاتضح لنا أن القلة القليلة هي التي لديها مثل هذه القدرات.

والنتيجة التي نشهدها الآن هي أن العالم تسوده ظاهرة عامة تتبدىٰ في تعمد الزيغ عن المسار السليم. فالقيادة القديمة تصر علىٰ التواجد المستمر للمشكلات القديمة حتىٰ تستغرق المتاح من أساليب التقنية التي يمكن أن تساهم في حل المشكلات الناشئة. فعلىٰ سبيل المثال لدينا من أساليب التقنية الحديثة ما يمكننا أن ننهي تماماً مشكلة الجوع في العالم, ويمكن لثلاثة بالمائة من الشعب الأمريكي أن ينتجوا طعاماً يكفي الشعب للأمريكي ليطعم منه ما يشاء, ويبدّد منه ما يبدّد, وتبقىٰ منه كميات كبيرة يبيع منها ويوزع علىٰ أفراد البشر. وهكذا فإننا نستطيع بما لدينا من أساليب التقنية الحديثة ان ندفع غائلة الجوع والمرض عن ملايين البشر, ويحول دون ذلك ما تتخذه القيادات من قرارات سياسية تقيمها علىٰ أولويات مغايرة.

إن القيادات الحالية في كل أنحاء العالم تقوم بتحليل الموقف المعاصر في ضوء أفكار ومباديء بالية. ولو أننا اطلعنا علىٰ هذا التحليل لوجدنا أن أخطار الحرب ومخاوف السيطرة تشكل جانباً ظاهراً منه دون أن يكون هناك إدراك واضح للدور الذي تقوم به هذه الأخطار وتلك المخاوف وما تؤدي إليه بالنسبة لوضع العالم اليوم. فلا يعرف الناس إلا القليل عن الهدر البشري الناشيء من تحكم المؤسسة الحربية ةالالتزام تحاه ما تمثل من أجهزة, حيث تُنفق البلايين علىٰ صناعة الأسلحة التي يتخلصون منها أو يغرقون بها العالم الثالث في صورة مساعدات عسكرية يدفع ثمنها بما لديه من عملة صعبة.

وقبل أن نستطرد لاستخلاص نتائج عامة حول نمط القيادة في العالم الحديث, هناك مل يجب أن نقول عما سيكون عليه أمر التابعين. ففي هذا العالم الحديث, هناك ما يجب أن نقوله عما سيكون عليه أمر التابعين. ففي هذا العالم المزدحم أصبحت المواءمة المستمرة في العلاقات أمراً ضرورياً وأساسياً للوجود, واستتبع ذلك تزايد في إدراك الناس لحقوقهم وواجباتهم. كما تركت عوامل أخرىٰ كثيرة بصماتها علىٰ الموقف. فمع زيادة السكان زاد الضغط علىٰ الموارد الإِجنماعية والإِقتصادية, وبصورة أكبر في العالم الحديث المتمدين, حيث زادت المنافسة من حدة الشعور بالأنوبة وأزكت في نفس كل فرد وهماً مؤداه أنه كلما قل العدد زاد نصيبه من الكعكة الإِجتماعية, وازدادت جاذبية الحرية مع تزايد القرب والالتصاق في حركة الوجود. وفي المجتمع العلماني لا يستغرق الأمر إلا قليلاً حتىٰ يتحول إلىٰ نفعية أنوية يطالب فيها الناس بالحرية ثم يطلبون من هذه الحرية أكثر مما نستطيع. ولا يقتصر الأمر علىٰ هذا فالناس عندما ينظرون حولهم ـــ يرون عالمهم عالماً مغدقاً لم تيسر رخاؤه لأسلافهم, يجدون فيه ما يريدون وبالقدر الذي يريدون, ويعيشون علىٰ مستوىٰ من المعيشة لم يكن يدور بخلد الملوك في القرون السالفة. ومع ذلك فهم يريدون المزيد, يطلبون من الثورة الإشباع الكامل, ومن الحرية التحرر المطلق والتحلل الكامل, ومن القادة القدرة علىٰ أن يضمنوا لهم تحقق مثل القادة القدرة علىٰأن يضمنوا لهم تحقيق مثل هذه الطموحات. وذلك يفوق مل طلب بنو اسرائيل من موسىٰ, وما طلب اليهود من المسيح. إن ما نطلبه مليء بالمتناقضات الكبيرة .. فنحن نطلب الإِشباع الكامل دون أن يكون لدينا الرغبة في أن ننتج في المقابل أو أن نساهم أو أن نغطي, ونحن نريد الحرية المطلقة في الفكر وفي التعبير وفي الرأي دون أن نبذل جهداً لكي نضمن حرية مماثلة للآخرين, ونحن ننادي بحقنا في التحلل الكامل لإِشباع كل شهوة أو خيال عابر وننكر مثل هذا الحق علىٰ الآخرين. إننا نعيش في العصر يتكشف فيه كل شيء ويسود فيه النقد اللاذع, عصر يفُضح فيه كل تظاهر وينهار, ومع ذلك نجد فن الدعاية وتزييف الحقائق أمراً مقبولاً بإعتباره أداة مشروعة في الحياة السياسية. إننا نريد قيادة نقية طبقاً لمعاييرنا ولكنا في الوقت ذاته نرفض رفضاَ باتاً أن نكون أنقياء طبقاً لمتطلبات القيادة, فنحن جميعاً نعاني من وهم طفولي بأنه طالما أن الجل ممكن فإن الكل يجب أن يكون كذلك, ذلك هو نسيج الأحلام السياسية الجديدة وهو أيضاً شكل جديد متوقع من أشكال الافتتان الجماهيري.

إن صبغ الثقافة بلصبغة الديمقراطية وإدراك أن نمطاً حياتناً أفضل يمكن تحقيقه في التو واللحظة قد أغرىٰ الناس بأن يزيدوا من طلباتهم من الحياة ومن المساواة, ومن القادة. وتزايد طلباتهم أكثر و أكثر بإسم المساواة فلا تقتصر المطالبة علىٰ ما يستحقه الفرد. فقد أصبحت كلمة الاستحقاق كلمة كريهة تحمل معاني التميز غير العادل ذي الطبيعة اللا أخلاقية في الحصول عليه والتمتع به. إن العنف الذي صاحب الثورة الثقافية (الصين 1966) والتدمير المتعمد للفكر والثقافة يعني تماماً وبكل وضوح ما يمكن أن يؤدي إليه الاضطهاد. وفي الجانب المقابل نجد وسائل الإِعلام تزوّد الناس ـــ صغيرهم و كبيرهم علىٰ السوء ـــ ببصيرة نافذة في الدافعية الإِنسانية والسلوك البشري. فلا يكاد يمر يوم حتىٰ تعرض الإِذاعة المرئية ووسائل الاعلام الأخرىٰ كل أخطاء البشر من تحايل ومخادعة وخداع للنفس وتكشفها أمام الجميع فلم تعد تنطلي عليهم أساليب الخطابة المنمقة الساذجة أو المظاهر الخادعة المكشوفة التي كانت تأخذبألبابهم في الأعوام الماضية, وإزدادت طبيعة النقد عند المستمعين في أي تجمع, ولم تعد مشكلة القيادة قاصرة علىٰ اتخاذ الشكل المقبول أو الأساليب الخطابية المنمقة أو إختيار النغمة المؤثرة, فالناس يطلبون أكثر من ذلك ولن يرضيهم ما هو دونه. وهكذا يتضح لنا مما ذكرناه آنفاً أن القيادة وكل ما يتصل بمراكز السيطرة تفرض أموراً لا مناص منها. فهي تتطلب دليلاً مقنعاً علىٰ التميز والقدرة علىٰ احتواء شخصيات الأتباع مما يجعل العلاقات يحكمها التوتر. تلك العلاقات التي تتطلب تسليم إرادة الأتباع للقادة ويكون هذا التسليم مطلقاً إذا ما كان الالتزام مطلقاً أو الثقة كاملة أو الاحتواء شاملاً. ويقوم الثوريون العلمانيون بتوجيه طاقات أتباعهم إلىٰ تدمير المؤسسة القائمة وكل ما ترمز إليه من انجازات وما تمثله من سلطة, (الاتحاد السوفيتي, الصين). ولكن الأمر يختلف مع الأنبياء فهم يهدفون إلىٰ تغيير كامل ولكنهم يبنون هذا التغيير علىٰ أسس مختلفة تماما, ويسلكون إليه مسلكاً مخالفاً. فهم لا يلجأون إلىٰ عصف القلاع وإنما إلىٰ اقتحام القلوب في علاقة بينهم وبين أتباعهم, أو بين البشر أجمعين, تلك العلاقة التي لا يشوبها كُره لدود أو تخالطا أنانية بغيضة. إنهم يجاهدون ولكن جهادهم ليس حرباً من أجل الدمار أو الثروة أو الغل أو القوة, وإنما جهاد من أجل تحرير المضطهدين من البشر أو دفاعاً عن النفس, ولنذكر الكلمات التي قالها سفراء قوات المسلمين حول هدفهم من معركة القادسية, تلك الكلمات التي لا تنسىٰ. وفيما يلي تقرير عن هذه الواقعة.

لقد عرض رستم قائد القوات الفارسية الذهب والفضة والزينة ةالعبيد وبعض الأراضي المنزرعة مقابل السلام.

وكان ردّهم : إن مقصدنا ايس كمقصد الآخرين فنحن لم نأت طمعاً في زينة الدنيا. «إن الله إبتعثنا, والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلىٰ عبادة الله, ومن ضيق الدنيا إلىٰ سعتها, ومن جور الأديان إلىٰ عدل الإِسلام» (الكامل في التاريخ لإِبن الأثير جزء 2 ص 462 ـــ 463).

إن العلاقة الخاصة بين الأنبياء وبين الله قد أظلت العلاقات بين البشر كافة بظلال الرحمة المقدسة. مما جعل أتباعهم يعيدون اكتشاف أنفسهم, ويجدون تحقيقاً لذواتهم في تلك الأبعاد التي بيّنها لهم الأنبياء, وبدا لهم بذل المال والنفس أمراً جذّاباً, وأشربت الثقة الكاملة في علاقتهم, وتغير إدراكهم  للدنيا حتىٰ أنهم ضحوا بحياتهم عن طيب خاطر ـــ ودون مراجعة ـــ استجابةً لأمر نبيهّم. وفي هذه الظروف يسمو مستوىٰ أداء الأفراد والمجتمعات في كل المجالات. وقد نجد علاقة ذات طبيعة مماثلة مع كبار القادة العالمانيين ـــ وإن كانت بدرجة أقل ـــ حيث يصبح هؤلاء القادة مطايا للإِشباع الفردي من خلال تكويناتهم الشخصية, فيمكنون الأفراد من تخطي حدود النفس المادية, ويعيشونهم في سماء التجليّ بالإِفتتان بهم. ومما يعزّز هذا التجلي ويزيد من حدته أن يجد هؤلاء الأفراد العاديون أن إهتماماتهم العادية لا تشغلهم أو تجرفهم في معترك حياتهم. ويصبح أمراً واجباً علىٰ القائد أن يكون فوق المستوىٰ, وأن يستمر كذلك قي هذا العالم المكشوف حيث لا مواربة, وحيث لا يقبل الآخرون أن يكون الإِمتياز وقفاً علىٰ فرد, ولا تأخذهم رحمة في فضحنقاط الضعف عند غيرهم, ويزوقون أقنعة الزيف وسط تزفصفيق الجميع. إن العفو لا يأتي بسهولة في هذا العالم القاسي المشحون بالتنافس والتنافر بين أفراده, ولا يحتمل وقوع أي خطأ من جانب من ستكون له القيادة, مما يدفع بهذا القائد إلىٰ تجنب الوقوع في أي خطأ  بأن يتجنب الالتزام الصريح تجاه القضايا المطروحة, لأن تلك القضايا كما تحتمل النجاح فهي كذلك تحتمل الفشل, ومن ثم فإن الالتزام الصريح يصبح مخاطرة كبرىٰ. ويظل إدعاء القيادة وفق المسارات الثابتة أكثر أمناً حتىٰ ولو كان دون مستوىٰ الأمانة. ويجعلنا نفهم كيف أن البقاء علىٰ المستوىٰ العادي مع وجود الإِختيارات المتعددة يعتبر ذا جاذبية هائلة.

إن قضية واحدة تعتبر أمراً وقتياً لا يستدعي وجود قائد علىٰ المدىٰ الطويل, ومن ثم فإن قائد المستقبل يحتاج إلىٰ عدة فضايا ذات أسس ممتدة, ولذا كان لزاماً عليه أن يقيم علاقة إيجابية مع أغراد الصفوة الذين يمثلون الواقع الراهن. ومن أجل تحقيق غرضه في البقاء. ولكنا ـــ علىٰ النقيض من ذلك ـــ نجد أي قائد عظيم كأنبياء الله لا يساوم في جهاده, فهو إما يهيمن علىٰ من يُشاقوة هيمنة كاملة, وإما أن يقتلوه. وتكمن جذور قوته في الإِيمان الذي لا يتزعزع, والولاء الكامل من المؤمنين به. ولا يشغب باله بالسلطة, ولا يبالي إن بذل حياته فداءً. بينما تختلف أهداف القائد العالماني وما يضعه نصب عينيه من أولويات فهو يبغي البقاء بالسلطة, فذلك أمر أساسي بالنسبة له, وهدف أسمىٰ يكرس له كل قراراته ومساوماته. وغالباً ما يضطر في سبيل تحقيقه إلىٰ القضاء علىٰ من يشكلون تهديداً لسلطته أو يتراءىٰ له ذلك. وينقسم العالم في نظره إلىٰ أصدقاء وأعداء. إن القائد الرباني هدفه سمو ذاته. وحيث ينبغي أن تواجه قيادة الأنبياء صراعاً بين الخلاص الشخصي وبين خلاص الأتباع, فإن القائد العلماني تأتي عليه لحظة قد يقضي فيها علىٰ أقرب المقربين إليه.

وهناك عنصران آخران يعتبران أساسيين لتحقيق القيادة الفعالة. أولهما أن يكون القائد ذا بصيرة نافذة فيما يتنبأ به من أحداث المستقبل و تطوراته. وثانيهما لأن يحتفظ بقوة أعصابه ـــ أو علىٰ الأقل يبدو كذلك ـــ في مواجهة الأزمات. فالمضطهدون من البشر يرون فيه المخلّص لهم تؤيده السماء أو ترعاه بماله من كفاءات ليست لسواه, انه المخلّص الذي جاء ليقضي علىٰ شراذم الفساد والجهل والإِفساد السياسي ذلك هو شكل القيادة المقبولة في المجتمعات المتدينة, وخاصة في المجتمع الإِسلامي, مما يضاعف من الصعوبة التي تكون عليها حياة القائد. ولذا يلجأ القائد إلىٰ التوجهات العلمانية أكثر وأكثر, لكي يخففوا من حدة التوتر التي قد تغلف العلاقة بينهم وبين الرعية. ولكنهم نادراً يحققون نجاحاً في هذا السبيل, حيث لا تتغير النظرة التاريخية التي تشكل المعيار في الحكم عليهم. ولذا فهم دائماً بفقدون بعضاً من بريقهم في محاولتهم تلك بينما تزداد الطلبات إلحاحاً في أوقات العسرة ولا يجد المضطهدون عزاءهم إلا في الذكريات الواهلة في عالم يتميز بالقسوة والصرامة.

إن الطاعة لا تتأتىٰ بسهولة في مجتمع تكون المساواة والأخوة من المعالم الأساسية لانتماء الفرد فيه, ودائما ما يكون الانصياع للسلطة العامة أمراً مشروطاً, فليس للقائد سلطة تعتمد علىٰ اعتقاد أو عرف متبع يستند إليها, فليس هناك براهمانية في الإِسلام يكون فيها التمايز قائماً علىٰ الإِنتساب إلىٰ طبقة معينة وإنما عن جدارة دائمة وواضحة للعيان. إن قوة القهر بذاتها لا تكفي حيث أن الأساس المحوري للأمة هو أن القائد والرعية سواء أمام الشريعة التي تضع بدورها ضوابط صارمة علىٰ استخدام السلطة.

وتعنبر وحدة الأمة ذات قيمة أساسية في منظومة القيم الجوهرية في الإِسلام, وذلك يخلق مشكلات ذات طبيعة خاصة لأي فرد يحصر قيادته علىٰ قسم منها دون آخر, فهذا الشرط المسبق بعدم تعريض وحدة الأمة لأي خطر مهما كانت العواقب له نتائج بعيدة المدىٰ في بناء البرامج وترتيب الأولويات في نظر القيادة المستقبلية. وعلىٰ سبيل المثال نجد أن قيام برنامج سياسي ذي طبيعة علمانية مميزة يتجاهل المحتوىٰ الديني لا يجد فرصة للتمكن لنفسه أو استقطاب الالتزام الكامل كما أن إضافة المحتوىٰ الديني للبرنامج له مشكله الخاصة.

إن العمل في إطار الضوابط التي توضع للقيادة من خلال الأمة, والمقارنة المحتومة بين نمط القيادة عند القائد الذي يعمل علىٰ البقاء في السلطة يعني مواجهة تحديات صعبة, ولأن الإِسلام لا يفصل بين أمور الدنيا والدين بأن اتباع القيادة لسياسة الفصل بينها يجعلها في موقع غير آمن, ورغم ذلك فإن استلام زمام القيادة ليس أمراً مفتوحاً علىٰ مصراعيه بالنسبة للأمة, فالقرآن يشير إلىٰ«التقوىٰ» المتمثلة في الحساسية الأخلاقية ةالإِمتياز الخلفي كمؤهل أساسي للتفضيل بين أفراد الأمة (القرآن 49 : 13) ويلي ذلك الإِمتياز في المعرفة والعلم (القرآن 28 : 13, 39 :9) وأيضاً الكفاءة البدنية (القرآن 2: 237) ـــ وتتبدىٰ مظاهر توافق الفرد مع دور القيادة فيما يقدمه من خدمات عامة ذات طابع مميز قبل إستلامه مقاليد السلطة (القرآن 57 : 10) والالتزام الصادر بمقاصد الشرعية (القرآن 49 : 15).

وتعاليم الإِسلام أساساً ذات توجهات مستقبلية. فالحياة الآخرة هي الحياة الحقّة التي يجب أن نصبو إليها. وما الحياة الدنيا إلىٰ حبلة مواقف وتحديات تهيء لنا الفوز بالحياة الحقة ورجاؤنا في المستقبل وعملنا في ضوء الإِيمان الحق يضمن لنا الآخرة والأولىٰ أيضاً. والإِسلام بتوجهاته المستقبلية يقبل التغير ويرحب به, والقرآن يعتبر التغير من بين آيات الله الداعية إلىٰ تفكر أولي الألباب, إن الإِسلام بالنسبة للنبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ ولصحابته رضوان الله عليهم يعني برنامجاً لثورة حقيقية تتخد من معايير الإِسلام أساساً تُبقىٰ من خلالها علىٰ خير تراث الماضيوالحاضر, والداني والقاصي, وتذر الخبيث منه. فلم يكن من التراث ما هو خير لمجرد اختصاص أحد به أو شر لكونه غريباً ـــ أو العكس. وكان لهذا الجانب من تعاليم الإِسلام أثر عميق علىٰ سلوك القيادة في الأمة وعلىٰ سلوك المؤسسات السياسية الإِجتماعية التي تعمل من خلالها.

لقد أدىٰ عجز القيادة الجماعية عن التعامل مع الحديث من الأمور إلىٰ نشوء مشكلات عديدة, زادت حدتها في العالم الثالث, حيث استبدل المكر بالعقل, و أخرست القوة النقد الصريح, بينما شكلت الوادعة البشرية والاستسلام لمجريات الأمور ـــ شكلتا مصدر خوف للناس عندما يواجههم مالم يألفوه, إن إلف العادة يجعلهم يتآلفون مع الفساد حتى وإن عم, ويدفعهم إلىٰ المواءمة مع الكسل والجهل والمرض. ولقد استغلت القيادات القديمة تلك السمات فيهم فأبقت علىٰنفسها ووجدت بقاءها في الإِبقاء علىٰ الوضع الراهن, فبذلت كل ما تملك من أجل الحفاظ عليه, وقامت كل أشكال التغيير بكل ما أوتيت من قوة ـــ حتىٰ وإن كان هذا التغيير إلىٰ الأفضل. ألم يأت رؤساء قبائل العرب في الجاهلية إلىٰ رسول الله ــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ ليعرضوا عليه كل مباهج الدنيا من تراث ومجد في مقابل أن يترك تلك التعاليم التي كانت تهدد نسيج المجتمع العربي في ذلك الحين. لقد كان من الممكن تجنب كثير من المآسي لو أن الناس أدركوا في الوقت المناسب أن ما يعتنقونه من أفكار وما يقضلونه من البرامج وما يتبنونه من حلول المشكلات البشر قد أصبحت عقيمة.

إن ما ذكرناه آنفا من السمات تختص بها الأمة تضيف إلىٰ مشكلات القيادة في العالم الحديث والتي أشرنا إليها في مقدمة هذا الحديث. وقائد المستقبل للأمة قد يضع أفرادها في اعتباره وهو يفعل كل ما يريد, فقد قضى الأمر ولم يعد هناك مجال لإِخضاع كفاءات القادة وإنجازاتهم لمعيار التحكيم. إن مايحتاجه العالم المعاصر من القيادة أمور واضحة جلية. ففي هذا العالم الجديد المعقد المليء بأدوات السلطة نحتاج إلىٰ قيادة تتعامل مع السلطة المتاحة بالحكمة وضبط النفس. وفي هذا العالم المزخم بوسائل غلإِعلام القوية التي تتنافس علىٰ التحكم في عقول البشر, نحتاج إلىٰ قيادة تعرف كيف تتعامل مع المشكلات الناجمة دون أن تفقد عنصر المبادرة. وفي عالم استسلم لدنس الكلمة نحتاج إلىٰ من يحمي طهارتها, وفي بحر يزخر بالنفاق والتظاهر نحتاج إلىٰ من يستطيع السباحة محافظاً علىٰ كرامته مع إحساسه بالوجهة السليمة.

لقد نشأت متطلبات جديدة للوجود وأصبح من الأمور الحتمية وجود أنماط جديدة من الاهتمامات, وكذلك وسائل جديدة لقضاء وقت الفراغ لم تكن في الحسبان, وبرزت معها مشكلة تعليم الناس التجاوب معها بإعتبارها علىٰ مستوىٰ عال من التعقيد. ومع كل الحداثة التي تتميز بها أوضاع البشر في هذا العالم نجد أن القيادات الموجودة فيه تقع ضمن نطاق المستوىٰ الذي يعتبر عادياً جديداً. فأغلب القادة المعاصرين ليس لديهم القدرة علىٰ استيعاب ما يحيط بهم بدرجة تفوق قدرة الفرد العادي, فمستوىٰ معلوماتهم من الدرجة الثانية, بل إن مستوىٰ إدراكهم قد يقل عن ذلك بكثير, في مواجهة الزخم المتزايد من المقف الجديدة والمشكلات الناشئة, فهم يستخدمون في تحليل هذه المواقف أساليب عفا عليها الزمن, ويتخيلون وجود مشكلات يفترضون إستمرارها كمشكلات رئيسية رغم إنحسار دائرة الضوء عنها. وتراهم يفرضون علىٰ الأوضاع المعاصرة طموحات عقيمة, وصراعات لا طائل من ورائها, ولم يعد لها مكان في هذا العصر. ونجد مثالاً واضحاً علىٰ ذلك في رغبة الاتحاد السوفيتي الوصول إلىٰ مياه الخليج الدفئة, تلك الرغبة التي يبلغ عمرها قرناً ونصف قرن من الزمان, ولم تعد هناك امبراطورية تركية لكي يتم تقسيمها, كما أن هناك الآن طرق أخرىٰ كثيرة أقصر من ذلك للوصول إلىٰ المياه الدافئة, أو إلىٰ التجارة العالمية, أو إلىٰ البترول. وفي العالم الشيوعي, وبعد ستة وستين عاماً من الثورة مازال ما يسمونه بالصراع الطبقي قائماً. وفي الغرب مازالت الديمقراطية التحريرية بحاجة إلىٰ الدفاع عنها في مجابهة الطابور الخامس الشيوعي. إنهم يخططون اليوم للدفاع عن المخاوف القديمة وأنماط الكراهية التي لا يمكن أن تسبب إلا أخف الأضرار للبشرية, أو لهذه الأرض, أو لما يحيط بنا, مستخدمين الأسلحة النووية التي يصبح معها معنىٰ النصر والهزيمة سواء. ورغم أنه أصبح في مقدورنا اليوم أن نهتدي إلىٰ الوسيلة التي يمكن أن تعطي طابعاً جديداً للوجود الإِنساني في مطعمه وتعليمه وتحقيق ذاته, إلا أن ملايين البشر يموتون من الجوع أو الإِهمال أو المرض أو الحروب أو الأوبئة.

إن الهدف الذي عادة ما يشغل إهتمام غالبية الأحزاب السياسية هو أولاً سرعة الوصول إلىٰ مقاعد السلطة السياسية, ثم يأتي بعدها الإِبقاء علىٰ الوضع الراهن واستمراريته بأي ثمن. وقد كانت مثل هذه الرؤية كافية عندما كان توفير وسائل الإشباع للحاجات الأساسية في حد ذاته مشكلة تستوعب كل شيء, في عالم إنتشر فيه الفقر المدقع. ولكن «وعود تحقيق الرفاهية» لم تعد تكفي في عالم صناعي مزدهر. وحقيقة الأمر أنه بعد أن استطاع العالم الوصول إلىٰ مستوىٰ معين من الرفاهية, أصبحت استثارة الزيادة في ممارساتها سبباً في سقوط الدول واحدة تلو الأخرىٰ في أوحال البيروقراطية العالمية وطغيانها. ورأت الأحزاب السياسية السلطة تنساب من بين يديها بسرعة, وتنتقل إلىٰ أيدي مجموعة البيروقراطين أو إمبراطوريتهم التي إستفحلت وخرجت عن نطاق السيطرة عليها. ولم يشهد أي مكان في العالم تطوراً معاكساً لهذا المسار. وطفقت الأحزاب تحاول يائسة أن توقف ذلك المد الحتمي. ولم يسلم من ذلك الأمر العالم الاشتراكي مثلما يحدث في الاتحاد السوفيتي, بينما تلجأ في بعض المناطق إلىٰ إجتناب الدعوة إلىٰ الرفاهية أو تأجيلها ـــ مثلما يحدث في إيران ـــ لمجرد تأكيد البقاء في السلطة.

إنه من الواضح أن الأحزاب السياسية ـــ مثلها مثل باقي المؤسسات السياسية والإِجتماعية ـــ قد أصبحت غير قادرة علىٰ تقديم قيادة جديدة تعتمد علىٰ الأفضلية الخُلقية والكفاءة التقنية التي تمكنها من استخدام أدوات السلطة بطريقة حكيمة وفعالة, ومن إعادة تنظيم المجتمع البشري علىٰ أساس القيم الإِيجابية التي تضمن البقاء, والإِشباع للغالبية العظمىٰ من أفراده إن لم يكن جميعهم, بدلاً من إقامته علىٰ المخاوف وأنماط الكراهية القديمة. إننا بحاجة إلىٰ ثورة ثقافية وأخلاقية, كما أن الأحزاب السياسية بحاجة إلىٰ أن تنظيم نفسها داخل إطار يختلف إختلافاً بيّناً عن الإٍطار المألوف. ولن يتأتىٰ ذلك دون رؤية جديدة وهدف جديد, نحتاج معهما إلىٰ أنماط جديدة من البشر, تكون علىٰ علم وفكرناضجين, وتكون لها حساسية خلقية والتزام أخلاقي.

لقد أصبح من الواضح أن نظام الأحزاب في شكله الأصلي الذي كان سائداً منذ بداية الثلاثينات من القرن السابق وحتىٰ الثلاثينات من هذا القرن لم يعد له كيان في أي مكان. ففي الاتحاد السوفيتي كانت القيادة الجماعية مبدءاً مقدساً عند الرعيل الأول من الثوريين, ولكن هذا المبدأ لم يصمد بعد وفاة لينين. وأصبح الحزب أداة طيّعة في أيدي ستالين, كما أن التطورات التي تلت قيام الثورة في مجالات التربية والصحة العامة والاقتصاد والتقنية والدفاع قد أفرزت أقليات جديدة تسعىٰ إلىٰ السلطة, وتأمل جاهدة في الحصول علىٰ نصيب من الموارد القومية. ونشأت قيادة جماعية ذات طابع مخالف. وخلال الثمانينات من هذا القرن خاض الحزب الحاكم في الاتحاد السوفيتي حرباً يائسة من أجل البقاء في مواجهة تلك الأقليات التي كان هو ذاته السبب في وجودها ووصولها إلىٰ السلطة, والفرق بين الأمس واليوم هو أن ستالين كان يستطيع في الثلاثينات أن يقوم بتصفية قيادات القوات المسلحة كلها حتىٰ رتبة تاعقيد وما دونها بناء علىٰ اتهامات ملفقة. بينما لا يستطيع اليوم أي قائد في الاتحاد السوفيتي أن يقوم بنفس العمل مرة أخرىٰ, وأصبح واضحاً أن قوة الحزب تتدهور ولم يعد قادراً علىٰ تحديد واكتشاف الأولويات والسياسات القومية. ولم يعد الاقتصار علىٰ معرفة المباديء الشيوعية والالتزام بها كافياً للوصول إلىٰ السلطة, ولم تعد الانجازات التاريخية تشفع أو تصمد مقابل الجدارة المتميزة.

أما في بقية دول العالم الأول حيث لا يعتبر « إحكام القبضة » هو القيمة الأولىٰ المرتبطة بالمركز, فإن الوضع يصبح أسوأ من سابقيه. إننا نجد رؤوساء الأحزاب من المحترفين القدامىٰ وهم يرون قبضتهم علىٰ الجماهير تتراخىٰ. ففي الولايات المتحدة نجدهم لا يستطيعون حتىٰ تقديم مرشح للرئاسة وهو من صميم عملهم ـــ حين تدفع الانتخابات الأولية بمرشح لم يكن هو إختيارهم الأول مثل ما حدث في كارتر.

ويزداد الموقف سوءاً في العالم الثالث حيث يُعاني نسق الأمر والطاعة من التفكك والفساد, ولا يستطيع الولاة أن يحكموا قبضتهم بفعالية, أو يضمنوا الحريات بكفاءة, ولا نجد ممكناً سوىٰ النفع الفردي والقهر الفردي اللذين لخما لواء السيادة في معظم بلاد العالم الثالث.

إن الأساليب القديمة في الممارسات السياسية, وكذلك الأسس القديمة التي تعتمد عليها القيادة لم تعد لهها السيادة في أي مكان في العالم, وأصبح الموقف مهيئاً للقيام بثورة في مجال القيادة كله وكذا في نظام الأحزاب. وقبل أن نتحدث عن إصلاح نظام الأحزاب يجب علينا أولاً أن نجيب علىٰ السؤال الرئيسي حول إمكانية استمرار نظام الأحزاب في دولة من دول العالم الثالث في مواجهة النقد الذي يتعرض له أداؤه في العالمين الأول والثاني, وإقرارنا بأدائه المتواضع أو المتدني في العالم الثالث. إن الأحزاب إذا لم تقم بتقديم مرشحين فإن الاختيار الآخر سيكون تقدم مرشحين مستقلين, أو التعيين. ولما كان التعيين بديلاً غير واقعي, فلنناقش إذاً الحجج المعارضة لنظام المرشحين المستقبلين.

إن الانتخابات عمل مكلف مادياً, وإذا ما كان الترشيح مستقلاً ذات صفة خاصة فإن تبعة هذه التكاليف ستقع علىٰ المرشحين وأولئك الذين يهمهم نجاحهم, والنتيجة الطبيعية أن ينقلب المرشحون إلىٰ معينين, وتلك نكسة خطيرة خاصة إذا نظرنا إليها في ضوء معايير القيادة الإِسلامية والمعاصرة. كما أن الوصول إلىٰ الناخبين والقيام بحملة انتخابية عمل يستنفذ الوقت, فإذا ما تحملت الأحزاب السياسية عبء التمويل, وتكفّلت بتوفير العاملين وشاركت في إذارة الحملة الإِنتخابية, فإن ما يتحمله المرشح من الأعباء سيقل كثيراً عما إذا ما تحمل هو العبء كله, ذلك العبء كله, ذلك العبء الذي يجعل أي فرد يحجم عن دخول حبلة الإِنتخابات إلا إذا كان في إستطاعته أن يكون سياسياً متفرغاً, وهو ما كان يحدث فعلاً في العالم الثالث الذي يزخر بالسياسيين والقادة المحترفين. ومهما كانت إنجازات أمثال هؤلاء السياسين, فالحقيقة الوحيدة المؤكدة هي أن أي سياسي محترف ينقصه قدر كبير من خبرة المشاركة كعنصر منتج في حياة المجتمع الإِدارية والإِقتصادية. ونتيجة لذلك فإنه حين يفوز في الانتخابات, ويمارس سلطاته في الحكم, تظهر سذاجته الكاملة في فن الإِدارة والقدرة علىٰ تسيير الموارد الإِقتصادية, وتدفعه سذاجته هذه لأن يكون ضحية للبيروقراطية. وفي ضوء تحليل المتطلبات الرئيسة للحكومات الحديثة, فإننا نجد أن أهم متطلبات القيادة تكمن في القدرة علىٰ التعامل مع البيروقراطية والتحكم فيها وترشيدها. وهو في هذا المجال لا يدانيه أحد في عجزه. وفي ظل هذه الظروف فإن نظام الترشيح المستقل سيسد الطريق أمام الأشخاص من ذوي الكفاءة الحقة حيث تفرض عليهم طبيعة عملهم بإعتبارهم أفراداً منتجين في الإِدارة والإِقتصاد ألا يكونوا سياسيين متفرغين.

ويلجأ المرشحون المستقلون إلىٰ الحصول علىٰ الأصوات عن طريق إعطاء الوعود بخدمات شخصية وذلك يؤدي إلىٰ دورها في المحالس التشريعية ـــ الإِقليمية منها والقومية ـــ فالخيط الذي يفصل بين الفساد وبين محاباة أعضاء الحزب المخلصين وفاءً لما يقدموه ـــ خيط رفيع جداً. وبمرور الوقت تطغي أهمية الروابط العائلية والعلاقات المحدودة والمصالح القبلية والمرتبطة بالمكانة وعلاقات العمل, وترقىٰ في أهميتها إلىٰ المستوىٰ الأعلىٰ الذي تسيطر فيه تلك المصالح المحدودة الضيّقة علىٰ المصالح العريضة العامة, ويجد الأشخاص الذين يشغلون المناصب التشريعية القومية أنفسهم ملتزمين بإبقاء الوضع الراهن كما هو بكل ما به من ظلم وتفريط وحَوْب, ولا يمكن أن نتوقع منهم أن يكونوا روّاداً لتلك «الثورة المحتومة», أو يصبحوا مدافعين عن العدالة والرحمة التي يرىٰ فيها الإِسلام مهمة الأمة في هذه الدنيا.

إن العمل علىٰ توسيع دائرة الإِجماع بين أفراد الأمة يعتبر من أهم مهمام النظام الحزبي وأمراً ضرورياً إذا ما أراد الحزب توسيع نطاق سيطرته. وفي النظام السياسي الذي تغيب فيه الأحزاب ينشأ وضع يستحيل معه تجميع الأفكار الفردية في برامج سياسية أو اجتماعية قابلة للتطبيق. ومما يزيد من سوء هذا الوضع أنه في هذا العصر يصعب علىٰ الفرد من ذوي الإِمكانات المتفوقة أن ينظم ويرتب ما لديه من معلومات ذات العلاقة حتىٰ في الأمور التي تدخل في مجال ممارساته الشخصية, فماذا يكون الوضع بالنسبة لحاجات المجتمع المتعددة في أوجهها, كما أن المحاورات السياسية في غياب  النظام الحزبي قد تفقد صفتها, وتختفي بذلك مجموعة الإِختيارات الحقيقية عن ناظري الأمة, ويختفي معها الأمل في إعلانها.

ويجب ألا يغيب عنا أن النظام الحزبي غير المنظم سيؤدي إلىٰ مساوىء خطيرة. فقد يتحول إلىٰ شقاق حزبي يفسد المجتمع, ويدمر كل ما نفخر به في المجتمع المتمدن, كما أنه بحاجة إلىٰ يقظة دائمة لكي نبقيه علىٰ الدرب الذي نتمناه ـــ ورغم ذلك كله نجد أننا مضطرين إليه في غياب البديل الأفضل, إذا ما وضعنا في إعتبارنا ما يحيط بنا من تحدّيات مرتبطة بالظروف المادية والبشرية.

إن المجتمع الإِنساني يعمل من خلال قوىٰ السلطة الكامنة في بنائه, فإذا ما كانت تلك القوىٰ تعمل من خلال قنوات مقبولة أو قنوات تم إقرارها بصفة عامة لذلك العمل, فإن هذه السلطة تصبح شرعية, وتتضاؤل هذه الشرعية أو تفقد داخل المجتمع إذا ما تعطلت هذه القنوات لأي سبب من الأسباب, ولذا تصبح ممارسة السلطة لذات الممارسة وتوجيهها ضد الأفراد هي القاعدة, ولا يحتاج الأمر إلىٰ مبررات بعد ما فقدت السلطة رداءها الأخلاقي, ومن ثم تتحطم المؤسسات السياسية والإِجتماعية عن طريق القرارات التي تصدر بلا حساسية ـــ تلك المؤسسات التي تشكل القنوات الشرعية الحقيقية, التي إذا ما حطمناها دون أن نوجد فوراً مؤسسات بديلة بذات الكفاءة فإننا نحرر السلطة من قيديْ الأخلاق والقانون, وتصبح السلطة بتحررها من هذين القيدين علىٰ أقصىٰ مستويات القهر والإِستبداد.

إن الأسرة والصداقة والحرية والديمقراطية وهي أعلىٰ المؤسسات الإِجتماعية قيمة تعتبر ذات طبيعة رقيقة, وهي ـــ مثلها مثل علاقات الحب ـــ تحتاج إلىٰ رعاية كبيرة ودائمة حتىٰ تحافظ علىٰ بقائها, ولا يمكننا أن نحصي ما تقدمه هذه المؤسسات بطريقة غير مباشرة بإعتبارها مصدراً للرضىٰ والأمن لذا فهىٰ بحاجة إلى رؤية حساسة, والناس نادراً ما يدركونها أو يحسون بقائدتها وهم يلهثون وراء السلطة متغلقين علىٰ أنفسهم بلا حسن أخلاقي أو حب كبير يجمع بينهم.

متطلباتالعمل بالنسبة للنطام الحزبي :

يؤدي النظام الحزبي وظيفته فقط من خلال مناخ يتواجد فيه الإِجماع علىٰ الأساسيات, أي عندما تكون أولويات العمل الرئسية معروفة ومتفق عليها, وكذا القواعد التي يتم العمل علىٰأساسها ولا يسمح بإنتهاكها. وبصياغة أخرىٰ فإن النظام الحزبي لن تكون له فاعلية إلا في تلك المجتمعات التي لها دستولر قوي وفعّال في ظل سيادة القانون والاتفاق العام علىٰ الأولويات القومية. ومن المظاهر العامة لهذه الفكرة وجوب الإِتفاق علىٰ منهج التغيير, ذلك التغيير الذي يجب أن يكون سبيماً ويكتسب التأييد له بالطرق السليمة. ولا يعطي النظام كله عندما لا يتحقق له ما يريد, ولكن علىٰ النقيض من ذلك فإن كل جماعة تكون لها الفرصة كاملة مثلها مثل غيرها في إقناع الآخرين بإتباع ما تحمله من آراء, ويحرم عليها اللجوء إلىٰ القوة سواء كانت جماعة أغلبية أو جماعة أقلية. ولا يتحقق هذا الأمر إلا عندما تتسم قوىٰ الجذب المركزية داخل المجتمع بالقوة ويجمع الناس إحساس بالانتماء.

ومن التحليل السابق يمكننا استخلاص التوجيهات العملية التالية : ـــ

1) يجب العودة إلىٰ سيادة القانون بإعتبارها أولىٰ الأولويات, ولا نعني بالقانون هنا الهوىٰ المتمثل في الإِرادة الذاتية لحكام اليوم, وإنما إجماع الأمة بإعتبارها أن التشريعات التي تأتي من الأفراد الممثلين لها تخضع لإِرادتها الجماعية.

2) يجب أن يُضمنن لكل فرد الحقوق الإنسانية الاساسية التي تمكّنه من دخول مجال الوجود البشري, وإرادته حرة وكرامته مصونة.

3) وفي مقام الردع يجب أن تكون للقانون قوة تنظيم المؤسسة, وتحديد شروط تواجد الأحزاب السياسية, وإطار عملها, لكي يمنعها من أن تكون مراكز قُوىٰ لحياكة المؤامرات والمكائد, كما هي الحال في المجتمعات التي يكون فيها ذلك الميدان بلا قواعد تنظمه. ويستلزم ذلك أن :

أ‌) يكون للأحزاب السياسية دستور معلن يتضح فيه الإِلتزام بالأهداف الوطنية والأولويات القومية.

ب‌) تكون حسابات التمويل للأحزاب واضحة.

ج) يكون هناط حد واضح للمساهمات الشخصية التي غالباً ما تمهد السبيل للسيطرة علىٰ الأحزاب.

إن إحدىٰ الأخطاء الأخطاء الرئيسية في نظام الأحزاب في العالم الحديث تكمن في أنها عالباً ما تتحول إلىٰ جماعات كل همها الإِبتزاز غير المشروع الذي يتم علىٰ نطاق واسع ولخدمة أغراض محدودة وخاصة, تكون في معظم الأحيان مخالفة للمصالح القومية.

وإذا ما كان للقانون أن يسدد منافذ تلك الإِنحرافات ـــ فعليه أن يؤكد علىٰ : ـــ

1) الإِنتخابات بصفة مستمرة داخل الحزب.

2) توفير حرية أكبر في الإِنضمام لأي حزب سياسي.

3) أن يكون تقلد المناصب داخل الأحزاب السياسية بصفة دورية.

4) إلزام كل حزب سياسي بإنشاء مؤسسة داخله تكون بمثابة «مستودع للأفكار» مهمتها إبقاء القيادة فيه علىٰ علم بما ينشأ من مشكلات, وما يتوافر من إختيارات, لمواجهتها علىٰ أساس أن هذا العمل قد أصبح ضرورة من ضرورات العصر. فالواقع يشير إلىٰ أن عالمنا قد أصبح أكثر تشابكاً وتعقيداً, وبدرجة تزيد يوماً بعد يوم, حتىٰ انه لم يعد في إمكان أي فرد أن يستوعب كل المعلومات ويحولها إلىٰ برامج إجتماعية وإقتصادية قابلة للتطبيق.

5) أن يكون لكل حزب مكانته القومية إذا ما أراد دخول الإِنتخابات في حالة بقاء البلاد مقسمة إلىٰ مناطق تعتبر وحدات سياسية, وأن يحصل علىٰ الأقل من مجموع أصوات الناخبين في كل منطقة لكي يفوز بأي مقعد في المجالس التشريعية الفرعية أو لبقومية ـــ ويضمن مثل هذا القانون منذ البداية إقصاء الأحزاب التي تمثل وجهة سياسية واحدة, أو الأحزاب التي تثير المشاحنات بين المناطق المختلفة, كما يستبعد الإِنحرافات سواء منها ما كان حقيقياً أو متوهماً. وتصبح النغمة الغالبة في العمل علىٰ إنجاح مرشح معين قائمة بالضرورة علىٰ المصالحة والتوفيق.

6) إنشاء محكمة خاصة علىٰ أعلىٰ مستوىٰ من الإِستقلالية تقوم بمهمة إبقاء الأحزاب السياسية دون تخطي حدود القانون.

إن الأحزاب السياسية لها مهمة هامة تختص بتحريك المصلحة العامة في ديمقراطية تعتمد علىٰ المشاركة. ففي أغلب الأحيان نجد أن الأحزاب السياسية تقوم بمناقشة المشكلات الإِجتماعية أو الإِقتصادية أو القضايا التي تواجه الحكومة علىٰ مستوىٰ القاعدة العريضة وهي في ذلك تحدوها, رغبة في الحصول علىٰ أوسع تأييد ممكن, مما يعتبر خطوة هامة وأساسية لتقريب المسافة بين الحكام والمحكومين ـــ تلك المسافة التي تخلقها الحكومات التي تحتفظ بالسيطرة الكاملة علىٰ المعلومات, والتي تحررت من الحكم الإِستعماري حديثاً حيث يندفع الحكام إلىٰ تأكيد اتساع هذه المسافة بينهم وبين الشعب, يملؤهم إحساس بعدم الأمن. إنهم يصبحون في العالم الثالث في أغلب الأحيان سجناء لقوات الأمن التي أنشؤوها بأنفسهم.

ورغم ذلك تبقىٰ حقيقة الوضع التي تقول بأن نجاح أي حكومة يعتمد علىٰ الاستجابة التلقائية من الشعب لندائها. ولا يتحقق ذلك إلا عندما يتم سد هذه الفجوة فعلاً وتتم معاملة الحكام بإعتبارهم جزءاً من المجتمع تنفيذاً لمبدأ الأفكار المشتركة, ولعل أهمية هذا الأمر تتزايد في المجتمع المسلم الذي أوجب الله عليه أن يكون مجتمعاً أفراده ربانيون. ومن بين المعاني التي وردت لهذه الكلمة «ربانيون» ما جاء في تفسير القرطبي أنهم أناس ربانيون أوتوا علماً خاصاً يُسيّرون به أمور البشر (مجلد 4 ص 122) والأحزاب السياسية هي فقط التي تستطيع القيام بمهمة التقريب بين الحكام والمحكومين, والتي لا يستطيع القيام بها أي فرد بذاته مهما كرّس من جهد وإخلاص, لأنها أساساً مهمة جماعية. ومن ثم فإن المرء يعي أن الله قد أراد للمؤمنين أن تنفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين, ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (التوبة : 122).

إن العالم الذي يتبع مباديء ماركس ولينين به نظام حزبي كذلك, حيث يكون الحزب أداة التحكم الكامل في المجتمع القائم علىٰ تفرد الفرد, كما أنه أيضاً الأداة الكبرىٰ للهيمنة والابتزاز, في تلك المجتمعات التي لم تهيء فعلاً للإِنتاج الوفير, تلك المجتمعات التي تُدار في ظل فلسفة سياسية يستغرقها الإِلتزام بالسيطرة والتنظيم. وفي هذا النظام الذي يعتبرونه أفضل الأنظمة نجد أن أي خطأ فيما يصدر من أحكام قد يؤدي إلىٰ الإِنهيار الكامل للشخص الذي يُعتبر مسئولاً عنه. وتتركز الموارد الإِقتصادية والسلطة السياسية في مصدر واحد هو الحزب الذي ينجرف بدوره إلىٰ ما يسمىٰ بالحكم الحديدي للأقلية. ويلجأ البيروقراطيون بلا هوادة إلىٰ الوصول إلىٰ مستوىٰ يتمكنون فيه من صنع القرار وذلك من أجل شراء أمنهم ورُقيهم الشخصي. وتكون النتيجة الطبيعية أن الذين يتخذون القرارات النهائية تؤول لهم السلطة الكاملة. وبالإِضافة إلىٰ تركيز القوة الإِقتصادية والسياسية في يد الحزب, فإن الحزب يفترض لنفسه دوراً آخر في أنه مصدر الحكمة كلها, وحامي حماها, ومعين كل الأفكار المشروعة. وحيث أنه لاخلاف في أن المباديء الماركسية اللينينية قائمة علىٰ عقيدة علمانية, فهي تدين معارضيها دون موابة, فما من أحد يمكنه أن يكون أكثر يسارية من الحزب, وأي فرد يعارض ما يراه الحزب يوصم بالخبل أو الرجعية أو العمالة الأجنبية. إن مثل هذه الفكرة عن واقع الممارسة في الحزب السياسي هي الشائعة في العالم الثالث, ورغم أنها من الناحية النظرية تصطدم مباشرة مع تعاليم الإِسلام.

أما في الغرب فإن نظام الأحزاب أفرزه نظام إجتماعي لا يقبل بالتركيز التام للسلطة كقيمة معيارية, حيث التراث التحرري القائم علىٰ المباديء اليهودية المسيحية الذي يعتبر ثورة علىٰ مثل هذه الفكرة, وحيث يحرصون كلهم علىٰ الحرية السياسية بإعتبارها قيمة معيارية, ومن ثم فإن قوة الحزب السياسية تعتمد علىٰ عطاء الشعب بإختياره. ويعتبر الإِنضمام إلىٰ حزب سياسي عملاً إختيارياً قائماً علىٰ الثقة ببرامجه, وبشرط أن يكون دائماَ في الإِمكان التراجع عن تأييده دون أن تكون هناك مخاطر كبيرة. وفي ظل هذه الشروط نجد أن إقامة الحزب السياسي تعني إيجاد وسيلة للحشد الإختياري للرأي العام ولمشاركة الشعب في إختيار البرامج والأشخاص الذين سيكون لهم دور فعّال في المجتمع.

ويأخذ دور الحزب في إطار النظرية السياسية الإِسلامية صورة أكثر تحديداً. ففي الإِسلام نجد أن الشريعة هي الأساس, والقاعدة التي تبني عليها الأمة. وكل فرد من أفراد الأمة يخضع لحكم الشرعية. (القرآن 3 : 23) وطاعة السلطات العامة ليست مطلقة وإنما تخضع لشروط, فطاعة المرء للسلطة الدنيوية رهن بألا تشوبها معصية الله. (القرآن 5 : 2, 68 : 10 ـــ 15) وعلىٰ فعل الخطايا أو تخطي حدود الله. وتأتي معايير الخير والشر عن طريق الوحي الإلهي المتمثل في القرآن, ونجد في سنة رسول الله ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ, وخلفائه الراشدين من بعده, النموذج الذي يتبع في بناء الأمة التي يكون فيها الحكم لله. ويقع واجب تطبيقة علىٰ أفرادها, وأمرهم شورىٰ بينهم (القرآن 42 : 38) والهدف من ممارسة السلطة هو حماية الحقوق الإِنسانية (خطبة الوداع) وتتحدد في هذا النموذج للأمة القيم الأساسية والأولويات.

وفي ظل هذه الضوابط فإن السلة التشريعية داخل الأمة تكون ذات طبيعة ثانوية تماماً, فهي في أعلىٰ مستوياتها يكون لها التأويل في مجال التطبيق, وعلىٰ نفس المنوال. فإن الحزب السياسي داخل الأمة ليس له أن يدعي لنفسه مكانة خاصة فيما يختص بتأويل شرع الله, وإذا ما إدّعت جماعة لنفسها هذا الحق فعليها أن تتحمل تبعة فقدان أولى مؤهلات الإِنتماء إلىٰ الإِسلام. ويلي ذلك أنه ما من جهاز تشريعي ـــ ومن باب أولىٰ ما هو دونه مالأحزاب السياسية ـــ داخل خيمة الإِسلام يمكن أن يدّعي حق وضع أي معيار تكون له الصفة المطلقة في تحديد الصواب والخظأ, كما هو الحال بالنسبة للأجهزة التشريعية الوضعية في العالم الأول والعالم الثاني. وأي جماعة داخل الأمة تسعىٰ للانفصال عنها تخاطر مخاطرة كبيرة بأن تفقد تأييد الناس, لأن «وحدة الأمة» تعتبر في تعاليم الإِسلام قيمة أساسية لا يمكن التضحية بها علىٰ الإطلاق. وأفضل دور يقوم به الحزب السياسي داخل الأمة ينحصر في إقتراح البدائل العملية للوضع الراهن, وذلك في نطاق البحث عن تحسين الأحوال فيها, وتلك البدئل تخضع طبعاً لحكم الشرعية.

آن لنا عند هذه النقطة أن نناقش الإعتراض بأن تشكيل أي نوع من الأحزاب السياسية يعتبر أمراً محظوراً في الإِسلام.

غالباً ما تأتي الآيات التالية علىٰ لسان المعترضين علىٰ قيام الأحزاب من المسلمين ليدللوا علىٰ وجهة نظرهم بأن نظام الأحزاب محظور في الإِسلام.

1)    {إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء} (القرآن 6 : 159).

ويعتبرون هذه الآية أمراً مباشراً بالابتعاد عن الانقسام إلىٰ جماعات ويصبح أمراً منكراً عند إرتباطه بالانقسام في الدين أو مؤدياً إليه, وسنتطرق حالاً إلىٰ مناقشة هذا الأمر والكيفية التي يمكن أن يؤوّل إليها.

2)    وثاني تلك الآيات في هذا الخصوص : {قل هو القادر علىٰ أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأن بعض .. } (القرآن 6 : 65).

ويعتبرون ما ورد في هذا الآية دليلاً علىٰ أن التفرق إلىٰ شيع وما يؤدي إليه الانشقاق يعتبر عذاباً يوازي ما ورد في الآية من أشكال العذاب, وأن واجبنا أن نتجنب أي خطوة في هذا الطريق مهما كان الجهد الذي نبذله في سبيل ذلك, وأن نتواصىٰ بذلك وندعو إليه.

3)    وفي الآية الثالثة بهذا الخصوص يأتي قول الله تعالىٰ :

{.. ولا تكونوا من المشركين, من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً, كل حزب بما لديهم فرحون } (القرآن 30 : 32).

فقد ساوت هذه الآية بين التفرق إلىٰ شيع, كل يذهب بما لديه, بعدما فرقوا دينهم, وبين الشرك بالله, تلك الخطيئة التي لا تغتفر. واستنتجوا منها أن الأمر بالاستقامة علىٰ الطريقة الأخلاقية يعني أن نتجنب الانضمام إلىٰ جماعة يمكن أن ننحدر من خلالها إلىٰ مستوىٰ الحزبية التي قد تؤدي إلىٰ الهلاك الأكيد. ولكننا نجد في هذا المقام أن هناك إشارة واضحة إلىٰ أن تفريق الدين شرط مسبق.

4)    وتأتي الآية الرابعة :

{ إن فرعون هلا في الأرض وجعل أهلها شيعاً ..} (القرآن 28 : 4)

وقد فُسّرت هذه الآية علىٰ أن الانقسام إلىٰ أحزاب يؤدي إلىٰ فقدان القوة مما يؤدي بدوره إلىٰ تعريض الناس للإستبعاد. بينما نجد رحمة الله في الألفة والأتحاد, في قول الله تعالىٰ :

{.. واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً, وكنتم علىٰ شفا حفرة من النار فأنقذكم منها, كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } (القرآن 3 : 103), ويرىٰ هؤلاء المفسرون أن فهمنا لما جاء بالآيات السابقة يجب أن يكون واضحاً وطاعتنا له مطلقة.

إن كلمة «شيعة» التي وردت في الآيات الأربع, الأولىٰ تحمل نفس المعنىٰ الذي تحمله كلمة «حزب» أو «طائفة» أو «فرقة». ولكن إستخدام أي من هذه الكلمات لا تصل بنا إلىٰ نتيجة قطعية, لأنها استخدمت في مقام المدح ومقام القدح, فعلىٰ سبيل المثال نجد أن هناك إدّعاءً عاماً بأن كلمة «شيعة» قد استخدمت دائماً في القرآن في مقام القدح, ولكن مثل هذا الادعاء ليس له ما يبرره, فقد وردت علىٰ الأقل في موقعين تشير فيهما إلي الفئة الراشدة المهدية (القرآن 28 : 15, 37 : 83) فقد جاءت في الموقع الأول تشير إلىٰ شيعة موسىٰ وفي الثاني إلىٰ أن إبراهيم كان من شعبة نوح. وكذا الأمر بالنسبة لكلمة «حزب» فقد جاءت تشير إلىٰ حزب الله (القرآن 5 : 56) وحزب الشيطان ( القرآن 58 : 19) ويصدق الأمر ذاته علىٰ الكلمتين الأخريتين.

والقرآن يعلّم الأمة صراحة أن المؤمنين ما كانوا لينفروا كافة إلىٰ ما يواجههم من مهام أو يأخذوها جملة واحدة, (القرآن 9 : 122), ويدعو المسلمين إلىٰ التخصص (القرآن 4 : 83), والتفقّه (القرآن 9 : 122) كما يطالبنا القرآن أن نؤدي الأمانات إلىٰ أهلها, ومن هذه الأمانات إعطاء السلطة العامة إلىٰ أولئك الذين هم أهل لها, (القرآن 4 : 58).

ويقول الله تعالىٰ :

{ وإذا جاءهم أمر من الأمن الخوف أذاعوا به, ولو ردّوه إلىٰ الرسول وإلىٰ الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (القرآن 4 : 83). وتشير هذه الآية بوضوح إلىٰ أن العلم التخصصي ضروري للتعمق في فهم المعلومات والتقويم الصحيح للموقف.

وتعتبر الشورىٰ ـــ وما تعنيه من تبادل للآراء قبل اتخاذ القرار في الأمور العامة ـــ أمراً ملزماً كما ورد في القرآن (42 : 38) ولا تأتي النصيحة إلا من أولي الألباب ذوي العلم القادرين علىٰ استنباط الأمور. ويتضح من الآية السابقة أن من واجبنا صراحة النزوع إلىٰ شكل من أشكال التخصص فلا يمكن أن نشترك جميعاً في كل المعلومات (القرآن 3 : 118) ولذا كان من الواضح وجوب وجود فئة متخصصة تؤدي ما علىٰ الأمة من التزامات. ورغم أن القرآن قد حرّم تفرقة الدين وما يؤول إليه من الانقسام إلىٰ الاقتتال بين طائفتين من المؤمنين.

{ وإن طائفتان من المؤمنين إقتتلوا فأصلحوا بينهما, فإن بغت إحداهما علىٰ الأخرىٰ فقاتلوا التي تبغي حتىٰ تفيء إلىٰ أمر الله, فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا, إن الله يحب المقسطين} (القرآن 49 : 9), وجدير بالذكر أن القرآن قد أشار إلىٰ الطوائف الثلاث بإعتبارهم من المؤمنين, كما يتضح أنه إذا ما كان تكوين الطوائف لا يشمل تفريق الدين, ولا تقوم عليه, فإنه لا يؤدي بالضرورة إلىٰ موقف من مواقف الشرك بالله. ويفيدنا في هذا المقام أن نذكر ما جاء في سورة التوبة (الآية 107) حين يقول سبحانه :

}والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل, ولتحلفن إن أردنا إلا الحسنىٰ, والله يشهد إنهم لكاذبون{.

وتشير هذه الآية إلىٰ المنافقين الذين تظاهروا بأنهم يعملون عملاً صالحاً ببنائهم ذلك المسجد, ولكن الله فضح نواياهم الحقيقية, وكشفها لرسوله, وأمره : «لا تقم فيه أبدا» (القرآن 9 : 108). فقد كان هدفهم مناهضة رسالة الرسول ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ, وتأييد الكفر, وتحقيق الشقاق, و إقامة قاعدة متقدمة لأعداء الإِسلام. وهؤلاء الأفراد الذين يعملون علىٰ هذا المنوال هم بلا جدال قد وقعوا في ذلك الشرك الذي طلب الله من رسوله أن يكون بمنأىٰ عنه.

واختلاف الرأي أمر حتمي بين البشر (القرآن 11 : 118) إلا من رحم الله ونجا من العذاب. أما أولئك الذين ضلّوا (القرآن 16 : 37) والذين صدّوا عن سبيل الله (43 : 65) فلا يخفف عنهم العذاب. وبعث الله النبيين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه (القرآن 2 : 213) ولكنهم اختلفوا فيه حسداً وبغياً بينهم, فهدىٰ الله برحمته الذين آمنوا منهم لما اختلفوا فيه وهكذا كان الخضوع إلىٰ مشيئة الأمر الإِلهي المحك الذي يفرق به الله بين المؤمنين الصادقين وغيرهم.

وحيث أن القرآن ليس فيه من تناقض (القرآن 4 : 82) فإن الآيات التي أوردناها من قبل تحتاج إلىٰ تحليل نخلص منه إلىٰ نتائج ليس بها تناقض. وتبعدنا عن المغالاة في الين التي حذر الله المؤمنين منها, وتجنبنا أن نحرم حلاله ونحللّ حرامه.

والسؤال الذي نطرحه الآن للمناقشة يدور حول ما إذا كان تشكيل الجماعات التي تأخذ صبغة الأحزاب السياسية أمراً واجب التحريم, أو أن لهذه الجماعات مكانا داخل الإِطار الكبير الذي يرسمه الإِسلام.

إن ما جاء في تراث البحث القديم والمعترف به حول النظرية السياسية لا يساعدنا كثيراً في هذا المقام. لأن نظرياتهم بصفة عامة تقوم علىٰ تتبع الأحداث التاريخية. ولم تتعرض للمشكلات التي تواجه الأمة في الزمن الحاضر بطريقة مباشرة, إلا فيما نذر, كما أننا نجد أنفسنا في ريب من الأبحاث الحديثة التي تعرضت للنظرية السياية الإِسلامية, والتي نادت بفكرة نظام حزبي محدود, مما يفتح مجالاً لنظام حزبي حديث كامل النمو. ذلك الشك في الآخرين من انعدام الثقة في قدرتنا علىٰ الحكم والتمييز بين الصالح والطالح كل ذلك يقسد قدرتنا علىٰ المناقشة.

من الأمور المؤكدة تماماً أن الأحزاب بطبيعتها قائمة علىٰ التشيع والتمسك بشعار «أنصر حزبي سواء أكان علىٰ حق أم علىٰ باطل» وإن لم تعترف الأحزاب صراحة بأن هذا الأمر هو أساس قيامها, وبناءً عليه يمكن القول بأن الأحزاب تخرج عن نطاق الجماعات المتخصصة التي يقرها الإِسلام. ولو شئنا لذلك مثالاً لوجدناه في المدىٰ الذي يصل إليه نظام الأحزاب في الدول الإِشتراكية, حيث يدعي الحزب لنفسه حق وضع معايير الصواب والخطأ, لا ينازعه فيه أحد, ولا يحدد سلوكه مبدأ أخلاقي أو قانون. فمثل هذا النظام بعيد تماماً عن تعاليم الإِسلام, فمن الواضح أن مثل هذا الحزب الذي لا يعترف بحدود قانون أو دفع أخلاقي, يعتبر محظوراً في النظرية الدستورية الإِسلامية. ولكن ذلك لا يضع حداً للمشكلات التي تواجهنا. والأحزاب السياسية في التراث الغربي التحرري تتشكل بهدف التوصل إلىٰ السلطة السياسية عن طريق تأليف الحكومات أو بهدف تقديم أفكار معينة أو نظم عقدية أو برامج بهدف وضع الحلول للمشكلات القومية. وتقوم تلك الأحزاب بنشر أفكارها هذه, والصراع علىٰ السلطة, عن طريق تقديم المرشحين والدخول في الانتخابات, وربما عن طريق تأييد بعض المرشحين من غير المنتمين إليها, وهي تلجأ إلىٰ تلك الممارسات بحماس زائد, وذلك لتضع أفكارها موضع التنفيذ, ولاعتبار ولائها للإِجماع الوطني العريض علىٰ الأولويات القومية. وفي المحاورات الصاخبة التي تسبق الانتخابات, يثير الحزب الكثير والكثير جداً حول أخطاء مرشحي الأحزاب المنافسة وبرامجهم, بينما يكثر من الحديث حول مزايا مرشحيه وبرامجهم, ولكن أنصاره لا يثيرون شكوكا حول ولاء أي أي من هذه الأحزاب سواء للدستور أو للأمة. ففي انجلترا يقوم الحزب الفائز في الانتخابات بتشكيل جانب جلالة الملكة في مقاعد الحكومة بينما يشكّل الحزب الخاسر جانب جلالة الملكة في مقاعد المعارضة, ولم يرد في التقاليد السياسية لهذا البلد أنهم حظروا نشاط الحزب الخاسر. ومن الواضع أن ذلك منشؤه أن بُعد الصراع بين هذه الأحزاب أمر يمكن السيطرة عليه لوجود الاتفاق العام. وأن القوىٰ التي توحّد الأمة أقوىٰ من تلك التي تفرقها, ونقطة الخلاف ليست حول حق الجانب المعارض في الوجود, وإنما حول ماهية البرامج الأفضل والقدرة علىٰ تنفيذها.

ولا ريب أن هناك أحزاباً أخرىٰ في كل أنحاء العالم وخارج حدود العالم الاشتراكي تقوم سياسة الحزب فيها علىٰ مبدأ أن للحزب مطلق الحق في احتكار الصواب والحكمة, وأن من يعارضه قد حكم علىٰ نفسه بالفناء, وأن المكان المناسب لأفراد المعارضة إما القبر أو السجن, وهو ما يخالف تماما وضع الأحزاب في الغرب المتحرر.

وبين هذين النقيضين يدور جدل عقيم يحاول إثبات جدوىٰ نظام الأحزاب, ويستند هذا الجدل علىٰ روايات حقيقية أو مشوهة حول نظام الأحزاب داخل الكيان الشيوعي.

ولكي نصل إلىٰ رؤية أكثر وضوحاً بالنسبة لهذا الموضوع, علينا أن نقوم بتحليل الآيات القرآنية خاصة ما ذكرناه سالفاً حول تفريق الدين, والمناقشة المعهودة حول هذا الموضوع قد أخذت مساراً يعتمد علىٰ أساس أن الأفراد الذين يتشيّعون للطائفية والإِبتداع هم المعنيون بهذه الآيات, سواء كانوا من اليهود أو النصارىٰ أو المسلمين. ولكن الأمر الواضح أن هذه الإِجابة غير مقنعة تماماً لأننا نقر بأن هناك بدعاً حسنة, كما أ، هناك بدعاً سيئة. إذا ما كان ذلك الحكم يشمل الابتداع كله, فإن ذلك سوف يعني عدم رقي الأمة, وجمودها وقد كانت فترة حكم الخليفة الثاني عمر من أمجد الفترات في التاريخ الإِسلامي حيث استحدثت فيها أحكام جديدة كثيرة لم تكن موجودة من قبل, وتشير إليها كتب التاريخ بفخر واعتزاز, وكذلك الكتب التي تناولت سيرته الذاتية. ومن الأمور الجلية أن هذه الإِجراءات لا تقع ضمن نطاق الإِبتداع الذي تشير إليه الكلمة, والذي يتساوىٰ مع الكفر. والطائفية كذلك ليست في ذاتها معياراً كافياً واضحاً. فمن الناحية التاريخية نجد أننا قد قبلنا في الإِسلام كثيرين ممن تعرضوا لنقدنا بسبب الطائفية أو الإبتداع, وأولئك الذين شملتهم قائمة طويلة من الفتاوىٰ المعاصرة بإعتبارهم كفاراً, ثم عادت فقبلتهم في حظيرة الإِسلام بل وفي بعض الأحيان وصفتهم بعلماء الإِسلام. وربما أن مفتاح الفهم للمعيار الأساسي فس هذه الحالة يقع في كلمتيْ «فرقوا دينهم». فكلمة «دين»كلمة شاملة جداً وقد وردت في القرآن بشكل واسع جامع فهي تعني الطاعة والخضوع (القرآن 4 : 125, 12 : 40, 39 : 11) وتعني الهداية (القرآن 2 : 256, 3 : 19) والأمر والسيادة ( القرآن 82 : 18 ـــ 19) والحكومة (القرآن 12 : 76) والدستور (القرآن 4 : 76), والقانون (القرآن 42 : 13, 12 : 76) والإِدارة (القرآن 24 : 2) والحكم (القرآن 24 : 2, 1 : 3) والعاقبة المشهودة والثواب والعقاب (القرآن 37 : 20) والجزاء. كما تعني الإِسلام (القرآن 2 : 131 ـــ 3 : 18) وكذا العرف. وقد وردت في سورة الواقعة كلمتي «غير مدينين» لكي تشير إلىٰ أولئك الذين يعتبرون أنفسهم مسئولين أمام أي إنسان. ويقول الله تعالىٰ في الآية التاسعة والعشرين من سورة التوبة :

{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ..} (القرآن 9 : 29).

فمن الملاحظ أن استخدام كلمة «دين» له جانبين, أحداهما يشير إلىٰ الإِسلام واجتماع البشر علىٰ منهج الله الذي يشمل الكون, والآخر إلىٰ السيادة المطلقة لسُنّة الله ورفعتها. ومن يعص الله عن عمد وينكر حدوده فقد تنكب السبيل ووقع في دائرة الشرك عندما جعل مصدراً آخر في مقام أعلىٰ تقديراً.

ومع ذلك فقد أعطىٰ الله المؤمنين وباقي البشر قوانين وشرائع مختلفة يسيّرون بها أمورهم, وجعلها أكثر ارتباطاً بالواقع الملموس فيقول سبحانه : {وليحكم أهل الإِنجيل بما أنزل الله فيه, ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون, وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فالحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحق, لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا, ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة, ولكن ليبلوكم في ما ءاتاكم فاستبقوا الخيرات, إلىٰ الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} (القرآن 5 : 47 ـــ 48).

كما أكّد القرآن السيادة المطلقة لله فيما يختص بالإِطار الدستوري للنظام القانوني للأمة في قوله تعالىٰ :

{ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله ..} (القرآن 42 : 21).

وتأتي كل القوانين الوضعية في المرتبة الثانية من الشرعية وتعتمد في مصدقيتها علىٰ حدود الأمر والنهي في الشريعة الإِلهية, وأي إدعاء بالقدرة علىٰ التشريع يعتبر نفسه علىٰ قدم المساواة مع التشريع الإِلهي, أو علىٰ درجة أعلىٰ يعد عملاً من أعمال الشرك بالله. وبصياغة أخرىٰ فإن المحك هو مدىٰ قبول الفرد لحكم الله, فإذا ما اعتقد شخص أن الشريعة الموحاة يمكن أن تلغيها أي جهة بشرية فإنه وقع في دائرة الشرك.

ويقع في نفس الدائرة أولئك الذين يفرقون دينهم, وأولئك الذين يفرقون أمر الأمة عندما يعطون لأي عمل يقوم به البشر أو يمثل إرادتهم مكانة عليا, مما يؤدي إلىٰ تفكيك الأمة. وإذا وضعناها في صيغة أخرىٰ فإن أي شخص يقبل سمو الشريعة الإِلهية حتىٰ وإن كان علىٰ خلاف يصل به إلىٰ الاقتتال فإنه غير مدان بتفريق الدين الذي ساواه القرآن بالشرك, وأمر الرسول ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ والأمة بالنأي عنهم (القرآن 9 : 3 , 5) وقد بيّن القرآن بوضوح إمكانية اقتتال طائفتين من المؤمنين فيقول الله تعالىٰ :

{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما, فإن بغت إحداهما علىٰ الأخرىٰ فقاتلوا التي تبغي حتىٰ تفيء إلىٰ أمر الله, فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا, أن الله يحب المقسطين} (49 : 9).

ولم يسمّ القرآن الطائفتين بالمشركين لمجرد أنهم إقتتلوا, كما أنه كذلك جعل الفيء إلىٰ أمر الله هو محك الأمن من الحرب, وأساس السلام.

وقد وصف الله وحدة الأمة بأنها نعمة منه ورحمة, وأنها قيمة أساسية (القرآن 3 : 103 , 8 : 63) وما كان للخلافات أن تكسر هذه الوحدة, فالله سيفصل بينهم فيما اختلفوا فيه يوم القيامة (القرآن 5 : 48) والأمة تحتفظ بقوتها (القرآن 8 : 46) وتأخذ مصالح الأفراد المسلمين حقها في الرعاية في ظل الوحدة (القرآن 61 : 4). وأفضل سبيل للحفاظ علىٰ هذه الوحدة هو أن يقوم المسلمون بواجباتهم في الوفاء بعهدهم مع الله, لا يضرهم من ضل إذا اهتدوا ( القرآن 5 : 105) ويخضعون لحكم الشريعة العادل في كل الأحوال ( القرآن 24 : 51) فذلك فرض واجب. وفي ظل هذه الظروف لم يكن الشقاق إلا أن ينشأ من ادعاءات ظالمة, أو فسوق, أو إصرار لأن تكون للمصالح الشخصية الكلمة العليا, معرضين وحدة الأمة الأخطار.

ويذكر القرآن أن هناك اختلافات قد تنشأ ولا نجد لها حلاّ, حين تعتقد كل طائفة مخلصةً أن الحق جانبها. وقد أمر الله المؤمنين أن يبقوا الأمر علىٰ ما هو عليه, وإلىٰ الله مرجعهم يوم القيامة, فينبئهم بما كانوا فيه يختلفون. وألاّ يجعلوا تلك الاختلافات تفتت وحدة الأمة ( القرآن 3 : 105, 6 : 164). وحرّم عليهم اللجوء إلىٰ القوة أو الإِكراه أو التهديد أو التدليس أو الخداع أو الإِستغلال في التعامل بين أفراد الأمة, وتسري هذه المباديء علىٰ كل المجالات الإِقتصادية والسياسية والإِجتماعية سواء بسواء. بل إن تلك الممارسات محرّمة حتىٰ ولو كان الهدف منها تأييد أدق القضايا التي ينشد الفرد وحدة الأمة فيها.

ولقد بان لنا جلياً من التحليل السابق أن نظام الأحزاب الذي شاع في ديمقراطيات الغرب في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ـــ ذلك النظام بذوى سريعاً حتىٰ في مواطن نشأته الأولىٰ. وبدا نمط جديد من القيادة أكثر نضجاً وعلىٰ مستوىٰ أكبر في توجهاته الثقافية, كما أن نظام الأحزاب من النمط الماركسي اللينيني يحارب آخر معاركه من أجل البقاء في مقاعد السلطة المطلقة ضد البيروقراطية الجديدة, والقوىٰ العسكرية والسياسية التي ظهرت حديثاً. في حين نجد الأمة الإِسلامية وهي تواجه مشكلات متنوعة نجدها تنظر بعين الريبة إلىٰ الغرب وإلىٰ الشرق. فنظام الأحزاب سواء في العالم الأول أو العالم الثاني له من السمات ما يجعل إختياره كما هو بكامل هيئته أمراً غير عملي, كما أن المشكلات التي تواجه الأمة الإِسلامية تتحدىٰ الحلول السهلة, وتحتاج إلىٰ إجتهاد من النوع الدقيق المضني, الذي يستلزم قدراً كبيراً من القدرات الفكرية, والشجاعة الروحية.

لقد تعرض نسيج العلوم السياسية إلىٰ تغير جذري, وذلك خلال الفترة التي نعيشها, فحتىٰ وقت قريب جداً كان النمط الشائع في العالم الثالث الذي يلجأون إليه لحشد الرأي العام من أجل تحقيق الإِستقلال السياسي من السيطرة الأجنبية أو من الاستعمار ـــ هو إقامة المؤتمرات الشعبية علىٰ نطاق واسع, وإلقاء الخطب النارية, وكان عدد الحضور في هذه المؤتمرات وما يبدونه من حماس فيها يحددان الشعبية التي يتمتع بها الزعيم, وقوة القضية التي يناضل من أجلها, وذلك إعتماداً علىٰ أن الشعب هو صاحب السيادة.

وقد حمل الربع الثاني من القرن العشرين معه بداية تغيير شامل في أساليب القيادة, فإذا ما كان الشعب صاحب السيادة فهو مع ذلك عرضة للتأثر و الخضوع للمناورات وأصبح تحريك الجماهير يتم طبقاً لسياسة مرسومة, ودليلاً علىٰ الثقة بالدكتاتوريات الناشئة في كل أنحاء العالم. كما ساعد التقديم التقني علىٰ الطريق كل من هتلر وموسوليني وغاندي وكثيرين غيرهم من الذين لم يصلوا إلىٰ مستواهم في القدرة علىٰ تحريك الجماهير, فوجدناهم يسيّرون الجماهير كيفما يشاءون بطريقة لم يشهدها العالم من قبل. وكان علىٰ القيادة أن تتخذ دوراً جديداً بعد تحقيق الاستقلال فيتحول القادة من نقاد ينتقدون إلىٰ مكلفين ينفذون, وأصبحت صناعة الخطابة أمراً ثانوياً وإن لم تختفي من الميدان بسهولة. وكلما كان التنفيذ متدهوراً بدت الخطب جوفاء أكثر و أكثر, وأصبح التعرض للأصابة أو اللأغتيال علىٰ يد أحد أفراد الجماهير الغاضبين كابوساً لا يريم, ودخلت الموتمرات الشعبية الجديدة في دائرة التنظيم والتحكم أكثر وأكثر, فخلت منها العاطفة التلقائية والتحرر الذي كان لها في الأيام السافلة. وصار من الممارسات الشائعة تحريك الجماهير علىٰ مستويات كبيرة لم يسبق لها نظير, وعلىٰ الناس أن يزيفوا عواطفهم الأصلية ليكونوا جديرين بما ينالهم من منفعة أو ليتجنبوا التأديب وربما العقاب.

وإذا كان الناس في العالم الإِسلامي حديثي عهد بالحرية, فإنه من حسن الحظ أن الحكام أنفسهم حديثوا عهد بفن السيطرة الكاملة علىٰ الجماهير. ويبقىٰ مجال ظهور القيادة في العالم الإِسلامي معتمداً علىٰ ما تحققه من إنجازات حيث لم يعد كافياً الاعتماد علىٰ ترديد ما قدمه المرء من خدمات في سبيل تحقيق الاستقلال من نير الاحتلال. ولا شك أننا قد نجد كذلك في عصورنا الحديثة هذه من يلجأ إلىٰ استخدام الأسلوب القديم في إدارة الحملات السياسية ولكن أثرها لا يلبث أن يزول ( مثلما حدث مع مجيب الرحمن ) وحيثما تُفقد القدرة المتميزة والبرامج القائمة علىٰ وضوح الرؤية, يكون الانهيار سريعاً.

وقد يكون في مقدورنا الآن تلخيص النتائج التي يمكن استخلاصها من المناقشات المسهبة التي أوردناها سابقاً بخصوص فكرة القيادة في الإِسلام, والعلاقة بين القيادة والأحزاب السياسية, والحدود التي يمكن للأفراد داخلها أن يزكوا أنفسهم للانتخابات, والحدود التي يتاح داخلها التخصص ويمكن في إطارها تكوين الأحزاب السياسية.

1)    إن المباديء الأساسية لهداية الأمة بيّنة.

2)    يلزم كل مسلم في حدود إمكاناته الفردية والجماعية بتطبيق هذه المباديء والعيش علىٰهديها والتمسك بها كمعيار يقيس عليه عمله أو ما تقوم به الأمة.

3)    يمكن للأمة أن تشكل جماعات يؤدون عنها الواجبات الجماعية ويكفونها فروض الكفاية.

4)    طالما أن كل مسلم عليه من الإِلتزامات ما يتناسب مع قدراته الخاصة فإن الجماعات التي تتشكل في خدمة الأمة ستكون مختلفة في أشكالها وتركيبها إعتماداً علىٰ طبيعة العمل الذي ستكلف به. ومن الواضح أن المسلمين الذين سيشتركون في هذه الجماعات عليهم أن يعتبروا النشاط المخصص للجماعة رغم أهميته للجهد الخاص الذي يبذلونه, فإنه دائماً يأتي في المرتبة الثانية للأهداف الكبيرة للأمة ويخضع لحكم الشريعة.

5)    وقد أعطىٰ القرآن مباديء معينة للإِسترشاد بها في تنظيم كل هذه الجماعات داخل الأمة.

أ ـــ تشكيل الجماعات وما تقوم به من نشاطات يجب أن يكون خالصاً لخدمة الإِسلام.

ب ـــ ليس لأي عضو في جماعة الحق في أن يعتبر أولئك الذين يحجمون عن العمل في مجاله منافقين أو كفاراً طالما أنهم يقبلون حكم الشريعة.

ج ـــ من الأمور الواجبة علىٰكل المؤمنين أن يفهموا أنه قد تنشأ دائماً إختلافات عن حسن نية بين اثنين أو أكثر من الجماعات المسلمة حول الأولويات في موقف معيّن, فإذا لم يصلوا إلىٰ حل لهذه الإِختلافات فعليهم ألا يجعلوها تفتت وحدة الأمة بإعتبار هذه الوحدة قيمة أساسية. ولا يسمح بتكوين الأحزاب إلا داخل هذا الإِطار.

6)    يجب علىٰ الأحزاب السياسية أن تلتزم داخلها بالمباديء التي تحدد القيادة داخل الأمة, كما عليها أن تلتزم كذلك بمباديء الشورىٰ وإلزام من يتعهد الأمانة بمسئوليتها وتحديد درجات السلطة في الترتيب والأهمية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر